المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَـــا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران، الآية: 102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء، الآية: 1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِــرْ لَكُــمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب، الآيتان: 70، 71]. أما بعد: فهذا بحث مختصر أحببت أن أكتب فيه عن " الرُّقى على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة "، وذلك لما رأيت من كثرة الناس المتصدين للرقية على المرضى لاستجلاب الشهرة أو المال - إلا من رحم الله منهم - حتى عُرفوا بين الناس، وأصبح يُشار إليهم بالبنان، ويسافر إليهم من شتى الأقطار، بل تفرّغوا من جميع أعمالهم الدنيوية، لأجل الرُّقية على المرضى فتعلق بهم الناس وظنوا أن الفائدة الحقيقية في القارئ، وليس في المقروء، لا سيما مع ضعف اليقين، وعدم التوكل على الله - عز وجل - وغلبة الجهل، ورأى المشعوذون والدجّالون سوقاً رابحة في التلاعب بعواطف المرضى وأوليائهم، فتظاهروا في صورة العلماء الربانيين، وهم في الحقيقة يخلطون الحق بالباطل، ويلبّسون على السذج من الناس، فأحببت أن أسهم بجهد المُقلّ في تمييز الرقية الشرعية من غيرها، وبيان ما يخدش في عقيدة المؤمن منها، وكيف كان السلف الصالح – رضوان الله عليهم – يعالجون مرضاهم بالرقى ! وبيان أقوال أهل العلم المعتبرين في هذا الشأن، وأسأل الله – عز وجل – أن يريني الحق حقّا ويرزقني اتباعه، ويريني الباطل باطلاً ويرزقني اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وقد قسمت البحث إلى تمهيد، وخمسة فصول، وخاتمة. التمهيد في تعريف الرقية وكونها معروفة قبل الإسلام الفصل الأول: في علاقة البحث في الرقى بالاعتقاد وهل تنافي الرقية التوكل ؟ الفصل الثاني: مشروعية الرقية وأنواعها: أ- رقية لدفع البلاء قبل وقوعه. ب- رقية لدفع البلاء بعد وقوعه. الفصل الثالث: هل الرقى توقيفية ؟ وهل يرقى على كل داء ؟ الفصل الرابع: ضوابط الرقية في الإسلام. الفصل الخامس: حكم التفرغ لأجل القراءة على الناس واتخاذها حرفة ( ) الخاتمة: نتائج البحث وذيلت البحث بفهرس للموضوعات، وفهرس للمصادر. تمهيد: في تعريف الرقية وكونها معروفة قبل الإسلام. قال في اللسان: والرقية: العوذة، معروفة، قال رؤية: فما تركا من عوذة يعرفانها ولا رقية إلا بها رقياني ( ) وقال فيه أيضاً: والعوذة والمعاذات والتعويذ: الرقية، يرقى بها الإنسان من فزع أو جنون، لأنه يعاذ بها وقد عوذه، يقال عوذت فلاناً بالله، وأسمائه، وبالمعوذتين، إذا قلت: أعيذك بالله، وأسمائه من كل ذي شر ( ). فيظهر مما تقدم أنه فسر الرقية: بالعوذة، والعوذة: بالرقية، وأصل العوذ والعياذ هو الالتجاء والاعتصام. قال الليث: يقال: فلان عَوْذُ لك أي ملجأ، وفي الحديث « إنما قالها تعوذاً » أي إنما أقر بالشهادة لاجئاً إليها، ومعتصماً بها ليدفع عنه القتل وليس بمخلص في إسلامه ( ). فكأن الراقي التجأ إلى الرقية، أو التجأ إلى من جعل الرقية سبباً للشفاء، أو المرقي التجأ إلى الراقي، كما قال الله تعالى: كَلَّا إِذَا بَلَغَـتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ. [ القيامة، الآيتان: 26، 27 ]. في أحد التفسيرين في الآية كما روي ابن عباس وأبي قلابة ( ). وإلا فالرقية قد ترد وليس فيها لفظ التعويذ والالتجاء كما سيأتي والرقى معروفة للناس من قبل الإسلام، يدل على ذلك ما يلي: ما رواه الإمام مالك في الموطأ عن عمرة بنت عبد الرحمن، أن أبا بكر الصديق دخل على عائشة، وهي تشتكي، ويهودية ترقيها، فقال أبو بكر: أرقيها بكتاب الله ( ) وهذا يدل على أن أهل الكتاب كان عندهم رقى يرقون بها. وقول أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – أرقيها بكتاب الله، يعني أرقيها بما في التوراة، وفي هذا دلالة على أن اليهود إنما يغيرون الأحكام والعقائد. وأما الرقى فإنهم لم يغيروها حفاظاً على فائدتها، فإنها إذا غيرت لا تنفع، هذا الذي يظهر، والله أعلم. و إلا لو كانت مما دخله التحريف، لما أمنها أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – على الرقية. قال ابن حجر: وقال المازري: اختلف في استرقاء أهل الكتاب، فأجازها قوم وكرهها مالك، لئلا يكون مما بدلوه. وأجاب من أجاز بأن مثل هذا يبعد أن يقولوه، وهو كالطب سواء، فإن غير الحاذق لا يحسن أن يقول، والحاذق يأنف أن يبدّل حرصاً على استمرار وصفه بالحذق لترويج صناعته. والحق أنه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال ( ). ومما يدل على أن الرقى معروفة قبل الإسلام أيضاً، ما رواه الإمام أحمد في المسند، عن زينب امرأة عبد الله ابن مسعود، قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهية أن يهجم منا على شيء يكرهه ! قالت: وإنه جاء ذات يوم فتنحنح، قالت: وعندي عجوز ترقيني من الحمرة فأدخلتها تحت السرير، فدخل فجلس إلى جنبي. ورأى في عنقي خيطاً، قال: ما هذا الخيط ؟ قالت قلت خيط أرقي لي فيه، قالت فأخذه فقطعه، ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك. سمعت رسول الله، صلى الله عليه، يقول: « إن الرقي والتمائم والتولة شرك. قالت فقلت له تقول هذا وقد كانت عيني تقذف، فكنت اختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، وكان إذا رقاها سكنت. قال: إنما ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقيتها كفّ عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: شفاء لا يغادر سقماً » ( ). وهذا يدل على أن اليهودي عنده رقية يقرأ بها، ويظهر من كلام ابن مسعود - رضي الله عنه وأرضاه - أنه لا يرى جواز رقية أهل الكتاب، حيث لم يستفسر من زوجته عن نوع الرقية التي كان يرقي بها، بل فسر ما تجده زوجته من الألم بسبب نخس الشيطان، وفسر سكون الألم بأن الشيطان يتعاون مع اليهودي، ويترك النخس والشياطين تتعاون مع الكهان والمشعوذين، لأجل إضلال الناس واستدراجهم إلى الشرك، وليست معرفة الرقى خاصة بأهل الكتاب، بل إن العرب في الجاهلية كانوا يعرفونها، كما روى الإمام مسلم في صحيحه عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن ضماداً ( ). قدم مكة وكان من أزد شنؤة وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمداً مجنون. فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي. قال فلقيه، فقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح، وأن الله يشفي على يدي من شاء ! فهل لك ؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: « إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: قال فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثلاث مرات. قال فقال: لقد سمعت مثل كلماتك هؤلاء ! ! ولقد بلغن ناعوس ( ) البحر. قال فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام. قال: فبايعه. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: وعلى قومك، فقال صاحب السرية للجيش هل أصبتم من هؤلاء شيئاً؟ فقال: رجل من القوم أصبت منهم مطهرة. فقال: ردوها ! فإن هؤلاء قوم ضماد ( )، فهذا ضماد كان يرقى من الريح، وهو في الجاهلية قبل إسلامه ». ومـن ذلك أيضاً ما رواه مسلم في صحيحه بسنده، عن أبي سفيان عن جابر، قال: نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن الرقى، فجاء آل عمرو بن حزم( ). إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالوا يا رسول الله: إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرقي قال فعرضوها عليه. فقال: «ما أرى بأساً، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل» ( ) وفي مسلم أيضاً عن ابن جبير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: كنا نرقي في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك ؟ فقال «اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك»( ). وفي هذا دلالة على أن رقية آل عمرو بن حزم، ورقية مالك الأشجعي، لم تكن متلقاة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما كانوا يعرفونها من قبل، وقد جربوها، فلما عرضت على الرسول، صلى الله عليه وسلم، لم ير بها بأساً، ولا شركاً، فرخص لهم فيها إلى غير ذلك من الأدلة التي لا أطيل بذكرها. ففيما ذكرنا كفاية – إن شاء الله تعالى -.   الفصل الأول علاقة البحث في الرقى بالاعتقاد وهل تنافي الرقية التوكل ؟ ! وينقسم إلى مبحثين: المبحث الأول: علاقة البحث في الرقى بالاعتقاد ؟ ! المبحث الثاني: هل تنافي الرقية التوكل المبحث الأول علاقة البحث في الرقى بالاعتقاد إن علاقة البحث في الرقى بالاعتقاد من عدة اعتبارات: أولاً: منها: أن بعض الرقى فيها الاستعاذة بغير الله، والاستغاثة بالجن ونحوها، والاستغاثة بالروحانيات مما يُضاد العقيدة، ويؤدي بالإنسان إلى الشرك، وهذه الرقى هي التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: بأنها من الشرك ! كما قال عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – "...كان مما حفظنا عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أن الرقى والتمائم والتولية من الشرك..."( ) وبيان الأمور الشركية المنافية لأصل التوحيد، أو كماله من مباحث العقيدة. ثانياً: ومنها أن بعض الناس يعتمد على الرقى اعتماداً كلياً، ويظن أنها مؤثرة بذاتها، ولم يقف بها عند مرحلة السببية التي لا تؤثر إلا بقدرة الله ومشيئته، كما قال شاعرهم: إذا مات لم تفلح مزينة بعده فنوطى عليه يا مزين التمائما( ) أي علقي عليه التمائم كي لا تصيبه المقادير، وهذا من الشرك! والرقى في معنى التمائم عند أهل الجاهلية والاعتماد على الأسباب اعتماداً كليَّاً يضاد التوكل الذي هو من صميم العبادة. ثالثاً: ومنها أن بعض الناس يظن أن الرقية هي الشافية، وهذا معارض للعقيدة الصحيحة التي ذكرها الله في كتابه، وعلى ألسنة رسله، وبينها إبراهيم الخليل – عليه السلام – في محاجته لقومه، قال سبحانه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُـوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. [الشعراء، الآيات: 69-80]. فالله عز وجل هو الشافي، وكما بينها خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في صحيح البخاري: " أن عبد العزيز قال دخلت أنا وثابت على أنس بن مالك، فقال ثابت: يا أبا هريرة اشتكيت ! فقال أنس ألا أرقيك برقية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال بلى. قــال: « اللهم رب الناس، مذهب الباس، اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت شفاء لا يغادر سقماً » ( ). وفي البخاري أيضاً عن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يُعوّذ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى ويقول: اللهم رب الناس، اذهب الباس، واشفه وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً. وعنها أيضاً كان يرقي يقول: امسح الباس، رب الناس بيدك الشفاء لا كاشف له إلا أنت ( ) رابعاً: ومنها أن بعض العلماء كره الرقى ظاناً أنها تنافي التوكل، كما سيأتي، ولأجل هذا كان البحث في الرقى بحثاً عقدياً، ومن أهل العلم الذين اهتموا بتحقيق التوحيـد وتصفيتــه من شوائب الشرك من تكلموا على مسائل الرقى في كتب التوحيد ( ). ومن ذكرها من أهل العلم في كتب الطب كالبخاري، وابن القيم مثلاً إنما لاحظ فيها ملحظ التداوي بالرقى المشروعة. وأما الرقى الشركية والبدعية، فموضوع البحث فيها من اختصاص كتب العقائد. المبحث الثاني هل تنافي الرقية التوكل ؟ ! كره بعض أهل العلم التداوي بالرقى، وبالكي، وبوب على ذلك الإمام البخاري، فقال: باب من لم يرق. وروى فيه بسنده عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: خرج علينا النبي، صلى الله عليه وسلم، يوماً فقال: «عرضت عليّ الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي، ليس معه أحد. ورأيت سواداً كثيراً سد الأفق فرجوت أن تكون أمتي، فقيل هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، فتفرق الناس ولم يبين لهم، فتذاكر أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك، ولكنا أمنا بالله ورسوله، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا، فبلغ النبي- صلى الله عليه وسلم-، فقال: هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون. فقام عكاشة بن محصن، فقال: أمنهم أنا يا رسول الله ؟ قال: نعم! فقام آخر فقال: أمنهم أنا؟ فقال: سبقك بها عكاشة»( )!! يقول ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث "...فتمسك بهذا الحديث من كره الرقى والكي. من بين سائر الأدوية، وزعم أنهما قادحان في التوكل دون غيرهما، وأجاب العلماء عن ذلك بأجوبة أحدها: قاله: الطبري والمازري، وطائفة أنه محمول على من جارى( ) اعتقاد الطبائعيين في أن الأدوية تنفع بطبعها، كما كان أهل الجاهلية يعتقدون. وقال غيره: الرقى التي يحمد تركها ما كان من كلام الجاهلية، ومن الذي لا يعقل معناه، لاحتمال أن يكون كفراً، بخلاف الرقى بالذكر ونحوه، وتعقبه عياض وغيره بأن الحديث يدل على أن للسبعين ألفاً مزية على غيرهم، وفضيلة انفردوا بها عمن شاركهم في أصل الفضل والديانة. ومن كان يعتقد أن الأدوية تؤثر بطبعها أو يستعمل رقى الجاهلية ونحوها فليس مسلماً ! فلم يسلك هذا الجواب. ثانيها: قال الداودي وطائفة: إن المراد بالحديث الذين يجتنبون فعل ذلك في الصحة خشية وقوع الداء. وأما من يستعمل الدواء بعد وقوع الداء به، فلا ! وقد قدمت هذا عن ابن قتيبة وغيره في باب من اكتوى، وهذا اختيار ابن عبد البر، غير أنه معترض بما قدمته من ثبوت الاستعاذة قبل وقوع الداء. ثالثها: قال الحليمي: يحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المذكورين في الحديث من غفل عن أحوال الدنيا وما فيها من الأسباب المعهودة لدفع العوارض، فهم لا يعرفون الاكتواء، ولا الاسترقاء، وليس لهم فيما يعتريهم إلا الدعاء والاعتصام بالله والرضا بقضائه، فهم غافلون عن طب الأطباء، ورقى الرقاة، ولا يحسنون من ذلك شيئاً. والله أعلم. رابعها: أن المراد بترك الرقى والكي الاعتماد على الله في دفع الداء والرضا بقدره، لا القدح في جواز ذلك، لثبوت وقوعه في الأحاديث الصحيحة، وعن السلف الصالح، لكن مقام الرضى والتسليم أعلى من تعاطي الأسباب، وإلى هذا نحا الخطابي ؟ ومن تبعه. قال ابن الأثير: هذا من صفة الأولياء المعرضين عن الدنيا وأسبابها، وعلائقها، وهؤلاء هم خواص الأولياء، ولا يرد على هذا وقوع ذلك من النبي- صلى الله عليه وسلم-، فعلاً وأمراً، لأنه كان في أعلى مقام العرفان ودرجات التوكل. فكان ذلك منه للتشريع، وبيان الجواز، ومع ذلك فلا ينقص ذلك من توكله، لأنه كامل التوكل يقيناً، فلا يؤثر فيه تعاطي الأسباب شيئاً بخلاف غيره ( ). وقال النووي بعد ذكره لمعنى قول الخطابي المتقدم: والظاهر من معنى الحديث ما اختاره الخطابي، ومن وافقه كما تقدم. وحاصله أن هؤلاء كمل تفويضهم إلى الله - عز وجل - فلم يتسببوا في دفع ما أوقعه بهم، ولا شك في فضيلة هذه الحالة، ورجحان صاحبها. وأما تطبب النـبي - صلى الله عليه وسلم- ففعله ليبين لنا الجواز ( ).اهـ. قلت: لعل مراد الخطابي وابن الأثير والنووي مدح الذين يتركون أسباب التداوي المكروهة فقط. وليس مرادهم بأن الأولياء يتركون تعاطي جميع الأسباب فإن ترك جميع الأسباب، قدح في الشرع، ومخالف للعقل، والشرع، والمتصوفة الذين يقرّرون ذلك نظرياً يخالفونه عمليّاً ! فنرى أحدهم يتناول الطعام والشراب واللباس ونحو ذلك مما يحفظ حياته. يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب عند شرحه لحديث السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب: "واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلاً كما يظنه الجهلة، فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه، حتى الحيوان البهيم، بل نفس التوكل مباشــرة لأعظـم الأسباب، كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق، الآية: 4]. أي: كافيه. إنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها توكلاً على الله، كالاسترقاء والاكتواء، فتركهم له ليس لكونه سبباً لكن لكونه سبباً مكروهاً، لا سيما والمريض يتشبث بما يظنه سبباً لشفائه بخيط العنكبوت. أما مباشرة الأسباب نفسها، والتداوي على وجه لا كراهية فيه، فغير قادح في التوكـل، فلا يكون تركه مشروعاً، كما في " الصحيحين "، عن أبي هريرة مرفوعاً: « ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء » ! وعن أسامة ابن شريك قال: كنت عند النبي- صلى الله عليه وسلم- وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله ! أنتداوى ؟ فقال: نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله – عز وجل – لم يضع داءاً إلا وضع له شفاء، غير داء واحد قالوا: ما هو ؟ قال، " الهرم". [رواه أحمد]. قال ابن القيم: " فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها والأمر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقدح في مباشرته في التوكل نفسه، كما يقدح في الأمر والحكمة، يضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى من التوكل فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، و إلا كان معطلاً للأمر والحكمة و الشرع ! فلا يجعل عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً " ( ). قلت: وأما ترك التداوي فقد ثبت فيه حديث المرأة التي كانت تصرع، فقال لها رسول الله، صلى الله عليه وسلم: « إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك فقالت أصبر. .. ». الحديث ( ). قال: ابن حجر، وفي الحديث فضل من يصرع، وأن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة. وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة، ولم يضعف عن التزام الشدة. وفيه دليل على جواز ترك التداوي ( ) وقد اختلف العلماء في التداوي هل هو مباح وتركه أفضل أو مستحب أو واجب ؟ فالمشهور عن أحمد الأول، لهذا الحديث، وما في معناه، والمشهور عند الشافعي الثاني، ومذهب أبو حنيفة أنه مؤكد حتى يداني به الوجوب، ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ليس بواجب عند جماهير الأئمة، إنما أوجبه طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد ( ). قلت الذي يظهر لي – والله أعلم – أن الأمراض تختلف، فبعضها يغلب على الظن أن علاجه ميسور وتركه يؤدي على التلف، كرجل دخلت في عينه شوكة نصفها بارز ونصفها داخل عينه، ويسهل نزعها، ورجل انقطع بعض عروقه فهو ينزف دماً، وخياطته ميسورة، ويغلب على الظن نجاحها. ففي مثل هذه الحالات، وما شاكلها أرى أنه يجب عليه التداوي، وإن ترك التداوي في مثل هذا من الإلقاء باليد إلى التهلكة، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- عالج ما به من جراحات في غزوة أُحد. وكذلك صحابته في سائر الغزوات، ولم يترك أحد منهم جراحاته تنزف توكلاً بخلاف مرض الصرع ونحوه، فلا ينبغي للإنسان أن يطلب من غيره رقية والفائدة مظنونة غير راجحة. وقد تكون الفائدة والشفاء راجحاً، ولكن يرجو المريض ما هو أنفع له في الحياة الدنيا، كما في قصة المرأة المصروعة. وسوف يأتي. ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية، بأن الرقية إذا فعلها الإنسان بنفسه أو بغيره فإنها لا تنافي التوكل، لثبوت ذلك عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثبوتاً لا شك فيه. وإن الذي ينافي تمام التوكل هو طلب الرقية من الناس، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه آنفاً: ولا يسترقون: أي لا يطلبون الرقية من الناس. وما ورد في صحيح مسلم من رواية سعيد بن منصور، بأنهم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ( ). فقد قرر ابن تيمية بأنه غلط منه، إذ قــال: " وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: « يدخل الجنة من أمتي الجنة سبعون ألفاً بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، فهؤلاء من أمته وقد مدحهم بأنهم لا يسترقون »، والاسترقاء أن يطلب من غيره أن يرقيه، والرقية من نوع الدعاء، وكان- صلى الله عليه وسلم- يرقي نفسه وغيره، ولا يطلب من أحد أن يرقيه. ورواية من روى في هذا لا يرقون ضعيفة غلط. فهذا مما يبين حقيقة أمره لأمته بالدعاء أنه ليس من باب سؤال المخلوق للمخلوق الذي غيره أفضل منه، فإن من لا يسأل الناس بل لا يسأل إلا الله أفضل ممن يسأل الناس " ( ).اهـ وقال في موضع آخر: قوله: « إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله » هو من أصح ما روي عنه، وفي المسند لأحمد أن أبا بكر الصديق كان يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد ناولني إياه ! ويقول: إن خليلي أمرني أن لا أسأل الناس شيئاً. وفى صحيح مسلم عن عوف بن مالك، أن النبي- صلى الله عليه وسلم- بايع طائفة من أصحابه، وأسرّ إليهم كلمة خفية أن لا تسألوا الناس شيئاً. قال عوف: فقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد ناولني إياه. وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: « يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، وقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ». فمدح هؤلاء بأنهم لا يسترقون: أي لا يطلبون من أحد أن يرقيهم، والرقية من جنس الدعاء، فلا يطلبون من أحد ذلك. وقد روى فيه، ولا يرقون وهو غلط، فإن رقياهم لغيرهم، ولأنفسهم حسنة، وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يرقي نفسه وغيره، ولم يكن يسترقي فإن رقية نفسه وغيره من جنس الدعاء لنفسه ولغيره، وهذا مأمور به فإن الأنبياء كلهم سألوا الله ودعوه كما ذكر الله ذلك في قصة آدم وإبراهيم وموسى وغيرهم ( ). وقد ذكر ابن حجر قول شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا وذكر أن هناك من تعقبه لأجل تضعيفه لرواية سعيد بن منصور في مسلم، إذ قال: وقد أنكر الشيخ تقي الدين بن تيمية هذه الرواية، وزعم أنها غلط من راويها، واعتلّ بأن الراقي يحسن إلى الذي يرقيه، فكيف يكون ذلك مطلوب الترك ؟ وأيضاً فقد رقى جبريل النبي،- صلى الله عليه وسلم-، ورقى النبي أصحابه وأذن لهم في الرقى. وقال:« من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل»، والنفع مطلوب قال: وأما المسترقي فإنه يسأل غيره ويرجو نفعه، وتمام التوكل ينافي ذلك. قال وإنما المراد وصف السبعين بتمام التوكل، فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم ولا يتطيرون من شيء، وأجاب غيره بأن الزيادة من الثقة مقبولة وسعيد بن منصور حافظ، وقد اعتمده البخاري ومسلم، واعتمد مسلم على روايته هذه، وبأن تغليط الراوي مع إمكان تصحيح الزيادة لا يصار إليه، والمعنى الذي حمله على التغليط موجود في المسترقي لأنه اعتل بأن الذي لا يطلب من غيره أن يرقيه تام التوكل، وكذا يقال له: والذي يفعل غيره به ذلك ينبغي أن لا يمكنه لأجل تمام التوكل، وليس وقوع ذلك من جبريل دلالة على المدعى، ولا في فعل النبي،-صلى الله عليه وسلم-، له أيضاً دلالة، لأنه في مقام التشريع وتبيين الأحكام( ) ومن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وكلام ابن حجر الذي لم يعين قائله، وإنما يشعر القارئ بأن هذا مذهبه، يتضح أن ابن تيمية يرى أن المنافي لتمام التوكل هو طلب الإنسان من غيره أن يرقيه. وأما ابن حجر ومعه بعض العلماء الذين سبق ذكر أقوالهم فيذهبون إلى أن الرقية والاسترقاء بمعنى واحد، وأن تركها من تمام التوكل. وأما فعل جبريل، عليه السلام، وفعل الرسول، -صلى الله عليه وسلم-، فإنه لا ينافي توكلهما لأنهما إنما فعلا ذلك لأجل التشريع، وبيان الجواز. وممن انتصر لما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وضعّف رواية مسلم عن سعيد بن منصور الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، فقد قال بعد أن ذكر اعتراض ابن حجر على ما ذهب إليه شيخ الإسلام: " كذا قال هذا القائل وهو خطأ من وجوه: الأول: أن هذه الزيادة لا يمكن تصحيحها إلا بحملها على وجوه لا يصح حملها عليها، كقول بعضهم المراد لا يرقون بما كان شركاً أو احتمله فإنه ليس في الحديث ما يدل على هذا أصلاً، وأيضاً فعلى هذا لا يكون للسبعين مزية على غيرهم، فإن جملة المؤمنين لا يرقون بما كان شركاً. الثاني: قوله فكذا يقال.. إلخ لا يصح هذا القياس. فإنه من أفسد القياس وكيف يقاس من سأل وطلب على من لم يسأل ! مع أنه قياس مع وجود الفارق الشرعي فهو فاسد الاعتبار، لأنه تسوية بين ما فرق الشارع بينهما بقوله: «من اكتوى أو استرقى فقد برىء من التوكل» . رواه أحمد والترمذي وصححه ابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم أيضاً ( ). وكيف يجعل ترك الإحسان إلى الخلق سبباً للسبق إلى الجنان ! وهذا بخلاف من رقى أورُقي من غير سؤال، فقد رقى جبريل النبي، صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يقال: إنه عليه السلام، لم يكن متوكلاً في تلك الحال. الثالث: قوله: ليس في وقوع ذلك من جبريل عليه السلام،.. إلخ كلام غير صحيح، بل هما سيدا المتوكلين، فإذا وقع ذلك منهما دل على أنه لا ينافي التوكل فأعلم ذلك " ( ). قلت وممن ضعّف رواية سعيد بن منصور في صحيح مسلم الشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني، وقال عنها: بأنها شاذة سنداً ومتناً ( ). والذي يظهر لي - والله أعلم - أن القول الراجح هو ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن معه. بأن التداوي بالرقى لا ينافي التوكل، لأن فعل الرسول، صلى الله عليه وسلم، وكذلك خيار الصحابة – رضوان الله عليهم – لا يدل على مجرد الرخصة فحسب بل يدل على أن من رقى غيره من غير طلب منه كما رقى جبريل، عليه السلام، رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أو رقى نفسه كما فعل الرسل، صلى الله عليه وسلم، بنفسه فإنه محسن إلى غيره وإلى نفسه، وأنه لا ينقص بهذا تمام توكله بخلاف الذي يطلب من غيره رقيته فإن الأفضل للمريض أن لا يطلب إلا من الله ولا ينزل حاجته إلا بالله، وعلى هذا يحمل الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن عطاء بن أبي رباح، قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة قلت بلى ! قال هذه المرأة السوداء أتت النبي، صلى الله عليه وسلم قالت إني أُصرع وإني أتكشف فادع الله لي، قال: إن شئت صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شئت دعوتُ الله أن يعافيك فقالت: أصبر. فقالت: إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف فدعا لها، قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث، وقد أخرج البزار وابن حبان من حديث أبي هريرة شبيهاً بقصتها، ولفظه جاءت امرأة بها لمم إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقالت ادع الله فقال: إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت صبرت. ولا حساب عليك. قالت بل أصبر ولا حساب عليَّ ( ) وهذا يوافق حديث السبعين الذين يدخلون الجنة بغير حساب الذي تقدم آنفاً. وفيه أنهم لا يسترقون، فأرشدها الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى الأفضل وهو ترك الاسترقاء حتى تدخل الجنة بغير حساب. ولعل الرسول، -صلى الله عليه وسلم-، قد علم من حالها قوة صبرها واحتمالها حيث إنه، عليه السلام، لم يقل هذا القول لكل من طلب منه الرقية، ولا يرد على هذا أنها طلبت من الرسول،- صلى الله عليه وسلم-، أن يدعو لها بأن لا تتكشف لأن هذا ليس من طلب الاسترقاء الذي ينافي تمام التوكل بل هو من طلب الستر وحفظ عورتها لئلا يراها الناس، فهذا لا يرجع بفائدة على بدنها، وإنما يرجع بالفائدة على دينها، فلا تريد أن تكون فتنة لأحد – فرضي الله عنها – ما أفقهها حيث اختارت الصبر والستر، ولا يعكر على هذا قول الرسول، -صلى الله عليه وسلم-، أم سلمة لما رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة، فقال استرقوا لها فلأن بها النظرة ( )، ولا قول عائشة – رضي الله عنها – كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم يأمرني أن استرقي من العين ( ). فلعل هذا مخصوص من العموم، بقول الرسول،- صلى الله عليه وسلم- « لا رقية إلا من عين أو حمة » ( )، أي لا رقية أنفع ( ). فلأجل عظم نفع الرقية بإذن الله في العين والحمة( ) رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب الرقية، ولا ينافي هذا تمام التوكل، وبهذا يتم الجمع بين الأدلة ويحمل كل حديث على معنى صحيح، والله تعالى أعلم. فالحاصل أن التداوي بالرقى من كتاب الله، ومن سنة رسوله، -صلى الله عليه وسلم-، لا يتنافى مع التوكل، لأن الله – عز وجل – جعل الرقى سبباً في دفع مكروهات كثيرة على لسان رسوله، -صلى الله عليه وسلم-، وقد تواتر فعل الرسول، صلى الله عليه وسلم، للرقية ولإقراره لغيره من صحابته – رضوان الله عليهم – كما سبق، وكما سيأتي من الأدلة الكثيرة في ثنايا هذا المبحث، وتعاطي الأسباب التي جعلها الله أسباباً بنصوص الوحي لا يقدح في التوكل إذا كان الاعتماد على الله لا على السبب كما روى عن الرسول-صلى الله عليه وسلم- أنه قال لمن قال أعقلها وتوكل أو أطلقها وتوكل قال «اعقلها وتوكل» ( ). ولفضيلة الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كلام نفيس حول الأسباب المشروعة والممنوعة وضوابطها جاء فيه: " وكل سبب لم يأذن به الله باطل مضر لمتخذه فلا يتعاطى. وإذا حقق المؤمن أن الله سبحانه رب كل شيء وخالقه ومليكه فإنه لا ينكر ما خلقه الله تعالى من الأسباب، كما جعل المطر سبباً للنبات ". قال الله تعالى: وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وجعل الشمس والقمر سببين لما يخلقه بهما والدعاء سبباً لما يحصل للمدعو له أو عليه، والدواء سبباً لذهاب الداء، قد نبه على ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: « لم ينزل الله داء إلا أنزل له شفاء ». يعني دواء علمه من علمه وجهله من جهله، رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث أسامة بن شريك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي لفظ: « إن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء أو شفاء إلا داء واحداً ». قالوا: يا رسول الله وما هو ؟ قال «الهرم» . وهذا يعم داء القلب والروح والبدن وأدويتها. فقد أرشد- صلى الله عليه وسلم- العرنيين لما شكوا له الوخم ووجع البطن أن يلحقوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها وجعل الجهل داء ودواؤه سؤال العلماء. قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في قصة صاحب الشجة: «قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال». كما أن وجود الداء سبب للألم، روى مسلم في صحيحه من حديث سهل بن حنيف عن النبي -صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العين حق ولو أن شيئاً سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا». وكذا السحر قال تعالى فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. فهو سبب لألم الفؤاد، ويوجب البغضاء والفرقة بين الزوجين، والنار سبب للإحراق، والسكين سبب للقطع، والحبل سبب لإظهار الماء في الدلو، وأكل الطعام سبب لذهاب ألم الجوع، وشرب الماء سبب لذهاب ألم العطش، والكدح بالاجتهاد في تحصيل العلم سبب للفهم، والمتاجرة بالمال سبب لفائدة الربح، وطاعة الله سبب لرضائه ورحمته، ومعصيته سبب لفائدة الربح، وطاعة الله سبب لرضائه ورحمته، ومعصيته سبب لسخطه وانتقامه، فالأسباب المنصوص عليها لا تنكر، ولا يتكل عليها إذ في إنكارها نقص في العقل، وفي الاتكال عليها شرك في الدين، وكل من الإنكار والاتكال كمنتف شرعاً، لكن قد يتخلف المسبب عنه مع قيام السبب، إذ الضار والنافع والمعطي والمانع هو الله وحده. قال تعالى: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. وقال تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى. وكتخلف إحراق النار عن إبراهيم، عليه السلام، حين وضع فيها، وحدة السكين حين أمرها الخليل على حلقوم ولده إسماعيل، عليهما السلام، ولا محيص عن الأخذ في الأسباب، فليس المتوكل من فتح للسارق الباب، ولا من قال أنا متوكل استغني عن الطعام والشراب. قال أفضل الأحباب لمن سأل أيعقل الناقة أم يتكل ؟ ! قال: «اعقلها وتوكل». وأفضل المتوكلين أشد عباد الله حرصاً على فعل الأسباب، فقد أمر بإطفاء السراج والتسمية وإغلاق الأبواب، ونفض الفرش وطي الثياب، وحفظ الصبيان أول الليل لانتشار الشياطين، وهذا الباب لا يحصيه العادّون من سنن المرسلين، فالأخذ فيها لا ينافي التوكل لأنه الانقطاع عن جميع الخلق، وتفويض الأمور إلى الملك الحق وحده. وحينئذ فلا بد أن يعرف فيها ثلاثة أمور: إحداها: أنها لا تستقل بالمطلوب، بل تتعاطى عن غير ركون إليها، ومع هذا فلها موانع، فإن لم يكمل الله الأسباب ويدفع الموانع لم يحصل المقصود، وهو سبحانه ما شاء كان وإن لم يشأ الخلق، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الخلق. الثاني: أنه غير جائز اعتقاد أن الشيء سبب إلا بعلم، فمن أثبت شيئاً سبباً بلا علم أو بما يخالف الشريعة كان مبطلاً في إثباته آثماً في اعتقاداته. الثالث: أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يتخذ شيء منها سبباً إلا أن يكون مشروعاً، إما استحباباً أو مأذوناً فإن العبادات مبناها على التوقيف، فلا يجوز للإنسان أن يشرك بالله ما لم ينزل به سلطاناً، وأن يقول على الله بلا علم، فيدعو غير الله بما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه وتعالى، وإن ظن ذلك سبب في حصول غرضه لاعتقاده أن ذلك المدعو يشفع له فيما دعاه فيه، لأنه جنس ما اعتقده الأولون في آلهتهم، وكذلك لا يجوز أن يعبد الله بالبدع المخالفة للشريعة، وإن ظن أن ذلك سبب في حصول ما يطلبه من أغراض دنياه أو ثواب أخراه على زعم اعتقاده، فإن لشياطين قد تعين الإنسان على بعض مقاصده إذ المفسدة الحاصلة بذلك أعظم من المصلحة الحاصلة به، والرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما بعث لتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، فما أمر الله به فمصلحته راجحة وما نهى عنه فمفسدته راجحة. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ من ذلك: قول المحرمات وقول السخريات ليتوصل بها إلى تحصيل شيء من أمتعة الدنيا أو القرب لدى ملك من ملوكها، قال تعالى: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ. وكل شرك زور ولا عكس وقال تعالى: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ. ومنه: التداوي بالمحرمات فلم يجعل الله الشفاء فيما حرمه، بل نزعه عنه وأوهنه، والبدع التي ليست من شريعة الإسلام في شيء بل هي من شعب الشرك الظاهرة، كأتربة أضرحة القبور لا يحل استعمالها أدوية، ولا تعاطيها لما في استعمالها من الاعتقادات الباطلة، والمفاسد في الدين الظاهرة، فهي أشبه بما فعله المشركون الأولون بآلهتهم من تعظيم الأصنام والتبرك والتمسح بها في كل مشهد خاص وعام. ومنه: ما اعتني به بعض الأغبياء الجهّال وعوام الضلال دعوتهم بدعاء تمخيشاً وتمشيشاً ودعوتهم في الشدائد بأسماء أصحاب الكهف، وشمبخ وغيرهم، وبالدعوات المجهولات يزعمون أن هذه من الأسماء العظام والأدعية المستجابات، وأنه من الإنجيل والتوراة، فكل هذا من تلبيس إبليس على هؤلاء الجند الذين اختاروه واختارهم، فلسنا ملتزمين في شريعتنا – ملة الإسلام – بتلك الأدعية في الصباح والمساء، ولم يقل أحد من العلماء الأدباء، بل الأغبياء السفهاء من القصاص اختاروها لتعزيز العوام وجمع الحطام، فلم يعاملوا الله بالإخلاص، قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا. وأما الأسماء المنهي عنها، فإن الشيطان يظهر تأثيرات ويوري تلبيسه فيها منافع ظاهرة في أكثر الأحيان وهي حسرات، بل قد يكون التلفظ بتلك الكلمات كفراً لا يعرف معناها بالعربية. قال تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ. وكل واسطة أو وسيلة نهى الشارع عنها لا يجوز اتخاذها في جلب نفع أو كشف ضر. قال سبحانه وتعالى: وَلَا تَـدْعُ مـــِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُــكَ وَلَا يَضُرُّكَ. الآية. وقال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ. وقال تعالى: فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا. قال قتادة كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا، فأمر الله المسلمين أن يخلصوا له الدعوة إذا دخلوا مساجدهم، وقال سعيد بن جبير المساجد الأعضاء التي يقع عليها السجود مخلوقة لله، فلا تسجدوا عليها لغيره في كل ما يريد إبداءه من خير ينفعه أو ضر يضره. قال تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ. وقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ. أي لا أحد، فلا يدانيه سبحانه أحد، ولا يستقل سواه تعالى بما أراده، ولا يعطي لما منعه، فهذه الأسباب التي تتخذ وسائط ووسائل في الجلب والدفع اللذين لا يقدر عليهما إلا الله وحده منفية بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، إلا أسباباً وردت عن الله أو رسوله كالتوحيد والصلاة بحضور قلب وخشوع، وذل وانكسار، والدعاء على ألا يعود إليه، والأعمال الصالحة من صدقة وصلة رحم وطاعة الله وتقواه، فهي الأسباب في جلب الخير، ودفع الشر، كما صرح به القرآن الكريم والسنة ( ). الفصل الثاني مشروعية الرقية وأنواعها أ- رقية لدفع البلاء قبل وقوعه ب- رقية لدفع البلاء بعد وقوعه الرقية مشروعة بإجماع إذا تحققت فيها شروط معلومة. قال ابن حجر: وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى وبأسمائه وصفاته وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى( ). قلت والذي يظهر لي أن هذا الإجماع لا ينتقض بما بوبه البخاري في صحيحه، باب من لم يرق وأورد فيه حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب. وهم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون( ). لأن طلب الرقية من أشخاص غير فعل الرقية بالنفس، والاسترقاء غير الرقية، ولفظة لا يرقون شاذة في الحديث، كما ذكرت أقوال أهل العلم فيها في الفصل السابق، وحتى الذين كرهوا الرقى إنما كرهوها مع الجواز، وليس مع التحريم، وبالتالي يكون الإجماع سالماً من المعارضة. والله تعالى أعلم. والأحاديث الدالة على جواز الرقية كثيرة جداً، فقد رقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه كما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بـ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. وبالمعوذتين جميعاً، ثم يمسح بهما وجهه، وما بلغت يداه من جسده ( ). وقد أمر غيره بالرقية كما روى البخاري في صحيحه عن أم سلمة – رضي الله عنها – أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة ( ). فقال استرقوا لها فإن بها النظرة ( ). وفعله -صلى الله عليه وسلم- بغيره كما روى البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – قالت كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعوذ بعضهم يمسحه بيمينه أذهب البأس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً ( ). وأقر عليه الصلاة والسلام، وغيره على فعل الرقية، كما روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد – رضي الله عنه – أن رهطاً من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، انطلقوا في سفرة سافروها حتى نزلوا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم فلُدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء. فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين قد نزلوا بكم لعله أن يكون عند بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين قد نزلوا بكم لعله أن يكون عند بعضهم شيء فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ فسعينا له بكل شيء لا ينفعه شيء ؟ فهل عند أحدكم شيء فقال بعضهم نعم والله إني لراق، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا ! فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً فصالحوهم على قطيع من الغنم فانطلق فجعل يتفل ويقرأ الحمد لله رب العالمين حتى لكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي ما به قلبه، قال فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسموا ! فقال الذي رقى لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فنذكر الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فذكــروا له فقال وما يدريك أنها رقية أصبتم ! اقسموا واضربوا لي معكم بسهم ( ) فإذا تقررت مشروعية الرقية بالإجماع المبني على الأحاديث الصحاح المتكاثرة التي مر كثير منها فإن الرقية تنقسم إلى قسمين وهما: أ- رقية لدفع البلاء بعد وقوعه ومن أدلتها: 1- عن عائشة روج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت كان إذا اشتكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رقاه جبريل، عليه السلام، قال: " بسم الله يبريك ومن كل داء يشفيك ومن شر حاسد إذا حسد وشر كل ذي عين ". 2- عن أبي سعيد أن جبريل، عليه السلام، أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد اشتكيت. قال نعم ! قال: " بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك ". 3- وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذتين، فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه لأنها كانت أعظم بركة من يدي. 4- وعن عثمان بن أبي العاص الشقفي – رضي الله عنه – أنه شكا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ضع يدك على الذي تألم من جدك، وقل « بسم الله ثلاثاً وقل: سبع مرات أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر» ( ). وغير هذه الأحاديث كثير في مثل هذا المعنى. ب- رقية لدفع البلاء بعد وقوعه ومن أدلتها: 1- ما رواه البخاري في صحيحه، عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال كان النبي -صلى الله عليه وسلم، يعوذ الحسن والحسين، ويقول: إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق، أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامّة، ومن كل عين لامّة ( ). 2- ما رواه البخاري في صحيحه أيضاً، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفت فيهما قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات ( ) 3- وما رواه مسلم في صحيحه، قال -صلى الله عليه وسلم- «إذا نزل أحدكم منزلاً فليقل أعوذ بكلمات الله التامّات من شر ما خلق، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل منه» ( ). 4- ما رواه الإمام أحمد عن عثمان بن عفان – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «من قال في أول يومه أو في أول ليلته بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، ثلاث مرات، لم يضره شيء في ذلك اليوم أو في تلك الليلة» ( ). وغير هذه الأحاديث كثير في المعنى نفسه. الفصل الثالث هل الرقي توقيفية ؟ وهل يرقى من كل داء ؟ لا شك أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- علّم أمته كثيراً من الرقى النافعة، من القرآن الكريم، ومن الأدعية، وذكر أعداداً وهيئات وصفات في الرقية والراقي، وزمان الرقية، كما سيأتي. وما كان هذا شأنه فلا يجوز الزيادة عليه ولا النقص منه، ولا ذكر وقت لم يقله الرسول- صلى الله عليه وسلم- فما ذكر الرسول، صلى الله عليه وسلم، أنه يقرأ سبع مرات لا يجوز أن نجعلها ثلاث عشرة أو نحو ذلك، وما قال يقال في أول الليل مثلاً أو إذا آوى الإنسان إلى فراشه، لا يجوز أن نجعله في الظهيرة أو بعد صلاة العصر، لأن الزيادة أو النقص في هذا الأمر استدراك على الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو لا ينطق عن الهوى، بأبي هو وأمي. وأما إذا جرب إنسان رقية غير التي وردت عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- فتبين له فائدتها ولم يكن فيها محذور من المحاذير الشرعية التي سوف تأتي في ضوابط الرقية الصحيحة من هذا البحث، فالظاهر – والله أعلم – جوازها وذلك لما يلي: أولاً: أن التداوي بالرقى من جنس التداوي بالأدوية الطبيعية المركبة من الأعشاب ونحو ذلك، وهذه مبنية على التجربة البشرية ويستفيد فيها الناس بعضهم من بعض، وهي من جنس الزراعة والصناعة, ولا تتوقف معرفته على التلقي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كما روى الإمام مسلم في صحيحه عن موسى بن طلحه عن أبيه. قال مررت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بقوم على رؤوس النخل. فقال ما يصنع هؤلاء ! فقالوا: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما أظن يغني ذلك شيئاً، قال فأخبروا بذلك فتركوه. فأخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذلك. فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًّا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله – عز وجل ( ) -. وعن أنس – رضي الله عنه – أن النبي- صلى الله عليه وسلم- مرّ بقوم يلقحونه فقال: لو لم تفعلوا لصلح ! قال فخرج شيصاً( ). فمر بهم قال: ما لنخلكم ؟ قالوا قلت كذا وكذا، قال أنتم أعلم بأمر دنياكم( ) فقي هذا دلالة على أن ما يتعلق بأمر الدنيا من طب الأبدان والزراعة والصناعة ونحو ذلك يؤخذ من التجربة والاجتهاد البشري، وما أخبر به الرسول- صلى الله عليه وسلم- في هذا المجال أيضاً ولم يستثن فهو حق فإن الرسول تكلم في الرقى وفي الأدوية كثيراً، وكلامه كله حق، وليس كلامه في الطب من جنس كلامه في تأبير النخل لأنه، صلى الله عليه وسلم، لم يقر على ظنه في تأبير النخل، ولأجل هذا استدرك وأمرهم من نص الحديث المتقدم. يقول ابن حجر في شرحه للحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: « الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام ». وقال الخطابي: قوله من كل داء هو من العام الذي يراد به الخاص، لأنه ليس في طبع شيء من النبات ما يجمع الأمور التي تقابل الطبائع في معالجة الأدواء بمقابلها، وإنما المراد أنها شفاء من كل داء يحدث من الرطوبة. وقال أبو بكر بن العربي: " العسل عند الأطباء أقرب إلى أن يكون دواء من كل داء من الحبة السوداء"، ومع ذلك فإن من أمراض من لو شرب صاحبه العسل لتأذى به، فإن كان المراد بقوله في العسل فيه شفاء للناس الأكثر الأغلب فحمل الحبة السوداء على ذلك أولى. وقال غيره: كان- صلى الله عليه وسلم- يصف الدواء بحسب ما يشاهده من حال المريض. فلعل قوله في الحية السوداء: وافق مرض من مزاجه بارد فيكون معنى قوله شفاء من كل داء أي من هذا الجنس الذي وقع القول فيه، والتخصيص بالحيثية كثير شائع، والله أعلم. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: تكلم الناس في هذا الحديث وخصّوا عمومه وردوه إلى قول: أهل الطب والتجربة ولا خفاء بغلط قائل ذلك، لأن إذا صدقنا أهل الطب ومدار علمهم غالباً إنما هو على التجربة التي بناؤها على ظن غالبا، فتصديق من لا ينطق عن الهوى أولى بالقول من كلامهم( ). قلت ما أحسن قول ابن أبي جمرة هذا فإنه هو الذي يدل عليه الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد – رضي الله عنه – أن رجلاً أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: أخي يشتكي بطنه، فقال. اسقه عسلاً. ثم أتاه الثانية، فقال: اسقه عسلاً. ثم أتاه الثالثة، فقال: اسقه عسلاً، ثم أتاه فقال فعلت. فقال صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلاً فسقاء فبرأ( ). قلت فمن هذا يظهر أن ما نص عليه الرسول- صلى الله عليه وسلم- من الأدوية والرقى مقدم على التجربة، وما لم ينص عليه- صلى الله عليه وسلم- جاز أن نأخذ فيه بالتجربة البشرية ما لم يكن هناك مانع شرعي، كما سيأتي في ضوابط الرقية الصحيحة. ثانياً: لقد ورد عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- عدة أحاديث تدلّ على أنه أقر بعض الصحابة على رقية تعلموها من غيره- صلى الله عليه وسلم- لما تبين له عليه الصلاة والسلام، بأنها خالية من الشرك. من ذلك: 1- ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن جريح قال: وأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: " رخص النبي، صلى الله عليه وسلم، لآل حزم في رقية الحية " وقال أبو الزبير: وسمعت جابر بن عبد الله يقول: لدغت رجلاً منّا عقرب ونحن جلوس مع رسول الله، فقال رجل: يا رسول الله أرقي. قال: « من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل »( ). 2- وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: " كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا يا رسول الله كيف ترى في ذلك ؟ فقال أعرضوا عليّ رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك ( ). وفي هذا دلالة على جواز الرقية المتلقاة بالتجربة ما لم تشتمل على الشــرك، لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يقل لعوف بن مالك من علمك الرقية ؟ ! ولم يقل له لا يجوز أن تأخذ رقية إلا من الكتاب والسنة ! وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما هو مُقرر في موضعه، ولو كان تعلم الرقى مسدوداً إلا من طريق الوحي لما طلب منهم، عليه الصلاة والسلام، أن يعرضوا عليه رقاهم التي كانوا يرقون بها في الجاهلية. ومن هذا أيضاً ما رواه أبو داود في سنته عن الشفاء بنت عبد الله، قالت: " دخل عليّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا عند حفصة، فقال لي «ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة»( ). وروى هذا الحديث الحاكم في المستدرك وفيه قصة، وهي أن رجلاً من الأنصار خرجت به نملة فدل أن الشفا بنت عبد الله ترقي من النملة، فجاءها فسألها أن ترقيه، فقالت والله ما رقيت منذ أسلمت ! فذهب الأنصاري إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلـم، فأخبره بالذي قالت الشفا، فدعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الشفا فقال: « اعرضي عليّ فعرضتها عليه، فقال: ارقيه وعلميها حفصة كما علمتيها الكتاب»( ). وهذه القصة توضح أن رقية النملة تعرفها الشفا من زمن الجاهلية، فأذن لها الرسول- صلى الله عليه وسلم- بالرقية بها لخلوها من الشرك، وما ذكره بعض العلماء بأن مراد الرسول- صلى الله عليه وسلم- من قوله وعلميها حفصة أنه من لغز الكلام ومزاحه، وأن رقية النملة التي كانت تعرفها النساء هي أن يقال: للعروس تحتفل وتختضب وتكتحل ولك شيء يفتعل غير أن لا تعصي الرجل، فأراد الرسول- صلى الله عليه وسلم- بهذا المقال تأنيب حفصة والتأديب لها تعريضاً لأنها ألقى إليها سرّاً فأفشته". .. الخ( ). مردود بهذه القصة إذ فيها أن الشفا توقفت عن الرقية حتى أذن لها الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأن رجلاً من الأنصار هو الذي طلب منها الرقية. وأن عندها رقية صحيحة للنملة، وليس من قبيل لغز الكلام ومزاحه، ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك في الرقى، قال: " رخص في الحمة والنملة والعين" ( ). فهناك رقى حقيقية عرفت بالتجربة للنملة وليست من مزاح الكلام ولغزه، وكانت تعرف في الجاهلية قبل الإسلام، وأقرها الرسول -صلى الله عليه وسلم- لخلوها من الشرك، ومن هذا أيضاً ما رواه مسلم في صحيحه من طريق آخر عن أنس – رضي الله عنه – قال: " رخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الرقية من العين والحمة والنملة ". وهذا يدل على أن رقية النملة كانت معروفة للناس من غير طريق النبي- صلى الله عليه وسلم- ولما لم يكن فيها شرك رخص- صلى الله عليه وسلم- في تعلمها ولكن قول الصحابي – رضي الله عنه – رخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يدل على أن العزيمة في غيرها وهو ترك الرقى إلا بكتاب الله، وما صح من السنة، ولهذا قال ابن التين – يرحمه الله – ".. وعلى كراهة الرقى بغير كتاب الله علماء الأمة " وقال الربيع سألت الشافعي عن الرقية، فقال: لا بأس أن يرقى بكتاب الله، وما يعرف من ذكر الله، قلت: أيرقي أهل الكتاب المسلمين ؟ قال: نعم ! إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الله، وفي الموطأ أن أبا بكر قال لليهودية التي كانت ترقي عائشة أرقيها بكتاب الله. وقال المازري اختلف في استرقاء أهل الكتاب فأجازها قوم وكرهها مالك، لئلا يكــون مما بدلوه، وأجاب من أجاز بأن مثل هذا يبعد أن يقولوه وهو كالطب سواء( ). فإن غير الحاذق لا يحسن أن يقول: والحاذق يأنف أن يبدل حرصاً على استمرار وصفه بالحذق لترويج صناعته( ). قلت: إذا قبلنا رقية أهل الجاهلية الوثنيين إذا لم يكن فيها شرك وجربت منفعتها كرقية النملة، فأهل الكتاب من باب أولى ! فقد تكون رقاهم متلقاة من الكتاب الذي لم يحرف لأنه لا غرض لهم في تحريف الرقية، كما أن لهم غرض في تحريف العقائد والأحكام، بل إذا حرّقوا الرقية زالت فائدتها فربما يحرصون على بقائها على أصلها التماساً للفائدة الدنيوية. والله تعالى أعلم. وليست الرقية خاصة بالعين والحمة كما يوهمه قول عمران بن حصين – رضي الله عنهما – لا رقية إلا من عين أو حمة، وجاء في المسند مرفوعاً إلى النبي، صلى الله عليه وسلم،( ) كما رواه البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: « أذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأهل بيت من الأنصار أن يرقوا من الحمة والأذن»( ). قال ابن حجر: وأما رقية الأذن إذا كان بها وجع، وهذا يرد على الحصر الماضي في الحديث المذكور في باب من اكتوى حيث قال لا رقية إلا من عين أو حمة. فيجوز أن يكون رخص فيه بعد أن منع. ويحتمل أن يكون المعنى لا رقية أنفع من رقية العين والحمة. ولم يرد نفي الرقى من غيرهما ( ). قلت: هذا الذي ينبغي المصير إليه، فالحصر غير مراد لما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد إن جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: " يا محمد اشتكيت. فقال: نعم! قال: بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك " فقوله من كل شيء يؤذيك يدل على العموم، ولما رواه مسلم أيضاً عن عائشة قالت كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " إذا اشتكى منا إنسان بيمينه ثم قال: «اذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً». الحديث، وهذا عام في كل شكوى، ومن ذلك رقية الرسول- صلى الله عليه وسلم- على المصروع الذي به مس من الجنون، إذ جاءته امرأة ومعها صبي لها به لمم فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: « اخرج عدو الله أنا رسول الله فبريء ». الحديث( ). ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن عثمان بن أبي العاص الثقفي – رضي الله عنه – أنه شكا إلى رسول الله وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: « ضع يدك على الذي تألم من جسدك، وقل: بسم الله ثلاثاً، وقل سبع مرات أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر»( ). وقد تقدم في أنواع الرقية، وأن منها ما يرفع البلاء بعد وقوعه. ومنها ما يدفع البلاء قبل وقوعه، مما يدل على أن الرقية لا تختص بمرض دون آخر. قال ابن حجر في الأحكام المستفادة من حديث المرأة التي كانت تُصرع، وأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- خيرها بين أن يدعو لها أو تصبر ولها الجنة. وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير، وأن تأثير ذلك وانفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية، ولكن إنما ينجع بأمرين: أحدهما من جهة العليل وهو صدق القصد، والآخر من جهة المداوي، وهو قوة توجهه وقوة قلبه بالتقوى والتوكل( ). الفصل الرابع ضوابط الرقية في الإسلام إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد بين لنا ضوابط الرقية الصحيحة، ومن أعظم هذه الضوابط ما يلي: أولاً: أن لا تكون الرقية رقية شركية، والدليل على هذا الضابط ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك ؟ فقال أعرضوا علىّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك( ). فكل رقية اشتملت على شرك فهي رقية شركية لا يجوز لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتعاطاها. ومن ذلك الرقية المشتملة على القسم بالمخلوقات، كالشمس والقمر والملائكة والجن، ونحو ذلك لما ثبت عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»( ). والرقية المشتملة على الاستعانة بالمخلوقات فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو المشتملة على دعاء المخلوق من دون الله ليكشف أمراً لا يكشفه إلا الله كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ. ويقول سبحانه: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ]فاطر، الآيتان 13، 14[. وإذا كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل البشر على الإطلاق يأمره الله – عز وجل – أن يقول للناس قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا * قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا. [الجن، الآيتان: 20 – 22]. إذا كان هذا حال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فما الظن بغيره ممن يستغيث بهم المشركون أو يدعونهم وينخونهم في رقاهم. وهكذا كل رقية اشتملت على صرف شيء من الأشياء التي أمر الله بها في كتابه، أو أمر بها رسوله -صلى الله عليه وسلم- في سنته إلى غير الله تعالى فهي رقية شركية. ثانياً: ألا تكون الرقية رقية سحرية، وذلك لأن الله – عز وجل -: قد حرم السحر، وبين بأنه كفر ! كما في قوله – عز وجل -: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. [البقرة، الآية: 102]. وبين بأن الساحر لا يفلح مطلقاً كما في قوله تعالى: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى. [طه، الآية: 69]. وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: « ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن له أو سحر له »( ). وقال، صلى الله عليه وسلم،: « اجتنبوا الموبقات الشرك بالله والسحر» ( ) ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية أكثر العلماء على أن الساحر كافر يجب قتله. وقد ثبت قتل الساحر عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان و حفصة بنت عمرو وعبد الله بن عمر وجندب بن عبد الله، وروى ذلك مرفوعاً عنه ( ). وعلى هذا فالرقية السحرية محرمة، ولا يجوز لمسلم أن يأتي لساحر لكي يرقاه، وذلك لما يأتي: أولاً: لو كان يجوز للمسلم أن يذهب للسحرة التماساً للدواء من رقية أو نحوها لما أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقتل الساحر، وفيه منفعة للناس، وقد روي عــن الرســول -صلى الله عليه وسلم-أنه قال: « حد الساحر ضربه بالسيف »( ). ثانياً: أن الله قد بين في آية البقرة المتقدمة بأن الذين يتعلمون السحر إنما يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم. هذا لفظ عام يبين أن السحر ليس فيه نفع بوجه من الوجوه، ولو كان فيه دواء ونحو ذلك، لكان فيه فائدة ونفع، هذا خلاف نصّ القرآن الكريم. ثالثاً: أن الله قد بين بأن الساحر لا يُفلح حيث أتى، ولو كان فيه فائدة لأحد لكان هذا نوع من الفلاح، وهو لا يفلح بإطلاق. رابعاً: أن الرسول قد بين بأن الله لم يجعل شفاء أمته فيما حُرم عليها، والسحر محرم بإجماع. وقال -صلى الله عليه وسلم-: « لا تداووا بالمحرم »( ) قال ابن القيم – رحمه الله تعالى – وهنا سر لطيف في كون المحرمات لا يستشفى بها، فإن شرط الشفاء بالدواء تلقّيه بالقبول، واعتقاد منفعته، وما جعل الله فيه من بركة الشفاء فإن النافع هو المبارك وأنفع الأشياء أبركها، والمبارك من الناس أينما كان هو الذي ينتفع به حيث حلّ، ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مما يحول بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها، وبين حسن ظنه بها، وتلقي طبعه لها بالقبول، بل كلما كان العبد أعظم إيماناً، كان أكره لها وأسوأ اعتقاداً فيها، وطبعه أكره شيء لها، فإذا تناولها في هذه الحال كانت داء له لا دواء، إلا أن يزول اعتقاد الخبث فيها وسوء الظن والكراهة لها بالمحبة، وهذا ينافي الإيمان فلا يتناولها المؤمن قط إلا على وجه داء( ). خامساً: أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- بين بأن من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه فقد كفر بما أُنزل على محمد، صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن الساحر أشد من الكاهن والعراف، والكهانة والعرافة تدخل في السحر أحياناً، فإذا كان حكم من يأتي الكاهن والعراف ما تقدم، فالساحر من باب أولى، بل جاء النص على الساحر في أثر ابن مسعود «من أتى كاهناً أو ساحراً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد، صلى الله عليه وسلم»( ). هذا هو الحق الصرّاح الذي تؤيده الأدلة. وأما ما روي عن سعيد بن المسيب كما في صحيح البخاري، عن قتادة، قلت: لابن المسيب رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته أيحل عنه أو ينشر ؟ ! قال لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه( ). فالمراد به إزالة السحر برقية من راق ليس بساحر، فهذا هو اللائق به – رضي الله عنه – يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب: وهذا من ابن المسيب يحمل على نوع من النشرة لا يعلم أنه سحر( )، والنشرة ضرب من العلاج والرقية يعالج به من يظن أن به مسًّا من الجن، سميت نشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي يزال ويكشف. وقال ابن الجوزي: النشرة حلُّ السحر عن المسحور، ولا يكاد يقدر عليه إلا من عرف السحر( ). وقال ابن القيم النشرة حل السحر عن المسحور. وهي نوعان: أحدهما: حلّ بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن فيقترب الناشر المنتشر إلى الشيطان بما يجب فيبطل عمله عن المسحور. والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة فهذا جائز( ). وعلى النوع الأول يحمل حديث جابر – رضي الله عنه – أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن النشرة فقال: «هي من عمل الشيطان»( ). قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في شرحه لهذا الحديث: " قوله سئل عن النشرة: الألف واللام في النشرة للعهد أي النشرة المعهودة التي كان أهل الجاهلية يصنعونها، هي من عمل الشيطان، لا النشرة بالرقى والتعوذات الشرعية والأدوية المباحة فإن ذلك جائز. .. فلا أعلم أحداً كرهه " ( ). ثالثاً: ألا تكون الرقية من عرّاف أو كاهن، ولو لم يكن ساحراً، وذلك لأن العراف والكاهن لا يجوز لأحد أن يأتيهما يصدقهما وطلب الرقية من العراف والكاهن فتح باب لإتيان الناس إليه، والطمع فيما عنده من رقى، وينتقض بذلك مقصود الرسول -صلى الله عليه وسلم- من تحذير الناس من الذهاب إليه، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد، صلى الله عليه وسلم»( ). وهذا لفظ عام، فمن طلب من الكاهن والعرّاف رقية فقد صدقه بما يقول، والأصل فيه الكذب، ومن كان الأصل فيه الكذب، فالواجب عدم الذهاب إليه سدّا للذريعة ودرأً للمفسدة. قال البغوي: العرّاف، الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق، ومكان الضالة، ونحو ذلك. وقيل: هو الكاهن، والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. وقيل الذي يخبر عما في الضمير. وقال أبو العباس ابن تيمية: العرّاف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق. ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: " من يدعي علم شيء من المغيبات فهو إما داخل في اسم الكاهن، وإما مشارك له في المعنى، فيلحق به، وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف. ومنه ما هو من الشياطين ويكون بالفأل والزجر والطير والضرب بالحصى، والخط في الأرض، والتنجيم، والكهانة والسحر، ونحو هذا من علوم الجاهلية، ونعني بالجاهلية كل من ليس من اتباع الرسل كالفلاسفة، والكهان والمنجمين، وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي، صلى الله عليه وسلم، فإن هذه علوم قوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل، عليهم السلام، وكل هذه الأمور يسمى صاحبها كاهناً وعرافاً أو في معناهما فمن أتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد( ). قلت ومن هذا حاله من أهل الكهانة والعرافة والتنجيم فلا يجوز أن تطلب منه الرقية، خشية من أن يخلطها بكهانته وعرافته وتنجيمه، ولو فرض أن عنده رقية صحيحة لم تكن عن طريق الكهانة والتنجيم فلا يذهب إليه، لأن الذهاب إليه فيه مشابهة لحال أهل الجاهلية الذين يذهبون إلي الكهّان والعرّافين، وهذا مشابه لحال الذي ينذر لله في مكان فيه صنم لأهل الجاهلية ينذرون له، فهذا نذر معصية إذ شابهت صورته صورة نذر أهل الجاهلية، لما جاء عن ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل أن ينحــر إبلاً ببوانة ( )، فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يُعبد قالوا: لا ! قال: فهل كان فيه عيد من أعيادهم قالوا: لا! فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أوف بنــذرك فإنـه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم» ( ). فلو كان هذا المكان الذي ذكره الناذر في نذره فيه عيد من أعياد الجاهلية أو صنم من أصنامهم فلا يجوز الوفاء بالنذر فيه، ولو كان النذر لله تعالى، لئلا يشتبه عمل الموحد مع عمل المشرك! ولئلا يلتبس الحق بالباطل ! ورقية الكاهن والعراف من هذا الباب، ولو كان عندهم رقية صحيحة. والله تعالى أعلم. وأما رقية أهل الكتاب فقد تقدم الخلاف فيها، وهي لا تقبل عند من أجازها إلا بكتاب الله، وما يعرف من ذكر الله فإن كانت بعبارات مجهولة أو من شخص يعمل السحر والكهانة أو التمائم فلا تقبل، كما أنكر ابن مسعود على زوجته ذهابها لليهودي كما تقدم. رابعاً: أن تكون الرقية بعبارات ومعنى مفهوم، فإن ما لا يعقل معناه وما لا يفهم لا يؤمن أن يكون فيه شرك! وما كان مظنة الشرك فلا يجوز تعاطيه. قال ابن حجر: أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى، أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي، أو بما يعرف معناه من غيره. وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى( ). خامساً: ألا تكون الرقية بهيئة محرمة كأن يتقصد الرقية حالة كونه جنباً أو في مقبرة أو حمام أو حالة كتابته حروف أبا جاد أو حالة نظره في النجوم، وما شابه ذلك من الهيئات المحرمة، كتلطخه بالنجاسات أو كشف عورته. قال ابن عباس، في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم: ما أدري من فعل ذلك له عند الله خلاق( ). فإن هذا مشابه لحال السحرة والمشعوذين والدجالين، وهذا بخلاف الهيئات المباحة التي ثبت عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، كنفثه في حال الرقية. فعن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبـض فيه بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركتها( ). وكأمره -صلى الله عليه وسلم- للعائن أن يغسل بعض أجزاء بدنه، فعن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف قال:« مر عامر بن ربيعة بسهل بن حنيف وهو يغتسل، فقال لم أر كاليوم ولا جلد مخبأة، فما لبث أن لبط به( ). فأتى به النبي- صلى الله عليه وسلم- فقيل له أدرك سهلاً صريعاً. قال من تتهمون به قالوا: عامر بن ربيعة. قال علام يقتل أحدكم أخاه إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة، ثم دعا بماء فأمر عامر أن يتوضأ فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين وركبتيه وداخلة إزاره، وأمره أن يصب عليه، قال سفيان قال معم عن الزهري وأمره أن يكفأ الإناء من خلفه»( ). وبخلاف الهيئات المباحة المجربة التي لا تكون من عمل السحرة والمشعوذين والكهان. يقول ابن حجر وقد أخرج عبد الرزاق من طريق الشعبي، قال: لا بأس بالنشرة العربية التي إذا وطئت لا تضره، هي أن يخرج الإنسان في موضع عضاة فيأخذ عن يمينه وعن شماله من كل، ثم يدقه ويقرأ فيه ثم يغتسل به. وذكر ابن بطال أن في كتب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين، ثم يضر به بالماء، ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ثم يغتسل به، فإنه يذهب عنه كل ما به، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله، وممن صرح بجواز النشرة المزني صاحب الشافعي، وأبو جعفر الطبري وغيرهما. ثم وقفت على صفة النشرة في كتاب الطب النبوي لجعفر المستغفري، قال: وجدت في خط نصوح بن واصل على جزء من تفسير قتيبة بن أحمد البخاري. قال قتادة لسعيد ابن المسيب رجل به طب أخذ عن امرأته أيحل له أن ينشر. قال: لا بأس إنما يريد به الإصلاح فأما ما ينفع فلم ينه عنه. قال نصوح فسألني حماد بن شاكر ما الحل وما النشرة ؟ فلم أعرفها ! فقال هو الرجل إذا لم يقدر على مجامعة أهله وأطاق ما سواها، فإن المبتلى بذلك يأخذ حزمة قضبان وقاساً ذا قطارين ويضعه في وسط تلك الحزمة ثم يوجّج ناراً في تلك الحزمة حتى إذا ما حمي الفأس استخرجه من النار وبال على حده، فإنه يبرأ – بإذن الله تعالى – وأما النشرة فإنه يجمع أيام الربيع ما قدر عليه من ورد المفازة، وورد البساتين، ثم يلقيهما في إناء نظيف ويجعل فيهما ماء عذباً، ثم يغلي ذلك الورد في الماء غلياً يسيراً ثم يمهل حتى إذا فتر أفاضه عليه فإنه يبرأ – بإذن الله تعالى -. قال حاشد تعلمت هاتين الفائدتين بالشام. قلت: وحاشد هذا من رواة الصحيح عن البخاري( ). قلت: وهذه الصورة من حل السحر عن المسحور هي التي أجازها سعيد بن المسيب، وليس الذهاب إلى السحرة كما توهمه بعض الناس، وهي من باب التجارب البشرية كرقية النملة والحية التي رخص رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيها، لخلوها من الشرك والمحرمات كما تقدم. سادساً: ألا تكون الرقية بعبارات محرمة، كالسب والشتم واللعن، لما تقدم من أن الله لم يجعل الدواء في المحرم. سابعاً: ألا يظن الراقي والمرقي بأن الرقية وحدها تستقل بالشفا أو دفع المكروه، يقول ابن القيم: والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه لا بحده فقط. فمتى كان السلاح سلاحاً تاماً لا آفة به، والساعد قوياً والمانع مفقوداً حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير( )0 قلت: وكذلك الرقية فلا بد أن تكون رقية مباحة أو مستحبة، ولا بد أن يكون القارئ مخلصاً مستجمعاً لشرائط الدعاء، ولا بد أن يريد الله – عز وجل – الشفا ويقدره كما تقدم في الكلام على الأسباب. الفصل الخامس حكم التفرغ لأجل ٍالقراءة على الناس واتخاذها حرفة لقد اشتهر في هذه الأزمنة المتأخرة بعض طلاب العلم بالرقية على المرضى، وبلغت شهرتهم الآفاق نظراً لكثرة المواصلات وسهولتها، وأمام كثرة الناس وكثرة ما يعطونه من المال للراقي، تفرغ هؤلاء القراء من أعمالهم وقصروا أوقاتهم على القراءة على المرضى، ووسعوا دورهم واستعدوا للزائرين، ورتبوا لهم مواعيد كما تفعل المستشفيات المتخصصة تماماً، واتخذوا هذا العمل حرفة لهم. فما حكم هذه الصورة بهذه الكيفية التي لا يعرف لها مثيل في العصور المتقدمة ؟ وأمام هذا التساؤل أقول – وبالله التوفيق -: من المعلوم أن الله – عز وجل – أباح الرقى كما تقدم في مبحث مشروعية الرقية بضوابطها الشرعية، وأباح أخذ الأجرة عليها كما في صحيح البخاري: - يرحمه الله – حيث قال: باب الشروط في الرقية بفاتحة الكتاب، وروي بسنده عن ابن عباس أن نفراً من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم، مروا بماء فيهم لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال هل فيكم من راق إن في الماء رجلاً لديغاً أو سليماً ؟ فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاءٍ فبرأ ، فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت على كتاب الله أجراً فقال: رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: « إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله»( ). فإذا علم إباحة الرقى، وعلم إباحة أخذ الأجرة عليها انحصر موضوع البحث في الكيفية التي تتم بها الرقية عند بعض القراء المتأخرين وهي: التفرغ لهذا العمل واتخاذه حرفة والاشتهار به بين الناس وهذه الكيفية في نظري قد يترتب عليها مفاسد كثيرة بالنسبة للقارئ وبالنسبة للناس المقروء عليهم، منها ما يلي: أولاً: أنه من وجود الجموع الكثيرة من الناس عند القارئ قد يظن عوام الناس أن لهذا القارئ خصوصية معينة بدليل كثرة زحام الناس عليه، وتطغى حينئذ أهمية القارئ على أهمية المقروء، وهو كلام الله بل لا يكاد يفكر كثير من هؤلاء في أهمية المقروء وفائدته، وإنما تتجه الأنظار للقارئ. والأصل في الرقية هو المقروء والقارئ تبع لذلك يقول الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء، الآية: 82 [ ويقول سبحانه: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ. ] فصلت الآية: 44[. ولا ينكر ما لصلاح القارئ وقوة إيمانه وثقته بربه وتوكله عليه من تأثير، ولكنه تابع للمؤثر الأصلي، وهو كلام رب العالمين. فكل ذريعة تضعف ثقة الناس بالمقروء فإنه ينبغي أن تسد، ولا تفتح. يقول ابن القيم: " فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل ولا يوفق للاستشفاء، وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام واعتقاد جازم واستيفاء شروط لم يقاومه الداء أبداً. وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها أو على الأرض لقطعها "( ). ثانياً: أنه بالنظر إلى سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرة أصحابه وسيرة علماء الإسلام الموثوق بعلمهم وفضلهم لم نر أحداً منهم انقطع عن أعماله وقصر نفسه على معالجة المرضى بالرقى، واتخذها حرفة، واشتهر بها بين الناس، بحيث إذا ذكر اسمه اقترن بهذه الحرفة، ولاشك أن الناس في كل زمان تكثر فيهم الأمراض، ولم نر أحداً من خلفاء المسلمين نصّب قارئاً يقرأ على المرضى، كما ينصب المفتين والقضاة، وإنما المريض يقرأ على نفسه من كتاب الله، وإن قابله عالم ذو فضل وديانة وطلب منه الرقية وقرأ عليه فلا حرج، ومن المعلوم أن المشروع بأصله قد يمنع إذا صاحبته كيفية مستحدثة. فقد صحّ عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أنه مرّ بامرأة معها تسبيح تسبح به فقطعه وألقاه، ثم مر برجل يسبح بحصى فضربه برجله، ثم قال: لقد جئتم ببدعة ظلماً أو لقد غلبتم أصحاب محمد، صلى الله عليه وسلم، علماً( ). ولو كان الانقطاع لمعالجة المرضى بالرقى واتخاذها حرفة والاشتهار بها بين الناس خيراً لسبقنا إليه، ولا يظن أحد أن المرضى في هذا الزمان أكثر منهم في الأزمان الأخرى، ولأجل ذلك لم يتكاثروا على الخلفاء، ولا على الأئمة الأربعة كتكاثرهم على من اشتهر بالقراءة في هذه الأزمان، وإنما الذي يجلب الشهرة للقارئ هو تخصيص مكان لهم واستقبالهم فيه متى ما أرادوا، وتخصيص مواعيد معينة مثل ما يصنع الطبيب وصاحب المتجر وصاحب المصنع، وفي ظني أن شيخ الإسلام ابن تيمية لو فتح دكاناً للقراءة على المرضى واستقبلهم متى ما أرادوا لما استطاع أن يكتب سوداء في بيضاء لا سيما في زمن الجهل وتفشي الأمية والخرافات، والتعلق بالمشائخ وأصحاب الطرق، وما ترك علماء أهل السنة هذا الأمر إلا من فقههم – رحمهم الله رحمة واسعة -. ثالثاً: إن الشياطين عندما ترى تعلق الناس بشخص ما قد تساعده، وهو لا يشعر فتعلن خوفها منه وخروجها من المريض ونحو ذلك، لتزداد ثقة الناس بالشخص أكثر من ثقتهم بما يتلوه، وليعتقدوا أن فيه سراً معيناً. وقد قال عبد الله بن مسعود لزوجته عندما قالت له: كانت عيني تقذف فكنت اختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، وكان إذا رقاها سكنت. قال: إنما ذلك عمل الشيطان كان ينخسهــا بيده فإذا رقيتها كفّ عنها ". الحديث( ). ومكر الشياطين بالناس مكر كبير لا يدركه إلا أصحاب الفقه في دين الله، فإن الناس إنما يتزاحمون على القارئ، ويضربون له أكباد المطي، إذا سمعوا ما ينشر عنه من الحكايات الغريبة وكيف أن أكثر المصروعين تكلمت الشياطين على ألسنتهم أمام القارئ وتعهد عليها الشيخ بعدم العودة إلى ذلك المصروع ! ! فإذا كثرت هذه الأخبار كثرة كبيرة حفزت كل مريض لرؤية هذا الشيخ، للتأكد من أنه ليس فيه جني، وهذه الحال بهذه الكثرة لو كانت من الكرامات فينبغي للقارئ أن يخاف من عاقبتها. فكيف إذا كان لا يضمن أن يكون الأمر استدراجاً واحتيالاً من الشياطين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " ولما كانت الخوارق كثيراً ما تنقص بها درجة الرجل، كان كثير من الصالحين يتوب من الذنوب كالزنا والسرقة، وتعرض على بعضهم فيسأل الله زوالها، وكلهم يأمر المريد السالك ألا يقف عندها ولا يجعلها همه ولا يتبجح بها مع ظنهم أنها كرامات فكيف إذا كانت بالحقيقة من الشياطين تغويهم بها. فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها ! وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر! وتقول: هنيئاً لك يا ولي الله فيقرأ الكرسي فيذهب ذلك. وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وغيرها، وتقول: خذني حتى يأكلني الفقراء. ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بذلك " ( ). رابعاً: قد يتوهم القارئ الذي يزدحم الناس على بابه ويرى كثرة المرضى الذين يعافيهم الله بسبب رقيته، وكيف أن الشياطين تخاف منه، وتخرج من المصروعين؟ قد يتوهم أنه من الأولياء الأبرار ويصيبه العجب ونحو ذلك، وقد كان السلف الصالح – رضوان الله عليهم – يخشون من هذا الأمر ويسدون مداخله. قال ابن عيينة رأى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مع أبي جماعة فعلاه بالدرة، فقال: أبي أعلم ما تصنع – يرحمك الله – فقال عمر: " أما علمت أنها فتنة للمتبوع مذلة للتابع " ( ). فهذا عمر – رضي الله عنه – خاف على أبي – رضي الله عنه – من كثرة الأتباع والتلاميذ الذين يطأون عقبه فغيرهم أولى بالخوف وسد الذريعة. وليس حال القارئ المتقدم صفته كالطبيب الذي يزدحم الناس على بابه، فإن الطبيب يعالج بعلاج معروف، ولا يشعر أن العلاج لا ينفع إلا إذا وصفه هو بل يعتقد أن الأمر مرتبط بالعلاج لا بالطبيب بخلاف الراقي فإنه قد يظن أن الأمر مرتبط به هو لا بالعلاج، لأن القرآن موجود عند المسلمين جميعاً، ويستطيعون قراءته، ومع هذا يحرصون على أن يقرأ هو، فقد يدخله العجب والزهو، ويظن بنفسه الظنون، ولا شك أن الابتعاد عن مثل هذا أولى. والله أعلم بالصواب. خامساً: أن من الملاحظ على القراء أصحاب الكيفية المتقدمة أنهم قد يقولون بغير علم، وذلك أنهم إذا قرأوا على المريض ولم يتكلم الجني على لسانه، قالوا: ليس فيك جني، وأنت بك عين، أو ليس بك جني ولا عين ونحو هذا، ولسان حالهم يقول: إننا لا نقرأ على مصروع إلا ويلزم أن تخاطبنا الجن ونتكلم، فرقاً منا أو من قراءتنا، وليس على هذا إثارة من علم، فإن المصروع إذا قرئ عليه وخوّف الجن الذي بداخله فقد يتكلم الجني ويخاف وقد لا يتكلم ولا يخاف ! فمن أين لهم القطع بأنه ليس في المقروء عليه جني أو عين ؟ وقد يترتب على هذا أن المريض يترك الأدعية النبوية في مثل هذه الحالات، بناء على قول القارئ. والله – عز وجل – يقول: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُـولًا [الإسراء، الآية: 36]. سادساً: من الملاحظ على القراء أصحاب الكيفية المتقدمة أنهم يجمعون الفئام من الناس فيقرأون عليهم جميعاً قراءة واحدة حرصاً على كسب الوقت أمام كثرة الزائرين، ثم يدورون على أوعيتهم يتفلون فيها واللعاب والرذاذ الذي خالط القراءة قد ينقضي في الوعاء الأول والثاني فمنأين لهذا القارئ أن لعابه كله مبارك حتى ولو لم يخالط قراءة القرآن وكيف يستجيز أن يتفل في مائة وعاء أو أكثر بناء على قراءة واحدة ؟ وأين الدليل على هذه الصورة من عمل السلف الصالح ؟ سابعاً: نظراً لما تدره تلك الكيفية السابقة على أصحابها من أموال طائلة، فقد يقوم بعض المشعوذين والدجالين فيتظاهرون بالقراءة، فيفتحون دكاكين لهذا الغرض، ويخلطون الحق بالباطل، فيفتح على الناس باب شر كبير، ولا يحصل إنكار على المشعوذين لاختلاط أمرهم بالقراء الذين لا يخلطون مع قرائتهم شعوذة وكهانة فيصعب التمييز، والذرائع المفضية إلى الشر يجب سدها، حتى وإن كان قصد صاحبها الحق وقد منع عبد الله بن مسعود وأصحابه وجمع من العلماء المحققين تعلق القرآن مع أنه كلام الله سدّا للذريعة، لئلا يفضي ذلك إلى تعلق التمائم( ). وأفتى بهذا التعليل أعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة في الفتوى رقم 992 وتاريخ 4/4/1395 هـ ( ). ثامناً: إن بعض القراء أصحاب الكيفية المتقدمة الذين يتفرغون للقراءة على الناس، ويتخذونها حرفة لهم، يظنون أن ذلك من المستحبات، والاستحباب حكم شرعي، وهو عبادة، وهذا قد يجرهم إلى الوقوع في البدعة فإن من استحب شيئاً لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يفعله خلفاؤه الراشدون مع وجود المقتضي له في عصرهم، قد أتى باباً من البدع. والرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه الراشدون وإن قرأوا على المرضى وأخذوا الأجرة على ذلك كما تقدم إلا أنهم لم يتفرغوا لهذا الأمر، ولم يشتهروا به شهرة واضحة بين الناس، بحيث إذا ذكر أحدهم ذكر بأنه هو القارئ على المصروعين لاقتصاره على هذا العمل، ولم يتخذوه حرفة ومهنة، لاكتساب الرزق يقتصرون عليها. تاسعاً: لقد اشتهر بعض الصحابة بإجابة الدعاء كسعد ابن أبي وقاص – رضي الله عنه – أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن الذين دعــا لهـــم رسول الله باستجابة الدعاء( )، وبعض التابعين كأويس القرني – رضي الله عنه – ومع هذا لم يؤثر أن المسلمين تزاحموا على أبوابهم أفواجاً إثر أفواج لطلب الدعاء مع حاجة المسلمين تزاحموا على أبوابهم أفواجاً إثر أفواج لطلب الدعاء مع حاجة المسلمين إلى إجابة دعائهم في صلاح دينهم ودنياهم، مع حاجة المسلمين إلى إجابة دعائهم في صلاح دينهم ودنياهم، مع أنه لا مانع شرعاً من أن يأتي الفرد من المسلمين ويطلب من أحدهم الدعاء، وقد فعل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ذلك مع أويس القرني، لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أرشده إلى ذلك، ومع هذا لا شك بأن عمر بن الخطاب لو رأى أن أهل المدينة اجتمعوا على أويس لطلب الدعاء، وقدم أهل مكة وأهل العراق لأجل هذا الغرض لمنعهم مع فعله هو له، وذلك خشية على الناس من الفتنة وخشية على أويس القرني من الفتنة أيضاً ومن فقه أويس القرني – رضي الله عنه – أنه حاول إخفاء نفسه، ولم يعرّض نفسه ولا غيره للفتنة. فعن أسير بن جابر كان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم أفيكم أويس بن عامر حتى أتى على أويس. فقال: أنت أويس بن عامر. قال: نعم ! قال من مراد ثم من قرن. قال: فكان بك برص فبرئت منه إلا موضع درهم. قال: نعم ! قال لك والدة ؟ قال: نعم ! قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبريء منه إلا موضع درهم له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل. فاستغفر لي ! فاستغفر له فقال له عمر: أين تريد ؟ قال: الكوفة. قال: ألا أكتب لك إلى عاملها، قال أكون في غبراء الناس أحب إليّ. قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن أويس قال تركته رث البيت قليل المتاع ! قال سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبريء منه إلا موضع درهم له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فأتى أويساً فقال استغفر لي ! قال: أنت أحدث عهداً بسفر صالح فاستغفر لي ! قال لقيت عمر، قال: نعم ! فاستغفر له الناس فانطلق على وجهه: قال أسير وكسوته بردة فكان كلما رآه إنسان يقول من أين لأويس هذه البردة( ). وفي نظري أن الرقية كالدعاء، بل هي دعاء ومثل ذلك لو تقاطر أهل بلد على رجل يظهر من حالة الصلاح بأولادهم لأجل تحنيكهم بتمرة ونحو ذلك، فإنه لا ينبغي خشية عليه وعليهم من الافتتان. يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في مثل هذه الصورة وغيرها من صور التبرك: " ومنها أن فعل هذا مع غيره، صلى الله عليه وسلم، لا يؤمن أن يفتنه وتعجبه نفسه فيورثه العجب والكبر والرياء، فيكون هذا كالمدح في الوجه بل أعظم " ( ). قلت فما الظن بالذي يقدم عليه الآلاف من الناس لأجل القراءة عليهم، ويتركون القضاة والمفتين وأهل العلم ألا يخشى عليه الفتنة ؟ ! عاشراً: إذا تبين أن هذا الأمر فيه مفسدة على الناس وخاصة العوام منهم الذين يتعلقون بالقارئ أكثر من تعلقهم بالله وبكلامه حتى يظنوا ارتباط الشفا بالشخص نظراً لما يرونه من شدة الزحام عليه، الأمر الذي لا يرونه عند كثير من العلماء الصلحاء، وفيه مفسدة على القارئ نفسه من جهة الشهرة والعجب، وابتداع كيفية في الرقية لم تكن معروفة عند السلف الصالح، كالقراءة على مئات من الناس جميعاً بقراءة واحدة، والنفث في أوعيتهم جميعاً بعد هذه القراءة فلا شك أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة خاصة إذا عظمت المفسدة على المصلحة. كما قال تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ. ] الأنعام، الآية: 108 [. فسب المشركين لله – عز وجل – مفسدة عظيمة وسبّ المؤمنين لآلهة المشركين مصلحة عظيمة، وهنا قدم درء المفسدة على جلب المصلحة لعظم المفسدة بذلك. الحادي عشر: أن المتفرغ للرقية على الناس فيه مشابهة بالذي يتفرغ للدعاء للناس فالرقية والدعاء من جنس واحد فهل يليق بطالب علم أن يقول للناس تعالوا إلى ادعوا لكم ! ! وهذا مخالف لهدي السلف الصالح فقد كان عمر بن الخطاب وغيره من الصحابــة والتابعين رضي الله عنهم يكرهون أن يطلب منهم الدعاء ويقولون أأنبياء نحن( ). الثاني عشر: أن انتشار هذه الظاهرة قد يوهم عوام الناس ومن لا علم عنده بأن هذه الكيفية هي الطريقة الصحيحة للرقية فيظل الناس يطلبون الرقية من غيرهم وتتعطل سنة رقية الأفراد لأنفسهم وانطراحهم بين يدي رب السموات والأرض وسؤاله الشفاء. الخاتمة الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، فقد تم هذا البحث المختصر عن الرقى على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة، وكان مجمل نتائجه كما يلي: 1- أن الرقى معروفة عند الأمم السابقة وأهل الجاهلية. 2- أن الرقى تنقسم إلى شركية، وبدعية، وجائزة. 3- أن خير الرقى ما كان من كلام رب العالمين، أو كلام سيد المرسلين- صلى الله عليه وسلم. 4- أن الرقى المشروعة لا تنافي التوكل فهي من الأسباب. 5- أن الرقى تكون لدفع البلاء قبل وقوعه، و لرفعه بعد وقوعه. 6- أن التفرغ لأجل الرقية على الناس واتخاذ هذا الأمر حرفة يتكسب العبد من ورائها لم يكن معروفاً لدى السلف الصالح، وقد يجر إلى مفسدة للقارئ وللمقروء عليه. 7- إن أخذ الأجرة على الرقية جائز من غير تفرغ لهذا الأمر وانقطاع إليه، واتخاذه حرفة كما تقدم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.   الفهرس المقدمة 5 تمهيد: 8 الفصل الأول: علاقة البحث في الرقى بالاعتقاد وهل تنافي الرقية التوكل؟! 14 المبحث الأول: علاقة البحث في الرقى بالاعتقاد 15 المبحث الثاني: هل تنافي الرقية التوكل ؟ ! 18 الفصل الثاني: مشروعية الرقية وأنواعها 37 الفصل الثالث: هل الرقي توقيفية ؟ وهل يرقى من كل داء ؟ 42 الفصل الرابع: ضوابط الرقية في الإسلام 51 الفصل الخامس: حكم التفرغ لأجل ٍالقراءة على الناس واتخاذها حرفة 64 الخاتمة 76 الفهرس 77