سورة يونس قوله تعالى { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون } شبه سبحانه الحياة الدنيا في أنها تتزين في عين الناظر فتروقه بزينتها وتعجبه فيميل إليها ويهواها اغترارا منه بها حتى إذا ظن أنه مالك لها قادر عليها سلبها بغتة أحوج ما كان إليها وحيل بينه وبينها فشبهها بالأرض التي ينزل الغيث عليها فتعشب ويحسن نباتها ويروق منظرها للناظر فيغتر به ويظن أنه قادر عليها مالك لها فيأتيها أمر الله فتدرك نباتها الآفة بغتة فتصبح كأن لم تكن قبل فيخيب ظنه وتصبح يداه صفرا منها فكذا حال الدنيا والواثق بها سواء وهذا من أبلغ التشبيه والقياس ولما كانت الدنيا عرضة لهذه الآفات والجنة سليمة منها قال والله يدعو إلى دار السلام فسماها هنا دار السلام لسلامتها من هذه الآفات التي ذكرها في الدنيا فعم بالدعوة إليها وخص بالهداية من يشاء فذاك عدله وهذا فضله أهـ { إعلام الموقعين حـ 1 صـ 182 ـ صـ 183 } فإن قيل فهل يظهر فرق بين قوله تعالى في سورة يونس قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار يونس 31 وبين قوله في سورة سبأ قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله سبأ 24 ________________________________________ قيل هذا من أدق هذه المواضع وأغمضها وألطفها فرقا فتدبر السياق تجده نقيضا لما وقع فإن الآيات التي في يونس سيقت مساق الإحتجاج عليهم بما أقروا به ولم يمكنهم إنكاره من كون الرب تعالى هو رازقهم ومالك أسماعهم وأبصارهم ومدبر أمورهم وغيرها ومخرج الحي من الميت والميت من الحي فلما كانوا مقرين بهذا كله حسن الإحتجاج به عليهم إن فاعل هذا هو الله الذي لا إله غيره فكيف يعبدون معه غيره ويجعلون له شركاء لا يملكون شيئا من هذا ولا يستطيعون فعل شيء منه ولهذا قال بعد أن ذكر ذلك من شأنه تعالى فسيقولون الله يونس 31 أي لا بد أنهم يقرون بذلك ولا يجحدونه فلا بد أن يكون المذكور مما يقرون به والمخاطبون المحتج عليهم بهذه الآية إنما كانوا مقرين بنزول الرزق من قبل هذه السماء التي يشاهدونها بالحس ولم يكونوا مقرين ولا عالمين بنزول الرزق من سماء إلى سماء حتى تنتهي إليهم ولم يصل علمهم إلى هذا فأفردت لفظ السماء هنا فإنه لا يمكنهم إنكار مجيء الرزق منها لا سيما والرزق ههنا إن كان هو المطر فمجيئه من السماء التي هي السحاب فإنه يسمى سماء لعلوه وقد أخبر سبحانه أنه بسط السحاب في السماء بقوله الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء الروم 48 والسحاب إنما هو مبسوط في جهة العلو لا في نفس الفلك وهذا معلوم بالحس فلا يلتفت إلى غيره فلما انتظم هذا بذكر الإحتجاج عليهم لم يصلح فيه إلا إفراد السماء لأنهم لا يقرون بما ينزل من فوق ذلك من الأرزاق العظيمة للقلوب والأرواح ولا بد من الوحي الذي به الحياة الحقيقية الأبدية وهو أولى باسم الرزق من المطر الذي به الحياة الفانية المنقضية فما ينزل من فوق ذلك من الوحي والرحمة والألطاف والموارد الربانية والتنزلات الإلهية وما به قوام العالم العلوي والسفلي من أعظم أنواع الرزق ولكن القوم لم يكونوا مقرين به فخوطبوا بما هو أقرب الأشياء إليهم بحيث لا يمكنهم إنكاره ________________________________________ وأما الآية التي في سورة سبأ فلم ينتظم بها ذكر إقرارهم بما ينزل من السماوات ولهذا أمر رسوله بأن يتولى الجواب فيها ولم يذكر عنهم أنهم المجيبون المقرون فقال قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله ولم يقل سيقولون الله فأمر تعالى نبيه أن يجيب بأن ذلك هو الله وحده الذي ينزل رزقه على اختلاف أنواعه ومنافعه من السماوات السبع وأما الأرض فلم يدع السياق إلى جمعها في واحدة من الإثنين إذ يقر به كل أحد مؤمن وكافر وبر وفاجر إفراد الرياح وجمعها ومن هذا الباب ذكر الرياح في القرآن جمعا ومفردة فحيث كانت في سياق الرحمة أتت مجموعة وحيث وقعت في سياق العذاب أتت مفردة وسر ذلك أن رياح الرحمة مختلفة الصفات والمهاب والمنافع وإذا هاجت منها ريح أنشأ لها ما يقابلها ما يكسر سورتها ويصدم حدتها فينشأ من بينهما ريح لطيفة تنفع الحيوان والنبات فكل ريح منها في مقابلها ما يعدلها ويرد سورتها فكانت في الرحمة ريحا وأما في العذاب فإنها تأتي من وجه واحد وحمام واحد لا يقوم لها شيء ولا يعارضها غيرها حتى تنتهي إلى حيث أمرت لا يرد سورتها ولا يكسر شرتها فتمتثل ما أمرت به وتصيب ما أرسلت إليه ولهذا وصف سبحانه الريح التي أرسلها على عاد بأنها عقيم فقال أرسلنا عليهم الريح العقيم الذاريات 41 وهي التي لا تلقح ولا خير فيها والتي تعقم ما مرت عليه ________________________________________ ثم تأمل كيف اطرد هذا إلا في قوله في سورة يونس هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف يونس 22 فذكر ريح الرحمة الطيبة بلفظ الإفراد لأن تمام الرحمة هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد سيرها فإذا اختلفت عليها الرياح وتصادمت وتقابلت فهو سبب الهلاك فالمطلوب هناك ريح واحدة لا رياح وأكد هذا المعنى بوصفها بالطيب دفعا لتوهم أن تكون ريحا عاصفة بل هي مما يفرح بها لطيبها فلينزه الفطن بصيرته في هذه الرياض المونقة المعجبة التي ترقص القلوب لها فرحا ويتغذى بها عن الطعام والشراب والحمد لله الفتاح العليم فمثل هذا الفصل يعض عليه بالنواجذ وتثنى عليه الخناصر فإنه يشرف بك على أسرار عجائب تجتنيها من كلام الله والله الموفق للصواب أهـ [ بدائع الفوائد حـ1 صـ 117 ـ صـ 119 } قال الله تعالى بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون تصدير الباب بهذه الآية في غاية الحسن فإن الله تعالى أمر عباده بالفرح بفضله ورحمته وذلك تبع للفرح والسرور بصاحب الفضل والرحمة فإن من فرح بما يصل إليه من جواد كريم محسن بر يكون فرحه بمن أوصل ذلك إليه أولى وأحرى ونذكر ما في هذه الآية من المعنى ثم نشرح كلام المصنف قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والحسن وغيرهم فضل الله الإسلام ورحمته القرآن فجعلوا رحمته أخص من فضله فإن فضله الخاص عام على أهل الإسلام ورحمته بتعليم كتابه لبعضهم دون بعض فجعلهم مسلمين بفضله وأنزل إليهم كتابه برحمته قال تعالى وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فضل الله القرآن ورحمته أن جعلنا من أهله قلت يريد بذلك أن ههنا أمرين أحدهما الفضل في نفسه والثاني استعداد المحل لقبوله كالغيث يقع على الأرض القابلة للنبات فيتم المقصود بالفضل وقبول المحل له والله أعلم ________________________________________ والفرح لذة تقع في القلب بإدراك المحبوب ونيل المشتهى فيتولد من إدراكه حالة تسمى الفرح والسرور كما أن الحزن والغم من فقد المحبوب فإذا فقده تولد من فقده حالة تسمى الحزن والغم وذكر سبحانه الأمر بالفرح بفضله وبرحمته عقيب قوله يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ولا شيء أحق أن يفرح العبد به من فضل الله ورحمته التي تتضمن الموعظة وشفاء الصدور من أدوائها بالهدى والرحمة فأخبر سبحانه أن ما آتى عباده من الموعظة التي هي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب وشفاء الصدور المتضمن لعافيتها من داء الجهل والظلمة والغي والسفه وهو أشد ألما لها من أدواء البدن ولكنها لما ألفت هذه الأدواء لم تحس بألمها وإنما يقوى إحساسها بها عند المفارقة للدنيا فهناك يحضرها كل مؤلم محزن وما آتاها من ربها الهدى الذي يتضمن ثلج الصدور باليقين وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه وحياة الروح به والرحمة التي تجلب لها كل خير ولذة وتدفع عنها كل شر ومؤلم فذلك خير من كل ما يجمع الناس من أعراض الدنيا وزينتها أي هذا هو الذي ينبغي أن يفرح به ومن فرح به فقد فرح بأجل مفروح به لا ما يجمع أهل الدنيا منها فإنه ليس بموضع للفرح لأنه عرضة للآفات ووشيك الزوال ووخيم العاقبة وهو طيف خيال زار الصب في المنام ثم انقضى المنام وولى الطيف وأعقب مزاره الهجران وقد جاء الفرح في القرآن على نوعين مطلق ومقيد فالمطلق جاء في الذم كقوله تعالى لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وقوله إنه لفرح فخور والمقيد نوعان أيضا مقيد بالدنيا ينسي صاحبه فضل الله ومنته فهو مذموم كقوله حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون والثاني مقيد بفضل الله وبرحمته وهو نوعان أيضا فضل ورحمة بالسبب وفضل بالمسبب فالأول كقوله قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون والثاني كقوله فرحين بما آتاهم الله من فضله ________________________________________ فالفرح بالله وبرسوله وبالإيمان وبالسنة وبالعلم وبالقرآن من أعلى مقامات العارفين قال الله تعالى وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وقال والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك فالفرح بالعلم والإيمان والسنة دليل على تعظيمه عند صاحبه ومحبته له وإيثاره له على غيره فإن فرح العبد بالشيء عند حصوله له على قدر محبته له ورغبته فيه فمن ليس له رغبة في الشيء لا يفرحه حصوله له ولا يحزنه فواته فالفرح تابع للمحبة والرغبة والفرق بينه وبين الاستبشار أن الفرح بالمحبوب بعد حصوله والاستبشار يكون به قبل حصوله إذا كان على ثقة من حصوله ولهذا قال تعالى فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم والفرح صفة كمال ولهذا يوصف الرب تعالى بأعلى أنواعه وأكملها كفرحه بتوبة التائب أعظم من فرحة الواجد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة بعد فقده لها واليأس من حصولها والمقصود أن الفرح أعلى أنواع نعيم القلب ولذته وبهجته والفرح والسرور نعيمه والهم والحزن عذابه والفرح بالشيء فوق الرضى به فإن الرضى طمأنينة وسكون وانشراح والفرح لذة وبهجة وسرور فكل فرح راض وليس كل راض فرحا ولهذا كان الفرح ضد الحزن والرضى ضد السخط والحزن يؤلم صاحبه والسخط لا يؤلمه إلا إن كان مع العجز عن الانتقام والله أعلم أهـ { مدارج السالكين حـ 3 صـ 97 ـ صـ 99 } قوله تعالى { وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوء لقومكما بمصر بيوتا } وقوله تعالى { وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين } ________________________________________ هو من أحسن النظم وأبدعه فإنه ثنى أولا إذ كان موسى وهارون هما الرسولان المطاعان ويجب على بنى إسرائيل طاعة كل واحد منهما سواء وإذا تبوءا البيوت لقومهما فهم تبع لهما ثم جمع الضمير فقال وأقيموا الصلاة لأن إقامتها فرض على الجميع ثم وحده في قوله وبشر المؤمنين أن موسى هو الأصل في الرسالة وأخوه ردءا ووزيرا وكما أرسلا برسالة واحدة كانا رسولا واحدا كقوله تعالى إني رسول رب العالمين فهذا الرسول هو الذي قيل له وبشر المؤمنين أهـ { بدائع الفوائد حـ4 صـ 10 ـ صـ 11 } سورة هود قوله تعالى { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } الخبت في أصل اللغة : المكان المنخفض من الأرض وبه فسر ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة لفظ المخبتين وقالا : هم المتواضعون وقال مجاهد : المخبت المطمئن إلى الله عز وجل قال : والخبت : المكان المطمئن من الأرض وقال الأخفش : الخاشعون وقال إبراهيم النخعي : المصلون المخلصون وقال الكلبي : هم الرقيقة قلوبهم وقال عمرو بن أوس : هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا وهذه الأقوال تدور على معنيين : التواضع والسكون إلى الله عز وجل ولذلك عدي بإلى تضمينا لمعنى الطمأنينة والإنابة والسكون إلى الله تعالى ________________________________________ قال صاحب المنازل : هو من أول مقامات الطمأنينة يعني بمقامات الطمأنينة كالسكينة واليقين والثقة بالله ونحوها فالإخبات : مقدمتها ومبدؤها قال : وهو ورود المأمن من الرجوع والتردد لما كان الإخبات أول مقام يتخلص فيه السالك من التردد الذي هو نوع غفلة وإعراض والسالك مسافر إلى ربه سائر إليه على مدى أنفاسه لا ينتهي مسيره إليه ما دام نفسه يصحبه شبه حصول الإخبات له بالماء العذب الذي يرده المسافر على ظمأ وحاجة فى أول مناهله فيرويه مورده ويزيل عنه خواطر تردده في إتمام سفره أو رجوعه إلى وطنه لمشقة السفر فإذا ورد ذلك الماء : زال عنه التردد وخاطر الرجوع كذلك السالك إذا ورد مورد الإخبات تخلص من التردد والرجوع ونزل أول منازل الطمأنينة بسفره وجد في السير قال وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : أن تستغرق العصمة الشهوة وتستدرك الإرادة الغفلة ويستهوي الطلب السلوة المريد السالك : تعرض له غفلة عن مراده تضعف إرادته وشهوة تعارض إرادته فتصده عن مراده ورجوع عن مراده وسلوة عنه فهذه الدرجة من الإخبات تحميه عن هذه الثلاثة فتستغرق عصمته شهوته والعصمة هي الحماية والحفظ و الشهوة الميل إلى مطالب النفس و الاستغراق للشيء الاحتواء عليه والإحاطة به يقول : تغلب عصمته شهوته وتقهرها وتستوفي جميع أجزائها فإذا استوفت العصمة جميع أجزاء الشهوة : فذلك دليل على إخباته ودخوله في مقام الطمأنينة ونزوله أول منازلها وخلاصه في هذا المنزل من تردد الخواطر بين الإقبال والإدبار والرجوع والعزم إلى الاستقامة والعزم الجازم والجد في السير وذلك علامة السكينة وتستدرك إرادته غفلته و الإرادة عند القوم : هي اسم لأول منازل القاصدين إلى الله و المريد هو الذي خرج من وطن طبعه ونفسه وأخذ في السفر إلى الله والدار الآخرة فإذا نزل في منزل الإخبات أحاطت إرادته بغفلته فاستدركها واستدرك بها فارطها ________________________________________ وأما استهواء طلبه لسلوته فهو قهر محبته لسلوته وغلبتها له بحيث تهوي السلوة وتسقط كالذي يهوى في بئر وهذا علامة المحبة الصادقة : أن تقهر فيه وارد السلوة وتدفنها في هوة لا تحيا بعدها أبدا فالحاصل : أن عصمته وحمايته : تقهر شهوته وإرادته تقهر غفلته ومحبته تقهر سلوته قال : الدرجة الثانية : أن لا ينقض إرادته سبب ولا يوحش قلبه عارض ولا يقطع عليه الطريق فتنة هذه ثلاثة أمور أخرى تعرض لصادق الإرادة : سبب يعرض له ينقض عزمه وإرادته ووحشة تعرض له في طريق طلبه ولا سيما عند تفرده وفتنة تخرج عليه تقصد قطع الطريق عليه فإذا تمكن من منزل الإخبات اندفعت عنه هذه الآفات لأن إرادته إذا قويت وجد به السير : لم ينقضها سبب من أسباب التخلف و النقض هو الرجوع عن إرادته والعدول عن جهة سفره ولا يوحش أنسه بالله في طريقه عارض من العوارض الشواغل للقلب والجواذب له عمن هو متوجه إليه و العارض هو المخالف كالشيء الذي يعترضك في طريقك فيجيء في عرضها ومن أقوى هذه العوارض : عارض وحشة التفرد فلا يلتفت إليه كما قال بعض الصادقين : انفرادك في طريق طلبك : دليل على صدق الطلب وقال آخر : لا تستوحش فى طريقك من قلة السالكين ولا تغتر بكثرة الهالكين وأما الفتنة التى تقطع عليه الطريق : فهي الواردات التي ترد على القلوب تمنعها من مطالعة الحق وقصده فإذا تمكن من منزل الإخبات وصحة الإرادة والطلب : لم يطمع فيه عارض الفتنة وهذه العزائم لا تصح إلا لمن أشرق على قلبه أنوار آثار الأسماء والصفات وتجلت عليه معانيها وكافح قلبه حقيقة اليقين بها وقد قيل : من أخذ العلم من عين العلم ثبت ومن أخذه من جريانه أخذته أمواج الشبه ومالت به العبارات واختلفت عليه الأقوال قال : الدرجة الثالثة : أن يستوي عنده المدح والذم وتدوم لائمته لنفسه ويعمى عن نقصان الخلق عن درجته ________________________________________ أعلم أنه متى استقرت قدم العبد في منزلة الإخبات وتمكن فيها : ارتفعت همته وعلت نفسه عن خطفات المدح والذم فلا يفرح بمدح الناس ولا يحزن لذمهم وهذا وصف من خرج عن حظ نفسه وتأهل للفناء في عبودية ربه وصار قلبه مطرحا لأشعة أنوار الأسماء والصفات وباشر حلاوة الإيمان واليقين قلبه والوقوف عند مدح الناس وذمهم : علامة انقطاع القلب وخلوه من الله وأنه لم تباشره روح محبته ومعرفته ولم يذق حلاوة التعلق به والطمأنينة إليه أهـ { مدارج السالكين حـ 3 صـ 3 ـ صـ 7 } قوله تعالى مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون فإنه سبحانه ذكر الكفار ووصفهم بأنهم ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ثم ذكر المؤمنين ووصفهم بالإيمان والعمل الصالح والإخبات إلى ربهم فوصفهم بعبودية الظاهر والباطن وجعل أحد الفريقين كالأعمى والأصم من حيث كان قلبه أعمى عن رؤية الحق أصم عن سماعه فشبهه بمن بصره أعمى عن رؤية الأشياء وسمعه أصم عن سماع الأصوات والفريق الآخر بصير القلب سميعه كبصير العين وسميع الأذن فتضمنت الآية قياسين وتمثيلين للفريقين ثم نفى التسوية عن الفريقين بقوله هل يستويان مثلا أهـ { إلام الموقعين حـ1 صـ 183 } قوله تعالى { ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما فى أنفسهم } ________________________________________ أن أتباع الرسل الذين صدقوهم وآثروا الله والدار الآخرة على قومهم وأصحابهم قد أودع الله قلوبهم سرا من أسرار معرفته ومحبته والإيمان به خفي على أعداء الرسل فنظروا إلى ظواهرهم وعموا عن بواطنهم فازدروهم واحتقروهم وقالوا للرسل اطرد هؤلاء عنك حتى نأتيك ونسمع منك وقالوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا فقال نوح عليه السلام لقومه ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين قال الزجاج المعنى إن كنتم تزعمون أنهم إنما اتبعوني في بادي الرأي وظاهره فليس على أن أطلع على ما في أنفسهم فإذا رأيت من يوحد الله عملت على ظاهره ورددت علم ما في نفوسهم إلى الله وهذا معنى حسن والذي يظهر من الآية أن الله يعلم ما في أنفسهم إذ أهلهم لقبول دينه وتوحيده وتصديق رسله والله سبحانه وتعالى عليم حكيم يضع العطاء في مواضعه وتكون هذه الآية مثل قوله تعالى وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين فإنهم أنكروا أن يكون الله سبحانه أهلهم للهدى والحق وحرمه رؤساء الكفار وأهل العزة والثروة منهم كأنهم استدلوا بعطاء الدنيا على عطاء الآخرة فأخبر الله سبحانه أنه أعلم بمن يؤهله لذلك لسر عنده من معرفة قدر النعمة ورؤيتها من مجرد فضل المنعم ومحبته وشكره عليها وليس كل أحد عنده هذا السر فلا يؤهل كل أحد لهذا العطاء أهـ { مدارج السالكين حـ 3 صـ 106 } قوله تعالى {إنى توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم } ________________________________________ فأخبر عن عموم قدرته تعالى وأن الخلق كلهم تحت تسخيره وقدرته وانه آخذ بنواصيهم فلا محيص لهم عن نفوذ مشيئته وقدرته فيهم ثم عقب ذلك بالأخبار عن تصرفه فيهم وأنه بالعدل لا بالظلم وبالإحسان لا بالإساءة وبالصلاح لا بالفساد فهو يأمرهم وينهاهم إحسانا إليهم وحماية وصيانة لهم ولا حاجة إليهم ولا بخلا عليهم بل جودا وكرما ولطفا وبرا ويثيبهم إحسانا وتفضلا ورحمة لا لمعاوضة واستحقاق منهم ودين واجب لهم يستحقونه عليه ويعاقبهم عدلا وحكمة لا تشفيا ولا مخافة ولا ظلما كما يعاقب الملوك وغيرهم بل هو على الصراط المستقيم وهو صراط العدل والإحسان في أمره ونهيه وثوابه وعقابه * فتأمل ألفاظ هذه الآية وما جمعته من عموم القدرة وكمال الملك ومن تمام الحكمة والعدل والإحسان وما تضمنته من الرد على الطائفتين فأنها من كنوز القرآن ولقد كفت وشفت لمن فتح عليه بفهمها فكونه تعالى على صراط مستقيم ينفى ظلمه للعباد وتكليفه إياهم ما لا يطيقون وينفى العيب من أفعاله وشرعه ويثبت لها غاية الحكمة والسداد ردا على منكري ذلك وكون كل دابة تحت قبضته وقدرته وهو آخذ بناصيتها ينبغي أن لا يقع في ملكه من أحد المخلوقات شيء بغير مشيئته وقدرته وأن من ناصيته بيد الله وفي قبضته لا يمكنه أن يتحرك إلا بتحريكه ولا يفعل إلا بأقداره ولا يشاء إلا بمشيئته تعالى ردا على منكري ذلك من القدرية فالطائفتان ما وفوا الآية معناها ولا قدروها حق قدرها فهو سبحانه على صراط مستقيم في عطائه ومنعه وهدايته واضلاله وفي نفعه وضره وعافيته وبلائه واغناه وإفقاره وإعزازه وإذلاله وانعامه وانتقامه وثوابه وعقابه وإحيائه وإماتته وأمره ونهيه وتحليله وتحريمه وفي كل ما يخلق وكل ما يأمر به وهذه المعرفة بالله لا تكون إلا للأنبياء ولورثتهم أهـ { مفتاح دار السعادة حـ 2 صـ 84 ـ صـ 85 } ________________________________________ سورة يوسف قوله تعالى { وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين } وهذا الكلام متضمن لوجوه من المكر أحدها قولهن امرأة العزيز تراود فتاها ولم يسموها باسمها بل ذكروها بالوصف الذي ينادى عليها بقبيح فعلها بكونها ذات بعل فصدور الفاحشة منها أقبح من صدورها ممن لا زوج لها الثاني أن زوجها عزيز مصر ورئيسها وكبيرها وذلك أقبح لوقوع الفاحشة منها الثالث أن الذي تراوده مملوك لا حر وذلك أبلغ في القبح الرابع أنه فتاها الذي هو في بيتها وتحت كنفها فحكمه حكم أهل البيت بخلاف من طلب ذلك من الأجنبي البعيد الخامس أنها هي المراودة الطالبة السادس أنها أنها قد بلغ بها عشقها له كل مبلغ حتى وصل حبها له إلى شغاف قلبها السابع أن في ضمن هذا أنه أعف منها وأبر وأوفى حيث كانت هي المراودة الطالبة وهو الممتنع عفافا وكرما وحياء وهذا غاية الذم لها الثامن أنهن أتين بفعل المرادودة بصيغة المستقبل الدالة على الإستمرار والوقوع حالا واستقبالا وأن هذا شأنها ولم يقلن راودت فتاها وفرق بين قولك فلان أضاف ضيفا وفلان يقري الضيف ويطعم الطعام ويحمل الكل فإن هذا يدل على أن هذا شأنه وعادته التاسع قولهن إنا لنراها في ضلال مبين أي إنا لنستقبح منها ذلك غاية الإستقباح فنسبن الإستقباح إليهن ومن شأنهن مساعدة بعضهن بعضا على الهوى ولا يكدن يرين ذلك قبيحا كما يساعد الرجال بعضهم بعضا على ذلك فحيث استقبحن منها ذلك كان هذا دليلا على أنه من أقبح الأمور وأنه مما لا ينبغي أن تساعد عليه ولا يحسن معاونتها عليه ________________________________________ العاشر أنهن جمعن لها في هذا الكلام واللوم بين العشق المفرط والطلب المفرط فلم تقتصد في حبها ولا في طلبها أما العشق فقولهن قد شغفها حبا أي وصل حبه إلى شغاف قلبها وأما الطلب المفرط فقولهن تراود فتاها والمراودة الطلب مرة بعد مرة فنسبوها إلى شدة العشق وشدة الحرص على الفاحشة فلما سمعت بهذا المكر منهن هيأت لهن مكرا أبلغ منه فهيأت لهن متكأ ثم أرسلت إليهن فجمعتهن وخبأت يوسف عليه السلام عنهن وقيل إنها جملته وألبسته أحسن ما تقدر عليه وأخرجته عليهن فجأة فلم يرعهن إلا وأحسن خلق الله وأجملهم قد طلع عليهن بغتة فراعهن ذلك المنظر البهي وفي أيديهن مدى يقطعن بها ما يأكلنه فدهشن حتى قطعن أيديهن وهن لا يشعرن وقد قيل إنهن أبن أيديهن والظاهر خلاف ذلك وإنما تقطيعهن أيديهن جرحها وشقها بالمدى لدهشهن بما رأين فقابلت مكرهن القولي بهذا المكر الفعلي وكانت هذه في النساء غاية في المكر أهـ { إاثة اللهفان صـ383 } قوله تعالى { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها } يوسف 4 وإنما عبدوا مسمياتها والجواب : أنه كما قلتم إنما عبدوا المسميات ولكن من أجل أنهم نحلوها أسماء باطلة كاللات والعزى وهي مجرد أسماء كاذبة باطلة لا مسمى لها في الحقيقة فإنهم سموها آلهة وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها وليس لها من الألوهية إلا مجرد الأسماء لا حقيقة المسمى فما عبدوا إلا أسماء لا حقائق لمسمياتها وهذا كمن سمى قشور البصل لحما وأكلها فيقال ما أكلت من اللحم إلا اسمه لا مسماه وكمن سمى التراب خبزا وأكله يقال ما أكلت إلا اسم الخبز بل هذا النفي أبلغ في آلهتهم فإنه لا حقيقة لإلهيتها بوجه وما الحكمة ثم إلا مجرد الإسم فتأمل هذه الفائدة الشريفة في كلامه تعالى أهـ { بدائع الفوائد حـ 1 صـ19 } ________________________________________ قوله تعالى { وما أبرىء نفسى } فإن قيل فكيف قال وقت ظهور براءته وما أبرىء نفسى } قيل هذا قد قاله جماعة من المفسرين وخالفهم في ذلك آخرون أجل منهم وقالوا إن هذا من قول امرأة العزيز لا من قول يوسف عليه السلام والصواب معهم لوجوه أحدها أنه متصل بكلام المرأة وهو قولها الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين وما أبرىء نفسي ومن جعله من قوله فإنه يحتاج إلى إضمار قول لا دليل عليه في اللفظ بوجه والقول في مثل هذا لا يحذف لئلا يوقع في اللبس فإن غايته أن يحتمل الأمرين فالكلام الأول أولى به قطعا الثاني أن يوسف عليه السلام لم يكن حاضرا وقت مقالتها هذه قبل كان في السجن لما تكلمت بقولها الآن حصحص الحق والسياق صريح في ذلك فإنه لما أرسل الملك إليه يدعوه قال للرسول ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن فأرسل إليهم الملك وأحضرهن وسألهن وفيهن امرأته فشهدن ببراءته ونزاهته في غيبته ولم يمكنهن إلا قول الحق فقال النسوة حاش لله ما علمنا عليه من سوء وقالت امرأة العزيز أنا روادته عن نفسه وإنه لمن الصادقين فإن قيل لكن قوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين الأحسن أن يكون من كلام يوسف عليه السلام أي إنما كان تأخيري عن الحضور مع رسوله ليعلم الملك أني لم أخنه في امرأته في حال غيبته وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ثم إنه قال وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا من رحم ربي إن ربي غفور رحيم وهذا من تمام معرفته بربه ونفسه فإنه لما أظهر براءته ونزاهته مما قذف به أخبر عن حال نفسه وأنه لا يزكيها ولا يبرئها فإنها أمارة بالسوء لكن رحمة ربه وفضله هو الذي عصمه فرد الأمر إلى الله بعد أن أظهر برءته قيل هذا وإن كان قد قاله طائفة فالصواب أنه من تمام كلامها فإن الضمائر كلها في نسق واحد يدل عليه وهو قول النسوة ما علمنا عليه من سوء وقول امرأة ________________________________________ العزيز أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين فهذه خمسة ضمائر بين بارز ومستتر ثم اتصل بها قوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب فهذا هو المذكور أولا بعينه فلا شيء يفصل الكلام عن نظمه ويضمر فيه قول لا دليل عليه فإن قيل فما معنى قولها ليعلم أني لم أخنه بالغيب قيل هذا من تمام الاعتذار قرنت الاعتذار بالاعتراف فقالت ذلك أي قولي هذا وإقراري ببراءته ليعلم أني لم أخنه بالكذب عليه في غيبته وإن خنته في وجهه في أول الأمر فالآن يعلم أني لم أخنه في غيبته ثم اعتذرت عن نفسها بقولها وما أبرىء نفسى ثم ذكرت السبب الذي لأجله لم تبرىء نفسها وهي أن النفس أمارة بالسوء فتأمل ما أعجب أخر هذه المرأة أقرت بالحق واعتذرت عن محبوبها ثم اعتذرت عن نفسها ثم ذكرت السبب الحامل لها على ما فعلت ثم ختمت ذلك بالطمع في مغفرة الله ورحمته وأنه إن لم يرحم عبده وإلا فهو عرضة للشر فوازن بين هذا وبين تقدير كون هذا الكلام كلام يوسف عليه السلام لفظا ومعنى وتأمل ما بين التقديرين من التفاوت ولا يستبعد أن تقول المرأة هذا وهي على دين الشرك فإن القوم كانوا يقرون بالرب سبحانه وتعالى وبحقه وإن أشركوا معه غيره ولا تنس قول سيدها لها في أول الحال واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين أهـ { روضة المحبين صـ 342 ـ صـ 345 } قوله تعالى عن يوسف نبيه أنه قال أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما والحقني بالصالحين جمعت هذه الدعوة الإقرار بالتوحيد والاستلام للرب وإظهار الافتقار إليه والبراءة من موالاة غيره سبحانه وكون الوفاة على الإسلام اجل غايات العبد وان ذلك بيد الله لا بيد العبد والاعتراف بالمعاد وطلب مرافقة السعداء أهـ { الفوائد صـ 201 } ________________________________________ قوله تعالى {قل هذه سبيلي ادعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } قال الفراء وجماعة ومن اتبعني معطوف على الضمير في ادعو يعني ومن اتبعني يدعو الى الله كما ادعو وهذا قول الكلبي قال حق على كل من اتبعه ان يدعو الى ما دعا اليه ويذكر بالقرآن والموعظة ويقوى هذا القول من وجوه كثيرة قال ابن الانباري ويجوز ان يتم الكلام عند قوله الى الله ثم يبتديء بقوله على بصيرة انا ومن اتبعني فيكون الكلام على قوله جملتين اخبر في اولاهما انه يدعو الى الله وفي الثانية بانه من اتباعه على بصيرة والقولان متلازمان فلا يكون الرجل من اتباعه حقا حتى يدعو الى ما دعا اليه وقول الفراء احسن واقرب الى الفصاحة والبلاغة واذا كانت الدعوة الى الله اشرف مقامات العبد واجلها وافضلها فهي لا تحصل الا بالعلم الذي يدعو به واليه بل لا بد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم الى حد يصل اليه السعي ويكفي هذا في شرف العلم ان صاحبه يحوز به هذا المقام والله يؤتي فضله من يشاء أهـ { مفتاح دار السعادة حـ 1 صـ 162 } ________________________________________ سورة الرعد قوله تعالى { الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد }الرعد 8 قال ابن عباس وما تغيض الأرحام ما تنقص عن تسعة أشهر وما تزداد وما تزيد عليها ووافقه على هذا أصحابه كمجاهد وسعيد ابن جبير وقال مجاهد أيضا إذا حاضت المرأة على ولدها كان ذلك نقصانا من الولد وما تزداد قال إذا زادت على تسعة أشهر كان ذلك تماما لما نقص من ولدها وقال أيضا الغيض ما رأت الحامل من الدم في حملها وهو نقصان من الولد والزيادة ما زاد على التسمة أشهر وهو تمام النقصان وقال الحسن ما تغيض الأرحام ما كان من سقط وما تزداد المرأة تلد لعشرة أشهر وقال عكرمة تغيض الأرحام الحيض بعد الحمل فكل يوم رأت فيه الدم حاملا ازداد به في الأيام طاهرا فما حاضت يوما إلا ازدادت في الحمل يوما وقال قتادة الغيض السقط وما تزداد فوق التسعة أشهر وقال سعيد بن جبير إذا رأت المرأة الدم على الحمل فهو الغيض للولد فهو نقصان في غذاء الولد وزيادة في الحمل تغيض وتزداد فعلان متعديان مفعولهما محذوف وهو العائد على ما الموصولة والغيض النقصان ومنه وغيض الماء هود 44 وضده الزياده والتحقيق في معنى الآية أنه يعلم مدة الحمل وما يعرض فيها من الزيادة والنقصان فهو العالم بذلك دونكم كما هو العالم بما تحمل كل أنثى هل هو ذكر أو أنثى وهذا أحد أنواع الغيب التي لا يعلمها إلا الله كما في الصحيح عنه مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله لا يعلم متى تجيء الساعة إلا الله ولا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم متى يجيء الغيث إلا الله ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله فهو سبحانه المنفرد بعلم ما في الرحم وعلم وقت إقامته فيه وما يزيد من بدنه وما ينقص وما عدا هذا القول فهو من توابعه ولوازمه كالسقط والتام ورؤية الدم وانقطاعه والمقصود ذكر مدة إقامة الحمل في البطن وما يتصل بها من زيادة ونقصان أهـ { تحفة المودود صـ 89 } ________________________________________ قوله تعالى { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال } شبه الوحي الذي أنزله لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات وشبه القلوب بالأودية فقلب كبير يسع علما عظيما كواد كبير يسع ماء كثيرا وقلب صغير إنما يسع بحسبه كالوادي الصغير فسالت أودية بقدرها واحتملت قلوب من الهدى والعلم بقدرها وكما أن السيل إذا خالط الأرض ومر عليها احتمل غثاء وزبدا فكذلك الهدى والعلم إذا خالط القلوب أثار ما فيها من الشهوات والشبهات ليقلعها ويذهبها كما يثير الدواء وقت شربه من البدن أخلاطه فيتكدر بها شاربه وهي من تمام نفع الدواء فإنه أثارها ليذهب بها فإنه لا يجامعها ولا يشاركها وهكذا يضرب الله الحق والباطل ثم ذكر المثل الناري فقال ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله وهو الخبث الذي يخرج عند سبك الذهب والفضة والنحاس والحديد فتخرجه النار وتميزه وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به فيرمى ويطرح ويذهب جفاء فكذلك الشهوات والشبهات يرميها قلب المؤمن ويطرحها ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الزبد والغثاء والخبث ويستقر في قرار الوادي الماء الصافي الذي يستقي منه الناس ويزرعون ويسقون أنعامهم كذلك يستقر في قرار القبل وجذره الإيمان الخالص الصافي الذي ينفع صاحبه وينتفع به غيره ومن لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما و يعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما والله الموفق أهـ { إلام الموقعين حـ 2 صـ 181 ـ صـ 182 } ________________________________________ شبه سبحانه العلم الذي أنزله على رسوله بالماء الذي انزله من السماء لما يحصل لكل واحد منهما من الحياة ومصالح العباد في معاشهم ومعادهم ثم شبه القلوب بالاودية فقلب كبير يسع علما كثيرا كواد عظيم يسع ماء كثيرا وقلب صغيرا إنما يسع علما قليلا كواد صغير إنما يسع ماء قليلا فقال فسالت اودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا هذا مثل ضربة الله تعالى للعلم حين تخالط القلوب بشاشته فإنه يستخرج منها زبد الشبهات البالطة فيطفو على وجه القلب كما يستخرج السيل من الوادي زبدا يعلو فقوق الماء وأخبر سبحانه انه راب يطفو ويعلو على الماء لايستقر في ارض الوادي كذلك الشبهات الباطلة إذا أخرجها العلم ربت فوق القلوب وطفت فلا تستقر فيه بل تجفى وترمى فيستقر في القلب ما ينفع صاحبه والناس من الهدى ودين الحق كما يستقر في الوادي الماء الصافي ويذهب الزبد جفاء وما يعقل عن الله امثاله إلا العالمون ثم ضرب سبحانه لذلك مثلا آخر فقال ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية او متاع زبد مثله يعني أن مما يوقد عليه بنو آدم من الذهب والفضة والنحاس والحديد يخرج منه خبثه وهو الزبد الذي تلقيه النار وتخرجه من ذلك الجوهر بسبب مخالطتها فإنه يقذف ويلقى به ويستقر الجوهر الخالص وحده وضرب سبحانه مثلا بالماء لما فيه من الحياة والتبريد والمنفعة ومثلا بالنار لما فيها من الاضاءة والاشراف والاحراق فآيات القرآن تحيي القلوب كما تحيا الارض بالماء وتحرق خبثها وشبهاتها وشهواتها وسخائمها كما تحرق النار ما يلقى فيها وتميز جيدها من زبدها كما تميز النار الخبث من الذهب والفضة والنحاس ونحوه منه فهذا بعض ما في هذا المثل العظيم من العبر والعلم قال الله تعالى وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون أهـ { مفتاح دار السعادة حأ 1 صـ 162ـ صـ 163 } ________________________________________ قوله تعالى { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب } الرعد : 28 وقال تعالى : 0 يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي الفجر : 2730 الطمأنينة سكون القلب إلى الشيء وعدم اضطرابه وقلقه ومنه الأثر المعروف : الصدق طمأنينة والكذب ريبة أي الصدق يطمئن إليه قلب السامع ويجد عنده سكونا إليه والكذب يوجب له اضطرابا وارتيابا ومنه قوله : البر ما اطمأن إليه القلب أي سكن إليه وزال عنه اضطرابه وقلقه وفي ذكر الله ها هنا قولان : أحدهما : أنه ذكر العبد ربه فإنه يطمئن إليه قلبه ويسكن فإذا اضطرب القلب وقلق فليس له ما يطمئن به سوى ذكر الله ثم اختلف أصحاب هذا القول فيه فمنهم من قال : هذا في الحلف واليمين إذا حلف المؤمن على شيء سكنت قلوب المؤمنين إليه واطمأنت ويروى هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما ومنهم من قال : بل هو ذكر العبد ربه بينه وبينه يسكن إليه قلبه ويطمئن والقول الثاني : أن ذكر الله ههنا القرآن وهو ذكره الذي أنزله على رسوله به طمأنينة قلوب المؤمنين فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين ولا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن فإن سكون القلب وطمأنينته من يقينه واضطرابه وقلقه من شكه والقرآن هو المحصل لليقين الدافع للشكوك والظنون والأوهام فلا تطمئن قلوب المؤمنين إلا به وهذا القول هو المختار وكذلك القولان أيضا في قوله تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين الزخرف : 36 والصحيح : أن ذكره الذي أنزله على رسوله وهو كتابه من أعرض عنه : قيض له شيطانا يضله ويصده عن السبيل وهو يحسب أنه على هدى وكذلك القولان أيضا في قوله تعالى : ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى طه : 124 ________________________________________ والصحيح : أنه ذكره الذي أنزله على رسوله وهو كتابه ولهذا يقول المعرض عنه : رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال : كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى طه : 125126 وأما تأويل من تأوله على الحلف : ففي غاية البعد عن المقصود فإن ذكر الله بالحلف يجري على لسان الصادق والكاذب والبر والفاجر والمؤمنون تطمئن قلوبهم إلى الصادق ولو لم يحلف ولا تطمئن قلوبهم إلى من يرتابون فيه ولو حلف وجعل الله سبحانه الطمأنينة في قلوب المؤمنين ونفوسهم وجعل الغبطة والمدحة والبشارة بدخول الجنة لأهل الطمأنينة فطوبى لهم وحسن مآب وفي قوله تعالى : يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك الفجر : 2728 دليل على أنها لا ترجع إليه إلا إذا كانت مطمئنة فهناك ترجع إليه وتدخل في عباده وتدخل جنته وكان من دعاء بعض السلف : اللهم هب لي نفسا مطمئنة إليك فصل قال صاحب المنازل : الطمأنينة : سكون يقويه أمن صحيح شبيه بالعيان وبينها وبين السكينة فرقان : أحدهما : أن السكينة صوله تورث خمود الهيبة أحيانا و الطمأنينة سكون أمن في استراحة أنس والثاني : أن السكينة تكون نعتا وتكون حينا بعد حين و الطمأنينة لا تفارق صاحبها الطمأنينة موجب السكينة وأثر من آثارها وكأنها نهاية السكينة فقوله : سكون يقويه أمن أي سكون القلب مع قوة الأمن الصحيح الذي لا يكون أمن غرور فإن القلب قد يسكن إلى أمن الغرور ولكن لا يطمئن به لمفارقة ذلك السكون له و الطمأنينة لا تفارقه فإنها مأخوذة من الإقامة يقال : اطمأن بالمكان والمنزل : إذا أقام به وسبب صحة هذا الأمن المقوى للسكون : شبهه بالعيان بحيث لا يبقي معه شيء من مجوزات الظنون والأوهام بل كأن صاحبه يعاين ما يطمئن به فيأمن به اضطراب قلبه وقلقه وارتيابه ________________________________________ وأما الفرقان اللذان ذكرهما بينها وبين السكينة فحاصل الفرق الأول : أن السكينة تصول على الهيبة الحاصلة في القلب فتخمدها في بعض الأحيان فيسكن القلب من انزعاج الهيبة بعض السكون وذلك في بعض الأوقات فليس حكما دائما مستمرا وهذا يكون لأهل الطمأنينة دائما ويصحبه الأمن والراحة بوجود الأنس فإن الاستراحة في السكينة قد تكون من الخوف والهيبة فقط والاستراحة في منزل الطمأنينة تكون مع زيادة أنس وذلك فوق محرد الأمن وقدر زائد عليه وحاصل الفرق الثاني : أن الطمأنينة ملكة ومقام لا يفارق و السكينة تنقسم إلى سكينة هي مقام ونعت لا يزول وإلى سكينة تكون وقتا دون وقت هذا حاصل كلامه والذي يظهر لي في الفرق بينهما أمران سوى ما ذكر : أحدهما : أن ظفره وفوزه بمطلوبه الذي حصل له السكينة بمنزلة من واجهه عدو يريد هلاكه فهرب منه عدوه فسكن روعه والطمأنينة بمنزلة حصن رآه مفتوحا فدخله وأمن فيه وتقوى بصاحبه وعدته فللقلب ثلاثة أحوال أحدها : الخوف والاضطراب والقلق من الوارد الذي يزعجه ويقلقه الثاني : زوال ذلك الوارد الذي يزعجه ويقلقه عنه وعدمه الثالث : ظفره وفوزه بمطلوبه الذي كان ذلك الوارد حائلا بينه وبينه وكل منهما يستلزم الآخر ويقارنه فالطمأنينة تستلزم السكينة ولا تفارقها وكذلك بالعكس لكن استلزام الطمأنينة للسكينة أقوى من استلزام السكينة للطمأنينة الثاني : أن الطمأنينة أعم فإنها تكون في العلم والخبر به واليقين والظفر بالمعلوم ولهذا اطمأنت القلوب بالقرآن لما حصل لها الإيمان به ومعرفته والهداية به في ظلم الآراء والمذاهب واكتفت به منها وحكمته عليها وعزلتها وجعلت له الولاية بأسرها كما جعلها الله فبه خاصمت وإليه حاكمت وبه صالت وبه دفعت الشبه وأما السكينة : فإنها ثبات القلب عند هجوم المخاوف عليه وسكونه وزوال قلقه واضطرابه كما يحصل لحزب الله عند مقابلة العدو وصولته والله سبحانه أعلم ________________________________________ فصل قال : وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى : طمأنينة القلب بذكر الله وهي طمأنينة الخائف إلى الرجاء والضجر إلى الحكم والمبتلى إلى المثوبة قد تقدم أن الطمأنينة بذكر الله بكلامه وكتابه ولا ريب أن الذي ذكره في هذه الدرجة : هو من جملة الطمأنينة بذكره وهي أهم من ذلك فذكر طمأنينة الخائف إلى الرجاء فإن الخائف إذا طال عليه الخوف واشتد به وأراد الله عز وجل أن يريحه ويحمل عنه : أنزل عليه السكينة فاستراح قلبه إلى الرجاء واطمأن به وسكن لهيب خوفه وأما طمأنينة الضجر إلى الحكم فالمراد بها : أن من أدركه الضجر من قوة التكاليف وأعباء الأمر وأثقاله ولا سيما من أقيم مقام التبليغ عن الله ومجاهدة أعداء الله وقطاع الطريق إليه فإن ما يحمله ويتحمله فوق ما يحمله الناس ويتحملونه فلابد أن يدركه الضجر ويضعف صبره فإذا أراد الله أن يريحه ويحمل عنه : أنزل عليه سكينته فاطمأن إلى حكمه الديني وحكمه القدري ولا طمأنينة له بدون مشاهدة الحكمين وبحسب مشاهدته لهما تكون طمأنينته فإنه إذا اطمأن إلى حكمه الديني علم أنه دينه الحق وهو صراطه المستقيم وهو ناصره وناصر أهله وكافيهم ووليهم وإذا اطمأن إلى حكمه الكوني : علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له وأنه ما يشاء كان وما لم يشأ لم يكن فلا وجه للجزع والقلق إلا ضعف اليقين والإيمان فإن المحذور والمخوف : إن لم يقدر فلا سبيل إلى وقوعه وإن قدر فلا سبيل إلى صرفه بعد أن أبرم تقديره فلا جزع حينئذ لا مما قدر ولا مما لم يقدر نعم إن كان له في هذه النازلة حيلة فلا ينبغي أن يضجر عنها وإن لم يكن فيها حيلة فلا ينبغي أن يضجر منها فهذه طمأنينة الضجر إلى الحكم وفي مثل هذا قال القائل : ما قد قضى يا نفس فاصطبري له ... ولك الأمان من الذي لم يقدر ________________________________________ وتحققي أن المقدر كائن ... يجري عليك حذرت أم لم تحذري وأما طمأنينة المبتلى إلى المثوبة فلا ريب أن المبتلى إذا قويت مشاهدته للمثوبة سكن قلبه واطمأن بمشاهدة العوض وإنما يشتد به البلاء إذا غاب عنه ملاحظة الثواب وقد تقوى ملاحظة العوض حتى يستلذ بالبلاء ويراه نعمة ولا تستبعد هذا فكثير من العقلاء إذا تحقق نفع الدواء الكريه فإنه يكاد يلتذ به وملاحظته لنفعه تغيبه عن تألمه بمذاقه أو تخففه عنه والعمل المعول عليه : إنما هو على البصائر والله أعلم فصل قال : الدرجة الثانية : طمأنينة الروح في القصد إلى الكشف وفي الشوق إلى العدة وفي التفرقة إلى الجمع طمأنينة الروح أن تطمئن في حال قصدها ولا تلتفت إلى ما وراءها والمراد بالكشف : كشف الحقيقة لا الكشف الجزئي السفلي وهو ثلاث درجات : كشف عن الطريق الموصل إلى المطلوب وهو الكشف عن حقائق الإيمان وشرائع الإسلام وكشف عن المطلوب المقصود بالسير : وهو معرفة الأسماء والصفات ونوعي التوحيد وتفاصيله ومراعاة ذلك حق رعايته وليس وراء ذلك إلا الدعاوى والشطح والغرور وقوله : وفي الشوق إلى العدة يعني أن الروح تظهر في اشتياقها إلى ما وعدت به وشوقت إليه فطمأنينتها بتلك العدة : تسكن عنها لهيب اشتياقها وهذا شأن كل مشتاق إلى محبوب وعد بحصوله إنما يحصل لروحه الطمأنينة بسكونها إلى وعد اللقاء وعلمها بحصول الموعود به قوله وفي التفرقة إلى الجمع أي وتطمئن الروح في حال تفرقتها إلى ما اعتادته من الجمع بأن توافيها روحه فتسكن إليه وتطمئن به كما يطمئن الجائع الشديد الجوع إلى ما عنده من الطعام ويسكن إليه قلبه وهذا إنما يكون لمن أشرف على الجمع من وراء حجاب رقيق وشام برقه فاطمأن بحصوله وأما من بينه وبينه الحجب الكثيفة : فلا يطمئن به فصل قال : الدرجة الثالثة : طمأنينة شهود الحضرة إلى اللطف وطمأنينة الجمع إلى البقاء وطمأنينة المقام إلى نور الأزل ________________________________________ هذه الدرجة الثالثة تتعلق بالفناء والبقاء فالواصل إلى شهود الحضرة : مطمئن إلى لطف الله و حضرة الجمع يريدون بها الشهود الذاتي فإن الشهود عندهم مراتب بحسب تعلقه فشهود الأفعال : أول مراتب الشهود ثم فوقه : شهود الأسماء والصفات ثم فوقه : شهود الذات الجامعة إلى الأفعال والأسماء والصفات والتجلي عند القوم : بحسب هذه الشهود الثلاثة فأصحاب تجلي الأفعال : مشهدهم توحيد الربوبية وأصحاب تجلي الأسماء والصفات : مشهدهم توحيد الإلهية : وأصحاب تجلي الذات : يغنيهم به عنهم وقد يعرض لبعضهم بحسب قوة الوارد وضعف المحل عجز عن القيام والحركة فربما عطل بعض الفروض وهذا له حكم أمثاله من أهل العجز والتفريط والكاملون منهم قد يفترون في تلك الحال عن الأعمال الشاقة ويقتصرون على الفرائض وسننها وحقوقها ولا يقعد بهم ذلك الشهود والتجلي عنها ولا يؤثرون عليه شيئا من النوافل والحركات التي لم تعرض عليهم ألبتة وذلك في طريقهم رجوع وانقطاع وأكمل من هؤلاء : من يصحبه ذلك في حال حركاته ونوافله فلا يعطل ذرة من أوراده والله سبحانه قد فاوت بين قوى القلوب أشد من تفاوت قوى الأبدان وفي كل شيء له آية وصاحب هذا المقام آية من آيات الله لأولي الألباب والبصائر والمقصود : أنه لولا طمأنينته إلى لطف الله لمحقه شهود الحضرة وأفناه جملة فقد خر موسى صعقا لما تجلى ربه للجبل وتدكدك الجبل وساخ في الأرض من تجليه سبحانه هذا ولا يتوهم متوهم أن الحاصل في الدنيا للبشر كذلك ولا قريب منه أبدا وإنما هي المعارف واستيلاء مقام الإحسان على القلب فقط ________________________________________ وإياك وترهات القوم وخيالاتهم ورعوناتهم وإن سموك محجوبا فقل : اللهم زدني من هذا الحجاب الذي ما وراءه إلا الخيالات والترهات والشطحات فكليم الرحمن وحده مع هذا لم تتجل الذات له وأراه ربه تعالى أنه لا يثبت لتجلي ذاته لما أشهده من حال الجبل وخر الكليم صعقا مغشيا عليه لما رأى ما رأى من حال الجبل عند تجلي ربه له ولم يكن تجليا مطلقا قال الضحاك : أظهر الله من نور الحجب مثل منخر ثور وقال عبدالله بن سلام رضي الله عنه وكعب الأحبار : ما تجلى من عظمة الله للجبل إلا مثل سمع الخياط حتى صار دكا وقال السدي : ما تجلى إلا قدر الخنصر و في مستدرك الحاكم من حديث ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه أن النبي قرأ هذه الآية وقال : هكذا ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل وإسناده على شرط مسلم ولما حدث به حميد عن ثابت استعظمه بعض أصحابه وقال : تحدث بهذا فضرب بيده في صدره وقال : يحدث به ثابت عن أنس عن رسول الله وتنكره أنت ولا أحدث به فإذا شهد لك المخدوعون بأنك محجوب عن ترهاتهم وخيالاتهم فتلك الشهادة لك بالاستقامة فلا تستوحش منها وبالله التوفيق وهو المستعان فصل وأما طمأنينة الجمع إلى البقاء فمشهد شريف فاضل وهو مشهد الكمل فإن حضرة الجمع تعفي الآثار وتمحو الأغيار وتحول بين الشاهد وبين رؤية القلب للخلق فيرى الحق سبحانه وحده قائما بذاته ويرى كل شيء قائم به متوحدا في كثرة أسمائه وأفعاله وصفاته ولا يرى معه غيره ولا يشهده عكس حال من يشهد غيره ولا يشهده وليس الشأن في هذا الشهود فإن صاحبه في مقام الفناء فإن لم ينتقل منه إلى مقام البقاء وإلا انقطع انقطاعا كليا ففي هذا المقام : إن لم يطمئن إلى حصول البقاء وإلا عطل الأمر وخلع ربقة العبودية من عنقه فإذا اطمأن إلى البقاء طمأنينة من يعلم أنه لا بد له منه وإن لم يصحبه وإلا فسد وهلك كان هذا من طمأنينة الجمع إلى البقاء والله أعلم ________________________________________ فصل وأما طمأنينة المقام إلى نور الأزل فيريد به : طمأنينة مقامه إلى السابقة التي سبق بها في الأزل فلا تتغير ولا تتبدل ولهذا قال : طمأنينة المقام ولم يقل : طمأنينة الحال فإن الحال يزول ويحول ولو لم يحل لما سمى حالا بخلاف المقام فإذا اطمأن إلى السابقة والحسنى التي سبقت له من الله في الأزل كان هذا طمأنينة المقام إلى الأزل وهذا هو شهود أهل البقاء بعد الفناء والله أعلم أهـ { مدارج السالكين حـ2 صـ 512 ـ صـ 520 } سورة إبراهيم قوله تعالى { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد } فشبه تعالى أعمال الكفار في بطلانها وعدم الانتفاع بها برماد مرت عليه ريح شديدة في يوم عاصف فشبه سبحانه أعمالهم في حبوطها وذهابها باطلا كالهباء المنثور لكونها على غير أساس من الإيمان والإحسان وكونها لغير الله عز وجل وعلى غير أمره برماد طيرته الريح العاصف فلا يقدر صاحبه على شيء منه وقت شدة حاجته إليه فلذلك قال لا يقدرون مما كسبوا على شيء لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء فلا يرون له أثرا من ثواب ولا فائدة نافعة فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه موافقا لشرعه والأعمال أربعة فواحد مقبول وثلاثة مردودة فالمقبول الخالص الصواب فالخالص أن يكون لله لا لغيره والصواب أن يكون مما شرعه الله على لسان رسوله والثلاثة مردودة ما خالف ذلك ________________________________________ وفي تشبيهها بالرماد سر بديع وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم وبين الرماد في إحراق النار وإذهابها لأصل هذا وهذا فكانت الأعمال التي لغير الله وعلى غير مراده طعمة للنار وبها تسعر النار على أصحابها وينشىء الله سبحانه لهم من أعمالهم الباطلة نارا وعذابا كما ينشىء لأهل الأعمال الموافقة لأمره ونهيه التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيما وروحا فأثرت النار في أعمال أولئك حتى جعلتها رمادا فهم وأعمالهم وما يعبدون من دون الله وقود النار فصل كلمة التوحيد وأثرها في نفس المؤمن ومنها قوله تعالى { ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون } فشبه سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين الذين يقولون الكلمة الطيبة هي ________________________________________ شهادة أن لا إله إلا الله فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة فكل عمل صالح مرضي لله ثمرة هذه الكلمة وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال كلمة طيبة شهادة أن لا إله إلا الله كشجرة طيبة وهو المؤمن أصلها ثابت قول لا إله إلا الله في قلب المؤمن وفرعها في السماء يقول يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء وقال الربيع بن أنس كلمة طيبة هذا مثل الإيمان فالإيمان الشجرة الطيبة وأصلها الثابت الذي لا يزول الإخلاص فيه وفرعه في السماء خشية الله والتشبيه على هذا القول أصح وأظهر وأحسن فإنه سبحانه شبه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل الباسقة الفرع في السماء علوا التي لا تزال تؤتي ثمرتها كل حين وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب التي فروعها من الأعمال الصالحة الصاعدة إلى السماء ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت بحسب ثباتها في القلب ومحبة القلب لها وإخلاصه فيها ومعرفته بحقيقتها وقيامه بحقوقها ومراعاتها حق رعايتها ________________________________________ فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها واتصف قلبه بها وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها فعرف حقيقة الإلهية التي يثبتها قلبه لله ويشهد بها لسانه وتصدقها جوارحه ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سبل ربه ذللا غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلا كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلا فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الله كل وقت فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الرب تعالى وهذه الكلمة الطيبة تثمر كلاما كثيرا طيبا يقارنه عمل صالح فيرفع العمل الصالح إلى الكلم الطيب كما قال تعالى إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه فأخبر سبحانه أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها عملا صالحا كل وقت والمقصود أن كلمة التوحيد إذا شهد بها المؤمن عارفا بمعناها وحقيقتها نفيا وإثباتا متصفا بموجبها قائما قلبه ولسانه وجوارحه بشهادته فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل من هذا الشاهد أصلها ثابت راسخ في قلبه وفروعها متصلة بالسماء وهي مخرجة لثمرتها كل وقت ________________________________________ ومن السلف من قال إن الشجرة الطيبة هي النخلة ويدل عليه حديث ابن عمر الصحيح ومنهم من قال هي المؤمن نفسه كما قال محمد بن سعد حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة يعني بالشجرة الطيبة المؤمن ويعني بالأصل الثابت في الأرض والفرع في السماء يكون المؤمن يعمل في الأرض ويتكلم فيبلغ عمله وقوله السماء وهو في الأرض وقال عطية العوفي في قوله ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة قال ذلك مثل المؤمن لا يزال يخرج منه كلام طيب وعمل صالح يصعد إلى الله وقال الربيع بن أنس أصلها ثابت وفرعها في السماء قال ذلك المؤمن ضرب مثله في الإخلاص لله وحده وعبادته وحده لا شريك له أصلها ثابت قال أصل عمله ثابت في الأرض وفرعها في السماء قال ذكره في السماء ولا اختلاف بين القولين والمقصود بالمثل المؤمن والنخلة مشبهة به وهو مشبه بها وإذا كانت النخلة شجرة طيبة فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك ومن قال من السلف إنها شجرة في الجنة فالنخلة من أشرف أشجار الجنة حكمة تشبيه المؤمن بالشجرة وفي هذا المثل من الأسرار والعلوم والمعارف ما يليق به ويقتضيه علم الذي تكلم به وحكمته فمن ذلك أن الشجرة لا بد لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر فكذلك ________________________________________ شجرة الإيمان والإسلام ليطابق المشبه المشبه به فعروقها العلم والمعرفة واليقين وساقها الإخلاص وفروعها الأعمال وثمرتها ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة والصفات الممدوحة والأخلاق الزكية والسمت الصالح والهدى والدل المرضي فيستدل على غرس هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور فإذا كان العلم صحيحا مطابقا لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به والاعتقاد مطابقا لما أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله والإخلاص قائم في القلب والأعمال موافقة للأمر والهدي والدل والسمت مشابه لهذه الأصول مناسب لها علم أن شجرة الإيمان في القلب أصلها ثابت وفرعها في السماء وإذا كان الأمر بالعكس علم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ومنها أن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها فإذا قطع عنها السقي أوشك أن تيبس فهكذا شجرة الإسلام في القلب إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل وقت بالعلم النافع والعمل الصالح والعود بالتذكر على التفكر والتفكر على التذكر وإلا أوشك أن تيبس وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله ص - إن الإيمان يخلق في القلب كما يخلق الثوب فجددوا أيمانكم وبالجملة فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك ومن هنا تعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر الله به من العبادات على تعاقب الأوقات وعظيم رحمته وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده بأن وظفها عليها وجعلها مادة لسقي غراس التوحيد الذي غرسه في قلوبهم ________________________________________ ومنها أن الغرس والزرع النافع قد أجرى الله سبحانه العادة أنه لا بد أن يخالطه دغل ونبت غريب ليس من جنسه فإن تعاهده ربه ونقاه وقلعه كمل الغرس والزرع واستوى وتم نباته وكان أوفر لثمرته وأطيب وأزكى وإن تركه أوشك أن يغلب على الغرس والزرع ويكون الحكم له أو يضعف الأصل ويجعل الثمرة ذميمة ناقصة بحسب كثرته وقلته ومن لم يكن له فقه نفس في هذا ومعرفة به فإنه يفوته ربح كثير وهو لا يشعر فالمؤمن دائما سعيه في شيئين سقي هذه الشجرة وتنقية ما حولها فبسقيها تبقى وتدوم وبتنقية ما حولها تكمل وتتم والله المستعان وعليه التكلان فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم ولعلها قطرة من بحر بحسب أذهاننا الوقفة وقلوبنا المخطئة وعلومنا القاصرة وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار وإلا فلو طهرت منا القلوب وصفت الأذهان وزكت النفوس وخلصت الأعمال وتجرت الهمم للتلقي عن الله ورسوله لشاهدنا من معاني كلام الله وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم وتتلاشى عنده معارف الخلق وبهذا تعرف قدر علوم الصحابة ومعارفهم وأن التفاوت الذي بين علومهم وعلوم من بعدهم كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والله أعلم حيث يجعل مواقع فضله ومن يختص برحمته فصل ضرب المثل للكافر ثم ذكر سبحانه مثل الكلمة الخبيثة فشبهها بالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار فلا عرق ثابت ولا فرع عال ولا ثمرة زاكية فلا ظل ولا جنى ولا ساق قائم ولا عرق في الأرض ثابت فلا أسفلها مغدق ولا أعلاها مونق ولا جنى لها ولا تعلو بل تعلي وإذا تأمل اللبيب أكثر كلام هذا الخلق في خطابهم وكسبهم وجده كذلك فالخسران الوقوف معه والاشتغال به عن أفضل الكلام وأنفعه قال الضحاك ضرب الله مثلا للكافر بشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يقول ليس لها أصل ولا فرع وليس لها ثمرة ولا فيها منفعة كذلك الكافر لا يعمل خيرا ولا يقوله ولا يجعل الله فيه بركة ولا منفعة ________________________________________ وقال ابن عباس ومثل كلمة خبيثة وهي الشرك كشجرة خبيثة يعني الكافر اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يقول الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر ولا برهان ولا يقبل الله مع الشرك عملا فلا يقبل عمل المشرك ولا يصعد إلى الله فليس له أصل ثابت في الأرض ولا فرع في السماء يقول ليس له عمل صالح في السماء ولا في الأرض وقال الربيع بن أنس مثل الشجرة الخبيثة مثل الكافر ليس لقوله ولا لعمله أصل ولا فرع ولا يستقر قوله ولا عمله على الأرض ولا يصعد إلى السماء وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية إن رجلا لقي رجلا من أهل العلم فقال له ما تقول في الكلمة الخبيثة قال ما أعلم لها في الأرض مستقرا ولا في السماء مصعدا إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافي بها القيامة وقوله اجتثت أي استؤصلت من فوق الأرض ثم أخبر سبحانه عن فضله وعدله في الفريقين أصحاب الكلم الطيب والكلم الخبيث فأخبر أنه يثبت الذين آمنوا بإيمانهم بالقول الثابت أحوج ما يكونون إليه في الدنيا والآخرة وأنه يضل الظالمين وهم المشركون عن القول الثابت فأضل هؤلاء بعدله لظلمهم وثبت المؤمنين بفضله لإيمانهم وتحت قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة كنز عظيم من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم ومن حرمه فقد حرم وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين فإن لم يثبته وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه عبده ورسوله ولو أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ________________________________________ وقال تعالى لأكرم خلقه إذا يوحي ربك إلى الملائكة إني معكم فثبتوا الذين آمنوا وفي الصحيحين من حديث البجلي قال وهو يسألهم ويثبتهم وقال تعالى لرسوله وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك فالخلق كلهم قسمان موفق بالتثبيت ومخذول بترك التثبيت ومادة التثبيت أصله ومنشأه من القول الثابت وفعل ما أمر به العبد فبهما يثبت الله عبده فكل من كان أثبت قولا وأحسن فعلا كان أعظم تثبيتا قال تعالى ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا فأثبت الناس قلبا أثبتهم قولا والقول الثابت هو القول الحق والصدق وهو ضد القول الباطل الكذب فالقول نوعان ثابت له حقيقة وباطل لا حقيقة له وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها فهي أعظم ما يثبت الله بها عبده في الدنيا والآخرة ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلبا والكاذب من أمهن الناس وأخبثهم وأكثرهم تلونا وأقلهم ثباتا وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من ثبات قلبه وقت الإخبار وشجاعته ومهابته ويعرفون كذب الكاذب بضد ذلك ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة وسئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم به فقال والله ما فهمت منه شيئا إلا أني رأيت لكلامه صولة ليست بصولة مبطل فما منح العبد أفضل من منحة القول الثابت ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكونون إليه في قبورهم ويوم معادهم كما في صحيح مسلم من حديث البراء بن عازب عن النبي ص - أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر أهـ { إعلام الموقعين حـ1 صـ 171 ـ صـ 177 } ________________________________________ سورة الحجر قوله تعالى { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه }متضمن لكنز من الكنوز وهو أن يطلب كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيديه وأن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ولا يقدر عليه وقوله وإن إلى ربك المنتهى متضمن لكنز عظيم وهو أن كل مراد إن لم يرد لأجله ويتصل به وإلا فهو مضمحل منقطع فإنه ليس إليه المنتهى وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه فهو غاية كل مطلوب وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه فاجتمع ما يراد منه كله في قوله وإن من شيء إلا عندنا خزائنه واجتمع ما يراد له كله في قوله وان إلى ربك المنتهى فليس وراءه سبحانه غاية تطلب وليس دونه غاية إليها المنتهى وتحت هذا سر عظيم من أسرار التوحيد وهو أن القلب لا يستقر ولا يطمئن ويسكن إلا بالوصول إليه وكل ما سواه مما يحب ويراد فمراد لغيره وليس المراد المحبوب لذاته إلا واحد إليه المنتهى ويستحيل أن يكون المنتهى إلى اثنين كما يستحيل أن يكون ابتداء المخلوقات من اثنين فمن كان انتهاء محبته ورغبته وإرادته وطاعته إلى غيره بطل عليه ذلك وزال عنه وفارقه أحوج ما كان إليه ومن كان انتهاء محبته ورغبته ورهبته وطلبه هو سبحانه ظفر بنعمه ولذته وبهجته وسعادته أبد الآباد ________________________________________ العبد دائما متقلب بين أحكام الأوامر وأحكام النوازل فهو محتاج بل مضطر إلى العون عند الأوامر وإلى اللطف عند النوازل وعلى قدر قيامه بالأوامر يحصل له من اللطف عند النوازل فإن كمل القيام بالأوامر ظاهرا وباطنا ناله اللطف ظاهرا وباطنا وإن قام بصورها دون حقائقها وبواطنها ناله اللطف في الظاهر وقل نصيبه من اللطف في الباطن فإن قلت وما اللطف الباطن فهو ما يحصل للقلب عند النوازل من السكينة والطمأنينة وزوال القلق والاضطراب والجزع فيستخذى بين يدي سيده ذليلا له مستكينا ناظرا إليه بقلبه ساكنا إليه بروحه وسره قد شغله مشاهدة لطفه به عن شدة ما هو فيه من الألم وقد غيبه عن شهود ذلك معرفته بحسن اختياره له وأنه عبد محض يجري عليه سيده أحكامه رضى أو سخط فإن رضى نال الرضا وإن سخط فحظه السخط فهذا اللطف الباطن ثمرة تلك المعاملة الباطنة يزيد بزيادتها وينقص بنقصانها أهـ { الفوائد صـ 303 } قوله تعالى { إن فى ذلك لآيات للمتوسمين } قد مدح الله سبحانه وتعالى الفراسة وأهلها في مواضع من كتابه قال تعالى إن في ذلك لآيات للمتوسمين وهم المتفرسون الذين يأخذون بالسيما وهي العلامة ويقال توسمت فيك كذا أي تفرسته كأنك اخذت من السيما وهي فعلا من السمة وهي العلامة وقال تعالى ولو نشألأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم وقال تعالى يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم وفي الترمذي مرفوعا اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ إن في ذلك لآيات للمتوسمين // ضعيف // والله أعلم أهـ { بدائع الفوائد حـ3 صـ 119 } ________________________________________ قال مجاهد رحمه الله : المتفرسين : وقال ابن عباس رضي الله عنهما : للناظرين وقال قتادة : للمعتبرين وقال مقاتل : للمتفكرين ولا تنافي بين هذه الأقوال فإن الناظر متى نظر في آثار ديار المكذبين ومنازلهم وما آل إليه أمرهم : أورثه فراسة وعبرة وفكرة وقال تعالى في حق المنافقين : ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول محمد : 30 فالأول : فراسة النظر والعين والثاني : فراسة الأذن والسمع وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول : علق معرفته إياهم بالنظر على المشيئة ولم يعلق تعريفهم بلحن خطابهم على شرط بل أخبر به خبرا مؤكدا بالقسم فقال : ولتعرفنهم في لحن القول وهو تعريض الخطاب وفحوى الكلام ومغزاه و اللحن ضربان : صواب وخطأ فلحن الصواب نوعان أحدهما : الفطنة ومنه الحديث : ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض والثاني : التعريض والإشارة وهو قريب من الكناية ومنه قول الشاعر : وحديث ألذه وهو مما ... يشتهي السامعون يوزن وزنا منطق صائب وتلحن أحيانا ... وخير الحديث ما كان لحنا والثالث : فساد المنطق في الإعراب وحقيقته : تغيير الكلام عن وجهه : إما إلى خطإوإما إلى معنى خفي لم يوضع له اللفظ والمقصود : أنه سبحانه أقسم على معرفتهم من لحن خطابهم فإن معرفة المتكلم وما في ضميره من كلامه : أقرب من معرفته بسيماه وما في وجهه فإن دلالة الكلام على قصد قائله وضميره أظهر من السيماء المرئية والفراسة تتعلق بالنوعين بالنظر والسماع وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن عن النبي قال : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بور الله ثم تلا قوله تعالى : إن في ذلك لآيات للمتوسمين الحجر : 75 فصل و الفراسة ثلاثة أنواع : إيمانية وهي المتكلم فيها في هذه المنزلة وسببها : نور يقذفه الله في قلب عبده يفرق به بين الحق والباطل والحالي والعاطل والصادق والكاذب ________________________________________ وحقيقتها : أنها خاطر يهجم على القلب ينفي ما يضاده يثب على القلب كوثوب الأسد على الفريسة لكن الفريسة فعيلة بمعنى مفعولة وبناء الفراسة كبناء الولاية والإمارة والسياسة وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان فمن كان أقوى إيمانا فهو أحد فراسة قال أبو سعيد الخراز : من نظر بنور الفراسة نظر بنور الحق وتكون مواد علمه مع الحق بلا سهو ولا غفلة بل حكم حق جرى على لسان عبده وقال الواسطي : الفراسة شعاشع أنوار لمعت في القلوب وتمكن معرفة جملة السرائر في الغيوب من غيب إلى غيب حتى يشهد الأشياء من حيث أشهده الحق إياها فيتكلم عن ضمير الخلق وقال الدراني : الفراسة مكاشفة النفس ومعاينة الغيب وهي من مقامات الإيمان وسئل بعضهم عن الفراسة فقال : أرواح تتقلب في الملكوت فتشرف على معاني الغيوب فتنطق عن أسرار الخلق نطق مشاهدة لا نطق ظن وحسبان وقال عمرو بن نجيد : كان شاه الكرماني حاد الفراسة لا يخطىء ويقول : من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشهوات وعمر باطنه بدوام بالمراقبه وظاهره باتباع السنة وتعود أكل الحلال : لم تخطىء فراسته وقال أبو جعفر الحداد : الفراسة أول خاطر بلا معارض فإن عارضه معارض آخر من جنسه فهو خاطر وحديث نفس وقال أبو حفص النيسابوري : ليس لأحد أن يدعي الفراسة ولكن يتقي الفراسة من الغير لأن النبي قال : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ولم يقل : تفرسوا وكيف يصح دعوى الفراسة لمن هو في محل اتقاء الفراسة وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي : إذا جالستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق فإنهم جواسيس القلوب يدخلون في قلوبكم ويخرجون من حيث لا تحتسبون وكان الجنيد يوما يتكلم على الناس فوقف عليه شاب نصراني متنكرا فقال : أيها الشيخ ما معنى قول النبي : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله فأطرق الجنيد ثم رفع رأسه إليه وقال : أسلم فقد حان وقت إسلامك فأسلم الغلام ويقال في بعض الكتب القديمة : إن الصديق لا تخطىء فراسته ________________________________________ وقال ابن مسعود رضي الله عنه : أفرس الناس ثلاثة : العزيز في يوسف حيث قال لامرأته : أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى : استأجره القصص : 26 وأبو بكر في عمر رضي الله عنهما حيث استخلفه وفي رواية أخرى : وامرأة فرعون حين قالت : قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا القصص : 9 وكان الصديق رضي الله عنه أعظم الأمة فراسة وبعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووقائع فراسته مشهورة فإنه ما قال لشيء : أظنه كذا إلا كان كما قال ويكفي في فراسته : موافقته ربه في المواضع المعروفة ومر به سواد بن قارب ولم يكن يعرفه فقال لقد أخطأ ظني أو أن هذا كاهن أو كان يعرف الكهانة في الجاهلية فلما جلس بين يديه قال له ذلك عمر فقال : سبحان الله يا أمير المؤمنين ما استقبلت أحدا من جلسائك بمثل ما استقبلتني به فقال له عمر رضي الله عنه : ما كنا عليه في الجاهلية أعظم من ذلك ولكن أخبرني عما سألتك عنه فقال : صدقت يا أمير المؤمنين كنت كاهنا في الجاهلية ثم ذكر القصة وكذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه صادق الفراسة وقال أنس ابن مالك رضي الله عنه : دخلت على عثمان بن عفان رضي الله عنه وكنت رأيت امرأة في الطريق تأملت محاسنها فقال عثمان رضي الله عنه : يدخل علي أحدكم وأثر الزنا ظاهر في عينيه فقلت : أوحي بعد رسول الله فقال : ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة وفراسة الصحابة رضي الله عنهم أصدق الفراسة ________________________________________ وأصل هذا النوع من الفراسة : من الحياة والنور اللذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده فيحيا القلب بذلك ويستنير فلا تكاد فراسته تخطىء قال الله : أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها الأنعام : 122 كان ميتا بالكفر والجهل فأحياه الله بالإيمان والعلم وجعل له بالقرآن والإيمان نورا يستضيء به في الناس على قصد السبيل ويمشي به في الظلم والله أعلم فصل الفراسة الثانية : فراسة الرياضة والجوع والسهر والتخلي فإن النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر ولا تدل على إيمان ولا على ولاية وكثير من الجهال يغتر بها وللرهبان فيها وقائع معلومة وهي فراسة لا تكشف عن حق نافع ولا عن طريق مستقيم بل كشفها جزئي من جنس فراسة الولاة وأصحاب عبارة الرؤيا والأطباء ونحوهم وللأطباء فراسة معروفة من حذقهم في صناعتهم ومن أحب الوقوف عليها فليطالع تاريخهم وأخبارهم وقريب من نصف الطب : فراسة صادقة يقترن بها تجربة والله سبحانه أعلم فصل الفراسة الثالثة : الفراسة الخلقية وهي التي صنف فيها الأطباء وغيرهم واستدلوا بالخلق على الخلق لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل وبكبره وبسعة الصدر وبعد ما بين جانبيه : على سعة خلق صاحبه واحتماله وبسطته وبضيقه على ضيقه وبخمود العين وكلال نظرها على بلادة صاحبها وضعف حرارة قلبه وبشدة بياضها مع إشرابه بحمرة وهو الشكل على شجاعته وإقدامه وفطنته وبتدويرها مع حمرتها وكثرة تقلبها على خيانته ومكره وخداعه ومعظم تعلق الفراسة بالعين فإنها مرآة القلب وعنوان ما فيه ثم باللسان فإنه رسوله وترجمانه وبالاستدلال بزرقتها مع شقرة صاحبها على رداءته وبالوحشة التي ترى عليها على سوء داخله وفساد طويته ________________________________________ وكالاستدلال بإفراط الشعر في السبوطة على البلادة وبإفراطه في الجعودة على الشر وباعتداله على اعتدال صاحبه وأصل هذه الفراسة : أن اعتدال الخلقة والصورة : هو من اعتدال المزاج والروح وعن اعتدالها يكون اعتدال الأخلاق والأفعال وبحسب انحراف الخلقة والصورة عن الاعتدال : يقع الانحراف في الأخلاق والأعمال هذا إذا خليت النفس وطبيعتها ولكن صاحب الصورة والخلقة المعتدلة يكتسب بالمقارنة والمعاشرة أخلاق من يقارنه ويعاشره ولو أنه من الحيوان البهيم فيصير من أخبث الناس أخلاقا وأفعالا وتعود له تلك طباعا ويتعذر أو يتعسر عليه الانتقال عنها وكذلك صاحب الخلقة والصورة المنحرفة عن الاعتدال يكتسب بصحبة الكاملين بخلطتهم أخلاقا وأفعالا شريفة تصير له كالطبيعة فإن العوائد والمزاولات تعطي الملكات والأخلاق فليتأمل هذا الموضع ولا يعجل بالقضاء بالفراسة دونه فإن القاضي حينئذ يكون خطؤه كثيرا فإن هذه العلامات أسباب لا موجبة وقد تتخلف عنها أحكامها لفوات شرط أو لوجود مانع وفراسة المتفرس تتعلق بثلاثة أشياء : بعينه وأذنه وقلبه فعينه للسيماء والعلامات وأذنه : للكلام وتصريحه وتعريضه ومنطوقه ومفهومه وفحواه وإشاراته ولحنه وإيمائه ونحو ذلك وقلبه للعبور : والاستدلال من المنظور والمسموع إلى باطنه وخفيه فيعبر إلى ما وراء ظاهره كعبور النقاد من ظاهر النقش والسكة إلى باطن النقد والاطلاع عليه : هل هو صحيح أو زغل وكذلك عبور المتفرس من ظاهر الهيئة والدل إلى باطن الروح والقلب فنسبة نقده للأرواح من الأشباح كنسبة نقد الصيرفي ينظر للجوهر من ظاهر السكة والنقد وكذلك نقد أهل الحديث فإنه يمر إسناد ظاهر كالشمس على متن مكذوب فيخرجه ناقدهم كما يخرج الصيرفي الزغل من تحت الظاهر من الفضة وكذلك فراسة التمييز بين الصادق والكاذب في أقواله وأفعاله وأحواله ________________________________________ وللفراسة سببان أحدهما : جودة ذهن المتفرس وحدة قلبه وحسن فطنته والثاني : ظهور العلامات والأدلة على المتفرس فيه فإذا اجتمع السببان لم تكد تخطىء للعبد فراسة وإذا انتفيا لم تكد تصح له فراسة وإذا قوي أحدهما وضعف الآخر : كانت فراسته بين بين وكان إياس بن معاوية من أعظم الناس فراسة وله الوقائع المشهورة وكذلك الشافعي رحمة الله وقيل : إن له فيها تآليف ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أمورا عجيبة وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم ووقائع فراسته تستدعي سفرا ضخما أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة وأن جيوش المسلمين تكسر وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ولا سبي عام وأن كلب الجيش وحدته في الأموال : وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام : أن الدائرة والهزيمة عليهم وأن الظفر والنصر للمسلمين وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا فيقال له : قل إن شاء الله فيقول : إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا وسمعته يقول ذلك قال : فلما أكثروا علي قلت : لا تكثروا كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ : أنهم مهزومون في هذه الكرة وأن النصر لجيوش الإسلام قال : وأطعمت بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر ولما طلب إلى الديار المصرية وأريد قتله بعد ما أنضجت له القدور وقلبت له الأمور : اجتمع أصحابه لوداعه وقالوا : قد تواترت الكتب بأن القوم عاملون على قتلك فقال : والله لا يصلون إلى ذلك أبدا قالوا : أفتحبس قال : نعم ويطول حبسي ثم أخرج وأتكلم بالسنة على رؤوس الناس سمعته يقول ذلك ________________________________________ ولما تولى عدوه الملقب بالجاشنكير الملك أخبروه بذلك وقالوا : الآن بلغ مراده منك فسجد لله شكرا وأطال فقيل له : ما سبب هذه السجدة فقال : هذا بداية ذله ومفارقة عزه من الآن وقرب زوال أمره فقيل له : متى هذا فقال : لا تربط خيول الجند على القرط حتى تغلب دولته فوقع الأمر مثل ما أخبر به سمعت ذلك منه وقال مرة : يدخل علي أصحابي وغيرهم فأرى في وجوههم وأعينهم أمورالا أذكرها لهم فقلت له أو غيري لو أخبرتهم فقال : أتريدون أن أكون معرفا كمعرف الولاة وقلت له يوما : لو عاملتنا بذلك لكان أدعى إلى الاستقامة والصلاح فقال : لا تصبرون معي على ذلك جمعة أو قال : شهرا وأخبرني غير مرة بأمور باطنة تختص بي مما عزمت عليه ولم ينطق به لساني وأخبرني ببعض حوادث كبار تجري في المستقبل ولم يعين أوقاتها وقد رأيت بعضها وأنا أنتظر بقيتها وما شاهده كبار أصحابه من ذلك أضعاف أضعاف ما شاهدته والله أعلم أهـ { مدارج السالكين حـ2 صـ 482 ـ صـ 490 } ________________________________________ سورة النحل قوله تعالى { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو و من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم } هذان مثلان متضمنان قياسين من قياس العكس وهو نفي الحكم لنفي علته وموجبه فإن القياس نوعان قياس طرد يقتضي إثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه وقياس عكس يقتضي نفي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه فالمثل الأول ما ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان فالله سبحانه هو المالك لكل شيء ينفق كيف يشاء على عبيده سرا وجهرا وليلا ونهارا يمينه ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء فكيف يجعلونها شركاء لي ويعبدونها من دوني مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين هذا قول مجاهد وغيره وقال ابن عباس هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ومثل المؤمن في الخير الذي عنده ثم رزقه منه رزقا حسنا فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرا وجهرا والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز لا يقدر على شيء لأنه لا خير عنده فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء والقول الأول أشبه بالمراد فإنه أظهر في بطلان الشرك وأوضح عند المخاطب وأعظم في إقامة الحجة وأقرب نسبا بقوله ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ثم قال ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموجد كمن رزقه منه رزقا حسنا والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء فهذا ما نبه عليه المثل وأرشد إليه فذكره ابن عباس منبها على إرادته لا أن الآية اختصت به فتأمله فإنك تجده كثيرا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن فيظن الظان ________________________________________ أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره فيحكيه قوله فصل وأما المثل الثاني فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لنفسه ولما يعبد من دونه أيضا فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق بل هو أبكم القلب واللسان قد عدم النطق القلبي واللساني ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة ومع هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير ولا يقضي لك حاجة والله سبحانه حي قادر متكلم يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد فإن أمره بالعدل وهو الحق يتضمن أنه ________________________________________ سبحانه عالم به معلم له راض به آمر لعباده به محب لأهله لا يأمر بسواه بل تنزه عن ضده الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل بل أمره وشرعه عدل كله وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه وهو المجاورون له عن يمينه على منابر من نور وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني والأمر القدري الكوني وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه ما كما في الحديث الصحيح اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك فقضاؤه هو أمره الكوني فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فلا يأمر إلا بحق وعدل وقضاؤه وقدره القائم به حق وعدل وإن كان في المقضي المقدر ما هو جور وظلم فالقضاء غير المقضي والقدر غير المقدر ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم وهذا نظير قول رسوله شعيب إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فقوله ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها نظير قوله ناصيتي بيدك وقوله إن ربي على صراط مستقيم نظير قوله عدل في قضاؤك فالأول ملكه والثاني حمده وهو سبحانه له الملك وله الحمد وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالعدل ولا يفعل إلا ما هو مصلحة ورحمة وحكمة وعدل فهو على الحق في أقواله وأفعاله فلا يقضي يقضى على العبد بما يكون ظالما له به ولا يأخذه بغير ذنبه ولا ينقصه من حسناته شيئا ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها ولم يتسبب إليها شيئا ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره ولا يفعل قط ما لا يحمد عليه ويثنى به عليه ويكون له فيه العواقب الحميدة والغايات المطلوبة فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله قال محمد بن جرير الطبري وقوله إن ربي على صراط مستقيم يقول ________________________________________ إن ربي على طريق الحق يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسيء بإساءته لا يظلم أحدا منهم شيئا ولا يقبل منهم إلا الإسلام له والإيمان به ثم حكى عن مجاهد من طريق شبل بن أبي نجيح عنه إن ربي على صراط مستقيم قال الحق وكذلك رواه ابن جريج عنه وقالت فرقة هي مثل قوله إن ربك لبالمرصاد وهذا اختلاف عبارة فإن كونه بالمرصاد هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وقالت فرقة في الكلام حذف تقديره إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها فليس كما زعموا ولا دليل على هذا المقدر وقد فرق سبحانه بين كونه آمرا بالعدل وبين كونه على صراط مستقيم وإن أرادوا أن حثه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم فقد أصابوا وقالت فرقة أخرى معنى كونه على صراط مستقيم أن مراد العباد والأمور كلها إلى الله لا يفوته شيء منها وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك وإن أرادوا أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ومن مقتضاه وموجبه فهو حق وقالت فرقة أخرى معناه كل شيء تحت قدرته وقهره وفي ملكه وقبضته وهذا وإن كان حقا فليس هو معنى الآية وقد فرق شعيب بين قوله ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها وبين قوله إن ربي على صراط مستقيم فهما معنيان مستقلان فالقول قول مجاهد وهو قول أئمة التفسير ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه وقال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوج الموارد مستقيم ... وقد قال تعالى من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم وإذا كان سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على الصراط المستقيم في أقوالهم وأفعالهم فهو سبحانه أحق بأن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره فصراطه الذي هو سبحانه عليه هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده من قول الحق وفعله وبالله التوفيق فصل ________________________________________ وفي الآية قول ثان مثل الأية سواء أنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر وقد تقدم ما في هذا القول وبالله التوفيق أهـ { إعلام الموقعين حـ1 صـ 191 ـ صـ 196 } وقال فى مفتاح دار السعادة فالمثل الأول للصنم وعابديه والمثل الثاني ضربه الله تعالى لنفسه وأنه يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم فكيف يسوى بينه وبين الصنم الذي له مثل السوء فما فعله الرب تبارك وتعالى مع عباده هو غاية الحكمة والإحسان والعدل في اقدارهم واعطائهم ومنعهم وأمرهم ونهيهم فدعوى المدعى أن هذا نظير تخلية السيد بين عبيده وامائه يفجر بعضهم ببعض ويسيء بعضهم بعضا اكذب دعوى وأبطلها والفرق بينهما أظهر وأعظم من أن يحتاج إلى ذكره والتنبيه عليه والحمد لله الغني الحميد فغناه التام فارق وحمده وملكه وعزته وحكمته وعلمه وإحسانه وعدله ودينه وشرعه وحكمه وكرمه ومحبته للمغفرة والعفو عن الجناة والصفح عن المسيئين وتوبة التائبين وصبر الصابرين وشكر الشاكرين الذين يؤثرونه على غيره ويتطلبون مراضيه ويعبدونه وحده ويسيرون في عبيده بسيرة العدل والإحسان والنصائح ويجاهدون أعداءه فيبذلون دماءهم وأموالهم في محبته ومرضاته فيتميز الخبيث من الطيب ووليه من عدوه ويخرج طيبات هؤلاء وخبائث أولئك إلى الخارج فيترتب عليها آثارها المحبوبة للرب تعالى من الثواب والعقاب والحمد لأوليائه والذم لأعدائه أهـ { مفتاح دار السعادة حـ 2 صـ 85 } قوله تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون } ________________________________________ فإن قيل فقد أثبت له على أوليائه هاهنا سلطانا فكيف نفاه بقوله تعالى حاكيا عنه مقررا له وقال الشيطان لما قضى الأمر ان الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان الا أن دعوتكم فاستجبتم لى وقال تعالى ولقد صدق عليهم ابليس ظنه فاتبعوه الا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان الا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك قيل السلطان الذى اثبته له عليهم غير الذى نفاه من وجهين أحدهما أن السلطان الثابت هو سلطان التمكن منهم وتلاعبه بهم وسوقه اياهم كيف أراد بتمكينهم اياه من ذلك بطاعته وموالاته والسلطان الذى نفاه سلطان الحجة فلم يكن لابليس عليهم من حجة يتسلط بها غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان الثانى أن الله لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداء البتة ولكن هم سلطوه على انفسهم بطاعته ودخولهم في جملة جنده وحزبه فلم يتسلطن عليهم بقوته فإن كيده ضعيف وانما تسلطن عليهم بإرادتهم واختيارهم والمقصود أن من قصد أعظم أوليائه وأحبابه ونصحائه فأخذه وأخذ أولاده وحاشيته وسلمهم إلى عدوه كان من عقوبته أن يسلط عليه ذلك العدو نفسه أهـ { عدة الصابرين صـ71 } ________________________________________ قوله تعالى {ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } جعل سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق فالمتسجيب القابل الذكي الذي لا يعاندالحق ولا يأباه يدعى بطريق الحكمة والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة وهي الامر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي احسن هذا هو الصحيح في معنى هذه الاية لا ما يزعم اسير منطق اليونان ان الحكمة قياس البرهان وهي دعوة الخواص والموعظة الحسنة قياس الخطابة وهي دعوة العوام والمجادلة بالتي هي احسن القياس الجدلي وهو رد شغب المشاغب بقياس جدلي مسلم المقدمات وهذا باطل وهو مبني على أصول الفلسفة وهو مناف لاصول المسلمين وقواعدالدين من وجوه كثيرة ليس هذا موضع ذكرها أهـ { مفتاح دار السعادة حـ 1 صـ 193 } سورة الإسراء قوله تعالى {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا } الصدق فى قوله وعمله وحاله فالصدق : فى هذه الثلاثة فالصدق في الأقوال : استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها والصدق في الأعمال : استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد والصدق في الأحوال : استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص واستفراغ الوسع وبذل الطاقة فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به : تكون صديقيته ولذلك كان لأبي بكر الصديق رضى الله عنه وأرضاه : ذروة سنام الصديقية سمي الصديق على الإطلاق و الصديق أبلغ من الصدوق والصدوق أبلغ من الصادق فأعلى مراتب الصدق : مرتبة الصديقية وهي كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص للمرسل ________________________________________ وقد أمر الله تعالى رسوله : أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق فقال : وقل : رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا الإسراء : 80 وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أنه يهب له لسان صدق في الآخرين فقال : واجعل لى لسان صدق في الآخرين وبشر عباده بأن لهم عنده قدم صدق ومقعد صدق فقال تعالى : وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم يونس : 2 وقال : إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر القمر : 5455 فهذه خمسة أشياء : مدخل الصدق ومخرج الصدق ولسان الصدق وقدم الصدق ومقعد الصدق وحقيقة الصدق في هذه الأشياء : هو الحق الثابت المتصل بالله الموصل إلى الله وهو ما كان به وله من الأقوال والأعمال وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة فمدخل الصدق ومخرج الصدق : أن يكون دخوله وخروجه حقا ثابتا بالله وفي مرضاته بالظفر بالبغية وحصول المطلوب ضد مخرج الكذب ومدخله الذي لا غاية له يوصل إليها ولا له ساق ثابتة يقوم عليها كمخرج أعدائه يوم بدر ومخرج الصدق كمخرجههو وأصحابه في تلك الغزوة وكذلك مدخلهالمدينة : كان مدخل صدق بالله ولله وابتغاء مرضاة الله فاتصل به التأييد والظفر والنصر وإدراك ما طلبه في الدنيا والآخرة بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب فإنه لم يكن بالله ولا لله بل كان محادة لله ورسوله فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار وكذلك مدخل من دخل من اليهود المحاربين لرسول اللهحصن بني قريظة فإنه لما كان مدخل كذب : أصابه معهم ما أصابهم فكل مدخل معهم ومخرج كان بالله ولله وصاحبه ضامن على الله فهو مدخل صدق ومخرج صدق وكان بعض السلف إذا خرج من داره : رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إني أعوذ بك أن أخرج مخرجا لا أكون فيه ضامنا عليك ________________________________________ يريد : أن لا يكون المخرج مخرج صدق ولذلك فسر مدخل الصدق ومخرجه : بخروجهمن مكة ودخوله المدينة ولا ريب أن هذا على سبيل التمثيل فإن هذا المدخل والمخرج من أجل مداخله ومخارجه وإلا فمداخله كلها مداخل صدق ومخارجه مخارج صدق إذ هي لله وبالله وبأمره ولابتغاء مرضاته وما خرج أحد من بيته ودخل سوقه أو مدخلا آخر إلا بصدق أو بكذب فمخرج كل واحد ومدخله : لا يعدو الصدق والكذب والله المستعان وأما لسان الصدق : فهو الثناء الحسن عليهمن سائر الأمم بالصدق ليس ثناء بالكذب كما قال عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه : وجعلنا لهم لسان صدق عليا مريم : 50 والمراد باللسان ههنا : الثناء الحسن فلما كان الصدق باللسان وهو محله أطلق الله سبحانه ألسنة العباد بالثناء على الصادق جزاء وفاقا وعبر به عنه فإن اللسان يراد به ثلاثة معان : هذا واللغة كقوله تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم إبراهيم : 4 وقوله : واختلاف ألسنتكم وألوانكم الروم : 22 وقوله : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين النحل : 103 ويراد به الجارحة نفسها كقوله تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به القيامة : 16 وأما قدم الصدق : ففسر بالجنة وفسر بمحمد وفسر بالأعمال الصالحة وحقيقة القدم ما قدموه وما يقدمون عليه يوم القيامة وهم قدموا الأعمال والإيمان بمحمد ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك ________________________________________ فمن فسره بها أراد : ما يقدمون عليه ومن فسره بالأعمال وبالنبي : فلأنهم قدموها وقدموا الإيمان به بين أيديهم فالثلاثة قدم صدق وأما مقعد الصدق : فهو الجنة عند الرب تبارك وتعالى ووصف ذلك كله بالصدق مستلزم ثبوته واستقراره وأنه حق ودوامه ونفعه وكمال عائدته فإنه متصل بالحق سبحانه كائن به وله فهو صدق غير كذب وحق غير باطل ودائم غير زائل ونافع غير ضار وما للباطل ومتعلقاته إليه سبيل ولا مدخل ومن علامات الصدق : طمأنينة القلب إليه ومن علامات الكذب : حصول الريبة كما في الترمذي مرفوعا من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما عنهما عن النبيقال : الصدق طمأنينة والكذب ريبة وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبيقال : إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عندالله صديقا وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عندالله كذابا فجعل الصدق مفتاح الصديقية ومبدأها وهي غايته فلا ينال درجتها كاذب ألبتة لا في قوله ولا في عمله ولا في حاله ولا سيما كاذب على الله في أسمائه وصفاته ونفي ما أثبته أو إثبات ما نفاه عن نفسه فليس في هؤلاء صديق أبدا وكذلك الكذب عليه في دينه وشرعه بتحليل ما حرمه وتحريم ما لم يحرمه وإسقاط ما أوجبه وإيجاب ما لم يوجبه وكراهة ما أحبه واستحباب ما لم يحبه كل ذلك مناف للصديقية وكذلك الكذب معه في الأعمال : بالتحلي بحلية الصادقين المخلصين والزاهدين المتوكلين وليس في الحقيقة منهم فلذلك كانت الصديقية : كمال الإخلاص والانقياد والمتابعة للخبر والأمر ظاهرا وباطنا حتى إن صدق المتبايعين يحل البركة في بيعهما وكذبهما يمحق بركة بيعهما كما في الصحيحين عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال : قال رسول الله : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما : محقت بركة بيعهما ________________________________________ فصل في كلمات في حقيقة الصدق قال عبدالواحد بن زيد : الصدق الوفاء لله بالعمل وقيل : موافقة السر النطق وقيل : استواء السر والعلانية يعني أن الكاذب علانيته خير من سريرته كالمنافق الذي ظاهره خير من باطنه وقيل : الصدق القول بالحق في مواطن الهلكة وقيل : كلمة الحق عند من تخافه وترجوه وقال الجنيد : الصادق يتقلب في اليوم أربعين مرة والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة وهذا الكلام يحتاج إلى شرح وقد يسبق إلى الذهن خلافه وأن الكاذب متلون لأن الكذب ألوان فهو يتلون بتلونه والصادق مستمر على حالة واحدة فإن الصدق واحد في نفسه وصاحبه لا يتلون ولا يتغير لكن مراد الشيخ أبي القاسم صحيح غير هذا فإن المعارضات والواردات التي ترد على الصادق لاترد على الكاذب المرائي بل هو فارغ منها فإنه لا يرد عليه من قبل الحق موارد الصادقين على الكاذبين المرائين ولا يعارضهم الشيطان كما يعارض الصادقين فإنه لا أرب له في خربة لا شيء فيها وهذه الواردات توجب تقلب الصادق بحسب اختلافها وتنوعها فلا تراه إلا هاربا من مكان إلى مكان ومن عمل إلى عمل ومن حال إلى حال ومن سبب إلى سبب لأنه يخاف في كل حال يطمئن إليها ومكان وسبب : أن يقطعه عن مطلوبه فهو لا يساكن حالة ولا شيئا دون مطلوبه فهو كالجوال في الآفاق في طلب الغنى الذي يفوق به الأغنياء والأحوال والأسباب تتقلب به وتقيمه وتقعده وتحركه وتسكنه حتى يجد فيها ما يعينه على مطلوبه وهذا عزيز فيها فقلبه في تقلب وحركة شديدة بحسب سعة مطلوبه وعظمته وهمته أعلى من أن يقف دون مطلبه على رسم أو حال أو يساكن شيئا غيره فهو كالمحب الصادق الذي همته التفتيش على محبوبه وكذا حال الصادق في طلب العلم وحال الصادق في طلب الدنيا فكل صادق في طلب شيء لا يستقر له قرار ولا يدوم على حالة واحدة ________________________________________ وأيضا : فإن الصادق مطلوبه رضى ربه وتنفيذ أوامره وتتبع محابه فهو متقلب فيها يسير معها أين توجهت ركائبها ويستقل معها أين استقلت مضاربها فبينا هو في صلاة إذ رأيته في ذكر ثم في غزو ثم في حج ثم في إحسان للخلق بالتعليم وغيره من أنواع النفع ثم في أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو في قيام بسبب فيه عمارة الدين والدنيا ثم في عيادة مريض أو تشييع جنازة أو نصر مظلوم إن أمكن إلى غير ذلك من أنواع القرب والمنافع فهو في تفرق دائم لله وجمعية على الله لا يملكه رسم ولا عادة ولا وضع ولا يتقيد بقيد ولا إشارة ولا بمكان معين يصلى فيه لا يصلى في غيره وزي معين لا يلبس سواه وعبادة معينة لا يلتفت إلى غيرها مع فضل غيرها عليها أو هي أعلى من غيرها في الدرجة وبعد ما بينهما كبعد ما بين السماء والأرض فإن البلاء والآفات والرياء والتصنع وعبادة النفس وإيثار مرادها والاشارة إليها : كلها في هذه الأوضاع والرسوم والقيود التي حبست أربابها عن السير إلى قلوبهم فضلا عن السير من قلوبهم إلى الله تعالى فإذا خرج أحدهم عن رسمه ووضعه وزيه وقيده وإشارته ولو إلى أفضل منه استهجن ذلك ورآه نقصا وسقوطا من أعين الناس وانحطاطا لرتبته عندهم وهو قد انحط وسقط من عين الله وقد يحس أحدهم ذلك من نفسه وحاله ولا تدعه رسومه وأوضاعه وزيه وقيوده : أن يسعى في ترميم ذلك وإصلاحه وهذا شأن الكذاب المرائي الذي يبدي للناس خلاف ما يعلمه الله من باطنه العامل على عمارة نفسه ومرتبته وهذا هو النفاق بعينه ولو كان عاملا على مراد الله منه وعلى الصدق مع الله : لأثقلته تلك القيود وحبسته تلك الرسوم ولرأى الوقوف عندها ومعها عين الانقطاع عن الله لا إليه ولما بالى أي ثوب لبس ولا أي عمل عمل إذا كان على مراد الله من العبد فكلام أبي القاسم الجنيد حق كلام راسخ في الصدق عالم بتفاصيله وآفاته ومواضع اشتباهه بالكذب ________________________________________ وأيضا فحمل الصدق كحمل الجبال الرواسي لا يطيقه إلا أصحاب العزائم فهم يتقلبون تحته تقلب الحامل بحمله الثقيل والرياء والكذب خفيف كالريشة لا يجد له صاحبه ثقلا ألبتة فهو حامل له في أي موضع اتفق بلا تعب ولا مشقة ولا كلفة فهو لا يتقلب تحت حمله ولا يجد ثقله وقال بعضهم : لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره وقال بعضهم : الصادق الذي يتهيأ له أن يموت ولا يستحيي من سره لو كشف قال الله تعالى : فتمنوا الموت إن كنتم صادقين البقرة : 94 قلت : هذه الآية فيها للناس كلام معروف قالوا : إنها معجزة للنبي أعجز بها اليهود ودعاهم إلى تمني الموت وأخبر : أنهم لا يتمنونه أبدا وهذا علم من أعلام نبوته إذ لا يمكن الاطلاع على بواطنهم إلا بأخبار الغيب ولم ينطق الله ألسنتهم بتمنيه أبدا وقالت طائفة : لما ادعت اليهود : أن لهم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس وأنهم أبناؤه وأحباؤه وأهل كرامته كذبهم الله في دعواهم وقال : إن كنتم صادقين فتمنوا الموت لتصلوا إلى الجنة دار النعيم فإن الحبيب يتمنى لقاء حبيبه ثم أخبر سبحانه : أنهم لا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم من الأوزار والذنوب الحائلة بينهم وبين ما قالوه فقال : ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم البقرة : 95 وقالت طائفة منهم محمد بن إسحاق وغيره هذه من جنس آية المباهلة وأنهم لما عاندوا ودفعوا الهدى عيانا وكتموا الحق : دعاهم إلى أمر يحكم بينهم وبينه وهو أن يدعوا بالموت على الكاذب المفتري و التمني سؤال ودعاء فتمنوا الموت وادعوا به على المبطل الكاذب المفتري ________________________________________ وعلى هذا فليس المراد : تمنوه لأنفسكم خاصة كما قاله أصحاب القولين الأولين بل معناه : ادعوا بالموت وتمنوه للمبطل وهذا أبلغ في إقامة الحجة وبرهان الصدق وأسلم من أن يعارضوا رسول الله بقولهم : فتمنوه أنتم أيضا إن كنتم محقين أنكم أهل الجنة لتقدموا على ثواب الله وكرامته كانوا أحرص شيء على معارضته فلو فهموا منه ما ذكره أولئك لعارضوه بمثله وأيضا فإنا نشاهد كثيرا منهم يتمنى الموت لضره وبلائه وشدة حاله ويدعو به وهذا بخلاف تمنيه والدعاء به على الفرقة الكاذبة فإن هذا لا يكون أبدا ولا وقع من أحد منهم في حياة النبي ألبتة وذلك لعلمهم بصحة نبوته وصدقه وكفرهم به حسدا وبغيا فلا يتمنوه أبدا لعلمهم أنهم هم الكاذبون وهذا القول : هو الذي نختاره والله أعلم بما أراد من كتابه وقال إبراهيم الخواص : الصادق لا تراه إلا في فرض يؤديه أو فضل يعمل فيه وقال الجنيد : حقيقة الصدق : أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب وقيل : ثلاث لا تخطىء الصادق : الحلاوة والملاحة والهيبة أهـ { مدارج السالكين حـ 2 صـ 270 ـ صـ 277 } ________________________________________ قوله تعالى { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا } على أصح القولين والمعنى جعلنا بين القرآن إذا قرأته وبينهم حجابا يحول بينهم وبين فهمه وتدبره والإيمان به ويبينه قوله وجعلنا على قلوبهم أكنة آن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وهذه الثلاثة هي الثلاثة المذكورة في قوله وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فأخبر سبحانه أن ذلك جعله فالحجاب يمنع رؤية الحق والأكنة تمنع من فهمه والوقر يمنع من سماعه وقال الكلبي الحجاب ههنا مانع يمنعهم من الوصول إلى رسول الله بالأذى من الرعب ونحوه مما يصدهم عن الإقدام عليه ووصفه بكونه مستورا فقيل بمعنى ساتر وقيل على النسب أي ذو ستر والصحيح أنه على بابه أي مستورا عن الإبصار فلا يرى ومجيء مفعول بمعنى فاعل لا يثبت والنسب في مفعول لم يشتق من فعله كمكان مهول أي ذي هول ورجل مرطوب أي ذي رطوبة فأما مفعول فهو جار على فعله فهو الذي وقع عليه الفعل كمضروب ومجروح ومستور أهـ { شفاء العليل صـ 93 } قوله تعالى { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } ________________________________________ ومن ههنا لبيان الجنس لا للتبعيض فإن القرآن كلهشفاء كما قال في الآية الأخرى فهو شفاء للقلوب من داء الجهل والشك والريب فلم ينزل الله سبحانه من السماء شفاء قط أعم ولا أنفع ولا أعظم ولا أشجع في إزالة الداء من القرآن وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد قال انطلق نفر من أصحاب النبي في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم فلدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء فقال بعضهم لو أنيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء فاتوهم فقالوا أيها الرهط إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه فهل عند أحد منكم شيء فقال بعضهم نعم والله إني لأرقى ولكن والله استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلا فصالحوهم على قطيع من الغنم فانطلق يتفل عليه ويقرأ الحمد لله رب العالمين فكأنما نشط من عقال فانطلق يمشي وما به قلبة فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه فقال بعضهم إقتسموا فقال الذي رقالا نفعل حتى نأتي النبي فنذكر له الذي كان فننظر بما يأمرنا فقدموا على رسول الله فذكروا له ذلك فقال وما يدريك إنها رقية ثم قال قد أصبتم اقتسموا وأضربوا لى معكم سهما فقد أثر هذا الدواء في هذا الداء وأزاله حتى كأن لم يكن وهو أسهل دواء وأيسره ولو أحسن العبد التداوي بالفاتحة لرأي لها تأثيرا عجيبا في الشفاء ومكثت بمكة مدة تعتريني أدواء ولا أجد طبيبا ولا دواء فكنت أعالج نفسي بالفاتحة فأري لها تأثيرا عجيبا فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألما وكان كثير منهم يبرأ سريعا ولكن ههنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن الأذكار والآيات والأدعية التي يستشفى بها ويرقابها هي في نفسها نافعة شافية ولكن تستدعى قبول المحل وقوة همة الفاعل وتأثيره فمتى تخلف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل أو لعدم قبول المنفعل أو لمانع قوي فيه يمنع أن ينجع فيه الدواء كما يكون ذلك في الأدوية والأدواء الحسية فإن عدم ________________________________________ تأثيرها قد يكون لعدم قبول الطبيعة لذلك الدواء وقد يكون لمانع قوي يمنع من اقتضائه أثره فإن الطبيعة إذا أخذت الدواء لقبول تام كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول وكذلك القلب إذا أخذ الرقاء والتعاويذ بقبول تام وكان للراقى نفس فعالة وهمة مؤثرة في إزالة الداء وكذلك الدعاء فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب ولكن قد يتخلف عنه أثره إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء فيكون بمنزلة القوس الرخو جدا فإن السهم يخرج منه خروجا ضعيفا وإما لحصول المانع من الاجابة من أكل الحرام والظلم ورين الذنوب على القلوب واستيلاء الغفلة والسهو واللهو وغلبتها عليها أهـ { الجواب الكافى صـ 3 } سورة الكهف قوله تعالى { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } فإذا أراد العبد أن يفتدي برجل فلينظر : هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين ؟ وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة كان أمره فرطا ومعنى الفرط قد فسر بالتضييع أي أمره الذي يجب أن يلزمه ويقوم به وبه رشده وفلاحه ضائع قد فرط فيه وفسر بالاسراف أي قد أفرط وفسر بالإهلاك وفسر بالخلاف للحق وكلها أقوال متقاربة والمقصود أن الله سبحانه وتعالى نهى عن طاعة من جمع هذه الصفات فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه فإن وجده كذلك فليبعد منه وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله تعالى عز وجل واتباع السنة وأمره غير مفروط عليه بل هو حازم في أمره فليستمسك بغرزه ولا فرق بين الحي والميت إلا بالذكر فمثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت وفي المسند مرفوعا [ أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقال مجنون أهـ { الوابل الصيب صـ 71 } ________________________________________ سئل أبو العباس ثعلب عن قوله أغفلنا قلبه عن ذكرنا فقال جعلناه غافلا قال ويكون في الكلام أغفلته سميته غافلا ووجدته غافلا قلت الغفل الشيء الفارغ والأرض الغفل التي لا علامة بها والكتاب الغفل الذي لا شكل عليه فأغفلناه تركناه غفلا عن الذكر فارغا منه فهو ابقاء له على العدم الأصلي لأنه سبحانه لم يشأ له الذكر فبقي غافلا فالغفلة وصفه والإغفال فعل الله فيه بمشيئته وعدم مشيئته لتذكره فكل منهما مقتض لغفلته فإذا لم يشأ له التذ كر لم يتذكر وإذا شاء غفلته امتنع منه الذكر فإن قيل فهل تضاف الغفلة والكفر والإعراض ونحوها إلى عدم مشيئة الرب أضدادها أم إلى مشيئته لوقوعها قيل القرآن قد نطق بهذا وبهذا قال تعالى أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم وقال ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ومن يرد أن يضله فإن قيل فكيف يكون عدم السبب المقتضى موجبا للأثر إن كان وجوديا فلا بد له من مؤثر وجودي وأما العدم فيكفي فيه عدم سببه وموجبه فيبقى على العدم الأصلي فإذا أضيف إليه كان من باب إضافة الشيء إلى دليله فعدم السبب دليل على عدم المسبب وإذا سمي موجبا ومقتضيا بهذا الاعتبار فلا مشاحة في ذلك وأما أن يكون العدم أثرا ومؤثرا فلا وهذا الإغفال ترتب عليه اتباع هواه وتفريطه في أمره قال مجاهد كان أمره فرطا أي ضياعا وقال قتادة أضاع أكبر الضيعة وقال السدة هلاكا وقال أبو الهيثم أمر فرط أي متهاون به مضيع والتفريط تقديم العجز قال أبو اسحاق من قدم العجز في أمر إضاعه وأهلكه قال الليث الفرط الأمر الذي يفرط فيه يقول كل أمر فلان فرط قال الفراء فرطا متروكا يفرط فيما لا ينبغي التفريط فيه واتبع مالا ينبغي اتباعه وغفل عما لا يحسن الغفلة عنه ________________________________________ فصل وأما المرض فقال تعالى في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا وقال فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقال ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا ومرض القلب خروج عن صحته واعتداله فإن صحته أن يكون عارفا بالحق محبا له مؤثرا له على غيره فمرضه إما بالشك فيه وإما بإيثار غيره عليه فمرض المنافقين مرض شك وريب ومرض العصاة مرض غي وشهوة وقد سمى الله سبحانه كلا منهما مرضا قال ابن الأنباري أصل المرض في اللغة الفساد مرض فلان فسد جسمه وتغيرت حاله ومرضت بالمرض تغيرت وفسدت قالت ليلى الأخيلية ... إذا هبط الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها ... وقال آخر ... ألم تر أن الأرض أضحت مريضة ... لفقد الحسين والبلاد اقشعرت ... والمرض يدور على أربعة أشياء فساد وضعف ونقصان وظلمة ومنه مرض الرجل في الأمر إذا ضعف فيه ولم يبالغ وعين مريضة النظر أي فاترة ضعيفة وريح مريضة إذا هب هبوبها كما قال ... راحت لأربعك الرياح مريضة ... أي لينة ضعيفة حتى لا يعفى أثرها وقال ابن الأعرابي أصل المرض النقصان ومنه بدن مريض أي ناقص القوة وقلب مريض ناقص الدين ومرض في حاجتي إذا نقصت حركته وقال الأزهري عن المنذري عن بعض أصحابه المرض أظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها قال والمرض الظلمة وأنشد ... وليلة مرضت من كل ناحية ... فما يضيء لها شمس ولا قمر ... هذا أصله في اللغة ثم الشك والجهل والحيرة والضلال وإرادة الغي وشهوة الفجور في القلب تعود إلى هذه الأمور الأربعة فيتعاطى العبد أسباب المرض حتى يمرض فيعاقبه الله بزيادة المرض لإيثاره أسبابه وتعاطيه لها أهـ { شفاء العليل صـ 98 } ________________________________________ قوله تعالى { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه } وهي جمع كنان كعنان وأعنة وأصله من الستر والتغطية ويقال كنة وأكنة وكنان بمعنى واحد بل بينهما فرق فأكنة إذا ستره وأخفاه كقوله تعالى أو أكننتم في أنفسكم وكنة إذا صانه وحفظه كقوله بيض مكنون ويشتركان في الستر والكنان ماأكن الشيء وستره وهو كالغلاف وقد أقروا على أنفسهم بذلك فقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فذكروا غطاء القلب وهي الأكنة وغطاء الأذن وهو الوقر وغطاء العين وهو الحجاب والمعنى لا نفقه كلامك ولا نسمعه ولا نراك والمعنى إنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يفقه ما تقول ولا يراك قال ابن عباس قلوبنا في أكنة مثل الكنانة التي فيها السهام وقال مجاهد كجعبة النبل وقال مقاتل عليها غطاء فلا نفقه ما تقول أهـ { شفاء العليل صـ 93 } قوله تعالى { وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء من ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا } وهذا يتضمن معنيين أحدهما أن أعينهم في غطاء عما تضمنه الذكر من آيات الله وأدلة توحيده وعجائب قدرته والثاني أن أعين قلوبهم في غطاء عن فهم القرآن وتدبره والاهتداء به وهذا الغطاء للقلب أولا ثم يسري منه إلى العين أهـ { شفاء العليل صـ 93 } ________________________________________ سورة مريم قوله تعالى { وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر و هم في غفلة وهم لا يؤمنون } وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله يجاء بالموت كأنه كبش املح فيوقف بين الجنة و النار فيقال يا أهل الجنة هل تعرفون هذا فيشرأبون و ينظرون و يقولون نعم هذا الموت ثم يقال يا أهل النار هل تعرفون هذا فيشرأبون و ينظرون ويقولون نعم هذا الموت قال فيؤمر به فيذبح قال ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت و يا أهل النار خلود فلا موت ثم قرا رسول الله و أنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر و هم في غفلة و هم لا يؤمنون متفق عليه و في الصحيحين أيضا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال يدخل اهل الجنة الجنة و يدخل أهل النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول يا أهل الجنة لا موت و يا أهل النار لا موت كل خالد فيما هو فيه و عنه قال قال رسول الله إذا صار أهل الجنة إلى الجنة و صار أهل النار إلى النار أتي بالموت حتى يجعل بين النار والجنة ثم ينادى مناد يا أهل الجنة لا موت و يا أهل النار لا موت فيزداد اهل الجنة فرحا و يزداد أهل النار حزنا إلى جهنم و عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال إذا دخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار أتي بالموت ملبيا فيوقف على السور الذي بين أهل الجنة و أهل النار ثم يقال يا أهل الجنة فيطلعون خائفين ثم يقال يا أهل النار فيطلعون مبشرين يرجون الشفاعة فيقال لأهل الجنة و أهل النار هل تعرفون هذا فيقول هؤلاء و هؤلاء قد عرفناه هو الموت الذي وكل بنا فيضجع فيذبح ذبحا على السور ثم يقال يا أهل الجنة خلود لا موت و يا أهل النار خلود لا موت رواه النسائي و الترمذي و قال حديث حسن صحيح و هذا الكبش و الإضجاع و الذبح و معاينة الفريقين ذلك حقيقة لا خيال و لا تمثيل كما أخطأ فيه بعض الناس خطا قبيحا و قال الموت عرض و العرض لا يتجسم فضلا عن ان يذبح و هذا لا يصح فان الله سبحانه ينشئ من الموت صورة ________________________________________ كبش يذبح كما ينشئ من الأعمال صورا معاينة يثاب بها و يعاقب و الله تعالى ينشئ من الأعراض أجساما تكون الأعراض مادة لها و ينشئ من الأجسام أعراضا كما ينشئ سبحانه و تعالى من الأعراض أعراضا و من الأجسام أجساما فالأقسام الأربعة ممكنة مقدوره للرب تعالى و لا يستلزم جمعا بين النقيضين و لا شيئا من المحال و لا حاجة إلى تكلف من قال أن الذبح لملك الموت فهذا كله من الاستدراك الفاسد على الله و رسوله و التأويل الباطل الذي لا يوجبه عقل و لا نقل و سببه قله الفهم لمراد الرسول من و كلامه فظن هذا القائل أن لفظ الحديث يدل على أن نفس العرض يذبح و ظن غالط آخر أن العرض يعدم و يزول و يصير مكانه جسم يذبح و لم يهتد الفريقان الى هذا القول الذي ذكرناه و أن الله سبحانه ينشئ من الأعراض أجسام و يجعلها مادة لها كما في الصحيح عنه تجيء البقرة و آل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان الحديث فهذه هي القراءة التي ينشئها الله سبحانه تعالى غمامتين و كذلك قوله في الحديث الآخر أن ما تذكرون من جلال الله من تسبيحه و تحميده و تهليله يتعاطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل يذكرن بصاحبهن ذكره احمد و كذلك قوله في حديث عذاب القبر و نعيمه للصورة التي يراها فيقول من أنت فيقول أنا عملك الصالح و أنا عملك السيء و هذا حقيقة لا خيال و لكن الله سبحانه أنشأ له من عمله صورة حسنة و صورة قبيحة و هل النور الذي يقسم بين المؤمنين يوم القيامة إلا نفس إيمانهم أنشأ الله سبحانه لهم منه نورا يسعى بين أيديهم فهذا أمر معقول لو لم يرد به النص فورود النص به من باب تطابق السمع و العقل وقال سعيد عن قتادة بلغنا أن نبي الله قال أن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة و بشارة حسنة فيقول له من أنت فوالله أنى لاراك أمرا الصدق فيقول له أنا عملك فيكون له نورا و قائدا إلى الجنة و أما الكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة وبشارة سيئة فيقول ما ________________________________________ انت فوالله اني لاراك امرا السوء فيقول له انا عملك فينطلق به حتى يدخله النار و قال مجاهد مثل ذلك و قال ابن جريج يمثل له عمله في صورة حسنة و ريح طيبة يعارض صاحبه و يبشره بكل خير فيقول له من أنت فيقول أنا عملك فيجعل له نورا بين يديه حتى يدخله الجنة فذلك قوله يهديهم ربهم بإيمانهم و الكافر يمثل له عمله في صورة سيئة و ريح منتنة فيلازم صاحبه و يلاده حتى يقذفه في النار و قال ابن المبارك ثنا المبارك بن فضالة عن الحسن انه ذكر هذه الآية افما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى و ما نحن بمعذبين قال علموا أن كل نعيم بعده الموت انه يقطعه فقالوا افما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى و ما نحن بمعذبين قيل لا قالوا أن هذا لهو الفوز العظيم و كان يزيد الرقاشي يقول في كلامه أمن أهل الجنة من الموت فطاب لهم العيش و آمنوا من الأسقام فهنا هم في جوار الله طول يبكي حتى تجري دموعه على لحيته أهـ { حادى الأرواح صـ246 ـ صـ 251 } سورة طه قوله تعالى { وأقم الصلاة لذكري } قيل المصدر مضاف إلى الفاعل أي لأذكرك بها وقيل مضاف إلى المذكور أي لتذكروني بها واللام على هذا لام التعليل وقيل : هي اللام الوقتية أي أقم الصلاة عند ذكري كقوله : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } وقوله تعالى : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } وهذا المعنى المراد بالآية لكن تفسيرها به يجعل معناها فيه نظر لأن هذه اللام الوقتية يليها أسماء الزمان والظروف والذكر مصدر إلا أن يقدر زمان محذوف أي عند وقت ذكري وهذا محتمل والأظهر أنها لام التعليل أي أقم الصلاة لأجل ذكري ويلزم من هذا أن تكون إقامتها عند ذكره وإذا ذكر العبد ربه فذكر الله تعالى سابق على ذكره فإنه لما ذكره ألهمه ذكره فالمعاني الثلاثة حق أهـ { الوابل الصيب صـ 102 } قوله تعالى { إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى } ________________________________________ تأمل قوله تعالى { إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى } كيف قابل الجوع بالعرى والظمأ بالضحى والواقف مع القالب ربما يخيل إليه أن الجوع يقابل بالظمأوالعري بالضحى والداخل إلى بلد المعنى يرى هذا الكلام في اعلى الفصاحة والجلالة لأن الجوع ألم الباطن والعري ألم الظاهر فهما متناسبان في المعني وكذلك الظمأ مع الضحى لأن الظما موجب لحرارة الباطن والضحى موجب لحرارة الظاهر فاقتضت الآية نفي جميع الآفات ظاهرا وباطنا أهـ { بدائع الفوائد حـ3 صـ 330 } قال تعالى ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة اعمى لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه في معاشه ومعاده اخبر عن حال من اعرض عنه ولم يتبعه فقال ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا أي عن الذكر الذي انزلته فالذكر هنا مصدر مضاف الى الفاعل كقيامي وقراءتي لا الى المفعول وليس المعنى ومن اعرض عن ان يذكرني بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر سنذكره واحسن من هذا الوجه ان يقال الذكر هنا مضاف إضافة الاسماء لا إضافة المصادر الى معمولاتها والمعنى ومن اعرض عن كتابي ولم يتبعه فإن القرآن يسمى ذكرا قال تعالى وهذا ذكر مبارك انزلناه وقال تعالى ذلك نتلوه عليك من الايات والذكر الحكيم وقال تعالى وما هو الا ذكر للعالمين وقال تعالى إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وانه لكتاب عزيز وقال تعالى إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن وعلى هذا فاضافته كاضافة الاسماء الجوامد التي لا يقصد بها اضافة العامل الىمعموله ونظيره في اضافة اسم الفاعل غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب فإن هذه الاضافات لم يقصد بها قصد الفعل المتجدد وإنما قصد بها قصد الوصف الثابت اللازم وكذلك جرت اوصافا على اعرف المعارف وهو اسم الله تعالى في قوله تعالى تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو اليه المصير ________________________________________ فصل وقوله تعالى فإن له معيشة ضنكا فسرها غير واحد من السلف بعذاب القبر وجعلوا هذه الاية احد الادلة الدالة على عذاب القبر ولهذا قال ونحشره يوم القيامة اعمى قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك اتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى أي تترك في العذاب كماتركت العمل بآياتنا فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوارونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون النار يعرضون عليها غدوا وعشيا فهذا في البرزخ ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون اشد العذاب فهذا في القيامة الكبرى ونظيره قوله تعالى ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا ايديهم اخرجوا انفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون فقول الملائكة اليوم تجزون عذاب الهون المراد به عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت ونظيره قوله تعالى ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق فهذه الاذاقة هي في البرزخ واولها حين الوفاة فإنه معطوف علىقوله يضربون وجوههم وأدبارهم وهو من القول المحذوف مقوله لدلالة الكلام عليه كنظائره وكلاهما واقع وقت الوفاة وفي الصحيح عن البراء بن عازب رضى الله عنه في قوله تعالى يثبت الله الذين امنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة قال نزلت في عذاب القبر والاحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر والمقصود ان الله سبحانه اخبر ان من اعرض عن ذكره وهو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى فإن له معيشة ضنكا وتكفل لمن حفظ ________________________________________ عهده ان يحييه حياة طيبة ويجزيه اجره في الاخرة فقال تعالى من عمل صالحا من ذكر او انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم باحسن ما كانوا يعملون فاخبر سبحانه عن فلاح ما تمسك بعهده علماوعملا في العاجلة بالحياة الطيبة وفي الاخرة باحسن الجزاء وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ ونسيانه في العذاب بالاخرة وقال سبحانه ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وانهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون انهم مهتدون فأخبر سبحانه ان من ابتلاه بقرينه من الشياطين وضلاله به إنما كان بسبب اعراضه وعشوه عن ذكره الذي انزله على رسوله فكان عقوبة هذا الاعراض ان قيض له شيطانا يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه وهو يحسب انه مهتد حتى إذا وافى ربه يوم القيامة مع قرينه وعاين هلاكه وافلاسه قال يا ليت بيني وبينك بعدالمشرقين فبئس القرين وكل من اعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله فلا بد ان يقول هذا يوم القيامة فإن قيل فهل لهذا عذر في ضلالة إذا كان يحسب انه على هدى كما قال تعالى ويحسبون انهم مهتدون قيل لا عذر لهذا وامثاله من الضلال الذين منشأ ضلالهم الاعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو ظن انه مهتد فإنه مفرط باعراضه عن اتباع داعي الهدى فإذا ضل فإنما اتى من تفريطه واعراضه وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة وعجزه عن الوصول اليها فذاك له حكم آخر والوعيد في القرآن إنما يتناول الاول واما الثاني فإن الله لا يعذب احدا إلا بعد إقامة الحجة عليه كما قال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال تعالى في اهل النار وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين وقال تعالى ان تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين او تقول لو ان الله هداني لكنت من المتقين او تقول حين ترى العذاب لو ان لي ________________________________________ كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين وهذا كثير في القرآن فصل وقوله تعالى ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا اختلف فيه هل هو من عمى البصيرة او من عمى البصر والذين قالوا هو من عمى البصيرة إنما حملهم على ذلك قوله اسمع بهم وابصر يوم ياتوننا وقوله لقدكنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد وقوله يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين وقوله لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية ________________________________________ في الاخرة كقوله تعالى وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقوله يوم يدعون الى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون افسحر هذا ام انتم لا تبصرون وقوله رأى المجرمون النار فظنوا انهم مواقعوها والذين رجحوا انه منعمى البصر قالوا السياق لا يدل الا عليه لقوله قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا وهو لم يكن بصيرا في كفره قط بل قد تبين له حينئذ انه كان في الدنيا في عمى عن الحق فكيف يقول وقد كنت بصيرا وكيف يجاب بقوله كذلك اتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى بل هذا الجواب فيه تنبيه على انه من عمى البصر وانه جوزي من جنس عمله فإنه لما اعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته أعمى الله بصره يوم القيامة وتركه في العذاب كما ترك الذكر في الدنيا فجازاه على عمى بصيرته عمى في الاخرة وعلى تركه ذكره تركه في العذاب وقال تعالى ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم اولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما وقد قيل في هذه الاية ايضا انهم عمي وبكم وصم عن الهدى كما قيل في قوله ونحشره يوم القيامة اعمى قالوا لانهم يتكلمون يومئذ ويسمعون ويبصرون ومن نصرانه العمى والبكم والصمم المضاد للبصر والسمع والنطق قال بعضهم هو عمى وصمم وبكم مقيد لا مطلق فهم عمى عن رؤية ما يسرهم وسماعه ولهذا قد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال لا يرون شيئا يسرهم وقال آخرون هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة يخرجون من الدنيا كذلك فإذا قاموا من قبورهم الى الموقف قاموا كذلك ثم انهم يسمعون ويبصرون فيما بعد وهذامروى عن الحسن وقال آخرون هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها سلبو الاسماع والابصار والنطق حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى اخسئوا فيها ولاتكلمون فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم فيصيرون بأجمعهم عميا بكما صما لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون ولا يسمع منهم الا الزفير ________________________________________ والشهيق وهذا منقول عن مقاتل والذين قالوا المراد به العمى عن الحجة إنما مرادهم انهم لا حجة لهم ولم يريدوا ان لهم حجة هم عمى عنها بل هم عمىعن الهدى كما كانوا في الدنيا فان العبد يموت على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الاخر وانه عمى البصر فإن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عيانا ويقر بما كان يجحده في الدنيا فليس هو اعمى عن الحق يومئذ وفصل الخطاب ان الحشر هو الضم والجمع ويراد به تارة الحشر الىموقف القيامةكقوله النبي صلى الله عليه وسلم انكم محشورون الى الله حفاة عراة غرلا وكقوله تعالى وإذا الوحوش حشرت وكقوله تعالى وحشرناهم فلم نغادر منهم احدا ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر فحشر المتقين جمعهم وضمهم الى الجنة وحشر الكافرين جمعهم وضمهم الى النار قال تعالى يوم نحشر المتقين الى الرحمن وفدا وقال تعالى احشروا الذين ظلموا أزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم الى صراط الجحيم فهذا الحشر هو بعدحشرهم الىالموقف وهو حشرهم وضمهم الى النار لانه قد اخبر عنهم انهم قالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون ثم قال تعالى احشروا الذين ظلموا وازواجهم وهذا الحشر الثاني وعلى هذا فهم ما بين الحشر الاول من القبور الىالموقف والحشر الثاني من الموقف الى النار فعند الحشر الاول يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون وعند الحشر الثاني يحشرون على وجوههم عميا وبكما وصما فلكل موقف حال يليق به ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته فالقرآن يصدق بعضه بعضا ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا أهـ { مفتاح دار السعادة حـ 1 صـ 45 ـ صـ 48 } سورة الأنبياء قوله تعالى { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } ________________________________________ جمع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه ووجود طعم المحبة في المتملق له والإقرار له بصفة الرحمة وإنه أرحم الراحمين والتوسل إليه بصفاته سبحانه وشدة حاجته وهو فقره ومتى وجد المبتلى هذا كشف عنه بلواه وقد جرب أنه من قالها سبع مرات ولا سيما مع هذه المعرفة كشف الله ضره أهـ { الفوائدصـ 321 } قوله تعالى { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} وأصح القولين في قوله تعالى { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} الأنبياء 107 أنه على عمومه وفيه على هذا التقدير وجهان أحدهما أن عموم العالمين حصل لهم النفع برسالته أما أتباعه فنالوا به كرامة الدنيا والآخرة وأما أعداؤه فالمحاربون له عجل قتلهم وموتهم خير لهم من حياتهم لأن حياتهم زيادة لهم في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة وهم قد كتب عليهم الشقاء فتعجيل موتهم خير لهم من طول أعمارهم في الكفر وأما المعاهدون له فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمته وهم أقل شرا بذلك العهد من المحاربين له وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقن دمائهم وأموالهم وأهلهم واحترامها وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوارث وغيره وأما الأمم النائية عنه فإن الله سبحانه رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض فأصاب كل العالمين النفع برسالته الوجه الثاني أنه رحمة لكل أحد لكن المؤمنون قبلوا هذه الرحمة فانتفعوا بها دنيا وأخرى والكفار ردوها فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمة لهم لكن لم يقبلوها كما يقال هذا دواء لهذا المرض فإذا لم يستعمله المريض لم يخرج عن أن يكون دواء لذلك المرض ومما يحمد عليه ما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق وكرائم الشيم فإن من نظر في أخلاقه وشيمه علم إنها خير أخلاق الخلق وأكرم شمائل الخلق فإنه كان أعلم الخلق وأعظمهم أمانة وأصدقهم حديثا وأحلمهم وأجودهم وأسخاهم وأشدهم احتمالا وأعظمهم عفوا ومغفرة وكان لا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما ________________________________________ كما روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال في صفة رسول الله في التوراة محمد عبدي ورسولي سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله وأفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا وأرحم الخلق وأرأفهم بهم وأعظم الخلق نفعا لهم في دينهم ودنياهم وأفصح خلق الله وأحسنهم تعبيرا عن المعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة الدالة على المراد وأصبرهم في مواطن الصبر وأصدقهم في مواطن اللقاء وأوفاهم بالعهد والذمة وأعظمهم مكافأة على الجميل بأضعافه وأشدهم تواضعا واعظمهم إيثارا على نفسه وأشد الخلق ذبا عن أصحابه وحماية لهم ودفاعا عنهم وأقوم الخلق بما يأمر به وأتركهم لما ينهى عنه وأوصل الخلق لرحمه فهو أحق بقول القائل برد على الأدنى ومرحمة ... وعلى الأعادي مارن جلد قال علي رضي الله عنه كان رسول الله أجود الناس صدرا وأصدقهم لهجة وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه يقول ناعته لم أر قبله ولا بعده مثله فقوله كان اجود الناس صدرا أراد به بر الصدر وكثرة خيره وأن الخير يتفجر منه تفجيرا وأنه منطو على كل خلق جميل وكل خير كما قال بعض أهل العلم ليس في الدنيا كلها محل كان أكثر خيرا من صدر رسول الله قد جمع الخير بحذافيره وأودع في صدره وقوله أصدق الناس لهجة هذا مما أقر له به أعداؤه المحاربون له ولم يجرب عليه أحد من أعدائه كذبة واحدة قط دع شهادة أوليائه كلهم له به فقد حاربه أهل الأرض بأنواع المحاربات مشركوهم وأهل الكتاب منهم وليس أحد منهم يوما من الدهر طعن فيه بكذبة واحدة صغيرة ولا كبيرة ________________________________________ قال المسور بن مخرمة قلت لأبي جهل وكان خالي يا خال هل كنتم تتهمون محمدا بالكذب قبل أن يقول مقالته فقال والله يا ابن أختي لقد كان محمد وهو شاب يدعى فينا الأمين فلما وخطه الشيب لم يكن ليكذب قلت يا خال فلم لا تتبعونه فقال يا ابن أختي تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف فأطعموا وأطعمنا وسقوا وسقينا وأجاروا وأجرنا فلما تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي فمتى نأتيهم بهذه أو كما قال وقال تعالى يسليه ويهون عليه قول أعدائه قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين الأنعام 33 34 وقوله ألينهم عريكة يعني سهل لين قريب من الناس مجيب لدعوة من دعاه قاض لحاجة من استقضاه جابر لقلب من قصده لا يحرمه ولا يرده خائبا إذا أراد أصحابه منه أمرا وافقهم عليه وتابعهم فيه وإن عزم على أمر لم يستبد دونهم بل يشاورهم ويؤامرهم وكان يقبل من محسنهم ويعفو عن مسيئهم وقوله أكرمهم عشرة يعني أنه لم يكن يعاشر جليسا له إلا اتم عشرة وأحسنها وأكرمها فكان لا يعبس في وجهه ولا يغلظ له في مقاله ولا يطوي عنه بشره ولا يمسك عليه فلتات لسانه ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة ونحوها بل يحسن إلى عشيره غاية الإحسان ويحتمل غاية الاحتمال فكانت عشرته لهم احتمال أذاهم وجفوتهم جملة لا يعاقب أحدا منهم ولا يلومه ولا يباديه بما يكره من خالطه يقول أنا احب الناس إليه لما يرى من لطفه به وقربه منه وإقباله عليه واهتمامه بأمره وتضحيته له وبذل إحسانه إليه واحتمال جفوته فأي عشرة كانت أو تكون أكرم من هذه العشرة أهـ { جلاء الأفهام صـ 115 ـ صـ 119 } سورة الحج قوله تعالى { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت } ________________________________________ المرضع من لها ولد ترضعه والمرضعة من ألقمت الثدي للرضيع وعلى هذا فقوله تعالى يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت أبلغ من مرضع في هذا المقام فإن المرأة قد تذهل عن الرضيع إذا كان غير مباشر للرضاعة فإذا التقم الثدي واشتغلت برضاعة لم تذهل عنه إلا لأمر أعظم عندها من اشتغالها بالرضاع وتأمل رحمك الله تعالى السر البديع في عدوله سبحانه عن كل حامل إلى قوله ذات حمل فإن الحامل قد تطلق على المهيأة للحمل وعلى من هي في أول حملها ومبادئه فإذا قيل ذات حمل لم يكن إلا لمن ظهر حملها وصلح للوضع كاملا أو سقطا كما يقال ذات ولد فأتي في المرضعة بالتاء التي تحقق فعل الرضاعة دون التهيؤ لها وأتى في الحامل بالسبب الذي يحقق وجود الحمل وقبوله للوضع والله تعالى أعلم أهـ { بدائع الفوائد حـ 4 صـ 21 } ________________________________________ قوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق فتأمل هذا المثل ومطابقته لحال من أشرك بالله وتعلق بغيره ويجوز لك في هذا التشبيه أمران أحدهما أن تجعله تشبيها مركبا ويكون قد شبه من أشرك بالله وعبد معه غيره برجل قد تسبب إلى هلاك نفسه هلاكا لا يرجى معه نجاة فصور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير في الهوى فتمزق مزقا في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة وعلى هذا لا تنظر إلى كل فرد من أفراد المشبه ومقابله من المشبه به والثاني أن يكون من التشبيه المفرق فيقابل كل واحد من أجزاء الممثل بالممثل به وعلى هذا فيكون قد شبه الإيمان والتوحيد في علوه وسعته وشرفه بالسماء التي هي مصعده ومهبطه فمنها هبط إلى الأرض وإليها يصعد منها وشبه تارك الإيمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين من حيث التضييق الشديد والآلام المتراكمة والطير الذي تخطف أعضاءه وتمزقه كل ممزق بالشياطين التي يرسلها الله سبحانه وتعالى عليه وتؤزه أزا وتزعجه وتقلقه إلى مظان هلاكه فكل شيطان له مزعة من دينه وقلبه كما أن لكل طير مزعة من لحمه وأعضائه والريح التي تهوي به في مكان سحيق هو هواه الذي يحمله على إلقاء نفسه في أسفل مكان وأبعده من السماء أهـ { إعلام الموقعين حـ 1 صـ 216 ـ صـ 217 } قوله تعالى { يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز } ________________________________________ حقيق على كل عبد أن يستمع قلبه لهذا المثل ويتدبره حق تدبره فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده وإعدام ما يضره والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق الذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه فكيف ما هو أكبر منه ولا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئا مما عليهم من طيب ونحوه فيستنقذوه منه فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوانات ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه فلا أعجز من هذه الآلهة ولا أضعف منها فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله وهذا المثل من أبلغ ما أنزله الله سبحانه في بطلان الشرك وتجهيل أهله وتقبيح عقولهم والشهادة على أن الشيطان قد تلاعب بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكرة حيث أعطوا الإلهية التي من بعض لوازمها القدرة على جميع المقدورات والإحاطة بجميع المعلومات والغنى عن جميع المخلوقات وأن يصمد إلى الرب في جميع الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وإجابة الدعوات فأعطوها صورا وتماثيل يمتنع عليها القدرة على أقل مخلوقات الآلهة الحق وأذلها وأصغرها وأحقرها ولو اجتمعوا لذلك وتعاونوا عليه ________________________________________ وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء إلا هيتهم أن هذا الخلق الأقل الأذل العاجز الضعيف لو اختطف منهم شيئا واستلبه فاجتمعوا على أن يستنقذوه منه لعجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه ثم سوى بين العابد والمعبود في الضعف والعجز بقوله ضعف الطالب والمطلوب قيل الطالب العابد والمطلوب المعبود فهو عاجز متعلق بعاجز وقيل هو تسوية بين السالب والمسلوب وهو تسوية بين الإله والذباب في الضعف والعجز وعلى هذا فقيل الطالب الإله الباطل والمطلوب الذباب يطلب منه ما استلبه منه وقيل الطالب الذباب والمطلوب الإله فالذباب يطلب منه ما يأخذه مما عليه والصحيح أن اللفظ يتناول الجميع فضعف العابد والمعبود والمستلب والمستلب فمن جعل هذا إلها مع القوي العزيز فما قدره حق قدره ولا عرفه حق معرفته ولا عظمه حق تعظيمه أهـ { إلام الموقعين حـ 1 صـ 217 ـ صـ 218 } سورة المؤمنون قوله تعالى { أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } وقال تعالى { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها } والفردوس اسم يقال على جميع الجنة ويقال على أفضلها وأعلاها كأنه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنات وأصل الفردوس البستان والفراديس البساتين قال كعب هو البستان الذي فيه الاعناب وقال الليث الفردوس جنة ذات كروم يقال كرم مفردس أي معرش وقال الضحاك هي الجنة الملتفة بالأشجار وهو اختيار المبرد وقال الفردوس فيما سمعت من كلام العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب وجمعه الفراديس قال ولهذا سمى باب الفراديس بالشام وانشد لجرير فقلت للركب إذ جد المسير بنا ... يا بعد من باب الفراديس وقال مجاهد هذا البستان بالرومية واختاره الزجاج فقال هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية قال وحقيقتة أنه البستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين قال حسان وأن ثواب الله كل مخلد ... جنان من الفردوس فيها يخلد أهـ { حادى الأرواح صـ 159 ـ 160} ________________________________________ قوله تعالى { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون } المؤمنون91 فتأمل هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز البين فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقا فاعلا يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر فلو كان معه سبحانه إله لكان له خلق وفعل وحينئذ فلا يرضى بشركة الإله الآخر معه بل إن قدر على قهره وتفرده بالإلهية دونه فعل وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب به كما ينفرد ملوك الدنيا عن بعضهم بعضا بممالكهم إذا لم يقدر المنفرد على قهر الآخر والعلو عليه فلا بد من أحد أمور ثلاثة إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه وإما أن يعلو بعضهم على بعض وإما أن يكون كلهم تحت قهر إله واحد وملك واحد يتصرف فيهم ولا يتصرفون فيه ويمتنع من حكمهم عليه ولا يمتنعون من حكمه عليهم فيكون وحده هو الإله الحق وهم العبيد المربوبون المقهورون وانتظام أمر العالم العلوي والسفلي وارتباط بعضه ببعض وجريانه على نظام محكم لا يختلف ولا يفسد من أدل دليل على أن مدبره واحد لا إله غيره كما دل دليل التمانع على أن خالقه واحد لا رب له غيره فذاك تمانع في الفعل والإيجاد وهذا تمانع في العبادة والإلهية فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان يستحيل أن يكون له إلهان معبودان أهـ { الصواعق المرسلة حـ 1 صـ 99 } سورة النور قوله تعالى : { الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم } قال أبي بن كعب : مثل نوره في قلب المسلم ________________________________________ وهذا هو النور الذي أودعه في قلبه من معرفته ومحبته والايمان به وذكره وهو نوره الذي أنزله إليهم فأحياهم به وجعلهم يمشون به بين الناس وأصله في قلوبهم ثم تقوى مادته فتتزايد حتى يظهر على وجوههم وجوارحهم وأبدانهم بل ثيابهم ودورهم يبصره من هو من جنسهم وسائر الخلق له منكر فإذا كان يوم القيامة برز ذلك النور وصار بإيمانهم يسعى بين أيديهم في ظلمة الجسر حتى يقطعوه وهم فيه على حسب قوته وضعفه في قلوبهم في الدنيا فمنهم من نوره كالشمس وآخر كالقمر وآخر كالنجوم وآخر كالسراج وآخر يعطي نورا على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ أخرى إذا كانت هذه حال نوره في الدنيا فأعطى على الجسر بمقدار ذلك بل هو نفس نوره ظهر له عيانا ولما لم يكن للمنافق نور ثابت في الدنيا بل كان نوره ظاهرا لا باطنا أعطى نورا ظاهرا مآله إلى الظلمة والذهاب وضرب الله عز وجل لهذا النور ومحله وحامله ومادته مثلا بالمشكاة وهي الكوة في الحائط فهي مثل الصدر وفي تلك المشكاة زجاجة من أصفى الزجاج وحتى شبهت بالكوكب الدري في بياضه وصفائه وهي مثل القلب وشبه بالزجاجة لأنها جمعت أوصافا هي في قلب المؤمن وهي الصفاء والرقة فيرى الحق والهدى بصفائه وتحصل منه الرأفة والرحمة والشفقة برقته ويجاهد أعداء الله تعالى ويغلظ عليهم ويشتد في الحق ويصلب فيه بصلابته ولا تبطل صفة منه صفة أخرى ولا تعارضها بل تساعدها وتعاضدها { أشداء على الكفار رحماء بينهم } وقال تعالى : { فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } وقال تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } وفي اثر القلوب آنية الله تعالى في أرضه فأحبها إليه وأرقها وأصلبها وأصفاها وبازاء هذا القلب قلبان مذمومان في طرفي نقيض : أحدهما : قلب حجري قاس لا رحمة فيه ولا إحسان ولا بر ولا له صفاء يرى به الحق بل هو جبار جاهل : لا علم له بالحق ولا رحمة للخلق ________________________________________ وبإزائه قلب ضعيف مائي لا قوة فيه ولا استمساك بل يقبل كل صورة وليس له قوة حفظ تلك الصور ولا قوة التأثير في غيره وكل ما خالطه أثر فيه من قوي وضعيف وطيب خبيث وفي الزجاجة مصباح وهو النور الذي في الفتيلة وهي حاملته ولذلك النور مادة وهو زيت قد عصر من زيتونة في أعدل الأماكن تصيبها الشمس أول النهار وآخره فزيتها من أصفى الزيت وأبعده من الكدر حتى إنه ليكاد من صفائه يضيء بلا نار فهذه مادة نور المصباح وكذلك مادة نور المصباح الذي في قلب المؤمن هو من شجرة الوحي التي هي أعظم الأشياء بركة وأبعدها من الانحراف بل هي أوسط الأمور وأعدلها وأفضلها لم تنحرف انحراف النصرانية ولا انحراف اليهودية بل هي وسط بين الطرفين المذمومين في كل شيء فهذه مادة مصباح الإيمان في قلب المؤمن ولما كان ذلك الزيت قد اشتد صفاؤه حتى كاد أن يضيء بنفسه ثم خالط النار فاشتدت بها اضاءته وقويت مادة ضوء النار به كان ذلك نورا على نور وهكذا المؤمن قلبه مضيئ يكاد يعرف الحق بفطرته وعقله ولكن لا مادة له من نفسه فجاءت مادة الوحي فباشرت قلبه وخالطت بشاشته فازداد نورا بالوحي على نوره الذي فطره الله تعالى عليه فاجتمع له نور الوحي إلى نور الفطرة نور على نور فيكاد ينطق بالحق وإن لم يسمع فيه أثر ثم يسمع الأثر مطابقا لما شهدت به فطرته فيكون نورا على نور فهذا شأن المؤمن يدرك الحق بفطرته مجملا ثم يسمع الأثر جاء به مفصلا فينشأ إيمانه عن شهادة الوحي والفطرة ________________________________________ فليتأمل اللبيب هذه الآية العظيمة ومطابقتها لهذه المعاني الشريفة فذكر سبحانه وتعالى نوره في السموات والأرض ونوره في قلوب عباده المؤمنين النور المعقول المشهود بالبصائر والقلوب والنور المحسوس المشهود بالأبصار الذي استنارت به أقطار العالم العلوي والسفلي فهما نوران عظيمان أحدهما أعظم من الآخر وكما أنه إذا فقد أحدهما من مكان أو موضع لم يعش فيه آدمي ولا غيره لأن الحيوان إنما يتكون حيث النور ومواضع الظلمة التي لا يشرق عليها نور لا يعيش فيها حيوان ولا يتكون البته فكذلك أمة فقد فيها نور الوحي والإيمان ميتة وقلب فقد منه هذا النور ميت ولا بد لا حياة له البتة كما لا حياة للحيوان في مكان لا نور فيه أهـ { الوابل الصيب صـ 736 } الله سبحانه وتعالى سمى نفسه نورا وجعل كتابه نورا ورسوله نورا ودينه نورا واحتجب عن خلقه بالنور وجعل دار أوليائه نورا يتلألأ قال الله تعالى الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم يمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم وقد فسر قوله تعالى الله نور السموات والأرض بكونه منور السموات والأرض وهادي أهل السموات والأرض فنوره اهتدى أهل السموات والأرض وهذا إنما هو فعله وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين أضافة صفة إلى موصوفها وإضافة مفعول إلى فاعله فالأول كقوله عز وجل وأشرقت الأرض بنور ربها فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى إذا جاء لفصل القضاء ومنه قول النبي في الدعاء المشهور أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني لا إله إلا أنت ________________________________________ وفي الأثر الآخر أعوذ بوجهك أو بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات فأخبر أن الظلمات أشرقت لنور وجه الله كما أخبر تعالى أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره وفي معجم الطبراني والسنة له وكتاب عثمان الدارمي وغيرها عن ابن مسعود رضي الله عنه قال ليس عند ربكم ليل ولا نهار نور السموات والأرض من نور وجهه وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية من قول من فسرها بأنه هادي أهل السموات والأرض وأما من فسرها بأنه منور السموات والأرض فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود والحق أنه نور السموات والأرض بهذه الاعتبارات كلها وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قام فينا رسول الله بخمس كلمات فقال إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفع اليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلفه وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال سألت رسول الله هل رأيت ربك قال نور أنني أراه فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول معناه كان ثم نور وحال دون رؤيته نور فأنى أراه قال ويدل عليه أن في بعض الألفاظ الصحيحة هل رأيت ربك فقال رأيت نورا وقد اعضل أمر هذا الحديث على كثير من الناس حتى صحفه بعضهم فقال نور أنى أراه على أنها ياء النسب والكلمة كلمة واحدة وهذا خطأ لفظا ومعنى وإنما أوجب لهم هذا الاشكال والخطأ أنهم لما اعتقدوا أن رسول الله رأى ربه وكان قوله أني أراه كالانكار للرؤية حاروا في الحديث ورده بعضهم باضطراب لفظه وكل هذا عدول عن موجب الدليل وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرؤية له اجماع الصحابة على أنه لم ير ربه ليلة المعراج وبعضهم استثنى ابن عباس فيمن قال ذلك ________________________________________ وشيخنا يقول ليس ذلك بخلاف في الحقيقة فإن ابن عباس لم يقل رآه بعيني رأسه وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين حيث قال إنه رآه عز وجل ولم يقل بعيني رأسه ولفظ أحمد لفظ ابن عباس رضي الله عنهما ويدل على صحة ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه قوله في الحديث الآخر حجابه النور فهذا النور هو والله أعلم النور المذكور في حديث أبي ذر رضي الله عنه رأيت نورا فصل في تفسير قوله تعالى مثل نوره وقوله تعالى مثل نوره كمشكاة فيها مصباح هذا مثل لنوره في قلب عبده المؤمن كما قال أبي بن كعب وغيره وقد اختلف في مفسر الضمير في نوره فقيل هو النبي أي مثل نور محمد وقيل مفسره المؤمن أي مثل نور المؤمن والصحيح أنه يعود على الله سبحانه وتعالى والمعنى مثل نور الله سبحانه وتعالى في قلب عبده وأعظم عباده نصيبا من هذا النور رسوله فهذا مع ما تضمنه عود الضمير المذكور وهو وجه الكلام يتضمن التقادير الثلاثة وهو أتم لفظا ومعنى وهذا النور يضاف إلى الله تعالى إذ هو معطيه لعبده وواهبه إياه ويضاف إلى العبد إذ هو محله وقابله فيضاف إلى الفاعل والقابل ولهذا النور فاعل وقابل ومحل وحال ومادة وقد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل فالفاعل هو الله تعالى مفيض الأنوار الهادي لنوره من يشاء والقابل العبد المؤمن والمحل قلبه والحال همته وعزيمته وارادته والمادة قوله وعمله وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن بما أناله من نوره ما تقر به عيون أهله وتبتهج به قلوبهم وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان ________________________________________ أحدهما طريقة التشبيه المركب وهي أقرب مأخذا وأسلم من التكلف وهي أن تشبه الجملة برمتها بنور المؤمن من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه ومقابلته بجزء من المشبه به وعلى هذا عامة أمثال القرآن فتأمل صفة المشكاة وهي كوة تنفذ لتكون أجمع للضوء قد وضع فيها المصباح وذلك المصباح داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في صفائها وحسنها ومادتة من أصفى الأدهان وأتمها وقودا من زيت شجرة في وسط القراح لا شرقية ولا غربية بحيث تصيبها الشمس في أحدى طرفي النهار بل هي في وسط القراح محمية بأطرافه تصيبها الشمس أعدل إصابة والآفات إلى الأطراف دونها فمن شدة إضاءة زيتها وصفائها وحسنها يكاد يضيء من غير أن تمسه نار فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تعالى الذي وضعه في قلب عبده المؤمن وخصه به والطريقة الثانية طريقة التشبيه المفصل فقيل المشكاة صدر المؤمن والزجاجة قلبه شبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها وكذلك قلب المؤمن فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة فهو يرحم ويحسن ويتحنن ويشفق على الخلق برقته وبصفائه تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه ويباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء وبصلابته يشتد في أمر الله تعالى ويتصلب في ذات الله تعالى ويغلظ على أعداء الله تعالى ويقوم بالحق لله تعالى وقد جعل الله تعالى القلوب كالآنية كما قال بعض السلف القلوب آنية الله في أرضه فأحبها اليه أرقها وأصلبها وأصفاها والمصباح ________________________________________ هو نور الإيمان في قلبه والشجرة المباركة هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى ودين الحق وهي مادة المصباح التي يتقد منها والنور على النور نور الفطرة الصحيحة والادراك الصحيح ونور الوحي والكتاب فينضاف أحد النورين إلى الآخر فيزداد العبد نورا على نور ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة قبل أن يسمع ما فيه بالأثر ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به فيتفق عنده شاهد العقل والشرع والفطرة والوحي فيريه عقله وفطرته وذوقه الذي جاء به الرسول هو الحق لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة بل يتصادقان ويتوافقان فهذا علامة النور على النور عكس من تلاطمت في قلبه أمواج الشبه الباطلة والخيالات الفاسدة من الظنون الجهليات التي يسميها أهلها القواطع العقليات فهي في صدره كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور فانظر كيف تضمنت هذه الآيات طرائق بني آدم أتم انتظام واشتملت عليه أكمل اشتمال فإن الناس قسمان أهل الهدى والبصائر الذين عرفوا أن الحق فيما جاء به الرسول عن الله سبحانه وتعالى وأن كل ما عارضه فشبهات يشتبه على من قل نصيبه من العقل والسمع أمرها فيظنها شيئا له حاصل ينتفع به وهي كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ________________________________________ وهؤلاء هم أهل الهدى ودين الحق أصحاب العلم النافع والعمل الصالح الذين صدقوا الرسول في أخباره ولم يعارضوها بالشبهات وأطاعوه في أوامره ولم يضيعوها بالشهوات فلا هم في علمهم من أهل الخوض الخراصين الذين هم في غمرة ساهون ولا هم في عملهم من المستمتعين بخلاقهم الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون أضاء لهم نور الوحي المبين فرأوا في نوره أهل الظلمات في ظلمات آرائهم يعمهون وفي ضلالتهم يتهوكون وفي ريبهم يترددون مغترين بظاهر السراب ممحلين مجدبين مما بعث الله تعالى به رسوله من الحكمة وفصل الخطاب إن عندهم إلا نخالة الأفكار وزبالة الأذهان التي قد رضوا بها واطمأنوا اليها وقدموها على السنة والقرآن إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه أوجبه لهم اتباع الهوى ونخوة الشيطان وهم لأجله يجادلون في آيات الله بغير سلطان أهـ { اجتماع الجيوش الإسلاميةصـ 6 ـ صـ 12 } قوله تعالى والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ________________________________________ ذكر سبحانه للكافرين مثلين مثلا بالسراب ومثلا بالظلمات المتراكمة وذلك لأن المعرضين عن الهدى والحق نوعان أحدهما من يظن انه على شيء فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه وهذه حال أهل الجهل وأهل البدع والأهواء الذين يظنون أنهم على هدى وعلم فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب بقيعة يرى في عين الناظر ماء ولا حقيقة له وهكذا الأعمال التي لغير الله وعلى غير أمره يحسبها العامل نافعة له وليست كذلك وهذه هي الأعمال التي قال الله عز وجل فيها وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا وتأمل جعل الله سبحانه السراب بالقيعة وهي الأرض القفر الخالية من البناء والشجر والنبات والعالم فمحل السراب أرض قفر لا شيء بها والسراب لا حقيقة له وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى وتأمل ما تحت قوله يحسبه الظمآن والظمآن الذي قد اشتد عطشه فرأى السراب فظنه ماء فتبعه فلم يجده شيئا بل خانه أحوج ما كان إليه فكذلك هؤلاء لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول ولغير الله جعلت كالسراب فرفعت لهم أظمأ ما كانوا وأحوج ما كانوا إليها فلم يجدوا شيئا ووجدوا الله سبحانه ثم فجازاهم بأعمالهم ووفاهم حسابهم ________________________________________ وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي ص - في حديث التجلي يوم القيامة ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها السراب فيقال لليهود ما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد عزير ابن الله فيقال كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد فما تريدون قالوا نريد أن تسقينا فيقال اشربوا فيتساقطون في جهنم ثم يقال للنصارى ما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد فما تريدون فيقولون نريد أن تسقينا فيقال لهم اشربوا فيتساقطون وذكر الحديث وهذه حال كل صاحب باطل فإنه يخونه باطله أحوج ما كان إليه فإن الباطل لا حقيقة له وهو كاسمه باطل فإذا كان الاعتقاد غير مطابق ولا حق كان متعلقه باطلا وكذلك إذا كانت غاية العمل باطلة كالعمل لغير الله أو على غير أمره بطل العمل ببطلان غايته وتضرر عامله ببطلانه وبحصول ضد ما كان يؤمله فلم يذهب عليه عمله واعتقاده لا له ولا عليه بل صار معذبا بفوات نفعه وبحصول ضد النفع فلهذا قال تعالى ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى فصل ________________________________________ النوع الثاني أصحاب مثل الظلمات المتراكمة وهم الذين عرفوا الحق والهدى وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال فتراكمت عليهم ظلمة الطبع وظلمة النفوس وظلمة الجهل حيث لم يعملوا بعلمهم فصاروا جاهلين وظلمة اتباع الغنى والهوى فحالهم كحال من كان في بحر لجي لا ساحل له وقد غشيه موج ومن فوق ذلك الموج موج ومن فوقه سحاب مظلم فهو في ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة السحاب وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه الله منها إلى نور الإيمان وهذان المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة وهو الماء والظلمات المضادة للنور نظير المثلين الذين ضربهما الله للمنافقين والمؤمنين وهو المثل المائي والمثل الناري وجعل حظ المؤمنين منهما الحياة والإشراق وحظ المنافقين منهما الظلمة المضادة للنور والموت المضاد للحياة فكذلك الكفار في هذين المثلين حظهم من الماء السراب الذي يغر الناظر ولا حقيقة له وحظهم الظلمات المتراكمة وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار وأنهم عدموا مادة الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي فيكون المثلان صفتين لموصوف واحد ويجوز أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار وأن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا على غير علم ولا بصيرة بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا وأصحاب المثل الثاني هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى وآثروا الباطل على الحق وعموا عنه بعد أن أبصروه وجحدوه بعد أن عرفوه فهذا حال المغضوب عليهم والأول حال الضالين وحال الطائفتين مخالف لحال المنعم عليهم المذكورين في قوله تعالى الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح إلى قوله ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة المنعم عليهم وهم أهل النور والضالين هم أصحاب السراب والمغضوب عليهم وهم أهل الظلمات المتراكمة والله أعلم ________________________________________ فالمثل الأول من المثلين لأصحاب العمل الباطل الذي لا ينفع والمثل الثاني لأصحاب العلم الذي لا ينفع والاعتقادات الباطلة وكلاهما مضاد للهدى ودين الحق ولهذا مثل حال الفريق الثاني في تلاطم أمواج الشكوك والشبهات والعلوم الفاسدة في قلوبهم بتلاطم أمواج البحر فيه وأنها أمواج متراكمة من فوقها سحاب مظلم وهكذا أمواج الشكوك والشبه في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سحب الغي والهوى والباطل فليتدبر اللبيب أحوال الفريقين وليطابق بينهما وبين المثلين يعرف عظمة القرآن وجلالته وأنه تنزيل من حكيم حميد وأخبر سبحانه أن الموجب لذلك أنه لم يجعل لهم نورا بل تركهم في على الظلمة التي خلقوا فيها فلم يخرجهم منها إلى النور فإنه سبحانه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور وفي المسند من حديث عبد الله بن عمر أن النبي ص - قال إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله فالله سبحانه خلق الخلق في ظلمة فمن أراد هدايته جعل له نورا وجوديا يحي به قلبه وروحه كما يحي بدنه بالروح التي ينفخها فيه فهما حياتان حياة البدن بالروح وحياة الروح والقلب بالنور ولهذا سمى سبحانه الوحي روحا لتوقف الحياة الحقيقية عليه كما قال تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده وقال يلفني الروح من أمره على من يشاء من عباده وقال تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا فجعل وحيه روحا ونورا فمن لم يحيه بهذا الروح فهو ميت ومن لم يجعل له نورا منه فهو في الظلمات ما له من نور أهـ { إعلام الموقعين حـ 1 صـ 185 ـ 189 } ________________________________________ سورة الفرقان قوله تعالى { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } فشبه أكثر الناس بالأنعام والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والانقياد له وجعل الأكثرين أضل سبيلا من الأنعام لأن البهيمة يهديها سائقها فتهتدي وتتبع الطريق فلا تحيد عنها يمينا ولا شمالا والأكثرون يدعوهم الرسل ويهدونهم السبيل فلا يستجيبون ولا يهتدون ولا يفرقون بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم والأنعام تفرق بين ما يضرها من النبات والطريق فتتجنبه وما ينفعها فتؤثره والله تعالى لم يخلق للأنعام قلوبا تعقل بها ولا ألسنة تنطق بها وأعطى ذلك لهؤلاء ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار فهم أضل من البهائم فإن من لا يهتدي إلى الرشد وإلى الطريق مع الدليل إليه أضل وأسوأ حالا ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه أهـ { إعلام الموقعين حـ 1 صـ 189 ـ صـ 190 } قوله تعالى { ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا } فأخبر تعالى أنه بسط الظل ومده وأنه جعله متحركا تبعا لحركة الشمس ولو شاء لجعله ساكنا لا يتحرك إما بسكون المظهر له والدليل عليه وإما بسبب آخر ثم أخبر أنه قبضه بعد بسطه قبضا يسيرا وهو شيء بعد شيء لم يقبضه جملة فهذا من أعظم آياته الدالة على عظيم قدرته وكمال حكمته فندب الرب سبحانه عباده إلى رؤية صنعته وقدرته وحكمته في هذا الفرد من مخلوقاته ولو شاء لجعله لاصقا بأصل ما هو ظل له من جبل وبناء وشجر وغيره فلم ينتفع به أحد ________________________________________ فإن كان الانتفاع به تابعا لمده وبسطه وتحوله من مكان إلى مكان ففي مده وبسطه ثم قبضه شيئا فشيئا من المصالح والمنافع مالا يخفى ولا يحصى فلو كان ساكنا دائما أو قبض دفعة واحدة لتعطلت مرافق العالم ومصالحه به وبالشمس فمد الظل وقبضه شيئا فشيئا لازم لحركة الشمس على ما قدرت عليه من مصالح العالم وفي دلالة الشمس على الظلال ما تعرف به أوقات الصلوات وما مضى من اليوم وما بقي منه وفي تحركه وانتقاله ما يبرد به ما أصابه من حر الشمس وينفع الحيوانات والشجر والنبات فهو من آيات الله الدالة عليه وفي الآية وجه آخر وهو أنه سبحانه مد الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة ودحى الأرض تحتها فألقت القبة ظلها عليها فلو شاء سبحانه لجعله ساكنا مستقرا في تلك الحال ثم خلق الشمس ونصبها دليلا على ذلك الظل فهو يتبعها في حركتها يزيد بها وينقص ويمتد ويتقلص فهو تابع لها تبعية المدلول لدليله وفيها وجه آخر وهو أن يكون المراد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تلقي الظلال فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه وقوله تعالى قبضناه إلينا كأنه يشعر بذلك وقوله قبضا يسيرا يشبه قوله ذلك حشر علينا يسير وقوله قبضناه بصيغة الماضي لا ينافي ذلك كقوله أتى أمر الله والوجه في الآية هو الأول وهذان الوجهان إن أراد من ذكرهما دلالة الآية عليهما إشارة وإيماء فقريب وإن أراد أن ذلك هو المراد من لفظها فبعيد لأنه سبحانه جعل ذلك آية ودلالة عليه للناظر فيه كما في سائر آياته التي يدعو عباده إلى النظر فيها فلا بد أن يكون ذلك أمرا مشهودا تقوم به الدلالة وتحصل به التبصرة ________________________________________ وأبعد من هذا ما تعلق به صاحب المنازل في باب القبض بقبض الظل كما أشار إليه في خطبة كتابه حيث يقول الذي مد ظل التكوين على الخليقة مدا طويلا ثم جعل شمس التمكين لصفوته عليه دليلا ثم قبض ظل التفرقة عنهم إليه قبضا يسيرا فاستعار للتكوين لفظ الظل إعلاما بأن المكونات بمنزلة الظلال في عدم استقلالها بأنفسها إذ لا يتحرك الظل إلا بحركة صاحبه وقوله مدا طويلا إشارة إلى أنه سبحانه لا يزال يخلق شيئا بعد شيء خلقا لا يتناهى لسعة قدرته ووجوب أبديته ثم إن حقيقة الظل هي عدم الشمس في بقعة ماء لسائر سترها فإنما تتعين تلك الحقيقة بالشمس فكذلك المكون إنما تتعين حقيقته بالمكون له سبحانه وتعالى وشمس التمكين هي التوحيد الجامع لقلوب صفوته عن التفرق في شعاب ظل التكوين ثم قبض ظل التفرقة عنهم إليه قبضا يسيرا أي أخذ ظل التفرقة عنهم أخذا سهلا فالشيخ أحال باستشهاده بالآية في الباب المذكور على ما تقدم له في الخطبة ووجه الإشارة بالآية يعلم من قوله ثم قبضناه إلينا والقبض في هذا الباب لم يرد به قبض الإضافة ولهذا قال الشيخ القبض في هذا الباب أسم يشار به إلى مقام الضنائن الذين ادخرهم الحق اصطناعا لنفسه فالقبض نوعان قبض في الأحوال وقبض في الحقائق فالقبض في الأحوال أمر يطرق القلب يمنعه عن الانبساط والفرح وهو نوعان أيضا أحدهما ما يعرف سببه مثل تذكر ذنب أو تفريط أو بعد أو جفوة أو حدوث ما هو نحو ذلك والثاني مالا يعرف سببه بل يهجم على القلب هجوما لا يقدر على التخلص منه وهذا هو القبض المشار إليه على ألسنة القوم وضده البسط فالقبض والبسط عندهم حالتان للقلب لا يكاد ينفك عنهما وقال أبو القاسم الجنيد في معنى القبض والبسط معنى الخوف والرجاء فالرجاء يبسط إلى الطاعة والخوف يقبض عن المعصية ________________________________________ فكلهم تكلم في القبض والبسط على هذا المنهج حتى جعلوه أقساما قبض تأديب وقبض تهذيب وقبض جمع وقبض تفريق ولهذا يمتنع صاحبه إذا تمكن منه من الأكل والشرب والكلام وفعل الأوراد والانبساط إلى الأهل وغيرهم فقبض التأديب يكون عقوبة على غفلة أو خاطر سوء أو فكرة رديئة وقبض التهذيب يكون إعدادا لبسط عظيم شأنه يأتي بعده فيكون القبض قبله كالتنبيه عليه والمقدمة له كما كان الغت والغط مقدمة بين يدي الوحي وإعدادا لوروده وهكذا الشدة مقدمة بين يدي الفرج والبلاء مقدمة بين يدي العافية والخوف الشديد مقدمة بين يدي الأمن وقد جرت سنة الله سبحانه أن هذه الأمور النافعة المحبوبة إنما يدخل إليها من أبواب أضدادها وأما قبض الجمع فهو ما يحصل للقلب حال جمعيته على الله من انقباضه عن العلم وما فيه فلا يبقى فيه فضل ولا سعة لغير من اجتمع قلبه عليه وفي هذه الحال من أراد من صاحبه ما يعهده منه من المؤانسة والمذاكرة فقد ظلمه وأما قبض التفرقة فهو القبض الذي يحصل من تفرق قلبه عن الله وتشتته عنه في الشعاب والأودية فأقل عقوبته ما يجده من القبض الذي يتمنى معه الموت وأما القبض الذي أشار إليه صاحب المنازل فهو شيء وراء هذا كله فإنه جعله من قسم الحقائق وذلك القبض الذي تقدم ذكره من قسم البدايات ولهذا قال القبض في هذا الباب اسم يشار به إلى مقام الضنائن ومن هنا حسن استشهاده بإشارة الآية لأنه تعالى أخبر عن قبض الظل إليه والقبض في هذا الباب يتضمن قبض القلب عن غيره إليه وجمعيته بعد التفرقة عليه والضنائن جمع ضنينة وهي الخاصة يضن بها صاحبها أي يبخل ببذلها ويصطفيها لنفسه ولهذا قال الذين ادخرهم الحق اصطناعا لنفسه أهـ { مدارج السالكين حـ 3 صـ 293 ـ صـ 296 } ________________________________________ قوله تعالى { وكان الكافر على ربه ظهيرا } هذا من ألطف خطاب القرآن وأشرف معانيه وان المؤمن دائما مع الله علي نفسه وهواه وشيطانه وعدو ربه وهذا معنى كونه من حزب الله وجنده وأوليائه فهو مع الله علي عدوه الداخل فيه والخارج عنه يحاربهم ويعاديهم ويغضبهم له سبحانه كما يكون خواص الملك معه علي حرب اعدائه والبعيدون منه فارغوالكافر مع شيطانه ونفسه وهواه علي ربه وعبارات السلف علي هذه تدور ذكر بن أبي حاتم عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال عونا للشيطان علي ربه بالعداوة والشرك وقال ليث عن مجاهد قال يظاهر الشيطان علي معصية الله يعينه عليها وقال زيد بن أسلم ظهيرا أي مواليا والمعني أنه يوالي عدوه علي معصيته والشرك به فيكون مع عدوه معينا له علي مساخط ربه فالمعية الخاصة لتي للمؤمن مع ربه وإله قد صارت لهذا الكافر والفاجر مع الشيطان ومع نفسه وهواه وقربانه ولهذا صدر الآية بقوله ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وهذه العبادة هي الموالاة والمحبة والرضا بمعبوديهم المتضمنة لمعيتهم الخاصة فظاهروا أعداء الله على معاداته ومخالفته ومساخطه بخلاف وليه سبحانه فانه معه علي نفسه وشيطانه وهواه وهذا المعنى من كنوز القرآن لمن فهمه وعقله وبالله التوفيق ________________________________________ قوله تعالى والذين اذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا قال مقاتل اذا وعظوا بالقرآن لم يقعوا عليه صما لم يسمعوه وعميانا لم يبصروه ولكنهم سمعوا وأبصروا وأيقنوا به وقال ابن عباس لم يكونوا عليها صما وعميانا بل كانوا خائفين خاشعين وقال الكلبي يخرون عليها سمعا وبصرا وقال الفراء اذا تلي عليهم القرآن لم يقعدوا على حالهم الأولي كأنهم لم يسمعوه فذلك الخرور وسمعت العرب تقول قعد يشتمنى كقولك قام يشتمنى واقبل يشتمنى والمعني على ما ذكر لم يصيروا عندها صما وعميانا وقال الزجاج المعني اذا تليت عليهم خروا سجدا وبكيا سامعين مبصرين كما أمروا به وقال ابن قتيبة أي لم يتغافلوا عنها كانهم صم لم يسمعوها وعمى لم يروها قلت ههنا أمران ذكر الخرور وتسليط النفي عليه وهل هو خرور القلب أو خرور البدن للسجود وهل لمعنى لم كن خرورهم عن صمم وعمه فلهم عليها خرورا بالقلب خضوعا أو بالبدن سجودا أو ليس هناك خرور وعبر به عن القعود أصول المعاصي كلها كبارها وصغارها ثلاثة تعلق القلب بغير الله وطاعة القوة الغضبية والقوة الشهوانية وهي الشرك والظلم والفواحش فغاية التعلق بغير الله شرك وان يدعى معه اله آخر وغاية طاعة القوة الغضبية القتل وغاية القوة الشهوانية الزنا ولهذا جمع الله سبحانه بين الثلاثة في قوله والذين لا يدعون مع الله الها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق ولا يزنون وهذه الثلاثة يدعو بعضها الى بعض فالشرك يدعو الى الظلم والفواحش كما ان الاخلاص والتوحيد يصرفهما عن صاحبه قال تعالى ________________________________________ كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين فالسوء العشق والفحشاء الزنا وكذلك الظلم يدعو الى الشرك والفاحشة فان الشرك اظلم لظلم كما أن أعدل العدل التوحيد فالعدل قرين التوحيد والظلم قرين الشرك ولهذا يجمع سبحانه بينهما أما الاول ففي قوله شهد اللهأنه لا اله الا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط وأما الثاني فكقوله تعالى ان الشرك لظلم عظيم والفاحشة تدعو الى الشرك والظلم ولا سيما اذا قويت ارادتها ولم تحصل الا بنوع من الظلم بالظلم والاستعانة بالسحر والشيطان وقد جمع سبحانه بين الزنا والشرك في قوله الزاني لا ينكح الا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها الا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين فهذه الثلاثة يجر بعضها الى بعض ويامر بعضها ببعض ولهذا كلما كان القلب أضعف توحيدا وأعظم شركا كان أكثر فاحشة واعظم تعلقا بالصور وعشقا لها ونظير هذا قوله تعالى وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش واذا ما غضبوا هم يغفرون فاخبر أن ما عنده خير لمن آمن به وتوكل عليه وهذا هو التوحيد ثم قال والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش فهذا اجتناب داعي القوة الشهوانية ثم قال واذا ما غضبوا هم يغفرون فهذا مخالفة القوة الغضبية فجمع بين التوحيد والعفة والعدل التي هي جماع الخير كله أهـ {الفوائد صـ 79 ـ 83 } سورة الشعراء قوله تعالى { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } [ الشعراء : 88 ] والسليم هو السالم وجاء على هذا المثال لأنه للصفات كالطويل والقصير والظريف فالسليم القلب الذي قد صارت السلامة صفة ثابتة له كالعليم والقدير وأيضا فإنه ضد المريض والسقيم والعليل ________________________________________ وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم والأمر الجامع لذلك : أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه ومن كل شبهة تعارض خبره فسلم من عبودية ما سواه وسلم من تحكيم غير رسوله فسلم في محبة الله مع تحكيمه لرسوله في خوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والذل له وإيثار مرضاته في كل حال والتباعد من سخطه بكل طريق وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله وحده قالقلب السليم : هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما بل قد خلصت عبوديته لله تعالى : إرادة ومحبة وتوكلا وإنابة وإخباتا وخشية ورجاء وخلص عمله لله فإن أحب أحب في الله وإن أبغض أبغض في الله وإن أعطى أعطى لله وإن منع منع لله ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسولهصلى الله عليه وسلم فيعقد قلبه معه عقدا محكما على الائتمام والاقتداء به وحده دون كل أحد في الأقوال والأعمال من أقوال القلب وهي العقائد وأقوال اللسان وهي الخبر عما في القلب وأعمال القلب وهي الإرادة والمحبة والكراهة وتوابعها وأعمال الجوارح فيكون الحاكم عليه في ذلك كله دقعه وجله هو ما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل كما قال تعالى : يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله [ الحجرات : 1 ] أي لا تقولوا حتى يقول ولا تفعلوا حتى يأمر قال بعض السلف : ما من فعلة وإن صغرت إلا ينشر لها ديوانان : لم وكيف أى لم فعلت وكيف فعلت فالأول سؤال عن علة الفعل وباعثه وداعيه : هل هو حظ عاجل من حظوظ العامل وغرض من أغراض الدنيا في محبة المدح من الناس أو خوف ذمهم أو استجلاب محبوب عاجل أو دفع مكروه عاجل أم الباعث على الفعل القيام بحق العبودية وطلب التودد والتقرب إلى الرب سبحانه وتعالى وابتغاء الوسيلة إليه ومحل هذا السؤال : أنه هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك أم فعلته لحظك وهواك ________________________________________ والثاني : سؤال عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك التعبد أي هل كان ذلك العمل مما شرعته لك على لسان رسولي أم كان عملا لم أشرعه ولم أرضه فالأول سؤال عن الإخلاص والثاني عن المتابعة فإن الله سبحانه لا يقبل عملا إلا بهما فطريق التخلص من السؤال الأول : بتجريد الإخلاص وطريق التخلص من السؤال الثاني : بتحقيق المتابعة وسلامة القلب من إرادة تعارض الإخلاص وهوى يعارض الاتباع فهذا حقيقة سلامة القلب الذي ضمنت له النجاة والسعادة أهـ { إغاثة اللهفان حـ 1 صـ 7 ـ 8 } قوله تعالى { تالله أن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين } وهذه التسوية إنما كانت في الحب والتأله لا في الخلق والقدرة والربوبية وهي العدل الذي أخبر به عن الكفار بقوله والحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون وأصح القولين أن المعنى ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فيجعلون له عدلا يحبونه ويعبدونه ويعبدونه كما يحبون الله ويعبدونه ويعظمون أمره أهـ { مفتاح دار السعادة حـ2 صـ 132 } ________________________________________ وهذه التسوية لم تكن منهم في الأفعال والصفات بحيث اعتقدوا أنها مساوية لله سبحانه في أفعاله وصفاته وإنما كانت تسوية منهم بين الله وبينها في المحبة والعبودية مع إقرارهم بالفرق بين الله وبينها فتصحيح هذه هو تصحيح شهادة أن لا إله إلا الله فحقيق لمن نصح نفسه وأحب سعادتها ونجاتها أن يتيقظ لهذه المسألة علما وعملا وحالا وتكون أهم الأشياء عنده وأجل علومه وأعماله فإن الشأن كله فيها والمدار عليها والسؤال يوم القيامة عنها قال تعالى فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون قال غير واحد من السلف هو عن قول لا إله إلا الله وهذا حق فإن السؤال كله عنها وعن أحكامها وحقوقها وواجباتها ولوازمها فلا يسأل أحد قط إلا عنها وعن واجباتها ولوازمها وحقوقها قال أبو العالية كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون ماذا كنتم تعبدون ماذا أجبتم المرسلين فالسؤال عماذا كانوا يعبدون هو السؤال عنها نفسها والسؤال عماذا أجابوا المرسلين سؤال عن الوسيلة والطريق المؤدية إليها هل سلكوها وأجابوا لما دعوهم إليها فعاد الأمر كله إليها وأمر هذا شأنه حقيق بأن تنعقد عليه الخناصر ويعض عليه بالنواجذ ويقبض فيه على الجمر ولا يؤخذ بأطراف الأنامل ولا بطلب على فضله بل يجعل هو المطلب الأعظم وما سواه إنما يطلب على الفضلة والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه أهـ { طريق الهجرتين صـ 383 ـ 384 } سورة النمل قوله تعالى { قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى } وأما السؤال السابع عشر وهو أن قوله قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى النمل 59 هل السلام من الله تعالى فيكون المأمور به الحمد والوقف التام عليه أو هو داخل في القول والأمر بهما جميعا فالجواب عنه أن الكلام يحتمل الأمرين ويشهد لكل منهما ضرب من الترجيح فيرجح كونه داخلا في جملة القول بأمور ________________________________________ منها اتصاله به وعطفه عليه من غير فاصل وهذا يقتضي أن يكون فعل القول واقعا على كل واحد منهما هذا هو الأصل ما لم يمنع منه مانع ولهذا إذا قلت الحمد لله وسبحان الله فإن التسبيح هنا داخل في المقول ومنها أنه إذا كان معطوفا على المقول كان عطف خبر على خبر وهو الأصل ولو كان منقطعا عنه كان عطفا على جملة الطلب وليس بالحسن عطف الخبر على الطلب ومنها أن قوله قل الحمد وسلام على عباده الذين اصطفى ظاهر في أن المسلم هو القائل الحمد لله ولهذا أتى بالضمير بلفظ الغيبة ولم يقل سلام على عبادي ويشهد لكون السلام من الله تعالى أمور أحدها مطابقته لنظائره في القرآن من سلامه تعالى بنفسه على عباده الذين اصطفى كقوله سلام على نوح في العالمين سلام على إبراهيم سلام على موسى وهارون سلام على آل ياسين ومنها أن عباده الذين اصطفى هم المرسلون والله سبحانه يقرن بين تسبيحه لنفسه وسلامه عليهم وبين حمده لنفسه وسلامه عليهم أما الأول فقال تعالى سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين الصافات 181 182 وقد ذكر تنزيهه لنفسه عما لا يليق بجلاله ثم سلامه على رسله ________________________________________ وفي اقتران السلام عليهم بتسبيحه لنفسه سر عظيم من أسرار القرآن يتضمن الرد على كل مبطل ومبتدع فإنه نزه نفسه تنزيها مطلقا كما نزه نفسه عما يقول خلقه فيه ثم سلم على المرسلين وهذا يقتضي سلامتهم من كل ما يقول المكذبون لهم المخالفون لهم وإذا سلموا من كل ما رماهم به أعداؤهم لزم سلامة كل ما جاءوا به من الكذب والفساد وأعظم ما جاءوا به التوحيد ومعرفة الله ووصفه بما يليق بجلاله مما وصف به نفسه على ألسنتهم وإذا سلم ذلك من الكذب والمحال والفساد فهو الحق المحض وما خالفه هو الباطل والكذب المحال وهذا المعنى بعينه في قوله قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى فإنه يتضمن حمده بما له من نعوت الكمال وأوصاف الجلال والأفعال الحميدة والأسماء الحسنى وسلامة رسله من كل عيب ونقص وكذب وذلك يتضمن سلامة ما جاءوا به من كل باطل فتأمل هذا السر في اقتران السلام على رسله بحمده وتسبيحه فهذا يشهد لكون السلام هنا من الله تعالى كما هو في آخر الصافات وأما عطف الخبر على الطلب فما أكثره فمنه قوله تعالى قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان الأنبياء 112 وقوله وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين المؤمنون 118 وقوله ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين الأعراف 89 ونظائره كثيرة جدا وفصل الخطاب في ذلك أن يقال الآية تتضمن الأمرين جميعا وتنتظمهما انتظاما واحدا فإن الرسول هو المبلغ عن الله كلامه وليس فيه إلا البلاغ والكلام كلام الرب تبارك وتعالى فهو الذي حمد نفسه وسلم على عباده وأمر رسوله بتبليغ ذلك فإذا قال الرسول الحمد لله وسلام على عباده الذي اصطفى كان قد حمد الله وسلم على عباده بما حمد به نفسه وسلم به هو على عباده فهو سلام من الله ابتداء ومن المبلغ بلاغا ومن العباد اقتداء وطاعة فنحن نقول كما أمرنا ربنا تبارك وتعالى الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ________________________________________ ونظير هذا قوله تعالى قل هو الله أحد الإخلاص 1 فهو توحيد منه لنفسه وأمر للمخاطب بتوحيده فإذا قال العبد قل هو الله أحد كان قد وحد الله بما وحد به نفسه وأتى بلفظة قل تحقيقا لهذا المعنى وأنه مبلغ محض قائل لما أمر بقوله والله أعلم وهذا بخلاف قوله قل أعوذ برب الفلق الفلق 1 و قل أعوذ برب الناس الناس 1 فإن هذا أمر محض بإنشاء الإستعاذة لا تبليغ لقوله أعوذ برب الناس فإن الله لا يستعيذ من أحد وذلك عليه محال بخلاف قوله قل هو الله أحد فإنه خبر عن توحيده وهو سبحانه يخبر عن نفسه بأنه الواحد الأحد فتأمل هذه النكتة البديعة والله المستعان أهـ { بدائع الفوائد حـ 2 صـ 170 ـ 172 } ________________________________________ وكلمة السلام هنا تحتمل أن تكون داخلة في حيز القول فتكون معطوفة على الجملة الخبرية وهي الحمد لله ويكون الأمر بالقول متناولا للجملتين معا وعلى هذا فيكون الوقف على الجملة الأخيرة ويكون محلها النصب محكيه بالقول ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة مستقلة معطوفة على جملة الطلب وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب وهذا التقدير أرجح وعليه يكون السلام من الله عليهم وهو المطابق لما تقدم من سلامه سبحانه وتعالى على رسله عليهم السلام وعلى التقدير الأول يكون أمر بالسلام عليهم ولكن يقال على هذا كيف يعطف الخبر على الطلب مع تنافر ما بينهما فلا يحسن أن يقال قم وذهب زيد ولا أخرج وقعد عمرو أو يجاب على هذا بأن جملة الطلب قد حكيت بجملة خبرية ومع هذا لا يمتنع العطف فيه بالخبر على الجملة الطلبية لعدم تنافر الكلام فيه وتباينه وهذا نظير قوله تعالى قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون فقوله تعالى وما تغني الآيات ليس معطوفا علىالقول وهو نظروا بل معطوف على الجملة الكبرى على أن عطف الخبر على الطلب كثير كقوله تعالى قل رب احكم بالحق وربنبا الرحمن المستعان على ما تصفون وقوله تعالى وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين والمقصود أنه على هذا القول يكون الله سبحانه وتعالى قد سلم على المصطفين من عباده والرسل أفضلهم وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه أخلصهم بخالصة ذكرى الدار وأنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ويكفي في فضلهم وشرفهم أن الله سبحانه وتعالى اختصهم بوحيه وجعلهم أمناء على رسالته وواسطة بينه وبين عباده وخصهم بأنواع كراماته فمنهم من اتخذه خليلا ومنهم من كلمه تكليما ومنهم من رفعه مكانا عليا على سائرهم درجات ولم يجعل لعباده وصولا إليه إلا من طريقهم ولا دخولا إلى جنته إلا خلفهم ولم يكرم أحدا منهم بكرامة إلا على أيديهم فهم أقرب الخلق إليه وسيلة ________________________________________ وأرفعهم عنده درجة وأحبهم إليه وأكرمهم عليه وبالجملة فخير الدنيا والآخرة إنما ناله العباد على أيديهم وبهم عرف الله وبهم عبد وأطيع بهم حصلت محابه تعالى في الأرض وأعلاهم منزلة أولو العزم منهم المذكورون في قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى وهؤلاء هم الطبقة العليا من الخلائق وعليهم تدور الشفاعة حتى يردوها إلى خاتمهم وأفضلهم أهـ { طريق الهجرتين صـ 453 ـ 456 } سورة القصص قوله تعالى { ولو لا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين } فأخبر تعالى أن ما قدمت أيديهم قبل البعثة سبب لإصابتهم بالمصيبة وأنه سبحانه لو أصابهم بما يستحقون من ذلك لاحتجوا عليه بأنه لم يرسل إليهم رسولا ولم ينزل عليهم كتابا فقطع هذه الحجة بإرسال الرسول وإنزال الكتاب لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وهذا صريح في أن أعمالهم قبل البعثة كانت قبيحة بحيث استحقوا أن يصيبوا بها المصيبة ولكنه سبحانه لا يعذب إلا بعد إرسال الرسل وهذا هو فصل الخطاب ________________________________________ وتحقيق القول في هذا الأصل العظيم أن القبح ثابت للفعل في نفسه وأنه لا يعذب الله عليه إلا بعد إقامة الحجة بالرسالة وهذه النكتة هي التي فاتت المعتزلة والكلابية كليهما فاستطالت كل طائفة منهما على الأخرى لعدم جمعهما بين هذين الأمرين فاستطالت الكلابية على المعتزلة بإثباتهم العذاب قبل إرسال الرسل وترتيبهم العقاب على مجرد القبح العقلي وأحسنوا في رد ذلك عليهم واستطالت المعتزلة عليهم في إنكارهم الحسن والقبح العقليين جملة وجعلهم انتفاء العذاب قبل البعثة دليلا على انتفاء القبح واستواء الأفعال في أنفسها وأحسنوا في رد هذا عليهم فكل طائفة استطالت على الأخرى بسبب إنكارها الصواب وأما من سلك هذا المسلك الذي سلكناه فلا سبيل لواحدة من الطائفتين إلى رد قوله ولا الظفر عليه أصلا فانه موافق لكل طائفة على ما معها من الحق مقرر له مخالف في باطلها منكر له أهـ { مفتاح دار السعادة حـ 3 صـ 8 } قوله عز وجل {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون خص سبحانه النهار بذكر البصر لانه محله وفيه سلطان البصر وتصرفه وخص الليل بذكر السمع لان سلطان السمع يكون بالليل وتسمع فيه الحيوانات مالا تسمع في النهار لانه وقت هدوء الاصوات وخمود الحركات وقوة سلطان السمع وضعف سلطان البصر والنهار بالعكس فيه قوة سلطان البصر وضعف سلطان السمع فقوله افلا تسمعون راجع إلى قوله قل ارايتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا الى يوم القيامة من اله غير الله يأتيكم بضياء به وقوله أفلا تبصرون راجع الى قوله قل أرايتم ان جعل الله عليكم النهار سرمدا الى يوم القيامة أهـ {مفتاح دار السعادة حـ 1 صـ 311 } ________________________________________ سورة العنكبوت قوله تعالى { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون } فذكر سبحانه أنهم ضعفاء وأن الذين اتخذوهم أولياءهم أضعف منهم فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتا وهو من أوهن البيوت وأضعفها وتحت هذا المثل أن هؤلاء المشركين أضعف ما كانوا حين اتخذوا من دون الله أولياء فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفا كما قال تعالى واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا وقال تعالى واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون وقال بعد أن ذكر إهلاك الأمم المشركين وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون الله وليا يتعزز به ويتكبر به ويستنصر به لم يحصل له به إلا ضد مقصوده وفي القرآن أكثر من ذلك وهذا من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده فإن قيل فهم يعلمون أن أوهن البيوت بيت العنكبوت فكيف نفي عنهم علم ذلك بقوله لو كانوا يعلمون فالجواب أنه سبحانه لم ينف عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت وإنما نفى عنهم علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتا فلو علموا ذلك لما فعلوه ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزا وقدرة فكان الأمر بخلاف ما ظنوه أهـ { إعلام الموقعين حـ 1 صـ 184 ـ 185 } ________________________________________ قوله تعالى{ اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر } فقيل : المعنى أنكم في الصلاة تذكرون الله وهو من ذكره ولذكره الله تعالى إياكم أكبر من ذكركم إياه وهذا يروى عن ابن عباس وسلمان وأبي الدرداء وابن مسعود رضي الله عنهم وذكر ابن أبي الدنيا عن فضيل ابن مرزوق عن عطية { ولذكر الله أكبر } قال : وهو قوله تعالى : { فاذكروني أذكركم } فذكر الله تعالى لكم أكبر من ذكركم إياه وقال ابن زيد وقتادة : معناه : ولذكر الله أكبر من كل شيء وقيل لسلمان : أي الأعمال أفضل ؟ أما تقرأ القرآن { ولذكر الله أكبر } ويشهد لهذا حديث أبي الدرداء المتقدم [ ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ] الحديث وكان شيخ الإسلام أبو العباس قدس الله روحه يقول : الصحيح أن معنى الآية أن الصلاة فيها مقصودان عظيمان وأحدهما أعظم من الآخر : فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر وهي مشتملة على ذكر الله تعالى ولما فيها من ذكر الله أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر وذكر ابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه سئل : أي العمل أفضل ؟ قال : ذكر الله أكبر وفي السنن عن عائشة عن النبي صلى اله عليه وسلم قال : [ إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى ] رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح أهـ { الوابل الصيب صـ 763 } ________________________________________ سورة الروم قوله تعالى { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون } وهذا دليل قياس احتج الله سبحانه به على المشركين حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء فأقام عليهم حجة يعرفون صحتها من نفوسهم لا يحتاجون فيها إلى غيرهم ومن أبلغ الحجاج أن يأخذ الإنسان من نفسه ويحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندها معلوم لها فقال هل لكم مما ملكت أيمانكم من عبيدكم وإمائكم شركاء في المال والأهل أي هل يشارككم عبيدكم في أموالكم وأهليكم فأنتم وهم في ذلك سواء تخافون أن يقاسموكم أموالكم ويشاطروكم إياها ويستأثرون ببعضها عليكم كما يخاف الشريك شريكه وقال ابن عباس تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا والمعنى هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويه في التصرف في ذلك فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه كما يخاف غيره من الشركاء والأحرار فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي فإن كان هذا الحكم باطلا في فطركم وعفولكم مع أنه جائز عليكم ممكن في حقكم إذ ليس عبيدكم ملكا لكم حقيقة وإنما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم وأنتم وهم عبيد لي فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي مع أن من جعلتموهم لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول أهـ { إعلام الموقعين حـ 1 صـ 190 ـ191 } ________________________________________ قوله تعالى { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } قال مجاهد اذا ولي الظالم سعى بالظلم والفساد فيحبس بذلك القطر فيهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ثم قرأ ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ثم قال أما والله ما هو بحركم هذا ولكن كل قرية على ماء جار فهو بحر وقال عكرمة ظهر الفساد في البر والبحر أما إني لا أقول لكم بحركم هذا ولكن كل قرية على ماء وقال قتادة أما البر فاهل العمود وأما البحر فاهل القرى والريف قلت وقد سمي الله تعالى الماء العذب بحرا فقال هو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج وليس في العالم بحر حلو واقفا وإنما هي الانهار الجارية والبحر المالح هو الساكن فتسمى القرى التي على المياه الجارية باسم تلك المياه وقال ابن زيد ظهر الفساد في البر والبحر قال الذنوب قلت أراد أن الذنب سبب الفساد الذي ظهر وإن أراد أن الفساد الذي ظهر هو الذنوب نفسها فيكون قوله ليذيقهم بعض الذي عملوا لام العاقبة والتعليل وعلى الاول فالمراد بالفساد والنقص والشر والالآم التي يحدثها الله فى الارض بمعاصي العباد فكل ما أحدثوا ذنبا أحدث لهم عقوبة كما قال بعض السلف كل ما أحدثتم ذنبا أحدث الله لكم من سلطانه عقوبة والظاهر والله أعلم إن الفساد المراد به الذنوب وموجباتها ويدل عليه قوله تعالى ليذيقهم بعض الذي عملوا فهذا حالنا وإنما إذاقنا الشيء اليسير من أعمالنا فلو أذاقنا كل أعمالنا لما ترك على ظهرها من دابة ومن تأثير معاصي الله في الارض ما يحل بها من الخسف والزلازل ويمحق بركتها وقد مر رسول الله على ديار ثمود فمنعهم من دخول ديارهم الا وهم باكون ومن شرب مياههم ومن الاستسقاء من أبيارهم حتى أمر أن لا يعلف العجين الذي عجن بمياههم لنواضح الابل لتأثير شؤم المعصية في الماء وكذلك شؤم تأثير الذنوب فى نقص الثمار ________________________________________ وما ترى به من الآفات وقد ذكر الامام أحمد فى مسنده فى ضمن حديث قال وجدت في خزائن بعض بني أمية حنطة الحبة بقدر نواة التمرة وهي في صرة مكتوب عليها كان هذا ينبت في زمن من العدل وكثير من هذه الأفات أحدثها الله سبحانه وتعالى بما أحدث العباد من الذنوب وأخبرني جماعة من شيوخ الصحراء انهم كانوا يعهدون الثمار أكبر مما هي الآن وكثير من هذه الآفات التي تصيبها لم يكونوا يعرفونها وإنما حدثت من قرب وأما تأثير الذنوب في الصور والخلق فقد روي الترمذي في جامعه عن النبي انه قال خلق الله آدم وطوله في السماء ستون ذراعا ولم يزل الخلق ينقص حتى الآن فاذا أراد الله أن يطهر الارض من الظلمة والخونة والفجرة ويخرج عبدا من عباده من أهل بيت نبيه فيملأ الارض قسطا كما ملئت جورا ويقتل المسيح اليهود والنصارى ويقيم الدين الذي بعث الله به رسوله وتخرج الارض بركاتها وتعود كما كانت حتى ان العصابة من الناس ليأكلون الرمانة ويستظلون بقحفها ويكون العنقود من العنب وقر بعير ولبن اللقحة الواحدة يكفي الفئام من الناس وهذا لان الارض لما طهرت من المعاصي ظهرت فيها آثار البركة من الله تعالى التي محقتها الذنوب والكفر ولاريب ان العقوبات التي أنزلها الله في الارض بقية آثارها سارية في الارض تطلب ما يشاء كلها من الذنوب التي هي آثار تلك الجرائم التي عذبت بها الامم فهذه الآثار في الارض من آثار العقوبات كما ان هذه المعاصي من آثار الجرائم فتناسب كلمة الله وحكمة الكوني أولا وآخرا وكان العظيم من العقوبة للعظيم من الجناية والأخف للأخف وهذا يحكم سبحانه بين خلقه في دار البرزخ ودار الجزاء وتأمل مقارنة الشيطان ومحله وداره فانه لما قارن العبد واستولى عليه نزعت البركة من عمره وعمله وقوله ورزقه ولما أثرت طاعته في الارض ما أثرت نزعت البركة من كل محل ظهرت فيه طاعته وكذلك مسكنه لما كان الجحيم لم يكن هناك شيء من الروح والرحمة والبركة فصل ________________________________________ ومن عقوباتها انها تطفي من القلب نار الغيرة التي هى لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن فان الغيرة حرارته وناره التي تخرج ما فيه من الخبث والصفات المذمومة كمال يخرج الكير خبث الذهب والفضة والحديث وأشرف الناس وأعلاهم قدر وهمة أشدهم غيرة علي نفسه وخاصته وعموم الناس ولهذا كان النبي أغير الخلق علي الامة والله سبحانه أشد غيرة منه كما ثبت في الصحيح عنه انه قال أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني وفي الصحيح أيضا عنه انه قال في خطبة الكسوف يا أمة محمد ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو ترني أمته وفي الصحيح أيضا عنه أنه قال لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب اليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ولا أحد أحب اليه المدح من الله من أجل ذلك أثنى على نفسه فجمع في هذا الحديث بين الغيرة التي أصلها كراهة القبائح وبنضها وبين محبة العذر الذي يوجب كمال العدل والرحمة والاحسان والله سبحانه مع شدة غيرته يحب إن يعتذر اليه عبده ويقبل عذر من اعتذر اليه وانه لايؤاخذ عبده بارتكاب ما يغار من ارتكابه حتى يعذر اليهم ولأجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه إعذارا وإنذارا وهذا غاية المجد والاحسان ونهاية الكمال فان كثيرا ممن تشتد غيرته من المخلوقين تحمله شدة الغيرة على سرعة الايقاع والعقوبة من غير إعذار منه ومن غير قبول العذر ممن إعتذر اليه بل قد يكون له فى نفس الامر عذر ولاتدعه شدة الغيرة ان يقبل عذره وكثير ممن تقبل المعاذير يحمله على قبولها قلة الغيرة حتى يتوسع في طريق المعاذير ويرى عذرا ما ليس بعذر حتى يعذر كثير منهم بالعذر وكل منهما غير ممدوح على الاطلاق وقد صح عن النبي انه قال أن من الغيرة ما يحبها الله ومنها ما يبغضها الله فالتي يبغضها الله الغيرة من غير ريبة وذكر الحديث وانما الممدوح اقتران الغيرة بالعذر فيغار في محل الغيرة ________________________________________ ويعذر في موضع العذر ومن كان هكذا فهر الممدوح حقا ولما جمع سبحانه صفات الكمال كلها كان أحق بالمدح من كل أحد ولايبلغ أحد إن يمدحه كما ينبغي له بل هو كما مدح نفسه وأثنى على نفسه فالغيور قد وافق ربه سبحانه في صفة من صفاته ومن وافق الله في صفه من صفاته قادته تلك الصفة اليه بزمامه وأدخلته على ربه وأدنته منه وقربته من رحمته وصيرته محبوبا له فانه سبحانه رحيم يحب الرحماء كريم يحب الكرماء عليم يحب العلماء قوى يحب المؤمن القوي وهو أحب اليه من المؤمن الضعيف حتى يحب أهل الحياء جميل يحب أهل الجمال وتر يحب أهل الوتر ولو لم يكن في الذنوب والمعاصي الا انها توجب لصاحبها ضد هذه الصفات وتمنعه من الاتصاف بها لكفي بها عقوبة فان الخطر تنقلب وسوسة والوسوسة تصير إرادة والارادة تقوي فتصير عزيمة ثم نصير فعلا ثم تصير صفة لازمة وهيئة ثابتة راسخة وحينئذ يتعذر الخروج منهما كما يتعذر عليه الخروج من صفاته القائمة به والمقصود انه كلما اشتدت ملابسته للذنوب أخرجت من قلبه الغيرة على نفسه وأهله وعموم الناس وقد تضعف في القلب جدا لا يستقبح بعد ذلك القبيح لا من نفسه ولا من غيره واذا وصل الى هذا الحد فقد دخل في باب الهلاك وكثير من هؤلاء لا يقتصر على عدم الاستقباح بل يحسن الفواحش والظلم لغيره ويزينه له ويدعوه اليه ويحثه عليه ويسعي له فى تحصيله ولهذا كان الديوث أخبث خلق الله والجنة عليه حرام وكذلك محلل الظلم والبغي لغيره ومزينه لغيره فانظر ما الذي حملت عليه قلة الغيرة وهذا يدلك على أن أصل الدين الغيرة ومن لا غيرة له لا دين له فالغيرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح فتدفع السوء والفواحش وعدم الغيرة تميت القلب فتموت الجوارح فلا يبقى عندها دفع البتة ومثل الغيرة في القلب مثل القوة التي تدفع المرض وتقاومه فاذا ذهبت القوة وجد الداء المحل قابلا ولم يجد دافعا فتمكن فكان الهلاك ومثلها مثل صياصي الجاموس التي تدفع بها عن نفسه وعن ________________________________________ ولده فاذا تكسرت طمع فيها عدوه أهـ { الجواب الكافى صـ 42 ـ 45 } سورة سبأ قوله تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ومالهم فيهما من شرك وماله منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } سبأ23 , 22 فتأمل كيف أخذت هذه الآية على المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك وسدتها عليهم أحكم سد وأبلغه فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه وإلا فلو لم يرج منه منفعة لم يتعلق قلبه به وحينئذ فلا بد أن يكون المعبود مالكا للأسباب التي ينفع بها عابده أو شريكا لمالكها أو ظهيرا أو وزيرا ومعاونا له أو وجيها ذا حرمة وقدر يشفع عنده فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه وبطلت انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقال ذرة في السموات والأرض فقد يقول المشرك هي شريكة لمالك الحق فنفى شركتها له فيقول المشرك قد تكون ظهيرا ووزيرا ومعاونا فقال وماله منهم من ظهير فلم يبق إلا الشفاعة فنفاها عن آلهتهم وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فهو الذي يأذن للشافع فإن لم يأذن له لم يتقدم بالشفاعة بين يديه كما يكون في حق المخلوقين فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع ومعاونته له فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له فيها وأما من كل ما سواه فقير إليه بذاته وهو الغني بذاته عن كل ما سواه فكيف يشفع عنده أحد بدون إذنه أهـ { الصواعق المرسلة حـ 1 صـ 98 } ________________________________________ سورة فاطر قوله تعالى { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد } بين سبحانه في هذه الآية أن فقر العباد إليه أمر ذاتي لهم لا ينفك عنهم كما أن كونه غنيا حميدا ذاتي له فغناه وحمده ثابت له لذاته لا لأمر أوجبه وفقر من سواه إليه ثابت لذاته لا لأمر أوجبه فلا يعلل هذا الفقر بحدوث ولا إمكان بل هو ذاتي للفقير فحاجة العبد إلى ربه لذاته لا لعلة أوجبت تلك الحاجة كما أن غنى الرب سبحانه لذاته لا لأمر أوجب غناه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية والفقر لي وصف ذات لازم أبدا ... كما الغنى أبدا وصف له ذاتي فالخلق فقير محتاج إلى ربه بالذات لا بعلة وكل ما يذكر ويقرر من أسباب الفقر والحاجة فهي أدلة على الفقر والحاجة لا علل لذلك إذا ما بالذات لا يعلل فالفقير بذاته محتاج إلى الغني بذاته فما يذكر من إمكان وحدوث واحتياج فهي أدلة على الفقر لا أسباب له ولهذا كان الصواب في مسألة علة احتياج العالم إلى الرب سبحانه غير القولين اللذين يذكرهما الفلاسفة والمتكلمون فإن الفلاسفة قالوا علة الحاجة الإمكان والمتكلمون قالوا علة الحاجة الحدوث والصواب أن الإمكان والحدوث متلازمان وكلاهما دليل الحاجة والافتقار وفقر العالم إلى الله سبحانه أمر ذاتي لا يعلل فهو فقير بذاته إلى ربه الغني بذاته ثم يستدل بإمكانه وحدوثه وغير ذلك من الأدلة على هذا الفقر والمقصود أنه سبحانه أخبر عن حقيقة العباد وذواتهم بأنها فقيرة إليه سبحانه كما أخبر عن ذاته المقدسة وحقيقته أنه غني حميد فالفقر المطلق من كل وجه ثابت لذواتهم وحقائقهم من حيث هي والغنى المطلق من كل وجه ثابت لذاته تعالى وحقيقته من حيث هي فيستحيل أن يكون العبد إلا فقيرا ويستحيل أن يكون الرب سبحانه إلا غنيا كما أنه يستحيل أن يكون العبد إلا عبدا والرب إلا ربا ________________________________________ إذا عرف هذا فالفقر فقران فقر اضطراري وهو فقر عام لا خروج لبر ولا فاجر عنه وهذا الفقر لا يقتضي مدحا ولا ذما ولا ثوابا ولا عقابا بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقا ومصنوعا والفقر الثاني فقر اختياري هو نتيجة علمين شريفين أحدهما معرفة العبد بربه والثاني معرفته بنفسه فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أنتجتا فقرا هو عين غناه وعنوان فلاحه وسعادته وتفاوت الناس في هذا الفقر بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام ________________________________________ ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة عرف نفسه بالجهل فالله سبحانه أخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئا ولا يقدر على شيء ولا يملك شيئا ولا يقدر على عطاء ولا منع ولا ضر ولا نفع ولا شيء البتة فكان فقره في تلك الحال إلى ما به كماله أمرا مشهودا محسوسا لكل أحد ومعلوم أن هذا له من لوازم ذاته وما بالذات دائم بدوامها وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إلى رتبة الربوبية والغنى بل لم يزل عبدا فقيرا بذاته إلى بارئه وفاطره فلما أسبغ عليه نعمته وأفاض عليه رحمته وساق إليه أسباب كمال وجوده ظاهرا وباطنا وخلع عليه ملابس إنعامه وجعل له السمع والبصر والفؤاد وعلمه وأقدره وصرفه وحركه ومكنه من استخدام بني جنسه وسخر له الخيل والإبل وسلطه على دواب الماء واستنزال الطير من الهواء وقهر الوحش العادية وحفر الأنهار وغرس الأشجار وشق الأرض وتعلية البناء والتحليل على مصالحه والتحرز والتحفظ لما يؤذيه ظن المسكين أن له نصيبا من الملك وادعى لنفسه ملكا مع الله سبحانه ورأى نفسه بغير تلك العين الأولى ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة حتى كأنه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج بل كأن ذلك شخصا آخر غيره كما روى الإمام أحمد في مسنده من حديث بسر بن جحاش القرشي أن رسول الله بصق يوما في كفه فوضع عليها إصبعه ثم قال قال الله تعالى يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة ومن ههنا خذل من ________________________________________ خذل ووفق من وفق فحجب المخذول عن حقيقته ونسي نفسه فنسي فقره وحاجته وضرورته إلى ربه فطغى وعتا فحقت عليه الشقوة قال تعالى كلا إن الأنسان ليطغى أن رءاه استغنى وقال فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى فأكمل الخلق أكملهم عبودية وأعظمهم شهودا لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين ولهذا كان من دعائه أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك وكان يدعو يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك يعلم أن قلبه بيد الرحمن عز وجل لا يملك منه شيئا وأن الله سبحانه يصرفه كما يشاء كيف وهو يتلو قوله تعالى ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا فضرورته إلى ربه وفاقته إليه بحسب معرفته به وحسب قربه منه ومنزلته عنده وهذا أمر إنما بدا منه لمن بعده ما يرشح من ظاهر الوعاء ولهذا كان أقرب الخلق إلى الله وسيلة وأعظمهم عنده جاها وأرفعهم عنده منزلة لتكميله مقام العبودية والفقر إلى ربه وكان يقول لهم أيها الناس ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي إنما أنا عبد وكان يقول لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله وذكره الله سبحانه بسمة العبودية في أشرف مقاماته مقام الإسراء ومقام الدعوة ومقام التحدي فقال سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وقال وأنه لما قام عبدالله يدعوه وقال وإن كنتم في ريب مما ________________________________________ نزلنا على عبدنا وفي حديث الشفاعة إن المسيح يقول لهم اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فنال ذلك المقام بكمال عبوديته لله وبكماله مغفرة الله له فتأمل قوله تعالى في الآية أنتم الفقراء إلى الله باسم الله دون اسم الربوبية ليؤذن بنوعي الفقر فإنه كما تقدم نوعان فقر إلى ربوبيته وهو فقر المخلوقات بأسرها وفقر إلى ألوهيته وهو فقر أنبيائه ورسله وعباده الصالحين وهذا هو الفقر النافع والذي يشير إليه القوم ويتكلمون عليه ويشيرون إليه هو الفقر الخاص لا العام وقد اختلفت عباراتهم عنه ووصفهم له وكل أخبر عنه بقدر ذوقه وقدرته على التعبير قال شيخ الإسلام الأنصاري الفقر اسم للبراءة من رؤية الملكة وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى فقر الزهاد وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطا أو طلبا وإسكات اللسان عنها ذما أو مدحا والسلامة منها طلبا أو تركا وهذا هو الفقر الذي تكلموا في شرفه الدرجة الثانية الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل وهو يورث الخلاص من رؤية الأعمال ويقطع شهود الأحوال ويمحص من أدناس مطالعة المقامات والدرجة الثالثة صحة الاضطرار والوقوع في يد التقطع الوحداني والاحتباس في بيداء قيد التجريد وهذا فقر الصوفية ________________________________________ فقوله الفقر اسم للبراءة من رؤية الملكة يعني أن الفقير هو الذي يجرد رؤية الملك لمالكه الحق فيرى نفسه مملوكة لله لا يرى نفسه مالكا بوجه من الوجوه ويرى أعماله مستحقة عليه بمقتضى كونه مملوكا عبدا مستعملا فيما أمره به سيده فنفسه مملوكة وأعماله مستحقة بموجب العبودية فليس مالكا لنفسه ولا لشيء من ذراته ولا لشيء من أعماله بل كل ذلك مملوك عليه مستحق عليه كرجل اشترى عبدا بخالص ماله ثم علمه بعض الصنائع فلما تعلمها قال له إعمل وأد إلي فليس لك في نفسك ولا في كسبك شيء فلو حصل بيد هذا العبد من الأموال والأسباب ما حصل لم ير له فيها شيئا بل يراه كالوديعة في يده وأنها أموال أستاذه وخزائنه ونعمه بيد عبده مستودعا متصرفا فيها لسيده لا لنفسه كما قال عبدالله ورسوله وخيرته من خلقه والله إني لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت فهو متصرف في تلك الخزائن بالأمر المحض تصرف العبد المحض الذي وظيفته تنفيذ أوامر سيده فالله هو المالك الحق وكل ما بيد خلقه هو من أمواله وأملاكه وخزائنه أفاضها عليهم ليمتحنهم في البذل والإمساك ________________________________________ وهل يكون ذلك منهم على شاهد العبودية لله عز وجل فيبذل أحدهم الشيء رغبة في ثواب الله ورهبة من عقابه وتقربا إليه وطلبا لمرضاته أم يكون البذل والإمساك منهم صادرا عن مراد النفس وغلبة الهوى وموجب الطبع ! فيعطي لهواه ويمنع لهواه فيكون متصرفا تصرف المالك لا المملوك فيكون مصدر تصرفه الهوى ومراد النفس وغايته الرغبة فيما عند الخلق من جاه أو رفعة أو منزلة أو مدح أو حظ من الحظوظ أو الرهبة من فوت شيء من هذه الأشياء وإذا كان مصدر تصرفه وغايته هو هذه الرغبة والرهبة رأى نفسه لا محالة مالكا فادعى الملك وخرج عن حد العبودية ونسي فقره ولو عرف نفسه حق المعرفة لعلم أنما هو مملوك ممتحن في صورة ملك متصرف كما قال تعالى ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون وحقيق بهذا الممتحن أن يوكل إلى ما ادكعته نفسه من الإحالات والملكات مع المالك الحق سبحانه فإن من ادعى لنفسه حالة مع الله سبحانه وكل إليها ومن كل إلى شيء غير الله فقد فتح له باب الهلاك والعطب وأغلق عنه باب الفوز والسعادة فإن كل شيء ما سوى الله باطل ومن وكل إلى الباطل بطل عمله وضل سعيه ولم يحصل إلا على الحرمان فكل من تعلق بغير الله انقطع به أحوج ما كان إليه كما قال تعالى إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب فالأسباب التي تقطعت بهم هي العلائق التي بغير الله ولغير الله تقطعت بهم أحوج ما كانوا إليها وذلك لأن تلك الغايات لما اضمحلت وبطلت اضمحلت أسبابها وبطلت فإن الأسباب تبطل ببطلان غاياتها وتضمحل باضمحلالها وكل شيء هالك إلا وجهه سبحانه وكل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه وكل سعي لغيره باطل ومضمحل وهذا كما يشاهده الناس في الدنيا من اضمحلال السعي والعمل والكد والخدمة التي يفعلها العبد لمتول أو أمير أو صاحب منصب أو مال فإذا زال ذلك الذي عمل له عدم ذلك العمل وبطل ذلك السعي ولم يبق في يده سوى الحرمان ولهذا يقول الله ________________________________________ تعالى يوم القيامة أليس عدلا مني أني أولي كل رجل منكم ما كان يتولى في الدنيا فيتولى عباد الأصنام والأوثان أصنامهم وأوثانهم فتتساقط بهم في النار ويتولى عابدو الشمس والقمر والنجوم آلهتهم فإذا كورت الشمس وانتثرت النجوم اضمحلت تلك العبادة وبطلت وصارت حسرة عليهم كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ولهذا كان المشرك من أخسر الناس صفقة وأغبنهم يوم معاده فإنه يحال على مفلس كل الإفلاس بل على عدم والموحد حوالته على المليء الكريم فيا بعد ما بين الحوالتين ________________________________________ وقوله البراءة من رؤية الملكة ولم يقل من الملكة لأن الإنسان قد يكون فقيرا لا ملكة له في الظاهر وهو عري عن التحقق بنعت الفقر الممدوح أهله الذين لا يرون ملكة إلا لمالكها الحق ذي الملك والملكوت وقد يكون العبد قد فوض إليه من ذلك شيء وجعل كالخازن فيه كما كان سليمان بن داود أوتي ملكا لا ينبغي لأحد من بعده وكذلك الخليل وشعيب والأغنياء من الأنبياء وكذلك أعنياء الصحابة فهؤلاء لم يكونوا بريئين من الملكة في الظاهر وهم بريئون من رؤية الملكة لنفوسهم فلا يرون لها ملكا حقيقيا بل يرون ما في أيديهم لله عارية ووديعة في أيديهم ابتلاهم به لينظر هل يتصرفون فيه تصرف العبد أو تصرف الملاك الذين يعطون لهواهم ويمنعون لهواهم فوجود المال في يد الفقير لا يقدح في فقره إنما يقدح في فقره رؤيته لملكته فمن عوفي من رؤية الملكة لم يتلوث باطنه بأوساخ المال وتعبه وتدبيره واختياره وكان كالخازن لسيده الذي ينفذ أوامره في ماله فهذا لو كان بيده من المال أمثال جبال الدنيا لم يضره ومن لم يعاف من ذلك ادعت نفسه الملكة وتعلقت به النفس تعلقها بالشيء المحبوب المعشوق فهو أكبر همه ومبلغ علمه إن أعطي رضي وإن منع سخط فهو عبد الدينار والدرهم يصبح مهموما ويمسي كذلك يبيت مضاجعا له تفرح نفسه إذا ازداد وتحزن وتأسف إذا فات منه شيء بل يكاد يتلف إذا توهمت نفسه الفقر وقد يؤثر الموت على الفقر والأول مستغن بمولاه المالك الحق الذي بيده خزائن السموات والأرض وإذا أصاب المال الذي في يده نائبة رأى أن المالك الحق هو الذي أصاب مال نفسه فما للعبد وما للجزع والهلع وإنما تصرف مالك المال في ملكه الذي هو وديعة في يد مملوكه فله الحكم في ماله إن شاء أبقاه وإن شاء ذهب به وأفناه فلا يتهم مولاه في تصرفه في ملكه ويرى تدبيره هو موجب الحكمة فليس لقلبه بالمال تعلق ولا له به اكتراث لصعوده عنه وارتفاع همته إلى المالك الحق فهو غني به وبحبه ومعرفته وقربه منه عن ________________________________________ كل ما سواه وهو فقير إليه دون ما سواه فهذا هو البريء عن رؤية الملكة الموجبة للطغيان كما قال تعالى كلا إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى ولم يقل إن استغنى بل جعل الطغيان ناشئا عن رؤيته غنى نفسه ولم يذكر هذه الرؤية في سورة الليل بل قال وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وهذا والله أعلم لأنه ذكر موجب طغيانه وهو رؤية غنى نفسه وذكر في سورة الليل موجب هلاكه وعدم تيسيره لليسرى وهو استغناؤه عن ربه بترك طاعته وعبوديته فإنه لو افتقر إليه لتقرب إليه بما أمره من طاعته فعل المملوك الذي لا غنى له عن مولاه طرفة عين ولا يجد بدا من امتثال أوامره ولذلك ذكر معه بخله وهو تركه أعطاء ما وجب عليه من الأقوال والأعمال وأداء المال وجمع إلى ذلك تكذيبه بالحسنى وهي التي وعد بها أهل الإحسان بقوله للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ومن فسرها بشهادة أن لا إله إلا الله فلأنها أصل الإحسان وبها تنال الحسنى ومن فسرها بالخلف في الإنفاق فقد هضم المعنى حقه وهو أكبر من ذلك وإن كان الخلف جزءا من أجزاء الحسنى والمقصود أن الاستغناء عن الله سبب هلاك العبد وتيسيره لك عسرى ورؤيته غنى نفسه سبب طغيانه وكلاهما مناف للفقر والعبودية قوله الدرجة الأولى فقر الزهاد وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطا أو طلبا وإسكات اللسان عنها ذما أو مدحا والسلامة منها طلبا أو تركا وهذا هو الفقر الذي تكلموا في شرفه فحاصل هذه الدرجة فراغ اليد والقلب من الدنيا والذهول عن الفقر منها والزهد فيها وعلامة فراغ اليد نفض اليدين من الدنيا ضبطا أو طلبا فهو لا يضبط يده مع وجودها شحا وضنا بها ولا يطلبها مع فقدها سؤالا وإلحافا وحرصا فهذا الإعراض والنفض دال على سقوط منزلتها من القلب إذ لو كان لها في القلب منزلة لكان الأمر بضد ذلك وكان يكون حاله الضبط مع الوجود لغناه بها ولكان يطلبها مع فقدها لفقره إليها أهـ { طريق الهجرتين صـ 6 ـ 11 } ________________________________________ سورة يس قوله تعالى { لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } قال الفراء حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله وقال أبو عبيدة منعناهم عن الإيمان بموانع ولما كان الغل مانعا للمغلول من التصرف والتقلب كان الغل الذي على القلب مانعا من الإيمان فإن قيل فالغل المانع من الإيمان هو الذي في القلب فكيف ذكر الغل الذي في العنق قيل لما كان عادة الغل أن يوضع في العنق ناسب ذكر محله والمراد به القلب كقوله تعالى وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ومن هذا قولهم انما في عنقك وهذا في عنقك ومن هذا قوله ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك شبه الإمساك عن الإنفاق باليد إذا غلت إلى العنق ومن هذا قال الفراء أنا جعلنا في أعناقهم أغلالا حبسناهم عن الإنفاق قال أبو إسحاق وإنما يقال للشيء اللازم هذا في عنق فلان أي لزومه كلزوم القلادة من بين ما يلبس في العنق قال أبو علي هذا مثل قولهم طوقتك كذا وقلدتك كذا ومنه قلده السلطان كذا أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق قلت ومن هذا قولهم قلدت فلانا حكم كذا وكذا كأنك جعلته طوقا في عنقه وقد سمى الله التكاليف الشاقة أغلالا في قوله ويضع عنهم أصرهم والأغلال التي كانت عليهم فشبهها بالأغلال لشدتها وصعوبتها قال الحسن هي الشدائد التي كانت في العبادة كقطع أثر البول وقتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة وتتبع العروق من اللحم وقال ابن قتيبة هي تحريم الله سبحانه عليهم كثيرا مما أطلقه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وجعلها أغلا لأن التحريم يمنع كما يقبض الغل اليد وقوله فهي إلى الأذقان قالت طائفة الضمير يعود إلى الأيدي وإن لم تذكر لدلالة السياق عليها قالوا لأن الغل يكون في العنق فتجمع إليه اليد ولذلك سمي جامعة وعلى هذا فالمعنى فأيديهم او فايمنهم مضمومة الى أذقانهم هذا ________________________________________ قول الفراء والزجاج وقالت طائفة الضمير يرجع إلى الأغلال وهذا هو الظاهر وقوله فهي إلى الأذقان أي واصلة وملزوزة إليها فهو غل عريض قد أحاط بالعنق حتى وصل إلى الذقن وقوله فهم مقمحون قال الفراء والزجاج المقمح هو الغاض بصره بعد رفع رأسه ومعنى الإقماح في اللغة رفع الرأس وغض البصر يقال أقمح البعير رأسه وقمح وقال الأصمعي بعير قامح إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب قال الأزهري لما غلت أيديهم إلى أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا كالإبل الرافعة رؤوسها انتهى فإن قيل فما وجه التشبيه بين هذا وبين حبس القلب عن الهدى والإيمان قيل أحسن وجه وأبينه فإن الغل إذا كان في العنق واليد مجموعة إليها منع اليد عن التصرف والبطش فإذا كان عريضا قد ملأ العنق ووصل إلى الذقن منع الرأس من تصويبه وجعل صاحبه شاخص الرأس منتصبه لا يستطيع له حركة ثم أكد هذا المعنى والحبس بقوله وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا قال ابن عباس منعهم من الهدى لما سبق في علمه والسد الذي جعل من بين أيديهم ومن خلفهم هو الذي سد عليهم طريق الهدى فأخبر سبحانه عن الموانع التي منعهم بها من الإيمان عقوبة لهم ومثلها بأحسن تمثيل وأبلغه وذلك حال قوم قد وضعت الأغلال العريضة الواصلة إلى الأذقان في أعناقهم وضمت أيديهم إليها وجعلوا بين السدين لا يستطيعون النفوذ من بينمها وأغشيت أبصارهم فهم لا يرون شيئا وإذا تأملت حال الكافر الذي عرف الحق وتبين له ثم جحده وكفر به وعاداه أعظم معاداة وجدت هذا المثل مطابقا له أتم مطابقة وانه قد حيل بينه وبين الإيمان كما حيل بين هذا وبين التصرف والله المستعان أهـ { شفاء العليل صـ 94} سورة الصافات قوله تعالى عن نوح عليه السلام { وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين }الصافات 78 80 وقال تعالى عن إبراهيم خليله {وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم }الصافات 108 و 109 ________________________________________ وقال تعالى في موسى وهارون { وتركنا عليهما في الآخرين سلام على موسى وهارون } الصافات 119 و 120 وقال تعالى { سلام على إلياسين } الصافات 130 فالذي تركه سبحانه على رسله في الآخرين هو السلام عليهم المذكور وقد قال جماعة من المفسرين منهم مجاهد وغيره وتركنا عليهم في الآخرين الثناء الحسن ولسان الصدق للانبياء كلهم وهذا قول قتادة أيضا ولا ينبغي أن يحكى هذا قولين للمفسرين كما يفعله من له بحكاية الأقوال بل هما قول واحد فمن قال إن المتروك هو السلام عليهم في الآخرين نفسه فلا ريب أن قوله سلام على نوح جملة في موضع نصب ب تركنا والمعنى أن العالمين يسلمون على نوح ومن بعده من الأنبياء ومن فسره بلسان الصدق والثناء الحسن نظر إلى لازم السلام وموجبة وهو الثناء عليهم وما جعل لهم من لسان الصدق الذي لاجله إذا ذكروا سلم عليهم وقد زعمت طائفة منهم ابن عطية وغيره أن من قال تركنا عليه ثناء حسنا ولسان صدق كان سلام على نوح في العالمين جملة ابتدائية لا محل لها من الاعراب وهو سلام من الله سلم به عليه قالوا فهذا السلام من الله امنة لنوح في العالمين أن يذكره أحد بشر قاله الطبري وقد يقوي هذا القول انه سبحانه اخبر أن المتروك عليه هو في الآخرين وان السلام عليه في العالمين وبأن ابن عباس رضي الله عنهما قال ابقى الله عليه ثناء حسنا وهذا القول ضعيف لوجوه أحدها انه يلزم منه حذف المفعول ل تركنا ولا يبقى في الكلام فائدة على التقدير فإن المعنى يؤول إلى انا تركنا عليه في الآخرين امرا مالا ذكر له في اللفظ لان السلام عند هذا القائل منقطع مما قبله لا تعلق له بالفعل الثاني انه لو كان المفعول محذوفا كما ذكروه لذكره في موضع واحد ليدل على المراد منه حذفه ولم يطرد في جميع من اخبر انه ترك عليه في الآخرين الثناء الحسن وهذه طريقة القرآن بل وكان فصيح أن يذكر الشيء في موضع ثم يحذفه في موضع اخر لدلالة المذكور على المحذوف واكثر ما تجده مذكورا ________________________________________ وحذفه قليل واما أن يحذف حذفا مطردا ولم يذكره في موضع واحد ولا في اللفظ ما يدل عليه فهذا لا يقع في القرآن الثالث أن في قراءة ابن مسعود وتركنا عليه في الآخرين سلاما بالنصب وهذا وهذا يدل على أن المتروك هو السلام نفسه الرابع انه لو كان السلام منقطعا مما قبله لاخل ذلك بفصاحة الكلام وجزالته ولما حسن الوقوف على ما قبله وتأمل هذا بحال السامع إذا سمع قوله وتركنا عليه في الآخرين كيف يجد قلبه متشوقا متطلعا إلى تمام الكلام واجتناء الفائدة منه ولا يجد فائدة الكلام انتهت وتمت ليطمئن عندها بل يبقى طالبا لتمامها وهو المتروك فالوقف على الآخرين ليس بوقف تام فإن قيل فيجوز حذف المفعول من هذا الباب لان ترك هنا بمعنى اعطى لانه اعطاه ثناءا حسنا ابقاه عليه في الآخرين ويجوز في باب اعطى ذكر المفعولين وحذفهما والاقتصار على أحدهما وقد وقع ذلك في القرآن كقوله انا اعطيناك الكوثر فذكرهما وقال تعالى فأما من اعطى الليل 5 فحذفهما وقال تعالى ولسوف يعطيك ربك الضحى فحذف الثاني واقتصر على الأول وقال يؤتون الزكاة فحذف الأول واقتصر على الثاني قيل فعل الاعطاء فعل مدح فلفظه دليل على أن المفعول المعطى قد ناله عطاء المعطي والاعطاء احسان ونفع وبر فجاز ذكر المفعولين وحذفهما والاقتصار على أحدهما بحسب الغرض المطلوب من الفعل فإن كان المقصود ايجاد ماهية الاعطاء المخرجة للعبد من البخل والشح والمنع المنافي للاحسان ذكر الفعل مجردا كما قال تعالى فأما من اعطى واتقى ولم يذكر ما أعطى ولا من اعطى وتقول فلان يعطي ويتصدق ويهب ويحسن ________________________________________ وقال النبي اللهم لا مانع لما اعطيت ولا معطي لما منعت لما كان المقصود بهذا تفرد الرب سبحانه بالعطاء والمنع لم يكن لذكر المعطى ولا لحظ المعطى معنى بل المقصود أن حقيقة العطاء والمنع اليك لا إلى غيرك بل أنت المتفرد بها لا يشركك فيها أحد فذكر المفعولين هنا يخل بتمام المعنى وبلاغته وإذا كان المقصود ذكرهما ذكرا معا كقوله تعالى انا اعطيناك الكوثر الكوثر 1 فإن المقصود اخباره لرسوله بما خصه به واعطاه اياه من الكوثر ولا يتم هذا إلا بذكر المفعولين وكذا قوله تعالى ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما واسيرا الانسان 8 وإذا كان المقصود أحدهما فقط اقتصر عليه كقوله تعالى ويؤتون الزكاة المقصود به انهم يفعلون هذا الواجب عليهم ولا يهملونه فذكره لانه هو المقصود وقوله عن أهل النار لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين المدثر 43 44 لما كان المقصود الإخبار عن المستحق للاطعام انهم بخلوا عنه ومنعوه حقه من الاطعام وقست قلوبهم عنه كان ذكره هو المقصود دون المطعوم وتدبر هذه الطريقة في القرآن وذكره للاهم المقصود وحذفه لغيره يطلعك على باب من ابواب اعجازه وكمال فصاحته واما فعل الترك فلا يشعر بشيء من هذا ولا يمدح به فلو قلت فلان يترك لم يكن مفيدا فائدة اصلا بخلاف قولك يطعم ويعطي ويهب ونحوه بل لا بد أن تذكر ما يترك ولهذا لا يقال فلان تارك ويقال معط ومطعم ومن اسمائه سبحانه المعطي فقياس ترك على اعطى من افسد القياس و سلام على نوح في العالمين الصافات 79 جملة محكية قال الزمخشري وتركنا عليه في الآخرين الصافات 78 من الامم هذه الكلمة وهي سلام على نوح يعني يسلمون عليه تسليما ويدعون له وهو من الكلام المحكي كقولك قرأت سورة انزلناها ________________________________________ الخامس انه قال سلام على نوح في العالمين فأخبر سبحانه أن هذا السلام عليه في العالمين ومعلوم أن هذا السلام فيهم هو سلام العالمين عليه كلهم يسلم عليه ويثني عليه ويدعو له فذكره بالسلام عليه فيهم واما سلام الله سبحانه وتعالى عليه فليس مقيدا بهم ولهذا لا يشرع أن يسأل الله تعالى مثل ذلك فلا يقال السلام على رسول الله في العالمين ولا اللهم صل وسلم على رسولك في العالمين ولو كان هذا هو سلام الله لشرع أن يطلب من الله على الوجه الذي سلم به واما قولهم أن الله سلم عليه في العالمين وترك عليه في الآخرين فالله سبحانه وتعالى ابقى على انبيائه ورسله سلاما وثناء حسنا فيمن تأخر بعدهم جزاء على صبرهم وتبليغهم رسالات ربهم واحتمالهم للاذى من اممهم في الله واخبر أن هذا المتروك على نوح هو عام في العالمين وان هذه التحية ثابتة فيهم جميعا لا يخلون منها فادامها عليه في الملائكة والثقلين طبقا بعد طبق وعالما بعد عالم مجازاة لنوح عليه السلام بصبره وقيامه بحق ربه وبأنه أول رسول ارسله الله إلى أهل الأرض وكل المرسلين بعده بعثوا بدينه كما قال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الشورى 13 وقولهم أن هذا قول ابن عباس فقد تقدم أن ابن عباس وغيره إنما ارادوا بذلك أن السلام عليه من الثناء الحسن ولسان الصدق فذكروا معنى السلام عليه وفائدته والله سبحانه اعلم أهـ { جلاء الأفهام صـ 312 ـ 317 } قوله تعالى سلام على آل ياسين الصافات 130 فهذه فيها قراءتان إحداهما إلياسين بوزن إسماعيل وفيه وجهان أحدهما أنه اسم ثان للنبي إلياس وإلياسين كميكال وميكائيل والوجه الثاني أنه جمع وفيه وجهان أحدهما أنه جمع إلياس وأصله إلياسيين بيائين كعبرانيين ثم خففت أحدى اليائين فقيل إلياسين والمراد أتباعه كما حكى سيبويه الأشعرون ومثله الأعجمون والثاني أنه جمع إلياس محذوف الياء ________________________________________ والقراءة الثانية سلام على آل ياسين وفيه أوجه أحدها أن ياسين اسم لأبيه فأضيف إليه الآل كما يقال آل إبراهيم والثاني أن آل ياسين هو إلياس نفسه فيكون آل مضافة إلى يس والمراد بالآل يس نفسه كما ذكر الأولون والثالث انه على حذف ياء النسب فيقال يس واصله ياسيين كما تقدم وآلهم أتباعهم على دينهم والرابع أن يس هو القرآن وآله هم أهل القرآن والخامس أنه النبي وآله أقاربه وأتباعه كما سيأتي وهذه الأقوال كلها ضعيفة والذي حمل قائلها عليها استشكالهم إضافة آل إلى يس واسمه إلياس وإلياسين ورأوها في المصحف مفصولة وقد قرأها بعض القراء آل ياسين فقال طائفة منهم له أسماء يس وإلياسين وإلياس وقالت طائفة يس اسم لغيره ثم اختلفوا فقال الكلبي يس محمد سلم الله على آله وقالت طائفة هو القرآن وهذا كله تعسف ظاهر لا حاجة إليه والصواب والله أعلم في ذلك أن أصل الكلمة آل ياسين كآل إبراهيم فحذفت الألف واللام من أوله لاجتماع الأمثال ودلالة الاسم على موضع المحذوف وهذا كثير في كلامهم إذا اجتمعت الأمثال كرهوا النطق بها كلها فحذفوا منها ما لا إلباس في حذفه وإن كانوا لا يحذفونه في موضع لا تجتمع فيه الأمثال ولهذا لا يحذفون النون من إني وأني وكأني ولكني ولا يحذفونها من ليتني ولما كانت اللام في لعل شبيهة بالنون حذفوا النون معها ولا سيما عادة العرب في استعمالها للاسم الأعجمي وتغييرها له فيقولون مرة إلياسين ومرة إلياس ومرة ياسين وربما قالوا ياس ويكون على إحدى القراءتين قد وقع على المسلم عليه وعلى القراءة الأخرى على آله وعلى هذا ففصل النزاع بين أصحاب القولين في الآل أن الآل إن أفرد دخل فيه المضاف إليه كقوله تعالى أدخلوا آل فرعون أشد العذاب غافر 46 ولا ريب في دخوله في آله هنا وقوله تعالى ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين الأعراف 130 ونظائره ________________________________________ وقول النبي اللهم صل على آل أبي أوفى ولا ريب في دخول أبي أوفى نفسه في ذلك وقوله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم هذه أكثر روايات البخاري وإبراهيم هنا داخل في آله ولعل هذا مراد من قال آل الرجل نفسه وأما إن ذكر الرجل ثم ذكر آله لم يدخل فيهم ففرق بين المجرد والمقرون فإذا قلت أعط لزيد وآل زيد لم يكن زيد هنا داخلا في آله وإذا قلت أعطه لآل زيد تناول زيدا وآله وهذا له نظائر كثيرة قد ذكرناها في غير هذا الموضع وهي أن اللفظ تختلف دلالته بالتجريد والاقتران كالفقير والمسكين هما صنفان إذا قرن بينهما وصنف واحد إذا أفرد كل منهما ولهذا كانا في الزكاة صنفين وفي الكفارات صنف واحد وكالإيمان والإسلام والبر والتقوى والفحشاء والمنكر والفسوق والعصيان ونظائر ذلك كثيرة ولا سيما في القرآن أهـ { جلاء الأفهام صـ 136 ـ 138 } ________________________________________ سورة { ص } وتأمل قوله سبحانه { جنات عدن مفتحة لهم الأبواب متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب } كيف تجد تحته معنى بديعا وهو أنهم إذا دخلوا الجنة لم تغلق أبوابها عليهم بل تبقى مفتحة كما هي وأما النار فإذا دخلها أهلها أغلقت عليهم أبوابها كما قال تعالى إنها عليهم مؤصدة أي مطبقة ومنه سمي الباب وصيدا وهي مؤصدة في عمد ممددة قد جعلت العمد ممسكة للأبواب من خلفها كالحجر العظيم الذي يجعل خلف الباب قال مقاتل يعني أبوابها عليهم مطبقة فلا يفتح لها باب ولا يخرج منها غم ولا يدخل فيها روح آخر الأبد وأيضا فإن في تفتيح الأبواب لهم إشارة إلى تصرفهم وذهابهم وإيابهم وتبوئهم في الجنة حيث شاؤا ودخول الملائكة عليهم كل وقت بالتحف والألطاف من ربهم ودخول ما يسرهم عليهم كل وقت وأيضا إشارة إلى أنها دار أمن لا يحتاجون فيها إلى غلق الأبواب كما كانوا يحتجون إلى ذلك في الدنيا وقد اختلف أهل العربية في الضمير العائد من الصفة على الموصوف في هذه الجملة فقال الكوفيون التقدير مفتحة لهم أبوابها والعرب تعاقت بين الألف واللام والإضافة فيقولون مررت برجل حسن العين أي عينه ومنه قوله تعالى فإن الجحيم هي المأوى أي مأواه وقال بعض البصريين التقدير مفتحة لهم الأبواب منها فحذف الضمير وما اتصل به وقال هذا التقدير في العربية أجود من أن يجعل الألف واللام بدلا من الهاء والألف لأن معنى الألف واللام ليس من معنى الهاء والألف في شيء لأن الهاء والألف أسم والألف واللام دخلتا للتعريف ولا يبدل حرف من اسم ولا ينوب عنه قالوا وأيضا لو كانت الألف واللام بدلا من الضمير لوجب أن يكون في مفتحة ضمير الجنات ويكون معنى مفتحة هي ثم أبدل منها الأبواب ولو كان كذلك لوجب نصب الأبواب لكون مفتحة قد رفع ضمير الفاعل فلا يجوز أن يرفع به اسم آخر لامتناع ارتفاع فاعلين بفعل واحد فلما ارتفع الأبواب دل على أن مفتحة خال من ضمير والأبواب مرتفعة به وإذا كان في الصفة ضمير تعين نصب الثاني كما تقول مررت برجل حسن الوجه ولو رفعت ________________________________________ الوجه ونونت حسنا لم يجز فالألف واللام إذا للتعريف ليس إلا فلا بد من ضمير يعود على الموصوف الذي هو جنات عدن ولا ضمير في اللفظ فهو محذوف تقديره الأبواب منها وعندي أن هذا غير مبطل لقول الكوفيين فإنهم لم يريدوا بالبدل إلا أن الألف واللام خلف وعوض عن الضمير تغني عنه وإجماع العرب على قولهم حسن الوجه وحسن وجهه شاهد بذلك وقد قالوا أن التنوين بدل من الألف واللام بمعنى أنهما لا يجتمعان وكذلك المضاف إليه يكون بدلا من التنوين والتنوين بدل من الإضافة بمعنى التعاقب والتوارد ولا يريدون بقولهم هذا بدل من هذا أن معنى البدل معنى المبدل منه بل قد يكون في كل منهما معنى لا يكون في الآخر فالكوفيون أرادوا أن الألف واللام في الأبواب أغنت عن الضمير لو قيل أبوابها وهذا صحيح ________________________________________ فإن المقصود الربط بن الصفة والموصوف بأمر يجعلها له لا مستقلة فلما كان الضمير عائدا على الموصوف نفي توهم الاستقلال وكذلك لام التعريف فإن كلا من الضمير واللام يعين صاحبه هذا بعين مفسرة وهذا يعين ما دخل عليه وقد قالوا في زيد نعم الرجل إن الألف واللام اغنت عن الضمير والله أعلم وقد أعرب الزمخشري هذه الآية أعرابا اعترض عليه فيه فقال جنات عدن معرفة كقوله جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب وانتصابها على أنها عطف بيان لحسن مآب ومفتحة حال والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل وفي مفتحة ضمير الجنات والأبواب بدل من الضمير تقديره مفتحة هي الأبواب كقولهم ضرب زيد اليد والرجل وهو من بدل الاشتمال هذا إعرابه فاعترض عليه بأن جنات عدن ليس فيها ما يقتضي تعريفها وأما قوله التي وعد الرحمن عباده فبدل لا صفة وبأن جنات عدن لا يسهل أن تكون عطف بيان لحسن مآب على قوله لأن جريان المعرفة على النكرة عطف بيان لا قائل به فإن القائل قائلان أحدهما أنه لا يكون إلا في المعارف كقول البصريين والثاني أنه يكون في المعارف والنكرات بشرط المطابقة كقول الكوفيين وأبي على الفارسي وقوله أن في مفتحة ضمير الجنات فالظاهر خلافه وأن الأبواب مرتفع به ولا ضمير فيه وقوله أن الأبواب بدل اشتمال فبدل الاشتمال قد صرح هو وغيره أنه لا بد فيه من الضمير وأن نازعهم فيه آخرون ولكن يجوز أن يكون الضمير ملفوظا به وأن يكون مقدرا وهنا لم يلفظ به فلا بد من تقديره أي الأبواب منها فإذا كان التقدير مفتحة لهم هي الأبواب منها كان فيه تكثير للإضمار وتقليله أولى وفي الصحيحين من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد أن رسول الله قال في الجنة ثمانية أبواب باب منها يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون وفي الصحيحين من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله من أنفق زوجين في شيء من الأشياء في سبيل الله دعى من أبواب الجنة يا ________________________________________ عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعى من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعى من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعى من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان فقال أبو بكر بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها فقال نعم وأرجوا أن تكون منهم وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب عن النبي قال ما منكم من أحد يتوضأ فيبالغ او فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء زاد الترمذي بعد التشهد اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين زاد أبو داود والأمام أحمد ثم رفع نظره إلى السماء فقال وعند الأمام أحمد من رواية أنس يرفعه من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال ثلاث مرات اشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فتح له أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل وعن عتبة بن عبد الله السلمي قال سمعت رسول الله يقول ما من مسلم يتوفى له ثلاثا من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل رواه ابن ماجه وعبد الله بن أحمد عن ابن نمير ثنا إسحق بن سليمان ثنا جرير بن عثمان عن شرحبيل بن شفعة عن عتبة أهـ { حادى الأرواح صـ 39 ـ 42 } قوله تعالى { خلقت بيدى } لفظ اليد جاء في القرآن على ثلاثة أنواع مفردا ومثنى ومجموعا فالمفرد كقوله بيده الملك الملك1 والمثنى كقوله خلقت بيدي ص75 والمجموع كقوله عملت أيدينا يس71 فحيث ذكر اليد مثناة أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد وعدى الفعل بالباء إليهما فقال خلقت بيدي ص75 وحيث ذكرها مجموعة أضاف العمل إليها ولم يعد الفعل بالباء فهذه ثلاثة فروق فلا يحتمل خلقت بيدي ص75 ________________________________________ من المجاز ما يحتمله عملت أيدينا فإن كل أحد يفهم من قوله عملت أيدينا ما يفهمه من قوله عملنا وخلقنا كما يفهم ذلك من قوله فبما كسبت أيديكم الشورى30 وأما قوله خلقت بيدي ص75 فلو كان المراد منه مجرد الفعل لم يكن لذكر اليد بعد نسبة الفعل إلى الفاعل معنى فكيف وقد دخلت عليها الباء فكيف إذا ثنيت وسر الفرق أن الفعل قد يضاف إلى يد ذي اليد والمراد الإضافة إليه كقوله بما قدمت يداك الحج10 فبما كسبت أيديكم الشورى30 وأما إذا أضيف إليه الفعل ثم عدي بالباء إلى يده مفردة أو مثناة فهو ما باشرته يده ولهذا قال عبدالله بن عمرو إن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثا خلق آدم بيده وغرس جنة الفردوس بيده وذكر الثالثة فلو كانت اليد هي القدرة لم يكن لها اختصاص بذلك ولا كانت لآدم فضيلة بذلك على شيء مما خلق بالقدرة وقد أخبر النبي أن أهل الموقف يأتونه يوم القيامة فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا إلى ربك فذكروا أربعة أشياء كلها خصائص وكذلك قال آدم لموسى في محاجته له اصطفاك الله بكلامه وخط لك الألواح بيده وفي لفظ آخر كتب لك التوراة بيده وهو من أصح الأحاديث وكذلك الحديث الآخر المشهور أن الملائكة قالوا يا رب خلقت بني آدم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة فقال الله تعالى لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان وهذا التخصيص إنما فهم من قوله خلقت بيدي ص75 فلو كانت مثل قوله مما عملت أيدينا لكان هو والأنعام في ذلك سواء فلما فهم المسلمون أن قوله ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي موجبا له تخصيصا وتفضيلا بكونه مخلوقا باليدين على من أمر أن يسجد له وفهم ذلك أهل الموقف حين جعلوه من خصائصه كانت التسوية بينه وبين قوله أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما يس71 خطأ محضا ________________________________________ أهـ { الصواعق المرسلة حـ 1 صـ 38 ـ 39 } ________________________________________ سورة الزمر قوله تعالى {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعملون } هذا مثل ضربه الله سبحانه للمشرك والموحد فالمشرك بمنزلة عبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون متشاحون والرجل المتشاكس الضيق الخلق فالمشرك لما كان يعبد آلهة شتى شبه بعبد يملكه جماعة متنافسون في خدمته لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين والموحد لما كان يعبد الله وحده فمثله كمثل عبد لرجل واحد قد سلم له وعلم مقاصده وعرف الطريق إلى رضاه فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه مع رأفة مالكه به ورحمته له وشفقته عليه وإحسانه إليه وتوليه لمصالحه فهل يستوي هذان العبدان وهذا من أبلغ الأمثال فإن الخالص لمالك واحد يستحق من معونته وإحسانه والتفاته إليه وقيامه بمصالحه ما يستحق صاحب الشركاء المتشاكسين الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون أهـ { إعلام الموقعين حـ 1 صـ 224 ـ 225 } قوله تعالى { الله خالق كل شىء } احتج المعتزلة على مخلوقية القرآن بقوله تعالى خالق كل شيء ونحو ذلك من الآيات فإجاب الأكثرون بأنه عام مخصوص يخص محل النزاع كسائر الصفات من العلم ونحوه قال ابن عقيل في ألإرشاد ووقع لي أن القرآن لا يتناوله هذا الإخبار ولا يصلح لتناوله قال لأن به حصل عقد ألإعلام بكونه خالقا لكل شيء وما حصل به عقد الإعلام والإخبار لم يكن داخلا تحت الخبر قال ولو أن شخصا قال لا أتكلم اليوم كلاما إلا كان كذبا لم يدخل إخباره بذلك تحت ما اخبر به قلت ثم تدبرت هذا فوجدته مذكورا في قوله تعالى في قصة مريم فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا وإنما أمرت بذلك لئلا تسأل عن ولدها فقولها فلن أكلم اليوم إنسيا به حصل إخبار بأنها لاتكلم الإنس ولم يكن ما أخبرت به داخلا تحت الخبر وإلا كان قولها هذا مخالفا لنذرها وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ________________________________________ أهـ { بدائع الفوائدحـ 1 صـ 318 } قوله تعالى { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } فعقب دخولها على الطيب بحرف الفاء الذي يؤذن بأنه سبب للدخول أي بسبب طيبكم قيل لكم ادخلوها وأما النار فإنها دار الخبث في الأقوال والأعمال والمآكل والمشارب ودار الخبيثين فالله تعالى يجمع الخبيث بعضه إلى بعض فيركمه كما يركم الشئ لتراكب بعضه على بعض ثم يجعله في جهنم مع أهله فليس فيها إلا خبيث ولما كان الناس على ثلاث طبقات : طيب لا يشينه خبيث وخبيث لا طيب فيه وآخرون فيهم خبث وطيب دورهم ثلاثة : دار الطيب المحض ودار الخبيث المحض وهاتان الداران لا تفنيان ودار لمن معه خبث وطيب وهي الدار التي تفنى وهي دار العصاة فإنه لا يبقي في جهنم من عصاة الموحدين أحد فإنه إذا عذبوا بقدر جزائهم أخرجوا من النار فأدخلوا الجنة ولا يبقي إلا دار الطيب المحض ودار الخبث المحض أهـ { الوابل الصيب صـ 793 } قال الله تعالى ________________________________________ وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام علوقال في صفة النار حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها بغير واو فقالت طائفة هذه واو الثمانية دخلت في أبواب الجنة لكونها ثمانية وأبواب النار سبعة فلم تدخلها الواو وهذا قول ضعيف لا دليل عليه ولا تعرفه العرب ولا أئمة العربية وإنما هو من استنباط بعض المتأخرين وقالت طائفة أخرى الواو زائدة والجواب الفعل الذي بعدها كما هو في الآية الثانية وهذا أيضا ضعيف فإن زيادة الواو غير معروف في كلامهم ولا يليق بأفصح الكلام أن يكون فيه حرف زائد لغير معنى ولا فائدة وقالت طائفة ثالثة الجواب محذوف وقوله وفتحت أبوابها عطف على قوله جاؤها وهذا اختيار أبي عبيدة والمبرد والزجاج وغيرهم قال المبرد وحذف الجواب أبلغ عند أهل العلم قال أبو الفتح بن جني وأصحابنا يدفعون زيادة الواو ولا يجيزونه ويرون أن الجواب محذوف للعلم به ________________________________________ بقي أن يقال فما السر في حذف الجواب في آية أهل الجنة وذكره في آية أهل النار فيقال هذا ابلغ في الموضعين فإن الملائكة تسوق أهل النار إليها وأبوابها مغلقة حتى إذا وصلوا إليها فتحت في وجوههم فيفجأهم العذاب بغتة فحين انتهوا إليها فتحت أبوابها بلا مهلة فإن هذا شأن الجزاء المرتب على الشرط أن يكون عقيبه فإنها دار الإهانة والخزى فلم يستأذن لهم في دخولها ويطلب إلى خزنتها أن يمكنوهم من الدخول وأما الجنة فإنها دار الله ودار كرامته ومحل خواصه وأوليائه فإذا انتهوا إليها صادفوا أبوابها مغلقة فيرغبون إلى صاحبها ومالكها أن يفتحها لهم ويستشفعون إليه بأولي العزم من رسله وكلهم يتأخر عن ذلك حتى تقع الدلالة على خاتمهم وسيدهم وأفضلهم فيقول أنا لها فيأتي إلى تحت العرش ويخر ساجدا لربه فيدعه ما شاء الله أن يدعه ثم يأذن له في رفع رأسه وان يسأله حاجته فيشفع إليه سبحانه في فتح ابوابها فيشفعه ويفتحها تعظيما لخطرها وأظهارا لمنزلة رسوله وكرامته عليه وإن مثل هذه الدار هي دار ملك الملوك ورب العالمين إنما يدخل إليها بعد تلك الأهوال العظيمة التي اولها من حين عقل العبد في هذه الدار إلى ان انتهى إليها وما ركبه من الأطباق طبقا بعد طبق وقاساه من الشدائد شدة بعد شدة حتى أذن الله تعالى لخاتم أنبيائه ورسله وأحب خلقه إليه أن يشفع إليه في فتحها لهم وهذا أبلغ وأعظم في تمام النعمة وحصول الفرح والسرور مما يقدر بخلاف ذلك لئلا يتوهم الجاهل أنها بمنزلة الخان الذي يدخله من شاء فجنة الله غالية بين الناس وبينها من العقبات والمفاوز والأخطار مالا تنال إلا به فما لمن أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ولهذه الدار فليعد ________________________________________ يكم طبتم فادخلوها خالدين عنها إلى ما هو أولى به وقد خلق له وهيئ له وتأمل ما في سوق الفريقين إلى الدارين زمرا من فرحة هؤلاء بإخوانهم وسيرهم معهم كل زمرة على حده كل مشتركين في عمل متصاحبين فيه على زمرتهم وجماعتهم مستبشرين أقوياء القلوب كما كانوا في الدنيا وقت اجتماعهم على الخير كذلك يؤنس بعضهم بعضا ويفرح بعضهم ببعض وكذلك أصحاب الدار الأخرى يساقون إليها زمرا يلعن بعضهم بعضا ويتأذى بعضهم ببعض وذلك أبلغ في الخزى والفضيحة والهتيكة من أن يساقوا واحدا واحدا فلا تهمل تدبر قوله زمرا وقال خزنة أهل الجنة لأهلها سلام عليكم فبدؤهم بالسلام المتضمن للسلامة من كل شر ومكروه أي سلمتم فلا يلحقكم بعد اليوم ما تكرهون ثم قال لهم طبتم فادخلوها خالدين أي سلامتكم ودخولها بطيبكم فإن الله حرمها إلا على الطيبين فبشروهم بالسلامة والطيب والدخول والخلود وأما أهل النار فإنهم لما انتهوا إليها على تلك الحال من الهم والغم والحزن وفتحت لهم أبوابها وقفوا عليها وزيدوا على ما هم عليه توبيخ خزنتها وتكبيتهم لهم بقولهم ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا فاعترفوا وقالوا بلى فبشروهم بدخولها والخلود فيها وإنها بئس المثوى لهم وتأمل قول خزنة الجنة لأهلها أدخلوها وقول خزنة النار لأهلها أدخلوا أبواب جهنم تجد تحته سرا لطيفا ومعنى بديعا لا يخفى على المتأمل وهو أنها لما كانت دار العقوبة وأبوابها أفظع شيء وأشده حرا وأعظمه عما يستقبل فيها الداخل من العذاب ما هو أشد منها ويدنوا من الغم والخزي والحزن والكرب بدخول الأبواب فقيل ادخلوا أبوابها صغارا لهم وأذلالا وخزيا ثم قيل لهم لا يقتصر بكم على مجرد دخول الأبواب الفظيعة ولكن وراءها الخلود في النار وأما الجنة فهي دار الكرامة والمنزل الذي أعده الله لأوليائه فبشروا من أول وهلة بالدخول إلى المقاعد والمنازل والخلود فيها وتأمل قوله سبحانه جنات عدن مفتحة لهم ________________________________________ الأبواب متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب كيف تجد تحته معنى بديعا وهو أنهم إذا دخلوا الجنة لم تغلق أبوابها عليهم بل تبقى مفتحة كما هي وأما النار فإذا دخلها أهلها أغلقت عليهم أبوابها كما قال تعالى إنها عليهم مؤصدة أي مطبقة ومنه سمي الباب وصيدا وهي مؤصدة في عمد ممددة قد جعلت العمد ممسكة للأبواب من خلفها كالحجر العظيم الذي يجعل خلف الباب قال مقاتل يعني أبوابها عليهم مطبقة فلا يفتح لها باب ولا يخرج منها غم ولا يدخل فيها روح آخر الأبد وأيضا فإن في تفتيح الأبواب لهم إشارة إلى تصرفهم وذهابهم وإيابهم وتبوئهم في الجنة حيث شاؤا ودخول الملائكة عليهم كل وقت بالتحف والألطاف من ربهم ودخول ما يسرهم عليهم كل وقت وأيضا إشارة إلى أنها دار أمن لا يحتاجون فيها إلى غلق الأبواب كما كانوا يحتجون إلى ذلك في الدنيا أهـ { حادى الأرواح صـ 88 ـ 94 } قال سبحانه وتعالى وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين فحذف فاعل القول لأنه غير معين بل كل أحد يحمده على ذلك الحكم الذي حكم فيه فيحمده أهل السموات وأهل الأرض والأبرار والفجار والإنس والجن حتى أهل النار قال الحسن أو غيره لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه سبيلا وهذا والله أعلم هو السر الذي حذف لأجله الفاعل في قوله قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها وقوله وقيل ادخلا النار مع الداخلين كأن الكون كله نطق بذلك وقاله لهم والله تعالى أعلم بالصواب أهـ { روضة المحبين صـ 25 } ________________________________________ سورة غافر قوله تعالى { وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل } قرأ أهل الكوفة على البناء للمفعول حملا على زين وقرأ الباقون وصد بفتح الصاد ويحتمل وجهين أحدهما أعرض فيكون لازما والثاني يكون صد غيره فيكون متعديا والقراءتان كالآيتين لا يتناقضان وأما الشد على القلب ففي قوله تعالى وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في المياه الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا أطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما فهذا الشد على القلب هو الصد والمنع ولهذا قال ابن عباس يريدا منعها والمعنى قسها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان وهذ ا مطابق لما في التوراة إن الله سبحانه قال لموسى اذهب إلى فرعون فإني سأقسى قلبه فلا يؤمن حتى تظهر آياتي وعجائبي بمصر وهذا الشد والتقسية من كمال عدل الرب سبحانه في أعدائه جعله عقوبة لهم على كفرهم واعراضهم كعقوبته لهم بالمصائب ولهذا كان محمودا عليه فهو حسن منه وأقبح شيء منهم فإنه عدل منه وحكمة وهو ظلم منهم وسفه فالقضاء والقدر فعل عادل حكيم غنى عليم يضع الخير والشر في أليق المواضع بهما والمقضى المقدر يكون ظلما وجورا وسفها وهو فعل جاهل ظالم سفيه أهـ { شفاء العليل صـ 96 } سورة فصلت قوله تعالى { فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات } فلا ريب أن الأيام التي أوقع الله سبحانه فيها العقوبة بأعدائه وأعداء رسله كانت أياما نحسات عليهم لأن النحس أصابهم فيها وإن كانت أيام خير لأوليائه المؤمنين فهي نحس على المكذبين سعد المؤمنين وهذا كيوم القيامة فإنه عسير على الكافرين يوم نحس لهم يسير على المؤمنين يوم سعد لهم قال مجاهد أيام نحسات مشائيم وقال الضحاك معناه شديد أي البرد حتى كان البرد عذابا لهم قال أبو علي وأنشد الاصمعي في النحس بمعنى البرد : كان سلافة عرضت بنحس ... يحيل شفيفها الماء الزلالا ________________________________________ وقال ابن عباس نحسات متتابعات وكذلك قوله إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر وكان اليوم نحسا عليهم لإرسال العذاب عليهم أي لا يقلع عنهم كما تقلع مصائب الدنيا عن أهلها بل هذا النحس دائم على هؤلاء المكذبين للرسل ومستمر صفة للنحس لا لليوم ومن ظن أنه صفة لليوم وانه كان يوم أربعاء آخر الشهر وأن هذا اليوم نحس أبدا فقد غلط واخطأ فهم القرآن فان اليوم المذكور بحسب ما يقع فيه وكم لله من نعمة على أوليائه في هذا اليوم وان كان له فيه بلايا ونقم على أعدائه كما يقع ذلك في غيره من الأيام فسعود الأيام ونحوسها إنما هو بسعود الأعمال وموافقتها لمرضاة الرب ونحوس الأعمال مخالفتها لما جاءت به الرسل واليوم الواحد يكون يوم سعد لطائفة ونحس لطائفه كما كان يوم بدر يوم سعد للمؤمنين ويوم نحس على الكافرين فما للكوكب والطالع والقرانات وهذا السعد والنحس وكيف يستنبط علم أحكام النجوم من ذلك ولو كان المؤثر في هذا النحس هو نفس الكوكب والطالع لكان نحسا على العالم فأما أن يقتضي الكوكب كونه نحسا لطائفة سعدا لطائفة فهذا هوالمحال أهـ { مفتاح دار السعادة حـ 1 صـ 204 ـ 205 } قوله تعالى { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين } فصلت 33 وقال تعالى قل هذه سبيلي ادعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني يوسف 108 وسواء كان المعنى انا ومن اتبعني يدعو إلى الله على بصيرة أو كان الوقف عند قوله ادعو إلى الله ثم يبتدئ على بصيرة انا ومن اتبعني فالقولان متلازمان فإنه امره سبحانه أن يخبر أن سبيله الدعوة إلى الله فمن دعا إلى الله تعالى فهو على سبيل رسوله وهو على بصيرة وهو من اتباعه ومن دعا إلى غير ذلك فليس على سبيله ولا هو على بصيرة ولا هو من اتباعه ________________________________________ فالدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة المرسلين واتباعهم وهم خلفاء الرسل في أممهم والناس تبع لهم والله سبحانه قد أمر رسوله أن يبلغ ما انزل اليه وضمن له حفظه وعصمته من الناس وهكذا المبلغون عنه من أمته لهم من حفظ الله وعصمته اياهم بحسب قيامهم بدينه وتبليغهم لهم وقد أمر النبي بالتبليغ عنه ولو آية ودعا لمن بلغ عنه ولو حديثا وتبليغ سنته إلى الأمة افضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو لأن ذلك التبليغ يفعله كثير من الناس واما تبليغ السنن فلا تقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه وهم كما قال فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبته التي ذكرها ابن وضاح في كتاب الحوادث والبدع له قال الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الاذى ويحيون بكتاب الله أهل العمى كم من قتيل لإبليس قد احيوه وضال تائه قد هدوه بذلوا دماءهم واموالهم دون هلكة العباد فما أحسن اثرهم على الناس واقبح اثر الناس عليهم يقبلونهم في سالف الدهر والى يومنا هذا فما نسيهم ربك وما كان ربك نسيا مريم 64 وجعل قصصهم هدى وأخبر عن حسن مقالتهم فلا تقصر عنهم فإنهم في منزلة رفيعة وان اصابتهم الوضيعة وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليا من اوليائه يذب عنها وينطق بعلاماتها فاغتنموا حضور تلك المواطن وتوكلوا على الله ويكفي في هذا قول النبي لعلي رضي الله عنه لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم وقوله من احيا شيئا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وضم بين اصبعيه وقوله من دعا إلى هدى فاتبع عليه كان له مثل اجر من تبعه إلى يوم القيامة ________________________________________ فمتى يدرك العامل هذا الفضل العظيم والحظ الجسيم بشيء من عمله وانما ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم فحقيق بالمبلغ عن رسول الله الذي اقامه الله سبحانه في هذا المقام أن يفتتح كلامه بحمد الله تعالى والثناء عليه وتمجيده والاعتراف له بالوحدانية وتعريف حقوقه على العباد ثم بالصلاة على رسول الله وتمجيده والثناء عليه أن يختمه أيضا بالصلاة عليه تسليما أهـ { جلاء الأفهام صـ 415 ـ 418 } سورة الشورى قوله تعالى { يذرؤكم فيه } قلت وجه تعلقه بإشارة الآية هو أن الله سبحانه يعيشكم فيما خلق لكم من الأنعام المذكورة قال الكلبي يكثركم في هذا التزيج ولولا هذا التزويج لك لم يكثر النسل والمعنى يخلقكم في هذا الوجه الذي ذكر من جعله لكم أزواجا فإن سبب خلقنا وخلق الحيوان بالأزواج والضمير في قوله فيه يرجع إلى الجعل ومعنى الذرء الخلق وهو هنا الخلق الكثير فهو خلق وتكثير فقيل في بمعنى الباء أي يكثركم بذلك وهذا قول الكوفيين والصحيح أنها على بابها والفعل تضمن معنى ينشئكم وهو يتعدى بفي كما قال تعالى وننشئكم فيما لا تعلمون فهذا تفسير الآية ولما كانت الحياة حياتين حياة الأبدان وحياة الأرواح وهو سبحانه الذي يحيي قلوب أوليائه وأرواحهم بإكرامه ولطفه وبسطه كان ذلك تنمية لها وتكثيرا وذرءا والله أعلم أهـ { مدارج السالكين حـ 3 صـ 191 ـ 192 } قوله تعالى { لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير } الشورى 49 50 ________________________________________ فقسم سبحانه حال الزوجين إلى أربعة أقسام اشتمل عليها الوجود وأخبر أن ما قدره بينهما من الولد فقد وهبهما إياه وكفى بالعبد تعرضا لمقته أن يتسخط ما وهبه وبدأ سبحانه بذكر الإناث فقيل جبرا لهن لأجل استثقال الوالدين لمكانهن وقيل وهو أحسن إنما قدمهن لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء لا ما يشاء الأبوان فان الأبوين لا يريدان إلا الذكور غالبا وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء فبدأ بذكر الصنف الذي يشاء ولا يريده الأبوان وعندي وجه آخر وهو أنه سبحانه قدم ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدوهن أي هذا النوع المؤخر عندكم مقدم عندي في الذكر وتأمل كيف نكر سبحانه الإناث وعرف الذكور فجبر نقص الأنوثة بالتقديم وجبر نقص التأخير بالتعريف فإن التعريف تنويه كأنه قال ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم ثم لما ذكر الصنفين معا قدم الذكور إعطاء لكل من الجنسين حقه من التقديم والتأخير والله أعلم بما أراد من ذلك والمقصود أن التسخط بالإناث من أخلاق الجاهلية الذين ذمهم الله تعالى في قوله وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون النحل 58 59 وقال وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم الزخرف 17 ومن هاهنا عبر بعض المعبرين لرجل قال له رأيت كأن وجهي أسود فقال ألك امرأة حامل قال نعم قال تلد لك أنثى أهـ { تحفة المودود صـ 6 ـ 7 } ________________________________________ قوله عز وجل { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } وقد قيل إن الضمير في ( جعلناه ) عائد إلى الأمر وقيل إلى الكتاب وقيل إلى الإيمان والصواب أنه عائد إلى الروح أي جعلنا ذلك الروح الذي أوحيناه إليك نورا فسماه روحا لما يحصل به من الحياة وجعله نورا لما يحصل به الاشراق والاضاءة وهما متلازمان فحيث وجدت هذه الحياة بهذا الروح وجدت الاضاءة والاستنارة وحيث وجدت الاستنارة والاضاءة وجدت الحياة فمن لم يقبل هذا الروح فهو ميت مظلم كما أن المائي والناري لما يحصل بالماء من الحياة وبالنار من الاشراق والنور كما ضرب ذلك في أول سورة البقرة أهـ { الوابل الصيب صـ 72 } سورة الدخان قوله تعالى { إن المتقين في مقام أمين } والمقام الأمين موضع الإقامة والأمين الآمن من كل سوء وآفة ومكروه وهو الذي قد جمع صفات الأمن كلها فهو آمن من الزوال والخراب وأنواع النقص واهله آمنون فيه من الخروج والنغص والنكد والبلد الأمين الذي قد أمن من أهله فيه مما يخالف منه سواهم وتأمل كيف ذكر سبحانه الأمن في قوله تعالى أن المتقين في مقام أمين وفي قوله تعالى يدعون فيها بكل فاكهة آمنين فجمع لهم بين أمن المكان وأمن الطعام فلا يخافون انقطاع الفاكهة ولا سوء عاقبتها ومضرتها وأمن الخروج منها فلا يخافون ذلك وأمن من الموت فلا يخافون فيها موتا أهـ { حادى الأرواح صـ 70 } ________________________________________ وقال تعالى إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس واستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم بحور عين يدعون فيها بكل فاكهة آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم ربهم عذاب الجحيم فجمع لهم بين حسن المنزل وحصول الأمن فيه من كل مكروه واشتماله على الثمار والأنهار وحسن اللباس وكمال العشرة لمقابلة بعضهم بعضا وتمام اللذة بالحور العين ودعائهم بجميع أنواع الفاكهة مع أمنهم من انقطاعها ومضرتها وغائلتها وختام ذلك أعلمهم بأنهم لا يذوقون فيها هناك موتا والحور جمع حوراء وهي المرأة الشابة الحسناء الجميلة البيضاء شديدة سواد العين وقال زيد بن أسلم الحوراء التي يحار فيها الطرف وعين حسان الأعين وقال مجاهد الحوراء التي يحار فيها الطرف من رقة الجلد وصفاء اللون وقال الحسن الحوراء شديدة بياض العين شديدة سواد العين واختلف في اشتقاق هذه اللفظة فقال ابن عباس الحور في كلام العرب البيض وكذلك قال قتادة الحور البيض وقال مقاتل الحور البيض الوجوه وقال مجاهد الحور العين التي يحار فيهن الطرف باديا مخ سوقهن من وراء ثيابهن ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون وهذا من الإتفاق وليست اللفظة مشتقة من الحيرة وأصل الحور البياض والتحوير التبييض والصحيح أن الحور مأخوذ من الحور في العين وهو شدة بياضها مع قوة سوادها فهو يتضمن الأمرين وفي الصحاح الحور شدة بياض العين في شدة سوادها امرأة حوراء بينة الحور وقال أبو عمرو الحور أن تسود العين كلها مثل أعين الظباء والبقر وليس في بني آدم حور وإنما قيل للنساء حور العين لأنهن شبهن بالظباء والبقر وقال الأصمعي ما أدري ما الحور في العين قلت خالف أبو عمرو أهل اللغة في اشتقاق اللفظة ورد الحور إلى السواد والناس غيره إنما ردوه إلى البياض أو إلى بياض في سواد والحور في العين معنى يلتئم من حسن البياض والسواد وتناسبهما واكتساب كل واحد منهما الحسن من ________________________________________ الآخر عين حوراء إذا اشتد بياض أبيضها وسواد أسودها ولا تسمى المرأة حوراء حتى يكون مع حور عينها بياض لون الجسد والعين جمع عيناء وهي العظيمة العين من النساء ورجل أعين إذا كان ضخم العين وامرأة عيناء والجمعت والجمع عين والصحيح أن العين اللاتي جمعت أعينهن صفات الحسن والملاحة قال مقاتل العين حسان الاعين ومن محاسن المرأة اتساع عينها في طول و ضيق العين في المرأة من العيون و إنما يستحب الضيق منها في أربعة مواضع فيها وخرق أذنها وانفها وما هنالك ويستحب السعة منها في أربعة مواضع ووجهها وصدرها وكأهلها وهو ما بين كتفيها وجبهتها ويستحسن البياض منها في أربعة مواضع لونها وفرقها وثغرها وبياض عينها ويستحب السواد منها في أربعة مواضع عينها وحاجبها وهدبها وشعرها ويستحب الطول منها في أربعة قوامها وعنقها وشعرها وبنانها ويستحب القصر منها في أربعة وهي معنوية لسانها ويدها ورجلها وعينها فتكون قاصر الطرف قصيرة الرجل واللسان عن الخروج وكثرة الكلام قصيرة اليد عن تناول ما يكره الزوج وعن بذله وتستحب الرقة منها في أربعة خصرها وفرقها وحاجبها وانفها فصل ________________________________________ وقوله تعالى وزوجناهم بحور عين قال أبو عبيدة جعلناهم أزواجا كما يزوج النعل بالنعل جعلناهم اثنين اثنين وقال يونس قرناهم بهن وليس من عقد التزويج قال والعرب لا تقول تزوجت بها و إنما تقول تزوجتها قال بن نصر هذا والتنزيل يدل على ما قاله يونس وذلك قوله تعالى فلما قضى زيدا منها وطرا زوجناكها ولو كان على تزوجت بها لقال زوجناك بها وقال ابن سلام تميم تقول تزوجت امرأة وتزوجت بها وحكها الكسائي أيضا وقال الأزهري تقول العرب زوجته امرأة وتزوجت امرأة وليس من كلامهم تزوجت بامرأة وقوله تعالى وزوجناهم بحور عين أي قرناهم وقال الفراء هي لغة في ازدشنؤة قال الواحدي وقال أبي عبيدة في هذا احسن لانه جعله من التزويج الذي هو بمعنى جعل الشيء زوجا لا بمعنى عقد النكاح ومن هذا يجوز أن يقال كان فردا فزوجته بآخر كما يقال شفعته بآخر و إنما تمتنع الباء عند من يمنعها إذا كان بمعنى عقد التزويج قلت ولا يمتنع أن يراد الأمران معا فلفظ التزويج يدل على النكاح كما قال مجاهد أنكحناهم الحور ولفظ الباء تدل على الاقتران والضم وهذا ابلغ من حذفها والله اعلم وقال تعالى فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن انس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان وصفهن سبحانه بقصر الطرف في ثلاثة مواضع ________________________________________ أحدها هذا والثاني قوله تعالى في الصافات وعندهم قاصرات الطرف عين والثالث قوله تعالى في ص وعندهم قاصرات الطرف أتراب والمفسرون كلهم على أن المعنى قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يطمحن إلى غيرهم وقيل قصرن طرف أزواجهن كلهن فلا يدعهم حسنهن وجمالهن أن ينظروا إلى غيرهن وهذا صحيح من جهة المعنى واما من جهةاللفظ فقاصرات صفة مضافة إلى الفاعل لحسان الوجوه واصله قاصر طرفهن أي لبس بطامح متعد قال آدم حدثنا ورقاء عن أبي نجيح عن مجاهد في قوله قاصرات الطرف قال يقول قاصرات الطرف على أزواجهن فلا يبغين غير أزواجهن قال آدم وحدثنا المبارك بن فضلة عن الحسن قال قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم والله ما هن متبرجات ولا متطلعات وقال منصور عن مجاهد قصرن أبصارهن وقلوبهن و أنفسهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم وفي تفسير سعيد عن قتادة قال وقصرن أطرافهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم و أما الأتراب فجمع ترب وهو لذة الإنسان قال أبو عبيدة و أبو إسحاق أقران أسنانهن واحدة قال ابن عباس وسائر المفسرين مستويات على سن واحد وميلاد واحد وبنات ثلاث وثلاثين سنة وقال مجاهد أتراب أمثال قال إسحاق هن في غاية الشباب والحسن وسمي سن الإنسان وقرنه تربه لانه مس تراب الأرض معه في وقت واحد والمعنى من الأخبار باستواء أسنانهن أنهن ليس فيهن عجائز قد فات حسنهن ولا ولائد لا يقطن الوطء بخلاف الذكور فان فيهم الولدان وهم الخدم وقد اختلف في مفسر الضمير في قوله فيهن فقالت طائفة مفسره الجنتان وما حوتاه من القصور والغرف والخيام وقالت طائفة مفسره الفرش المذكورة في قوله متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وفي بمعنى على وقوله تعالى لم يطمثهن انس قبلهن ولا جان قال أبو عبيدة لم يمسهن يقال ما طمث هذا البعير حبل قط أي ما مسه وقال يونس تقول العرب هذا جمل ما طمثه حبل قط أي ما مسه وقال الفراء الطمث الافتضاض وهو النكاح بالتدمية والطمث هو الدم وفيه لغتان طمث يطمث ________________________________________ ويطمث قال الليث طمثت الجارية إذا افتر عتها والطامث في لغتهم هي الحائض قال أبو الهيثم يقال للمرأة طمثت تطمث إذا أدميت بالافتضاض وطمثت على فعلت تطمث إذا حاضت أول ما تحيض فهي طامث وقال في قول الفرزدق خرجن إلى لم يطمثن قبلي ... وهن اصح من بيض النعام أي لم يمسسن قال المفسرون لم يطأهنولم يغشهن يجاملهم ولم يغشين ولم يجامعن هذه ألفاظهم وهم مختلفون في هؤلاء فبعضهم يقول هن اللواتي أنشئن في الجنة من حورها وبعضهم يقول يعني نساء الدنيا أنشئن خلقا آخر ابكارا كما وصفن قال الشعبي نساء من نساء الدنيا لم يمسسن منذ انشئن خلقا وقال مقاتل لأنهن خلقن في الجنة وقال عطاء عن ابن عباس هن الآدميات اللاتي متن أبكارا وقال الكلبي لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه انس ولا جان قلت ظاهر القران أن هؤلاء النسوة لسن من نساء الدنيا وانما هن من الحور حور العين و أما نساء الدنيا فقد طمثهن الإنس ونساء الجن قد طمثهن الجن والاية تدل على ذلك قال أبو إسحاق وفي الآية دليل على أن الجن يغشي كما أن الأنس يغشى ويدل على أنهن الحور اللاتي خلقن في الجنة انه سبحانه جعلهن مما أعده الله في الجنة لأهلها من الفاكهة والثمار و الأنهار والملابس وغيرها ويدل عليه أيضا الآية التي بعدها وهي قوله تعالى حور مقصورات في الخيام ثم قال لم يطمثن انس قبلهم ولا جان قال الإمام احمد والحور العين لا يمتن عند النفخة للصور لأنهن خلقن للبقاء وفي الآية دليل لما ذهب إليه الجمهور أن مؤمن الجن في الجنة كما أن كافرهم في النار وبوب عليه البخاري في صحيحه فقال باب ثواب الجن وعقابهم ونص عليه غير واحد من السلف قال ضمرة بن حبيب وقد سئل هل للجن ثواب فقال نعم وقرا هذه الآية ثم قال الإنسيات للإنس والجنيات للجن وقال مجاهد في هذه الآية إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على احليله فجامع معه والضمير في قوله قبلهم للمعنيين بقوله متكئين وهم أزواج هؤلاء النسوة ________________________________________ وقوله كأنهم الياقوت والمرجان قال الحسن وعامة المفسرين أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان شبههن في صفاء اللون وبياضه وبالياقوت والمرجان ويدل عليه ما قاله عبد الله ان المرأة من النساء أهل الجنة لتلبس عليها سبعين حلة من حرير فيرى بياض ساقيها من ورائهن ذلك بان الله يقول كأنهن الياقوت والمرجان إلا وان الياقوت حجر لو جعلت فيه سلكا ثم استصفيته نظرت إلى السلك من وراء الحجر أهـ { حادى الأرواح صـ 347 ـ 352 } سورة الجاثية قوله تعالى { وجعل على بصره غشاوة } وهذا الغطاء سري إليها من غطاء القلب فإن ما في القلب يظهر على العين من الخير والشر فالعين مرآة القلب تظهر ما فيه وأنت إذا أبغضت رجلا بغضا شديدا أو أبغضت كلامه ومجالسته تجد على عينك غشاوة عند رؤيته ومخالطته فتلك أثر البغض والإعراض عنه وغلظت على الكفار عقوبة لهم على إعراضهم ونفورهم عن الرسول وجعل الغشاوة عليها يشعر بالإحاطة على ما تحته كالعمامة ولما عشوا عن ذكره الذي أنزله صار ذلك العشاء غشاوة على أعينهم فلا تبصر مواقع الهدى أهـ { شفاء العليل صـ 91 } سورة الأحقاف قوله تعالى { حتى إذا بلغ أشده } قال الزجاج الأشد من نحو سبع عشرة سنة الى نحو الأربعين وقال ابن عباس في رواية عطاء عنه الأشد الحلم وهو اختيار يحيى بن يعمر والسدي وروى مجاهد عنه ستا وثلاثين سنة وروى عنه أيضا ثلاثين وقال الضحاك عشرين سنة وقال مقاتل ثمان عشرة وقد أحكم الزهري تحكيم اللفظة فقال بلوغ الأشد يكون من وقت بلوغ الإنسان مبلغ الرجال الى أربعين سنة قال فبلوغ الأشد محصور الأول محصور النهاية غير محصور ما بين ذلك فبلوغ الأشد مرتبة بين البلوغ وبين الأربعين ومعنى اللفظة من الشدة وهي القوة والجلادة والشديد الرجل القوي فالأشد القوي قال الفراء واحدها شدة في القياس ولم أسمع لها بواحد ________________________________________ وقال أبو الهيثم واحدها شدة كنعمة وأنعم وقال بعض أهل اللغة واحدها شدة بضم الشين وقال آخرون منهم هو اسم مفرد كالآنك وليس بجمع حكاهما ابن الأنباري أهـ { تحفة المودود صـ 101 } سورة محمد { صلى الله عليه وسلم } قوله تعالى { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } قال ابن عباس يريد على قلوب هؤلاء أقفال وقال مقاتل يعني الطبع على القلب وكأن القلب بمنزلة الباب المرتج الذي قد ضرب عليه قفل فإنه ما لم يفتح القفل لا يمكن فتح الباب والوصول إلى ما وراءه وكذلك ما لم يرفع الختم والقفل عن القلب لم يدخل الإيمان والقرآن وتأمل تنكير القلب وتعريف الأقفال فإن تنكير القلوب يتضمن إرادة قلوب هؤلاء وقلوب من هم بهذه الصفة ولو قال أم على القلوب أقفالها لم تدخل قلوب غيرهم في الجملة وفي قوله أقفالها بالتعريف نوع تأكيد فإنه لو قال اقفال لذهب الوهم إلى ما يعرف بهذا الاسم فلما أضافها إلى القلوب علم أن المراد بها ما هو للقلب بمنزلة القفل للباب فكأنه أراد أقفالها المختصة بها التي لا تكون لغيرها والله أعلم أهـ { شفاء العليل صـ 95 } ________________________________________ سورة الحجرات قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ } قوله تعالى {وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } الآية وقوله { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ } الآية فإن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط لما بعثه رسول الله إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقا وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية فلما سمع القوم بمقدمه تلقوه تعظيما لأمر رسول الله فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله فقال إن بني المصطلق منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلى فغضب رسول الله وهم أن يغزوهم فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله فقالوا يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله فبدا له في الرجوع فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله فاتهمهم رسول الله وبعث خالد بن الوليد خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدومه وقال له انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار ففعل ذلك خالد ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم ير منهم إلا الطاعة والخير فرجع إلى رسول الله وأخبره الخبر فنزل يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا الآية والنبأ هو الخبر الغائب عن المخبر إذا كان له شأن والتبين طلب بيان حقيقة والإحاطة بها علما ________________________________________ وههنا فائدة لطيفة وهي أنه سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق وتكذيبه ورد شهادته جملة وإنما أمر بالتبين فإن قامت قرائن وأدلة من خارج تدل على صدقه عمل بدليل الصدق ولو أخبر به من أخبر فهكذا ينبغي الإعتماد في رواية الفاسق وشهادته وكثير من الفاسقين يصدقون في أخبارهم ورواياتهم وشهاداتهم بل كثير منهم يتحرى الصدق غاية التحري وفسقه من جهات أخر فمثل هذا لا يرد خبره ولا شهادته ولو ردت شهادة مثل هذا وروايته لتعطلت أكثر الحقوق وبطل كثير من الأخبار الصحيحة ولا سيما من فسقه من جهة الإعتقاد والرأي وهو متحر للصدق فهذا لا يرد خبره ولا شهادته وأما من فسقه من جهة الكذب فإن كثر منه وتكرر بحيث يغلب كذبه على صدقه فهذا لا يقبل خبره ولا شهادته وإن ندر منه مرة ومرتين ففي رد شهادته وخبره بذلك قولان للعلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد رحمه الله والمقصود ذكر الفسوق الذي لا يخرج إلى الكفر والفسوق الذي تجب التوبة منه أعم من الفسوق الذي ترد به الرواية والشهادة وكلامنا الآن فيما تجب التوبة منه وهو قسمان فسق من جهة العمل وفسق من جهة الإعتقاد ففسق العمل نوعان مقرون بالعصيان ومفرد فالمقرون بالعصيان هو ارتكاب ما نهى الله عنه والعصيان هو عصيان أمره كما قال الله تعالى لا يعصون الله ما أمرهم وقال موسى لأخيه هرون عليهما السلام ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري وقال الشاعر أمرتك أمرا جازما فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما فالفسق أخص بارتكاب النهى ولهذا يطلق عليه كثيرا كقوله تعالى وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم والمعصية أخص بمخالفة الأمر كما تقدم ويطلق كل منهما على صاحبه كقوله تعالى إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه فسمى مخالفته للأمر فسقا وقال وعصى آدم ربه فغوى فسمى ارتكابه للنهي معصية فهذا عند الإفراد فإذا اقترنا كان أحدهما لمخالفة الأمر والآخر لمخالفة النهي ________________________________________ والتقوى اتقاء مجموع الأمرين وبتحقيقها تصح التوبة من الفسوق والعصيان بأن يعمل العبد بطاعة الله على نور من الله يرجو ثواب الله ويترك معصية الله على نور من الله يخاف عقاب الله وفسق الإعتقاد كفسق أهل البدع الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر ويحرمون ما حرم الله ويوجبون ما أوجب الله ولكن ينفون كثيرا مما أثبت الله ورسوله جهلا وتأويلا وتقليدا للشيوخ ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله كذلك وهؤلاء كالخوارج المارقة وكثير من الروافض والقدرية والمعتزلة وكثير من الجهمية الذين ليسوا غلاة في التجهم وأما غالية الجهمية فكغلاة الرافضة ليس للطائفتين في الإسلام نصيب ولذلك أخرجهم جماعة من السلف من الثنتين والسبعين فرقة وقالوا هم مباينون للملة وليس مقصودنا الكلام في أحكام هؤلاء وإنما المقصود تحقيق التوبة من هذه الأجناس العشرة فالتوبة من هذا الفسوق بإثبات ما أثبته الله لنفسه ورسوله من غير تشبيه ولا تمثيل وتنزيهه عما نزه نفسه عنه ونزهه عنه رسوله من غير تحريف ولا تعطيل وتلقى النفي والإثبات من مشكاة الواحي لا من آراء الرجال ونتائج أفكارهم التي هي منشأ البدعة والضلالة فتوبة هؤلاء الفساق من جهة الإعتقادات الفاسدة بمحض اتباع السنة ولا يكتفى منهم بذلك أيضا حتى يبينوا فساد ما كانوا عليه من البدعة إذ التوبة من ذنب هي بفعل ضده ولهذا شرط الله تعالى في توبة الكاتمين ما أنزل الله من البينات والهدى البيان لأن ذنبهم لما كان بالكتمان كانت توبتهم منه بالبيان قال الله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم وذنب المبتدع فوق ذنب الكاتم لأن ذاك كتم الحق وهذا كتمه ودعا إلى خلافه فكل مبتدع كاتم ولا ينعكس ________________________________________ وشرط في توبة المنافق الإخلاص لأن ذنبه بالرياء فقال تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ثم قال إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عليما ولذلك كان الصحيح من القولين أن توبة القاذف إكذابه نفسه لأنه ضد الذنب الذي ارتكبه وهتك به عريض المسلم المحصن فلا تحصل التوبة منه إلا بإكذابه نفسه لينتفي عن المقذوف العار الذي ألحقه به بالقذف وهو مقصود التوبة وأما من قال إن توبته أن يقول أستغفر الله من القذف ويعترف بتحريمه فقول ضعيف لأن هذا لا مصلحة فيه للمقذوف ولا يحصل له به براءة عرضه مما قذفه به فلا يحصل به مقصود التوبة من هذا الذنب فإن فيه حقين حقا لله وهو تحريم القذف فتوبته منه باستغفاره واعترافه بتحريم القذف وندمه عليه وعزمه على أن لا يعود وحقا للعبد وهو إلحاق العار به فتوبته منه بتكذيبه نفسه فالتوبة من هذا الذنب بمجموع الأمرين أهـ { مدارج السالكين حـ 1 صـ 360 ـ 364 } ________________________________________ قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم } وهذا من أحسن القياس التمثيلي فإنه شبه تمزيق عرض الأخ بتمزيق لحمه ولما كان المرتاب يمزق عرض أخيه في غيبته كان بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة روحه عنه بالموت ولما كان المغتاب عاجزا عن دفعه عن نفسه بكونه غائبا عن ذمه كان بمنزلة الميت الذي يقطع لحمه ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه ولما كان مقتضى الأخوة التراحم والتواصل والتناصر فعلق عليها المغتاب ضد مقتضاها من الذم والعيب والطعن كان ذلك نظير تقطيع لحم أخيه والأخوة تقتضي حفظه وصيانته والذب عنه ولما كان المغتاب متمتعا بعرض أخيه متفكها بغيبته وذمه متحليا بذلك شبه بآكل لحم أخيه بعد تقطيعه ولما كان المغتاب محبا لذلك معجبا به شبه بمن يحب أن يأكل لحم أخيه ميتا ومحبته لذلك قدر زائد على مجرد أكله كما أن أكله قدر زائد على تمزيقه فتأمل هذا التشبيه والتمثيل وحسن موقعه ومطابقة المعقول فيه المحسوس وتأمل إخباره عنهم بكراهة أكل لحم الأخ ميتا ووصفهم بذلك في آخر الآية والإنكار عليهم في أولها أن يحب أحدهم ذلك فكما أن هذا مكروه في طباعهم فكيف يحبون ما هو مثله ونظيره فاحتج عليهم بما كرهوه على ما أحبوه وشبه لهم ما يحبونه بما هو أكره شيء إليهم وهم أشد شيء نفرة عنه فلهذا يوجب العقل والفطرة والحكمة أن يكونوا أشد شيء نفرة عما هو نظيره ومشبهه وبالله التوفيق أهـ { إعلام الموقعين حـ 1 صـ 203 ـ 204 } قوله تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } فإن قيل : الجنين قبل نفخ الروح فيه هل كان فيه حركة وإحساس أم لا ؟ قيل كان فيه حركة النمو والاغتذاء كالنبات ولم تكن حركة نموه وإغتذائه بالإرادة فلما نفخت فيه الروح انضمت حركة حسيته وإرادته إلى حركة نموه و اغتذائه ________________________________________ فإن قيل : قد ثبت أو الولد يتخلق من ماء الأبوين فهل يتمازجان ويختلطان حتى يصيرا ماء واحدا أو يكون أحدهما هو المادة والآخر بمنزلة الانفحة التي تعقده ؟ قيل هو موضع اختلف فيه أرباب الطبيعة فقالت طائفة منهم : منى الأب لا يكون جزءا من الجنين وإنما هو مادة الروح الساري في الأعضاء وأجزاء البدن كلها من منى الأم ومنهم من قال بل هو ينعقد من منى الأنثى ثم يتحلل ويفسد قالوا : ولهذا كان الولد جزءا من أمه ولهذا جاءت الشريعة بتبعيته لها في الحرية والرق قالوا : ولهذا لو نرى فحل رجل على جارية آخر فأولدها فالولد لمالك الأم دون مالك الفحل لأنه تكون من أجزائها ولحمها ودمها وماء الأب بمنزلة الماء الذي يسقي الأرض قالوا : والحس يشهد أن الأجزاء التي في المولود من أمه أضعاف أضعاف الأجزاء التي فيه من أبيه فثبت أن تكوينه من منى الأم ودم الطمث ومنى الأب عاقد له كالأنفحة ونازعهم الجمهور وقالوا : إنه يتكون من مني الرجل والأنثى ثم لهم قولان : أحدهما أن يكون من منى الذكر أعضاؤه وأجزاؤه ومن منى الأنثى صورته والثاني أن الأعضاء والأجزاء والصورة تكونت من مجموع الماءين وأنهما امتزجا واختلطا وصارا ماء واحدا وهذا هو الصواب لأننا نجد الصورة والتشكيل تارة إلى الأب وتارة إلى الأم والله أعلم وقد دل على هذا قوله تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } والأصل هو الذكر فمنه البذر ومنه السقي والأنثى وعاء ومستودع لولده تربيه في بطنها كما تربيه في حجرها ولهذا كان الولد للأب حكما ونسبا وأما تبعيته للأم في الحرية والرق فلأنه إنما تكون وصار ولدا في بطنها وغذته بلبانها مع الجزء الذي فيه منها وكان الأب أحق بنسبه وتعصيبه لأنه أصله ومادته ونسخته وكان أشرفهما دينا أولى به تغليبا لدين الله وشرعه فإن قيل : فهلا طردتم هذا وقلتم : لو سقط بذر رجل في أرض آخر يكون الزرع لصاحب الأرض دون مالك البذر ؟ ________________________________________ قيل : الفرق بينهما أن البذر مال متقوم في أرض آخر فهو لمالكه وعليه أجرة الأرض أو هو بينهما بخلاف المنى فإنه ليس بمال ولهذا نهى الشارع فيه عن المعارضة واتفق الفقهاء على أن الفحل لو نزا على رمكة كان الولد لصاحب الرمكة فإن قيل : فهل يتكون الجنين من ماءين وواطئين ؟ قيل : هذه مسألة شرعية كونية والشرع فيها تابع للتكوين وقد اختلف فيها شرعا وقدرا فمنعت ذلك طائفة وأبته كل الاباء وقالت : الماء إذا استقر في الرحم اشتمل عليه وانضم غاية الانضمام بحيث لا يبقى فيه مقدار رسم رأس إبرة إلا انسد فلا يمكن انفتاحه بعد ذلك لماء ثان لا من الواطئ ولا من غيره قالوا : وبهذا أجرى الله العادة : أن الولد لا يكون إلا لأب واحد كما لا تكون الأم إلا واحدة وهذا هو مذهب الشافعي وقالت طائفة : بل يتخلق من ماءين فأكثر قالوا : وانضمام الرحم واشتماله على الماء لايمنع قبوله الماء الثاني فإن الرحم أشوق شيء وأقبله للمنى قالوا : ومثال ذلك كمثال المعدة فإن الطعام إذا استقر فيها انضمت عليه غاية الانضمام فإذا ورد عليها طعام فوقه انفتحت له لشوقها إليه قالوا : وقد شهد بهذا القائف بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ولد ادعاه اثنان فنظر إليهما وإليه وقال : ما أراهما إلا اشتركا فيه فوافقه عمر وألحقه بهما ووافقه على ذلك الإمام أحمد ومالك رضي الله عنهما قالوا : والحسن يشهد بذلك كما ترى في جراء الكلبة والستور تأتي بها مختلفة الألوان لتعدد آبائها وقد قال النبي ؟ [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقى ماءه زرع غيره ] يريد وطء الحامل من غير الواطىء قال الإمام أحمد : الوطء يزيد في سمع الولد وبصره هذا بعد انعقاده أهـ { التبيان فى أقسام القرآن صـ 218 ـ 220 } سورة { ق } قوله تعالى { إن فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } اذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه ________________________________________ والق سمعك واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه اليه فانه خاطب منه لك على لسان رسوله قال تعالي ان في ذلك لذكري لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد وذلك ان تمام التأثير لما كان موقوفا على مؤثر مقتض ومحل قابل وشرط لحصول الأثر وانتفاء المانع الذي يمنع منه تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدله على المراد فقوله ان في ذلك لذكري اشار الى ما تقدم من أول السورة الى ههنا وهذا هو المؤثر وقوله لمن كان له قلب فهذا هو المحل القابل والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله كما قال تعالى إن هو الا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا أي حي القلب وقوله أو ألقى السمع أي وجه سمعه وأصغى حاسة سمعه الى ما يقال له وهذا شرط التأثر بالكلام وقوله وهو شهيد أي شاهد القلب حاضر غير غائب قال ابن قتيبة استمع كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم ليس بغافل ولا ساه وهو اشارة الى المانع من حصول التأثير وهو سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له والنظر فيه وتأمله فاذا حصل المؤثر وهو القرآن والمحل القابل وهو القلب الحي ووجد الشرط وهو الاصغاء وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه الي شيء آخر حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر فان قيل اذا كان التأثير إنما يتم بمجموع هذه فما وجه دخول أداة أو في قوله ________________________________________ أو القى السمع والموضع موضع واو الجمع لا موضع أو التي هي لأحد الشيئين قيل هذا سؤال جيد والجواب عنه أن يقال خرج الكلام بأو باعتبار حال المخاطب المدعو فأن من الناس من يكون حي القلب واعيه تام الفطرة فإذا فكر بقلبه وجال بفكره دله قلبه وعقله على صحة القرآن وأنه الحق وشهد قلبه بما أخبر به القرآن فكان ورود القرآن على قلبه نورا على نور الفطرة وهذا وصف الذين قيل فيهم ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل اليك من ربك هو الحق وقال في حقهم الله نور السموات والارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء فهذا نور الفطرة على نور الوحي وهذا حال صاحب القلب الحي الواعي قال ابن القيم وقد ذكرنا ما تضمنت هذه الآية من الأسرار والعبر في كتاب اجتماع الجيوش الاسلامية على غزو المعطلة والجهمية فصاحب القلب يجمع بين قلبه وبين معاني القرآن فيجدها كأنها قد كتبت فيه فهو يقرأها عن ظهر قلب ومن الناس من لا يكون تام الاستعداد واعي القلب كامل الحياة فيحتاج الى شاهد يميز له بين الحق والباطل ولم تبلغ حياة قلبه ونوره وزكاء فطرته مبلغ صاحب القلب الحي الواعي فطريق حصول هدايته ان يفرغ سمعه للكلام وقلبه لتأمله والتفكير فيه وتعقل معانيه فيعلم حينئذ انه الحق فالأول حال من رأى بعينه ما دعى اليه وأخبر به والثاني حال من علم صدق المخبر وتيقنه وقال يكفيني خبره فهو في مقام الايمان والأول في مقام الاحسان هذا قد وصل الى علم اليقين وترقي قلبه منه الى فنزلة عين اليقين وذاك معه التصديق الجازم الذي خرج به من الكفر ودخل به في الاسلام فعين اليقين نوعان نوع في الدنيا ونوع في الآخرة فالحاصل في الدنيا نسبته الى القلب كنسبة الشاهد الى العين وما أخبرت به الرسل من الغيب يعاين في الآخرة بالابصار وفي لدنيا ________________________________________ بالبصائر فهو عين يقين في المرتبتين أهـ { الفوائد صـ 3 ـ 5 } ________________________________________ سورة الذاريات يقول سبحانه { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى اهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون } الذاريات 23 27 ففي هذا الثناء على إبراهيم من وجوه متعددة أحدها انه وصف ضيفه بأنهم مكرمون وهذا على أحد القولين انه اكرام إبراهيم لهم انهم المكرمون عند الله ولا تنافي بين القولين فالاية تدل على المعنيين الثاني قوله تعالى إذ دخلوا عليه فلم يذكر استئذانهم ففي هذا دليل على انه كان قد عرف بإكرام الضيفان واعتياد قراهم فبقي منزله مضيفة مطروقا لمن ورده لا يحتاج إلى الاستئذان بل استئذان الداخل دخوله وهذا غاية ما يكون من الكرم الثالث قوله لهم سلام بالرفع وهم سلموا عليه بالنصب والسلام بالرفع اكمل فإنه يدل على الجملة الاسمية الدالة على الثبوت والتجدد والمنصوب يدل على الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد فإبراهيم حياهم احسن من تحيتهم فإن قولهم سلاما يدل على سلمنا سلاما وقوله سلام أي سلام عليكم الرابع انه حذف من قوله قوم منكرون فإنه لما انكرهم ولم يعرفهم احتشم من مواجهتهم بلفظ ينفر الضيف لو قال انتم قوم منكرون فحذف المبتدأ هنا من ألطف الكلام الخامس انه بنى الفعل للمفعول وحذف فاعله فقال منكرون ولم يقل أني انكركم وهو احسن في هذا المقام وابعد من التنفير والمواجهة بالخشونة السادس انه راغ إلى اهله ليجيئهم بنزلهم والروغان هو الذهاب في اختفاء بحيث لا يكاد يشعر به الضيف وهذا من كرم رب المنزل المضيف أن يذهب في اختفاء بحيث لا يشعر به الضيف فيشق عليه ويستحي فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام بخلاف من يسمع ضيفه ويقول له أو لمن حضر مكانكم حتى آتيكم بالطعام ونحو ذلك مما يوجب حياء الضيف واحتشامه السابع انه ذهب إلى اهله فجاء بالضيافة فدل على أن ذلك كان معدا عندهم مهيئا للضيفان ولم يحتج أن يذهب إلى غيرهم من جيرانه أو غيرهم فيشتريه أو يستقرضه ________________________________________ الثامن قوله تعالى فجاء بعجل سمين دل على خدمته للضيف بنفسه ولم يقل فأمر لهم بل هو الذي ذهب وجاء به بنفسه ولم يبعثه مع خادمه وهذا ابلغ في اكرام الضيف التاسع انه جاء بعجل كامل ولم يأت ببضعة منه وهذا من تمام كرمه العاشر انه سمين لا هزيل ومعلوم أن ذلك من أفخر اموالهم ومثله يتخذ للاقتناء والتربية فآثر به ضيفانه الحادي عشر انه قربه اليهم بنفسه ولم يأمر خادمه بذلك الثاني عشر انه قربه ولم يقربهم اليه وهذا ابلغ في الكرامة أن يجلس الضيف ثم يقرب الطعام اليه ويحمله إلى حضرته ولا يضع الطعام في ناحية ثم يأمر الضيف بأن يتقرب اليه الثالث عشر انه قال ألا تأكلون وهذا عرض وتلطف في القول وهو احسن من قوله كلوا أو مدوا ايديكم وهذا مما يعلم الناس بعقولهم حسنه ولطفه ولهذا يقولون بسم الله أو ألا تتصدق أو إلا تجبر ونحو ذلك الرابع عشر انه إنما عرض عليهم الاكل لانه رآهم لا يأكلون ولم يكن ضيوفه يحتاجون معه إلى الآذن في الاكل بل كان إذا قدم اليهم الطعام اكلوا وهؤلاء الضيوف لما امتنعوا من الاكل قال لهم إلا تأكلون ولهذا اوجس منهم خيفة أي احسها واضمرها في نفسه ولم يبدها لهم وهو الوجه الخامس عشر فإنهم لما امتنعوا من آكل طعامه خاف منهم ولم يظهر لهم ذلك فلما علمت الملائكة منه ذلك قالوا لا تخف وبشروه بالغلام فقد جمعت هذه الاية اداب الضيافة التي هي اشرف الآداب وما عداها من التكلفات التي هي تخلف وتكلف إنما هي من اوضاع الناس وعوائدهم وكفى بهذه الاداب شرفا وفخرا فصلى الله على نبينا وعلى إبراهيم وعلى آلهما وعلى سائر النبيين وقد شهد الله سبحانه بأنه وفى ما أمر به فقال تعالى أم لم ينبأ بما في صحف موسى وابراهيم الذي وفى النجم 36 37 قال ابن عباس رضي الله عنهما وفي جميع شرائع الإسلام ووفى ما أمر به من تبليغ الرسالة ________________________________________ وقال تعالى واذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال أني جاعلك للناس اماما البقرة 124 فلما أتم ما أمر به من الكلمات جعله الله اماما للخلائق يأتمون به وكان كما قيل قلبه للرحمن وولده للقربان وبدنه للنيران وماله للضيفان ولما اتخذه ربه خليلا والخلة هي كمال المحبة وهي مرتبة لا تقبل المشاركة والمزاحمة وكان قد سأل ربه أن يهب له ولدا صالحا فوهب له اسماعيل فأخذ هذا الولد شعبة من قلبه فغار الخليل على قلب خليله أن يكون فيه مكان لغيره فامتحنه بذبحه ليظهر سر الخلة في تقديمه محبة خليله على محبة ولده فلما استسلم لأمر ربه وعزم على فعله وظهر سلطان الخلة في الاقدام على ذبح الولد ايثارا لمحبة خليله على محبته نسخ الله ذلك عنه وفداه بالذبح العظيم لأن المصلحة في الذبح كانت ناشئة من العزم وتوطين النفس على ما أمر به فلما حصلت هذه المصلحة عاد الذبح مفسدة فنسخ في حقه فصارت الذبائح والقرابين من الهدايا والضحايا سنة في اتباعه إلى يوم القيامة وهو الذي فتح للأمة باب مناظرة المشركين واهل الباطل وكسر حججهم وقد ذكر الله سبحانه مناظراته في القرآن مع امام المعطلين ومناظرته مع قومه المشركين وكسر حجج الطائفتين بأحسن مناظرة واقربها إلى الفهم وحصول العلم قال تعالى وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء الأنعام 83 قال زيد بن اسلم وغيره بالحجة والعلم أهـ { جلاء الأفهام صـ 181 ـ 184 } ________________________________________ سورة الطور قال تعالى { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم و ما ألتناهم من عملهم من شيء } و روى قيس عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله إن الله ليرفع ذرية المؤمن إليه في درجته و إن كانوا دونه في العمل لتقربهم عينه ثم قرا و الذين آمنوا و اتبعناهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم و ما التناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين قال ما نقصنا الآباء مما أعطينا البنين و ذكر ابن مردويه في تفسيره من حديث شريك عن سالم الافطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال شريك أظنه حكاه عن النبي قال إذا دخل الرجل الجنة سال عن أبويه و زوجته و ولده فيقال انهم لم يبلغوا درجتك أو عملك فيقول يا رب قد عملت لي و لهم فيؤمر بالإلحاق بهم ثم تلا ابن عباس و الذين آمنوا و اتبعناهم ذرياتهم بإيمان إلى آخر الآية و قد اختلف المفسرون في الذرية في هذه الآية هل المراد بها الصغار أو الكبار أو النوعان على ثلاثة أقوال و اختلافهم مبني على إن قوله بإيمان حال من الذرية و التابعين أو المؤمنين المتبوعين فقالت طائفة المعنى و الذين آمنوا و اتبعناهم ذرياتهم في إيمانهم فأتوا من الإيمان بمثل ما أتوا به و الحقناهم بهم في الدرجات قالوا و يدل على هذا قراءة من قرا و اتبعتم ذريتهم فجعل الفعل في الاتباع لهم قالوا و قد أطلق الله سبحانه الذرية على الكبار كما قال و من ذريته داود و سليمان قال ذرية من حملنا مع نوح و قال و كنا ذرية من بعدهم افتهلكنا بما فعل المبطلون و هذا قول الكبار و العقلاء قالوا و يدل على ذلك متا رواه قول سعيد بن جبير عن ابن عباس يرفعه إن الله يرفع ذرية المؤمن إلى درجته و إن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه فهذا يدل على انهم دخلوا الجنة بأعمالهم و لكن لم يكن لهم أعمال يبلغوا بها درجة آبائهم فبلغهم إياها و إن تقاصر عملهم عنها قالوا أيضا فالأيمان هو القول و العمل و النية و هذا ________________________________________ إنما يمكن من الكبار و على هذا فيكون المعنى إن الله سبحانه يجمع ذرية المؤمن إليه إذا أتوا من الإيمان بمثل إيمانه إذ هذا حقيقة التبعية و إن كانوا دونه في الإيمان رفعهم الله إلى درجته إقرارا لعينه و تكميلا لنعيمه و هذا كما إن زوجات النبي معه في الدرجة تبعا و إن لم يبلغوا تلك الدرجة بأعمالهن و قالت طائفة أخرى الذرية ههنا الصغار و المعنى و الذين آمنوا و اتبعناهم ذرياتهم في إيمان الآباء و الذرية تتبع الآباء و إن كانوا صغارا في الإيمان و إحكامه من الميراث و الدية و الصلاة عليهم و الدفن في قبور المسلمين و غير ذلك ألا فيما كان من أحكام البالغين و يكون قوله بإيمان على هذا في موضع نصب على الحال من المفعولين أي و اتبعناهم ذرياتهم بإيمان الآباء قالوا و يدل على صحة هذا القول البالغين لهم حكم أنفسهم في الثواب و العقاب فانهم مستقلون بأنفسهم ليسوا تابعين الآباء في شيء من أحكام الدنيا و لا أحكام الثواب و العقاب لاستقلالهم بأنفسهم و لو كان المراد بالذرية البالغين لكن أولاد الصحابة البالغون كلهم في درجة آبائهم و تكون أولاد التابعين البالغون كلهم في درجة آبائهم و هلم جرا إلى يوم القيامة فيكون الآخرون في درجة السابقين قالوا و يدل عليه أيضا انه سبحانه جعلهم معهم تيعا في الدرجة كما جعلهم تبعا معهم في الايمان ولو كانوا بالغين لم يكن ايمانهم تبعا بل ايمان استقلال قالوا ويدل عليه ان الله سبحانه و تعالى جعل المنازل في الجنة بحسب الأعمال في حق المستقلين و أما الاتباع فان الله سبحانه و تعالى يرفعهم إلى درجة أهليهم و إن لم يكن لهم أعمالهم كما تقدم وايضا فالحور العين والخدم في درجة اهليهم وان لم يكن لهم عمل بخلاف المكلفين البالغين فانهم يرفعون إلى حيث بلغتهم أعمالهم و قالت فرقة منهم الواحدي الوجه إن تحمل الذرية الصغار و الكبار لان الكبير يتبع الأب بإيمان نفسه ________________________________________ و الصغير يتبع الأب بإيمان الأب قالوا والذرية تقع على الصغير و الكبير و الواحد و الكثير و الابن و الأب كما قال تعالى و آية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون أي آباءهم و الإيمان يقع على الإيمان التبعي و على الاختياري الكسبي فمن وقوعه على التبعي قوله فتحرير رقبة مؤمنة فلو اعتق صغيرا جاز قالوا و أقوال السلف تدل على هذا قال سعيد بن جبير عن ابن عباس إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته و إن كانوا دونه في العمل لتقربهم عيونهم ثم قرا هذه الآية و قال ابن مسعود في هذه الآية الرجل يكون له القدم و يكون له الذرية فيدخل الجنة فيرفعون إليه لتقر بهم عينه و إن لم يبلغوا ذلك و قال أبو مجلز يجمعهم الله له كما كان يحب إن يجتمعوا في الدنيا و قال الشعبي ادخل الله الذرية بعمل الآباء الجنة و قال الكلبي عن ابن عباس إن كان الآباء ارفع درجة من الأبناء رفع الله الأبناء إلى الآباء و إن كان الأبناء ارفع درجة من الآباء رفع الله الآباء إلى الأبناء و قال إبراهيم أعطوا مثل أجور آبائهم و لم ينقص الآباء من أجورهم شيئا وقال ويدل على صحة هذا القول إن القراءتين كالآيتين فمن قرا واتبعتهم ذريتهم فهذا من حق البالغين الذين تصح نسبة الفعل إليهم كما قال تعالى و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار ا و الذين اتبعوهم بإحسان و من قرا و اتبعناهم ذرياتهم فهذا في حق الصغار الذين اتبعهم الله إياهم في الإيمان حكما فدلت القراءتان على النوعين قلت و اختصاص الذرية ههنا بالصغار اظهر لئلا يلزم استواء المتأخرين بالسابقين في الدرجات و لا يلزم مثل هذا في الصغار فان أطفال كل رجل و ذريته معه في درجته و الله اعلم أهـ { حادى الأرواح صـ 239 ـ 244 } سورة النجم قال الله تعالى { ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدني } آيس العقول فقطع البحث بقوله أو أدنى ________________________________________ كأن الشيخ فهم من الآية أن الذي دنى فتدلى فكان من محمد قاب قوسين أو أدنى هو الله عز وجل وهذا وإن قاله جماعة من المفسرين فالصحيح أن ذلك هو جبريل عليه الصلاة والسلام فهو الموصوف بما ذكر من أول السورة إلى قوله ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى هكذا فسره النبي في الحديث الصحيح قالت عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله عن هذه الآية فقال جبريل لم أره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين ولفظ القرآن لا يدل على ذاك غير ذلك من وجوه أحدها أنه قال علمه شديد القوى وهذا جبريل الذي وصفه الله بالقوة في سورة التكوير فقال إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين الثاني أنه قال ذو مرة أي حسن الخلق وهو الكريم المذكور في التكوير الثالث أنه قال فاستوى وهو بالأفق الأعلى وهو ناحية السماء العليا وهذا استواء جبريل بالأفق الأعلى وأما استواء الرب جل جلاله فعلى عرشه الرابع أنه قال ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فهذا دنو جبريل وتدليه إلى الأرض حيث كان رسول الله وأما الدنو والتدلي في حديث المعراج فرسول الله كان فوق السموات فهناك دنى الجبار جل جلاله منه وتدلى فالدنو والتدلي في الحديث غير الدنو والتدلي في الآية وإن اتفقا في اللفظ الخامس أنه قال ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى والمرئي عند السدرة هو جبريل قطعا وبهذا فسره النبي فقال لعائشة ذاك جبريل السادس أن مفسر الضمير في قوله ولقد رآه وفي قوله ثم دنى فتدلى وفي قوله فاستوى وفي قوله وهو بالأفق الأعلى واحد فلا يجوز أن يخالف بين المفسر والمفسر من غير دليل السابع أنه سبحانه ذكر في هذه السورة الرسولين الكريمين الملكي والبشري ونزه البشرى عن الضلال والغواية ونزه الملكي عن أن يكون شيطانا قبيحا ضعيفا بل هو قوي كريم حسن الخلق وهذا نظير الوصف المذكور في سورة التكوير سواء ________________________________________ الثامن أنه أخبر هناك أنه رآه بالأفق المبين وههنا أخبر أنه رآه بالأفق الأعلى وهو واحد وصف بصفتين فهو مبين وهو أعلى فإن الشيء كلما علا بان ظهر التاسع أنه قال ذو مرة والمرة الخلق الحسن المحكم فأخبر عن حسن خلق الذي علم النبي ثم ساق الخبر كله عنه نسقا واحدا العاشر أنه لو كان خبرا عن الرب تعالى لكان القرآن قد دل على أن رسول الله رأى ربه سبحانه مرتين مرة بالأفق ومرة عند السدرة ومعلوم أن الأمر لو كان كذلك لم يقل النبي لأبي ذر وقد سأله هل رأيت ربك فقال نور أنى أراه فكيف يخبر القرآن أنه رآه مرتين ثم يقول رسول الله أنى أراه وهذا أبلغ من قوله لم أره لأنه مع النفي يقتضي الإخبار عن عدم الرؤية فقط وهذا يتضمن النفي وطرفا من الإنكار على السائل كما إذا قال لرجل هل كان كيت وكيت فيقول كيف يكون ذلك الحادي عشر أنه لم يتقدم للرب جل جلاله ذكر يعود الضمير عليه في قوله ثم دنى فتدلى والذي يعود الضمير عليه لا يصلح له وإنما هو لعبده الثاني عشر أنه كيف يعود الضمير إلى ما لم يذكر ويترك عوده إلى المذكور مع كونه أولى به الثالث عشر أنه قد تقدم ذكر صاحبكم وأعاد عليه الضمائر التي تليق به ثم ذكر بعده شديد القوى ذا المرة وأعاد عليه الضمائر التي تليق به والخبر كله عن هذين المفسرين وهما الرسول الملكي والرسول البشري الرابع عشر أنه سبحانه أخبر أن هذا الذي دنى فتدلى كان بالأفق الأعلى وهو أفق السماء بل هو تحتها قد دنى من رسول رب العالمين ودنو الرب تعالى وتدليه على ما في حديث شريك كان من فوق العرش لا إلى الأرض الخامس عشر أنهم لم يماروه صلوات الله وسلامه عليه على رؤية ربه ولا أخبرهم بها لتقع مماراتهم له عليها وإنما ماروه على رؤية ما أخبرهم من الآيات التي أراه الله إياها ولو أخبرهم الرب تعالى لكانت مماراتهم له عليها أعظم من مماراتهم على رؤية المخلوقات ________________________________________ السادس عشر أنه سبحانه قرر صحة ما رآه الرسول وأن مماراتهم له على ذلك باطلة بقوله لقد رأى من آيات ربه الكبرى فلو كان المرئي هو الرب سبحانه وتعالى والمماراة على ذلك منهم لكان تقرير تلك الرؤية أولى والمقام إليها أحوج والله أعلم أهـ { مدارج السالكين حـ 3 صـ 205 ـ 206 } قوله تعالى { عندها جنة المأوى } والمأوى مفعل من أوى يأوي إذا انضم إلى المكان وصار إليه واستقر به وقال عطاء عن ابن عباس هي الجنة التي يأوي إليها جبريل والملائكة وقال مقاتل والكلبي هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء وقال كعب جنة المأوى جنة فيها طير خضر ترتع فيها أرواح الشهداء وقالت عائشة رضي الله عنها وزر بن حبيش هي جنة من الجنان والصحيح أنه اسم من أسماء الجنة كما قال تعالى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى وقال في النار فإن الجحيم هي المأوى وقال ومأواكم النار أهـ { حادى الأرواح صـ 159 } قوله تعالى { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } وهي الصغائر قال ابن عباس رضي الله عنهما ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة رضي الله عنه إن العين تزني وزناها النظر واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها المشي والفم يزني وزناه القبل ومنه ألم بكذا أي قاربه ودنا منه وغلام ملم أي قارب البلوغ وفي الحديث إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم أي يقرب من ذلك وبالجملة فلا يستبين كون اللمم من أسماء الحب وإن كان قد ذكره جماعة إلا أن يقال إن المحبوب قد ألم بقلب المحب أي نزل به ومنه ألمم بنا أي انزل بنا ومنه قوله متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا أهـ { روضة المحبين صـ 50 ـ 51 } قوله تعالى { أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون } [ النجم : 59 ] قال عكرمة عن ابن عباس : السمود : الغناء في لغة حمير يقال : اسمدى لنا أي غنى لنا وقال أبو زبيد : ________________________________________ وكأن العزيف فيها غناء ... للندامى من شارب مسمود قال أبو عبيدة : المسمود : الذي غنى له وقال عكرمة : كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا فنزلت هذه الآية وهذا لا يناقض ما قيل في هذه الآية من أن السمود الغفلة والسهو عن الشيء قال المبرد : هو الاشتغال عن الشيء بهم أو فرح يتشاغل به وأنشد : رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا وقال ابن الأنباري : السامد اللاهي والسامد الساهي والسامد المتكبر والسامد القائم وقال ابن عباس في الآية : وأنتم مستكبرون وقال الضحاك أشرون بطرون وقال مجاهد : غضاب مبرطمون وقال غيره : لا هون غافلون معرضون فالغناء يجمع هذا كله ويوجبه فهذه أربعة عشر اسما سوى اسم الغناء أهـ { إغاثة اللهفان صـ 258 } سورة الرحمن قوله تعالى { كل من عليها فان } ولم يقل فيها لأن عند الفناء ليس الحال حال القرار والتمكين أهـ { بدائع الفوائد حـ3 صـ 1013 } ________________________________________ قوله تعالى { متكئين على فرش بطائنها من إستبرق } وقال تعالى وفرش مرفوعة فوصف الفرش بكونها مبطنة بالإستبرق وهذا يدل على أمرين أحدهما أن ظهائرها أعلى وأحسن من بطائنها لأن بطائنها للارض وظهائرها للجمال والزينة والمباشرة قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن ابي هبيرة ابن مريم عن عبد الله في قوله بطائنها من إستبرق قال هذه البطائن قد خبرتم بها فكيف بالظهائر الثاني يدل على أنها فرش عالية لها سمك وحشو بين البطانة والظهارة وقد روى في سمكها وإرتفاعها آثار إن كانت محفوظة فالمرد ارتفاع محلها كما رواه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي في قوله وفرش مرفوعة قال ارتفاعها كما بين السماء والأرض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام قال الترمذي حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد قيل ومعناه إن ارتفاع المذكور للدرجات والفرش عليها قلت رشدين بن سعد عنده مناكير قال الدارقطني ليس بالقوي وقال أحمد لا يبالي عمن روى وليس به باس في الرقاق وقال أرجو أنه صالح الحديث وقال يحيى بن معين ليس بشيء وقال زرعة ضعيف وقال الجوزجاني عنده مناكير ولا ريب أنه كان سيء الحفظ فلا يعتمد على ما ينفرد به وقد قال أبن وهب حدثنا عمرو بن الحارث عن دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله في قوله وفرش مرفوعة قال ما بين الفراشين كما بين السماء والأرض وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ فالله أعلم وقال الطبراني حدثنا المقدام بن داود حدثنا أسد بن موسى حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن مطرف عن عبد الله بن الشخير عن كعب في قوله عز وجل وفرش مرفوعة قال مسيرة أربعين سنة قال الطبراني حدثنا إبراهيم بن نائلة حدثنا إسماعيل بن عمرو والبجلي حدثنا إسرائيل عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال سئل رسول الله عن الفرش المرفوعة قال لو طرح فراش من أعلاها إلى قرارها مائة خريف وفي رفع هذا الحديث نظر فقد قال أبن أبي الدنيا ________________________________________ حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا معاذ ابن هشام قال وجدت في كتاب أبي القاسم عن ابي أمامة في قوله عز وجل وفرش مرفوعة قال لو أن أعلاها سقط ما بلغ أسفلها أربعين خريفا فصل وأما البسط والزرابي فقد قال تعالى متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان وقال تعالى فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة أهـ { حادى الأرواح صـ 324 ـ 327 } قال تعالى { فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان } وصفهن سبحانه بقصر الطرف في ثلاثة مواضع أحدها هذا والثاني قوله تعالى في الصافات وعندهم قاصرات الطرف عين والثالث قوله تعالى في ص وعندهم قاصرات الطرف أتراب والمفسرون كلهم على أن المعنى قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يطمحن إلى غيرهم وقيل قصرن طرف أزواجهن كلهن فلا يدعهم حسنهن وجمالهن أن ينظروا إلى غيرهن وهذا صحيح من جهة المعنى واما من جهةاللفظ فقاصرات صفة مضافة إلى الفاعل لحسان الوجوه واصله قاصر طرفهن أي لبس بطامح متعد قال آدم حدثنا ورقاء عن أبي نجيح عن مجاهد في قوله قاصرات الطرف قال يقول قاصرات الطرف على أزواجهن فلا يبغين غير أزواجهن قال آدم وحدثنا المبارك بن فضلة عن الحسن قال قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم والله ما هن متبرجات ولا متطلعات وقال منصور عن مجاهد قصرن أبصارهن وقلوبهن و أنفسهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم وفي تفسير سعيد عن قتادة قال وقصرن أطرافهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم و أما الأتراب فجمع ترب وهو لذة الإنسان قال أبو عبيدة و أبو إسحاق أقران أسنانهن واحدة قال ابن عباس وسائر المفسرين مستويات على سن واحد وميلاد واحد وبنات ثلاث وثلاثين سنة وقال مجاهد أتراب أمثال قال إسحاق هن في غاية الشباب والحسن وسمي سن الإنسان وقرنه تربه لانه مس تراب الأرض معه في وقت واحد والمعنى من الأخبار باستواء أسنانهن أنهن ليس فيهن عجائز قد فات حسنهن ولا ولائد لا يقطن ________________________________________ الوطء بخلاف الذكور فان فيهم الولدان وهم الخدم وقد اختلف في مفسر الضمير في قوله فيهن فقالت طائفة مفسره الجنتان وما حوتاه من القصور والغرف والخيام وقالت طائفة مفسره الفرش المذكورة في قوله متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وفي بمعنى على وقوله تعالى لم يطمثهن انس قبلهن ولا جان قال أبو عبيدة لم يمسهن يقال ما طمث هذا البعير حبل قط أي ما مسه وقال يونس تقول العرب هذا جمل ما طمثه حبل قط أي ما مسه وقال الفراء الطمث الافتضاض وهو النكاح بالتدمية والطمث هو الدم وفيه لغتان طمث يطمث ويطمث قال الليث طمثت الجارية إذا افتر عتها والطامث في لغتهم هي الحائض قال أبو الهيثم يقال للمرأة طمثت تطمث إذا أدميت بالافتضاض وطمثت على فعلت تطمث إذا حاضت أول ما تحيض فهي طامث وقال في قول الفرزدق خرجن إلى لم يطمثن قبلي ... وهن اصح من بيض النعام ________________________________________ أي لم يمسسن قال المفسرون لم يطأهنولم يغشهن يجاملهم ولم يغشين ولم يجامعن هذه ألفاظهم وهم مختلفون في هؤلاء فبعضهم يقول هن اللواتي أنشئن في الجنة من حورها وبعضهم يقول يعني نساء الدنيا أنشئن خلقا آخر ابكارا كما وصفن قال الشعبي نساء من نساء الدنيا لم يمسسن منذ انشئن خلقا وقال مقاتل لأنهن خلقن في الجنة وقال عطاء عن ابن عباس هن الآدميات اللاتي متن أبكارا وقال الكلبي لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه انس ولا جان قلت ظاهر القران أن هؤلاء النسوة لسن من نساء الدنيا وانما هن من الحور حور العين و أما نساء الدنيا فقد طمثهن الإنس ونساء الجن قد طمثهن الجن والاية تدل على ذلك قال أبو إسحاق وفي الآية دليل على أن الجن يغشي كما أن الأنس يغشى ويدل على أنهن الحور اللاتي خلقن في الجنة انه سبحانه جعلهن مما أعده الله في الجنة لأهلها من الفاكهة والثمار و الأنهار والملابس وغيرها ويدل عليه أيضا الآية التي بعدها وهي قوله تعالى حور مقصورات في الخيام ثم قال لم يطمثن انس قبلهم ولا جان قال الإمام احمد والحور العين لا يمتن عند النفخة للصور لأنهن خلقن للبقاء وفي الآية دليل لما ذهب إليه الجمهور أن مؤمن الجن في الجنة كما أن كافرهم في النار وبوب عليه البخاري في صحيحه فقال باب ثواب الجن وعقابهم ونص عليه غير واحد من السلف قال ضمرة بن حبيب وقد سئل هل للجن ثواب فقال نعم وقرا هذه الآية ثم قال الإنسيات للإنس والجنيات للجن وقال مجاهد في هذه الآية إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على احليله فجامع معه والضمير في قوله قبلهم للمعنيين بقوله متكئين وهم أزواج هؤلاء النسوة وقوله كأنهم الياقوت والمرجان قال الحسن وعامة المفسرين أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان شبههن في صفاء اللون وبياضه وبالياقوت والمرجان ويدل عليه ما قاله عبد الله ان المرأة من النساء أهل الجنة لتلبس عليها سبعين حلة من حرير فيرى بياض ساقيها من ورائهن ________________________________________ ذلك بان الله يقول كأنهن الياقوت والمرجان إلا وان الياقوت حجر لو جعلت فيه سلكا ثم استصفيته نظرت إلى السلك من وراء الحجر فصل وقال تعالى في وصفهن حور مقصورات في الخيام المقصورات المحبوسات قال أبو عبيدة خدرن في الخيام وكذلك قال مقاتل وفيه معنى آخر وهو ان يكون المراد أنهن محبوسات على أزواجهن لا يرون غيرهم وهم في الخيام وهذا معنى قول من قال قصرن على أزواجهن فلا يردن غيرهم ولا يطمحن إلى من سواهم وذكره الفراء قلت وهذا معنى قاصرات الطرف ولكن أولئك قاصرات بأنفسهن وهؤلاء مقصورات وقوله في الخيام على هذا القول صفة لحور أي هن في الخيام وليس معمولا لمقصورات وكأن ارباب هذا القول فسروا بان يكن محبوسات في الخيام وليس لا تفارقنها إلى الغرف والبساتين و أصحاب القول الأول يجيبون عن هذا بان الله سبحانه وصفهن بصفات النساء المخدرات المصونات وذلك اجمل في الوصف ولا يلزم من ذلك أنهن لا يفارقن الخيام إلى الغرف والبساتين كما أن النساء الملوك ودونهم من النساء المخدرات المصونات لا يمنعن ان يخرجن في سفر و غيره إلى منتزه وبستان ونحوه فوصفهن اللازم لهن القصر في البيت ويعرض لهن مع الخدم الخروج إلى البساتين ونحوها و أما مجاهد فقال مقصورات قلوبهن على أزواجهن في خيام اللؤلؤ وقد تقدم وصف النسوة الأول بكونهن قاصرات الطرف وهؤلاء بكونهن مقصورات والوصفان لكلا النوعين فانهما صفتا كمال فتلك الصفة قصر الطرف عن طموحه إلى غير الأزواج وهذه الصفة قصر الرجل على التبرج والبروز والظهور للرجال فصل ________________________________________ وقال تعالى فيهن خيرات حسان فالخيرات جمع خيرة وهي مخففة من خيره كسيدة ولينة وحسان جمع حسنة فهن خيرات الصفات والاخلاق والشيم وحسان الوجوه قال وكيع حدثنا سفيان عن جابر عن القاسم عن ابي بزة عن ابي عبيدة عن مسروق عن عبد الله قال لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة ولكل خيمة اربعة ابواب يدخل عليها في كل يوم من كل باب تحفة وهدية وكرامة لم تكن قبل ذلك لا ترحات ولا ذفرات ولا بخرات ولا صماحات فصل وقال تعالى انا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا وأترابا لاصحاب اليمين أعاد الضمير إلى النساء ولم يجر لهن ذكر لان الفرش دلت عليهن اذ هي محلهن ________________________________________ 155 - وقيل الفرش في قوله وفرش مرفوعة كناية عن النساء كما يكنى عنهن بالقوارير و الأزر وغيرها ولكن قوله مرفوعة يأبى هذا إلا أن يقال المراد رفعة القدر وقد تقدم تفسير النبي للفرش وارتفاعها فالصواب أنها الفرش نفسها ودلت على النساء لأنها محلهن غالبا قال قتادة وسعيد بن جبير خلقناهن خلقا جديدا وقال ابن عباس يريد نساء الآدميات وقال الكلبي ومقاتل يعني نساء أهل الدنيا العجز الشمط يقول تعالى خلقناهن بعد الكبر والهرم وبعد الخلق الأول في الدنيا ويؤيد هذا التفسير حديث انس المرفوع هن عجائزكم العمش الرمض رواه الثوري عن موسى بن عبيدة عن يزيد الرقاشي عنه ويؤيده ما رواه يحيى الحماني حدثنا ابن إدريس عن ليث عن مجاهد عن عائشة أن رسول دخل عليها وعندها عجوز فقال من هذه فقالت إحدى خالاتي قال إما انه لا يدخل الجنة العجوز فدخل على العجوز من ذلك ما شاء الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم انا أنشأناهن إنشاء خلقا آخر يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا واول من يكسى ابراهيم خليل الله ثم قرا النبي صلى الله عليه وسلم انا انشاناهن انشاء قال ادم بن ابي اياس حدثنا شيبان عن الزهري عن جابر الجعفي عن يزيد بن مرة عن سلمة بن يزيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله انا أنشأناهن إنشاء قال يعني الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا قال ادم وحدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة العجز فبكت عجوز فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اخبروها انها يومئذ ليست بعجوز انها يومئذ شابة ان الله عز وجل يقول انا أنشأناهن إنشاء وقال ابن ابي شيبة حدثنا احمد بن طارق حدثنا مسعدة بن اليسع حدثنا سعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن سعيد ابن المسيب عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته عجوز من الأنصار فقالت يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم إن الجنة ________________________________________ لا يدخلها عجوز فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم فصلى ثم رجع إلى عائشة فقالت عائشة لقد لقيت من كلمتك مشقة وشدة فقال صلى الله عليه وسلم أن ذلك كذلك إن الله تعالى إذا أدخلهن الجنة حولهن أبكارا وذكر مقاتل قولا آخر وهو اختيار الزجاج إنهن الحور العين التي ذكرهن قيل انشأهن الله عز 156 - وجل لأوليائهم لهم يقع عليهن ولادة والظاهر أن المراد أنشأهن الله تعالى في الجنة إنشاء ويدل عليه وجوه أحدها انه قد قال في حق السابقين يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب إلى قوله كأمثال اللؤلؤ المكنون فذكر سردهم و آنيتهم وشرابهم وفاكهتهم وطعامهم و أزواجهم والحور العين ثم ذكر أصحاب الميمنة وطعامهم وشرابهم وفراشهم ونساءهم والظاهر انهن مثل نساء من قبلهم خلقن في الجنة الثاني أنه سبحانه قال أنشأناهن إنشاء وهذا ظاهر انه إنشاء أول لا ثان لانه سبحانه حيث يريد الإنشاء الثاني يقيده بذلك كقوله وان عليه النشأة الأخرى وقوله ولقد علمتم النشأة الأولى الثالث إن الخطاب بقوله وكنتم أزواجا إلى آخر للذكور و الإناث و النشأة الثانية أيضا عامة للنوعين وقوله انا أنشأناهن إنشاء ظاهره اختصاصهن بهذا الإنشاء و تأمل تأكيده بالمصدر والحديث لا يدل على اختصاص العجائز المذكورات بهذا الوصف بل يدل على مشاركتهن للحور العين في هذه الصفات المذكورة فلا يتوهم انفراد الحور العين عنهن بما ذكر من الصفات بل هي احق به منهن فالانشاء واقع على الصنفين والله اعلم وقوله عربا جمع عروب وهن المتحببات إلى ازواجهن قال ابن الاعرابي العروب من النساء المطيعة لزوجها المتحببة اليه وقال ابو عبيدة العروب الحسنة التبعل قلت يريد حسن مواقعها وملاطفتها لزوجها عند الجماع وقال المبرد هي العاشقة لزوجها وانشد للبيد وفي الحدوج عروب غير فاحشة ... ريا الروادف يعشي دونها البصر ________________________________________ وذكر لمفسرون في تفسير العرب انهن العواشق المتحببات الغنجات الشكلات المتعشقات الغلمات المغنوجات كل ذلك من الفاظهم وقال البخاري في صحيحه عربا مثقلة واحدها عروب مثل صبور وصبر وتسميها أهل مكة العربة وأهل المدينة الغنجة وأهل العراق الشكلة والعرب والمتحببات إلى ازواجهن هكذا ذكره في كتاب بدء الخلق وقال في كتاب التفسير في سورة الواقعة عربا مثقلة واحدها عروب مثل صبور وصبر تسميها أهل مكة العربة و أهل المدينة الغنجة وأهل العراق الشكلة قلت فجمع سبحانه بين حسن صورتها وحسن عشرتها وهذا غاية ما يطلب من النساء وبه تكمل لذة الرجل بهن وفي قوله لم يطمثهن انس قبلهم ولا جان إعلام بكمال اللذة بهن فان لذة الرجل بالمرأة التي لم يطاها سواه 157 - لها فضل على لذته بغيرها وكذلك هي أيضا فصل قال تعالى إن للمتقين مفازا حدائق و اعنابا وكواعب اترابا فالكواعب جمع كاعب وهي الناهد قال قتادة ومجاهد والمفسرون قال الكلبي هن الفلكات اللواتي تكعب ثديهن و تفلكت واصل اللفظة من الاستدارة والمراد أن ثديهن نواهد كالرمان ليست متدلية إلى اسفل ويسمين نواهد وكواعب فصل ________________________________________ روى البخاري في صحيحه عن انس بن مالك ان الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال لغدوة في سبيل الله او روحة خير من الدنيا و ما فيها و لقاب قوس احدكم او موضع قيده يعني سوطه من الجنة خير من الدنيا و ما فيها و لو اطلعت امراة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحا و لأضاءت ما بينهما و لنصيفها على راسها خير من الدنيا و ما فيها و في الصحيحين من حديث ابي هريرة عن النبي إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر و التي تليها على اضوا كوكب دري في السماء و لكل امرء منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم و ما في الجنة أعزب و قال الإمام احمد حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة حدثنا يونس عن محمد بن شيرين عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي للرجل من أهل الجنة زوجتان من الجور العين لكل واحدة سبعون حلة يرى مخ ساقها من وراء الثياب و قال الطبراني حدثنا بكر بن سهل الدمياطي حدثنا عمرو بن هشام البيروني حدثنا سليمان بن ابي كريمة عن هشام بن حسان عن الحسن عن ابيه عن ام سلمة قالت قلت يا رسول الله اخبرني عن قوله عز وجل حور عين قال حور بيض عين ضخام العيون شقر الحوراء بمنزلة جناح النسر قلت اخبرني عن قوله عز وجل كأنهم لؤلؤ مكنون قال صفاؤهن صفاء الدر الذي في الاصداف الذي لم تمسه الأيدي قلت يا رسول الله اخبرني عن قوله عز و جل فيهن خيرات حسان قال خيرات الاخلاق حسان الوجوه قلت يا رسول الله اخبرني عن قوله عز و جل كانهن بيض مكنون قال رقتهن كرقة الجلد الذي رايته في داخل البيضة مما يلي القشر وهو الغرقىء قلت يا رسول الله اخبرني عن قوله عز وجل عربا اترابا قال هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز رمضا شمطا خلقهن الله بعد الكبر فجعلهن عذارى عربا متعشقات ________________________________________ متحببات أترابا على ميلاد واحد قلت يا رسول الله نساء الدنيا افضل ام الحور العين قال بل نساء الدنيا افضل من الحور كفضل الظهارة على البطانة قلت يا رسول الله وبم ذلك قال بصلاتهن و صيامهن و عبادتهن الله تعالى البس الله وجوههن النور و أجسادهن الحرير بيض الأولان خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر و أمشاطهن الذهب يقلن نحن الخالدات فلا نموت و نحن الناعمات فلا نيأس أبدا و نحن المقيمات فلا نظعن أبدا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا طوبى لمن كنا له و كان لنا قلت يا رسول الله و المرأة منا تتزوج زوجين أو ثلاث أو أربع ثم تموت فتدخل الجنة و يدخلون معها من يكون زوجها قال يا ام سلمة أنها تخير فتختار أحسنهم خلقا فتقول أي رب ان هذا كان أحسنهم معي خلقا في دار الدنيا فزوجنيه يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا و الآخرة تفرد به سليمان بن أبي كريمة ضعفه أبو حاتم و قال ابن عدي عمت أحاديثه مناكير و لم أر للمتقدمين فيه كلاما ثم ساق هذا الحديث من طريقه و قال لا يعرف الا بهذا السند و قال أبو يعلى الموصلي حدثنا عمر بن الضحاك بن مخلد حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد حدثنا ابو رافع إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله و هو في طائفة من أصحابه فذكر حديث الصور و فيه فاقول يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة فيقول الله قد شفعتك و أذنت لهم في دخول الجنة وكان رسول الله يقول و الذي بعثني بالحق ما أنتم في الدنيا باعرف بازواجكم و مساكنكم من أهل الجنة بازواجهم و مساكنهم فيدخل رجل منهم على اثنتين و سبعين زوجة مما ينشئ الله واثنتين من ولد آدم لهما فضل على من انشا الله لعبادتهما الله عز و جل في الدنيا يدخل على الأولى منها في غرفة من ياقوت على سرير من ذهب مكلل باللؤلؤ عليه سبعون زوجا من سندس و استبرق و انه ليضع يده بين كتفيها ثم ________________________________________ ينظر إلى يده من صدرها و من وراء ثيابها وجلدها ولحمها لينظر إلى مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت كبده لها مرآة و كبدها له مرآة فبينما هو عندها لا يملها و لا تمله و لا يأتيها من مرة الا وجدها عذراء ما يفتر ذكره و لا يشتكي قلبها فبينما هو كذلك اذ نودي انا قد عرفنا أنك لا تمل و لا تمل الا انه لا منى و لا منية الا ان تكون له ازواج غيرها فتخرج فتأتيهن واحدة واحدة كلما جاء واحدة قالت و الله ما في الجنة شيء احسن منك و ما في الجنة شيء احب الي منك هذا قطعة من حديث الصور و الذي تفرد به اسماعيل بن رافع وقد روي له الترمذي وابن ماجة وضعفه احمد و يحيى و جماعة و قال الدار قطني و غيره متروك الحديث و قال ابن عدي عامة احاديثه فيها نظر و قال الترمذي ضعفه بعض أهل العلم و سمعت محمدا يعني البخاري يقول هو ثقة مقارب الحديث و قال لي شيخنا ابو الحجاج الحافظ هذا الحديث مجموع من عدة احاديث ساقه اسماعيل او غيره هذه السياقة و شرحه الوليد بن مسلم في كتاب مفرد و ما تضمنه معروف في الاحاديث و الله اعلم و قال عبد الله بن وهب حدثنا عمرو ان دراجا حدثه عن ابي الهيثم عن ابي سعيد عن رسول الله قال ان ادنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون الف خادم و اثنتان و سبعون زوجة و ينصب له قبة من لؤلؤ و زبرجد وياقوت كما بين الجابية و صنعاء رواه الترمذي و لكن دراج ابو السمح بالطريق قال احمد احاديث مناكير وقال النسائي منكر الحديث ضعيف و قال أيضا ليس بالقوة وساق له ابن عدي احاديث وقال عامتها لا يتابع عليها و قال الدار قطني ضعيف و قال مرة متروك و اما يحيى بن معين فقد وثقه و اخرج عنه ابو حاتم بن حبان في صحيحه و قال عثمان بن سعيد الدارمي عن علي بن مدني هو ثقة و قال ابن وهب اخبرني عمرو بن الحارث عن ابي السمح عن ابي الهيثم عن ابو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي في قوله تعالى كأنهن الياقوت و المرجان قال ينظر إلى وجهه ________________________________________ في خدها اصفى من المرآة وإن ادنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق و المغرب و انه ليكون عليها سبعون ثوبا ينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك و قال الفريابي انبأنا ابو ايوب سليمان بن عبد الرحمن حدثنا خالد بن يزيد بن ابي مالك عن ابيه عن خالد بن معدان عن ابي امامة عن رسول الله قال ما من عبد يدخل الجنة الا و يزوج اثنتين وسبعون زوجة ثنتان من الحور العين و سبعون من أهل ميراثه من أهل الدنيا ليس منهن امراة الا و لها قبل شهي و له ذكر لا ينثني قلت خالد هذا هو ابن يزيد بن عبد الرحمن الدمشقي و هاه ابن معين و قال احمد ليس بشيء و قال النسائي غير ثقة و قال الدار قطني ضعيف و ذكر ابن عدي له هذا الحديث مما انكره عليه وقال ابو نعيم حدثنا ابراهيم بن عبد الله حدثنا محمد بن حموية ________________________________________ حدثنا احمد بن حفص حدثني ابي حدثني ابراهيم بن طهمان عن الحجاج عن قتادة عن انس قال قال رسول الله للمؤمن في الجنة ثلاث و سبعون زوجة قلنا يا رسول الله او له قوة على ذلك قال انه ليعطى قوة مائة رجل قال احمد بن حفص هذا هو السعدى و له مناكير و الحجاج هو ابن ارطاة وقال الطبراني حدثنا احمد بن علي الابار حدثنا ابو همام الوليد بن شجاع وانبانا محمد بن احمد بن هشام بن حسان السنجري ببغداد حدثنا عبد الله بن عمرو بن ابان قالا حدثنا حسين بن علي الجعفي عن زائدة عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن ابي هريرة رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله هل نصل إلى نسائنا في الجنة فقال ان الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء قال الطبراني لم يروه عن هشام إلا زائدة تفرد به الجعفي قال محمد بن عبد الواحد المقدسي و رجال هذا الحديث عندي على شرط الصحيح و قال ابو الشيخ حدثنا ابو يحيى بن مسلم الرازي حدثنا هناد بن السرى حدثنا ابو اسامة عن هشام بن حسان عن يزيد بن ابي الحواري و هو زيد العمى عن ابن عباس قال قيل يا رسول الله انفضي إلى نسائنا في الجنة كما نفضي اليهن في الدنيا قال و الذي نفس محمد بيده ان الرجل ليفضي في الغداة الواحدة إلى مائة عذراء و زيد هذا قال فيه ابن معين صالح و قال مرة لا شيء و قال مرة ضعيف يكتب حديثه و كذلك قال ابو حاتنم و قال الدارقطني صالح و ضعفه النسائي قال السعدي متماسك قلت وحسبه رواية شعبة عنه فصل ________________________________________ و الاحاديث الصحيحة انما فيها ان لكل منهم زوجتين و ليس في الصحيح زيادة على ذلك فإن كانت هذه الاحاديث محفوظة فإما ان يراد بها ما لكل واحد من السراري زيادة على الزوجتين و يكونون في ذلك على حسب منازلهم في القلة والكثرة كالخدم و الولدان و اما ان يراد انه يعطي قوة من يجامع هذا العدد و يكون هذا هو المحفوظ فرواه بعض هؤلاء بالمعنى فقال له كذا وكذا زوجة وقد روى الترمذي في جامعه من حديث قتادة عن انس عن النبي قال يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا و كذا من الجماع قيل يا رسول الله او يطيق ذلك قال يعطى قوة مائة هذا حديث صحيح فلعل من رواه يفضي إلى مائة عذراء رواه بالمعنى او يكون تفاوتهم في عدد النساء بحسب تفاوتهم في الدرجات و الله اعلم و لا ريب ان للمؤمن في الجنة اكثر من اثنتين لما في الصحيحين من حديث ابي عمران الجوني عن ابي بكر عن عبد الله بن قيس عن ابيه قال قال رسول الله ان للعبد المؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤ مجوفة طولها ستون ميلا للعبد المؤمن فيها أهلون فيطوف عليهم لا يرى بعضهم بعضا الباب الرابع و الخمسون في ذكر المادة التي خلق منها الحور العين و ما ذكر فيها من الاثار و ذكر صفاتهم و معرفتهن اليوم بازواجهن ________________________________________ فاما المادة التي خلق منها الحور العين فقد روى البيهقي من حديث الحارث بن خليفة حدثنا شعبة حدثنا اسماعيل بن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن انس بن مالك عن النبي انه قال الحور العين خلقن من الزعفران قال البيهقي و هذا منكر بهذا الاسناد لا يصح عن ابن علية قلت و لكنه حديث فيه شعبة و قال الطبراني حدثنا احمد بن رشدين حدثنا عن ابن الحسن بن هارون الانصاري حدثني الليث بن ابنة الليث عن ابي سليم قال حدثتني عائشة بنت يونس امراة الليث بن ابي سليم عن ليث بن ابي سليم عن مجاهد عن ابي امامة عن النبي قال خلق الحور العين من الزعفران قال الطبراني لا يروى الا بهذا الاسناد تفرد به علي بن الحسن بن هارون قلت و قد رواه اسحق بن راهويه عن عائشة بنت يونس قالت سمعت زوجي ليث بن سليم يحدث عن مجاهد فذكره مرفوعا اليه و هو اشبه بالصواب ورواه عقبة بن مكرم عن عبد الله بن زياد عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس قوله و لا يصح رفع الحديث و حسبه ان يصل إلى ابن عباس و قال ابو سلمى عن ابن عبد الرحمن ان لولي الله في الجنة عروسا لم يلدها ادم و لا حواء و لكن خلقت من زعفران وهذا مروي عن صاحبين و هما ابن عباس و انس و عن تابعيين و هما ابو سلمى ومجاهد وبكل حال فهي من المنشات في الجنة ليست مولودات بين الاباء والامهات والله اعلم وقد رواه الطبراني من حديث عبد الله بن زخر عن علي بن زيد عن الهيثم عن ابي امامة عن النبي و هذا الاسناد لا يحتج به و رواه أبو نعيم حدثنا علي بن محمد الطوسي حدثنا علي بن سعيد حدثنا محمد بن اسماعيل الحساني حدثنا منصور بن المهاجر حدثنا ابو منصور الابار عن انس يرفعه لو ان حوراء بصقت في سبعة ابحر لعذبت البحار من عذوبة فمها و خلق الحور العين من الزعفران واذا كانت هذه الخلقة الادمية التي هي من احسن الصور وأجملها مادتها من تراب وجاءت الصور من احسن الصور فما الظن بصورة مخلوقة من مادة الزعفران الذي هناك فالله المستعان ________________________________________ وقد روى ابو نعيم من حديث عيسى بن يوسف بن الطباع حدثنا حلس بن محمد الكلابي حدثنا سفيان الثوري حدثنا مغيرة حدثنا إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله يسطع نور في الجنة فرفعوا رؤوسهم فاذا هو من ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها روى نعمة بن الوليد حدثنا مجبر بن سعيد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة قال ان من المزيد من تمر السحابة بأهل الجنة فتقول ماذا تريدون ان انطركم فلا يتمنون شيئا الا انطروا قال يقول كثير لئن أشهدني الله ذلك لأقولن انطرينا جواري مزينات و قد روى في مادة خلقهن صفة اخرى قال ابن ابي الدنيا حدثنا خالد بن سعيد عن خداش حدثنا عبد الله بن وهب حدثنا سعيد بن ايوب عن عقيل بن خالد عن الزهري ان ابن عباس قال ان في الجنة نهرا يقال له البيدخ عليه قباب من ياقوت تحته حور ناشئات يقول أهل الجنة انطلقوا بنا إلى البيدخ فيجيئون فيتصفحون تلك الحواري فاذا اعجب رجل منهم جارية مس معصمها فتتبعه و قال الليث بن سعد عن يزيد بن ابي حبيب عن الوليد بن عبدة قال قال رسول الله لجبريل يا جبريل قف بي على الحور العين فاوقفه عليهن فقال من انتن فقلنا نحن حواري قوم كرام حلوا فلم يظعنوا شبوا فلم يهرموا ونقوا فلم يدرنوا وقال ابن المبارك انبأنا يحيى عن ايوب عن عبد الله بن زخر عن خالد بن عمران عن ابن عباس قال كنا جلوسا مع كعب يوما فقال لو ان يدا من الحور دليت من السماء لاضاءت لنا الأرض كما تضيء الشمس لأهل الدنيا ثم قال انما قلت يدها فكيف بالوجه و بياضه و حسنه و جماله و في مسند الامام احمد من حديث كثير بن مرة عن معاذ بن جبل عن النبي قال لا تؤذي امراة زوجها في الدنيا الا قالت زوجته من الحور العين لا تؤذيه قاتلك الله فإنما هو عندك دخيل يوشك ان يفارقك الينا وفيه مراسيل عكرمة عن النبي قال ان الحور العين لاكثر عددا من كن يدعون لازواجهن يقلن اللهم اعنه على دينك واقبل بقلبه على طاعتك و بلغه ________________________________________ بعزتك يا ارحم الراحمين ذكره ابن ابي الدنيا عن حديث اسامة بن زيد عن عطاء عنه وذكر الاوزاعي عن حسان بن عطية عن ابن مسعود قال ان في الجنة حوراء يقال لها اللعبة كل حور الجنان يعجبن بها يضربن بايديهن على كتفها و يقلن طوبى لك يا لعبة لو يعلم الطالبون لك لجدوا بين عينيها مكتوب من كان يبتغي ان يكون له مثلي فليعمل برضاء ربي وقال عطاء السلمي لمالك بن دينار يا ابا يحيى شوقنا قال عطاء ان في الجنة حوراء يتباهى أهل الجنة بحسنها لولا ان الله تعالى كتب لها على أهل الجنة ان لا يموتوا لماتوا من حسنها فلم يزل عطاء كمدا من قول مالك و قال احمد بن ابي الحواري حدثني جعفر بن محمد قال لقي حكيم حكيما فقال اتشتاق إلى الحور العين فقال لا فقال فاشتق اليهن فان نور وجههن من نور الله عز و جل فغشي عليه فحمل إلى منزله نعوده شهرا و قال ربيعة بن كلثوم نظر الينا الحسن و نحن حوله شباب فقال يا معشر الشباب اما تشتاقون إلى الحور العين و قال لي ابن ابي الحوارى حدثني الحضرمي قال نمت انا و ابو حمزة على سطح فجعلت انظر اليه يتقلب على فرشه إلى الصباح فقلت يا ابا حمزة ما رقدت الليلة فقال اني لما اضطجعت تمثلت لي حوراء حتى لكانني احسست بجلدها و قد مس جلدي فحدثت به ابا سليمان فقال هذا رجل كان مشتاقا و قال ابن ابي الحوارى سمعت ابا سليمان يقول ينشا خلق الحور العين انشاء فاذا تكامل خلقهن ضرب عليهن الملائكة الخيام و ذكر ابن ابي الدنيا عن صالح المري عن زيد الرقاشي قال بلغني ان نورا سطع في الجنة موضع من الجنة الا دخل من ذلك النور فيه فقيل ما هذا قال حوراء ضحكت في وجه زوجها قال صالح فشهق رجل من ناحية المجلس فلم يزل يشهق حتى مات و قال ابن ابي الدنيا حدثنا بشر بن الوليد حدثنا سعيد بن رزبي عن عبد الملك الجوني عن سعيد بن جبير قال سمعت ابن عباس يقول لو ان حوراء اخرجت كفها بين السماء والأرض لافتتن الخلائق بحسنها و لو اخرجت نصيفها لكانت ________________________________________ الشمس عند حسنها مثل الفتيله في الشمس لا ضوء لها ولو اخرجت وجهها لأضاء حسنها ما بين السماء و الأرض و قال ابن ابي الدنيا حدثني الحسين ابن يحيى و كثير العنبري و حدثنا خزيمة ابو محمد عن سفيان الثوري قال سطع نور في الجنة لم يبق موضع من الجنة الا دخل فيه من ذلك النور فنظروا فوجدوا ذلك من حوراء ضحكت في وجه زوجها و رواه الخطيب في تاريخه من حديث عبد الله بن محمد الكرخي قال حدثني عيسى بن يوسف الطباع حدثني حلس بن محمد عن سفيان الثوري عن مغيرة عن ابراهيم عن علقمة عن عبد الله عن النبي قال سطع نور في الجنة فرفعوا ابصارهم فاذا هو ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها و قال الاوزاعي عن يحيى بن ابي كثير اذا سبحت المراة من الحور العين لم يبق شجرة في الجنة الا وردت وقال ابن المبارك حدثنا الاوزاعي عن يحيى بن ابي كثير ان الحور العين يتلقين ازواجهن عند ابواب الجنة فيقلن طال ما انتظرناكم فنحن الراضيات فلا نسخط و المقيمات فلا نظعن و الخالدات فلا نموت باحسن اصوات سمعت و تقول انت حبي و انا حبك ليس دونك تقصير و لا وراءك أهـ { حادى الأرواح صـ 151 ـ 164 } قوله تعالى { متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان } وقال تعالى فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة وذكر هشام عن أبي بشر عن سعد بن جبير قال الرفرف رياض الجنة والعبقري عتاق الزرابي وذكر إسماعيل بن علية عن أبي رجاء عن الحسن في قوله تعالى متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان قال هي البسط قال وأهل المدينة يقولون هي البسط وأما النمارق فقال الواحدي هي الوسائد في قول الجميع وأحدها بضم النون وحكى الفراء نمرقة بكسرها وأنشد أبو عبيدة إذا ما بساط الله ومد وقربت ... للذاته أنماطه ونمارقه قال الكلبي وسائد مصفوفة بعضها إلي بعض وقال مقاتل هي الوسائد مصفوفة على الطنافس وزرابي بمعنى البسط والطنافس وأحدها زريبة في قول جميع أهل اللغة والتعبير ومبثوثة مبسوطة منشورة فصل ________________________________________ وأما الرفرف فقال الليث ضرب من الثياب خضر تبسط الواحد رفرفة وقال أبو عبيدة الرفارف البسط وأنشد لابن مقبل وأنا لنازلون تغشى نعالنا ... سواقط من أصناف ريط ورفرف وقال أبو إسحاق قالوا الرفرف ههنا رياض الجنة وقالوا الرفرف الوسائد وقالوا الرفرف المحابس وقالوا فضول المحابس للفرش وقال المبرد هو فضول الثياب التي تتخذ الملوك في الفرش وغيره وقال الواحدي وكان الأقرب هذا لأن الغرب تسمى كسر الخباء والخرقة التي تخاط في أسفل الخباء رفرفا ومنه الحديث في وفاة النبي فرفع الرفرف فرأينا وجهه كأنه ورقة قال إبن الأعرابي الرفرف ههنا طرف البساط فشبه ما فضل من المحابس عما تحته بطرف الفسطاط فسمى رفرف قلت أصل هذه الكلمة من الطرف أو الجانب فمنه الرفرف في الحائط ومنه الرفرف وهو كسر الخباء وجوانب الدرع وما تدلى منها الواحدة رفرفة ومنه رفرف الطير إذا حرك جناحه حول الشيء يريد أن يقع عليه والرفرف ثياب خضر يتخذ منها المحابس الواحدة رفرفة وكل ما فضل من شيء فثنى وعطف فهو رفرف وفي حديث ابن مسعود في قوله عز وجل لقد رأى من آيات ربه الكبرى قال رأى رفرفا أخضر سد الأفق وهو في الصحيحين فصل وأما العبقري فقال أبو عبيدة كل شيء من البسط عبقري قال ويرون أنها أرض توشى فيها وقال الليث عبقر موضع بالبادية كثير الجن يقال كأنهم جن عبقر قال أبو عبيدة في حديث النبي ذكر عمر فلم أر عبقريا يفري فرية وأنما أصل هذا فيما يقال إنه نسب إلى عبقر وهي أرض يسكنها الجن فصار مثلا منسوبا إلى شيء رفيع وأنشد لزهير نخال عليها جبة عبقرية ... جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا وقال ابو الحسن الواحدي وهذا القول هو الصحيح في العبقري وذلك أن العرب إذا بالغت في وصف شيء نسبته إلى الجن أو شبهته بهم ومنه قول لبيد جن الندا رواسيا أقدامها وقال آخر يصف امرأة جنية ولها جن يعلمها ... رمي القلوب بقوس ما لها وتر ________________________________________ وذلك أنهم يعتقدون في الجن كل صفة عجيبة وأنهم يأتون بكل أمر عجيب ولما كان عبقر معروفا بسكناهم نسبوا كل شيء يبالغ فيه إليها يريدون بذلك أنه من عملهم وصنعهم هذا هو الأصل ثم صار العبقري اسما ونعتا لكل ما بولغ في صفته ويشهد لما ذكرنا بيت زهير فإنه نسب الجن إلى عبقر ثم راينا أشياء كثيرة نسبت إلى عبقر غير البسط والثياب كقوله في صفة عمر عبقريا وروى سلمة عن الفراء قال العبقري السيد من الرجال وهو الفاخر من الحيوان والجوهر فلو كانت عبقر مخصوصة بالوشى لما نسب إليها غير الموشى وإنما ينسب إليها البسط الموشية العجيبة الصنعة كما ذكرنا كما نسب إليها كل ما بولغ في وصفة قال ابن عباس وعبقري يريد البسط الطنافس وقال الكلبي هي الطنافس المجملة وقال قتادة هي عتاق الزرابي وقال مجاهد الديبا4ج الغليظ وعبقري جمع واحده عبقرية ولهذا وصف بالجمع فتأمل كيف وصف الله سبحانه وتعالى الفرش بأنها مرفوعة والزرابي بأنها مبثوثة والنمارق بأنها مصفوفة فرفع الفرش دال على سمكها ولينها وبث الزرابي دال على كثرتها وأنها في كل موضع لا يختص بها صدر المجلس دون مؤخره وجوانبه وصف المساند يدل على أنها مهيأة للاستناد إليها دائما ليست مخبأة تصف في وقت دون وقت والله أعلم أهـ { حادى الأرواح صـ 142 ـ 144 } في أسماء الجنة ومعانيها واشتقاقها ولها عدة أسماء باعتبار صفاتها ومسماها واحد باعتبار الذات فهي مترادفة من هذا الوجه وتختلف باعتبار الصفات فهي متباينة من هذا الوجه وهكذا أسماء الرب سبحانه وتعالى وأسماء كتابه وأسماء رسله وأسماء اليوم الآخر وأسماء النار ________________________________________ الاسم الأول الجنة وهو الاسم العام المتناول لتلك الدار وما اشتملت عليه من أنواع النعيم واللذة والبهجة والسرور وقرة الأعين واصل اشتقاق هذه اللفظة من الستر والتغطية ومنه الجنين لاستتاره في البطن والجان لاستتاره عن العيون والمجن لستره ووقايته الوجه والمجنون لاستتار عقله وتواريه عنه والجان وهي الحية الصغيرة الرقيقة ومنه قول الشاعر فذقت وجلت وأبكرت ... وأكملت فلو جن إنسان من الحسن جنت أي لو غطى وستر عن العيون لفعل بها ذلك ومنه سمى البستان جنة لأنه يستر داخله بالأشجار ويغطيه ولا يستحق هذا الاسم إلا موضع كثير الأشجار مختلف الأنواع والجنة بالضم ما يستجن به من ترس أو غيره ومنه قوله تعالى أتخذوا أيمانهم جنة أي يستترون بها من إنكار المؤمنين عليهم ومنه الجنة بالكسر كما قال تعالى من الجنة والناس وذهبت طائفة من المفسرين إلى أن الملائكة يسمون جنة واحتجوا بقوله تعالى وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا قالوا وهذا النسب قولهم الملائكة بنات الله ورجحوا هذا القول بوجهين أحدهما إن النسب الذي جعلوه إنما زعموا أنه بين الملائكة وبينه ولا بين الجن وبينه ________________________________________ الثاني قوله تعالى ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون أي قد علمت الملائكة أن الذين قالوا هذا القول محضرون للعذاب والصحيح خلاف ما ذهب إليه هؤلاء وإن الجنة هم الجن نفسهم كما قال تعالى من الجنة والناس وعلى هذا ففي الآية قولان أحدهما قول مجاهد قال قالت كفار قريش الملائكة بنات الله فقال لهم ابو بكر فمن أمهاتهم قالوا سروات الجن وقال الكلبي قالوا تزوج من الجن فخرج من بينهما الملائكة وقال قتادة قالوا صاهر الجن فخرج من بينهما الملائكة وقال قتادة قالوا صاهر الجن والقول الثاني هو قول الحسن قال أشركوا الشياطين في عبادة الله فهو النسب الذي جعلوه والصحيح قول مجاهد وغيره وما احتج به أصحاب القول الأول ليس بمستلزم لصحة قولهم فإنهم لما قالوا الملائكة بنات الله وهم من الجن عقدوا بينه وبين الجن نسبا بهذا الإيلاد وجعلوا هذا النسب متوالد بينه وبين الجن وأما قوله ولقد علمت الجنة أنهم لمحضرون فالضمير يرجع إلى الجنة أي قد علمت الجنة أنهم لمحضرون الحساب قاله مجاهد أي لو كان بينه وبينهم نسب لم يحضروا للحساب كما قال تعالى وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم فجعل سبحانه عقوبتهم بذنوبهم وإحضارهم للعذاب مبطلا لدعواهم الكاذبة وهذا التقدير في الاية أبلغ في إبطال قولهم من التقدير الأول فتأمله والمقصود ذكر أسماء الجنة فصل ________________________________________ الاسم الثاني دار السلام وقد سماها الله بهذا الاسم في قوله لهم دار السلام عند ربهم وقوله والله يدعوا إلى دار السلام وهي احق بهذا الاسم فإنها دار السلامة من كل بلية وآفة ومكروه وهي دار الله واسمه سبحانه وتعالى السلام الذي سلمها وسلم اهلها وتحيتهم فيها سلام والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم والرب تعالى يسلم عليكم من فوقهم كما قال تعالى لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون سلام قولا من رب رحيم وسيأتي حديث جابر في سلام الرب تبارك وتعالى عليهم في الجنة وكلامهم كلهم فيها سلام أي لا لغو فيها ولا فحش ولا باطل كما قال تعالى لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما واما قوله تعالى واما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من اصحاب اليمين فأكثر المفسرون حاموا حول المعنى وما وردوه وقالوا أقوالا لا يخفى بعدها عن المقصود وإنما معنى الآية والله أعلم فسلام لك ايها الراحل عن الدنيا حال كونك من أصحاب اليمين أي فسلامه لك كائنا من أصحاب اليمين الذين سلموا من الدنيا وإنكارها ومن النار وعذابها فبشر بالسلامة عند ارتحاله من الدنيا وقدومه على الله كما يبشر الملك روحه عند أخذها بقوله ابشري بروح وريحان ورب غير غضبان وهذا أول البشرى التي للؤمن في الآخرة فصل ________________________________________ الاسم الثالث دار الخلد وسميت بذلك لأن أهلها لا يظعنون عنها أبدا كما قال تعالى عطاء غير مجذوذ وقال إن هذا لرزقنا ما له من نفاذ وقال أكلها دائم وظلها وقال وما هم منها بمخرجين وسيأتي إبطال قول من قال من الجهمية والمعتزلة بفنائها أو فناء حركات أهلها أن شاء الله تعالى فصل الاسم الرابع دار المقامة قال تعالى حكاية عن أهلها وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن أن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب قال مقاتل أنزلنا دار الخلود أقاموا فيها ابدا لا يموتون ولا يتحولون منها أبدا قال الفراء والزجاج المقامة مثل الإقامة يقال أقمت بالمكان إقامة ومقامة ومقاما فصل الاسم الخامس جنة المأوى قال تعالى عندها جنة المأوى والمأوى مفعل من أوى يأوي إذا انضم إلى المكان وصار إليه واستقر به وقال عطاء عن ابن عباس هي الجنة التي يأوي إليها جبريل والملائكة وقال مقاتل والكلبي هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء وقال كعب جنة المأوى جنة فيها طير خضر ترتع فيها أرواح الشهداء وقالت عائشة رضي الله عنها وزر بن حبيش هي جنة من الجنان والصحيح أنه اسم من أسماء الجنة كما قال تعالى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى وقال في النار فإن الجحيم هي المأوى وقال ومأواكم النار فصل ________________________________________ الاسم السادس جنات عدن فقيل هي اسم لجنة من الجنان والصحيح أنه اسم لجنة الجنان وكلها جنات عدن قال تعالى جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب وقال تعالى جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من اساور من ذهب ولؤلؤ ولباسهم فيها حرير وقال تعالى ومساكن طيبة في جنات عدن والاشتقاق يدل على أن جميعها جنات عدن فإنه من الإقامة والدوام يقال عدن بالمكان إذا أقام به وعدنت البلد توطنته وعدنت الإبل بمكان كذا لزمته فلم تبرح منه قال الجوهري ومنه جنات عدن أي إقامة ومنه سمى المعدن بكسر الدال لأن الناس يقيمون فيه الصيف والشتاء ومركزه كل شيء معدنه والعادن الناقة المقيمة في المرعى فصل ________________________________________ الاسم السابع دار الحيوان قال تعالى وإن الدار الآخرة لهي الحيوان والمراد الجنة عند أهل التفسير قالوا وأن الآخرة يعني الجنة لهي الحيوان لهي دار الحياة التي لا موت فيها فقال الكلبي هي حياة لا موت فيها قال وقال الزجاج هي دار الحياة الدائمة وأهل اللغة على أن الحيوان بمعنى الحياة قال أبو عبيدة وأبن قتيبة الحياة الحيوان قال أبو عبيدة الحياة والحيوان والحي بكسر الحاء واحد قال أبو علي يعني أنها مصادر فالحياة فعلة كالجلبة والحيوان كالنزوان والغليان والحي كالعي قال العجاج كنا بها إذا الحياة حي ... أي إذا الحياة حياة وأما أبو زيد فخالفهم وقال الحيوان ما فيه روح والموتان والموات ما لا روح فيه والصواب أن الحيوان يقع على ضربين أحدهما مصدر كما حكاه أبو عبيدة والثاني وصف كما حكاه أبو زيد وعلى قول أبي زيد الحيوان مثل الحي خلاف الميت ورجح القول الأول بأن الفعلان بابه المصادر كالنزوان والغليان بخلاف الصفات فإن بابها فعلان كسكران وغضبان واجاب من رجح القول الثاني بإن فعلان قد جاء في الصفات أيضا قالوا رجل ضميان للسريع الخفيف وزفيان قال في الصحاح ناقة رفيان سريعة وقوس زفيان سريعة الارسال للسهم فيحتمل قوله تعالى وإن الدار الآخرة لهي الحيوان معنيين احدهما أن الحياة الآخرة هي الحياة لآنها لا تنغيص فيها ولا نفاد لها أي لا يشوبها ما يشوب الحياة في هذه الدار فيكون الحيوان مصدرا على هذا الثاني أن يكون المعنى أنها الدار التي تفنى ولا تنقطع ولا تبيد كما يفنى الأحياء في هذه الدنيا فهي أحق بهذا الاسم من الحيوان الذي يفنى ويموت فصل ________________________________________ الاسم الثامن الفردوس قال تعالى أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون وقال تعالى أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها والفردوس اسم يقال على جميع الجنة ويقال على أفضلها وأعلاها كأنه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنات وأصل الفردوس البستان والفراديس البساتين قال كعب هو البستان الذي فيه الاعناب وقال الليث الفردوس جنة ذات كروم يقال كرم مفردس أي معرش وقال الضحاك هي الجنة الملتفة بالأشجار وهو اختيار المبرد وقال الفردوس فيما سمعت من كلام العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب وجمعه الفراديس قال ولهذا سمى باب الفراديس بالشام وانشد لجرير فقلت للركب إذ جد المسير بنا ... يا بعد من باب الفراديس وقال مجاهد هذا البستان بالرومية واختاره الزجاج فقال هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية قال وحقيقتة أنه البستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين قال حسان وأن ثواب الله كل مخلد ... جنان من الفردوس فيها يخلد فصل الاسم التاسع جنات النعيم قال تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم وهذا ايضا آسم جامع لجميع الجنات لما تضمنته من الأنواع التي يتنعم بها من المأكول والمشروب والملبوس والصور والرائحة الطيبة والمنظر البهيج والمساكن الواسعة وغير ذلك من النعيم الظاهر والباطن فصل الاسم العاشر المقام الأمين قال تعالى أن المتقين في مقام أمين والمقام الأمين موضع الإقامة والأمين الآمن من كل سوء وآفة ومكروه وهو الذي قد جمع صفات الأمن كلها ________________________________________ فهو آمن من الزوال والخراب وأنواع النقص واهله آمنون فيه من الخروج والنغص والنكد والبلد الأمين الذي قد أمن من أهله فيه مما يخالف منه سواهم وتأمل كيف ذكر سبحانه الأمن في قوله تعالى أن المتقين في مقام أمين وفي قوله تعالى يدعون فيها بكل فاكهة آمنين فجمع لهم بين أمن المكان وأمن الطعام فلا يخافون انقطاع الفاكهة ولا سوء عاقبتها ومضرتها وأمن الخروج منها فلا يخافون ذلك وأمن من الموت فلا يخافون فيها موتا فصل ________________________________________ الاسم الحادي عشر والثاني عشر مقعد الصدق وقدم الصدق قال تعالى إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق فسمى جنته مقعد صدق لحصول كل ما يراد من المقعد الحسن فيها كما يقال مودة صادقة إذا كانت ثابتة تامة وحلاوة صادقة وحملة صادقة ومنه الكلام الصدق لحصول مقصوده منه وموضع هذه اللفظة في كلامهم الصحة والكمال ومنه الصدق في الحديث والصدق في العمل والصديق الذي يصدق قوله بالعمل والصدق بالفتح الصلب من الرماح ويقال للرجل الشجاع أنه لذو مصدق أي صادق الحملة وهذا مصداق هذا اي ما يصدقه ومنه الصداقة لصفاء المودة والمخالة ومنه صدقني القتال وصدقني المودة ومنه قدم صدق ولسان صدق ومدخل صدق ومخرج صدق وذلك كله للحق الثابت المقصود الذي يرغب فيه بخلاف الكذب الباطل الذي لا شيء تحته وهو لا يتضمن أمرا ثابتا قط وفسر قوم صدق بالجنة وفسر بالأعمال التي تنال بها الجنة وفسر بالسابقة التي سبقت لهم من الله وفسر بالرسول الذي على يده وهدايته نالوا ذلك والتحقيق أن الجميع حق فأنهم سبقت لهم من الله الحسنى بتلك السابقة أي بالأسباب التي قدرها لهم على يد رسوله وأدخر لهم جزاءها يوم القيامة ولسان الصدق وهو لسان الثناء الصادق بمحاسن الأفعال وجميل الطرائق وفي كونه لسان صدق اشارة إلى مطابقته للواقع وأنه أثناء بحق لا بباطل ومدخل الصدق ومخرج الصدق هو المدخل والمخرج الذي يكون صاحبه فيه ضامنا على الله وهو دخوله وخروجه بالله ولله وهذه الدعوة من أنفع الدعاء للعبد فإنه لا يزال داخلا في أمر وخارجا من أمر فمتى كان دخوله لله وبالله وخروجه كذلك كان قد أدخل مدخل صدق واخرج مخرج صدق والله المستعان أهـ { حادى الأرواح صـ 65 ـ 70 } ________________________________________ سورة الواقعة قوله تعالى { إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين } أعاد الضمير إلى النساء ولم يجر لهن ذكر لان الفرش دلت عليهن اذ هي محلهن 155 - وقيل الفرش في قوله وفرش مرفوعة كناية عن النساء كما يكنى عنهن بالقوارير و الأزر وغيرها ولكن قوله مرفوعة يأبى هذا إلا أن يقال المراد رفعة القدر وقد تقدم تفسير النبي للفرش وارتفاعها فالصواب أنها الفرش نفسها ودلت على النساء لأنها محلهن غالبا قال قتادة وسعيد بن جبير خلقناهن خلقا جديدا وقال ابن عباس يريد نساء الآدميات وقال الكلبي ومقاتل يعني نساء أهل الدنيا العجز الشمط يقول تعالى خلقناهن بعد الكبر والهرم وبعد الخلق الأول في الدنيا ويؤيد هذا التفسير حديث انس المرفوع هن عجائزكم العمش الرمض رواه الثوري عن موسى بن عبيدة عن يزيد الرقاشي عنه ويؤيده ما رواه يحيى الحماني حدثنا ابن إدريس عن ليث عن مجاهد عن عائشة أن رسول دخل عليها وعندها عجوز فقال من هذه فقالت إحدى خالاتي قال إما انه لا يدخل الجنة العجوز فدخل على العجوز من ذلك ما شاء الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم انا أنشأناهن إنشاء خلقا آخر يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا واول من يكسى ابراهيم خليل الله ثم قرا النبي صلى الله عليه وسلم انا انشاناهن انشاء قال ادم بن ابي اياس حدثنا شيبان عن الزهري عن جابر الجعفي عن يزيد بن مرة عن سلمة بن يزيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله انا أنشأناهن إنشاء قال يعني الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا قال ادم وحدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة العجز فبكت عجوز فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اخبروها انها يومئذ ليست بعجوز انها يومئذ شابة ان الله عز وجل يقول انا أنشأناهن إنشاء وقال ابن ابي شيبة حدثنا احمد بن طارق حدثنا مسعدة بن اليسع حدثنا سعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن سعيد ابن المسيب عن عائشة ________________________________________ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته عجوز من الأنصار فقالت يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم إن الجنة لا يدخلها عجوز فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم فصلى ثم رجع إلى عائشة فقالت عائشة لقد لقيت من كلمتك مشقة وشدة فقال صلى الله عليه وسلم أن ذلك كذلك إن الله تعالى إذا أدخلهن الجنة حولهن أبكارا وذكر مقاتل قولا آخر وهو اختيار الزجاج إنهن الحور العين التي ذكرهن قيل انشأهن الله عز 156 - وجل لأوليائهم لهم يقع عليهن ولادة والظاهر أن المراد أنشأهن الله تعالى في الجنة إنشاء ويدل عليه وجوه أحدها انه قد قال في حق السابقين يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب إلى قوله كأمثال اللؤلؤ المكنون فذكر سردهم و آنيتهم وشرابهم وفاكهتهم وطعامهم و أزواجهم والحور العين ثم ذكر أصحاب الميمنة وطعامهم وشرابهم وفراشهم ونساءهم والظاهر انهن مثل نساء من قبلهم خلقن في الجنة الثاني أنه سبحانه قال أنشأناهن إنشاء وهذا ظاهر انه إنشاء أول لا ثان لانه سبحانه حيث يريد الإنشاء الثاني يقيده بذلك كقوله وان عليه النشأة الأخرى وقوله ولقد علمتم النشأة الأولى الثالث إن الخطاب بقوله وكنتم أزواجا إلى آخر للذكور و الإناث و النشأة الثانية أيضا عامة للنوعين وقوله انا أنشأناهن إنشاء ظاهره اختصاصهن بهذا الإنشاء و تأمل تأكيده بالمصدر والحديث لا يدل على اختصاص العجائز المذكورات بهذا الوصف بل يدل على مشاركتهن للحور العين في هذه الصفات المذكورة فلا يتوهم انفراد الحور العين عنهن بما ذكر من الصفات بل هي احق به منهن فالانشاء واقع على الصنفين والله اعلم وقوله عربا جمع عروب وهن المتحببات إلى ازواجهن قال ابن الاعرابي العروب من النساء المطيعة لزوجها المتحببة اليه وقال ابو عبيدة العروب الحسنة التبعل قلت يريد حسن مواقعها وملاطفتها لزوجها عند الجماع وقال المبرد هي العاشقة لزوجها وانشد للبيد ________________________________________ وفي الحدوج عروب غير فاحشة ... ريا الروادف يعشي دونها البصر وذكر لمفسرون في تفسير العرب انهن العواشق المتحببات الغنجات الشكلات المتعشقات الغلمات المغنوجات كل ذلك من الفاظهم وقال البخاري في صحيحه عربا مثقلة واحدها عروب مثل صبور وصبر وتسميها أهل مكة العربة وأهل المدينة الغنجة وأهل العراق الشكلة والعرب والمتحببات إلى ازواجهن هكذا ذكره في كتاب بدء الخلق وقال في كتاب التفسير في سورة الواقعة عربا مثقلة واحدها عروب مثل صبور وصبر تسميها أهل مكة العربة و أهل المدينة الغنجة وأهل العراق الشكلة قلت فجمع سبحانه بين حسن صورتها وحسن عشرتها وهذا غاية ما يطلب من النساء وبه تكمل لذة الرجل بهن وفي قوله لم يطمثهن انس قبلهم ولا جان إعلام بكمال اللذة بهن فان لذة الرجل بالمرأة التي لم يطاها سواه 157 - لها فضل على لذته بغيرها وكذلك هي أيضا فصل قال تعالى إن للمتقين مفازا حدائق و اعنابا وكواعب اترابا فالكواعب جمع كاعب وهي الناهد قال قتادة ومجاهد والمفسرون قال الكلبي هن الفلكات اللواتي تكعب ثديهن و تفلكت واصل اللفظة من الاستدارة والمراد أن ثديهن نواهد كالرمان ليست متدلية إلى اسفل ويسمين نواهد وكواعب أهـ {حادى الأرواح صـ 357 ـ 360 } قوله تعالى { فسبح باسم ربك العظيم } فائدة الاسم والمسمى الاسم غير المسمى ________________________________________ اللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال مثلا له حقيقة يوضع له لفظ يدل عليه لأنه شيء موجود في اللسان مسموع بالآذان فاللفظ المؤلف من همزة الوصل والسين والميم عبارة عن اللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال مثلا واللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال عبارة عن الشخص الموجود في الأعيان والأذهان وهو المسمى واللفظ الدال عليه الذي هو الزاي والياء والدال هو الإسم وهذا اللفظ أيضا قد صار مسمى من حيث كان لفظ الهمزة والسين والميم عبارة عنه فقد بان لك أن الإسم في أصل الوضع ليس هو المسمى ولهذا تقول سميت هذا الشخص بهذا الإسم كما تقول حليته بهذه الحلية والحلية غير المحلى فكذلك الإسم غير المسمى صرح بذلك سيبويه وأخطأ من نسب إليه غير هذا وادعى أن مذهبه اتحادهما والذي غر من ادعى ذلك قوله الأفعال أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء وهذا لا يعارض نصه قبل هذا فإنه نص على أن الإسم غير المسمى فقال اسم وفعل وحرف فقد صرح بأن الإسم كلمة فكيف تكون الكلمة هي المسمى والمسمى شخص ثم قال بعد هذا تقول سميت زيدا بهذا الإسم كما تقول علمته بهذه العلامة وفي كتابه قريب من ألف موضع أن الإسم هو اللفظ الدال على المسمى ومتى ذكر الخفض أو النصب أو التنوين أو اللام أو جميع ما يلحق الإسم من زيادة ونقصان وتصغير وتكسير وإعراب وبناء فذلك كله من عوارض الإسم لا تعلق لشيء من ذلك بالمسمى أصلا هل الإسم عين المسمى ________________________________________ لم يقل نحوي قط ولا عربي أن الإسم هو المسمى ويقولون أجل مسمى ولا يقولون أجل اسم ويقولون مسمى هذا الإسم كذا ولا يقول أحد اسم هذا الإسم كذا ويقولون هذا الرجل مسمى بزيد ولا يقولون هذا الرجل اسم زيد ويقولون بسم الله ولا يقولون بمسمى الله وقال رسول الله لي خمسة أسماء // رواه البخاري ومسلم // ولا يصح أن يقال لي خمس مسميات وتسموا باسمي // رواه مسلم // ولا يصح أن يقال تسموا بمسمياتي ولله تسعة وتسعون اسما // رواه البخاري ومسلم وأحمد // ولا يصح أن يقال تسعة وتسعون مسمى وإذا ظهر الفرق بين الإسم والمسمى بقيت ههنا التسمية وهي التي اعتبرها من قال باتحاد الإسم المسمى التسمية والتسمية عبارة عن فعل المسمى ووضعه الإسم للمسمى كما أن التحلية عبارة عن فعل المحلي ووضعه الحلية على المحلى فهنا ثلاث حقائق اسم ومسمى وتسمية كحلية ومحلى وتحلية وعلامة ومعلم وتعليم ولا سبيل إلى جعل لفظين منها مترادفين على معنى واحد لتباين حقائقهما وإذا جعلت الإسم هو المسمى بطل واحد من هذه الحقائق الثلاثة ولا بد فإن قيل فحلوا لنا شبه من قال باتحادهما ليتم الدليل فإنكم أقمتم الدليل فعليكم الجواب عن المعارض فمنها أن الله وحده هو الخالق وما سواه مخلوق فلو كانت أسماؤه غيره لكانت مخلوقة وللزم أن لا يكون له اسم في الأزل ولا صفة لأن أسماءه صفات وهذا هو السؤال الأعظم الذي قاد متكلمي الإثبات إلى أن يقولوا الإسم هو المسمى فما عندكم في دفعه ________________________________________ الجواب أن منشأ الغلط في هذا الباب من إطلاق ألفاظ مجملة محتملة لمعنيين صحيح وباطل فلا ينفصل النزاع إلا بتفصيل تلك المعاني وتنزيل ألفاظها عليها ولا ريب أن الله تبارك وتعالى لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال المشتقة أسماؤه منها فلم يزل بأسمائه وصفاته وهو إله واحد له الأسماء الحسنى والصفات العلى وأسماؤه وصفاته داخلة في مسمى اسمه وإن كان لا يطلق على الصفة أنها إله يخلق ويرزق فليست صفاته وأسماؤه غيره وليست هي نفس الإله وبلاء القوم من لفظة الغير فإنه يراد بهما معنيين أحدهما المغاير لتلك الذات المسماة بالله وكل ما غاير الله مغايرة محضة بهذا الإعتبار فلا يكون إلا مخلوقا ويراد به مغايرة الصفة للذات إذا خرجت عنها فإذا قيل علم الله وكلام الله غيره بمعنى أنه غير الذات المجردة عن العلم والكلام كان المعنى صحيحا ولكن الإطلاق باطل وإذا أريد أن العلم والكلام مغاير لحقيقته المختصة التي امتاز بها عن غيره كان باطلا لفظا ومعنى وبهذا أجاب أهل السنة المعتزلة القائلين بخلق القرآن وقالوا كلامه تعالى داخل في مسمى اسمه فالله تعالى اسم الذات الموصوفة بصفات الكمال ومن تلك الصفات صفة الكلام كما أن علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره غير مخلوقة وإذا كان القرآن كلامه وهو صفة من صفاته فهو متضمن لأسمائه الحسنى فإذا كان القرآن غير مخلوق ولا يقال إنه غير الله فكيف يقال إن بعض ما تضمنه وهو أسماؤه مخلوقة وهي غيره فقد حصحص الحق بحمد الله وانحسم الإشكال وأن أسماءه الحسنى التي في القرآن من كلامه وكلامه غير مخلوق ولا يقال هو غيره ولا هو هو وهذا المذهب مخالف لمذهب المعتزلة الذين يقولون أسماؤه تعالى غيره وهي مخلوقة ولمذهب من رد عليهم ممن يقول اسمه نفس ذاته لا غيره وبالتفصيل تزول الشبه ويتبين الصواب والحمد لله ________________________________________ حجة ثانية لهم قالوا قال تبارك وتعالى تبارك اسم ربك الرحمن 78 واذكر اسم ربك المزمل 8 سبح اسم ربك الأعلى الأعلى 1 وهذه الحجة عليهم في الحقيقة لأن النبي امتثل هذا الأمر وقال سبحان ربي الأعلى سبحان ربي العظيم ولو كان الأمر كما زعموا لقال سبحان اسم ربي العظيم ثم إن الأمة كلهم لا يجوز لأحد منهم أن يقول عبدت اسم ربي ولا سجدت لاسم ربي ولا ركعت لاسم ربي ولا باسم ربي ارحمني وهذا يدل على أن الأشياء متعلقة بالمسمى لا بالإسم وأما الجواب عن تعلق الذكر والتسبيح المأمور به بالإسم فقد قيل فيه إن التعظيم والتنزيه إذا وجب للمعظم فقد تعظم ما هو من سببه ومتعلق به كما يقال سلام على الحضرة العالية والباب السامي والمجلس الكريم ونحوه وهذا جواب غير مرض لوجهين أحدهما أن رسول الله لم يفهم هذا المعنى وإنما قال سبحان ربي فلم يعرج على ما ذكرتموه الثاني أنه يلزمه أن يطلق على الإسم التكبير والتحميد والتهليل وسائر ما يطلق على المسمى فيقال الحمد لاسم الله ولا إله إلا اسم الله ونحوه وهذا مما لم يقله أحد بل الجواب الصحيح أن الذكر الحقيقي محله القلب لأنه ضد النسيان والتسبيح نوع من الذكر فلو أطلق الذكر والتسبيح لما فهم منه إلا ذلك دون اللفظ باللسان والله تعالى أراد من عباده الأمرين جميعا ولم يقبل الإيمان وعقد الإسلام إلا باقترانهما واجتماعهما فصار معنى الآيتين سبح ربك بقلبك ولسانك واذكر ربك بقلبك ولسانك فأقحم الإسم تنبيها على هذا المعنى حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان لأن ذكر القلب متعلقه المسمى المدلول عليه بالإسم دون ما سواه والذكر باللسان متعلقه اللفظ مع مدلوله لأن اللفظ لا يراد لنفسه فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو المسبح دون ما يدل عليه من المعنى ________________________________________ وعبر لي شيخنا أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه عن هذا المعنى بعبارة لطيفة وجيزة فقال المعنى سبح ناطقا باسم ربك متكلما به وكذا سبح اسم ربك المعنى سبح ربك ذاكرا اسمه وهذه الفائدة تساوي رحلة لكن لمن يعرف قدرها فالحمد لله المنان بفضله ونسأله تمام نعمته حجة ثالثة قالوا قال تعالى ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها يوسف 4 وإنما عبدوا مسمياتها والجواب : أنه كما قلتم إنما عبدوا المسميات ولكن من أجل أنهم نحلوها أسماء باطلة كاللات والعزى وهي مجرد أسماء كاذبة باطلة لا مسمى لها في الحقيقة فإنهم سموها آلهة وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها وليس لها من الألوهية إلا مجرد الأسماء لا حقيقة المسمى فما عبدوا إلا أسماء لا حقائق لمسمياتها وهذا كمن سمى قشور البصل لحما وأكلها فيقال ما أكلت من اللحم إلا اسمه لا مسماه وكمن سمى التراب خبزا وأكله يقال ما أكلت إلا اسم الخبز بل هذا النفي أبلغ في آلهتهم فإنه لا حقيقة لإلهيتها بوجه وما الحكمة ثم إلا مجرد الإسم فتأمل هذه الفائدة الشريفة في كلامه تعالى ________________________________________ فإن قيل فما الفائدة في دخول الباء في قوله فسبح باسم ربك العظيم الواقعة 74 96 ولم تدخل في قوله سبح اسم ربك الأعلى الأعلى 1 قيل التسبيح يراد به التنزيه والذكر المجرد دون معنى آخر ويراد به ذلك مع الصلاة وهو ذكر وتنزيه مع عمل ولهذا تسمى الصلاة تسبيحا فإذا أريد التسبيح المجرد فلا معنى للباء لأنه لا يتعدى بحرف جر لا تقول سبحت بالله وإذا أردت المقرون بالفعل وهو الصلاة أدخلت الباء تنبيها على ذلك المراد كأنك قلت سبح مفتتحا باسم ربك أو ناطقا باسم ربك كما تقول صل مفتتحا أو ناطقا باسمه ولهذا السر والله أعلم دخلت اللام في قوله تعالى سبح لله ما في السموات والأرض الحديد 1 والمراد التسبيح الذي هو السجود والخضوع والطاعة ولم يقل في موضع سبح الله ما في السموات والأرض كما قال ولله يسجد من في السموات والأرض الرعد 15 وتأمل قوله تعالى إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون الأعراف 206 فكيف قال ويسبحونه لما ذكر السجود باسمه الخاص فصار التسبيح ذكرهم له وتنزيههم إياه حجة رابعة قالوا قد قال الشاعر إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر وكذلك قول تحول الأعشى داع يناديه باسم الماء مبغوم ... وهذه حجة عليهم لا لهم أما قوله ثم اسم السلام عليكما فالسلام هو الله تعالى والسلام أيضا التحية فإن أراد الأول فلا إشكال فكأنه قال ثم اسم السلام عليكما أي بركة اسمه وإن أراد التحية فيكون المراد بالسلام المعنى المدلول وباسمه لفظه الدال عليه والمعنى ثم اسم هذا المسمى عليكما فيراد بالأول اللفظ وبالثاني المعنى كما تقول زيد بطة ونحوه مما يراد بأحدهما اللفظ وبالآخر المدلول فيه وفيه نكتة حسنة كأنه أراد ثم هذا اللفظ باق عليكما جار لا ينقطع مني بل أنا مراعيه دائما ________________________________________ وقد أجاب السهيلي عن البيت بجواب آخر وهذا حكاية لفظه فقال لبيد لم يرد إيقاع التسليم عليهم لحينه وإنما أراد بعد الحول ولو قال السلام عليكما كان مسلما لوقته الذي نطق فيه بالبيت فكذلك ذكر الإسم الذي هو عبارة عن اللفظ أي إنما اللفظ بالتسليم بعد الحول وذلك أن السلام دعاء فلا يتقيد بالزمان المستقبل وإنما هو لحينه ألا ترى أنه لا يقال بعد الجمعة اللهم ارحم زيدا ولا بعد الموت اللهم اغفر لي إنما يقال اللهم اغفر لي بعد الموت فيكون بعد ظرفا للمغفرة والدعاء واقع لحينه فإن أردت أن تجعل الوقت ظرفا للدعاء صرحت بلفظ الفعل فقلت بعد الجمعة أدعو بكذا أو أسلم أو ألفظ بكذا لأن الظروف إنما يريد بها الأحداث الواقعة فيها خبرا أو أمرا أو نهيا وأما غيرها من المعاني كالطلاق واليمين والدعاء والتمني والإستفهام وغيرها من المعاني فإنما هي واقعة لحين النطق بها وكذلك يقع الطلاق ممن قال بعد يوم الجمعة أنت طالق وهو مطلق لحينه ولو قال بعد الحول والله لأخرجن انعقدت اليمين في الحال ولا ينفعه أن يقول أردت أن لا أوقع اليمين إلا بعد الحول فإنه لو أراد ذلك لقال بعد الحول أحلف أو بعد الجمعة أطلقك فأما الأمر والنهي والخبر فإنما تقيدت بالظروف لأن الظروف في الحقيقة إنما يقع فيها الفعل المأمور به والمخبر به دون الأمر والخبر فإنهما واقعان لحين النطق بهما فإذا قلت اضرب زيدا يوم الجمعة فالضرب هو المقيد بيوم الجمعة وأما الأمر فأنت في الحال آمر به وكذلك إذا قلت سافر زيد يوم الجمعة فالمتقيد باليوم المخبر به لا الخبر كما أن في قوله اضربه يوم الجمعة المقيد بالظرف المأمور به لا أمرك أنت فلا تعلق للظرف إلا بالأحداث فقد رجع الباب كله بابا واحدا ________________________________________ فلو أن لبيدا قال إلى الحول ثم السلام عليكما لكان مسلما لحينه ولكنه أراد أن لا يوقع اللفظ بالتسليم والوداع إلا بعد الحول وكذلك ذكر الإسم الذي هو بمعنى اللفظ بالتسليم ليكون ما بعد الحول ظرفا له وهذا الجواب من أحد أعاجيبه وبدائعه رحمه الله وأما قوله باسم الماء والماء المعروف هنا هو الحقيقة المشروبة ولهذا عرفه تعريف الحقيقة الذهنية والبيت لذي الرمة وصدره لا ينعش الطرف إلا ما تحونه ... ثم قال داع يناديه باسم الماء فظن الغالط أنه أراد حكاية صوت الظبية وأنها دعت ولدها بهذا الصوت وهو ماما وليس هذا مراده وإنما الشاعر ألغز لما وقع الإشتراك بين لفظ الماء المشروب وصوتها به فصار صوتها كأنه هو اللفظ المعبر عن الماء المشروب فكأنها تصوت باسم هذا الماء المشروب وهذا لأن صوتها ماما وهذا في غاية الوضوح فائدة اسم الله والإشتقاق زعم أبو القاسم السهيلي وشيخه ابن العربي أن اسم الله غير مشتق لأن الإشتقاق يستلزم مادة يشتق منها واسمه تعالى قديم والقديم لا مادة له فيستحيل الإشتقاق ولا ريب أنه إن أريد بالإشتقاق هذا المعنى وأنه مستمد من أصل آخر فهو باطل ولكن الذين قالوا بالإشتقاق لم يريدوا هذا المعنى ولا ألم بقلوبهم وإنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى وهي الإلهية كسائر أسمائه الحسنى كالعليم والقدير والغفور والرحيم والسميع والبصير فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب وهي قديمة والقديم لا مادة له فما كان جوابكم عن هذه الأسماء فهو جواب القائلين باشتقاق اسم الله ثم الجواب عن الجميع أننا لا نعني بالإشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى لا أنها متولدة منها تولد الفرع من أصله وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه أصلا وفرعا ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة ________________________________________ وقول سيبويه إن الفعل أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء هو بهذا الإعتبار لا أن العرب تكلموا بالأسماء أولا ثم اشتقوا منها الأفعال فإن التخاطب بالأفعال ضروري كالتخاطب بالأسماء لا فرق بينهما فالإشتقاق هنا ليس هو اشتقاق مادي وإنما هو اشتقاق تلازم سمي المتضمن بالكسر مشتقا والمتضمن بالفتح مشتقا منه ولا محذور في اشتقاق أسماء الله تعالى بهذا المعنى أهـ { بدائع الفوائد حـ 1 صـ 20 ـ 27 } قوله تعالى { لا يمسه إلا المطهورن } الواقعة : 79 قال : والصحيح في الآية أن المراد به : الصحف التي بأيدي الملائكة لوجوه عديدة منها : أنه وصفه بأنه مكنون و المكنون المستور عن العيون وهذا إنما هو في الصحف التي بأيدي الملائكة ومنها : أنه قال : لا يمسه إلا المطهرون وهم الملائكة ولو أراد المتوضئين لقال : لا يمسه إلا المتطهرون كما قال تعالى : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين البقرة : 222 فالملائكة مطهرون والمؤمنون متطهرون ومنها : أن هذا إخبار ولو كان نهيا لقال : لا يمسسه بالجزم والأصل في الخبر : أن يكون خبرا صورة ومعنى ومنها : أن هذا رد على من قال : إن الشيطان جاء بهذا القرآن فأخبر تعالى : أنه في كتاب مكنون لا تناله الشياطين ولا وصول لها إليه كما قال تعالى في آية الشعراء : وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون الشعراء : 21021 وإنما تناله الأرواح المطهرة وهم الملائكة ومنها : أن هذا نظير الآية التي في سورة عبس : فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة عبس : 1216 ________________________________________ قال مالك في موطئه : أحسن ما سمعت في تفسير قوله : لا يمسه إلا المطهرون أنها مثل هذه الآية التي في سورة عبس ومنها : أن الآية مكية من سورة مكية تتضمن تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات الصانع والرد على الكفار وهذا المعني أليق بالمقصود من فرع عملي وهو حكم مس المحدث المصحف ومنها : أنه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي الناس : لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير فائدة إذ من المعلوم : أن كل كلام فهو قابل لأن يكون في كتاب حقا أو باطلا بخلاف ما إذا وقع القسم على أنه في كتاب مصون مستور عن العيون عند الله لا يصل إليه شيطان ولا ينال منه ولا يمسه إلا الأرواح الطاهرة الزكية فهذا المعنى أليق وأجل وأخلق بالآية وأولى بلا شك فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : لكن تدل الآية بإشارتها على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر لأنه إذا كانت تلك الصحف لا يمسها إلا المطهرون لكرامتها على الله فهذه الصحف أولى أن لا يمسها إلا طاهر وسمعته يقول في قول النبي : لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة إذا كانت الملائكة المخلوقون يمنعها الكلب والصورة عن دخول البيت فكيف تلج معرفة الله عز وجل ومحبته وحلاوة ذكره والأنس بقربه في قلب ممتلىء بكلاب الشهوات وصورها فهذا من إشارة اللفظ الصحيحة ومن هذا : أن طهارة الثوب الطاهر والبدن إذا كانت شرطا في صحة الصلاة والاعتداد بها فإذا أخل بها كانت فاسدة فكيف إذا كان القلب نجسا ولم يطهره صاحبه فكيف يعتد له بصلاته وإن أسقطت القضاء وهل طهارة الظاهر إلا تكميل لطهارة الباطن ومن هذا : أن استقبال القبلة في الصلاة شرط لصحتها وهي بيت الرب فتوجه المصلي إليها ببدنه وقالبه شرط فكيف تصح صلاة من لم يتوجه بقلبه إلى رب القبلة والبدن بل وجه بدنه إلى البيت ووجه قلبه إلى غير رب البيت وأمثال ذلك من الإشارات الصحيحة التي لا تنال إلا بصفاء الباطن وصحة البصيرة وحسن التأمل والله أعلم ________________________________________ أهـ { مدارج السالكين حـ 2 صـ 416 ـ 418 } سورة الحديد قوله تعالى { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها } الحديد : رهبانية منصوب بابتدعوها على الاشتغال إما بنفس الفعل المذكور على قول الكوفيين وإما بمقدر محذوف مفسر بهذا المذكور على قول البصريين أي وابتدعوا رهبانية وليس منصوبا بوقوع الجعل عليه فالوقف التام عند قوله : ورحمة ثم يبتدىء ورهبانية ابتدعوها أي لم نشرعها لهم بل هم ابتدعوها من عند أنفسهم ولم نكتبها عليهم وفي نصب قوله : إلا ابتغاء رضوان الله ثلاثة أوجه أحدها : أنه مفعول له أي لم نكتبها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله وهذا فاسد فإنه لم يكتبها عليهم سبحانه كيف وقد أخبر : أنهم هم ابتدعوها فهي مبتدعة غير مكتوبة وأيضا فإن المفعول لأجله يجب أن يكون علة لفعل الفاعل المذكور معه فيتحد السبب والغاية نحو : قمت إكراما فالقائم هو المكرم وفعل الفاعل المعلل ههنا هو الكتابة و ابتغاء رضوان الله فعلهم لا فعل الله فلا يصلح أن يكون علة لفعل الله لاختلاف الفاعل وقيل : بدل من مفعول كتبناها أي ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله وهو فاسد أيضا إذ ليس ابتغاء رضوان الله عين الرهبانية فتكون بدل الشيء من الشيء ولا بعضها فتكون بدل بعض من كل ولا أحدهما مشتمل على الآخر فتكون بدل اشتمال وليس بدل غلط ________________________________________ فالصواب : أنه منصوب نصب الاستثناء المنقطع أي لم يفعلوها ولم يبتدعوها إلا لطلب رضوان الله ودل على هذا قوله : ابتدعوها ثم ذكر الحامل لهم والباعث على ابتداع هذه الرهبانية وأنه هو طلب رضوان الله ثم ذمهم بترك رعايتها إذ من التزم لله شيئا لم يلزمه الله إياه من أنواع القرب لزمه رعايته وإتمامه حتى ألزم كثير من الفقهاء من شرع في طاعة مستحبة بإتمامها وجعلوا التزامها بالشروع كالتزامها بالنذر كما قال : أبو حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهو إجماع أو كالإجماع في أحد النسكين قالوا : والالتزام بالشروع أقوى من الالتزام بالقول فكما يجب عليه رعاية ما التزمه بالنذر وفاء يجب عليه رعاية ما التزمه بالفعل إتماما وليس هذا موضع استقصاء هذه المسألة والقصد : أن الله سبحانه وتعالى ذم من لم يرع قربة ابتدعها لله تعالى حق رعايتها فكيف بمن لم يرع قربة شرعها الله ورضيها لعباده وأذن بها وحث عليها أهـ { مدارج السالكين حـ3 صـ32 ـ 33 } قال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم وفي قوله تمشون به إعلام بأن تصرفهم وتقلبهم الذي ينفعهم إنما هو النور وأن مشيهم بغير النور غير مجد عليهم ولا نافع لهم بل ضرره أكثر من نفعه وفيه أن أهل النور هم أهل المشي في الناس ومن سواهم أهل الزمانة والانقطاع فلا مشي لقلوبهم ولا لأحوالهم ولا لأقوالهم ولا لأقدامهم إلى الطاعات وكذلك لا تمشي على الصراط إذا مشت بأهل الأنوار أقدامهم وفي قوله تمشون به نكتة بديعة وهي أنهم يمشون على الصراط بأنوارهم كما يمشون بها بين الناس في الدنيا ومن لا نور له فإنه لا يستطيع أن ينقل قدما عن قدم على الصراط فلا يستطيع المشي أحوج ما يكون إليه أهـ { اجتماع الجيوش الإسلامية صـ 5 ـ 6 } ________________________________________ سورة المجادلة قوله تعالى { الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم } فإن قيل فما تقولون في قول المظاهر أنت علي كظهر أمي هل هو إنشاء لا يقبل التصديق والتكذيب والله سبحانه قد كذبهم هنا في ثلاثة مواضع أحدها في قوله ما هن أمهاتهم المجادلة فنفى ما أثبتوه وهذا حقيقة التكذيب ومن طلق امرأته لا يحسن أن يقال ما هي مطلقة والثاني قوله تعالى وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا المجادلة 2 والإنشاء لا يكون منكرا وإنما يكون المنكر هو الخبر والثالث أنه سماه زورا والزور هو الكذب وإذا كذبهم الله دل على أن الظهار إخبار لا إنشاء الثالث أن الظهار محرم وليست جهة تحريمه إلا كونه كذبا والدليل على تحريمه خمسة أشياء الأول ما وصفه بالمنكر والثاني وصفه بالزور والثالث أنه شرع فيه الكفارة ولو كان مباحا لم يكن فيه كفارة والرابع أن الله قال ذلكم توعظون به المجادلة 3 والوعظ إنما يكون في غير المباحات والخامس قوله وإن الله لعفو غفور المجادلة 2 والعفو والمغفرة إنما يكونان عن الذنب وإن قلتم هو إخبار هو باطل من وجوه أحدها أن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فجعله الله في الإسلام تحريما تزيله الكفارة وهذا متفق عليه بين أهل العلم ولو كان خبرا لم يوجب التحريم فإنه إن كان صدقا فظاهر وإن كان كذبا فأبعد له من أن يترتب عليه التحريم والثاني أنه لفظ يوجب حكمه الشرعي بنفسه وهو التحريم وهذا حقيقة الإنشاء بخلاف الخبر فإنه لا يوجب حكمه بنفسه فسلب كونه إنشاء مع ثبوت حقيقة الإنشاء فيه جمع بين النقيضين وثالثها أن إفادة قوله أنت علي كظهر أمي للتحريم كإفادة قوله أنت حرة وأنت طالق وبعتك ووهبتك وتزوجتك ونحوها لأحكامها فكيف يقولون هذه إنشاءات دون الظهار وما الفرق أما الفقهاء فيقولون الظهار إنشاء ونازعهم بعض المتأخرين في ذلك وقال الصواب إنه إخبار وأجاب عما احتجوا به من كونه إنشاء ________________________________________ قال أما قولهم كان طلاقا في الجاهلية فهذا لا يقتضي أنهم كانوا يثبتون به الطلاق بل يقتضي أنهم كانوا يزيلون العصمة عند النطق به فجاز أن يكون زوالها لكونه إنشاء كما زعمتم أو لكونه كذبا وجرت عادتهم أن من أخبر بهذا الكذب زالت عصمة نكاحه وهذا كما التزموا تحريم الناقة إذا جاءت بعشرة من الولد ونحو ذلك قال وأما قولكم إنه يوجب التحريم المؤقت وهذا حقيقة الإنشاء لا الإخبار فلا نسلم أن ثم تحريما ألبتة والذي دل عليه القرآن وجوب تقديم الكفارة على الوطء كتقديم الطهارة على الصلاة فإذا قال الشارع لا تصل حتى تتطهر لا يدل ذلك على تحريم الصلاة عليه بل ذلك نوع ترتيب سلمنا أن الظهار ترتب عليه تحريم لكن التحريم عقب الشيء قد يكون لاقتضاء اللفظ له ودلالته عليه وهذا هو الإنشاء وقد يكون عقوبة محضة كترتيب حرمان الإرث على القتل وليس القتل إنشاء للتحريم وكترتب التعزير على الكذب وإسقاط العدالة به فهذا ترتيب بالوضع الشرعي لا بدلالة اللفظ وحقيقة الإنشاء أن يكون ذلك وضع لذلك الحكم ويدل عليه كصيغ العقود فسببية القول أعم من كونه سببا بالإنشاء أو بغيره فكل إنشاء سبب وليس كل سبب إنشاء فالسببية أعم فلا يستدل بمطلقها على الإنشاء فإن الأعم لا يستلزم الأخص فظهر الفرق بين ترتب التحريم على الطلاق وترتبه على الظهار قال وأما قولكم إنه كالتكلم بالطلاق والعتاق والبيع ونحوها فقياس في الأسباب فلا نقبله ولو سلمناه فنص القرآن يدفعه وهذه الإعتراضات عليهم باطلة ________________________________________ أما قوله إن كونه طلاقا في الجاهلية لا يقتضي أنهم كانوا يثبتون به الطلاق إلى آخره فكلام باطل قطعا فإنهم لم يكونوا يقصدون الإخبار الكذب ليترتب عليه التحريم بل كانوا إذا أرادوا الطلاق أتوا بلفظ الظهار إرادة للطلاق ولم يكونوا عند أنفسهم كاذبين ولا مخبرين وإنما كانوا منشئين للطلاق به ولهذا كان هذا ثابتا في أول الإسلام حتى نسخه الله بالكفارة في قصة خولة بنت ثعلبة كانت تحت عبادة بن الصامت // حسن فقال لها أنت علي كظهر أمي فأتت رسول الله فسألته عن ذلك فقال رسول الله حرمت عليه فقالت يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر الطلاق وإنه أبو ولدي وأحب الناس إلي فقال حرمت عليه فقالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي فقال رسول الله ما أراك إلا قد حرمت عليه ولم أومر في شأنك بشيء فجعلت تراجع رسول الله وإذا قال لها حرمت عليه هتفت وقالت أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي وإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول اللهم إني أشكوا إليك وكان هذا أول ظهار في الإسلام فنزل الوحي على رسول الله فلما قضى الوحي قال ادعي زوجك فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمع الله الآيات فهذا يدل على أن الظهار كان إنشاء للتحريم الحاصل بالطلاق في أول الإسلام ثم نسخ ذلك بالكفارة وبهذا يبطل ما نظر به من تحريم الناقة عند ولادتها عشرة أبطن ونحوه فإنه ليس هناك لفظ إنشاء يقتضي التحريم بل هو شرع منهم لهذا التحريم عند هذا السبب وأما قوله إنا لا نسلم أنه يوجب تحريما فكلام باطل فإنه لا نزاع بين الفقهاء أن الظهار يقتضي تحريما تزيله الكفارة فلو وطئها قبل التكفير أثم بالإجماع المعروف من الدين والتحريم المؤقت هنا كالتحريم بالإحرام وبالصيام والحيض ________________________________________ وأما تنظيره بالصلاة مع الطهر ففاسد فإن الله أوجب عليه صلاة بطهر فإذا لم يأت بالطهر ترك ما أوجب الله عليه فاستحق الإثم وأما المظاهر فإنه حرم على نفسه امرأته وشبهها بمن تحرم عليه فمنعه الله من قربانها حتى يكفر فهنا تحريم مستند إلى طهارة وفي الصلاة لا تجزي منه بغير طهر لأنها غير مشروعة أصلا وقوله التحريم عقب الشيء قد يكون لاقتضاء اللفظ له وقد يكون عقوبة إلى آخر جوابه أنهما غير متنافيين في الظهار فإنه حرام تحرم به تحريما مؤقتا حتى يكفر وهذا لا يمنع كون اللفظ إنشاء كجمع الثلاث عند من يوقعها والطلاق في الحيض فإنه يحرم ويتعقبه التحريم وقد قلتم إن طلاق السكران يصح عقوبة له مع أنه لو لم يأت بإنشاء السبب لم تطلق امرأته اتفاقا فكون التحريم عقوبة لا ينفي أن يستند إلى أسبابها التي تكون إنشاءات لها قوله السببية أعم من الإنشاء إلى آخره جوابه أن السبب نوعان فعل وقول فمتى كان قولا لم يكن إلا إنشاء فإن أردتم بالعموم أن سببية القول أعم من كونها إنشاء وإخبارا فممنوع وإن أردتم أن مطلق السببية أعم من كونها سببية بالفعل والقول فمسلم ولا يفيدكم شيئا وفصل الخطاب أن قوله أنت علي كظهر أمي يتضمن إنشاء وإخبارا فهو إنشاء من حيث قصد التحريم بهذا اللفظ وإخبار من حيث تشبيهها بظهر أمه ولهذا جعله الله منكرا وزورا فهو منكر باعتبار الإنشاء وزور باعتبار الإخبار وأما قوله إن المنكر هو الخبر الكاذب فالخبر الكاذب من المنكر والمنكر أعم منه فالإنكار في الإنشاء والإخبار فإنه ضد المعروف فما لم يؤذن فيه من الإنشاء فهو منكر وما لم يكن صدقا من الإخبار فهو زور أهـ { بدائع الفوائد حـ1 صـ 11 ـ 15 } ________________________________________ سورة الصف قال تعالى { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } وقال عن عباده المؤمنين أنهم سألوه ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وأصل الزيغ الميل ومنه زاغت الشمس إذا مالت فأزاغه القلب إمالته وزيغه ميله عن الهدى إلى الضلال والزيغ يوصف به القلب والبصر كما قال تعالى وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وقال قتادة ومقاتل شخصت فرقا وهذا تقريب للمعنى فإن الشخوص غير الزيغ وهو أن يفتح عينيه ينظر إلى الشيء فلا يطرق ومنه شخص بصر الميت ولما مالت الأبصار عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى هؤلاء الذين أقبلوا إليهم من كل جانب اشتغلت عن النظر إلى شيء آخر فمالت عنه وشخصت بالنظر إلى الأحزاب وقال الكلبي مالت أبصارهم إلا من النظر إليهم وقال الفراء زاغت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها متحيرة تنظر إليه قلت القلب إذا امتلأ رعبا شغله ذلك عن ملاحظة ما سوى المخوف فزاغ البصر عن الوقوع عليه وهو مقابلة أهـ { شفاء العليل صـ 100 } سورة الجمعة قوله تعالى { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين} فقاس من حمله سبحانه كتابه ليؤمن به ويتدبره ويعمل به ويدعو إليه ثم خالف ذلك ولم يحمله إلا على ظهر قلب فقراءته بغير تدبر ولا تفهم ولا اتباع له ولا تحكيم له وعمل بموجبه كحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها وحظه منها حمله على ظهره ليس إلا فحظه من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره فهذا المثل وإن كان قد ضرب لليهود فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به ولم يؤد حقه ولم يرعه حق رعايته أهـ { إلام الموقعين حـ 1 صـ 197 } سورة المنافقون قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله } ________________________________________ والمقصود أن دوام الذكر لما كان سببا لدوام المحبة وكان الله سبحانه احق بكمال الحب والعبودية والتعظيم والاجلال كان كثرة ذكره من انفع ما للعبد وكان عدوه حقا هو الصاد له عن ذكر ربه وعبوديته ولهذا أمر الله سبحانه بكثرة ذكره في القرآن وجعله سببا للفلاح فقال تعالى واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون الجمعة 10 وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا الجمعة 41 وقال تعالى والذاكرين الله كثيرا والذاكرات الأحزاب 35 وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم اموالكم ولا اولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون المنافقون 9 وقال تعالى فاذكروني اذكركم البقرة 152 وقال النبي سبق المفردون قالوا يا رسول الله وما المفردون قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات وفي الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي انه قال إلا أدلكم على خير اعمالكم وازكاها عند مليككم وارفعها في درجاتكم وخير لكم من انفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى يا رسول الله قال ذكر الله تعالى // إسناده صحيح // وهو في الموطأ موقوف على أبي الدرداء قال معاذ بن جبل ما عمل آدمي عملا انجى له من عذاب الله من ذكر الله وذكر رسوله تبع لذكره والمقصود أن دوام الذكر سبب لدوام المحبة فالذكر للقلب كالماء للزرع بل كالماء للسمك لا حياة له إلا به وهو أنواع ذكره بأسمائه وصفاته والثناء عليه بها الثاني تسبيحه وتحميده وتكبيره وتهليله وتمجيده والغالب من استعمال لفظ الذكر عند المتأخرين هذا الثالث ذكره بأحكامه واوامره ونواهيه وهو ذكر العالم بل الانواع الثلاثة هي ذكرهم لربهم ومن افضل ذكره ذكره بكلامه قال تعالى { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } طه 124 فذكره هنا كلامه الذي انزله على رسوله وقال تعالى الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الرعد 28 ________________________________________ أهـ { جلاء الأفهام صـ 307 ـ 308 } سورة التحريم قوله تعالى { فقد صغت قلوبكما } لغة العرب متنوعة في إفراد المضاف وتثنيته وجمعه بحسب أحوال المضاف إليه فإن أضافوا الواحد المتصل إلى مفرد أفردوه وإن أضافوه إلى اسم جمع ظاهر أو مضمر جمعوه وإن أضافوه إلى اسم مثنى فالأفصح من لغتهم جمعه لقوله تعالى فقد صغت قلوبكما التحريم4 وإنما هما قلبان لا غير وقوله والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما المائدة38 وتقول العرب إضرب أعناقهما واقطع ألسنتهما وهذا أفصح استعمالهم وتارة يفردون المضاف فيقولون لسانهما وقلبهما وظهرهما وتارة يثنونه كقوله ظهراهما مثل ظهور الترسين والقرآن إنما نزل بلغة العرب لا بلغة العجم والطماطم والأنباط الذين أفسدوا الدين وتلاعبوا بالنصوص وانتهكوا حرماتها وجعلوها عرضة لتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وإذا كان من لغتهم وضع الجمع موضع التثنية لئلا يجمعوا في لفظ واحد بين تثنيتين ولا لبس هناك فلأن يوضع الجمع موضع التثنية فيما إذا كان المضاف إليه مجموعا أولى بالجواز يدل عليه أنك لا تكاد تجد في كلامهم عينينا ويدينا ونحو ذلك ولا يلبس على السامع قول المتكلم نراك بأعيننا ونأخذك بأيدينا ونحو ذلك ولا يفهم منه بشر على وجه الأرض عيونا كثيرة على وجه واحد وأيديا متعددة على بدن واحد فهل قدر القرآن حق قدره من زعم أن هذا ظاهره أهـ { الصواعق المرسلة حـ 1 صـ 266 ـ 268 } ________________________________________ قوله تعالى {ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذا قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين } فاشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال مثل للكفار ومثلين للمؤمنين فتضمن مثل الكفار أن الكافر يعاقب على كفره وعداوته لله ورسوله وأوليائه ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب أو صلة صهر أو سبب من أسباب الاتصال فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة إلا ما كان منها متصلا بالله وحده على أيدي رسله فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة أو النكاح مع عدم الإيمان لنفعت الوصلة التي كانت بين لوط ونوح وامرأتيهما فلما لم يغنيا عنهما من الله شيئا قيل ادخلا النار مع الداخلين ________________________________________ قطعت الآية حينئذ طمع من ركب معصية الله وخالف أمره ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي ولو كان بينهما في الدنيا أشد الاتصال فلا اتصال فوق اتصال البنوة الأبوة والزوجية ولم يغن نوح عن ابنه ولا إبراهيم عن أبيه ولا نوح ولا لوط عن امرأتيهما من الله شيئا قال الله تعالى لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم وقال تعالى يوم لا تملك نفس لنفس شيئا وقال تعالى واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا وقال واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ولا مولولد هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق وهذا كله تكذيب لأطماع المشركين الباطلة أن من تعلقوا به من دون الله من قرابة أو صهر أو نكاح أو صحبة ينفعهم يوم القيامة أو يجيرهم من عذاب الله أو هو يشفع لهم عند الله وهذا أصل ضلالة بني آدم وشركهم وهو الشرك الذي لا يغفره الله وهو الذي بعث الله جميع رسله وأنزل جميع كتبه بإبطاله ومحاربة أهله ومعاداتهم فصل وأما المثلان اللذان للمؤمنين فأحدهما امرأة فرعون ووجه المثل أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئا إذا فارقه في كفره وعمله فمعصية الغير لا تضر المؤمن المطيع شيئا في الآخرة وإن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض إذا أضاعوا أمر الله فتأتي عامة فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به وهو من أكفر الكافرين ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما وهما رسولا رب العالمين المثل الثاني للمؤمنين مريم التي لا زوج لها لا مؤمن ولا كافر فذكر ثلاثة أصناف من النساء المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر والمرأة العزب التي لا وصلة بينها وبين أحد فالأولى لا تنفعها وصلتها وسببها والثانية لا تضرها وصلتها وسببها والثالثة لا يضرها عدم الوصلة شيئا ________________________________________ ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي ص - والتحذير من تظاهرهن عليه وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله ويردن الدار الآخرة لم ينفعهن اتصالهن برسول الله ص - كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما ولهذا إنما ضرب في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة قال يحيى بن سلام ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة وفي ضرب المثل للمؤمنين بمريم أيضا اعتبار آخر وهو أنها لم يضرها عند الله شيئا قذف أعداء الله اليهود لها ونسبتهم إياها وابنها إلى ما برأهما الله عنه مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين فلا يضر الرجل الصالح قدح الفجار والفساق فيه وفي هذا تسلية لعائشة أم المؤمنين إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك وتوطين نفسها على ما قال فيها الكاذبون إن كانت قبلها كما في ذكر التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذير لها ولحفصة مما اعتمدتاه في حق النبي ص - فتضمنت هذه الأمثال التحذير لهن والتخويف والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد والتسلية وتوطين النفس لمن أوذي منهن وكذب عليه وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه ولا سيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون قالوا فهذا بعض ما اشتمل عليه القرآن من التمثيل والقياس والجمع والفرق واعتبار العلل والمعاني وارتباطها بأحكامها تأثيرا واستدلالا أهـ { إعلام الموقعين حـ 1 صـ 225 ـ 228 } ________________________________________ سورة { ن } قوله تعالى { فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت اذ نادى وهو مكظوم } وها هنا سؤال نافع وهو أن يقال ما العامل في الظرف وهو قوله اذ نادى ولا يمكن أن يكون الفعل المنهى عنه اذ يصير المعنى لا تكن مثله في ندائه وقد أثنى الله سبحانه عليه في هذا النداء فأخبر أنه نجاه به فقال وذا النون اذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا اله الا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين وفي الترمذى وغيره عن النبي أنه قال دعوة أخى ذى النون اذ دعا بها في بطن الحوت ما دعا بها مكروب الا فرج الله عنه لا اله الا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين فلا يمكن أن ينهى عن التشبه به في هذه الدعوة وهى النداء الذى نادى به ربه وانما نهى عن التشبه به في هذه الدعوة وهى النداء الذى نادى به ربه وانما ينهى عن التشبه به في السبب الذى أفضى به إلى هذه المناداة وهى مغاضبته التى أفضت به إلى حبسه في بطن الحوت وشدة ذلك عليه حتى نادى ربه وهو مكظوم والكظيم والكاظم الذى قد امتلأ غيظا وغضبا وهما وحزنا وكظم عليه فلم يخرجه فإن قيل وعلى ذلك فما العامل في الظرف قيل ما في صاحب الحوت من معنى الفعلفإن قيل فالسؤال بعد قائم فإنه إذا قيد المنهى بقيد أو زمن كان داخلا في حيز النهى فإن كان المعنى لا تكن مثل صاحب الحوت في هذه الحال أو هذا الوقت كان نهيا عن تلك الحالة قيل لما كان نداؤه مسببا عن كونه صاحب الحوت فنهى أن يشبه به في الحال التى أفضت به إلى صحبته الحوت والنداء وهى ضعف العزيمة والصبر لحكمه تعالى ولم يقل تعالى ولا تكن كصاحب الحوت إذ ذهب مغاضبا فالتقمه الحوت فنادى بل طوى القصة واختصرها وأحال بها على ذكرها في الموضع الآخر واكتفي بغايتها وما انتهت اليه ________________________________________ فان قيل فما منعك بتعويض الظرف بنفس الفعل المنهى عنه أى لا تكن مثله في ندائه وهو ممتلئ غيظا وهما وغما بل يكون نداؤك نداء راض بما قضى عليه قد تلقاه بالرضا والتسليم وسعة الصدر لا نداء كظيم قيل هذا المعنى وان كان صحيحا الا أن النهى لم يقع عن التشبه به في مجرده وانما نهى عن التشبه به في الحال التى حملته على ذهابه مغاضبا حتى سجن في بطن الحوت ويدل عليه قوله تعالى فاصبر لحكم ربك ثم قال ولا تكن كصاحب الحوت أى في ضعف صبره لحكم ربه فان الحالة التى نهى عنها هى ضد الحالة التى أمر بها فإن قيل فما منعك أن تصبر حيث أمر بالصبر لحكمه الكونى القدرى الذى يقدره عليه ولا تكن كصاحب الحوت حيث لم يصبر عليه بل نادى وهو كظيم لكشفه فلم يصبر على احتماله والسكون تحته قيل منع من ذلك أن الله سبحانه أثنى على يونس وغيره من أنبيائه بسؤالهم اياه كشف ما بهم من الضر وقد أثنى عليه سبحانه بذلك في قوله وذا النون اذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا اله الا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين فاستجبنا له فنجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين فكيف ينهى عن التشبه به فيما يثنى عليه ويمدحه به وكذلك أثنى على أيوب بقوله مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين وعلى يعقوب بقوله انما أشكو بثى وحزنى إلى الله ________________________________________ وعلى موسى بقوله رب انى لما أنزلت إلى من خير فقير وقد شكا إليه خاتم أنبيائه ورسله بقوله اللهم أشكو اليك ضعف قوتى وقلة حيلتى الحديث فالشكوى إليه سبحانه لا تنافي الصبر الجزيل بل اعراض عبده عن الشكوى إلى غيره جملة وجعل الشكوى إليه وحده هو الصبر والله تعالى يبتلى عبده ليسمع شكواه وتضرعه ودعاءه وقد ذم سبحانه من لم يتضرع اليه ولم يستكن له وقت البلاء كما قال تعالى ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون والعبد أضعف من أن يتجلد على ربه والرب تعالى لم يرد من عبده أن يتجلد عليه بل أراد منه أن يستكين له ويتضرع اليه وهو تعالى يمقت من يشكوه إلى خلقه ويحب من يشكو ما به اليه وقيل لبعضهم كيف تشتكى اليه ما ليس يخفي عليه فقال ربى يرضى ذل العبد اليه والمقصود أنه سبحانه أمر رسوله أن يصبر صبر أولى العزم الذين صبروا لحكمه اختيارا وهذا أكمل الصبر ولهذا دارت قصة الشفاعة يوم القيامة على هؤلاء حتى ردوها إلى أفضلهم وخيرهم وأصبرهم لحكم الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فإن قيل أى انواع الصبر الثلاثة أكمل الصبر على المأمور أم الصبر عن المحظور أم الصبر على المقدور قيل الصبر المتعلق بالتكليف وهو الأمر والنهى أفضل من الصبر على مجرد القدر فان هذا الصبر يأتى به البر الفاجر والمؤمن والكافر فلا بد لكل أحد من الصبر على القدر اختيارا أو اضطرارا وأما الصبر على الاوامر والنواهى فصبر أتباع الرسل وأعظمهم اتباعا أصبرهم في ذلك وكل صبر في محله وموضعه أفضل فالصبر عن الحرام في محله أفضل وعلى الطاعة في محلها أفضل فإن قيل أى الصبرين أحب إلى الله صبر من يصبر على أوامره أم صبر من يصبر عن محارمه قيل هذا موضع تنازع فيه الناس فقالت طائفة الصبر عن المخالفات أفضل ________________________________________ لأنه أشق وأصعب فإن أعمال البر يفعلها البر والفاجر ولا يصبر عن المخالفات إلا الصديقون قالوا ولأن الصبر عن المحرمات صبر على مخالفة هوى النفس وهو أشق شىء وأفضله قالوا ولأن ترك المحبوب الذى تحبه النفوس دليل على أن من ترك لأجله أحب اليه من نفسه وهواه بخلاف فعل ما يحبه المحبوب فإنه لا يستلزم ذلك قالوا وأيضا فالمروءة والفتوة كلها في هذا الصبر قال الإمام أحمد الفتوة ترك ما تهوى لما تخشى فمروءة العبد وفتوته بحسب هذا الصبر قالوا وليس العجب ممن يصبر على الأوامر فإن أكثرها محبوبات للنفوس السليمة لما فيها من العدل والإحسان والإخلاص والبر وهذه محاب للنفوس الفاضلة الزكية بل العجب ممن يصبر عن المناهي التي أكثرها محاب للنفوس فيترك المحبوب العاجل في هذه الدار للمحبوب الآجل في دار أخرى والنفس موكلة بحب العاجل فصبرها عنه مخالف لطبعها قالوا ولأن المناهى لها أربعة دواع تدعو اليها نفس الإنسان وشيطانه وهواه ودنياه فلا يتركها حتى يجاهد هذه الأربعة وذلك أشق شيء على النفوس وأمره قالوا فالمناهى من باب حمية النفوس عن مشتهياتها ولذاتها والحمية مع قيام داعى التناول وقوته من أصعب شيء وأشقه قالو أو لذلك كان باب قربان النهى مسدودا كله وباب الامر انما يفعل منه المستطاع كما قال النبي اذا أمرتكم بأمر فاءتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه فدل على ان باب المنهيات أضيق من باب المأمورات وانه لم يرخص في ارتكاب شيء منه كما رخص في ترك بعض المأمورات للعجز والعذر قالوا ولهذا كانت عامة العقوبات من الحدود وغيرها على ارتكاب المنهيات بخلاف ترك المأمور فإن الله سبحانه لم يرتب عليه حدا معينا فأعظم المأمورات الصلاة وقد اختلف العلماء هل على تاركها حد أم لا فصل ________________________________________ فهذا بعض ما احتجت به الطائفة وقالت طائفة أخرى بل الصبر على فعل المأمور أفضل وأجل من الصبر على ترك المحظور لأن فعل المأمور أحب إلى الله من ترك المحظور والصبر على أحب الامرين أفضل وأعلى أهـ { عدة الصابرين صـ 24 ـ 27 } سورة المزمل قوله تعالى { واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا } المزمل : 8 و التبتل الانقطاع وهو تفعل من البتل وهو القطع وسميت مريم البتول لانقطاعها عن الأزواج وعن أن يكون لها نظراء من نساء زمانها ففاقت نساء الزمان شرفا وفضلا وقطعت منهن ومصدر بتل تبتلا كالتعلم والتفهم ولكن جاء على التفعيل مصدر تفعل لسر لطيف فإن في هذا الفعل إيذانا بالتدريج والتكلف والتعمل والتكثر والمبالغة فأتى بالفعل الدال على أحدهما بالمصدر الدال على الآخر فكأنه قيل : بتل نفسك إلى الله تبتيلا وتبتل إليه تبتلا ففهم المعنيان من الفعل ومصدره وهذا كثير في القرآن وهو من أحسن الاختصار والإيجاز قال صاحب المنازل : التبتل : الانقطاع إلى الله بالكلية وقوله عز وجل : له دعوة الحق الرعد : 14 أي التجريد المحض ومراده بالتجريد المحض : التبتل عن ملاحظة الأعواض بحيث لا يكون المتبتل كالأجير الذي لا يخدم إلا لأجل الأجرة فإذا أخذها انصرف عن باب المستأجر بخلاف العبد فإنه يخدم بمقتضى عبوديته لا للأجرة فهو لا ينصرف عن باب سيده إلا إذا كان آبقا والآبق قد خرج من شرف العبودية ولم يحصل له إطلاق الحرية فصار بذلك مركوسا عند سيده وعند عبيده وغاية شرف النفس : دخولها تحت رق العبودية طوعا واختيارا ومحبة لا كرها وقهرا كما قيل : شرف النفوس دخولها في رقهم ... والعبد يحوي الفخر بالتمليك ________________________________________ والذي حسن استشهاده بقوله : له دعوة الحق في هذا الموضع : إرادة هذا المعنى وأنه تعالى صاحب دعوة الحق لذاته وصفاته وإن لم يوجب لداعيه بها ثوابا فإنه يستحقها لذاته فهو أهل أن يعبد وحده ويدعى وحده ويقصد ويشكر ويحمد ويحب ويرجى ويخاف ويتوكل عليه ويستعان به ويستجار به ويلجأ إليه ويصمد إليه فتكون الدعوة الإلهية الحق له وحده ومن قام بقلبه هذا معرفة وذوقا وحالا صح له مقام التبتل والتجريد المحض وقد فسر السلف دعوة الحق بالتوحيد والإخلاص فيه والصدق ومرادهم : هذا المعنى فقال علي رضى الله عنه دعوة الحق : التوحيد وقال ابن عباس رضي الله عنهما شهادة أن لا إله إلا الله وقيل : الدعاء بالإخلاص والدعاء الخالص لا يكون إلا لله وحده ودعوة الحق دعوة الإلهية وحقوقها وتجريدها وإخلاصها قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : تجريد الانقطاع عن الحظوظ واللحوظ إلى العالم خوفا أو رجاء أو مبالاة بحال قلت التبتل يجمع أمرين : اتصالا وانفصالا لا يصح إلا بهما فالانفصال : انقطاع قلبه عن حظوظ النفس المزاحمة لمراد الرب منه وعن التفات قلبه إلى ما سوى الله خوفا منه أو رغبة فيه أو مبالاة به أو فكرا فيه بحيث يشغل قلبه عن الله والاتصال : لا يصح إلا بعد هذا الانفصال وهو اتصال القلب بالله وإقباله عليه وإقامة وجهه له حبا وخوفا ورجاء وإنابة وتوكلا ثم ذكر الشيخ ما يعين على هذا التجريد وبأي شيء يحصل فقال : بحسم الرجاء بالرضى وقطع الخوف بالتسليم ورفض المبالاة بشهود الحقيقة يقول : إن الذى يحسم مادة رجاء المخلوقين من قلبك : هو الرضى بحكم الله عز وجل وقسمه لك فمن رضي بحكم الله وقسمه لم يبق لرجاء الخلق في قلبه موضع ________________________________________ والذي يحسم مادة الخوف : هو التسليم لله فإن من سلم لله واستسلم له وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له لم يبق لخوف المخلوقين في قلبه موضع أيضا فإن نفسه التي يخاف عليها قد سلمها إلى وليها ومولاها وعلم أنه لا يصيبها إلا ما كتب لها وأن ما كتب لها لابد أن يصيبها فلا معنى للخوف من غير الله بوجه وفي التسليم أيضا فائدة لطيفة وهي أنه إذا سلمها الله فقد أودعها عنده وأحرزها في حرزه وجعلها تحت كنفه حيث لا تنالها يد عدو عاد ولا بغي باغ عات والذي يحسم مادة المبالاة بالناس : شهود الحقيقة وهو رؤية الأشياء كلها من الله وبالله وفي قبضته وتحت قهره وسلطانه لا يتحرك منها شيء إلا بحوله وقوته ولا ينفع ولا يضر إلا بإذنه ومشيئته فما وجه المبالاة بالخلق بعد هذا الشهود قال : الدرجة الثانية : تجريد الانقطاع عن التعريج على النفس بمجانبة الهوى وتنسم روح الأنس وشيم برق الكشف الفرق بين هذه الدرجة والتي قبلها : أن الأولى انقطاع عن الخلق وهذه انقطاع عن النفس وجعله بثلاثة أشياء أولها : مجانبة الهوى ومخالفته ونهي نفسه عنه لأن اتباعه يصد عن التبتل وثانيها : وهو بعد مخالفة الهوى تنسم روح الأنس بالله والروح للروح كالروح للبدن فهو روحها وراحتها وإنما حصل له هذا الروح لما أعرض عن هواه فحينئذ تنسم روح الأنس بالله ووجد رائحته إذ النفس لا بد لها من التعلق فلما انقطع تعلقها من هواها وجدت روح الأنس بالله وهبت عليها نسماته فريحتها وأحيتها وثالثها : شيم برق الكشف وهو مطالعته واستشرافه والنظر إليه ليعلم به مواقع الغيث ومساقط الرحمة وليس مراده بالكشف ههنا : الكشف الجزئي السفلي المشترك بين البر والفاجر والمؤمن والكافر كالكشف عن مخبآت الناس ومستورهموإنما هو الكشف عن ثلاثة أشياء هن منتهى كشف الصادقين أرباب البصائر أحدها : الكشف عن منازل السير ________________________________________ والثاني : الكشف عن عيوب النفس وآفات الأعمال ومفسداتها والثالث : الكشف عن معاني الأسماء والصفات وحقائق التوحيد والمعرفة وهذه الأبواب الثلاثة : هي مجامع علوم القوم وعليها يحومون وحولها يدندنون وإليها يشمرون فمنهم من جل كلامه ومعظمه : في السير وصفة المنازل ومنهم من جل كلامه : في الآفات والقواطع ومنهم من جل كلامه : في التوحيد والمعرفة وحقائق الأسماء والصفات والصادق الذكي يأخذ من كل منهم ما عنده من الحق فيستعين به على مطلبه ولايرد ما يجده عنده من الحق لتقصيره في الحق الآخر ويهدره به فالكمال المطلق لله رب العالمين وما من العباد إلا له مقام معلوم قال : الدرجة الثالثة : تجريد الانقطاع إلى السبق بتصحيح الاستقامة والاستغراق في قصد الوصول والنظر إلى أوائل الجمع لما جعل الدرجة الأولى انقطاعا عن الخلق والثانية انقطاعا عن النفس جعل الثالثة طلبا للسبق وجعله بتصحيح الاستقامة وهي الإعراض عما سوى الحق ولزوم الإقبال عليه والاشتغال بمحابه ثم بالاستغراق في قصد الوصول وهو أن يشغله طلب الوصول عن كل شيء بحيث يستغرق همومه وعزائمه وإراداته أوقاته وإنما يكون ذلك بعد بدو برق الكشف المذكور له أهـ { مدارج السالكين حـ 2 صـ 29 ـ 33 } سورة المدثر قوله تعالى { وثيابك فطهر } المدثر : 4 قال قتادة ومجاهد : نفسك فطهر من الذنب فكنى عن النفس بالثوب وهذا قول إبراهيم النخعي والضحاك والشعبي والزهري والمحققين من أهل التفسير قال ابن عباس : لا تلبسها على معصية ولا غدر ثم قال : أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي : وإنى بحمد الله لا ثوب غادر ... لبست ولا من غدرة أتقنع والعرب تقول في وصف الرجل بالصدق والوفاء : طاهر الثياب وتقول للغادر والفاجر : دنس الثياب وقال أبي بن كعب : لا تلبسها على الغدر والظلم والإثم ولكن البسها وأنت بر طاهر ________________________________________ وقال الضحاك : عملك فأصلح قال السدي : يقال للرجل إذا كان صالحا إنه لطاهر الثياب وإذا كان فاجرا إنه لخبيث الثياب وقال سعيد بن جبير : وقلبك وبيتك فطهر وقال الحسن والقرظي : وخلقك فحسن وقال ابن سيرين وابن زيد : أمر بتطهير الثياب من النجاسات التى لا تجوز الصلاة معها لأن المشركين كانوا لا يتطهرون ولا يطهرون ثيابهم وقال طاووس : وثيابك فقصر لأن تقصير الثياب طهرة لها والقول الأول : أصح الأقوال ولا ريب أن تطهيرها من النجاسات وتقصيرها من جملة التطهير المأمور به إذ به تمام إصلاح الأعمال والأخلاق لأن نجاسة الظاهر تورث نجاسة الباطن ولذلك أمر القائم بين يدي الله عز وجل بإزالتها والبعد عنها والمقصود : أن الورع يطهر دنس القلب ونجاسته كما يطهر الماء دنس الثوب ونجاسته وبين الثياب والقلوب مناسبة ظاهرة وباطنة ولذلك تدل ثياب المرء في المنام على قلبه وحاله ويؤثر كل منهما في الآخر ولهذا نهى عن لباس الحرير والذهب وجلود السباع لما تؤثر في القلب من الهيئة المنافية للعبودية والخشوع وتأثير القلب والنفس في الثياب أمر خفي يعرفه أهل البصائر من نظافتها ودنسها ورائحتها وبهجتها وكسفتها حتى إن ثوب البر ليعرف من ثوب الفاجر وليسا عليهما أهـ { مدارج السالكين حـ 2 صـ 10 ـ 12 } قوله تعالى { فمالهم عن التذكرة معرضين } ________________________________________ فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة شبههم في إعراضهم ونفورهم عن القرآن بحمر رأت الأسد أو الرماة ففرت منه وهذا من بديع القياس والتمثيل فإن القوم في جهلهم بما بعث الله به رسوله كالحمر وهي لا تعقل شيئا فإذا سمعت صوت الأسد أو الرامي نفرت منه أشد النفور وهذا غاية الذم لهؤلاء فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم كنفور الحمر عما يهلكها ويعقرها وتحت المستنفرة معنى أبلغ من النافرة فإنها لشدة نفورها قد استنفر بعضها بعضا وحضه على النفور فإن في الاستفعال من الطلب قدرا زائدا على الفعل المجرد فكأنها تواصت بالنفور وتواطأت عليه ومن قرأها بفتح الفاء فالمعنى أن القسورة استنفرها وحملها على النفور ببأسه وشدته أهـ { إعلام الموقعين حـ1 صـ 196 } سورة القيامة قوله تعالى { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } قال الشافعي رضى الله عنه أي مهملا لا يؤمر ولا ينهى وقال غيره لا يثاب ولا يعاقب والقولان واحد لأن الثواب والعقاب غاية الأمر والنهى فهو سبحانه خلقهم للأمر والنهى في الدنيا والثواب والعقاب في الآخرة فأنكر سبحانه على من زعم أنه يترك سدى إنكار من جعل في العقل استقباح ذلك واستهجانه وأنه لا يليق أن ينسب ذلك إلى احكم الحاكمين أهـ { مفتاح دار السعادة حـ 2 صـ 13 } سورة النبأ قال تعالى { إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا } فالكواعب جمع كاعب وهي الناهد قال قتادة ومجاهد والمفسرون قال الكلبي هن الفلكات اللواتي تكعب ثديهن و تفلكت واصل اللفظة من الاستدارة والمراد أن ثديهن نواهد كالرمان ليست متدلية إلى اسفل ويسمين نواهد وكواعب أهـ { حادى الأرواح صـ 157 } ________________________________________ سورة التكوير { إذا الشمس كورت } قرأ قارىء إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وفي الحاضرين أبو الوفاء بن عقيل فقال له قائل يا سيدي هب أنه أنشر الموتى للبعث والحساب وزوج النفوس بقرنائها بالثواب والعقاب فلم هدم الأبنية وسير الجبال ودك الأرض وفطر السماء ونثر النجوم وكور الشمس فقال إنما بني لهم الدار للسكني والتمتع وجعلها وجعل ما فيها للاعتبار والتفكر والاستدلال عليه بحسن التأمل والتذكر فلما انقضت مدة السكنى وأجلاهم من الدار خربها لانتقال الساكن منها فأراد أن يعلمهم بأن الكونين كانت معمورة بهم وفي إحالة الأحوال وإظهار تلك الأهوال وبيان المقدرة بعد بيان العزة وتكذيب لأهل الإلحاد وزنادقة المنجمين وعباد الكواكب والشمس والقمر والأوثان فيعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين فإذا راوا آلهتهم قد انهدمت وأن معبوداتهم قد انثرت وانفطرت ومحالها قد تشققت ظهرت فضائحهم وتبين كذبهم وظهر أن العالم مربوب محدث مدبر له رب يصرفه كيف يشاء تكذيبا لملاحدة الفلاسفة القائلين بالقدم فكم لله تعالى من حمكة في هدم هذه الدار ودلالة على عظم عزته وقدرته وسلطانه وانفراده بالربوبية وانقياد المخلوقات بإسرها لقهره وإذ عانها لمشيئته فتبارك الله رب العالمين أهـ { بدائع الفوائد حـ 3 صـ 700 } سورة المطففين قوله تعالى { كلا بل ران على قلوبهم } قال بعض السلف في قوله تعالى كلا بل ران ! على قلوبهم ما كانوا يكسبون قال هو الذنب بعد الذنب وقال الحسن هو الذنب على الذنب حتى يعمي القلب وقال غيره لما كثرت ذنوبهم ومعاصيهم أحاطت بقلوبهم وأصل هذا أن القلب يصدي من المعصية فاذا زادت غلب الصدي حتي يصيررانا ثم يغلب حتي يصير طبعا وقفلا وختما فيصير القلب في غشاوة وغلاف فاذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انتكس فصار أعلاه أسفله فحينئذ يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد أهـ { الجواب الكافى صـ 39 } ________________________________________ وأما الران فقد قال تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون قال أبو عبيدة غلب عليها والخمر ترين على عقل السكران والموت يرون على الميت فيذهب به ومن هذا حديث اسيفع جهينة وقول عمر فأصبح قدرين به أي غلب عليه وأحاط به الرين وقال أبو معاذ النحوي الرين أن يسود القلب من الذنوب والطبع أن يطبع على القلب وهو أشد من الرين والإقفال أشد من الطبع وهو أن يقفل على القلب وقال الفراء كثرت الذنوب والمعاصي منهم فأحاطت بقلوبهم فذلك الرين عليها وقال أبو إسحاق ران غطى يقال ران على قلبه الذنب يرين رينا أي غشيه قال والرين كالغشاء يغشى القلب ومثله الغين قلت أخطأ أبو إسحاق فألغين ألطف شيء وأرقه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه ليغان على قلبي وأني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة وأما الرين والران فهو من أغلظ الحجب على القلب وأكثفها وقال مجاهد هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب وتغشاه فيموت القلب وقال مقاتل غمرت القلوب أعمالهم الخبيثة وفي سنن النسائي والترمذي من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه وهو الران الذي ذكر الله كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون قال الترمذي هذا حديث صحيح وقال عبد الله بن مسعود كلما أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب كله فأخبر سبحانه أن ذنوبهم التي اكتسبوها أوجبت لهم رينا على قلوبهم فكان سبب الران منهم وهو خلق الله فيهم فهو خالق السبب ومسببه لكن السبب باختيار العبد والمسبب خارج عن قدرته واختياره أهـ { شفاء العليل صـ 91 } ________________________________________ قوله تعالى { كلا إن كتاب الإبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون } فأخبر الله تعالى أن كتابهم كتاب مرقوم تحقيقا لكونه مكتوبا كتابة حقيقية وخص تعالى كتاب الإبرار بإنه يكتب ويوقع لهم به بمشهد المقربين من الملائكة والنبيين وسادات المؤمنين ولم يذكر شهادة هؤلاء لكتاب الفجار تنويها بكتاب الأبرار وما وقع لهم به وإشهارا له وإظهارا بين خواص خلقه كما يكتب الملوك تواقيع من تعظمه بين الأمراء وخواص أهل المملكة تنويها بأسم المكتوب له وإشادة بذكره وهذا نوع من صلاة الله سبحانه وتعالى وملائكته على عبده أهـ { حادى الأرواح صـ 115 } سورة الانشقاق قوله تعالى { لتركبن طبقا عن طبق } الانشقاق 19 أي حالا بعد حال فأول أطباقة كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم جنينا ثم مولودا ثم رضيعا ثم فطميا ثم صحيحا أو مريضا غنيا أو فقيرا معافى أو مبتلى إلى جميع أحوال الإنسان المختلفة عليه إلى أن يموت ثم يبعث ثم يوقف بين يدي الله تعالى ثم يصير إلى الجنة أو النار فالمعنى لتركبن حالا بعد حال ومنزلا بعد منزل وأمرا بعد أمر ذكرنا بعض أطباق الجنين في البطن من حين كونه نطفة إلى وقت ولاده أهـ { تحفة المودود صـ 97 } ________________________________________ سورة الطارق قال تعالى { فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب } الطارق 7 - 5 قال الزجاج قال أهل اللغة التربية موضع القلادة من الصدر والجمع ترائب وقال أبو عبيدة الترائب معلق الحلي من الصدر وهو قول جميع أهل اللغة وقال عطاء عن ابن عباس يريد صلب الرجل وترائب المرأة وهو موضع قلادتها وهذا قول الكلبي ومقاتل وسفيان وجمهور أهل التفسير وهو المطابق لهذه الأحاديث وبذلك أجرى الله العادة في أيجاد ما يوجده من بين أصلين كالحيوان والنبات وغيرهما من المخلوقات فالحيوان ينعقد من ماء الذكر وماء الأنثى كما ينعقد النبات من الماء والتراب والهواء ولهذا قال الله تعالى بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة الأنعام 1 : 1 فإن الولد لا يتكون إلا من بين الذكر وصاحبته و لا ينتقض هذا بآدم وحواء أبوينا ولا بالمسيح فإن الله سبحانه مزج تراب آدم بالماء حتى صار طينا ثم أرسل عليه الهواء والشمس حتى صار كالفخار ثم نفخ فيه الروح وكانت حواء مستلة منه وجزءا من أجزائه والمسيح خلق من ماء مريم ونفخة الملك وكانت النفخة له كالأب لغيره أهـ { تحفة المودود صـ 93 } سورة الشمس قال تعالى { قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } والمعنى قد أفلح من كبرها وأعلاها بطاعة الله وأظهرها وقد خسر من أخفاها وحقرها وصغرها بمعصية الله وأصل التدسية الاخفاء منه قوله تعالى يدسه في التراب فالعاصي يدس نفسه في المعصية ويخفي مكانها ويتوارى من الخلق من سوء ما يأتي به قد انقمع عند نفسه وانقمع عند الله وانقمع عند الخلق فالطاعة والبر تكبر النفس وتعزها وتعليها حتى تصير أشرف شيء وأكبره وأزكاء وأعلاه ومع ذلك فهي أذل شيء وأحقره وأصغره لله تعالى وبهذا الذل حصل لها هذا العز والشرف والنمو فما صغر النفس مثل معصية الله وما كبرها وشرفها ورفعها مثل طاعة الله فصل ________________________________________ ومن عقوباتها أن العاصي دائما في أسر شيطانه وسجن شهواته وقيود هواه فهو أسير مسجون مقيد ولا أسير أسوء حال من أسير من أسير أسره أعدى عدوله ولا سجن أضيق من سجن الهوى ولا قيد أصعب من قيد الشهوة فكيف يسير الى الله والدار الآخرة قلب ماسور مسجون مقيد وكيف يخطو خطوة واحدة وإذا تقيد القلب طرقته الآفات من كل جانب بحسب قيوده ومثل القلب الطائر كلما علا بعد عن الآفات وكلما نزل استوحشه الآفات وفي الحديث الشيطان ذئب الانسان وكما أن الشاة التي لا حافظ لها وهي بين الذئاب سريعة العطب فكذا العبد إذا لم يكن عليه حافظ من الله فذئبه مفترسه ولا بد وإنما يكون عليه حافظ من الله بالتقوى فهي وقاية وجنة حصينة بينه وبين ذئبه كما هي وقاية بينه وبين عقوبات الدنيا والآخرة وكلما كانت الشاة أقرب من الراعى كانت أسلم من الذئب وكلما بعدت عن الراعي كانت أقرب الى الهلاك فاحمي ما تكون الشاة إذا قربت من الراعى وإنما يأخذ الذئب القاصي من الغنم وهي أبعدهن من الراعي وأصل هذا كله إن القلب كلما كان أبعد من الله كانت الآفات اليه أسرع وكلما كان أقرب من الله بعدت عنه الآفات والبعد من الله مراتب بعضها أشد من بعض فالغفلة تبعد العبد عن الله وبعد المعصية أعظم من بعد الغفلة وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية وبعد النفاق والشرك أعظم من ذلك كله أهـ { الجواب الكافى صـ 52 ـ 53 } سورة الضحى قال تعالى { وأما بنعمة ربك فحدث }الضحى : 11 وفي هذا التحديث المأمور به قولان أحدهما : أنه ذكر النعمة والإخبار بها وقوله : أنعم الله علي بكذا وكذا قال مقاتل : يعني اشكر ما ذكر من النعم عليك في هذه السورة : من جبر اليتيموالهدى بعد الضلال والإغناء بعد العيلة والتحدث بنعمة الله شكر كما في حديث جابر مرفوعا : من صنع إليه معروف فليجز به فإن لم يجد ما يجزي به فليثن فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره وإن كتمه فقد كفره ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور ________________________________________ فذكر أقسام الخلق الثلاثة : شاكر النعمة المثني بها والجاحد لها والكاتم لها والمظهر أنه من أهلها وليس من أهلها فهو متحل بما لم يعطه وفي أثر آخر مرفوع : من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله والتحدث بنعمة الله شكر وتركه كفر والجماعة رحمة والفرقة عذاب والقول الثاني : أن التحدث بالنعمة المأمور به في هذه الآية : هو الدعوة إلى الله وتبليغ رسالته وتعليم الأمة قال مجاهد : هي النبوة قال الزجاج : أي بلغ ما أرسلت به وحدث بالنبوة التي آتاك الله وقال الكلبي : هو القرآن أمره أن يقرأه والصواب : أنه يعم النوعين إذ كل منهما نعمة مأمور بشكرها والتحدث بها وإظهارها من شكرها قوله : وهو أيضا من سبل العامة يا ليت الشيخ صان كتابه عن هذا التعليل إذ جعل نصف الإسلام والإيمان من أضعف السبل ________________________________________ بل الشكر سبيل رسل الله وأنبيائه صلى الله عليهم وسلم أجمعين أخص خلقه وأقربهم إليه ويا عجبا ! أي مقام أرفع من الشكر الذي يندرج فيه جميع مقامات الإيمان حتى المحبة والرضى والتوكل وغيرها فإن الشكر لا يصح إلا بعد حصولها وتالله ليس لخواص أولياء الله وأهل القرب منه سبيل أرفع من الشكر ولا أعلى ولكن الشيخ وأصحاب الفناء كلهم يرون أن فوق هذا مقاما أجل منه وأعلى لأن الشكر عندهم يتضمن نوع دعوى وأنه شكر الحق على إنعامه ففي الشاكر بقية من بقايا رسمه لم يتخلص عنها ويفرغ منها فلو فني عنها بتحققه أن الحق سبحانه هو الذي شكر نفسه بنفسه وأن من لم يكن كيف يشكر من لم يزل علم أن الشكر من منازل العامة ولو أن السلطان كسا عبدا من عبيده ثوبا من ثيابه فأخذ يشكر السلطان على ذلك : لعد مخطئا مسيئا للأدب فإنه مدع بذلك مكافأة السلطان بشكره فإن الشكر مكافأة والعبد أصغر قدرا من المكافأة والشهود للحقيقة يقتضي اتحاد نسبة الأخذ والعطاء ورجوعها إلى وصف المعطي وقوته فالخاصة يسقط عندهم الشكر بالشهود وفي حقهم ما هو أعلى منه هذا غاية تقرير كلامهم وكسوته أحسن عبارة لئلا يتعدى عليهم بسوء التعبير الموجب للتنفير ونحن معنا العصمة النافعة : أن كل أحد غير المعصوم فمأخوذ من قوله ومتروك وكل سبيل لا يوافق سبيله فمهجور غير مسلوك أهـ { مدارج السالكين حـ 2 صـ 248 ـ 250 } ________________________________________ سورة التكاثر قوله تعالى { ألهاكم التكاثر } إنه سبحانه أخبر أن التكاثر فى جمع المال وغيره ألهى الناس وشغلهم عن الآخرة والاستعداد لها وتوعدهم على ذلك فقال تعالى ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون فأخبر سبحانه أن التكاثر شغل أهل الدنيا وألهاهم عن الله والدار الآخرة حتى حضرهم الموت فزاروا المقابر ولم يفيقوا من رقدة من ألهاهم التكاثر وجعل الغاية زيارة المقابر دون الموت ايذانا بأنهم غير مستوطنين ولا مستقرين فى القبور وأنهم فيها بمنزلة الزائرين يحضرونها مدة ثم يظعنون عنها كما كانوا فى الدنيا زائرين لها غير مستقرين فيها ودار القرار هى الجنة أو النار ولم يعين سبحانه المتكاثر به بل ترك ذكره اما لأن المذموم هو نفس التكاثر بالشئ لا المتكاثر به كما يقال شغلك اللعب واللهو ولم يذكر ما يلعب ويلهو به واما ارادة الاطلاق وهو كل ما تكاثر به العبد غيره من أسباب الدنيا من مال أو جاه أو عبيد أو اماء أو بناء أو غراس أو علم لا ينبغى به وجه الله أو عمل لا يقربه الى الله فكل هذا من التكاثر الملهى عن الله والدار الآخرة ________________________________________ وفى صحيح مسلم من حديث عبد الله بن الشخير أنه قال انتهيت الى النبى وهو يقرأ ألهاكم التكاثر قال يقول ابن آدم مالى مالى وهل لك من مالك الا ما تصدقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت ثم أوعد سبحانه من ألهاه التكاثر وعيدا مؤكدا اذا عاين تكاثره هباء منثورا وعلم دنياه التى كاثر بها انما كانت خدعا وغرورا فوجد عاقبة تكاثره عليه لا له وخسر هنالك تكاثره كما خسر أمثاله وبدا له من الله ما لم يكن فى حسابه وصار تكاثره الذى شغله عن الله والدار الآخرة من أعظم أسباب عذابه فعذب بتكاثره فى دنياه ثم عذب به فى البرزخ ثم يعذب به يوم القيامة فكان أشقى بتكاثره اذ أفاد منه العطب دون الغنيمة والسلامة فلم يفز من تكاثره الا بأن صار من الأقلين ولم يحفظ به من علوه به فى الدنيا بأن حصل مع الاسفلين فيا له تكاثرا ما أقله ورزءا ما أجله ومن غنى جالبا لكل فقر وخيرا توصل به الى كل شر يقول صاحبه اذا انكشف عنه غطاؤه يا ليتنى قدمت لحياتى وعملت فيه بطاعة الله قبل وفاتى رب ارجعونى لعلى أعمل صالحا فيما تركت كلا انها كلمة هو قائلها تلك كلمة يقولها فلا يعول عليها ورجعة يسألها فلا يجاب إليها وتأمل قوله أولا رب استغاث بربه ثم التفت الى الملائكة الذين أمروا بإحضاره بين يدى ربه تبارك وتعالى فقال أرجعونى ثم ذكر سبب سؤال الرجعة وهو أن يستقبل العمل الصالح فيما ترك خلفه من ماله وجاهه وسلطانه وقوته وأسبابه فيقال له كلا لا سبيل لك الى الرجعى وقد عمرت ما يتذكر فيه من تذكر ________________________________________ ولما كان شأن الكريم الرحيم أن يجيب من استغاث وأن يفسح له فى المهلة لتيذكر مافاته أخبر سبحانه أن سؤال هذا المفرط الرجعة كلمة هو قائلها لا حقيقة تحتها وأن سجيته وطبيعته تأبى أن تعمل صالحا لو أجيب وانما ذلك شئ يقوله بلسانه وأنه لو رد لعاد لما نهى عنه وأنه من الكاذبين فحكمه أحكم الحاكمين وعزته وعلمه وحمده يأبى اجابته الى ما سأل فإنه لا فائدة فى ذلك ولو رد لكانت حالته الثانية مثل حالته الاولى كما قال تعالى {ولو ترى اذ وقفوا على النار قالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون } وقد حام أكثر المفسرين حول معنى هذه الآية وما أوردوا فراجع أقوالهم تجدها لا تشفى عليلا ولا تروى غليلا ومعناها أجل وأعظم مما فسروها به ولم يتفطنوا لوجه الاضراب ببل ولا للأمر الذى بدا لهم وكانوا يخفونه وطنوا أن الذى بدا لهم العذاب فلما لم يروا ذلك ملتئما مع قوله ما كانوا يخفون من قبل قد روا مضافا محذوفا وهو خبر ما كانوا يخفون من قبل فدخل عليهم أمر آخر لا جواب لهم عنه وهو أن القوم لم يكونوا يخفون شركهم وكفرهم بل كانوا يظهرونه ويدعون إليه ويحاربون عليه ولما علموا أن هذا وارد عليهم قالوا ان القوم فى بعض موارد القيامة ومواطنها أخفوا شركهم وجحدوه وقالوا والله ربنا ما كنا مشركين فلما وقفوا على النار بدا لهم جزاء ذلك الذى أخفوه قال الواحدى وعلى هذا أهل التفسير ولم يصنع أرباب هذا القول شيئا فإن السياق والاضراب ببل والاخبار عنهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وقولهم والله ربنا ما كنا مشركين لا يلتئم بهذا الذى ذكروه فتأمله ________________________________________ وقالت طائفة منهم الزجاج بل بدا للاتباع ما أخفاه عنهم الرؤساء من أمر البعث وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير وفيه من التكلف ما ليس بخاف واجود من هذا ما فهمه المبرد من الآية قال كأن كفرهم لم يكن باديا لهم اذ خفيت عليهم مضرته ومعنى كلامه أنهم لما خفيت عليهم مضرة عاقبته ووباله فكأنه كان خفيا عنهم لم تظهر لهم حقيقته فلما عاينو العذاب ظهرت لهم حقيقته وشره قال وهذا كما تقول لمن كنت حدثته فى أمر قبل وقد ظهر لك الآن ما كنت قلت لك وقد كان ظاهرا له قبل هذا ولا يسهل أن يعبر عن كفرهم وشركهم الذى كانوا ينادون به على رءوس الاشهاد ويدعون اليه كل حاضر وباد بأنهم كانوا يخفونه لخفاء عاقبته عنهم ولا يقال لمن أظهر الظلم والفساد وقتل النفوس والسعى فى الأرض بالفساد أنه أخفى ذلك لجهله بسوء عاقبته وخفائها عليه فمعنى الآية والله أعلم بما أراد من كلامه أن هؤلاء المشركين لما وقفوا على النار وعاينوها وعلموا أنهم داخلوها تمنوا أنهم يردون الى الدنيا فيؤمنون بالله وآياته ولا يكذبون رسله فأخبر سبحانه أن الأمر ليس كذلك وأنهم ليس فى طبائعهم وسجاياهم الايمان بل سجيتهم الكفر والشرك والتكذيب وأنهم لو ردوا لكانوا بعد الرد كما كانوا قبله وأخبر أنهم كاذبون فى زعمهم أنهم لو ردوا لآمنوا وصدقوا فإذا تقرر مقصود الآية ومرادها تبين معنى الاضراب ببل وتبين معنى الذى بدا ________________________________________ لهم والذى كانوا يخفونه والحامل لهم على قولهم يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا فالقوم كانوا يعلمون أنهم كانوا فى الدنيا على باطل وأن الرسل صدقوهم فيما بلغوهم عن الله وتيقنوا ذلك وتحققوه ولكنهم أخفوه ولم يظهروه بينهم بل تواصوا بكتمانه فلم يكن الحامل لهم على تمنى الرجوع والايمان معرفة ما لم يكونوا يعرفونه من صدق الرسل فإنهم كانوا يعلمون ذلك ويخفونه وظهر لهم يوم القيامة ما كانوا ينطوون عليه من علمهم أنهم على باطل وأن الرسل على الحق فعاينوا ذلك عيانا بعد أن كانوا يكتمونه ويخفونه فلو ردوا لما سمحت نفوسهم بالايمان ولعادوا الى الكفر والتكذيب فإنهم لم يتمنوا الايمان لعلمهم يومئذ أنه هو الحق وأن الشرك باطل وانما تمنوا لما عاينوا العذاب الذى لا طاقة لهم باحتماله وهذا كمن كان يخفى محبة شخص ومعاشرته وهو يعلم أن حبه باطل وأن الرشد فى عدوله عنه فقيل له ان اطلع عليه وليه عاقبك وهو يعلم ذلك ويكابر ويقول بل محبته ومعاشرته هى الصواب فلما أخذه وليه ليعاقبه على ذلك وتيقن العقوبة تمنى أن يعفى من العقوبة وأنه لا يجتمع به بعد ذلك وفى قلبه من محبته والحرص على معاشرته ما يحمله على المعاوده بعد معاينة العقوبة بل بعد أن مسته وأنهكته فظهر له عند العقوبة ما كان يخفى من معرفته بخطئه وصواب ما نهاه عنه ولو رد لعاد لما نهى عنه وتأمل مطابقة الاضراب لهذا المعنى وهو نفى قولهم انا لو رددنا لآمنا وصدقنا لأنه ظهر لنا الآن أن ما قاله الرسل هو الحق أى ليس كذلك بل كنتم تعلمون ذلك وتعرفونه وكنتم تخفونه فلم يظهر لكم شئ لتكونوا عالمين به لتعذروا بل ظهر لكم ما كان معلوما وكنتم تتواصون بإخفائه وكتمانه والله أعلم ولا تستطل هذا الفضل المعترض فى أثناء هذه المسألة فلعله أهم منها وأنفع وبالله التوفيق فلنرجع الى تمام الكلام فيها ________________________________________ وقوله كلا لو تعلمون علم اليقين جوابه محذوف دل عليه ما تقدم أى لما ألهاكم التكاثر وانما وجد هذا التكاثر وإلهاؤه عما هو أولى بكم لما فقد منكم علم اليقين وهو العلم الذى يصل به صاحبه الى حد الضروريات التى لا يشك ولا يمارى فى صحتها وثبوتها ولو وصلت حقيقة هذا العلم الى القلب وباشرته لما ألهاه عن موجبه ويرتب أثره عليه فإن مجرد العلم بقبح الشئ وسوء عواقبه قد لا يكفى فى تركه فإذا صار له علم اليقين كان اقتضاء هذا العلم لتركه أشد فاذا صار عين يقين كجملة المشاهدات كان تخلف موجبه عنه من أندر شئ وفى هذا المعنى قال حسان بن ثابت رضى الله عنه فى أهل بدر سرنا وساروا إلى بدر لحتفهم ... لو يعلمون يقين العلم ما ساروا وقوله كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون قيل تأكيد لحصول العلم كقوله كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون وقيل ليس تأكيدا بل العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت والعلم الثانى فى القبر هذا قول الحسن ومقاتل ورواه عطاء عن ابن عباس ويدل على صحة هذا القول عدة أوجه أحدها أن الفائدة الجديدة والتأسيس هو الأصل وقد أمكن اعتباره مع فخامة المعنى وجلالته وعدم الاخلال بالفصاحة الثانى توسط ثم بين العلمين وهى مؤذنة بتراخى ما بين المرتبتين زمانا وخطرا الثالث ان هذا القول مطابق للواقع فإن المحتصر يعلم عند المعاينة حقيقة ما كان عليه ثم يعلم فى القبر وما بعده ذلك علما هو فوق الأول الرابع أن عليا بن أبى طالب رضى الله عنه وغيره من السلف فهموا من الآية عذاب القبر قال الترمذى حدثنا أبو كريب حدثنا حكام بن سليم الرازى عن عمرو بن أبى قيس عن الحجاج بن المنهال بن عمر عن زر عن على رضى الله عنه قال ما زلنا نشك فى عذاب القبر حتى نزلت الهاكم التكاثر قال الواحدى يعنى أن معنى قوله كلا سوف تعلمون فى القبر ________________________________________ الخامس ان هذا مطابق لما بعده من قوله لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين فهذه الرؤية الثانية غير الأولى من وجهين إطلاق الأولى وتقييد الثانية بعين اليقين وتقدم الأولى وتراخى الثانية عنها ثم ختم السورة بالاخبار المؤكد بواو القسم ولام التأكيد والنون الثقيلة عن سؤال النعيم فكل أحد يسأل عن نعيمه الذى كان فيه فى الدنيا هل ناله من حلاله ووجهه أم لا فاذا تخلص من هذا السؤال سئل سؤالا آخر هل شكر الله تعالى عليه فاستعان به على طاعته أم لا فالأول سؤال عن سبب استخراجه والثانى عن محل صرفه كما فى جامع الترمذى من حديث عطاء بن أبى رباح عن ابن عمر عن النبى قال لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسئل عن خمس عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعماذا عمل فيما علم وفيه أيضا عن أبى برزة قال قال رسول الله لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسئل عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيما عمل فيه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أبلاه قال هذا حديث صحيح وفيه أيضا من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله ان أول ما يسئل عنه العبد يوم القيامة يعنى من النعيم أن يقال له ألم نصح جسمك ونرويك من الماء البارد ________________________________________ وفيه أيضا من حديث الزبير بن العوام رضى الله عنه لما نزلت لتسئلن يومئذ عن النعيم قال الزبير يا رسول الله فأى النعيم نسئل عنه وانما هو الأسودان التمر والماء قال أما انه سيكون قال هذا حديث حسن وعن أبى هريرة نحوه وقال انما هو الاسودان العدو حاضر سيوفنا على عواتقنا قال ان ذلك سيكون وقوله ان ذلك سيكون إما أن يكون المراد به أن النعيم سيكون ويحدث لكم وإما أن يرجع الى السؤال أي ان السؤال يقع عن ذلك وان كان تمرا وماء فانه من النعيم ويدل عليه قوله فى الحديث الصحيح وقد أكلوا معه رطبا ولحما وشربوا من الماء البارد هذا من النعيم الذى تسئلون عنه يوم القيامة فهذا سؤال عن شكره والقيام بحقه وفى الترمذى من حديث أنس رضى الله عنه عن النبى قال يجاء بالعبد يوم القيامة كأنه بذج فيوقف بين يدى الله تعالى فيقول الله أعطيتك وخولتك وأنعمت عليك فماذا صنعت فيقول يا رب جمعته وثمرته فتركته أوفر ما كان فارجعنى آتيك به فاذا عبيد لم يقدم خيرا فيمضى به الى النار وفيه من حديث أبى سعيد وأبى هريرة رضى الله عنهما قالا قال رسول الله يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول الله ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا وولدا وسخرت لك الأنعام والحرث وتركتك ترأس وترتع أفكنت تظن أنك ملاق يومك هذا فيقول لا فيقول له اليوم أنساك كما نسيتنى قال هذا حديث صحيح ________________________________________ وقد زعم طائفة من المفسرين أن هذا الخطاب خاص بالكفار وهم المسؤلون عن النعيم وذكر ذلك عن الحسن ومقاتل واختار الواحدى ذلك واحتج بحديث ابى بكر لما نزلت هذه الآية قال رسول الله أرأيت أكلة أكلتها معك ببيت أبى الهيثم بن النبهان من خبز شعير ولحم وبسر قد ذنب وماء عذب أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذى نسأل عنه فقال رسول الله انما ذلك للكفار ثم قرأ وهل نجازى إلا الكفور قال الواحدى والظاهر يشهد بهذا القول لأن السورة كلها خطاب للمشركين وتهديد لهم والمعنى أيضا يشهد بهذا القول وهو أن الكفار لم يؤدوا حق النعيم عليهم حيث اشركوا به وعبدوا غيره فاستحقوا أن يسئلوا عما أنعم به عليهم توبيخا لهم هل قاموا بالواجب فيه أم ضيعوا حق النعمة ثم يعذبون على ترك الشكر بتوحيد المنعم قال وهذا معنى قول مقاتل وهو قول الحسن قال لا يسئل عن النعيم الا أهل النار قلت ليس فى اللفظ ولا فى السنة الصحيحة ولا فى أدلة العقل ما يقتضى اختصاص الخطاب بالكفار بل ظاهر اللفظ وصريح السنة والاعتبار يدل على عموم الخطاب لكل من اتصف بإلهاء التكاثر له فلا وجه لتخصيص الخطاب ببعض المتصفين بذلك ويدل على ذلك قول النبى عند قراءة هذه السورة يقول ابن آدم مالى مالى وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فابليت الحديث وهو فى صحيح مسلم وقائل ذلك قد يكون مسلما وقد يكون كافرا ويدل عليه أيضا الأحاديث التى تقدمت وسؤال الصحابة النبى وفهمهم العموم حتى قالوا له وأى نعيم نسئل عنه وانما هو الاسودان فلو كان الخطاب مختصا بالكفار لبين لهم ذلك وقال ما لكم ولها انما هى للكفار فالصحابة فهموا التعميم والأحاديث صريحة فى التعميم والذى أنزل عليه القرآن أقرهم على فهم العموم ________________________________________ وأما حديث ابى بكر الذى أحتج به أرباب هذا القول فحديث لا يصح والحديث الصحيح فى تلك القصة يشهد ببطلانه ونحن نسوقه بلفظه ففى صحيح مسلم عن ابى هريرة قال خرج رسول الله ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبى بكر وعمر فقال ما أخرجكما من بيوتكما فى هذه الساعة قالا الجوع يا رسول الله قال وأنا والذى نفسى بيده لأخرجنى الذى أخرجكما قوما فقاما معه فأتى رجلا من الأنصار فإذا هو ليس فى بيته فلما رأته امرأته قالت مرحبا وأهلا فقال لها رسول الله وأين فلان قالت ذهب يستعذب لنا من الماء إذ جاء الأنصارى فنظر الى رسول الله وصاحبيه فقال الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافا منى قال فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب فقال كلوا من هذا فأخذ المدية فقال له رسول الله إياك والحلوبة فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله لابى بكر وعمر والذى نفسى بيده لتسئلن عن هذا النعيم يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم فهذا الحديث الصحيح صريح فى تعميم الخطاب وأنه غير مختص بالكفار وايضا فالواقع يشهد بعدم اختصاصه وأن الالهاء بالتكاثر واقع من المسلمين كثيرا بل أكثرهم قد الهاه التكاثر وخطاب القرآن عام لمن بلغه وان كان أول من دخل فيه المعاصرين لرسول الله فهو متناول لمن بعدهم وهذا معلوم بضرورة الدين وان نازع فيه من لا يعتد بقوله من المتأخرين فنحن اليوم ومن قبلنا ومن بعدنا داخلون تحت قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ونظائره كما دخل تحته الصحابة بالضرورة المعلومة من الدين فقوله ألهاكم التكاثر خطاب لكل من اتصف بهذا الوصف وهم فى الالهاء والتكاثر درجات لا يحصيها الا الله ________________________________________ فإن قيل فالمؤمنون لم يلههم التكاثر ولهذا لم يدخلوا فى الوعيد المذكور لمن الهاه قيل هذا هو الذى أوجب لأرباب هذا القول تخصيصه بالكفار لأنه لم يمكنهم حمله على العموم ورأوا أن الكفار أحق بالوعيد فخصوهم به وجواب هذا أن الخطاب للانسان من حيث هو إنسان على طريقة القرآن فى تناول الذم له من حيث هو إنسان كقوله وكان الانسان عجولا وكان الانسان قتورا ان الانسان لربه لكنود وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا ان الانسان لكفور ونظائره كثيرة فالانسان من حيث هو عار عن كل خير من العلم النافع والعمل الصالح وانما الله سبحانه هو الذى يكمله بذلك ويعطيه إياه وليس له ذلك من نفسه بل ليس له من نفسه إلا الجهل المضاد للعلم والظلم المضاد للعدل وكل علم وعدل وخير فيه فمن ربه لا من نفسه فإلهاء التكاثر طبيعته وسجيته التى هى له من نفسه ولا خروج له عن ذلك الا بتزكية الله له وجعله مريدا للآخرة مؤثرا لها على التكاثر بالدنيا فان أعطاه ذلك وإلا فهو ملته بالتكاثر فى الدنيا ولا بد وأما احتجاجه بالوعيد على اختصاص الخطاب بالكفار فيقال الوعيد المذكو مشترك وهو العلم عند معاينة الآخرة فهذا أمر يحصل لكل أحد لم يكن حاصلا له فى الدنيا وليس فى قوله سوف تعلمون ما يقتضى دخول النار فضلا عن التخليد فيها وكذلك رؤية الجحيم لا يستلزم دخولها لكل من رآها فان أهل الموقف يرونها ويشاهدونها عيانا وقد اقسم الرب تبارك وتعالى أنه لا بد أن يراها الخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم فليس فى جملة هذه السورة ما ينفى عموم خطابها وأما ما ذكره عن الحسن أنه لا يسأل عن النعيم الا أهل النار فباطل قطعا اما عليه واما منه والاحاديث الصحيحة الصريحة ترده وبالله التوفيق ________________________________________ ولا يخفى أن مثل هذه السورة مع عظم شأنها وشدة تحويفها وما تضمنته من تحذير الملهى وانطباق معناها على أكثر الخلق يأبى اختصاصها من أولها الى آخرها بالكفار ولا يليق ذلك بها ويكفى فى ذلك تأمل الاحاديث المرفوعة فيها والله أعلم وتأمل ما فى هذا العتاب الموجع لمن استمر على الهاء التكاثر له مدة حياته كلها الى أن زار القبور ولم يستيقظ من نوم الالهاء بل أرقد التكاثر قلبه فلم يستفق منه الا وهو فى عسكر الأموات وطابق بين هذا وبين حال أكثر الخلق يتبين لك أن العموم مقصود وتأمل تعليقه سبحانه الذم والوعيد على مطلق التكاثر من غير تقييد بمتكاثر به ليدخل فيه التكاثر بجميع أسباب الدنيا على اختلاف أجناسها وأنواعها وأيضا فان التكاثر تفاعل وهو طلب كل من المتكاثرين أن يكثر صاحبه فيكون أكثر منه فيما يكاثره به والحامل له على ذلك توهمه أن العزة للكاثر كما قيل ولست بالأكثر منهم حصى ... وانما العزة للكاثر ________________________________________ فلو حصلت له الكثرة من غير تكاثر لم تضره كما كانت الكثرة حاصلة لجماعة من الصحابة ولم تضرهم اذ لم يتكاثروا بها وكل من كاثر انسانا فى دنياه أو جاهه أو غير ذلك شغلته مكاثرته عن مكاثرة أهل الآخرة فالنفوس الشريفة العلوية ذات الهمم العالية انما تكاثر بما يدوم عليها نفعه وتكمل به وتزكو وتصير مفلحة فلا تحب أن يكثرها غيرها فى ذلك وينافسها فى هذه المكاثرة ويسابقها اليها فهذا هو التكاثر الذى هو غاية سعادة العبد وضده تكاثر أهل الدنيا بأسباب دنياهم فهذا تكاثر مله عن الله والدار الاخرة هو صائر الى غاية القلة فعاقبة هذا التكاثر قل وفقر وحرمان والتكاثر بأسباب السعادة الاخروية تكاثر لا يزال بذكر بالله ولقائه وعاقبته الكثرة الدائمة التى لا تزول ولا تفنى وصاحب هذا التكاثر لا يهون عليه أن يرى غيره أفضل منه قولا وأحسن منه عملا وأغزر علما واذا رأى غيره أكثر منه فى خصلة من خصال الخير يعجز عن لحاقه فيها كاثره بخصلة أخرى هو قادر على المكاثرة بها وليس هذا التكاثر مذموما ولا قادحا فى اخلاص العبد بل هو حقيقة المنافسة واستباق الخيرات وقد كانت هذه حال الاوس مع الخزرج رضى الله عنهم فى تصاولهم بين يدى رسول الله ومكاثرة بعضهم لبعض فى اسباب مرضاته ونصره وكذلك كانت حال عمر مع أبى بكر رضى الله عنهما فلما تبين له مدى سبقه له قال والله لا أسابقك الى شئ أبدا فصل ومن تأمل حسن موقع كلا فى هذا الموضع فانها تضمنت ردعا لهم وزجرا عن التكاثر ونفيا وابطالا لما يؤملونه من نفع التكاثر لهم وعزتهم وكمالهم به فتضمنت اللفظة نهيا ونفيا وأخبرهم سبحانه أنهم لا بد أن يعلموا عاقبة تكاثرهم علما بعد علم وأنهم لا بد أن يروا دار المكاثرين بالدنيا التى ألهتهم عن الاخرة رؤية بعد رؤية وأنه سبحانه لا بد أن يسألهم عن اسباب تكاثرهم من أين استخرجوها وفيما صرفوها ________________________________________ فلله ما أعظمها من سورة وأجلها وأعظمها فائدة وأبلغها موعظة وتحذيرا واشدها ترغيبا فى الآخرة وتزهيدا فى الدنيا على غاية اختصارها وجزالة ألفاظها وحسن نظمها فتبارك من تكلم بها حقا وبلغها رسوله عنه وحيا فصل وتأمل كيف جعلهم عند وصولهم الى غاية كل حى زائرين غير مستوطنين بل هم مستودعون فى المقابر مدة وبين أيديهم دار القرار فإذا كانوا عند وصولهم الى الغاية زائرين فكيف بهم وهم فى الطريق فى هذه الدار فهم فيها عابرو سبيل الى محل الزيارة ثم منتقلون من محل الزيارة إلى المستقر فهنا هنا ثلاثة أمور عبور السبيل فى هذه الدنيا وغايته زيارة القبور وبعدها النقلة إلى دار القرار فصل فلنرجع الى تمام المناظرة قالوا فالله تعالى حمى أولياءه عن الدنيا وصانهم عنها ورغب بهم عنها تكريما لهم وتطهيرا عن أدناسها ورفعة عن دناءتها وذمهالهم وأخبرهم بهوانها عليه وسقوط قدرها عنده وأعلمهم أن بسطها فتنة وأنه سب الطغيان والفساد فى الارض وإلهاء التكاثر بها عن طلب الاخرة وأنها متاع الغرور وذم محبيها ومؤثريها وأخبر أن من أرادها أو أراد زينتها وحرثها فليس له فى الاخرة من نصيب واخبر أن بسطها فتنة وابتلاء لا كرامة ومحبة وإن إمداد أهلها بها ليس مسارعة لهم فى الخيرات وأنها لا تقرب اليه ولا تزلف لديه وأنه لولا تتابع الناس فى الكفر لأعطى الكفار منها فوق مناهم ووسعها عليهم أعظم التوسعة بحيث يجعل سقوف بيوتهم وأبوابهم ومعارجهم وسررهم كلها من فضة وأخبر أنه زينها لأعدائه ولضعفاء العقول الذين لا نصيب لهم فى الاخرة ونهى رسوله عن مد عينيه اليها والى مامتع به أهلها وذم من أذهب طيباته فيها واستمتع ________________________________________ بها وقال لنبيه ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون وفى هذا تعزية لما منعه أولياءه من التمتع بالدنيا وكثرة الأكل فيها وتأديب لمن بسط له فيها ألا يطغى فيها ولا يعطى نفسه شهواتها ولا يتمتع بها ولام سبحانه محبيها المفتخرين بها المكاثرين بها الظانين أن الفضل والكرامة فى سعتها وبسطها فأكذبهم الله سبحانه واخبر أنه ليس كما قالوه ولا توهموه ومثلها لعباده بالأمثلة التى تدعو كل لبيب عاقل الى الزهد فيها وعدم الوثوق بها والركون اليها فأحضر صورتها وحقيقتها فى قلوبهم بما ضربه لها مثلا كماء أنزله من السماء فخالط نبات الأرض فلما أخذت به الارض زخرفها وتزينت بأنواع النبات أتاها أمره فجعل تلك الزينة يبسا هشيما تذروه الرياح كأن لم يكن قط منه شئ وأخبر سبحانه عن فنائها وسرعة انقضائها وأنه اذا عاين العبد الأخرة فكأنه لبث فيها ساعة من نهار أو يوما أو بعض يوم ونهى سبحانه عباده أن يغتروا بها واخبرهم أنها لهو ولعب وزينة وتفاخر وتكاثر ومتاع غرور وطريق ومعبر الى الاخرة وأنها عرض عاجل لابقاء له ولم يذكر مريدها بخير قط بل حيث ذكره ذمه وأخبر أن مريدها مخالف لربه تعالى فى ارادته فالله يريد شيئا ومريد الدنيا يريد خلافه فهو مخالف لربه بنفس ارادته كفى بهذا بعدا عنه سبحانه واخبر سبحانه عن أهل النار انهم انما دخلوها بسبب غرور الدنيا وأمانيها لهم قالوا وهذا كله تزهيد لهم منه سبحانه فيها وترغيب فى التقلل منها ما أمكن قالوا وقد عرضها سبحانه وعرض مفاتيح كنوزها على أحب الخلق اليه وأكرمهم عليه عبده ورسوله محمد فلم يردها ولم يخترها ولو أثرها وارادها لكان أشكر الخلق بما اخذه منها وأنفقه كله فى مرضاة الله وسبيله قطعا بل اختار التقلل منها وصبر على شدة العيش فيها ________________________________________ قال الامام أحمد حدثنا اسماعيل بن محمد حدثنا عباد يعنى ابن عباد حدثنا مجالد بن سعيد عن الشعبى عن مسروق عن عائشة رضى الله عنها قالت دخلت على امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله عباءة مثنية فرجعت الى منزلها فبعثت إلى بفراش حشوه الصوف فدخل على رسول الله فقال ما هذا فقلت فلانة الانصارية دخلت على فرأت فراشك فبعثت الى بهذا فقال رديه فلم أرده وأعجبنى أن يكون فى بيتى حتى قال ذلك ثلاث مرات فقال يا عائشة رديه والله لو شئت لأجرى الله معى جبال الذهب والفضة وعرض عليه مفاتيح كنوز الدنيا فلم يأخذها وقال بل أجوع يوما وأشبع يوما فاذا جعت تضرعت اليك وذكرتك وإذا شبعت حمدتك وشكرتك وسأل ربه أن يجعل رزق أهله قوتا كما فى الصحيحين من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا وفيهما عنه قال والذى نفس أبى هريرة بيده ما شبع نبى الله وأهله ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة حتى فارق الدنيا وفى صحيح البخارى عن أنس رضى الله عنه ما أعلم أن رسول الله رأى رغيفا مرققا ولا شاة سميطا قط حتى لحق بربه وفى صحيحه أيضا عنه قال خرج رسول الله ولم يشبع من خبز الشعير وفى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليال تباعا حتى قبض وفى صحيح مسلم عن عمر رضى الله عنه لقد رأيت رسول الله يظل اليوم ما يجد دقلا يملأ بطنه ________________________________________ وفى المسند والترمذى عن ابن عباس رضى الله عنهما كان رسول الله يبيت الليالى المتتابعات طاويا وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم خبز الشعير قال الترمذى هذا حديث حسن صحيح وفى الترمذى من حديث أبى أمامة ما كان يفضل أهل بيت رسول الله خبز الشعير وفى المسند عن عائشة رضى الله عنها والذى بعث محمدا بالحق ما رأى منخلا ولا أكل خبزا منخولا منذ بعثه الله عز وجل الى أن قبض قال عروة فقلت فكيف كنتم تأكلون الشعير قالت كنا نقول أف أى ننفخه فيطير ما طار ونعجن الباقى وفى صحيح البخارى عن أنس قال لقد رهن رسول الله درعه بشعير ولقد سمعته يقول ما أصبح لآل محمد صاع ولا أمسى وانهم لتسعة ابيات وفى مسند الحارث عن أبى أسامة عن أنس أن فاطمة رضى الله عنها جاءت بكسرة خبز الى النبى فقال ما هذه الكسرة يا فاطمة قالت قرص خبزته فلم تطب نفسى حتى أتيتك بهذه الكسرة فقال أما إنه أول طعام دخل فى فم أبيك منذ ثلاثة أيام وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا عبد الواحد بن أيمن عن ابيه عن جابر رضى الله عنه قال لما حفر رسول الله الخندق أصابهم جهد شديد حتى ربط النبى على بطنه حجرا من الجوع وقد أسرف أبو حاتم بن حبان فى تقاسيمه فى رد هذا الحديث وبالغ فى إنكاره وقال المصطفى أكرم على ربه من ذلك وهذا من وهمه وليس فى هذا ما ينقص مرتبته عند ربه بل ذلك رفعة له وزيادة فى كرامته وعبرة لمن بعده من الخلفاء والملوك وغيرهم وكأن أبا حاتم لم يتأمل سائر الاحاديث فى معيشة النبى وهل ذلك إلا من أعظم شواهد صدقه فإنه لو كان كما يقول أعداؤه وأعداء ربه أنه ملك طالب ملك ودنيا لكان عيشه عيش الملوك وسيرته سيرتهم ولقد توفاه الله وان درعه مرهونة عند يهودى على طعام أخذه لأهله وقد فتح الله عليه بلاد العرب وجبيت اليه الاموال ومات ولم يترك درهما واحدا ولا دينارا ولا شاة ولا بعيرا ولا عبدا ولا أمة ________________________________________ قال الامام أحمد حدثنا حسين بن محمد بن مطرف عن أبى حازم عن عروة أنه سمع عائشة تقول كان يمر بنا هلال وهلال ما يوقد فى بيت من بيوت رسول الله نار قلت يا خالة فعلى أى شئ كنتم تعيشون قالت على الأسودين التمر والماء وقد تقدم حديث أبى هريرة فى قصة أبى الهيثم ابن النبهان وانه خرج رسول الله من بيته فرأى أبا بكر وعمر رضى الله عنهما فقال ما أخرجكما قالا الجوع قال وأنا والذى نفسى بيده لأخرجنى الذى أخرجكما وذكر أحمد من حديث مسروق قال دخلت على عائشة فدعت لى بطعام وقالت ما أشبع من طعام فأشاء أن أبكى الا بكيت قال قلت لم قالت أذكر الحال التى فارق عليها رسول الله الدنيا والله ما شبع فى يوم مرتين من خبز البر حتى قبض وفيه عنها ما شبع رسول الله من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض والحديثان صحيحان وفيه ايضا عنها ما شبع آل محمد من خبز مأدوم ثلاثة أيام حتى لحق بالله عزوجل وفى الصحيحين عن أبى هريرة ما شبع رسول الله وأهله ثلاثا أتباعا من خبز البر حتى فارق الدنيا ________________________________________ وفى الترمذى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال كان النبى يبيت الليالى طاويا وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم خبز الشعير وفيه أيضا عن أنس عنه لقد اخفت فى الله وما يخاف أحد ولقد أوذيت فى الله وما يؤذى أحد ولقد أتت على ثلاثون من بين يوم وليلة ومالى ولبلال طعام يأكله ولبد إلا شئ يواريه إبط بلال والحديثان صحيحان وفيه ايضا عن أنس بن مالك رضى الله عنه عن أبى طلحة رضى الله عنه قال شكونا الى رسول الله الجوع ورفعنا عن بطوننا حجرا حجرا فرفع رسول الله عن بطنه حجرين وفيه أيضا عن علقمة عن عبدالله رضى الله عنه قال نام رسول الله على حصير فقام وقد اثر فى جنبه فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال مالى وللدنيا ما أنا فى الدنيا الا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها حديث صحيح وفيه عن على رضى الله عنه قال خرجت فى يوم شات من بيت رسول الله وقد أخذت اهابا معطونا فجوبت وسطه وأدخلته فى عنقى فشددت به وسطى فحزمته بخوص من النخل وانى لشديد الجوع ولو كان فى بيت رسول الله طعام لطعمت منه فخرجت التمس شيئا فمررت بيهودى فى مال له وهو يسقى ببكرة له فاطلعت عليه من ثلمة من الحائط فقال مالك يا أعرابى وهل لك فى كل دلو بتمرة قلت نعم فافتتح الباب حتى أدخل ففتح فدخلت فأعطانى دلوه فكلما نزعت دلوا أعطانى تمرة حتى امتلأت كفى أرسلت دلوه وقلت حسبى فأكلتها ثم جرعت من الماء فشربت ثم جئت الماء فوجدت رسول الله فيه وقال سعد بن ابى وقاص رضى الله عنه لقد رأيتنا نغزو مع رسول الله ما لنا طعام الا الحبلة وهذا السمر والحبلة ثمر العضاة ذات الشوك وهو حديث صحيح وكان يصلى من الليل أحيانا وعليه كساء صوف بعضه عليه وبعضه على ________________________________________ عائشة قال الحسن أثمان ستة دراهم أو سبعة وقال أحمد حدثنا أبو سعيد حدثنا أبو زائدة حدثنا عطاء عن أبيه عن على قال جهز رسول الله فاطمة فى خميل وقربة ووسادة من أدم حشوها ليف والخميل الكساء الذى خمل قال وحدثنا بهز بن اسد حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد قال قال أبو بردة دخلت على عائشة فأخرجت إلينا إزارا غليظا مما يصنع باليمن وكساء من هذه التى تدعونها الملبدة فقالت قبض رسول الله فى هذين الثوبين قالوا ولو كان الغنى مع الشكر افضل من الفقر مع الصبر لاختاره رسول الله إذ عرضت عليه الدنيا ولأمره ربه أن يسأله إياه كما أمره أن يسأله زيادة العلم ولم يكن رسول الله ليختار الا ما اختاره الله له ولم يكن الله ليختار له الا الافضل اذ كان افضل خلقه وأكملهم قالوا وقد أخبر النبى أن خير الرزق ما كان بقدر كفاية العبد فلا يعوزه ما يضره ولا يفضل عنه ما يطغيه ويلهيه قال الامام أحمد حدثنا ابن مهدى حدثنا همام عن قتادة عن خليد العصرى عن أبى الدرداء قال قال رسول الله ما طلعت شمس قط الا بعث بجنبيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض الا الثقلين يا أيها الناس هلموا الى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى ولا آبت شمس قط الا بعث بجنبيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض الا الثقلين اللهم أعط منفقا خلفا واعط ممسكا تلفا وقال الامام أحمد حدثنا وكيع حدثنا أسامة بن زيد عن محمد بن عبد الرحمن ابن ابى لبيبة عن سعد بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله خير الرزق ما يكفى وخير الذكر الخفى وتأمل جمعه فى هذا الحديث بين رزق القلب والبدن رزق الدنيا والآخرة واخباره أن خير الرزقين ما لم يتجاوز الحد فيكفى من الذكر اخفاؤه فإن زاد على الاخفاء خيف على صاحبه الرياء والتكبر به على الغافلين وكذلك رزق البدن اذا زاد على الكفاية خيف على صاحبه الطغيان والتكاثر قالوا وقد غبط رسول الله المتقلل من الدنيا ما لم يغبط به الغنى ________________________________________ قال الامام أحمد حدثنا وكيع حدثنا على بن صالح عن أبى المهلب عن عبيد الله ابن زحر عن على بن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة رضى الله عنه قال قال رسول الله ان أغبط أوليائى عندى مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة أحسن عبادة ربه وكان غامضا فى الناس لا يشار اليه بالاصابع فعجلت منيته وقل تراثه وقلت بواكيه قال عبد الله بن أحمد سألت أبى ما تراثه قال ميراثه قالوا وحمية الله لعبده المؤمن عن الدنيا انما هو من محبته له وكرامته قال الامام أحمد حدثنا أبو سعيد حدثنا سليمان بن بلال عن عمرو بن أبى عمرو عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد رضى الله عنه أن رسول الله قال ان الله تبارك وتعالى يحمى عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مرضاكم الطعام والشراب تخافون عليهم قالوا وقل أن يقع اعطاء الدنيا وتوسعتها الا استدراجا من الله لا اكراما ومحبة لمن أعطاه قال الامام أحمد حدثنا يحيى بن غيلان حدثنا رشد بن سعد عن حرملة بن عمران النجبى عن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر رضى الله عنه عن النبى قال اذا رأيت الله يعطى العبد من الدنيا على معاصيه وما يحب فإنما هو استدراج ثم تلا قوله تعالى فلما نسو ما ذكروا به فتحنا عليهم ابواب كل شيء الآية قالوا ولهوان الدنيا على الله منعها أكثر أوليائه وأحبائه قال الامام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الاعمش عن سالم بن ابى الجعد قال قال رسول الله ان من أمتى لو أتى باب احدكم فسأله دينارا لم يعطه اياه ولو سأله فلسا لم يعطه اياه ولو سأل الله تعالى الجنة لأعطاها اياه ولو سأله الدنيا لم يعطها اياه وما يمنعها اياه لهوانه عليه ذو طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره وهذا يدل على انه انما يمنعه اياها لهوانها عليه لا لهوانه هو عليه ولهذا يعطيه أفضل منها وأجل فإن الله تعالى يعطى الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطى الآخرة الا من يحب ________________________________________ قالوا وقد اخبرهم النبى أن أقربهم منه مجلسا ذووا التقلل من الدنيا الذين لم يستكثروا منها قال الامام أحمد حدثنا يزيد بن هرون أخبرنا محمد بن عمرو قال سمعت عراك بن مالك يقول قال ابو ذر إنى لأقربكم مجلسا من رسول الله يوم القيامة وذلك إنى سمعته يقول ان أقربكم منى مجلسا يوم القيامة من خرج من الدنيا كهيئة ما تركته فيها وانه والله ما منكم من أحد الا وقد تشبث منها بشيء غيرى قالوا وقد غبط النبى من كان عيشه كفافا وأخبر بفلاحه قال الامام أحمد حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا حيوة قال أخبرنى أبو هانى أن أبا على الحبشى أخبره أنه سمع فضاله بن عبيد يقول أنه سمع رسول الله يقول طوبى لمن هدى الى الاسلام وكان عيشه كفافا وقنع وذكر أيضا من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله قال قد أفلح من اسلم رزق كفافا وقنعه الله بما آتاه قالوا ولو لم يكن فى التقلل الا خفة الحساب لكفى به فضلا على الغنى قال عبد الله بن الامام أحمد حدثنا بيان بن الحكم حدثنا محمد بن حاتم قال حدثنى بشر بن الحارث حدثنا عيسى بن يونس عن هشام عن الحسن قال قال رسول الله ثلاثة لا يحاسب بهن العبد ظل خص يستظل به وكسرة يشد بها صلبه وثوب يوارى عورته وقال الامام أحمد حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا ليث عن أبى عثمان قال لما افتتح المسلمون جوجى دخلوا يمشون فيها وأكداس الطعام فيها أمثال الجبال وكان رجل يمشى الى جنب سلمان فقال يا أبا عبد الله ألا ترى الى ما فتح الله علينا ألا ترى الى ما أعطانا الله فقال سلمان وما يعجبك مما ترى الى جنب كل حبة مما ترى حساب ________________________________________ قالوا وقد شهد النبى لأصحابه أنهم يوم فقرهم وفاقتهم خير منهم يوم غناهم وبسط الدنيا عليهم قال الامام أحمد حدثنا عبد الصمد أبو الاشهب عن الحسن قال قال نبى الله يا أهل الصفة كيف أنتم قالوا نحن بخير قال أنتم اليوم خير أم يوم تغدو على أحدكم جفنة وتروح أخرى ويغدو فى حلة ويروح فى أخرى وتسترون فى بيوتكم مثل أستار الكعبة قالوا يا نبى الله نحن يومئذ خير يعطينا ربنا تبارك وتعالى فنشكر قال بل أنتم اليوم خير فهذا صريح فى أنهم فى وقت صبرهم على فقرهم خير منهم فى وقت غناهم مع الشكر وقال عبد الله بن أحمد حدثنا أبن ذر حدثنا حفص بن غياث عن داود بن أبى هند عن أبى حرب بن أبى الاسود عن طلحة البصرى قال قدمت المدينة ولم يكن لى بها معرفة فكان يجرى علينا مد من تمر بين اثنين فصلى بنا رسول الله صلاة فهتف به هاتف من خلفه فقال يا رسول الله قد حرق بطوننا التمر وعرفت عنا الكنف فخطب فحمد الله وأثنى عليه وقال والله لو أجد لكم اللحم والخبز لأطعمتكموه وليأتين عليكم زمان تغدو على أحدكم الجفان وتراح ولتلبسن بيوتكم مثل أستار الكعبة قالوا يا رسول الله نحن اليوم خير منا أو يومئذ قال بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ أنتم اليوم خير منكم يومئذ يضرب بعضكم رقاب بعض قال الامام أحمد وحدثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة قال ذكر لنا أن نبى الله دخل على أهل الصفة فذكر نحوه ________________________________________ قالوا ولو لم يكن فى الغنى والمال الا أنه فتنة وقل من سلم من اصابتها له وتأثيرها فى دينه كما قال تعالى انما أموالكم وأولادكم فتنة وفى الترمذى من حديث كعب ابن عياض قال سمعت رسول الله يقول ان لكل أمة فتنة وفتنة أمتى المال قال هذا حديث حسن صحيح قالوا والمال يدعو الى النار والفقر يدعو الى الجنة قال الامام أحمد حدثنا يزيد حدثنا أبو الاشهب حدثنا سعيد بن أيمن مولى كعب بن سور قال بينا رسول الله يحدث أصحابه اذ جاء رجل من الفقراء فجلس الى جنب رجل من الاغنياء فكأنه قبض من ثيابه عنه فقال رسول الله أخشيت يا فلان أن يغدو وغناك عليه أو يغدو فقره عليك قال يا رسول الله وشر الغنى قال نعم ان غناك يدعوك الى النار وان فقره يدعوه الى الجنة قال فما ينجينى منه قال تواسيه قال اذن افعل فقال الآخر لا أرب لى فيه قال فاستغفر وادع لأخيك قالوا وحق الغنى أعظم من أن يقوم العبد بشكره وقد روى الترمذى فى جامعه من حديث عثمان بن عفان رضى الله عنه أن النبى قال ليس لابن آدم حق فى سوى هذه الخصال بيت يسكنه وثوب يوارى به عورته وجلف الخبز والماء قال هذا حديث حسن صحيح وفى صحيح مسلم عن أبى أمامة رضى الله عنه قال قال رسول الله يا ابن آدم انك ان تبذل الفضل خير لك وأن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى وفى صحيحه أيضا من حديث أبى نضرة عن أبى سعيد رضى الله عنه قال بينما نحن فى سفر مع رسول الله اذ جاء رجل على راحلة له فجعل يضرب يمينا وشمالا فقال رسول الله من كان معه فضل من ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان عنده فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له قال فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى ظننا أنه لا حق لأحد منا فى فضل ________________________________________ قالوا فهذا موضع النظر فى تفضيل الغنى الشاكر ببذل الفضل كله وأما غنى يمتع بأنواع الفضل ويشكر بالواجب وبعض المستحب فكيف يفضل على فقير صابرا راض عن الله فى فقره قالوا وقد أقسم رسول الله لأصحابه وهم أئمة الشاكرين أنه لا يخاف عليهم الفقر وانما يخاف عليهم الغنى ففى الصحيحين من حديث عمرو بن عوف وكان شهد بدرا أن رسول الله بعث أبا عبيدة بن الجراح الى البحرين يأتى بجزيتها وكان رسول الله صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمى فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الانصار بقدوم أبى عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله فلما صلى رسول الله انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله حين رآهم ثم قال أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشئ من البحرين فقالوا أجل يا رسول الله قال أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكنى أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتتنافسوا فيها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم أهـ { عدة الصابرين صـ 153 ـ 172 } سورة الكافرون فوائد سورة الكافرون وأما قوله عز وجل { لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد } الكافرون [2 ـ3 ]فإن ما على بابها لأنها واقعة على معبوده على الإطلاق لأن امتناعهم من عبادة الله تعالى ليس لذاته بل كانوا يظنون أنهم يعبدون الله تعالى ولكنهم كانوا جاهلين به فقوله ولا أنتم عابدون ما أعبد أي لا أنتم تعبدون معبودي ومعبوده هو كان عارفا به دونهم وهم جاهلون به هذا جواب بعضهم قال آخرون إنها هنا مصدرية لا موصولة أي لا تعبدون عبادتي ويلزم من تنزيههم عن عبادته تنزيههم عن المعبود لأن العبادة متعلقة به وليس هذا بشيء إذ المقصود براءته من معبوديهم وإعلامه أنهم بريئون من معبوده تعالى فالمقصود المعبود لا العبادة ________________________________________ وقيل إنهم كانوا يقصدون مخالفته حسدا له وأنفة من اتباعه فهم لا يعبدون معبوده لا كراهية لذات المعبود ولكن كراهية لاتباعه وحرصا على مخالفته في العبادة وعلى هذا فلا يصح في النظم البديع والمعنى الرفيع إلا لفظ ما لإبهامها ومطابقتها الغرض الذي تضمنته الآية وقيل في ذلك وجه رابع وهو قصد ازدواج الكلام في البلاغة والفصاحة مثل قوله نسوا الله فنسيهم التوبة 67 و فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه البقرة 194 فكذلك لا أعبد ما تعبدون ومعبودهم لا يعقل ثم ازدوج مع هذا الكلام قوله ولا أنتم عابدون ما أعبد فاستوى اللفظان وإن اختلف المعنيان ولهذا لا يجيء في الإفراد مثل هذا بل لا يجيء إلا من كقوله قل من يهديكم قل من يرزقكم أمن يملك السمع يونس 31 أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر النمل 63 أمن يجيب المضطر إذا دعاه النمل 62 أمن يبدأ الخلق النمل 64 إلى أمثال ذلك وعندي فيه وجه خامس أقرب من هذا كله وهو أن المقصود هنا ذكر المعبود الموصوف بكونه أهلا للعبادة مستحقا لها فأتى ب ما الدالة على هذا المعنى كأنه قيل ولا أنتم عابدون معبودي الموصوف بأنه المعبود الحق ولو أتى بلفظة من لكانت إنما تدل على الذات فقط ويكون ذكر الصلة تعريفا لا أنه هو جهة العبادة ففرق بين أن يكون كونه تعالى أهلا لأن يعبد تعريف محض أو وصف مقتضى لعبادته فتأمله فإنه بديع جدا وهذا معنى قول محققي النحاة أن ما تأتي لصفات من يعلم ونظيره فانكحوا ما طاب لكم من النساء النساء 3 لما كان المراد الوصف وأن هو السبب الداعي إلى الأمر بالنكاح وقصده وهو الطيب فتنكح المرأة الموصوفة به أتى بما دون من وهذا باب لا ينخرم وهو من ألطف مسالك العربية وإذ قد أفضى الكلام بنا إلى هنا فلنذكر فائدة ثانية تكرير الأفعال في هذه السورة ثم فائدة ثالثة كونه كرر الفعل في حق نفسه بلفظ المستقبل في الموضعين وأتى في حقهم بالماضي ________________________________________ ثم فائدة رابعة وهي أنه جاء في نفي عبادة معبودهم عنه بلفظ الفعل المستقبل وجاء في نفي عبادتهم معبوده باسم الفاعل ثم فائدة خامسة وهي كون إيراده النفي هنا ب لا دون لن ثم فائدة سادسة وهي أن طريقة القرآن في مثل هذا أن يقرن النفي بالإثبات فينفي عبادة ما سوى الله ويثبت عبادته وهذا هو حقيقة التوحيد والنفي المحض ليس بتوحيد وكذلك الإثبات بدون النفي فلا يكون التوحيد إلا متضمنا للنفي والإثبات وهذا حقيقة لا إله إلا الله فلم جاءت هذه السورة بالنفي المحض وما سر ذلك وفائدة سابعة وهي ما حكمة تقديم نفي عبادته عن معبودهم ثم نفي عبادتهم عن معبوده وفائدة ثامنة وهي أن طريقة القرآن إذا خاطب الكفار أن يخاطبهم بالذين كفروا والذين هادوا كقوله يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم التحريم 7 قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء الله الجمعة 6 ولم يجيء يا أيها الكافرون إلا في هذا الموضع فما وجه هذا الإختصاص وفائدة تاسعة وهي هل في قوله لكم دينكم ولي دين الكافرون 6 معنى زائد على النفي المتقدم فإنه يدل على اختصاص كل بدينه ومعبوده وقد فهم هذا من النفي فما أفاد التقسيم المذكور وفائدة عاشرة وهي تقديم ذكرهم ومعبودهم في هذا التقسيم والإختصاص وتقديم ذكر شأنه وفعله في أول السورة وفائدة حادية عشرة وهي أن هذه السورة قد اشتملت على جنسين من الأخبار أحدهما براءته من معبودهم وبراءتهم من معبوده وهذا لازم أبدا الثاني إخباره بأن له دينه ولهم دينهم فهل هذا متاركة وسكوت عنهم فيدخله النسخ بالسيف أو التخصيص ببعض الكفار أم الآية باقية على عمومها وحكمها غير منسوخة ولا مخصوصة ________________________________________ وبعد فهذه عشر مسائل في هذه السورة ذكرنا منها مسألة واحدة وهي وقوع ما فيها بدل من فنذكر المسائل التسع مستمدين من فضل الله مستعينين بحوله وقوته متبرئين إليه من الخطأ فما كان من صواب فمنه وحده لا شريك له وما كان من خطأ فمنا ومن الشيطان والله تعالى ورسوله بريئان منه وأما المسألة الثانية : وهي فائدة تكرار الأفعال فقيل فيه وجوه أحدها أن قوله لا أعبد ما تعبدون الكافرون 2 نفي للحال والمستقبل وقوله ولا أنتم عابدون ما أعبد الكافرون 3 مقابلة أي لا تفعلون ذلك وقوله ولا أنا عابد ما عبدتم الكافرون 4 أي لم يكن مني ذلك قط قبل نزول الوحي ولهذا أتى في عبادتهم بلفظ الماضي فقال ما عبدتم فكأنه قال لم أعبد قط ما عبدتم وقوله ولا أنتم عابدون ما أعبد الكافرون 5 مقابله أي لم تعبدوا قط في الماضي ما أعبده أنا دائما وعلى هذا فلا تكرار أصلا وقد استوفت الآيات أقسام النفي ماضيا وحالا ومستقبلا عن عبادته وعبادتهم بأوجز لفظ وأحضره وأبينه وهذا إن شاء الله أحسن ما قيل فيها فلنقتصر عليه ولا نتعداه غيره فإن الوجوه التي قيلت في مواضعها فعليك بها وأما المسألة الثالثة وهي تكريره الأفعال بلفظ المستقبل حين أخبر عن نفسه وبلفظ الماضي حين أخبر عنهم ففي ذلك سر وهو الإشارة والإيماء إلى عصمة الله تعالى له عن الزيغ والإنحراف عن عبادة معبوده والإستبدال به غيره وأن معبوده واحد في الحال والمال على الدوام لا يرضي به بدلا ولا يبغي عنه حولا بخلاف الكافرين فإنهم يعبدون أهواءهم ويتبعون شهواتهم في الدين وأغراضهم فهم بصدد أن يعبدوا اليوم معبودا وغدا غيره فقال لا أعبد ما تعبدون يعني الآن ولا أنتم عابدون ما أعبد أنا الآن أيضا ثم قال ولا أنا عابد ما عبدتم يعني ولا أنا فيما يستقبل يصدر مني عبادة لما عبدتم أيها الكافرون ________________________________________ وأشبهت ما هنا رائحة الشرط فلذلك وقع بعدها الفعل بلفظ الماضي وهو مستقبل في المعنى كما يجيء ذلك بعد حرف الشرط كأنه يقول مهما عبدتم من شيء فلا أعبده أنا فإن قيل وكيف يكون فيها الشرط وقد عمل فيها الفعل ولا جواب لها وهي موصولة فما أبعد الشرط منها قلنا لم نقل أنها شرط نفسها ولكن فيها رائحة منه وطرف من معناه لوقوعها على غير معين وإيهامها في المعبودات وعمومها وأنت إذا ذقت معنى هذا الكلام وجدت معنى الشرط باديا على صفحاته فإذا قلت لرجل ما تخالفه في كل ما يفعل أنا لا أفعل ما تفعل ألست ترى معنى الشرط قائما في كلامك وقصدك وأن روح هذا الكلام مهما فعلت من شيء فإني لا أفعله وتأمل ذلك من مثل قوله تعالى قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا مريم 29 كيف تجد معنى الشرطية فيه حتى وقع الفعل بعد من بلفظ الماضي والمراد به المستقبل وأن المعنى من كان في المهد صبيا فكيف نكلمه وهذا هو المعنى الذي حام حوله من قال من المفسرين والمعربين أنه كان نبيا بمعنى يكون لكنهم لم يأتوا إليه من بابه بل ألقوه عطلا من تقدير وتنزيل وعزب فهم غيرهم عن هذا للطفه ودقته فقالوا كان زائدة والوجه ما أخبرتك فخذه عفوا لك عزمه وعلى سواك غرمه إلا على من في الآية قد عمل فيها الفعل وليس لها جواب ومعنى الشرطية قائم فيها فكذلك في قوله ولا أنا عابد ما عبدتم وهذا كله مفهوم من كلام فحول النحاة كالزجاج وغيره فإذا ثبت هذا فقد صحت الحكمة التي من أجلها جاء الفعل بلفظ الماضي من قوله ولا أنا عابد ما عبدتم الكافرون 4 بخلاف قوله ولا أنتم عابدون ما أعبد لبعد ما فيها عن معنى الشرط تنبيها من الله على عصمة نبيه أن يكون له معبودا سواه وأن يتنقل في المعبودات تنقل الكافرين ________________________________________ أما المسألة الرابعة وهي أنه لم يأت النفي في حقهم إلا باسم الفاعل وفي جهته جاء بالفعل المستقبل تارة وباسم الفاعل أخرى فذلك والله أعلم لحكمة بديعة وهي أن المقصود الأعظم براءته من معبوديهم بكل وجه وفي كل وقت فأتى أولا بصيغة الفعل الدالة على الحدوث والتجدد ثم أتى في هذا النفي بعينه بصيغة اسم الفاعل الدالة على الوصف والثبوت فأفاد في النفي الأول أن هذا لا يقع مني وأفاد في الثاني أن هذا ليس وصفي ولا شأني فكأنه قال عبادة غير الله لا تكون فعلا لي ولا وصفا فأتى بنفيين لمنفيين مقصودين بالنفي وأما في حقهم فإنما أتى بالإسم الدال على الوصف والثبوت دون الفعل أي أن الوصف الثابت اللازم العائد لله منتف عنكم فليس هذا الوصف ثابتا لكم وإنما ثبت لمن خص الله وحده بالعبادة لم يشرك معه فيها أحدا وأنتم لما عبدتم غيره فلستم من عابديه وإن عبدوه في بعض الأحيان فإن المشرك يعبد الله ويعبد معه غيره كما قال أهل الكهف وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله الكهف 16 أي اعتزلتم معبودهم إلا الله فإنكم لم تعتزلوه وكذا قال المشركون عن معبودهم إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى الزمر 31 فهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه غيره فلم ينتف عنهم الفعل لوقوعه منهم ونفي الوصف لأن من عبد غير الله لم يكن ثابتا على عبادة الله موصوفا بها فتأمل هذه النكتة البديعة كيف تجد في طيها أنه لا يوصف بأنه عابد الله وعبده المستقيم على عبادته إلا من انقطع إليه بكليته وتبتل إليه تبتيلا لم يلتفت إلى غيره ولم يشرك به أحدا في عبادته وأنه وإن عبده وأشرك به غيره فليس عابدا لله ولا عبدا له وهذا من أسرار هذه السورة العظيمة الجليلة التي هي إحدى سورتي الإخلاص التي تعدل ربع القرآن كما جاء في بعض السنن وهذا لا يفهمه كل أحد ولا يدركه إلا من منحه الله فهما من عنده فلله الحمد والمنة ________________________________________ وأما المسألة الخامسة وهي أن النفي في هذه السورة أتى بأداة لا دون لن وذلك لأن النفي ب لا أبلغ منه ب لن وأن لا أدل على دوام النفي وطوله من لن وأنها للطول والمد الذي في نفيها طال النفي بها واشتد وأن هذا ضد ما فهمته الجهمية والمعتزلة من أن لن إنما تنفي المستقبل ولا تنفي الحال المستمر النفي في الإستقبال وقد تقدم تقرير ذلك بما لا تكاد تجده في غير هذا التعليق فالإتيان بلا متعين هنا والله أعلم وأما المسألة السادسة وهي اشتمال هذه السورة على النفي المحض فهذا هو خاصة هذه السورة العظيمة فإنها سورة براءة من الشرك كما جاء في وصفها أنها براءة من الشرك فمقصودها الأعظم هو البراءة المطلوبة بين الموحدين والمشركين ولهذا أتى بالنفي في الجانبين تحقيقا للبراءة المطلوبة هذا مع أنها متضمنة للإثبات صريحا فقوله لا أعبد ما تعبدون الكافرون 2 براءة محضة ولا أنتم عابدون ما أعبد الكافرون 3 إثبات أن له معبودا يعبده وأنتم بريئون من عبادته فتضمنت النفي والإثبات وطابقت قول إمام الحنفاء إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني الزخرف 26 27 وطابقت قول فئة الموحدين وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فانتظمت حقيقة لا إله إلا الله تعالى ولهذا كان النبي يقرنها بسورة قل هو الله أحد في سنة الفجر وسنة المغرب فإن هاتين السورتين سورتا الإخلاص // صحيح // وقد اشتملتا على نوعي التوحيد الذي لا نجاة للعبد ولا فلاح إلا بهما وهما توحيد العلم والإعتقاد المتضمن تنزيه الله عما لا يليق به من الشرك والكفر والولد والوالد وأنه إله أحد صمد لم يلد فيكون له فرع ولم يولد فيكون له أصل ولم يكن له كفوا أحد فيكون له نظير ومع هذا فهو الصمد الذي اجتمعت له صفات الكمال كلها فتضمنت السورة إثبات ما يليق بجلاله من صفات الكمال ونفي ما لا يليق به من الشريك أصلا وفرعا ونظيرا فهذا توحيد العلم والإعتقاد ________________________________________ والثاني توحيد القصد والإرادة وهو أن لا يعبد إلا إياه فلا يشرك به في عبادته سواه بل يكون وحده هو المعبود وسورة قل يا أيها الكافرون مشتملة على هذا التوحيد فانتظمت السورتان نوعي التوحيد وأخلصتا له فكان يفتتح بهما النهار في سنة الفجر ويختم بهما في سنة المغرب وفي السنن أنه كان يوتر بهما فيكونان خاتمة عمل الليل كما كانا خاتمة عمل النهار ومن هنا تخريج جواب المسألة السابعة وهي تقديم براءته من معبودهم ثم أتبعها ببراءتهم من معبوده فتأمله وأما المسألة الثامنة وهي إثباته هنا بلفظ يا أيها الكافرون دون يا أيها الذين كفروا فسره والله أعلم إرادة الدلالة على أن من كان الكفر وصفا ثابتا لا لازما لا يفارقه فهو حقيق أن يتبرأالله منه ويكون هو أيضا بريئا من الله فحقيق بالموحد البراءة منه فكان في معرض البراءة التي هي غاية البعد والمجانبة بحقيقة حاله التي هي غاية الكفر وهو الكفر الثابت اللازم في غاية المناسبة فكأنه يقول كما أن الكفر لازم لكم ثابت لا تنتقلون عنه فمجانبتكم والبراءة منكم ثابتة دائما أبدا ولهذا أتى فيها بالنفي الدال على الإستمرار مقابلة الكفر الثابت المستمر وهذا واضح المسألة التاسعة وهي ما الفائدة في قوله لكم دينكم ولي دين وهل أفاد هذا معنى زائدا على ما تقدم فيقال في ذلك من الحكمة والله أعلم أن النفي الأول أفاد البراءة وأنه لا يتصور منه ولا ينبغي له أن يعبد معبوديهم وهم أيضا لا يكونون عابدين لمعبوده وأفاد آخر السورة إثبات ما تضمنه النفي من جهتهم من الشرك والكفر الذي هو حظهم وقسمهم ونصيبهم فجرى ذلك مجرى من اقتسم هو وغيره أرضا فقال له لا تدخل في حدي ولا أدخل في حدك لك أرضك ولي أرضي فتضمنت الآية أن هذه البراءة اقتضت أنا اقتسمنا خطتنا بيننا فأصابنا التوحيد والإيمان فهو نصيبنا ________________________________________ وقسمنا الذي نختص به لا تشركونا فيه وأصابكم الشرك بالله والكفر به فهو نصيبكم وقسمكم الذي تختصمون به لا نشرككم به فتبارك من أحيا قلوب من شاء من عباده بفهم كلامه وهذه المعاني ونحوها إذا تجلت للقلوب رافلة في حللها فإنها تسبى القلوب وتأخذ بمجامعها ومن لم يصادف من قلبه حياة فهي خود تزف إلى ضرير مقعد فالحمد لله على مواهبه التي لا تنتهي ونسأله إتمام نعمته وأما المسألة العاشرة وهي تقديم قسمهم ونصيبهم على قسمه ونصيبه وفي أول السورة قدم ما يختص بهم فهذا من أسرار الكلام وبديع الخطاب الذي لا يدركه إلا فحول البلاغة وفرسانها فإن السورة لما اقتضت البراءة واقتسام ديني التوحيد والشرك بينه وبينهم ورضي كل بقسمه وكان المحق هو صاحب القسمة وقد برز النصيبين وميز القسمين وعلم أنهم راضون بقسمهم الدون الذي لا أردا منه وأنه هو قد استولى على القسم الأشرف والحظ الأعظم بمنزلة من اقتسم هو وغيره سما وشفاء فرضي مقاسمه بالسم فإنه يقول له لا تشاركني في قسمي ولا أشاركك في قسمك لك قسمك ولي قسمي فتقديم ذكر قسمه ههنا أحسن وأبلغ كأنه يقول هذا هو قسمك الذي آثرته بالتقديم وزعمت أنه أشرف القسمين وأحقهما بالتقديم فكان في تقديم ذكر قسمه من التهكم به والنداء على سوء اختياره وقبح ما رضيه لنفسه من الحسن والبيان ما لا يوجد في ذكر تقديم قسم نفسه والحاكم في هذا هو الذوق والفطن يكتفي بأدنى إشارة وأما غليظ الفهم فلا ينجع فيه كثرة البيان ووجه ثان وهو أن مقصود السورة براءته من دينهم ومعبودهم هذا هو لبها ومغزاها وجاء ذكر براءتهم من دينه ومعبوده بالقصد الثاني مكملا لبراءته ومحققا لها فلما كان المقصود براءته من دينهم بدأ به في أول السورة ثم جاء قوله لكم دينكم مطابقا لهذا المعنى أي لا أشارككم في دينكم ولا أوافقكم عليه بل هو دين تختصون أنتم به لا أشرككم فيه أبدا فطابق آخر السورة أولها فتأمله ________________________________________ وأما المسألة الحادية عشرة وهي أن هذا الإخبار بأن لهم دينهم وله دينه هل هو إقرار فيكون منسوخا أو مخصوصا أو لا نسخ في الآية ولا تخصيص فهذه مسألة شريفة من أهم المسائل المذكورة وقد غلط في السورة خلائق وظنوا أنها منسوخة بآية السيف لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم وظن آخرون أنها مخصوصة بمن يقرون على دينهم وهم أهل الكتاب وكلا القولين غلط محض فلا نسخ في السورة ولا تخصيص بل هي محكمة عمومها نص محفوظ وهي من السور التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها فإن أحكام التوحيد التي اتفقت عليه دعوة الرسل يستحيل دخول النسخ فيه وهذه السورة أخلصت التوحيد ولهذا تسمى سورة الإخلاص كما تقدم ومنشأ الغلط ظنهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم ثم رأوا أن هذا الإقرار زال بالسيف فقالوا منسوخ وقالت طائفة زال عن بعض الكفار وهم من لا كتاب لهم فقالوا هذا مخصوص ومعاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريرا لهم أو إقرارا على دينهم أبدا بل لم يزل رسول الله في أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه أشد على الإنكار عليهم وعيب دينهم وتقبيحه والنهي عنه والتهديد والوعيد كل وقت وفي كل ناد وقد سألوه أن يكف عن ذكر آلهتهم وعيب دينهم ويتركونه وشأنه فأبى إلا مضيا على الإنكار عليهم وعيب دينهم فكيف يقال إن الآية اقتضت تقريره لهم معاذ الله من هذا الزعم الباطل وإنما الآية اقتضت البراءة المحضة كما تقدم وأن ما هم عليه من الدين لا نوافقكم عليه أبدا فإنه دين باطل فهو مختص بكم لا نشرككم فيه ولا أنتم تشركوننا في ديننا الحق فهذا غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في دينهم فأين الإقرار حتى يدعي النسخ أو التخصيص أفترى إذا جوهدوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة لا يصح أن يقال لكم دينكم ولي دين الكافرون 6 بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يظهر الله منهم عباده وبلاده ________________________________________ وكذلك حكم هذه البراءة بين أتباع الرسول أهل سنته وبين أهل البدع المخالفين لما جاء به الداعين إلى غير سنته إذا قال لهم خلفاء الرسول وورثته لكم دينكم ولنا ديننا لا يقتضي هذا إقرارهم على بدعتهم بل يقولون لهم هذه براءة منها وهم مع هذا منتصبون للرد عليهم ولجهادهم بحسب الإمكان فهذا ما فتح الله العظيم به من هذه الكلمات اليسيرة والنبذة المشيرة إلى عظمة هذه السورة وجلالتها ومقصودها وبديع نظمها من غير استعانة بتفسير ولا تتبع لهذه الكلمات من مظان توجد فيه بل هي استملاء مما علمه الله وألهمه بفضله وكرمه والله يعلم أني لو وجدتها في كتاب لأضفتها إلى قائلها ولبالغت في استحسانها وعسى الله المان بفضله الواسع العطاء الذي عطاؤه على غير قياس المخلوقين أن يعين على تعليق تفسير هذا النمط وهذا الأسلوب وقد كتبت على مواضع متفرقة من القرآن بحسب ما يسنح من هذا النمط وقت مقامي بمكة وبالبيت المقدس والله المرجو إتمام نعمته أهـ { بدائع الفوائد حـ1 صـ 140 ـ 149 } ________________________________________ سورة الفلق { قل أعوذ برب الفلق } روى مسلم في صحيحه من حديث بن أبي حازم عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط أعوذ برب الفلق أعوذ برب الناس وفي لفظ آخر من رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن عقبة أن رسول الله قال له ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون قلت بلى قال قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس وفي الترمذي حدثنا قتيبة بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر قال أمرني رسول الله أن أقرأ بالمعوذتين في دبر كل صلاة // إسناده فيه ضعف وهو صحيح لغيره // قال هذا حديث غريب وفي الترمذي والنسائي وسنن أبي داود عن عبدالله بن حبيب قال خرجنا في ليلة مطر وظلمة نطلب النبي ليصلي لنا فأدركناه فقال قل فلم أقل شيئا ثم قال قل فلم أقل شيئا ثم قال قل قلت يا رسول الله ما أقول قال قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء // صحيح // قال الترمذي حديث حسن صحيح وفي الترمذي أيضا من حديث الجريري عن أبي هريرة عن أبي سعيد الخدري قال كان رسول الله يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان فلما نزلتا أخذهما وترك ما سواهما // حسن // قال وفي الباب عن أنس وهذا حديث غريب نفث النبي بالمعوذتين وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان إذا آوى إلى فراشه نفث في كفيه ب قل هو الله أحد والمعوذتين جميعا ثم يسمح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده قالت عائشة فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به // رواه البخاري ومسلم وأبو داود // قلت هكذا رواه يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة ذكره البخاري ورواه مالك عن الزهري عن عروة عنها أن النبي كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عليه بيده رجاء بركتها // رواه البخاري ومسلم // ________________________________________ كذلك قال معمر عن الزهري عن عروة عنها أن النبي كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن وأمسح بيده نفسه لبركتها فسألت ابن شهاب كيف كان ينفث قال ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه // رواه البخاري // ذكره البخاري أيضا وهذا هو الصواب أن عائشة كانت تفعل ذلك والنبي لم يأمرها ولم يمنعها من ذلك وأما أن يكون استرقى وطلب منها أن ترقيه فلا ولعل بعض الرواة رواه بالمعنى فظن أنها لما فعلت ذلك وأقرها على رقيته فليس أحدهما بمعنى الآخر ولعل الذي كان يأمرها به إنما هو المسح على نفسه بيده فيكون هو الراقي لنفسه ويده لما ضعفت عن التنقل على سائر بدنه أمرها أن تنقلها على بدنه ويكون هذا غير قراءتها هي عليه ومسحها على يديه فكانت تفعل هذا وهذا والذي أمرها به إنما هو تنقل يده لا رقيته والله أعلم والمقصود الكلام على هاتين السورتين وبيان عظيم منفعتهما وشدة الحاجة بل الضرورة إليهما وأنه لا يستغني عنهما أحد قط وأن لهما تأثيرا خاصا في دفع السحر والعين وسائر الشرور وأن حاجة العبد إلى الإستعاذة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى النفس والطعام والشراب واللباس فنقول والله المستعان قد اشتملت السورتان على ثلاثة أصول وهي أصول الإستعاذة أحدها نفس الإستعاذة والثانية المستعاذ به والثالثة المستعاذ منه فبمعرفة ذلك تعرف شدة الحاجة والضرورة إلى هاتين السورتين فلنعقد لهما ثلاثة فصول الفصل الأول في الإستعاذة والثاني في المستعاذ به والثالث في المستعاذ منه الفصل الأول الإستعاذة وبيان معناها اعلم أن لفظ عاذ وما تصرف منها يدل على التحرز والتحصن والنجاة وحقيقة معناها الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه ولهذا يسمى المستعاذ به معاذا كما يسمى ملجأ ووزرا ________________________________________ وفي الحديث أن ابنة الجون لما أدخلت على النبي فوضع يده عليها قالت أعوذ بالله منك فقال لها قد عذت بمعاذ الحقي بأهلك // رواه البخاري // فمعنى أعوذ ألتجيء وأعتصم وأتحرز وفي أصله قولان أحدهما أنه مأخوذ من الستر والثاني أنه مأخوذ من لزوم المجاورة فأما من قال إنه من الستر قال العرب تقول للبيت الذي في أصل الشجرة التي قد استتر بها عوذ بضم العين وتشديد الواو وفتحها فكأنه لما عاذ بالشجرة واستتر بأصلها وظلها سموه عوذا فكذلك العائد قد استتر من عدوه بمن استعاذ به منه واستجن به منه ومن قال هو لزوم المجاورة قال العرب تقول للحم إذا لصق بالعظم فلم يتخلص منه عوذ لأنه اعتصم به واستمسك به فكذلك العائذ قد استمسك بالمستعاذ به واعتصم به ولزمه والقولان حق والإستعاذة تنتظمهما معا فإن المستعيذ مستتر بمعاذه متمسك به معتصم به قد استمسك قلبه به ولزمه كما يلزم الولد أباه إذا أشهر عليه عدوه سيفا وقصده به فهرب منه فعرض له أبوه في طريق هربه فإنه يلقي نفسه عليه ويستمسك به أعظم استمساك فكذلك العائذ قد هرب من عدوه الذي يبغي هلاكه إلى ربه ومالكه وفر إليه وألقى نفسه بين يديه واعتصم به واستجار به والتجأ إليه وبعد فمعنى الإستعاذة القائم بقلبه وراء هذه العبارات وإنما هي تمثيل وإشارة وتفهيم وإلا فما يقوم بالقلب حينئذ من الإلتجاء والإعتصام والإنطراح بين يدي الرب والإفتقار إليه والتذلل بين يديه أمر لا تحيط به العبارة ونظير هذا التعبير عن معنى محبته وخشيته وإجلاله ومهابته فإن العبارة تقصر عن وصف ذلك ولا تدرك إلا بالإتصاف بذلك لا بمجرد الصفة والخبر كما أنك إذا وصفت لذة الوقاع لعنين لم تخلق له شهوة أصلا فلو قربتها وشبهتها بما عساك أن تشبهها به لم تحصل حقيقة معرفتها في قلبه فإذا وصفتها لمن خلقت فيه وركبت فيه عرفها بالوجود والذوق ________________________________________ وأصل هذا الفعل أعوذ بتسكين العين وضم الواو ثم أعل بنقل حركة الواو إلى العين وتسكين الواو فقالوا أعوذ على أصل هذا الباب ثم طردوا إعلاله فقالوا في اسم الفاعل عائذ وأصله عاوذ فوقعت الواو بعد ألف فاعل فقلبوها همزة كما قالوا قائم وخائف وقالوا في المصدر عياذا بالله وأصله عواذا كلواذ فقلبوا الواو ياء لكسرة ما قبلها ولم تحصنها حركتها لأنها قد ضعفت بإعلالها في الفعل وقالوا مستعيذ وأصله مستعوذ كمستخرج فنقلوا كسرة الواو إلى العين قبلها ثم قلبت الواو قبلها كسرة فقلبت ياء على أصل الباب فإن قلت فلم دخلت السين والتاء في الأمر من هذا الفعل كقوله فاستعذ بالله ولم تدخل في الماضي والمضارع بل الأكثر أن يقال أعوذ بالله وعذت بالله دون أستعيذ واستعذت قلت السين والتاء دالة على الطلب فقوله أستعيذ بالله أي أطلب العياذ به كما إذا قلت أستخير الله أي أطلب خيرته وأستغفره أي أطلب مغفرته وأستقيله أي أطلب إقالته فدخلت في الفعل إيذانا لطلب هذا المعنى من المعاذ فإذا قال المأمور أعوذ بالله فقد امتثل ما طلب منه لأنه طلب منه الإلتجاء والإعتصام وفرق بين نفس الإلتجاء والإعتصام وبين طلب ذلك فلما كان المستعيذ هاربا ملتجئا معتصما بالله أتى بالفعل الدال على ذلك دون الفعل الدال على طلب ذلك فتأمله وهذا بخلاف ما إذا قيل أستغفر الله فقال أستغفر الله فإنه طلب منه أن يطلب المغفرة من الله فإذا قال أستغفر الله كان ممتثلا لأن المعنى أطلب من الله تعالى أن يغفر لي وحيث أراد هذا المعنى في الإستعاذة فلا ضير أن يأتي بالسين فيقول أستعيذ بالله تعالى أي أطلب منه أن يعيذني ولكن هذا معنى غير نفس الإعتصام والإلتجاء والهرب إليه فالأول يخبر عن حاله وعياذه بربه وخبره يتضمن سؤاله وطلبه أن يعيذه والثاني طالب سائل من ربه أن يعيذه كأنه يقول أطلب منك أن تعيذني فحال الأول أكمل مجيء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر ________________________________________ ولهذا جاء عن النبي في امتثال هذا الأمر أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وأعوذ بكلمات الله التامات وأعوذ بعزة الله وقدرته دون أستعيذ بل الذي علمه الله إياه أن يقول أعوذ برب الفلق أعوذ برب الناس دون أستعيذ فتأمل هذه الحكمة البديعة فإن قلت فكيف جاء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر والمأمور به فقال قل أعوذ برب الفلق الفلق 1 وقل أعوذ برب الناس ومعلوم أنه إذا قيل قل الحمد لله وقل سبحان الله فإن امتثاله أن يقول الحمد لله وسبحان الله ولا يقول قل سبحان الله قلت هذا هو السؤال الذي أورده أبي بن كعب على النبي بعينه وأجابه عنه رسول الله فقال البخاري في صحيحه حدثنا قتيبة ثنا سفيان عن عاصم وعبده عن زر قال سألت أبي بن كعب عن المعوذتين فقال سألت رسول الله فقال قيل لي فقلت فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم // رواه البخاري ثم قال حدثنا علي بن عبدالله ثنا سفيان ثنا عبدة بن أبي لبابة عن زر بن حبيش وحدثنا عاصم عن زر قال سألت أبي بن كعب قلت أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا فقال إني سألت رسول الله فقال قيل لي فقلت قل فنحن نقول كما قال رسول الله قلت مفعول القول محذوف وتقديره قيل لي قل أو قيل لي هذا اللفظ فقلت كما قيل لي وتحت هذا السر أن النبي ليس له في القرآن إلا بلاغة لا أنه هو أنشأه من قبل نفسه بل هو المبلغ له عن الله وقد قال الله له قل أعوذ برب الفلق فكان يقتضي البلاغ التام أن يقول قل أعوذ برب الفلق كما قال الله وهذا هو المعنى الذي أشار النبي إليه بقوله قيل لي فقلت أي إني لست مبتدئا بل أنا مبلغ أقول كما يقال لي وأبلغ كلام ربي كما أنزله إلي فصلوات الله وسلامه عليه لقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة وقال كما قيل له فكفانا وشفانا من المعتزلة والجهمية وإخوانهم ممن يقول هذا القرآن العربي ________________________________________ وهذا النظم كلامه ابتدأ هو به ففي هذا الحديث أبين الرد لهذا القول وأنه بلغ القول الذي أمر بتبليغه على وجهه ولفظه حتى أنه لما قيل له قل لأنه مبلغ محض وما على الرسول إلا البلاغ الفصل الثاني المستعاذ به هو الله المستعاذ به وهو الله وحده رب الفلق ورب الناس ملك الناس إله الناس الذي لا ينبغي الإستعاذة إلا به ولا يستعاذ بأحد من خلقه بل هو الذي يعيذ المستعيذين ويعصمهم ويمنعهم من شر ما استعاذوا من شره وقد أخبر الله تعالى في كتابه عمن استعاذ بخلقه أن استعاذته زادته طغيانا ورهقا فقال حكاية عن مؤمني الجن وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا الجن 6 جاء في التفسير أنه كان الرجل من العرب في الجاهلية إذا سافر فأمسى في أرض قفر قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح أي فزاد الإنس الجن باستعاذتهم بسادتهم رهقا أي طغيانا وإثما وشرا يقولون سدنا الإنس والجن والرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم فزادوهم بهذه الإستعاذة غشيانا لما كان محظورا من الكبر والتعاظم فظنوا أنهم سادوا الإنس والجن واحتج أهل السنة على المعتزلة في أن كلمات الله غير مخلوقة بأن النبي استعاذ بقوله أعوذ بكلمات الله التامات // رواه مسلم // وهو لا يستعيذ بمخلوق أبدا ونظير ذلك قوله أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك // رواه مسلم // فدل على أن رضاه وعفوه من صفاته وأنه غير مخلوق وكذلك قوله أعوذ بعزة الله وقدرته // أخرجه مسلم // وقوله أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات // إسناده قابل للتحسين // وما استعاذ به النبي غير مخلوق فإنه لا يستعيذ إلا بالله أو صفة من صفاته ________________________________________ وجاءت الإستعاذة في هاتين السورتين باسم الرب والملك والإله وجاءت الربوبية فيها مضافة إلى الفلق وإلى الناس ولا بد من أن يكون ما وصف به نفسه في هاتين السورتين يناسب الإستعاذة المطلوبة ويقتضي دفع الشر المستعاذ منه أعظم مناسبة وأبينها وقد قررنا في مواضع متعددة أن الله سبحانه يدعى بأسمائه الحسنى فيسأل لكل مطلوب باسم يناسبه باسم ويقتضيه وقد قال النبي في هاتين السورتين أنه ما تعوذ المتعوذون بمثلها فلا بد أن يكون الإسم المستعاذ به مقتضيا للمطلوب وهو دفع الشر المستعاذ منه أو رفعه وإنما يتقرر هذا بالكلام في الفصل الثالث وهو الشيء المستعاذ منه فتتبين المناسبة المذكورة فنقول الفصل الثالث الشرور المستعاذ منها في أنواع الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين الشر الذي يصيب العبد لا يخلو من قسمين إما ذنوب وقعت منه يعاقب عليها فيكون وقوع ذلك بفعله وقصده وسعيه ويكون هذا الشر هو الذنوب وموجباتها وهو أعظم الشرين وأدومهما وأشدهما اتصالا بصاحبه وإما شر واقع به من غيره وذلك الغير إما مكلف أو غير مكلف والمكلف إما نظيره وهو الإنسان أو ليس نظيره وهو الجني وغير المكلف مثل الهوام وذوات الحمى وغيرها فتضمنت هاتان السورتان الإستعاذة من هذه الشرور كلها بأوجز لفظ وأجمعه وأدله على المراد وأعمه استعاذة بحيث لم يبق شر من الشرور إلا دخل تحت الشر المستعاذ منه فيهما فإن سورة الفلق تضمنت الإستعاذة من أمور أربعة أحدها شر المخلوقات التي لها شر عموما الثاني شر الغاسق إذا وقب الثالث شر النفاثات في العقد الرابع شر الحاسد إذا حسد فنتكلم على هذه الشرور الأربعة ومواقعها واتصالها بالعبد والتحرز منها قبل وقوعها وبماذا تدفع بعد وقوعها وقبل الكلام في ذلك لا بد من بيان الشر ما هو وما حقيقته فنقول الشر يقال على شيئين على الألم وعلى ما يفضي إليه وليس له مسمى سوى ذلك ________________________________________ فالشرور هي الآلام وأسبابها فالمعاصي والكفر والشرك وأنواع الظلم هي شرور وإن كان لصاحبها فيا نوع غرض ولذة لكنها شرور لأنها أسباب الآلام ومفضية إليها كإفضاء سائر الأسباب إلى مسبباتها فترتب الألم عليها كترتب الموت على تناول السموم القاتلة وعلى الذبح والإحراق بالنار والخنق بالحبل وغير ذلك من الأسباب التي تصيبه مفضية إلى مسبباتها ولا بد ما لم يمنع السببية مانع أو يعارض السبب ما هو أقوى منه وأشد اقتضاء لضده كما يعارض سبب المعاصي قوة الإيمان وعظمة الحسنات الماحية وكثرتها فيزيد في كميتها وكيفيتها على أسباب العذاب فيدفع الأقوى للأضعف وهذا شأن جميع الأسباب المتضادة كأسباب الصحة والمرض وأسباب الضعف والقوة والمقصود أن هذه الأسباب التي فيها لذة ما هي شر وإن نالت بها النفس مسرة عاجلة وهي بمنزلة طعام لذيذ شهي لكنه مسموم إذا تناوله الآكل لذا لآكله وطاب له مساغه وبعد قليل يفعل به ما يفعل فهكذا المعاصي والذنوب ولا بد حتى لو لم يخبر الشارع بذلك لكان الواقع والتجربة الخاصة والعامة من أكبر شهوده وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته فإن الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال الرعد 11 ومن تأمل ما قص الله تعالى في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره وما أزال الله عنهم من نعمه وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب كما قيل إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس ________________________________________ ومن سافر بفكره في أحوال العالم استغنى عن تعريف غيره له والمقصود أن هذه الأسباب شرور ولا بد وأما كون مسبباتها شرورا فلأنها آلام نفسية وبدنية فيجتمع على صاحبها مع شدة الألم الحسي ألم الروح بالهموم والغموم والأحزان والحسرات ولو تفطن العاقل اللبيب لهذا حق التفطن لأعطاه حقه من الحذر والجد في الهرب ولكن قد ضرب على قلبه حجاب الغفلة ليقضي الله أمرا كان مفعولا فلو تيقظ حق التيقظ لتقطعت نفسه في الدنيا حسرات على ما فاته من حظه العاجل والآجل من الله وإنما يظهر له هذا حقيقة الظهور عند مفارقة هذا العالم والإشراف والإطلاع على عالم البقاء فحينئذ يقول يا ليتني قدمت لحياتي الفجر 24 ويا حسرتي على ما فرطت في جنب الله الزمر 56 مدار المستعاذات على الآلام وأسبابها ولما كان الشر هو الآلام وأسبابها كانت استعاذات النبي جميعها مدارها على هذين الأصلين فكل ما استعاذ منه أو أمر بالإستعاذة منه فهو إما مؤلم وإما سبب يفضي إليه فكان يتعوذ في آخر الصلاة من أربع وأمر بالإستعاذة منهن وهي عذاب القبر وعذاب النار فهذان أعظم المؤلمات وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال // رواه البخاري ومسلم والنسائي // وهذان سبب العذاب المؤلم فالفتنة سبب العذاب وذكر الفتنة خصوصا وعموما وذكر نوعي الفتنة لأنها إما في الحياة وإما بعد الموت ففتنة الحياة قد يتراخى عنها العذاب مدة وأما فتنة الموت فيتصل بها العذاب من غير تراخ فعادت الإستعاذة إلى الألم والعذاب وأسبابها وهذا من أكد أدعية الصلاة حتى أوجب بعض السلف والخلف الإعادة على من لم يدع به في التشهد الأخير وأوجبه ابن حزم في كل تشهد فإن لم يأت به بطلت صلاته استعاذة النبي من ثمانية أشياء ________________________________________ ومن ذلك قوله اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال // رواه البخاري ومسلم والنسائي // فاستعاذ من ثمانية أشياء كل اثنين منها قرينان فالهم والحزن قرينان وهما من آلام الروح ومعذباتها والفرق بينهما أن الهم توقع الشر في المستقبل والحزن التألم على حصول المكروه في الماضي أو فوات المحبوب وكلاهما تألم وعذاب يرد على الروح فإن تعلق بالماضي سمي حزنا وإن تعلق بالمستقبل سمي هما والعجز والكسل قرينان وهما من أسباب الألم لأنهما يستلزمان فوات المحبوب فالعجز يستلزم عدم القدرة والكسل يستلزم عدم إرادته فتتألم الروح لفواته بحسب تعلقها به والتذاذها بإدراكه لو حصل والجبن والبخل قرينان لأنهما عدم النفع بالمال والبدن وهما من أسباب الألم لأن الجبان تفوته محبوبات ومفرحات وملذوذات عظيمة لا تنال إلا بالبذل والشجاعة والبخل يحول بينه دونها أيضا فهذان الخلقان من أعظم أسباب الآلام وضلع الدين وقهر الرجال قرينان وهما مؤلمان للنفس معذبان لها أحدهما قهر بحق وهو ضلع الدين والثاني قهر بباطل وهو غلبة الرجال وأيضا فضلع الدين قهر بسبب من العبد في الغالب وغلبة الرجال قهر بغير اختياره ومن ذلك تعوذه من المأثم والمغرم // رواه البخاري // فإنهما يسببان الألم العاجل ومن ذلك قوله أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك // رواه مسلم // فالسخط سبب الألم والعقوبة هي الألم فاستعاذ من أعظم الآلام وأقوى أسبابها فصل الشر المستعاذ منه والشر المستعاذ منه نوعان أحدهما موجود يطلب رفعه والثاني معدوم يطلب بقاؤه على العدم وأن لا يوجد كما أن الخير المطلق نوعان أحدهما موجود فيطلب دوامه وثباته وأن لا يسلبه والثاني معدوم فيطلب وجوده وحصوله مطالب العباد أربعة ________________________________________ فهذه أربعة هي أمهات مطالب السائلين من رب العالمين وعليها مدار طلباتهم وقد جاءت هذه المطالب الأربعة في قوله تعالى حكاية عن دعاء عباده في آخر آل عمران في قولهم ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا فهذا الطلب لدفع الشر الموجود فإن الذنوب والسيئات شر كما تقدم بيانه ثم قال وتوفنا مع الأبرار فهذا طلب لدوام الخير الموجود وهو الإيمان حتى يتوفاهم عليه فهذان قسمان ثم قال ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك آل عمران 194 فهذا طلب للخير المعدوم أن يؤتيهم إياه ثم قال ولا تخزنا يوم القيامة فهذا طلب أن لا يوقع بهم الشر المعدوم وهو خزي يوم القيامة فانتظمت الآيتان للمطالب الأربعة أحسن انتظام مرتبة أحسن ترتيب قدم فيها النوعان اللذان في الدنيا وهما المغفرة ودوام الإسلام إلى الموت ثم اتبعا بالنوعين اللذين في الآخرة وهما أن يعطوا ما وعدوه على ألسنة رسله وأن لا يخزيهم يوم القيامة فإذا عرف هذا فقوله في تشهد الخطبة ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا // صحيح // يتناول الإستعاذة من شر النفس الذي هو معدوم لكنه فيها بالقوة فيسأل دفعه وأن لا يوجد وأما قوله من سيئات أعمالنا ففيه قولان أحدهما أنه استعاذة من الأعمال السيئة التي قد وجدت فيكون الحديث قد تناول نوعي الإستعاذة من الشر المعدوم الذي لم يوجد ومن الشر الموجود فطلب دفع الأول ورفع الثاني والقول الثاني أن سيئات ________________________________________ الأعمال هي عقوباتها وموجباتها السيئة التي تسوء صاحبها وعلى هذا يكون من استعاذة الدفع أيضا دفع المسبب والأول دفع السبب فيكون قد استعاذ من حصول الألم وأسبابه وعلى الأول يكون إضافة السيئات إلى الأعمال من باب إضافة النوع إلى جنسه فإن الأعمال جنس وسيئاتها نوع منها وعلى الثاني يكون من باب إضافة المسبب إلى سببه والمعلول إلى علته كأنه قال من عقوبة عملي والقولان محتملان فتأمل أيهما أليق بالحديث وأولى به فإن مع كل واحد منهما نوعا من الترجيح فيترجح الأول بأن منشأ الأعمال السيئة من شر النفس فشر النفس يولد الأعمال السيئة فاستعاذ من صفة النفس ومن الأعمال التي تحدث عن تلك الصفة وهذان جماع الشر وأسباب كل ألم فمتى عوفي منها عوفي من الشر بحذافيره ويترجح الثاني بأن سيئات الأعمال هي العقوبات التي تسوء العامل وأسبابها شر النفس فاستعاذ من العقوبات والآلام وأسبابها والقولان في الحقيقة متلازمان والإستعاذة من أحدهما تستلزم الإستعاذة من الآخر فصل ولما كان الشر له سبب هو مصدره وله مورد ومنتهى وكان السبب إما من ذات العبد وإما من خارجه ومورده ومنتهاه إما نفسه وإما غيره كان هنا أربعة أمور شر مصدره من نفسه ويعود على نفسه تارة وعلى غيره أخرى وشر مصدره من غيره وهو السبب فيه ويعود على نفسه تارة وعلى غيره أخرى جمع النبي هذه المقامات الأربعة في الدعاء الذي علمه الصديق أن يقوله إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعه اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم // صحيح // فذكر مصدري الشر وهما النفس والشيطان وذكر مورده ونهايتيه وهما عوده على النفس أو على أخيه المسلم فجمع الحديث مصادر الشر وموارده في أوجز لفظه وأخصره وأجمعه وأبينه ________________________________________ فصل الشرور المستعاذ منها في المعوذتين الشر الأول في قوله من شر ما خلق الفلق 2 فإذا عرفت هذا فلنتكلم على الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين الشر الأول العام في قوله من شر ما خلق وما ههنا موصولة ليس إلا والشر مسند في الآية إلى المخلوق المفعول لا إلى خلق الرب تعالى الذي هو فعله وتكوينه فإنه لا شر فيه بوجه ما فإن الشر لا يدخل في شيء من صفاته ولا في أفعاله كما لا يلحق ذاته تبارك وتعالى فإن ذاته لها الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه وأوصافه كذلك لها الكمال المطلق والجلال التام ولا عيب فيها ولا نقص بوجه ما وكذلك أفعاله كلها خيرات محضة لا شر فيها أصلا ولو فعل الشر سبحانه لاشتق له منه اسم ولم تكن أسماؤه كلها حسنى ولعاد إليه منه حكم تعالى وتقدس عن ذلك وما يفعله من العدل بعباده وعقوبة من يستحق العقوبة منهم هو خير محض إذ هو محض العدل والحكمة وإنما يكون شرا بالنسبة إليهم فالشر وقع في تعلقه بهم وقيامه بهم لا في فعله القائم به تعالى ونحن لا ننكر أن الشر يكون في مفعولاته المنفصلة فإنه خالق الخير والشر ولكن هنا أمران ينبغي أن يكونا منك على باب أحدهما أن ما هو شر أو متضمن للشر فإنه لا يكون إلا مفعولا منفصلا لا يكون وصفا له ولا فعلا من أفعاله ________________________________________ الثاني أن كونه شرا هو أمر نسبي إضافي فهو خير من جهة تعلق فعل الرب وتكوينه به وشر من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه فله وجهان هو من أحدهما خير وهو الوجه الذي نسب منه إلى الخالق سبحانه وتعالى خلقا وتكوينا ومشيئة لما فيه من الحكمة البالغة التي استأثر بعلمها وأطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها وأكثر الناس تضيق عقولهم عن مباديء معرفتها فضلا عن حقيقتها فيكفيهم الإيمان المجمل بأن الله سبحانه هو الغني الحميد وفاعل الشر لا يفعله لحاجته المنافية لغناه أو لنقصه وعيبه المنافي لحمده فيستحيل صدور الشر من الغني الحميد فعلا وإن كان هو الخالق للخير والشر فقد عرفت أن كونه شرا هو أمر إضافي وهو في نفسه خير من جهة نسبته إلى خالقه ومبدعه فلا تغفل عن هذا الموضع فإنه يفتح لك بابا عظيما من معرفة الرب ومحبته ويزيل عنك شبهات حارث فيها عقول أكثر الفضلاء وقد بسطت هذا في كتاب التحفة المكية وكتاب الفتح القدسي وغيرهما الشر في أفعاله تعالى أمر نسبي وإذا أشكل عليك هذا فأنا أوضحه لك بأمثلة أحدها أن السارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه وخير محض بالنسبة إلى عموم الناس لما فيه من حفظ أموالهم ودفع الضرر عنهم وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمرا وحكما لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عموما بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم المضر بهم فهو محمود على حكمه بذلك وأمره به مشكور عليه يستحق عليه الحمد من عباده والثناء عليه والمحبة وكذلك الحكم بقتل من يصول عليهم في دمائهم وحرماتهم وجلد من يصول عليهم في أعراضهم فإذا كان هذا عقوبة من يصول عليهم في دنياهم فكيف عقوبة من يصول على أديانهم ويحول بينهم وبين الهدى الذي بعث الله به رسله وجعل سعادة العباد في معاشهم ومعادهم منوطة به ________________________________________ أفليس في عقوبة هذا الصائل خير محض وحكمة وعدل وإحسان إلى العبيد وهي شر بالنسبة إلى الصائل الباغي فالشر ما قام به من تلك العقوبة وأما ما نسب إلى الرب منها من المشيئة والإرادة والفعل فهو عين الخير والحكمة فلا يغلظ حجابك عن فهم هذا النبأ العظيم والسر الذي يطلعك على مسألة القدر ويفتح لك الطريق إلى الله ومعرفة حكمته ورحمته وإحسانه إلى خلقه وأنه سبحانه كما أنه البر الرحيم الودود المحسن فهو الحكيم الملك العدل فلا تناقض حكمته رحمته بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه وكلاهما مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته ولا يلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله تعالى أن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء ولا فرق أصلا وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة وتأمل القرآن من أوله إلى آخره كيف تجده كفيلا بالرد على هذه المقالة وإنكارها أشد الإنكار وتنزيه نفسه عنها كقوله تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون القلم 35 وقوله أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون الجاثية 21 وقوله أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ص 28 فأنكر سبحانه على من ظن هذا الظن ونزه نفسه عنه فدل على أنه مستقر في الفطر والعقول السليمة أن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعزته وإلاهيته لا إله هو تعالى عما يقول الجاهلون علوا كبيرا ________________________________________ وقد فطر الله عقول عباده على استقباح وضع العقوبة والإنتقام في موضع الرحمة والإحسان ومكافأة الصنع الجميل بمثله وزيادة فإذا وضع العقوبة موضع ذلك استنكرته فطرهم وعقولهم أشد الإستنكار واستهجنته أعظم الإستهجان وكذلك وضع الإحسان والإكرام في موضع العقوبة والإنتقام كما إذا جاء إلى من يسيء إلى العالم بأنواع الإساءة في كل شيء من أموالهم وحريمهم ودمائهم فأكرمه غاية الإكرام ورفعه وكرمه فإن الفطر والعقول تأبى استحسان هذا وتشهد على سفه من فعله هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها فما للعقول والفطر لا تشهد حكمته البالغة وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى المحال بها وأحقها بالعقوبة وأنها لو أوليت النعم لم تحسن بها ولم تلق ولظهرت مناقضة الحكمة كما قال الشاعر نعمة الله لا تعاب ولكن ... ربما استقبحت على أقوام ________________________________________ فهكذا نعم الله لا تليق ولا تحسن ولا تجمل بأعدائه الصادين عن سبيله الساعين في خلاف مرضاته الذين يرضون إذا غضب ويغضبون إذا رضى ويعطلون ما حكم به ويسعون في أن تكون الدعوة لغيره والحكم لغيره والطاعة لغيره فهم مضادون في كل ما يريد يحبون ما يبغضه ويدعون إليه ويبغضون ما يحبه وينفرون عنه ويوالون أعداءه وأبغض الخلق إليه ويظاهرونهم عليه وعلى رسوله كما قال تعالى وكان الكافر على ربه ظهيرا الفرقان 55 وقال وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو الكهف 50 فتأمل ما تحت هذا الخطاب الذي يسلب الأرواح حلاوة وعقابا وجلالة وتهديدا كيف صدره بإخبارنا أنه أمر إبليس بالسجود لأبينا فأبى ذلك فطرده ولعنه وعاداه من أجل إبائه عن السجود لأبينا ثم أنتم توالونه من دوني وقد لعنته وطردته إذ لم يسجد لأبيكم وجعلته عدوا لكم ولأبيكم فواليتموه وتركتموني فليس هذا من أعظم الغبن وأشد الحسرة عليكم ويوم القيامة يقول تعالى أليس عدلا مني أن أولي كل رجل منكم ما كان يتولى في دار الدنيا فليعلمن أولياء الشيطان كيف حالهم يوم القيامة إذا ذهبوا مع أوليائهم وبقي أولياء الرحمن لم يذهبوا مع أحد فيتجلى لهم ويقول ألا تذهبون حيث ذهب الناس فيقولون فارقنا الناس أحوج ما كنا إليهم وإنما ننتظر ربنا الذي كنا نتولاه ونعبده فيقول هي بينكم وبينه علامة تعرفونه بها فيقولون نعم إنه لا مثل له فيتجلى لهم ويكشف عن ساق فيخرون له سجدا فيا قرة عيون أوليائه بتلك الموالاة ويا فرحهم إذا ذهب الناس مع أوليائهم وبقوا مع مولاهم الحق فسيعلم المشركون به الصادون عن سبيله أنهم ما كانوا أولياءه إن أولياءه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون ________________________________________ ولا تستطل هذا البساط فما أحوج القلوب إلى معرفته وتعقله ونزولها منه منازلها فيالدنيا لتنزل في جوار ربها في الآخرة الذين أنعم الله تعالى عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فصل حديث لبيك وسعديك إذا عرفت هذا عرف معنى قوله في الحديث الصحيح لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك // صحيح // وإن معناه أجل وأعظم من قول من قال والشر لا يتقرب به إليك وقول من قال والشر لا يصعد إليك وأن هذا الذي قالوه وإن تضمن تنزيهه عن صعود الشر إليه والتقرب به إليه فلا يتضمن تنزيهه في ذاته وصفاته وأفعاله عن الشر بخلاف لفظ المعصوم الصادق المصدق فإنه يتضمن تنزيهه في ذاته تبارك وتعالى عن نسبة الشر إليه بوجه ما لا في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه وإن دخل في مخلوقاته كقوله قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق الفلق 1 2 وتأمل طريقة القرآن في إضافة الشر تارة إلى سببه ومن قام به كقوله والكافرون هم الظالمون البقرة 254 وقوله والله لا يهدي القوم الفاسقين المائدة 108 وقوله فبظلم من الذين هادوا النساء 160 وقوله ذلك جزيناهم ببغيهم الأنعام 146 وقوله وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين الزخرف 76 وهو في القرآن أكثر من أن يذكر هاهنا عشر معشاره وإنما المقصود التمثيل وتارة بحذف فاعله كقوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا الجن 10 فحذفوا فاعل الشر ومريده وصرحوا بمريد الرشد ونظيره في الفاتحة صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين الفاتحة 7 فذكر النعمة مضافة إليه سبحانه والضلال منسوبا إلى من قام به والغضب محذوفا فاعله ومثله قول الخضر في السفينة فأردت أن أعيبها الكهف 79 وفي الغلامين فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك الكهف 82 ________________________________________ ومثله قوله ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان الحجرات 7 فنسب هذا التزيين المحبوب إليه وقال زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين آل عمران 14 فحذف الفاعل المزين ومثله قول الخليل صلى الله عليه وسلم الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين الشعراء 78 82 فنسب إلى ربه كل كمال من هذه الأفعال ونسب إلى نفسه النقص منها وهو المرض والخطيئة وهذا كثير في القرآن الكريم ذكرنا منه أمثلة كثيرة في كتاب الفوائد المكية وبينا هناك السر في مجيء الذين آتيناهم الكتاب البقرة 121 الذين أوتوا الكتاب البقرة 101 والفرق بين الموضعين وأنه حيث ذكر الفاعل كان من آتاه الكتاب واقعا في سياق المدح وحيث حذفه كان من أوتيه واقعا في سياق الذم أو منقسما وذلك من أسرار القرآن الكريم ومثله ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فاطر 32 وقال فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى الأعراف 169 وبالجملة فالذي يضاف إلى الله تعالى كله خير وحكمة ومصلحة وعدل والشر ليس إليه الشر الأول فصل من شر ما خلق وقد دخل في قوله تعالى من شر ما خلق الإستعاذة من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره إنسيا كان أو جنيا أو هامة أو دابة أو ريحا أو صاعقة أي نوع كان من أنواع البلاء فإن قلت فهل في ما هاهنا عموم قلت فيها عموم تقييدي وصفي لا عموم إطلاقي والمعنى من شر كل مخلوق فيه شر فعمومها من هذا الوجه وليس المراد الإستعاذة من شر كل ما خلقه الله تعالى فإن الجنة وما فيها ليس فيها شر وكذلك الملائكة والأنبياء فإنهم خير محض والخير كله حصل على أيديهم فالإستعاذة من شر ما خلق تعم شر كل مخلوق فيه شر وكل شر في الدنيا والآخرة وشر شياطين الإنس والجن وشر السباع والهوام وشر النار والهواء وغير ذلك ________________________________________ وفي الصحيح عن النبي أنه قال من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل منه رواه مسلم روى أبو داود في سننه عن عبدالله بن عمر قال كان رسول الله إذا سافر فأقبل الليل قال يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما خلق فيك وشر ما يدب عليك أعوذ بالله من أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن ساكن البلد ومن والد وما ولد // حسن على الراجح // وفي الحديث الآخر أعوذ بكلمات الله التامة التي لا يجاوزها بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرا وبرا ومن شر ما نزل من السماء وما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن // صحيح // الشر الثاني فصل شر الغاسق إذا وقب الشر الثاني شر الغاسق إذا وقب فهذا خاص بعد عام وقد قال أكثر المفسرين أنه الليل قال عبدالله بن عباس الليل إذا أقبل بظلمته من الشرق ودخل في كل شيء وأظلم والغسق الظلمة يقال غسق الليل وأغسق إذا أظلم ومنه قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل الإسراء 78 وكذلك قال الحسن ومجاهد الغاسق إذا وقب الليل إذا أقبل ودخل والوقوب الدخول وهو دخول الليل بغروب الشمس وقال مقاتل يعني ظلمة الليل إذا دخل سواده في ضوء النهار وفي تسمية الليل غاسقا قول آخر إنه من البرد والليل أبرد من النهار والغسق البرد وعليه حمل عبدالله بن عباس قوله تعالى هذا فليذوقوه حميم وغساق ص 75 وقوله لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا النبأ 24 25 قال هو الزمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرها ________________________________________ وكذلك قال مجاهد ومقاتل هو الذي انتهى برده ولا تنافي بين القولين فإن الليل بارد مظلم فمن ذكر برده فقط أو ظلمته فقط اقتصر على أحد وصفيه والظلمة في الآية أنسب لمكان الإستعاذة فإن الشر الذي يناسب الظلمة أولى بالإستعاذة من البرد الذي في الليل ولهذا استعاذ برب الفلق الذي هو الصبح والنور من شر الغاسق الذي هو الظلمة فناسب الوصف المستعاذ به للمعنى المطلوب بالإستعاذة كما سنزيده تقريرا عن قريب إن شاء الله فإن قيل فما تقولون فيما رواه الترمذي من حديث ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبدالرحمن عن أبي سلمة عن عائشة قالت أخذ النبي بيدي فنظر إلى القمر فقال يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا فإن هذا هو الغاسق إذا وقب // صحيح // قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وهذا أولى من كل تفسير فيتعين المصير إليه قيل هذا التفسير حق ولا يناقض التفسير الأول بل يوافقه ويشهد بصحته فإن الله تعالى قال وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة الإسراء 12 فالقمر هو آية الليل وسلطانه فهو أيضا غاسق إذا وقب كما غاسق إذا وقب والنبي أخبر عن القمر بأنه غاسق إذا وقب وهذا خبر صدق وهو أصدق الخبر ولم ينف عن الليل اسم الغاسق إذا وقب وتخصيص النبي له بالذكر لا ينفي شمول الإسم لغيره ونظير هذا قوله في المسجد الذي أسس على التقوى وقد سئل عنه فقال هو مسجدي هذا // رواه مسلم والنسائي والترمذي // ومعلوم أن هذا لا ينفي كون مسجد قبا مؤسسا على التقوى مثل ذاك ونظيره أيضا قوله في علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين اللهم هؤلاء أهل بيتي // رواه مسلم // فإن هذا لا ينفي دخول غيرهم من أهل بيته في لفظ أهل البيت ولكن هؤلاء أحق من دخل في لفظ أهل بيته ونظير هذا قوله ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة ________________________________________ والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس شيئا ولا يفطن له فيتصدق عليه // رواه البخاري ومسلم // وهذا لا ينفي اسم المسكنة عن الطواف بل ينفي اختصاص الإسم به وتناول المسكين لغير السائل أولى من تناوله له ونظير هذا قوله ليس الشديد بالصرعة ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب // رواه البخاري ومسلم // فإنه لا يقتضي نفي الإسم عن الذي يصرع الرجال ولكن يقتضي أن ثبوته للذي يملك نفسه عند الغضب أولى ونظيره الغسق والوقوب وأمثال ذلك فكذلك قوله في القمر هذا هو الغاسق إذا وقب لا ينفي أن يكون الليل غاسقا بل كلاهما غاسق فإن قيل فما تقولون في القول الذي ذهب إليه بعضهم أن المراد به القمر إذا خسف واسود وقوله وقب أي دخل في الخسوف أو غاب خاسفا قيل هذا القول ضعيف ولا نعلم به سلفا والنبي لما أشار إلى القمر وقال هذا الغاسق إذا وقب لم يكن خاسفا إذ ذاك وإنما كان وهو مستنير ولو كان خاسفا لذكرته عائشة وإنما قالت نظر إلى القمر وقال هذا هو الغاسق ولو كان خاسفا لم يصح أن يحذف ذلك الوصف منه فإن ما أطلق عليه اسم الغاسق باعتبار صفة لا يجوز أن يطلق عليه بدونها لما فيه من التلبيس وأيضا فإن اللغة لا تساعد على هذا فلا نعلم أحدا قال الغاسق القمر في حال خسوفه وأيضا فإن الوقوب لا يقول أحد من أهل اللغة أنه الخسوف وإنما هو الدخول من قولهم وقيت العين إذا غارت ومنه الوقب للثقب الذي يدخل فيه المحور وتقول العرب وقب يقب وقوبا إذا دخل فإن قيل فما تقولون في القول الذي ذهب إليه بعضهم أن الغاسق هو الثريا إذا سقطت فإن الأسقام تكثر عند سقوطها وغروبها وترتفع عند طلوعها قيل إن أراد صاحب هذا القول اختصاص الغاسق بالنجم إذا غرب فباطل وإن أراد أن اسم الغاسق يتناول ذلك بوجه ما فهذا يحتمل أن يدل اللفظ عليه بفحواه ومقصوده وتنبيهه وأما أن يختص اللفظ به فباطل فصل سبب الإستعاذة من شر الليل ________________________________________ والسبب الذي لأجله أمر الله بالإستعاذة من شر الليل وشر القمر إذا وقب هو أن الليل إذا أقبل فهو محل سلطان الأرواح الشريرة الخبيثة وفيه تنتشر الشياطين وفي الصحيح أن النبي أخبر أن الشمس إذا غربت انتشرت الشياطين ولهذا قال فاكتفوا صبيانكم واحبسوا مواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء // رواه البخاري ومسلم // وفي حديث آخر فإن الله يبث من خلقه ما يشاء والليل هو محل الظلام وفيه تتسلط شياطين الإنس والجن ما لا تتسلط بالنهار فإن النهار نور والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات والمواضع المظلمة وعلى أهل الظلمة وروي أن سائلا سأل مسيلمة كيف يأتيك الذي يأتيك فقال في ظلماء حندس وسأل النبي كيف يأتيك فقال في مثل ضوء النهار فاستدل بهذا على نبوته وإن الذي يأتيه ملك من عند الله وأن الذي يأتي مسيلمة شيطان ولهذا كان سلطان السحر وعظم تأثيره إنما هو بالليل دون النهار فالسحر الليلي عندهم هو السحر القوي التأثير ولهذا كانت القلوب المظلمة هي محال الشياطين وبيوتهم ومأواهم والشياطين تجول فيها وتتحكم كما يتحكم ساكن البيت فيه وكلما كان القلب أظلم كان للشيطان أطوع وهو فيه أثبت وأمكن فصل السر في الإستعاذة برب الفلق ومن هاهنا تعلم السر في الإستعاذة برب الفلق في هذا الموضع فإن الفلق الصبح الذي هو مبدأ ظهور النور وهو الذي يطرد جيش الظلام وعسكر المفسدين في الليل فيأوي كل خبيث وكل مفسد وكل لص وكل قاطع طريق إلى سرب أو كن أو غار وتأوي الهوام إلى أحجرتها والشياطين التي انتشرت بالليل إلى أمكنتها ومحالها فأمر الله تعالى عباده أن يستعيذوا برب النور الذي يقهر الظلمة ويزيلها ويقهر عسكرها ________________________________________ وجيشها ولهذا ذكر سبحانه في كل كتاب أنه يخرج عباده من الظلمات إلى النور ويدع الكفار في ظلمات كفرهم قال تعالى الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات البقرة 257 وقال تعالى أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها الأنعام 122 وقال في أعمار الكفار أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور النور 40 وقد قال قبل ذلك في صفات أهل الإيمان ونورهم الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء النور 35 فالإيمان كله نور ومآله إلى نور ومستقره في القلب المضيء المستنير والمقترن بأهله الأرواح المستنيرة المضيئة المشرقة والكفر والشرك كله ظلمة ومآله إلى الظلمات ومستقره في القلوب المظلمة والمقترن بها الأرواح المظلمة فتأمل الإستعاذة برب الفلق من شر الظلمة ومن شر ما يحدث فيها ونزول هذا المعنى على الواقع يشهد بأن القرآن بل هاتان السورتان من أعظم أعلام النبوة وبراهين صدق رسالة محمد ومضادة لما جاء به الشياطين من كل وجه وإن ما جاء به ما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون فما فعلوه ولا يليق بهم ولا يتأتى منهم ولا يقدرون عليه وفي هذا أبين جواب وأشفاه لما يورده أعداء الرسول عليه من الأسئلة الباطلة التي قصر المتكلمون غاية التقصير في دفعها وما شفوا في جوابها وإنما الله سبحانه هو الذي شفى وكفى في جوابها فلم يحوجنا إلى متكلم ولا إلى أصولي ولا أنظار فله الحمد والمنة لا نحصي ثناء عليه فصل ________________________________________ تفسير الفلق واعلم أن الخلق كله فلق وذلك أن فلقا فعل بمعنى مفعول كقبض وسلب وقنص بمعنى مقبوض ومسلوب ومقنوص والله عز وجل فالق الإصباح وفالق الحب والنوى وفالق الأرض عن النبات والجبال عن العيون والسحاب عن المطر والأرحام عن الأجنة والظلام عن الإصباح ويسمى الصبح المتصدع عن الظلمة فلقا وفرقا يقال هو أبيض من فرق الصبح وفلقه وكما أن في خلقه فلقا وفرقا فكذلك أمره كله فرقان يفرق بين الحق والباطل فيفرق ظلام الباطل بالحق كما يفرق ظلام الليل بالإصباح ولهذا سمى كتابه الفرقان ونصره فرقانا لتضمنه الفرق بين أوليائه وأعدائه ومنه فلقة البحر لموسى وسماه فلقا فظهرت حكمة الإستعاذة برب الفلق في هذه المواضع وظهر بهذا إعجاز القرآن وعظمته وجلالته وأن العباد لا يقدرون قدره وإنه تنزيل من حكيم حميد فصلت 42 الشر الثالث فصل شر النفاثات في العقد الشر الثالث شر النفاثات في العقد وهذا الشر هو شر السحر فإن النفاثات في العقد هن السواحر اللاتي يعقدن الخيوط وينفثن على كل عقدة حتى ينعقد ما يردن من السحر والنفث هو النفخ مع ريق وهو دون التفل وهو مرتبة بينهما والنفث فعل الساحر فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة نفخ في تلك العقد نفخا معه ريق فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر والأذى مقترن بالريق الممازج لذلك وقد تساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور فيقع فيه السحر بإذن الله الكوني القدري لا الأمر الشرعي فإن قيل فالسحر يكون من الذكور والإناث فلم خص الإستعاذة من الإناث دون الذكور قيل في جوابه إن هذا خرج على السبب الواقع وهو أن بنات لبيد بن الأعصم سحرن النبي هذا جواب أبي عبيدة وغيره وليس هذا بسديد فإن الذي سحر النبي هو لبيد بن الأعصم كما جاء في الصحيح والجواب المحقق إن النفاثات هنا هن الأرواح والأنفس النفاثات لا النساء النفاثات ________________________________________ لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة والأرواح الشريرة وسلطانه إنما يظهر منها فلهذا ذكرت النفاثات هنا بلفظ التأنيث دون التذكير والله أعلم ففي الصحيح عن هاشم بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي طب حتى إنه ليخيل إليه أنه صنع شيئا وما صنعه وأنها دعا ربه ثم قال أشعرت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه فقالت عائشة وما ذاك يا رسول الله قال جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه ما وجع الرجل قال الآخر مطبوب قال من طبه قال لبيد بن الأعصم قال له فبماذا قال في مشط ومشاطه وجف طلع ذكر قال فأين هو قال في ذروان بئر في بني زريق قالت عائشة رضي الله عنها فأتاها رسول الله ثم رجع إلى عائشة رضي الله عنها فقال والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ولكأن نخلها رءوس الشياطين قال فقلت له يا رسول الله هلا أخرجته قال أما أنا فقد شفاني الله وكرهت أن أثير على الناس شرا فأمر بها فدفنت // رواه البخاري ومسلم // قال البخاري وقال الليث وسفيان بن عيينة عن هشام في مشط ومشافة ويقال أن المشاطة ما يخرج من الشعر إذا مشط والمشاقة من مشاقة الكتان ________________________________________ قلت هكذا في هذه الرواية إنه لم يخرجه اكتفاء بمعافاة الله له وشفائه إياه وقد روى البخاري من حديث سفيان بن عيينة قال أول من حدثنا به ابن جريج يقول حدثني آل عروة عن عروة فسألت هشام عنه فحدثنا عن أبيه عن عائشة كان رسول الله سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن قال سفيان وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا فقال يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي للآخر ما بال الرجل قال مطبوب قال ومن طبه قال لبيد بن الأعصم رجل من بني زريق حليف ليهود وكان منافقا قال وفيم قال في مشط ومشاطة قال وأين قال في جف طلع ذكر تحت رعوفة في بئر ذروان قال فأتى البئر حتى استخرجه فقال هذه البئر التي أريتها وكأن ماءها نقاعة الحناء وكأن نخلها رءوس الشياطين قال فاستخرج أما الله فقد شفاني وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا // رواه البخاري // ففي هذا الحديث أنه استخرجه وترجم البخاري عليه باب هل يستخرج السحر وقال قتادة قلت لسعيد بن المسيب رجل به طب ويؤخذ عن امرأته أيحل عنه وينشر قال لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح فأما ما ينفع الناس فلم ينه عنه فهذان الحديثان قد يظن في الظاهر تعارضهما فإن حديث عيسى عن هشام عن أبيه الأول فيه أنه لم يستخرجه وحديث ابن جريج عن هشام فيه أنه استخرجه ولا تنافي بينهما فإنه استخرجه من البئر حتى رآه وعلمه ثم دفنه بعد أن شفي ________________________________________ وقول عائشة رضي الله عنها هلا استخرجته أي هلا أخرجته للناس حتى يروه ويعاينوه فأخبرها بالمانع له من ذلك وهو أن المسلمين لم يكونوا ليسكتوا عن ذلك فيقع الإنكار ويغضب للساحر قومه فيحدث الشر وقد حصل المقصود بالشفاء والمعافاة فأمر بها فدفنت ولم يستخرجها للناس فالإستخراج الواقع غير الذي سألت عنه عائشة والذي يدل عليه أنه إنما جاء إلى البئر ليستخرجها منه ولم يجيء إليه لينظر إليها ثم ينصرف إذ لا غرض له في ذلك والله أعلم وهذا الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث متلقى بالقبول بينهم لا يختلفون في صحته وقد اعتاض على كثير من أهل الكلام وغيرهم وأنكروه أشد الإنكار وقابلوه بالتكذيب وصنف بعضهم فيه مصنفا مفردا حمل فيه على هشام وكان غاية ما أحسن القول فيه أن قال غلط واشتبه عليه الأمر ولم يكن من هذا شيء قال لأن النبي لا يجوز أن يسحر فإنه يكون تصديقا لقول الكفار إن تتبعون إلا رجلا مسحورا الإسراء 47 قالوا وهذا كما قال فرعون لموسى إني لأظنك يا موسى مسحورا الإسراء 101 وقال قوم صالح له إنما أنت من المسحرين الشعراء 153 وقال قوم شعيب له إنما أنت من المسحرين قالوا فالأنبياء لا يجوز عليهم أن يسحروا فإن ذلك ينافي حماية الله لهم وعصمتهم من الشياطين وهذا الذي قاله هؤلاء مردود عند أهل العلم فإن هشاما من أوثق الناس وأعلمهم ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بما يوجب رد حديثه فما للمتكلمين وما لهذا الشأن وقد رواه غير هشام عن عائشة وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة والقصة مشهورة عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقهاء وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله وأيامه من المتكلمين قال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن يزيد بن حباب عن زيد ابن الأرقم قال سحر ________________________________________ النبي رجل من اليهود فاشتكى لذلك أياما قال فأتاه جبريل فقال إن رجلا من اليهود سحرك وعقد لذلك عقدا فأرسل رسول الله عليا فاستخرجها فجاء بها فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة فقام رسول الله كأنما أنشط من عقال فما ذكر ذلك لليهودي ولا رآه في وجهه قط // رواه ابن أبي شيبة // وقال ابن عباس وعائشة كان غلام من اليهود يخدم رسول الله فدنت إليه اليهود فلم يزالوا حتى أخذ مشاطة رأس النبي وعدة أسنان من مشطه فأعطاها اليهود فسحروه فيها وتولى ذلك لبيد بن الأعصم رجل من اليهود فنزلت هاتان السورتان فيه قال البغوي وقيل كانت مغروزة بالدبر فأنزل الله عز وجل هاتين السورتين وهما أحد عشرة آية سورة الفلق خمس آيات وسورة الناس ست آيات فكلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد كلها فقام النبي كأنما انشط من عقال قال وروى أنه لبث فيه ستة أشهر واشتد عليه ثلاثة أيام فنزلت المعوذتان ________________________________________ قالوا والسحر الذي أصابه كان مرضا من الأمراض عارضا شفاه الله منه ولا نقص في ذلك ولا عيب بوجه ما فإن المرض يجوز على الأنبياء وكذلك الإغماء فقد أغمي عليه في مرضه ووقع حين انفكت قدمه وجحش شقه // رواه البخاري ومسلم // وهذا من البلاء الذي يزيده الله به رفعة في درجاته ونيل كرامته وأشد الناس بلاء الأنبياء فابتلوا من أممهم بما ابتلوا به من القتل والضرب والشتم والحبس فليس ببدع أن يبتلى النبي من بعض أعدائه بنوع من السحر كما ابتلى بالذي رماه فشجه وابتلى بالذي ألقى على ظهره السلا وهو ساجد وغير ذلك فلا نقص عليهم ولا عار في ذلك بل هذا من كمالهم وعلو درجاتهم عند الله قالوا وقد ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن جبريل أتى النبي فقال يا محمد اشتكيت فقال نعم فقال باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك فعوذه جبريل من شر كل نفس وعين حاسد لما اشتكى فدل على أن هذا التعويذ مزيل لشكايته وإلا فلا يعوذه من شيء وشكايته من غيره قالوا وأما الآيات التي استدللتم بها لا حجة لكم فيها أما قوله تعالي عن الكفار أنهم قالوا إن تتبعون إلا رجلا مسحورا الإسراء 47 وقوله قوم صالح له إنما أنت من المسحرين الشعراء 153 فقيل المراد به من له سحر وهي الرئة أي أنه بشر مثلهم يأكل ويشرب ليس بملك ليس المراد به السحر وهذا جواب غير مرض وهو في غاية البعد فإن الكفار لك يكونوا يعبرون عن البشر بمسحور ولا يعرف هذا في لغة من اللغات وحيث أرادوا هذا المعنى أتوا بصريح لفظ البشر فقالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا أنؤمن لبشر مثلنا أبعث الله بشرا رسولا ________________________________________ وأما المسحور فلم يريدوا به ذا السحر وهي الرئة وأي مناسبة لذكر الرئة في هذا الموضع ثم كيف يقول فرعون لموسى إني لأظنك يا موسى مسحورا أفتراه ما علم أنه له سحرا وأنه بشر ثم كيف يجيبه موسى بقوله وإني لأظنك يا فرعون مثبورا الإسراء 102 ولو أراد بالمسحور أنه بشر لصدقه موسى وقال نعم أنا بشر أرسلني الله إليك كما قالت الرسل لقومهم لما قالوا لهم إن أنتم إلا بشرا مثلنا فقالوا إن نحن إلا بشرا مثلكم ولم ينكروا ذلك فهذا الجواب في غاية الضعف وأجابت طائفة منهم ابن جرير وغيره بأن المسحور هنا هو معلم السحر الذي قد علمه إياه غيره فالمسحور عنده بمعنى ساحر أي عالم بالسحر وهذا جيد إن ساعدت عليه اللغة وهو أن من علم السحر يقال له مسحور ولا يكاد هذا يعرف في الإستعمال ولا في اللغة وإنما المسحور من سحره غيره كالمطبوب والمضروب والمقتول وبابه وأما من علم السحر فإنه يقال له ساحر بمعنى أنه عالم بالسحر وإن لم يسحره غيره كما قال قوم فرعون لموسى إن هذا لساحر عليم الشعراء 34 ففرعون قذفه بكونه مسحورا وقومه قذفوه بكونه ساحرا فالصواب هو الجواب الثالث وهو جواب صاحب الكشاف وغيره إن المسحور على بابه وهو من سحر حتى جن فقالوا مسحور مثل مجنون زائل العقل لا يعقل ما يقول فإن المسحور الذي لا يتبع هو الذي فسد عقله بحيث لا يدري ما يقول فهو كالمجنون ولهذا قالوا فيه معلم مجنون فأما من أصيب في بده بمرض من الأمراض يصاب به الناس فإنه لا يمنع ذلك من اتباعه وأعداء الرسل لم يقذفوهم بأمراض الأبدان وإنما قذفوهم بما يحذرون به سفهاءهم من اتباعهم وهو أنهم قد سحروا حتى صاروا لا يعلمون ما يقولون بمنزلة المجانين ولهذا قال تعالى انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا الإسراء 48 مثلوك بالشاعر مرة والساحر أخرى والمجنون مرة والمسحور أخرى فضلوا في جميع ________________________________________ ذلك ضلال من يطلب في تيهه وتحيره طريقا يسلكه فلا يقدر عليه فإن أي طريق أخذها فهي طريق ضلال وحيرة فهو متحير في أمره لا يهتدي سبيلا ولا يقدر على سلوكها فهكذا حال أعداء رسول الله معه حتى ضربوا له أمثالا برأه الله منها وهو أبعد خلق الله منها وقد علم كل عاقل أنها كذب وافتراء وبهتان وأما قولكم إن سحر الأنبياء ينافي حماية الله تعالى لهم فإنه سبحانه كما يحميهم ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم ليستوجبوا كمال كرامته وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضوا وتأسوا بهم ولتمتليء صاع الكفار فيستوجبون ما أعد لهم من النكال العاجل والعقوبة الآجلة فيمحقهم بسبب بغيهم وعداوتهم فيعجل تطهير الأرض منهم فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائه ورسله بإيذاء قومهم وله الحكمة البالغة والنعمة السابغة لا إله غيره ولا رب سواه فصل تأثيرات السحر وقد دل قوله ومن شر النفاثات في العقد وحديث عائشة المذكور على تأثير السحر وأن له حقيقة وقد أنكر ذلك طائفة من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم وقالوا إنه لا تأثير للسحر البتة لا في مرض ولا قتل ولا حل ولا عقد قالوا وإنما ذلك تخيل لأعين الناظرين لا حقيقة له سوى ذلك وهذا خلاف ما تواترت به الآثار عن الصحابة والسلف واتفق عليه الفقهاء وأهل التفسير والحديث وأرباب القلوب من أهل التصوف وما يعرفه عامة العقلاء والسحر الذي يؤثر مرضا وثقلا وحلا وعقدا وحبا وبغضا وتزينا وغير ذلك من الآثار موجود تعرفه عامة الناس وكثير منهم قد علمه ذوقا بما أصيب به منه وقوله تعالى من شر النفاثات في العقد دليل على أن هذا النفث يضر المسحور في حال غيبته عنه ولو كان الضرر لا يحصل إلا بمباشرة البدن ظاهرا كما يقوله هؤلاء لم يكن للنفث ولا للنفاثات شر يستعاذ منه ________________________________________ وأيضا فإذا جاز على الساحر أن يسحر جميع أعين الناظرين مع كثرتهم حتى يروا الشيء بخلاف ما هو به مع أن هذا تغير في إحساسهم فما الذي يحيل تأثيره في تغيير بعض أعراضهم وقواهم وطباعهم وما الفرق بين التغيير الواقع في الرؤية والتغيير في صفة أخرى من صفات النفس والبدن فإذا غير إحساسه حتى صار يرى الساكن متحركا والمتصل منفصلا والميت حيا فما المحيل لأن يغير صفات نفسه حتى يجعل المحبوب إليه بغيضا والبغيض محبوبا وغير ذلك من التأثيرات وقد قال تعالى عن سحرة فرعون إنهم سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم الأعراف 116 فبين سبحانه أن أعينهم سحرت وذلك إما أن يكون لتغيير حصل في المرئي وهو الحبال والعصي مثل أن يكون السحرة استعانت بأرواح حركتها وهي الشياطين فظنوا أنها تحركت بأنفسها وهذا كما إذا جر من لا يراه حصيرا أو بساطا فترى الحصير والبساط ينجر ولا ترى الجار له مع أنه هو الذي يجره فهكذا حال الحبال والعصي التبستها الشياطين فقلبتها كتقلب الحية فظن الرائي أنها تقلبت بأنفسها والشياطين هم الذين يقلبونها وإما أن يكون التغيير حدث في الرائي حتى رأي الحبال والعصي تتحرك وهي ساكنة في أنفسها ولا ريب أن الساحر يفعل هذا وهذا فتارة يتصرف في نفس الرأي وإحساسه حتى يرى الشيء بخلاف ما هو به وتارة يتصرف في المرئي باستعانته بالأرواح الشيطانية حتى يتصرف فيها ________________________________________ وأما ما يقوله المنكرون من أنهم فعلوا في الحبال والعصي ما أوجب حركتها ومشيها مثل الزئبق وغيره حتى سعت فهذا باطل من وجوه كثيرة فإنه لو كان كذلك لم يكن هذا خيالا بل حركة حقيقية ولم يكن ذلك سحرا لأعين الناس ولا يسمى ذلك سحرا بل صناعة من الصناعات المشتركة وقد قال تعالى فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى طه 66 ولو كانت تحركت بنوع حيلة كما يقوله المنكرون لم يكن هذا من السحر في شيء ومثل هذا لا يخفى وأيضا لو كان ذلك بحيلة كما قال هؤلاء لكان طريق إبطالها إخراج ما فيها من الزئبق وبيان ذلك المحال ولم يحتج إلى إلقاء العصا لابتلاعها وأيضا فمثل هذه الحيلة لا يحتاج فيها إلى الإستعانة بالسحرة بل يكفي فيها حذاق الصناع ولا يحتاج في ذلك إلى تعظيم فرعون للسحرة وخضوعه لهم ووعدهم بالتقريب والجزاء وأيضا فإنه لا يقال في ذلك إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فإن الصناعات يشترك الناس في تعلمها وتعليمها وبالجملة فبطلان هذا أظهر من أن يتكلف رده فلنرجع إلى المقصود فصل شر الحاسد إذا حسد الشر الرابع شر الحاسد إذا حسد وقد دل القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود فنفس حسده شر يتصل بالمحسود من نفسه وعينه وإن لم يؤذه بيده ولا لسانه فإن الله تعالى قال ومن شر حاسد إذا حسد فحقق الشر منه عند صدور الحسد ________________________________________ والقرآن ليس فيه لفظة مهملة ومعلوم أن الحاسد لا يسمى حاسدا إلا إذا قام به الحسد كالضارب والشاتم والقاتل ونحو ذلك ولكن قد يكون الرجل في طبعه الحسد وهو غافل عن المحسود لاه عنه فإن خطر على ذكره وقلبه انبعثت نار الحسد من قلبه إليه ووجهت إليه سهام الحسد من قبله فيتأذى المحسود بمجرد ذلك فإن لم يستعذ بالله ويتحصن به ويكون له أوراد من الأذكار والدعوات والتوجه إلى الله والإقبال عليه بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه وإقباله على الله وإلا ناله شر الحاسد ولا بد فقوله تعالى إذا حسد بيان لأن شره إنما يتحقق إذا حصل منه الحسد بالفعل تأثير العين وقد تقدم في حديث أبي سعيد الخدري الصحيح رقية جبريل النبي وفيها بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك فهذا فيه الإستعاذة من شر عين الحاسد ومعلوم أن عينه لا تؤثر بمجردها إذ لو نظر إليه نظر لاه ساه عنه كما ينظر إلى الأرض والجبل وغيره لم يؤثر فيه شيئا وإنما إذا نظر إليه نظر من قد تكيفت نفسه الخبيثة واتسمت واحتدت فصارت نفسا غضبية خبيثة حاسدة أثرت بها تلك النظرة فأثرت في المحسود تأثيرا بحسب صفة ضعفه وقوة نفس الحاسد فربما أعطيه وأهلكه بمنزلة من فوق سهما نحو رجل عريان فأصاب منه مقتلا وربما صرعه وأمرضه والتجارب عند الخاصة والعامة بهذا أكثر من أن تذكر وهذه العين إنما تأثيرها بواسطة النفس الخبيثة وهي في ذلك بمنزلة الحية التي إنما يؤثر سمها إذا عضت واحتدت فإنها تتكيف بكيفية الغضب والخبث فتحدث فيها تلك الكيفية السم فتؤثر في الملسوع وربما قويت تلك الكيفية واشتدت في نوع منها حتى تؤثر بمجرد نظرة فتطمس البصر وتسقط الحبل كما ذكره النبي في الأبتر وذي الطفيتين منها وقال اقتلوهما فإنهما يطمسان البصر ويسقطان الحبل // رواه البخاري ومسلم // ________________________________________ فإذا كان هذا في الحيات فما الظن في النفوس الشريرة الغضبية الحاسدة إذا تكيفت بكيفيتها الغضبية واتسمت وتوجهت إلى المحسود بكيفيتها فلله كم من قتيل وكم من سليب وكم من معافي عاد مضني على فراشه يقول طبيبه لا أعلم داءه ما هو فصدق ليس هذا الداء من علم الطبائع هذا من علم الأرواح وصفاتها وكيفياتها ومعرفة تأثيراتها في الأجسام والطبائع وانفعال الأجسام عنها عجائب الأرواح وتأثيراتها وهذا علم لا يعرفه إلا خواص الناس والمحجوبون منكرون له ولا يعلم تأثير ذلك وارتباطه بالطبيعة وانفعالها عنه إلا من له نصيب من ذوقه وهل الأجسام إلا كالخشب الملقى وهل الإنفعال والتأثر وحدوث ما يحدث عنها من الأفعال العجيبة والآثار الغريبة إلا من الأرواح والأجسام آلتها بمنزلة آلة الصانع فالصنعة في الحقيقة له والآلات وسائط في وصول أثره إلى الصنع ومن له أدنى فطنة وتأمل أحوال العالم ولطفت روحه وشاهدت أحوال الأرواح وتأثيراتها وتحريكها الأجسام وانفعالها عنها كل ذلك بتقدير العزيز العليم خالق الأسباب والمسببات رأى عجائب في الكون وآيات دالة على وحدانية الله وعظمته وربوبيته وإن ثم عالما تجري عليه أحكام أخرى تشهد آثارها وأسبابها غيب عن الأبصار فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين الذي أتقن ما صنع وأحسن كل شيء خلقه ولا نسبة لعالم الأجسام إلى عالم الأرواح بل هو أعظم وأوسع وعجائبه أبهر وآياته أعجب وتأمل هذا الهيكل الإنساني إذا فارقته الروح كيف يصير بمنزلة الخشبة أو القطعة من اللحم فأين ذهبت تلك العلوم والمعارف والعقل وتلك الصنائع الغريبة وتلك الأفعال العجيبة وتلك الأفكار والتدبيرات كيف ذهبت كلها مع الروح وبقي الهيكل سواء هو والتراب وهل يخاطبك من الإنسان أو يراك أو يحبك أو يواليك أو يعاديك ويخف عليك ويثقل ويؤنسك ويوحشك إلا ذلك الأمر الذي وراء الهيكل المشاهد بالبصر ________________________________________ فرب رجل عظيم الهيولي كبير الجثة خفيف على قلبك حلو عندك وآخر لطيف الخلقة صغير الجثة أثقل على قلبك من جبل وما ذاك إلا للطافة روح ذاك وخفتها وحلاوتها وكثافة هذا وغلظ روحه ومرارتها وبالجملة فالعلق والوصل التي بين الأشخاص والمنافرات والبعد إنما هي للأرواح أصلا والأشباح تبعا فصل العاين والحاسد والعاين والحاسد يشتركان في شيء ويفترقان في شيء فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من يريد أذاه فالعائن تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته والحاسد يحصل له ذلك عند غيب المحسود وحضوره أيضا ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده من جماد أو حيوان أو زرع أو مال وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه وربما أصابت عينه نفسه فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق مع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين وقد قال غير واحد من المفسرين في قوله تعالى وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر القلم 51 إنه الإصابة بالعين فأرادوا أن يصيبوا بها رسول الله فنظر إليه قوم من العائنين وقالوا ما رأينا مثله ولا مثل حجته وكان طائفة منهم تمر به الناقة والبقرة السمينة فيعينها ثم يقول لخادمه خذ المكتل والدرهم وآتنا بشيء من لحمها فما تبرح حتى تقع فتنحر وقال الكلبي كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل ثم يرفع جانب خبائة فتمر به الإبل فيقول لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه فما تذهب إلا قليلا حتى يسفط منها طائفة فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله بالعين ويفعل به كفعله في غيره فعصم الله تعالى وحفظه وأنزل عليه وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم هذا قول طائفة وقالت طائفة أخرى منهم ابن قتيبة ليس المراد أنهم يصيبونك بالعين كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن الكريم نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء يكاد يسقطك ________________________________________ قال الزجاج يعني من شدة العداوة يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك وهذا مستعمل في الكلام يقول القائل نظر إلي نظر قد كان يصرعني ... قال ويدل على صحة هذا المعنى أنه قرن هذا النظر بسماع القرآن الكريم وهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهة فيحدون إليه النظر بالبغضاء النظر الذي يؤثر في المنظور قلت النظر الذي يؤثر في المنظور قد يكون بسببه شده العداوة والحسد فيؤثر نظره في كما تؤثر نفسه بالحسد ويقوى تأثير النفس عند المقابلة فإن العدو إذا غاب عن عدوه قد يشغل نفسه عنه فإذا عاينه قبلا اجتمعت الهمة عليه وتوجهت النفس بكليتها إليه فيتأثر بنظره حتى إن من الناس من يسقط ومنهم من يحم ومنهم من يحمل إلى بيته وقد شاهد الناس من ذلك كثيرا وقد يكون سببه الإعجاب وهو الذي يسمونه بإصابة العين وهو أن الناظر يرى الشيء رؤية إعجاب به أو استعظام فتتكيف روحه بكيفية خاصة تؤثر في المعين وهذا هو الذي يعرفه الناس من رؤية المعين فإنهم يستحسنون الشيء ويعجبون منه فيصاب بذلك قال عبد الرزاق بن معمر عن هشام بن قتيبة قال هذا ما حدثنا أبو هريرة قال قال رسول الله العين حق // رواه البخاري ومسلم // ونهى عن الوشم // رواه البخاري ومسلم // وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن عروة عن عامر عن عبيد بن رفاعة أن أسماء بنت عميس قالت يا رسول الله إن ابني جعفر تصيبهم العين أفتسترقي لهم قال نعم فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين // صحيح // فالكفار كانوا ينظرون إليه نظر حاسد شديد العدواة فهو نظر يكاد يزلقه لولا حفظ الله وعصمته فهذا أشد من نظر العائن بل هو جنس من نظر العائن فمن قال إنه من الإصابة بالعين أراد هذا المعنى ومن قال ليس به أراد أن نظرهم لم يكن نظر استحسان وإعجاب فالقرآن الكريم حق وقد روى الترمذي من حديث أبي سعيد أن النبي كان يتعوذ من عين الإنسان // صحيح // فلولا أن العين شر لم يتعوذ منها ________________________________________ وفي الترمذي من حديث علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير حدثني حابس بن حبة التميمي حدثني أبي أنه سمع رسول الله يقول لا شيء في الهام والعين حق // ضعيف لكن قوله والعين حق صحيح // وفيه أيضا من حديث وهيب عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال كان رسول الله يقول لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا // رواه مسلم // وفي الباب عن عبدالله بن عمر وهذا حديث صحيح والمقصود أن العائن حاسد خاص وهو أضر من الحاسد ولهذا والله أعلم إنما جاء في السورة ذكر الحاسد دون العائن لأنه أعم فكل عائن حاسد ولا بد وليس كل حاسد عائنا فإذا استعاذ من شر الحسد دخل فيه العين وهذا من شمول القرآن الكريم وإعجازه وبلاغته وأصل الحسد هو بغض نعمة الله على المحسود وتمني زوالها الساحر والحاسد فالحاسد عدو النعم وهذا الشر هو من نفس الحاسد وطبعها ليس هو شيئا اكتسبه من غيرها بل هو من خبثها وشرها بخلاف السحر فإنه إنما يكون باكتساب أمور أخرى واستعانة بالأرواح الشيطانية فلهذا والله أعلم قرن في السورة بين شر الحاسد وشر الساحر لأن الإستعاذة من شر هذين تعم كل شر يأتي من شياطين الإنس والجن فالحسد من شياطين الإنس والجن والسحر من النوعين وبقي قسم ينفرد به شياطين الجن وهو الوسوسة في القلب فذكره في السورة الأخرى كما سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى فالحاسد والساحر يؤذيان المحسود والمسحور بلا عمل منه بل هو أذى من أمر خارج عنه ففرق بينهما في الذكر في سورة الفلق ________________________________________ والوسواس إنما يؤذي العبد من داخله بواسطة مساكنته له وقبوله منه ولهذا يعاقب العبد على الشر الذي يؤذيه به الشيطان من الوساوس التي تقترن بها الأفعال والعزم الجازم لأن ذلك بسعيه وإرادته بخلاف شر الحاسد والساحر فإنه لا يعاقب عليه إذ لا يضاف إلى كسبه ولا إرادته فلهذا أفرد شر الشيطان في سورة وقرن بين شر الساحر والحاسد في سورة وكثيرا ما يجتمع في القرآن الحسد والسحر للمناسبة ولهذا اليهود أسحر الناس وأحسدهم فإنهم لشدة خبثهم فيهم من السحر والحسد ما ليس في غيرهم وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بهذا وهذا فقال واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئسما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون البقرة 102 والكلام على أسرار هذه الآية وأحكامها وما تضمنته من القواعد والرد على من أنكر السحر وما تضمنته من الفرقان بين السحر وبين المعجزات الذي أنكره من أنكر السحر خشية الإلتباس وقد تضمنت الآية أعظم الفرقان بينهما في موضع غير هذا إذ المقصود الكلام على أسرار هاتين السورتين وشدة حاجة الخلق إليهما وإن لا يقوم غيرهما مقامهما وأما وصفهم بالحسد فكثير في القرآن كقوله تعالى أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله النساء 54 وفي قوله ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق البقرة 109 والشيطان يقارن الساحر والحاسد ويحادثهما ويصاحبها ولكن الحاسد تعينه الشياطين بلا استدعاء منه للشيطان لأن الحاسد شبيه بإبليس وهو في الحقيقة من أتباعه لأنه ________________________________________ يطلب ما يحبه الشيطان من فساد الناس وزوال نعم الله عنهم كما أن إبليس حسد آدم لشرفه وفضله وأبى أن يسجد له حسدا فالحاسد من جند إبليس وأما الساحر فهو يطلب من الشيطان أن يعينه ويستعينه وربما يعبده من دون الله تعالى حتى يقضي له حاجته وربما يسجد له وفي كتب السحر والسر المكتوم من هذا عجائب ولهذا كلما كان الساحر أكفر وأخبث وأشد معاداة لله ولرسوله ولعباده المؤمنين كان سحره أقوى وأنفذ ولهذا كان سحر عباد الأصنام أقوى من سحر أهل الكتاب وسحر اليهود أقوى من سحر المنتسبين إلى الإسلام وهم الذين سحروا رسول الله وفي الموطأ عن كعب قال كلمات أحفظهن من التوراة لولاها لجعلتني يهود حمارا أعوذ بوجه الله العظيم الذي لا شيء أعظم منه وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر وبأسماء الله الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم من شر ما خلق وذرأ وبرأ // رواه مالك ورجاله ثقات // والمقصود أن الساحر والحاسد كل منهما قصده الشر لكن الحاسد بطبعه ونفسه وبغضه للمحسود والشيطان يقترن به ويعينه ويزين له حسده ويأمره بموجبه والساحر بعلمه وكسبه وشركه واستعانته بالشياطين فصل الحسد يشمل الحاسد من الجن والإنس وقول من شر حاسد إذا حسد يعم الحاسد من الجن والإنس فإن الشيطان وحزبه يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله تعالى من فضله كما حسد إبليس أبانا آدم وهو عدو لذريته كما قال تعالى إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا فاطر 6 ولكن الوسواس أخص بشياطين الجن والحسد أخص بشياطين الإنس والوسواس يعمهما كما سيأتي بيانهما والحسد يعمهما أيضا فكلا الشيطانين حاسد موسوس فالإستعاذة من شر الحاسد تتناولهما جميعا فقد اشتملت السورة على الإستعاذة من كل شر في العالم وتضمنت شرورا أربعة يستعاذ منها شرا عاما وهو شر ما خلق وشر الغاسق إذا وقب فهذا نوعان ________________________________________ ثم ذكر شر الساحر والحاسد وهي نوعان أيضا لأنهما من شر النفس الشريرة وأحدهما يستعين بالشيطان ويعبده وهو الساحر وقلما يتأتى السحر بدون نوع عبادة للشيطان وتقرب إليه إما بذبح باسمه أو بذبح يقصد به هو فيكون ذبحا لغير الله وبغير ذلك من أنواع الشرك والفسوق والساحر وإن لم يسم هذا عبادة للشيطان فهو عبادة له وإن سماه بما سماه به فإن الشرك والكفر هو شرك وكفر لحقيقته ومعناه لا لاسمه ولفظه فمن سجد لمخلوق وقال ليس هذا بسجود له هذا خضوع وتقبيل الأرض بالجبهة كما أقبلها بالنعم أو هذا إكرام لم يخرج بهذه الألفاظ عن كونه سجودا لغير الله فليسمه بما شاء وكذلك من ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة بل يسميه استخداما ما وصدق هو استخدام من الشيطان له فيصير من خدم الشيطان وعابديه وبذلك يخدمه الشيطان لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة فإن الشيطان لا يخضع له ويعبده كما يفعل هو به والمقصود أن هذا عبادة منه للشيطان وإنما سماه استخداما قال تعالى ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين يس 60 وقال تعالى ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون سبأ 40 41 فهؤلاء وأشباههم عباد الجن والشياطين وهم أولياؤهم في الدنيا والآخرة ولبئس المولى ولبئس العشير فهذا أحد النوعين والنوع الثاني من يعينه الشيطان وإن لم يستعن به وهو الحاسد لأنه نائبه وخليفته لأن كليهما عدو نعم الله تعالى ومنغصها على عباده فصل تقييد الحاسد بقوله إذا حسد وتأمل تقييده سبحانه شر الحاسد بقوله إذا حسد لأن الرجل قد يكون عنده حسد ولكن يخفيه ولا يرتب عليه أذى بوجه ما لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده بل يجد في قلبه شيئا من ذلك ولا يعاجل أخاه إلا بما يحب الله فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصمه الله ________________________________________ وقيل للحسن البصري أيحسد المؤمن قال ما أنساك إخوة يوسف لكن الفرق بين القوة التي في قلبه من ذلك وهو لا يطيعها ولا يأتمر بها بل يعصيها طاعة لله وخوفا وحياء منه وإجلالا له أن يكره نعمه على عباده فيرى ذلك مخالفة لله وبغضا لما يحب الله ومحبة لما يبغضه فهو يجاهد نفسه على دفع ذلك ويلزمها بالدعاء للمحسود وتمني زيادة الخير له بخلاف ما إذا حقق ذلك وحسد ورتب على حسده مقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح فهذا الحسد المذموم هو كله حسد تمني الزوال وللحسد ثلاث مراتب أحدهما هي هذه الثانية وهي تمني استصحاب عدم النعمة فهو يكره أن يحدث الله لعبده نعمة بل يحب أن يبقى على حاله من جهله أو فقره أو ضعفه أو شتات قلبه عن الله أو قلة دينه فهو يتمنى دوام ما هو فيه من نقص وعيب فهذا حسد على شيء مقدر والأول حسد على شيء محقق وكلاهما حاسد عدو نعمة وعدو عباده وممقوت عند الله تعالى وعند الناس ولا يسود أبدا ولا يواسي فإن الناس لا يسودون عليهم إلا من يريد الإحسان إليهم فأما عدو نعمة الله عليهم فلا يسودونه باختيارهم أبدا إلا قهرا يعدونه من البلاء والمصائب التي ابتلاهم الله بها فهم يبغضونه وهو يبغضهم ________________________________________ والحسد الثالث حسد الغبطة وهو تمني أن يكون له مثل حال المحسود من غير أن تزول النعمة عنه فهذا لا بأس به ولا يعاب صاحبه بل هذا قريب من المنافسة وقد قال تعالى وفي ذلك فليتنافس المتنافسون خطأ يبحثها المحقق وفي الصحيح عن النبي أنه قال لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا وسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس // رواه البخاري ومسلم // فهذا حسد غبطة الحامل لصاحبه عليه كبر نفسه وحب خصال الخير والتشبه بأهلها والدخول في جملتهم وأن يكون من سباقهم وعليتهم ومصلهم لا من فساكلهم فتحدث له من هذه الهمة المنافسة والمسابقة والمسارعة مع محبته لمن يغبطه وتمني دوام نعمة الله عليه فهذا لا يدخل في الآية بوجه ما فهذه السورة من أكبر أدوية المحسود فإنها تتضمن التوكل على الله والإلتجاء إليه ________________________________________ والإستعاذة به من شر حاسد النعمة فهو مستعيذ بولي النعم وموليها كأنه يقول يا من أولاني نعمته وأسداها إلي أنا عائذ بك من شر من يريد أن يستلبها مني ويزيلها عني وهو حسب من توكل عليه وكافي من لجأ إليه وهو الذي يؤمن خوف الخائف ويجبر المستجير وهو نعم المولى ونعم النصير فمن تولاه واستنصر به وتوكل عليه وانقطع بكليته إليه تولاه وحفظه وحرسه وصانه ومن خافه واتقاه آمنه مما يخاف ويحذر وجلب إليه كل ما يحتاج إليه من المنافع ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه الطلاق 2 3 فلا تستبطيء نصره ورزقه وعافيته فإن الله تعالى بالغ أمره وقد جعل الله لكل شيء قدرا لا يتقدم عنه ولا يتأخر ومن لم يخفه أخافه من كل شيء وما خاف أحدا غير الله إلا لنقص خوفه من الله قال تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون النحل 98 100 وقال إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين آل عمران 175 أي يخوفكم بأوليائه ويعظمهم في صدوركم فلا تخافوهم وأفردوني بالمخافة أكفكم إياهم فصل كيف يندفع شر الحاسد عن المحسود ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب أحدها التعوذ بالله تعالى من شره واللجوء والتحصن به واللجوء إليه وهو المقصود بهذه السورة والله تعالى سميع لاستعاذته عليم بما يستعيذ منه والسمع هنا المراد به سمع الإجابة لا السمع العام فهو مثل قوله سمع الله لمن حمده وقول الخليل إن ربي لسميع الدعاء ومرة يقرنه بالعلم ومرة بالبصر لاقتضاء حال المستعيذ ذلك فإنه يستعيذ به من عدو يعلم أن الله تعالى يراه ويعلم كيده وشره فأخبر الله تعالى هذا المستعيذ أنه سميع لاستعاذته أي مجيب عليم بكيد عدوه يراه ويبصره لينبسط أمل المستعيذ ويقبل بقلبه على الدعاء ________________________________________ وتأمل حكمة القرآن الكريم كيف جاء في الإستعاذة من الشيطان الذي نعلم وجوده ولا نراه بلفظ السميع العليم في الأعراف والسجدة وجاءت الإستعاذة من شر الإنس الذين يؤنسون ويرون بالإبصار بلفظ السميع البصير في سورة حم المؤمن فقال إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير غافر 56 لأن أفعال هؤلاء أفعال معاينة ترى بالبصر وأما نزع الشيطان فوساوس وخطرات يلقيها في القلب يتعلق بها العلم فأمر بالإستعاذة بالسميع العليم فيها وأمر بالإستعاذة بالسميع البصير في باب ما يرى بالبصر ويدرك بالرؤية والله أعلم السبب الثاني تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه فمن اتقى الله تولى الله حفظه ولم يكله إلى غيره قال تعالى وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا آل عمران 120 وقال النبي لعبدالله بن عباس احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك // صحيح // فمن حفظ الله حفظه الله ووجده أمامه أينما توجه ومن كان الله حافظه وأمامه فممن يخاف ولمن يحذر السبب الثالث الصبر على عدوه وأن لا يقاتله ولا يشكوه ولا يحدث نفسه بأذاه أصلا فما نصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه والتوكل على الله ولا يستطل تأخيره وبغيه فإنه كلما بغى عليه كان بغيه جندا وقوة للمبغي عليه المحسود يقاتل به الباغي نفسه وهو لا يشعر فبغيه سهام يرميها من نفسه ولو رأي المبغي عليه ذلك لسره بغيه عليه ولكن لضعف بصيرته لا يرى إلا صورة البغي دون آخره ومآله وقد قال تعالى ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله الحج 60 فإذا كان الله قد ضمن فإذا كان الله قد ضمن له النصر مع أنه قد استوفى حقه أولا فكيف بمن لم يستوف شيئا من حقه بل بغى عليه وهو صابر وما من الذنوب ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم وقد سبقت سنة الله أنه لو بغى جبل على جبل جعل الباغي منهما دكا ________________________________________ السبب الرابع التوكل على الله من يتوكل على الله فهو حسبه الطلاق 3 والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم وهو من أقوى الأسباب في ذلك فإن الله حسبه أي كافية ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش وأما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدا وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء له وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه وبين الضرر الذي يتشفى به منه قال بعض السلف جعل الله تعالى لكل عمل جزاء من جنسه وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده فقال ومن يتوكل على الله فهو حسبه ولم يقل نؤته كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه فلو توكل العبد على الله تعالى حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له مخرجا من ذلك وكفاه ونصره وقد ذكرنا حقيقة التوكل وفوائده وعظم منفعته وشدة حاجة العبد إليه في كتاب الفتح القدسي وذكرنا هناك فساد من جعله من المقامات المعلولة أنه من مقامات العوام وأبطلنا قوله من وجوه كثيرة وبينا أنه من أجل مقامات العارفين وأنه كلما علا مقام العبد كانت حاجاته إلى التوكل أعظم وأشد وأنه على قدر إيمان العبد يكون توكله وإنما المقصود هنا ذكر الأسباب التي يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر والباغي السبب الخامس فراغ القلب من الإشتغال به والفكر فيه وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له فلا يلتفت إليه ولا يخافه ولا يملأ قلبه بالفكر فيه وهذا من أنفع الأدوية وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره فإن هذا بمنزلة من يطلبه عدوه ليمسكه ويؤذيه فإذا لم يتعرض له ولا تماسك هو وإياه بل انعزل عنه لم يقدر عليه فإذا تماسكا وتعلق كل منهما بصاحبه حصل الشر ________________________________________ وهكذا الأرواح سواء فإذا علق روحه وشبثها به وروح الحاسد الباغي متعلقة به يقظة ومناما لا يفتر عنه وهو يتمنى أن يتماسك الروحان ويتشبثا فإذا تعلقت كل روح منهما بالأخرى عدم القرار ودام الشر حتى يهلك أحدهما فإذا جبذ روحه عنه وصانها عن الفكر فيه والتعلق به وأن لا يخطره بباله فإذا خطر بباله بادر إلى محو ذلك الخاطر والإشتغال بما هو أنفع له وأولى به بقي الحاسد الباغي يأكل بعضه بعضا فإن الحسد كالنار فإذا لم تجد ما تأكله أكل بعضها بعضا وهذا باب عظيم النفع لا يلقاه إلا أصحاب النفوس الشريفة والهمم العالية وبين الكيس الفطن وبينه حتى يذوق حلاوته وطيبه ونعيمه كأنه يرى من أعظم عذاب القلب والروح اشتغاله بعدوه وتعلق روحه به ولا يرى شيئا ألم لروحه من ذلك ولا يصدق بهذا إلا النفوس المطمئنة الوارعة اللينة التي رضيت بوكالة الله لها وعلمت أن نصره له خير من انتصارها هي لنفسها فوثقت بالله وسكنت إليه واطمأنت به وعلمت أن ضمانه حق ووعده صدق وأنه لا أوفى بعهده من الله ولا أصدق منه قيلا فعلمت أن نصره لها أقوى وأثبت وأدوم وأعظم فائدة من نصرها هي لنفسها أو نصر مخلوق مثلها لها ولا يقوى على هذا إلا بالسبب السادس وهو الإقبال على الله والإخلاص له وجعل محبته وترضيه والإنابة إليه في محل خواطر نفسه وأمانيها تدب فيها دبيب الخواطر شيئا فشيئا حتى يقهرها ويغمرها ويذهبها بالكلية فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيه كلها في محاب الرب والتقرب إليه وتملقه وترضيه واستعطافه وذكره كما يذكر المحب التام المحبة لمحبوبه المحسن إليه الذي قد امتلأت جوانحه من حبه فلا يجعل بيت إنكاره وقلبه معمورا بالفكر في حاسده والباغي عليه والطريق إلى الإنتقام منه والتدبير عليه هذا ما لا يتسع له إلا قلب خراب لم تسكن فيه محبة الله وإجلاله وطلب مرضاته ________________________________________ بل إذا مسه طيف من ذلك واجتاز ببابه من خارج ناداه حرس قلبه إياك وحمى الملك إذهب إلى بيوت الخانات التي كل من جاء حل فيها ونزل بها ما لك ولبيت السلطان الذي أقام عليه اليزك وأدار عليه الحرس وأحاطه بالسور قال تعالى حكاية عن عدوه إبليس أنه قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ص آية 81 82 قال تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان الحجر 42 وقال إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون النحل 100 وقال في حق الصديق كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين يوسف 24 فما أعظم سعادة من دخل هذا الحصن وصار داخل اليزك لقد آوى إلى حصن لا خوف على من تحصن به ولا ضيعة على من آوى إليه ولا مطمع للعدو في الدنو إليه منه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم الجمعة 4 السبب السابع تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه فإن الله تعالى يقول وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم الشورى 30 وقال لخير الخلق وهم أصحاب نبيه دونه أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثلها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم آل عمران 165 فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها وما ينساه مما علمه وعمله أضعاف ما يذكره وفي الدعاء المشهور اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لم لا أعلم فما يحتاج العبد إلى الإستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه فما سلط عليه مؤذ إلا بذنب ولقي بعض السلف رجل فأغلظ له ونال منه فقال له قف حتى أدخل البيت ثم أخرج إليك فدخل فسجد لله وتضرع إليه وتاب وأناب إلى ربه ثم خرج إليه فقال له ما صنعت فقال تبت إلى الله من الذنب الذي سلطك به علي ________________________________________ وسنذكر إن شاء الله تعالى أنه ليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها فإذا عوفي من الذنوب عوفي من موجباتها فليس للعبد إذا بغي عليه وأوذي وتسلط عليه خصومه شيء أنفع له من التوبة النصوح وعلامة سعادته أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه فيشغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما نزل به بل يتولى هو التوبة وإصلاح عيوبه والله يتولى نصرته وحفظه والدفع عنه ولا بد فما أسعده من عبد وما أبركها من نازلة نزلت به وما أحسن أثرها عليه ولكن التوفيق والرشد بيد الله لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع فما كل أحد يوفق لهذا لا معرفة به ولا إرادة له ولا قدرة عليه ولا حول ولاقوة إلا بالله السبب الثامن الصدقة والإحسان ما أمكنه فإن لذلك تأثيرا عجيبا في دفع البلاء ودفع العين وشر الحاسد ولو لم يكن في هذا إلا تجارب الأمم قديما وحديثا لكفى به فما يكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملا فيه باللطف والمعونة والتأييد وكانت له فيه العاقبة الحميدة فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته عليه من الله جنة واقية وحصن حصين وبالجملة فالشكر حارس النعمة من كل ما يكون سببا لزوالها ومن أقوى الأسباب حسد الحاسد والعائن فإنه لا يفتر ولا يني ولا يبرد قلبه حتى تزول النعمة عن المحسود فحينئذ يبرد أنينه وتنطفيء ناره لا أطفأها الله فما حرس العبد نعمة الله تعالى عليه بمثل شكرها ولا عرضها للزوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله وهو كفران النعمة وهو باب إلى كفران المنعم فالمحسن المتصدق يستخدم جندا وعسكرا يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه فمن لم يكن له جند ولا عسكر وله عدو فإنه يوشك أن يظفر به عدوه وإن تأخرت مدة الظفر والله المستعان ________________________________________ السبب التاسع وهو من أصعب الأسباب على النفس وأشقها عليها ولا يوفق له إلا من عظم حظه من الله وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه فكلما ازداد أذى وشرا وبغيا وحسدا ازددت إليه إحسانا وله نصيحة وعليه شفقة وما أظنك تصدق بأن هذا يكون فضلا عن أن تتعاطاه فاسمع الآن قوله عز وجل ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وأما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم فصلت 34 36 وقال أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرأون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون القصص 54 وتأمل حال النبي الذي حكى عنه نبينا أنه ضربه قومه حتى أدموه فجعل يسلت الدم عنه ويقول اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون // رواه البخاري ومسلم // كيف جمع في هذه الكلمات أربع مقامات من الإحسان قابل بها إساءتهم العظيمة إليه أحدها عفوه عنهم والثاني استغفاره لهم الثالث اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون الرابع استعطافه لهم بإضافتهم إليه فقال اغفر لقومي كما يقول الرجل لمن يشفع عنده فيمن يتصل به هذا ولدي هذا غلامي هذا صاحبي فهبه لي واسمع الآن ما الذي يسهل هذا على النفس ويطيبه إليها وينعمها به اعلم أن لك ذنوبا بينك وبين الله تخاف عواقبها وترجوه أن يعفو عنها ويغفرها لك ويهبها لك ________________________________________ ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة حتى ينعم عليك ويكرمك ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله فإذا كنت ترجو هذا من ربك أن يقابل به إساءتك فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه وتقابل به إساءتهم ليعاملك الله هذه المعاملة فإن الجزاء من جنس العمل فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك جزاء وفاقا فانتقم بعد ذلك أو اعف وأحسن أو اترك فكما تدين تدان وكما تفعل مع عباده يفعل معك فمن تصور هذا المعنى وشغل به فكره هان عليه الإحسان إلى ما أساء إليه هذا مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعيته الخاصة كما قال النبي للذي شكى إليه قرابته وأنه يحسن إليهم وهم يسيئون إليه فقال لا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك // رواه مسلم // هذا مع ما يتعجله من ثناء الناس عليه ويصيرون كلهم معه على خصمه فإنه كل من سمع أنه محسن إلى ذلك الغير وهو مسيء إليه وجد قلبه ودعاءه وهمته مع المحسن على المسيء وذلك أمر فطري فطر الله عباده فهو بهذا الإحسان قد استخدم عسكرا لا يعرفهم ولا يعرفونه ولا يريدون منه إقطاعا ولا خبرا هذا مع أنه لا بد له مع عدوه وحاسده من إحدى حالتين إما أن يملكه بإحسانه فيستعبده وينقاد له ويذل له ويبقى من أحب الناس إليه وإما أن يفتت كبده ويقطع دابره إن أقام على إساءته إليه فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه ومن جرب هذا عرفه حق المعرفة والله هو الموفق المعين بيده الخير كله لا إله غيره وهو المسئول أن يستعملنا وإخواننا في ذلك بمنه وكرمه وفي الجملة ففي هذا المقام من الفوائد ما يزيد على مائة منفعة للعبد عاجلة وآجلة سنذكرها في موضع آخر إن شاء الله تعالى السبب العاشر وهو الجامع لذلك كله وعليه مدار هذه الأسباب وهو تجريد التوحيد والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم ________________________________________ والعلم بأن هذه آلات بمنزلة حركات الرياح وهي بيد محركها وفاطرها وبارئها ولا تضر ولا تنفع إلا بإذنه فهو الذي يحسن عبده بها وهو الذي يصرفها عنه وحده لا أحد سواه قال تعالى وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله الأنعام 17 وقال النبي لعبدالله بن عباس رضي الله عنهما واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك // صحيح // فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله تعالى بل يفرد الله بالمخافة وقد أمنه منه وخرج من قلبه اهتمامه به واشتغاله به وفكره فيه وتجرد الله محبة وخشية وإنابة وتوكلا واشتغالا به عن غيره فيرى أن إعماله فكره في أمر عدوه وخوفه منه واشتغاله به من نقص توحيده وإلا فلوجرد توحيده لكان له فيه شغل شاغل والله يتولى حفظه والدفع عنه فإن الله يدافع عن الذين آمنوا فإن كان مؤمنا فالله يدافع عنه ولا بد وبحسب إيمانه يكون دفاع الله عنه فإن كمل إيمانه كان دفع الله عنه أتم دفع وإن مزج مزج له وإن كان مرة ومرة فالله له مرة ومرة كما قال بعض السلف من أقبل على الله بكليته أقبل الله عليه جملة ومن أعرض عن الله بكليته أعرض الله عنه جملة ومن كان مرة ومرة فالله له مرة ومرة فالتوحيد حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين قال بعض السلف من خاف الله خافه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء ________________________________________ فهذه عشرة أسباب يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر وليس له أنفع من التوجه إلى الله وإقباله عليه وتوكله عليه وثقته به وأن لا يخاف معه غيره بل يكون خوفه منه وحده ولا يرجوا سواه بل يرجوه وحده فلا يعلق قلبه بغيره ولا يستغيث بسواه ولا يرجو إلا إياه ومتى علق قلبه بغيره ورجاه وخافه وكل إليه وخذل من جهته فمن خاف شيئا غير الله سلط عليه ومن رجا شيئا سوى الله خذل من جهته وحرم خيره هذه سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا الأحزاب 62 فصل التأثير لنفوس الحاسدين وأعينهم والأرواح الشيطانية فقد عرفت بعض ما اشتملت عليه هذه السورة من القواعد النافعة الهامة التي لا غنى للعبد عنها في دينه ودنياه ودلت على أن نفوس الحاسدين وأعينهم لها تأثير وعلى أن الأرواح الشيطانية لها تأثير بواسطة السحر والنفث في العقد وقد افترق العالم في هذا المقام أربع فرق ففرقة أنكرت تأثير هذا وهذا وهم فرقتان فرقة اعترفت بوجود النفوس الناطقة والجن وأنكرت تأثيرهما البتة وهذا قول طائفة من المتكلمين ممن أنكر الأسباب والتقوى والتأثيرات وفرقة أنكرت وجودهما بالكلية وقالت لا وجود لنفس الآدمي سوى هذا الهيكل المحسوس وصفاته وأعراضه فقط ولا وجود للجن والشياطين سوى أعراض قائمة به وهذا قول كثير من ملاحدة الطبائعيين وغيرهم من الملاحدة المنتسبين إلى الإسلام وهو قول شذوذ من أهل الكلام الذين ذمهم السلف وشهدوا عليهم بالبدعة والضلالة الفرقة الثانية أنكرت وجود النفس الإنسانية المفارقة للبدن وأقرت بوجود الجن والشياطين وهذا قول كثير من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم الفرقة الثالثة بالعكس أقرت بوجود النفس الناطقة المفارقة للبدن وأنكرت وجود الجن والشياطين وزعمت أنها غير خارجة عن قوى النفس وصفاتها وهذا قول كثير من الفلاسفة الإسلاميين وغيرهم ________________________________________ وهؤلاء يقولون إنما يوجد في العالم من التأثيرات الغريبة والحوادث الخارقة فهي من تأثيرات النفس ويجعلون السحر والكهانة كله من تأثير النفس وحدها بغير واسطة شيطان منفصل وابن سينا وأتباعه على هذا القول حتى أنهم يجعلون معجزات الرسل من هذا الباب ويقولون إنما هي من تأثيرات النفس في هيولى العالم وهؤلاء كفار بإجماع أهل الملل وليسوا من أتباع الرسل جملة الفرقة الرابعة وهم أتباع الرسل وأهل الحق أقروا بوجود النفس الناطقة المفارقة للبدن وأقروا بوجود الجن والشياطين وأثبتوا ما أثبته الله تعالى من صفاتهما وشرهما واستعاذوا بالله تعالى منه وعلموا أنه لا يعيذهم منه ولا يجيرهم إلا الله تعالى فهؤلاء أهل الحق ومن عداهم مفرط في الباطل أو معه باطل وحق الله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فهذا ما يسر الله تعالى من الكلام على سورة الفلق أهـ { بدائع الفوائد حـ2 صـ 442 ـ 471 } سورة الناس وأما سورة الناس فقد تضمنت أيضا استعاذة ومستعاذا به ومستعاذا منه فالإستعاذة تقدمت وأما المستعاذ به فهو الله تعالى رب الناس ملك الناس إله الناس فذكر ربوبيته للناس وملكه إياهم وإلاهيته لهم ولا بد من مناسبة في ذكر ذلك في الإستعاذة من الشيطان الرجيم كما تقدم فنذكر أولا معنى هذه الإضافات الثلاث ثم وجه مناسبتها لهذه الاستعاذة الإضافة الأولى إضافة الربوبية المتضمنة لخلقهم وتدبيرهم وتربيتهم وإصلاحهم وجلب مصالحهم وما يحتاجون إليه ودفع الشر عنهم وحفظهم مما يفسدهم هذا معنى ربوبيته لهم وذلك يتضمن قدرته التامة ورحمته الواسعة وإحسانه وعلمه بتفاصيل أحوالهم وإجابة دعواتهم وكشف كرباتهم الإضافة الثانية إضافة الملك فهو ملكهم المتصرف فيهم وهم عبيده ومماليكه وهو المتصرف لهم المدبر لهم كما يشاء النافذ القدرة فيهم الذي له السلطان التام ________________________________________ عليهم فهو ملكهم الحق الذي إليه مفزعهم عند الشدائد والنوائب وهو مستغاثهم ومعاذهم وملجؤهم فلا صلاح لهم ولا قيام إلا به وبتدبيره فليس لهم ملك غيره يهربون إليه إذا دهمهم العدو ويستصرخون به إذا نزل العدو بساحتهم الإضافة الثالثة إضافة الإلهية فهو إلههم الحق ومعبودهم الذي لا إله لهم سواه ولا معبود لهم غيره فكما أنه وحده هو ربهم ومليكهم لم يشركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد فكذلك هو وحده إلاههم ومعبودهم فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكا في إلهيته كما لا شريك معه في ربوبيته وملكه وهذه طريقة القرآن الكريم يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلاهية والعبادة وإذا كان وحده هو ربنا ومالكنا وإلاهنا فلا مفزع لنا في الشدائد سواه ولا ملجأ لنا منه إلا إليه ولا معبود لنا غيره فلا ينبغي أن يدعي ولا يخاف ولا يرجى ولا يحب سواه ولا يذل لغيره ولا يخضع لسواه ولا يتوكل إلا عليه لأن من ترجوه وتخافه وتدعوه وتتوكل عليه إما أن يكون مربيك والقيم بأمورك ومولي شأنك وهو ربك فلا رب سواه أو تكون مملوكه وعبده الحق فهو ملك الناس حقا وكلهم عبيده ومماليكه أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى حياتك وروحك وهو الإله الحق إله الناس الذي لا إله لهم سواه فمن كان ربهم وملكهم وإلههم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره ولا يستنصروا بسواه ولا يلجئوا إلى غير حماة فهو كافيهم وحسبهم وناصرهم ووليهم ومتولي أمورهم جميعا بربوبيته وملكه وإلاهيته لهم فكيف لا يلتجيء العبد عند النوازل ونزول عدوه به إلى ربه ومالكه وإلهه فظهرت مناسبة هذه الإضافات الثلاث للإستعاذة من أعدى الأعداء وأعظمهم عداوة وأشدهم ضررا وأبلغهم كيدا ________________________________________ ثم إنه سبحانه كرر الإسم الظاهر ولم يوقع المضمر موقعه فيقول رب الناس وملكهم وإلههم تحقيقا لهذا المعنى وتقوية له فأعاد ذكرهم عند كل اسم من أسمائه ولم يعطف بالواو لما فيهم من الإيذان بالمغايرة والمقصود الإستعاذة بمجموع هذه الصفات حتى كأنها صفة واحدة وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب وأخر الإلهية لخصوصها لأنه سبحانه إنما هو إله من عبده ووحده واتخذه دون غيره إلها فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه ولكن ترك إلهه الحق واتخذ إلها غيره ووسط صفة الملك بين الربوبية والإلهية لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره فهو المطاع إذا أمر وملكه لهم تابع لخلقه إياهم فملكه من كمال ربوبيته وكونه إلاههم الحق من كمال ملكه فربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه وملكه يستلزم إلهيته ويقتضيها فهو الرب الحق الملك الحق الإله الحق خلقهم بربوبيته وقهرهم بملكه استعبدهم بإلاهيته فتأمل هذه الجلالة وهذه العظمة التي تضمنته هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام وأحسن سياق رب الناس ملك الناس إله الناس وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان وتضمنت معاني أسمائه الحسنى أما تضمنها لمعاني أسمائه الحسنى فإن الرب هو القادر الخالق الباريء المصور الحي القيوم العليم السميع البصير المحسن المنعم الجواد المعطي المانع الضار النافع المقدم المؤخر الذي يضل من يشاء ويهدي من يشاء ويسعد من يشاء ويشقي ويعز من يشاء ويذل من يشاء إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقه من الأسماء الحسنى وأما الملك فهو الآمر الناهي المعز المذل الذي يصرف أمور عباده كما يحب ويقلبهم كما يشاء وله من معنى الملك ما يستحقه من الأسماء الحسنى كالعزيز الجبار الحكم العدل الخافض الرافع المعز المذل العظيم الجليل الكبير الحسيب المجيد الوالي المتعالي مالك الملك المقسط الجامع إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك ________________________________________ وأما الإله فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال فيدخل في هذا الإسم جميع الأسماء الحسنى ولهذا كان القول الصحيح أن الله أصله الإله كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم وأن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى فقد تضمنت هذه الأسماء الثلاثة جميع معاني أسمائه الحسنى فكان المستعيذ بها جديرا بأن يعاذ ويحفظ ويمنع من الوسواس الخناس ولا يسلط عليه وأسرار كلام الله أجل وأعظم من أن تدركها عقول البشر وإنما غاية أولي العلم الإستدلال بما ظهر منها على ما وراء وإن باديه إلى الخافي يسير فصل الإستعاذة من الشر وهذه السورة مشتملة على الإستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي كلها وهو الشر الداخل في الإنسان الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة فسورة الفلق تضمنت الإستعاذة من الشر الذي هو ظلم الغير له بالسحر والحسد وهو شر من خارج وسورة الناس تضمنت الإستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه وهو شر من داخل فالشر الأول لا يدخل تحت التكليف ولا يطلب منه الكف عنه لأنه ليس من كسبه والشر الثاني في سورة الناس يدخل تحت التكليف ويتعلق به النهي فهذا شر المعائب والأول شر المصائب والشر كله يرجع إلى العيوب والمصائب ولا ثالث لهما فسورة الفلق تتضمن الإستعاذة من شر المصيبات وسورة الناس تتضمن الإستعاذة من شر العيوب التي أصلها كلها الوسوسة فصل الوسواس ________________________________________ إذا عرف هذا فالوسواس فعلال من وسوس وأصل الوسوسة الحركة أو الصوت الخفي الذي لا يحس فيحترز منه فالوسواس الإلقاء الخفي في النفس إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه وإما بغير صوت كما يوسوس الشيطان إلى العبد ومن هذا وسوسة الحلي وهو حركته الخفية في الأذن والظاهر والله تعالى أعلم إنها سميت وسوسة لقربها وشدة مجاورتها لمحل الوسوسة من شياطين الإنس وهو الأذن فقيل وسوسة الحلي لأنه صوت مجاور للأذن كوسوسة الكلام الذي يلقيه الشيطان في أذن من يوسوس له ولما كانت الوسوسة كلاما يكرره الموسوس ويؤكد عند من يلقيه إليه كرروا لفظها بإزاء تكرير معناها فقالوا وسوس وسوسة فراعوا تكرير اللفظ ليفهم منه تكرير مسماه ونظير هذا ما تقدم من متابعتهم حركة اللفظ بإزاء متابعة حركة معناه كالدوران والغليان والنزوان وبابه ونظير ذلك زلزل ودكدك وقلقل وكبكب الشيء لأن الزلزلة حركة متكررة وكذلك الدكدكة والقلقلة وكذلك كبكب الشيء إذا كبه في مكان بعيد فهو يكب فيه كبا بعد كب كقوله تعالى فكبكبوا فيها هم والغاوون الشعراء 94 ومثله رضرضة إذا كرر رضه مرة بعد مرة ومثله ذرذره إذا ذره شيئا بعد شيء ومثله صرصر الباب إذا تكرر صريره ومثله مطمط الكلام إذا مطه شيئا بعد شيء ومثله كفكف الشيء إذا كرر كفه وهو كثير وقد علم بهذا أن من جعل هذا الرباعي بمعنى الثلاثي المضاعف لم يصب لأن الثلاثي لا يدل على تكرار بخلاف الرباعي المكرر فإذا قلت ذر الشيء وصر الباب وكف الثوب ورض الحب لم يدل على تكرار الفعل بخلاف ذرذر وصرصر ورضرض ونحوه فتأمله فإنه مطابق للقاعدة العربية في الحذو بالألفاظ حذو المعاني وقد تقدم التنبيه على ذلك فلا وجه لإعادته وكذلك قولهم عج العجل إذا صوت فإن تابع صوته قالوا عجعج وكذلك ثج الماء إذا صب فإن تكرر ذلك قيل ثجثج والمقصود أن الموسوس لما كان يكرر وسوسته ويتابعها قبل وسوس فصل هل الوسواس وصف أو مصدر ________________________________________ إذا عرف هذا فاختلف النحاة في لفظ الوسواس هل هو وصف أو مصدر الجواب على قولين ونحن نذكر حجة كل قول ثم نبين الصحيح من القولين بعون الله تعالى وفضله أما من ذهب إلى أنه مصدر فاحتج بأن الفعل منه فعلل والوصف من فعلل إنما هو مفعلل كمدحرج ومسرهف ومبيطر ومسيطر وكذلك هو من فعل بوزن مفعل كمقطع ومخرج وبابه فلو كان الوسواس صفة لقيل موسوس ألا ترى أن اسم الفاعل من زلزل مزلزل لا زلزال وكذلك من دكدك مدكوك وهو مطرد فدل على أن الوسواس مصدر وصف به على وجه المبالغة أو يكون على حذف مضاف تقديره ذو الوسواس قالوا والدليل عليه أيضا قول الشاعر تسمع للحلي بها وسواسا ... فهذا مصدر بمعنى الوسوسة سواء قال أصحاب الرأي الآخر الدليل على أنه وصف أن فعلل ضربان أحدهما صحيح لا تكرار فيه كدحرج وسرهف بيطر وقياس مصدر هذه الفعللة كالدحرجة والسرهفة والبيطرة والفعلان بكسر الفاء كالسرهاف والدحراج والوصف منه مفعلل كمدحرج ومبيطر والثاني فعلل الثنائي المكرر كزلزل ودكدك ووسوس وهذا فرع على فعلل المجرد عن التكرار لأن الأصل السلامة من التكرار ومصدر هذا النوع والوصف منه مساو لمصدر الأول ووصفه فمصدره يأتي على الفعللة كالوسوسة والزلزلة والفعلال كالزلزال وأقيس المصدرين وأولاهما بنوعي فعلل الفعلان لأمرين أحدهما أن فعلل مشاكل لأفعل في عدد الحروف وفتح الأول والثالث والرابع وسكون الثاني فجعل أفعال مصدر أفعل وفعلال مصدر فعلل ليتشاكل المصدران كما يتشاكل الفعلان فكان الفعلان أولى بهذا الوزن من الفعللة الثاني أن أصل المصدر أن يخالف وزنه وزن فعله ومخالفة فعلال لفعلل أشد من مخالفة فعللة له فكان فعلال أحق بالمصدرية من فعللة أو تساويا في الإطراد من أن فعللة أرجع في الإستعمال وأكثر هذا هو الأصل ________________________________________ وقد جاءوا بمصدر هذا الوزن المكرر مفتوح الفاء فقالوا وسوس الشيطان وسواسا ووعوع الكلب وعواعا إذا عوى وعظعظ السهم عظعاظا والجاري على القياس فعلال بكسر الفاء أو فعللة وهذا المفتوح نادر لأن الرباعي الصحيح أصل للمتكرر ولم يأت مصدر الصحيح مع كونه أصلا إلا على فعللة وفعلال بالكسر فلم يحسن بالرباعي المكرر لفرعيته أن يكون مصدره إلا كذلك لأن الفرع لا يخالف أصله بل يحتذي فيه حذوه وهذا يقتضي أن لا يكون مصدره على فعلال بالفتح فإن شذ حفظ ولم يزد عليه قالوا وأيضا فإن فعلالا المفتوح الفاء قد كثر وقوعه صفة مصوغة من فعلل المكرر ليكون فيه نظير فعال من الثلاثي لأنهما متشاركان وزنا فاقتضى ذلك أن لا يكون لفعلال من المصدرية نصيب كما لم يكن لفعال فيها نصيب فلذلك استندروا وقوع وسواس ووعواع وعظعاظ مصادر وإنما حقها أن تكون صفات دالة على المبالغة في مصادر هذه الأفعال قالوا وإذا ثبت هذا فحق ما وقع منها محتملا للمصدرية والوصفية أن يحمل على الوصفية حملا على الأكثر الغالب وتجنبا للشاذ فمن زعم أن الوسواس مصدر مضاف إليه ذو تقديرا فقوله خارج عن القياس والإستعمال الغالب ويدل على فساد ما ذهب إليه أمران ________________________________________ أحدهما أن كل مصدر أضيف إليه ذو تقديرا فتجرده للمصدرية أكثر من الوصف به كرضي وصوم وفطر وفعلال المفتوح لم يثبت تجرده للمصدرية إلا في ثلاثة ألفاظ فقط وسواس ووعواع وعظعاظ على أن منع المصدرية في هذا ممكن لأن غاية ما يمكن أن يستدل به على المصدرية قولهم وسوس إليه الشيطان وسواسا وهذا لا يتعين للمصدرية لاحتمال أن يراد به الوصفية وينتصب وسواسا على الحال ويكون حالا مؤكدة فإن الحال قد يؤكد بها عاملها الموافق لها لفظا ومعنى كقوله تعالى وأرسلناك للناس رسولا النساء 79 وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره نعم إنما تتعين مصدرية الوسواس بالسمع أعوذ بالله من وسواس الشيطان ونحو ذلك مما يكون الوسواس فيه مضافا إلى فاعله كما سمع ذلك في الوسوسة ولكن أين لكم ذلك فهاتوا شاهده فبذلك يتعين أن يكون الوسواس مصدرا بانتصابه بعد الفعل الوجه الثاني من دليل فساد من زعم أن وسواسا مصدر مضاف إليه ذو تقديرا إن المصدر المضاف إليه ذكر تقديرا لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع بل يلزم طريقة واحدة ليعلم أصالته في المصدرية وأنه عارض الوصفية فيقال امرأة صوم وامرأتان صوم ونساء صوم لأن المعنى ذات صوم وذاتا صوم وذوات صوم وفعلال الموصوف به ليس كذلك بل يثنى ويجمع ويؤنث فتقول رجل ثرثار وامرأة ثرثارة ورجال ثرثارون وفي الحديث أبغضكم إلى الثرثارون المتفيهقون // حسن // وقالوا ريح رفرافة أي تحرك الأشجار وريح سفسافة أي تنخل التراب ودرع فضفاضة أي متسعة والفعل من ذلك كله فعلل والمصدر فعللة وفعلال بالكسر ولم ينقل في شيء من ذلك فعلال بالفتح وكذلك قالوا تمتام وفأفاء ولضلاض أي ماهر في الدلالة وفجفاج كثر الكلام وهرهار أي ضحاك وكهكاه ووطواط أي ضعيف وحشحاش وعسعاس أي خفيف وهو كثير ومصدره كله الفعللة والوصف فعلال بالفتح ________________________________________ ومثله هفهاف أي خميص ومثله دحداح أي قصير ومثله بجباج أي جسيم وتختاج أي ألكن شمشام أي سريع وشيء خشخاش أي مصوت وقعقاع مثله وأسد فضفاض أي كاسر وحية نضناض تحرك لسانها فقد رأيت فعلال في هذا كله وصفا لا مصدرا فما بال الوسواس أخرج عن نظائره وقياس بابه فثبت أن وسواسا وصف لا مصدر كثرثار وتمتام ودحداح وبابه ويدل عليه وجه آخر وهو أنه وصفه بما يستحيل أن يكون مصدرا بل هو متعين الوصفية وهو الخناس فالوسواس والخناس وصفان لموصوف محذوف وهو الشيطان وحسن حذف الموصوف ههنا غلبة الوصف حتى صار كالعلم عليه والموصوف إنما يقبح حذفه إذا كان الوصف مشتركا فيقع اللبس كالطويل والقبيح والحسن ونحوه فيتعين ذكر الموصوف ليعلم أن الصفة له لا لغيره فأما إذا غلب الوصف واختص ولم يعرض فيه اشتراك فإنه يجري مجرى الإسم ويحسن حذف الموصوف كالمسلم والكافر والبر والفاجر والقاصي والداني والشاهد والوالي ونحو ذلك فحذف الموصوف هنا أحسن من ذكره وهذا التفصيل أولى من إطلاق من منع حذف الموصوف ولم يفصل ومما يدل على أن الوسواس وصف لا مصدر أن الوصفية أغلب على فعلال من المصدرية كما تقدم فلو أريد المصدر لأتي بذو المضافة إليه ليزول اللبس وتتعين المصدرية فإن اللفظ إذا احتمل الأمرين على السواء فلا بد من قرية تدل على تعيين أحدهما فكيف والوصفية أغلب عليه من المصدرية وهذا بخلاف صوم وفطر وبابهما فإنها مصادر لا تلبس بالأوصاف فإذا جرت أوصافا علم أنها على حذف مضاف أو تنزيلا للمصدر منزلة الوصف مبالغة على الطريقتين في ذلك فتعين أن الوسواس هو الشيطان نفسه وأنه ذات لا مصدر والله أعلم فصل الخناس وبيان اشتقاقه ________________________________________ وأما الخناس فهو فعال من خنس يخنس إذا توارى واختفى ومنه قول أبي هريرة لقيني النبي في بعض طرق المدينة وأنا جنب فانخنست منه وحقيقة اللفظ اختفاء بعد ظهور فليست لمجرد الإختفاء ولهذا وصفت بها الكواكب في قوله تعالى فلا أقسم بالخنس التكوير 15 قال قتادة هي النجوم تبدو بالليل وتخنس بالنهار فتختفي ولا ترى وكذلك قال علي رضي الله عنه هي الكواكب تخنس بالنهار فلا ترى وقالت طائفة الخنس هي الراجعة التي ترجع كل ليلة إلى جهة المشرق وهي السبعة السيارة قالوا وأصل الخنوس الرجوع إلى وراء والخناس مأخوذ من هذين المعنيين فهو من الإختفاء والرجوع والتأخر فإن العبد إذا غفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان وانبسط عليه وبذر فيه أنواع الوساوس التي هيأصل الذنوب كلها فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به انخنس وانقبض كما ينخنس الشيء ليتوارى وذلك الإنخناس والإنقباض هو أيضا تجمع ورجوع وتأخر عن القلب إلى خارج فهو تأخر ورجوع معه اختفاء وخنس وانخنس يدل على الأمرين معا قال قتادة الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان فإذا ذكر العبد ربه خنس ويقال رأسه كرأس الحية وهو واضع رأسه على ثمرة القلب يمنيه ويحدثه فإذا ذكر الله تعالى خنس وإذا لم يذكره عاد ووضع رأسه يوسوس إليه ويمنيه وجيء من هذا الفعل بوزن فعال الذي للمبالغة دون الخانس والمنخنس إيذانا بشدة هروبه ورجوعه وعظم نفوره عند ذكر الله وأن ذلك دأبه ودينه لا أنه يعرض له ذلك عند ذكر الله أحيانا بل إذا ذكر الله هرب وانخنس وتأخر فإن ذكر الله هو مقمعته التي يقمع بها كما يقمع المفسد والشرير بالمقامع التي تردعه من سياط وحديد وعصي ونحوها فذكر الله يقمع الشيطان ويؤلمه ويؤذيه كالسياط والمقامع التي تؤذي من يضرب بها ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلا ضئيلا مضنى مما يعذبه ويقمعه به من ذكر الله وطاعته ________________________________________ وفي أثر عن بعض السلف أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي الرجل بعيره في السفر لأنه كلما اعترضه صب عليه سياط الذكر والتوجه والإستغفار والطاعة فشيطانه معه في عذاب شديد ليس بمنزلة شيطان الفاجر الذي هو معه في راحة ودعة ولهذا يكون قويا عاتيا شديدا فمن لم يعذب شيطانه في هذه الدار بذكر الله تعالى وتوحيده واستغفاره وطاعته عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار فلا بد لكل أحد أن يعذب شيطانه أو يعذبه شيطانه وتأمل كيف جاء بناء الوسواس مكررا لتكريره الوسوسة الواحدة مرارا حتى يعزم عليها العبد وجاء بناء الخناس على وزن الفعال الذي يتكرر منه نوع الفعل لأنه كلما ذكر الله انخنس ثم إذا غفل العبد عاوده بالوسوسة فجاء بناء اللفظين مطابقا لمعنييهما فصل الصفة الثالثة للشيطان وقوله الذي يوسوس في صدور الناس صفة ثالثة للشيطان فذكر وسوسته أولا ثم ذكر محلها ثانيا وأنها في صدور الناس وقد جعل الله للشيطان دخولا في جوف العبد ونفوذا إلى قلبه وصدره فهو يجري منه مجرى الدم وقد وكل بالعبد فلا يفارقه إلى الممات وفي الصحيحين من حديث الزهري عن علي بن حسين عن صفية بنت حيي قالت كان رسول الله معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت فانقلبت فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي أسرعا فقال النبي على رسلكما إنها صفية بنت حيي فقالا سبحان الله يا رسول الله فقال إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا أو قال شيئا // رواه البخاري // وفي الصحيح أيضا عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة قال قال رسول الله إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط فإذا قضى أقبل فإذا ثوب بها أدبر فإذا قضي أقبل حتى يخطر بين الإنسان وقلبه فيقول اذكر كذا اذكر كذا حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعا فإذا لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا سجد سجدتي السهو // رواه البخاري ومسلم // ________________________________________ ومن وسوسته ما ثبت وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي قال يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا ومن خلق كذا حتى يقول من خلق الله فمن وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته // رواه البخاري ومسلم // وفي الصحيح أن أصحاب رسول الله قالوا يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به قال الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة // صحيح // ومن وسوسته أيضا أن يشغل القلب بحديثه حتى ينسيه ما يريد أن يفعله ولهذا يضاف النسيان إليه إضافته إلى سببه قال تعالى حكاية عن صاحب موسى إنه قال إني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره الكهف 63 وتأمل حكمة القرآن الكريم وجلالته كيف أوقع الإستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس ولم يقل من شر وسوسته لتعم الإستعاذة شره جميعه فإن قوله من شر الوسواس الناس 4 يعم كل شره ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرا وأقواها تأثيرا وأعمها فسادا وهي الوسوسة التي هي مباديء الإرادة فإن القلب يكون فارغا من الشر والمعصية فيوسوس إليه ويخطر الذنب بباله فيصوره لنفسه ويمنيه ويشهيه فيصير شهوة ويزينها له ويحسنها ويخيلها له في خيال تميل نفسه إليه فيصير إرادة ثم لا يزال يمثل ويخيل ويمني ويشهي وينسى علمه بضررها ويطوي عنه سوء عاقبتها فيحول بينه وبين مطالعته فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط وينسى ما وراء ذلك فتصبر الإرادة عزيمة جازمة فيشتد الحرص عليها من القلب فيبعث الجنود في الطلب فيبعث الشيطان معهم مدادا لهم وعونا فإن فتروا حركهم وإن ونوا أزعجهم كما قال تعالى ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا مريم 83 أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا كلما فتروا أو ونوا أزعاجتهم الشياطين وأزتهم وأثارتهم فلا تزال بالعبد تقوده إلى الذنب وتنظم شمل الإجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة ________________________________________ قد رضي لنفسه بالقيادة لفجرة بني آدم وهو الذي استكبر وأبى أن يسجد لأبيهم بتلك النخوة والكبر ولا يرضاه أن يصير قوادا لكل من عصى الله كما قال بعضهم عجبت من إبليس في تيهه ... وقبح ما أظهر من نخوته تاه على آدم في سجدة ... وصار قوادا لذريته شرور الشيطان فأصل كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة فلهذا وصفه بها لتكون الإستعاذة من شرها أهم من كل مستعاذ منه وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضا فمن شره أنه لص سارق لأموال الناس فكل طعام أو شراب لم يذكر اسم الله تعالى عليه فله فيه حظ بالسرقة والخطف وكذلك يبيت في البيت إذا لم يذكر فيه اسم الله تعالى فيأكل طعام الإنس بغير إذنهم ويبيت في بيوتهم بغير أمرهم فيدخل سارقا ويخرج مغيرا ويدل على عوراتهم فيأمر العبد بالمعصية ثم يلقي في قلوب الناس يقظة ومناما إنه فعل كذا وكذا ومن هذا أن العبد يفعل الذنب لا يطلع عليه أحد من الناس فيصبح والناس يتحدثون به وما ذاك إلا أن الشيطان زينه له وألقاه في قلبه ثم وسوس إلى الناس بما فعل وألقاه فأوقعه في الذنب ثم فضحه به فالرب تعالى يستره والشيطان يجهد في كشف ستره وفضيحته فيغتر العبد ويقول هذا ذنب لم يره إلا الله تعالى ولم يشعر بأن عدوه ساع في إذاعته وفضيحته وقل من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة ومن شره أنه إذا نام العبد عقد على رأسه عقدا تمنعه من اليقظة كما في صحيح البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله قال ويعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقدة يضرب على كل عقدة مكانها عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقده فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقدة كلها فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان // رواه البخاري ومسلم // ________________________________________ ومن شره أن يبول في أذن العبد حتى ينام إلى الصباح كما ثبت عن النبي أنه ذكر عنده رجل نام ليله حتى أصبح قال ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه أو قال في أذنيه // رواه البخاري // رواه البخاري ومن شره أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه يمنعه بجهده أن يسلكه فإن خالفه وسلكه ثبطه فيه وعوقه وشوش عليه بالمعارضات والقواطع فإن عمله وفرغ منه قيض له ما يبطل أثره ويرده على حافرته ويكفي من شره أنه أقسم بالله ليقعدن لبني آدم صراطه المستقيم وأقسم ليأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولقد بلغ شره أن أعمل المكيدة وبالغ في الحيلة حتى أخرج آدم من الجنة ثم لم يكفه ذلك حتى استقطع من أولاده شرطة النار من كل ألف وتسعة وتسعين ثم لم يكفه ذلك حتى أعمل الحيلة في إبطال دعوة الله من الأرض وقصد أن تكون الدعوة له وأن يعبد من دون الله فهو ساع بأقصى جهده على إطفاء نور الله وإبطال دعوته وإقامة دعوة الكفر والشرك ومحو التوحيد وأعلامه من الأرض ويكفي من شره أنه تصدى لإبراهيم خليل الرحمن حتى رماه قومه بالمنجنيق في النار فرد الله تعالى كيده عليه وجعل النار على خليله بردا وسلاما وتصدى حتى أراد اليهود قتله وصلبه فرد الله كيده وصان المسيح ورفعه إليه وتصدى لزكريا ويحيى حتى قتلا واستثار فرعون حتى زين له الفساد العظيم في الأرض ودعوى أنه ربهم الأعلى وتصدى للنبي وظاهر الكفار على قتله بجهده والله تعالى يكبته ويرده خاسئا وتفلت على النبي بشهاب من نار يريد أن يرميه به وهو في الصلاة فجعل النبي يقول ألعنك بلعنة الله وأعان اليهود على سحرهم للنبي فإذا كان هذا شأنه وهمته في الشر فكيف الخلاص منه إلا بمعونة الله وتأييده وإعاذته ولا يمكن حصر أجناس شره فضلا عن آحادها إذ كل شر في العالم فهو السبب فيه ويكن ينحصر شره في ستة أجناس لا يزال بابن آدم حتى ينال منه واحدا منها أو أكثر ________________________________________ الشر الأول شر الكفر والشرك ومعاداة الله ورسوله فإذا ظفر بذلك من ابن آدم برد أنينه واستراح من تعبه معه وهو أول ما يريد من العبد فلا يزال به حتى يناله منه فإذا نال ذلك صيره من جنده وعسكره وإستنابه على أمثاله وأشكاله فصار من دعاة إبليس ونوابه فإذا يئس منه من ذلك وكان ممن سبق له الإسلام في بطن أمه نقله إلى المرتبة الثانية من الشر وهي البدعة وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي لأن ضررها في نفس الدين وهو ضرر متعد وهي ذنب لا يتاب منه وهي مخالفة لدعوة الرسل ودعا إلى خلاف ما جاءوا به وهي باب الكفر والشرك فإذا نال منه البدعة وجعله من أهلها بقي أيضا نائبه وداعيا من دعائه فإن أعجزه من هذه المرتبة وكان العبد ممن سبقت له من الله موهبة السنة ومعاداة أهل البدع والضلال نقله إلى المرتبة الثالثة من الشر وهي الكبائر على اختلاف أنواعها فهو أشد حرصا على أن يوقعه فيها ولا سيما إن كان عالما متبوعا فهو حريص على ذلك لينفر الناس عنه ثم يشيع من ذنوبه ومعاصيه في الناس ويستنيب منهم من يشيعها ويذيعها تدينا وتقربا بزعمه إلى الله تعالى وهو نائب إبليس ولا يشعر فإن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم هذا إذا أحبوا إشاعتها وإذاعتها فكيف إذا تولوا هم إشاعتها وإذاعتها لا نصيحة منهم ولكن طاعة لإبليس ونيابة عنه كل ذلك لينفر الناس عنه وعن الإنتفاع به وذنوب هذا ولو بلغت عنان السماء أهون عند الله من ذنوب هؤلاء فإنها ظلم منه لنفسه إذا استغفر الله وتاب إليه قبل الله توبته وبدل سيئاته حسنات وأما ذنوب أولئك فظلم للمؤمنين وتتبع لعورتهم وقصد لفضيحتهم والله سبحانه بالمرصاد لا تخفى عليه كمائن الصدور ودسائس النفوس ________________________________________ فإن عجز الشيطان عن هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الرابعة وهي الصغائر التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها كما قال النبي إياكم ومحقرات الذنوب فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض // صحيح // وذكر حديثا معناه أن كل واحد منهم جاء بعود حطب حتى أوقدوا نارا عظيمة فطبخوا واشتووا ولا يزال يسهل عليه أمر الصغائر حتى يستهين بها فيكون صاحب الكبيرة الخائف منها أحسن حالا منه فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الخامسة وهي إشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب بل عاقبتها فوت الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة وكان حافظا لوقته شحيحا به يعلم مقدار أنفاسه وانقطاعها وما يقابلها من النعيم والعذاب نقله إلى المرتبة السادسة وهو أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه ليزيح عنه الفضيلة ويفوته ثواب العمل الفاضل فيأمره بفعل الخير المفضول ويحضه عليه ويحسنه له إذا تضمن ترك ما هو أفضل وأعلى منه وقل من يتنبه لهذا من الناس فإنه إذا رأى فيه داعيا قويا ومحركا إلى نوع من الطاعة لا يشك أنه طاعة وقربة فإنه لا يكاد يقول إن هذا الداعي من الشيطان فإن الشيطان لا يأمر بخير ويرى أن هذا خير فيقول هذا الداعي من الله وهو معذور ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين بابا من أبواب الخير إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر وإما ليفوت بها خيرا أعظم من تلك السبعين بابا وأجل وأفضل وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد يكون سببه تجريد متابعة الرسول وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله وأحبها إليه وأرضاها له وأنفعها للعبد وأعمها نصيحة لله تعالى ولرسوله ولكتابه ولعباده المؤمنين خاصتهم وعامتهم ولا يعرف هذا إلا من كان من ورثة الرسول ونوابه في الأمة وخلفائه في الأرض وأكثر الخلق محجوبون عن ذلك فلا يخطر بقلوبهم والله تعالى يمن بفضله على من يشاء من عباده ________________________________________ فإن أعجزه العبد من هذه المراتب الست وأعيا عليه سلط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير والتضليل والتبديع والتحذير منه وقصد إخماله وإطفائه ليشوش عليه قلبه ويشغل بحربه فكره وليمنع الناس من الإنتفاع به فيبقى سعيه في تسليط المبطلين من شياطين الإنس والجن عليه ولا يفتر ولا يني فحينئذ يلبس المؤمن لأمة الحرب ولا يضعها عنه إلى الموت ومتى وضعها أسر أو أصيب فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله فتأمل هذا الفصل وتدبر موقعه وعظيم منفعته واجعله ميزانك تزن به الناس وتزن به الأعمال فإنه يطلعك على حقائق الوجود ومراتب الخلق والله المستعان وعليه التكلان ولو لم يكن في هذا التعليق إلا هذا الفصل لكان نافعا لمن تدبره ووعاه فصل الصدور والقلوب وتأمل السر في قوله تعالى يوسوس في صدور الناس ولم يقل في قلوبهم والصدر هو ساحة القلب وبيته فمنه تدخل الواردات إليه فتجتمع في الصدر ثم تلج في القلب فهو بمنزلة الدهليز له ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر ثم تتفرق على الجنود ومن فهم هذا فهم قوله تعالى وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم آل عمران 154 فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته فيلقي ما يريد إلقاءه في القلب فهو موسوس في الصدر ووسوسته واصلة إلى القلب ولهذا قال تعالى فوسوس إليه الشيطان طه 120 ولم يقل فيه لأن المعنى أنه ألقى إليه ذلك وأوصله فيه فدخل في قلبه فصل الجار والمجرور من الجنة والناس وقوله تعالى من الجنة والناس اختلف المفسرون في هذا الجار والمجرور بم يتعلق فقال الفراء وجماعة هو بيان للناس الموسوس في صدورهم والمعنى يوسوس في صدور الناس الذين هم من الجن والإنس أي الموسوس في صدورهم قسمان إنس وجن ________________________________________ فالوسواس يوسوس للجني كما يوسوس للإنسي وعلى هذا القول فيكون من الجنة والناس نصب على الحال لأنه مجرور بعد معرفة على قول البصريين وعلى قول الكوفيين نصب بالخروج من المعرفة هذه عبارتهم ومعناها أنه لما يصلح أن يكون نعتا للمعرفة انقطع عنها فكان موضعه نصبا والبصريون يقدرونه حالا أي كائنين من الجنة والناس وهذا القول ضعيف جدا لوجوه أحدها أنه لم يقم دليل على أن الجني يوسوس في صدور الجن ويدخل فيه كما يدخل في الإنسي ويجري منه مجراه من الإنسي فأي دليل يدل على هذا حتى يصح حمل الآية عليه الثاني أنه فاسد من جهة اللفظ أيضا فإنه قال الذي يوسوس في صدور الناس فكيف يبين الناس بالناس فإن معنى الكلام على قوله يوسوس في صدور الناس الذين هم أو كائنين من الجنة والناس أفيجوز أن يقال في صدور الناس الذين هم من الناس وغيرهم هذا ما لا يجوز ولا هو استعمال فصيح الثالث أن يكون قد قسم الناس إلى قسمين جنة وناس وهذا غير صحيح فإن الشيء لا يكون قسيم نفسه الرابع أن الجنة لا يطلق عليهم اسم الناس بوجه لا أصلا ولا اشتقاقا ولا استعمالا ولفظهما يأبى ذلك فإن الجن إنما سموا جنا من الإجتنان وهو الإستتار فهو مستترون عن أعين البشر قسموا جنا لذلك من قولهم جنه الليل وأجنه إذا ستره وأجن الميت إذا ستره في الأرض قال ولا تبك ميتا بعد ميت أجنه ... علي وعباس وآل أبي بكر يريد النبي ومنه الجنين لاستتاره في بطن أمه قال تعالى وإذا أنتم أجنة في بطون أمهاتكم النجم 31 ومنه المجن لاستتار المحارب به من سلاح خصمه ومنه الجنة لاستتار داخلها بالأشجار ومنه الجنة بالضم لما بقي الإنسان من السهام والسلاح ومنه المجنون لاستتار عقله وأما الناس فبينه وبين الإنس مناسبة في اللفظ والمعنى وبينهما اشتقاق أوسط وهو عقد تقاليب الكلمة إلى معنى واحد والإنس والإنسان مشتق من الإيناس وهو الرؤية والإحساس ومنه قوله آنس من جانب الطور نارا القصص 29 أي رآها ________________________________________ ومنه فإن آنستم منهم رشدا النساء 6 أي أحسستموه ورأيتموه فالإنسان سمي إنسانا لأنه يونس أي يرى بالعين والناس فيه قولان أحدهما أنه مقلوب من أنس وهو بعيد والأصل عدم القلب والثاني هو الصحيح أنه من النوس وهو الحركة المتتابعة فسمي الناس ناسا للحركة الظاهرة والباطنة كما سمي الرجل حارث وهمام أصدق الأسماء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم // صحيح // لأن كل أحد له هم وإرادة وهي مبدأ وحرث وعمل هو منتهى فكل أحد حارث وهمام والحرث والهم حركتا الظاهر والباطن وهو حقيقة النوس وأصل ناس نوس تحركت الواو قبلها فصارت ألفا هذان هما القولان المشهوران في اشتقاق الناس وأما قول بعضهم أنه من النسيان وسمي الإنسان إنسانا لنسيانه وكذلك الناس سموا ناسا لنسيانهم فليس هذا القول بشيء وأين النسيان الذي مادته ن س ي إلى الناس الذي مادته ن و س وكذلك أين هو من الإنس الذي مادته ا ن س وأما إنسان فهو فعلان من أ ن س والألف والنون في آخره زائدان لا يجوز فيه غير هذا البتة إذ ليس في كلامهم أنس حتى لا يكون إنسانا إفعالا منه ولا يجوز أن يكون الألف والنون في أوله زائدتين إذ ليس في كلامهم انفعل فيتبين أنه فعلان من الأنس ولو كان مشتقا من نسي لكان نسيانا لا إنسانا فإن قلت فهلا جعلته إفعلالا وأصله إنسيان كليلة إصحيان ثم حذفت الياء تخفيفا فصار إنسانا قلت يأبى ذلك عدم افعلال في كلامهم وحذف الياء بغير سبب ودعوى ما لا نظير له وذلك كله فاسد على أن الناس قد قيل إن أصله الأناس فحذفت الهمزة فقيل الناس واستدل بقول الشاعر إن المنايا يطلعن على الأناس الغافلين ... ولا ريب أن أناسا فعال ولا يجوز فيه غير ذلك البتة فإن كان أصل ناس أناسا فهو أقوى الأدلة على أنه من أنس ويكون الناس كالإنسان سواء في الإشتقاق ويكون وزن ناس على هذا القول عال لأن المحذوف فاؤه وعلي القول الأول يكون وزنه فعل لأنه من النوس ________________________________________ وعلى القول الضعيف يكون وزنه فلع لأنه من نسي فقلبت لامه إلى موضع العين فصار ناسا ووزنه فلعا والمقصود أن الناس إسم لبني آدم فلا يدخل الجن في مسماهم فلا يصح أن يكون من الجنة والناس بيانا لقوله في صدور الناس وهذا واضح لا خفاء فيه فإن قيل لا محذور في ذلك فقد أطلق على الجن اسم الرجال كما في قوله تعالى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن الجن 6 فإذا أطلق عليهم اسم الرجال لم يمتنع أن يطلق عليهم اسم الناس قلت هذا هو الذي غر من قال إن الناس اسم للجن والإنس في هذه الآية وجواب ذلك أن اسم الرجال إنما وقع عليهم وقوعا مقيدا في مقابلة ذكر الرجال من الإنس ولا يلزم من هذا أن يقع اسم الناس والرجال عليهم مطلقا وأنت إذا قلت إنسان من حجارة أو رجل من خشب ونحو ذلك لم يلزم من ذلك وقوع اسم الرجل والإنسان عند الإطلاق على الحجر والخشب وأيضا فلا يلزم من إطلاق اسم الرجل على الجني أن يطلق عليه اسم الناس وذلك لأن الناس والجنة متقابلان وكذلك والإنس والجن فالله تعالى يقابل بين اللفظين كقوله يا معشر الجن والإنس الرحمن 33 وهو كثير في القرآن وكذلك قوله من الجنة والناس الناس 6 يقتضي أنهما متقابلان فلا يدخل أحدهما في الآخر بخلاف الرجال والجن فإنهما لم يستعملا متقابلين فلا يقال الجن والرجال كما يقال الجن والإنس وحينئذ فالآية أبين حجة عليهم في أن الجن لا يدخلون في لفظ الناس لأنه قابل بين الجنة والناس فعلم أن أحدهما لا يدخل في الآخر فالصواب القول الثاني وهو أن قوله من الجنة والناس بيان للذي يوسوس وأنهما نوعان إنس وجن فالجني يوسوس في صدور الإنس والإنسي أيضا يوسوس إلى الإنسي فالموسوس نوعان إنس وجن فإن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب وهذا مشترك بين الجن والإنس وإن كان إلقاء الإنسي ووسوسته إنما هي بواسطة الأذن والجني لا يحتاج إلى تلك الواسطة لأنه يدخل في ابن آدم ويجري منه مجرى الدم ________________________________________ على أن الجني قد يتمثل له ويوسوس إليه في أذنه كالإنسي كما في البخاري عن عروة عن عائشة عن النبي أنه قال إن الملائكة تحدث في العنان والعنان الغمام بالأمر يكون في الأرض فتسمع الشياطين الكلمة فتقرها في أذن الكاهن كما تقر القارورة فيزيدون معها مائة كذبة من عند أنفسهم // رواه البخاري والترمذي // فهذه وسوسة وإلقاء من الشيطان بواسطة الأذن ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة اشتراكهما في الوحي الشيطاني قال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا الأنعام 112 فالشيطان يوحي إلى الإنسي باطله ويوحيه الإنسي إلى إنسي مثله فشياطين الإنس والجن يشتركان في الوحي الشيطاني ويشتركان في الوسوسة وعلى هذا فتزول تلك الإشكالات والتعسفات التي ارتكبها أصحاب القول الأول وتدل الآية على الإستعاذة من شر نوعي الشياطين شياطين الإنس والجن وعلى القول الأول إنما تكون الإستعاذة من شر شياطين الجن فقط فتأمله فإنه بديع جدا فهذا ما من الله به من الكلام على بعض أسرار هاتين السورتين وله الحمد والمنة وعسى الله أن يساعد بتفسير على هذا النمط فما ذلك على الله بعزيز والحمد لله رب العالمين ونختم الكلام على السورتين بذكر قاعدة نافعة اعتصام العبد من الشيطان فما يعتصم به العبد من الشيطان ويستدفع به شره ويحترز منه وذلك في عشرة أسباب الحرز الأول الإستعاذة بالله من الشيطان أحدهما الإستعاذة بالله من الشيطان قال تعالى وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم فصلت 36 وفي موضع آخر إنه هو سميع عليم وقد تقدم أن السمع المراد به هاهنا سمع الإجابة لا مجرد السمع التام ________________________________________ وتأمل سر القرآن الكريم كيف أكد الوصف بالسميع العليم بذكر صيغة هو الدال على تأكيد النسبة واختصاصها وعرف الوصف بالألف واللام في سورة حم لاقتضاء المقام لهذا التأكيد وتركه في سورة الأعراف لاستغناء المقام عنه فإن الأمر بالإستعاذة في سورة حم وقع بعد الأمر بأشق الأشياء على النفس وهو مقابلة إساءة المسيء بالإحسان إليه وهذا أمر لا يقدر عليه إلا الصابرون ولا يلقاه إلا ذو حظ عظيم كما قال الله تعالى والشيطان لا يدع العبد يفعل هذا بل يريه أن هذا ذل وعجز ويسلط عليه عدوه فيدعوه إلى الإنتقام ويزينه له فإن عجز عنه دعاه إلى الإعراض عنه وأن لا يسيء إليه ولا يحسن فلا يؤثر الإحسان إلى المسيء إلا من خالفه وآثر الله تعالى وما عنده على حظه العاجل فكان المقام مقام تأكيد وتحريض فقال فيه وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم وأما في سورة الأعراف فإنه أمره أن يعرض عن الجاهلين وليس فيها الأمر بمقابلة إساءتهم بالإحسان بل بالإعراض وهذا سهل على النفوس غير مستعص عليها فليس حرص الشيطان وسعيه في دفع هذا كحرصه على دفع المقابلة بالإحسان فقال وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم وقد تقدم ذكر الفرق بين هذين الموضعين وبين قوله في حم المؤمن فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير وفي صحيح البخاري عن عدي بن ثابت عن سليمان بن صرد قال كنت جالسا مع النبي ورجلان يستبان فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه فقال النبي إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد // رواه البخاري ومسلم // الحرز الثاني قراءة هاتين السورتين فإن لهما تأثيرا عجيبا في الإستعاذة بالله تعالى من شره ودفعه والتحصن منه ولهذا قال النبي ما تعوذ المتعوذون بمثلهما وقد تقدم أنه كان يعوذ بهما كل ليلة عند النوم وأمر عقبة أن يقرأ بهما دبر كل صلاة ________________________________________ وتقدم قوله إن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثا حين يمسي وثلاثا حين يصبح كفته من كل شيء الحرز الثالث قراءة أية الكرسي ففي الصحيح من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال وكلني رسول الله بحفظ زكاة رمضان فأتى آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله فذكر الحديث فقال إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فقال النبي صدقك وهو كذوب ذاك الشيطان // رواه البخاري // وسنذكر إن شاء الله تعالى السر الذي لأجله كان لهذه الآية العظيمة هذا التأثير العظيم في التحرز من الشيطان واعتصام قارئها بها في كلام مفرد عليها وعلى أسرارها وكنوزها بعون الله تعالى وتأييده الحرز الرابع قراءة سورة البقرة ففي الصحيح من حديث سهل عن عبدالله عن أبي هريرة أن رسول الله قال لا تجعلوا بيوتكم قبورا وأن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان // رواه مسلم والترمذي // الحرز الخامس قراءة خاتمة سورة البقرة فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى الأنصاري قال قال رسول الله من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه // رواه البخاري ومسلم // وفي الترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي قال إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة فلا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان // صحيح // الحرز السادس أول سورة حم المؤمن إلى قوله تعالى إليه المصير مع آية الكرسي في الترمذي من حديث عبدالرحمن بن أبي بكر عن ابن أبي مليكة عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله من قرأ حم المؤمن إلى إليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح // ضعيف // وعبدالرحمن المليكي وإن كان قد تكلم فيه من قبل حفظه فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي وهو محتمل على غرابته ________________________________________ الحرز السابع لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ففي الصحيحين من حديث سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله قال من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشرة رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك // رواه البخاري ومسلم // فهذا حرز عظيم النفع جليل الفائدة يسير سهل على من يسره الله تعالى عليه الحرز الثامن كثرة ذكر الله وهو من أنفع الحروز من الشيطان ففي الترمذي من حديث الحارث الأشعري أن النبي قال إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها وأنه كاد يبطيء بها فقال عيسى إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم فقال يحيى أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ وقعدوا على الشرف فقال إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وأمركم أن تعملوا بهن أولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق فقال هذه داري وهذا عملي فاعمل وأد إلي فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك وإن الله أمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت وأمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك فكلهم يعجب أو بعجبه ريحها وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال أنا أفديه منكم بالقليل والكثير ففدى نفسه منهم ________________________________________ وأمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله قال النبي وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من حثاء جهنم فقال رجل يا رسول الله وإن صلى وصام قال وإن صلى وصام // صحيح // فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله قال الترمذي هذا حديث حسن غريب صحيح وقال البخاري الحارث الأشعري له صحبة وله غير هذا الحديث فقد أخبر النبي في هذا الحديث أن العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة قل أعوذ برب الناس فإنه وصف الشيطان فيها بأنه الخناس والخناس الذي إذا ذكر العبد الله انخنس وتجمع وانقبض وإذا غفل عن ذكر الله تعالى التقم القلب وألقى إليه الوساوس التي هي مباديء الشر كله فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله عز وجل الحرز التاسع الوضوء والصلاة وهذا من أعظم ما يتحرز به منه ولا سيما عند توارد قوة الغضب والشهوة فإنها نار تغلي في قلب ابن آدم كما في الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي أنه قال ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض // صحيح // وفي أثر آخر إن الشيطان خلق من نار وإنما تطفأ النار بالماء // ضعيف // فما أطفأ العبد جمرة الغضب والشهوة بمثل الوضوء والصلاة فإنها نار والوضوء يطفئها والصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال فيها على الله أذهبت أثر ذلك كله وهذا أمر تجربته تغني عن إقامة الدليل عليه ________________________________________ الحرز العاشر إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة فإن فضول النظر يدعو إلى الإستحسان ووقوع صورة المنظور إليه في القلب والإشتغال به والفكرة في الظفر به فمبدأ الفتنة من فضول النظر كما في المسند عن النبي أنه قال النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره لله أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه // ضعيف جدا // أو كما قال فالحوادث العظام إنما كلها من فضول النظر فكم نظرة أعقبت حسرات لا حسرة كما قال الشاعر كل الحوادث مبداها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فتكت في قلب صاحبها ... فتك السهام بلا قوس ولا وتر وقال الآخر وكنت متى أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر وقال المتنبي وأنا الذي جلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل ولي من أبيات يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا ... أنت القتيل بما ترمي فلا تصب وباعث الطرف يرتاد الشفاء له ... توقه إنه يرتد بالعطب ترجو الشفاء بأحداق بها مرض ... فهل سمعت ببرء جاء من عطب ومفنيا نفسه في إثر أقبحهم ... وصفا للطخ جمال فيه مستلب وواهبا عمره في مثل ذا سفها ... لو كنت تعرف قدر العمر لم تهب وبائعا طيب عيش ما له خطر ... بطيف عيش من الآلام منتهب عينت والله غبنا فاحشا فلو اس ... ترجعت ذا العقد لم تغبن ولم تخب وواردا صفو عيش كله كدر ... أمامك الورد صفوا ليس بالكذب وحاطب الليل في الظلماء منتصبا ... لكل داهية تدنو من العطب شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب ... وضاع وقتك بين اللهو واللعب وشمس عمرك قد حان الغروب لها ... والطي في الأفق الشرقي لم يغب وفاز بالوصل من قد فاز وانقشعت ... عن أفقه ظلمات الليل والسحب كم ذات التخلف والدنيا قد ارتحلت ... ورسل ربك قد وافتك في الطلب ________________________________________ ما في الديار وقد سارت ركائب من ... تهواه للصب من سكني ولا أرب فأفرش الخد ذياك التراب وقل ... ما قاله صاحب الأشواق في الحقب ما ربع مية محفوفا يطوف به ... غيلان أشهى له من ربعك الخرب ولا الخدود وإن أدمين من ضرج ... أشهى إلى ناظري من خدك الترب منازلا كان يهواها ويألفها ... أيام كان منال الوصل عن كثب فكلما جليت تلك الربوع له ... يهوى إليها هوي الماء في صب أحيا له الشوق تذكار العهود بها ... فلو دعا القلب للسلوان لم يجب هذا وكم منزل في الأرض يألفه ... وما له في سواها الدهر من رغب ما في الخيام أخو وجد يريحك إن ... بثثته بعض شأن الحب فاغترب وأسر في غمرات الليل مهتديا ... بنفحة الطيب لا بالنار والحطب وعاد كل أخي جبن ومعجزة ... وحارب النفس لا تلقيك في الحرب وخذ لنفسك نورا تستضيء به ... يوم اقتسام الورى الأنوار بالرتب فالجسر ذو ظلمات ليس بقطعه ... إلا بنور ينجي العبد في الكرب والمقصود أن فضول النظر أصل البلاء وأما فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبوابا من الشر كلها مداخل للشيطان فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب كلها وكم من حرب جرتها كلمة واحدة وقد قال النبي لمعاذ وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم // صحيح لغيره // وفي الترمذي أن رجلا من الأنصار توفي فقال بعض الصحابة طوبى له فقال النبي فما يدريك فلعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه // ضعيف // وأكثر المعاصي إنما تولدها من فضول الكلام والنظر وهما أوسع مداخل الشيطان فإن جارحتيهما لا يملأن ولا يسأمان بخلاف شهوة البطن فإنه إذا امتلأ لم يبق فيه إرادة للطعام وأما العين واللسان فلو تركا لم يفترا من النظر والكلام فجنايتهما متسعة الأطراف كثيرة الشعب عظيمة الآفات وكان السلف يحذرون من فضول النظر كما يحذرون من فضول الكلام وكانوا يقولون ما شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان ________________________________________ وأما فضول الطعام فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي ويثقلها عن الطاعات وحسبك بهذين شرا فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام وكم من طاعة حال دونها فمن وقى شر بطنه فقد وقى شرا عظيما والشيطان أعظم ما يتحكم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام ولهذا جاء في بعض الآثار ضيقوا مجاري الشيطان بالصوم وقال النبي ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن ولو لم يكن في الإمتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله ساعة واحدة جثم عليه الشيطان ووعده ومناه وشهاه وهام به في كل واد فإن النفس إذا شبعت تحركت وجالت وطافت على أبواب الشهوات وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت مخالطة الناس إن فضول المخالطة هي الداء العضال الجالب لكل شر وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة وكم زرعت من عداوة وكم غرست في القلب من حزازات تزول الجبال الراسيات وهي في القلوب لا تزول ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما دخل عليه الشر أحدها من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر وهم العلماء بالله تعالى وأمره ومكايد عدوه وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولخلقه فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كله القسم الثاني من مخالطته كالدواء يحتاج إليه عند المرض فما دمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته وهم من لا يستغنى عنه مخالطتهم في مصلحة المعاش وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والإستشارة والعلاج للأدواء ونحوها فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من ________________________________________ القسم الثالث وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه فمنهم من مخالطته كالداء العضال والمرض المزمن وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا ومع ذلك فلا بد من أن تخصر عليه الدين والدنيا أو أحدهما فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت فهي مرض الموت المخوف ومنهم من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضربا عليك فإذا فارقك سكن الألم ومنهم من مخالطته حمى الروح وهو الثقيل البغيض العقل الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها بل إن تكلم فكلامه كالعصي تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به فهو يحدث من فيه كلما تحدث ويظن أنه مسك يطيب به المجلس وإن سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر ورأيت يوما عند شيخنا قدس الله روحه رجلا من هذا الضرب والشيخ يحمله وقد ضعف القوى عن حمله فالتفت إلي وقال مجالسة الثقيل حمى الربع ثم قال لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى فصارت لها عادة أو كما قال وبالجملة فمخالطة كل مخالف حمى للروح فعرضية ولازمة ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا القسم الرابع من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم فإن اتفق لأكله ترياق وإلا فأحسن الله فيه العزاء وما أكثر هذا الضرب في الناس لا كثرهم الله وهم أهل البدع والضلالة الصادون عن سنة رسول الله الداعون إلى خلافها الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا فيجعلون البدعة سنة والسنة بدعة والمعروف منكرا والمنكر معروفا إن جردت التوحيد بينهم قالوا تنقصت جناب الأولياء والصالحين وإن جردت المتابعة لرسول الله قالوا أهدرت الأئمة المتبوعين ________________________________________ وإن وصفت الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير غلو ولا تقصير قالوا أنت من المشبهين وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف ونهيت عما نهى الله عنه ورسوله من المنكر قالوا أنت من المفتنين وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا أنت من أهل البدع المضلين وإن انقطعت إلى الله تعالى وخليت بينهم وبين جيفة الدنيا قالوا أنت من المبلسين وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهواءهم فأنت عند الله تعالى من الخاسرين وعندهم من المنافقين فالحزم كل الحزم التماس مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم وأن لا تشتغل بإعتابهم ولا باستعتابهم ولا تبالي بذمهم ولا بغضبهم فإن عين كمالك كما قال وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل وقال آخر وقد زادني حبا لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امريء غير طائل فمن كان بواب قلبه وحارسه من هذه المداخل الأربعة التي هي أصل بلاء العالم وهي فضول النظر والكلام والطعام والمخالطة واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحرزه من الشيطان فقد أخذ بنصيبه من التوفيق وسد على نفسه أبواب جهنم وفتح عليها أبواب الرحمة وانغمر ظاهره وباطنه ويوشك أن يحمد عند الممات عاقبة هذا الدواء فعند الممات يحمد القوم التقي وعند الصباح يحمد القوم السرى والله الموفق لا رب غيره ولا إله سواه أهـ { بدائع الفوائد حـ 2 صـ 471 ـ 500 } تم الكتاب ولله الحمد والمنة والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا وهو الله لا إله إلا هو له الحمد فى الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ________________________________________