بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]. اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [الأحزاب: 7]. أما بعد: فإن هذه الرسالة المختصرة كانت في الأصل مقالة تم نشرها في مجلة الجندي المسلم على حلقتين في العددين (96 ، 97) عام 1420هـ. وقد رأى بعض إخواني من طلبة العلم أن تفرد في رسالة مستقلة، لتنتشر ويعم الانتفاع بها، فأعدت النظر فيها، وزدت عليها زيادات رأيت أنها مهمة. وعسى أن أكون وفقت في هذا الموضوع الذي هو من موضوعات العقيدة، والإيمان به فيه تقوية لإيمان العبد وتوحيده. وإنني أرغب من مشايخي العلماء، وإخواني طلاب العلم ممن يطلع على هذه الرسالة، وله ملاحظة عليها إبلاغي، حتى يتم إصلاح ما فيها من الخطأ، أو إكمال النقص ... والله المستعان على الأمور كلها ... والحمد لله أولا وآخرا. أبو عبد الوهاب عبد الله بن سالم البطاطي ص.ب 17385 الرمز البريدي: 21484 إذا كان الإنسان ممن لا يتهوك ( ) في أفعاله، ولا يشتط في أقواله، وهو مع ذلك يرمي إلى قصد نبيل، وغاية محمودة، تحفه الأناة والتعقل، ونفاذ بصيرة في العواقب. فإنه يسمى: حكيما. فالحكيم هو الذي يضع الشيء في موضعه، والحكماء قوم رزقوا حسن تدبير في الأفعال، وجمال عبارة في الأقوال، وترتيبا للأمور بعضها على بعض، مراعين في ذلك جلب المصلحة ودفع المفسدة ( ). وقد امتن الله سبحانه على بعض عباده فآتاه الحكمة، كما قال تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة: 269]. قال ابن جرير الطبري: "فتأويل الكلام: يؤتى الله إصابة الصواب في القول والفعل من يشاء ومن يؤتيه الله ذلك فقد آتاه خيرا كثيرا" ا هـ ( ). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعملها» [متفق عليه]. وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعريفا جميلاً للحكمة ـ تناقله الناس من بعده ـ فقال: "فالحكمة إذا: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي"( ). وترد (الحكمة) في القرآن على نوعين: ( ) النوع الأول: أن تأتي مقرونة بالكتاب، فهي بمعنى السنة، وهذا محل إجماع من السلف كما ذكره الشافعي رحمه الله تعالى ( )، ومثال ذلك قوله تعالى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء: 113]. وقوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران: 164]. والنوع الثاني: أن تأتي مجردة من الاقتران بالكتاب، كقوله تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ [لقمان: 12]. وقوله تعالى: وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص: 20]. وقوله تعالى: حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ [القمر: 5]. فهذه لها معان كثيرة إذ يختلف المراد بها باختلاف السياق، وإن كانت جميعها ترجع إلى معنى الإصابة في القول والفعل كما ذكر ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، لكن يستثنى من ذلك النبوة فهي أعلى درجة من الحكمة وليست جزء منها ( ). فإذا كان الناس يرون أن من اتصف بالحكمة فقد اتصف بصفة من صفات الكمال ـ على ما في البشر من قصور وتقصير وعلى أن الاتصاف بها أمر نسبي أيضا ـ فكيف بالله العظيم جل جلاله الذي له الكمال المطلق، والمثل الأعلى. ومن المقرر في مسائل الاعتقاد أن كل كمال اتصف به المخلوق، وأمكن أن يتصف به الخالق، ولا يلحقه من ذلك نقص بوجه من الوجوه، فالخالق أولى به، إذ لولا ذلك لكان المخلوق أكمل من الخالق وهذا محال ( ). إن من أسماء الله الحسنى: الحكيم، (ومعناه: الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب، وإنما ينبغي أن يوصف بذلك لأن أفعاله سديدة، وصنعه متقن، ولا يظهر الفعل المتقن السديد إلا من حكيم، كما لا يظهر الفعل على وجه الاختيار إلا من حي عالم قدير)( ). وهذا الاسم الجليل (الحكيم) يتضمن إثبات صفة الحكمة لله تعالى، التي تعني أنه لا يخلق ولا يأمر عبثا وسدى وباطلا، بل له المراد فيما أراد، وأفعاله صادرة عن حكمة بالغة، ومصلحة عظيمة، وغاية حميدة ( ). وكمال حكمته جل شأنه يقتضي كمال علمه سبحانه المحيط بكل شيء كما قال تعالى: إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الشورى: 12]، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران: 5]، وقال: وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ [الأنبياء: 81]. ولهذا جمع الله بين الصفتين ـ الحكمة والعلم ـ في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف: 100]، وقوله: إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [الذاريات: 30]، وقوله: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام: 128]. وقد ورد هذا الاسم الجليل (الحكيم) في القرآن أربعا وتسعين مرة ( ). أنواع حكمته سبحانه وتعالى: وحكمته سبحانه وتعالى نوعان: النوع الأول: حكمته في خلقه وهذه شعبتان: أ- حكمته في الخلق: فإنه سبحانه خلق الخلق وأحكم خلقهم، وصورهم فأحسن صورهم، وأبدع الكون ورتبه أكمل ترتيب، ونظمه أجمل تنظيم، ومنح كل مخلوق شكله اللائق به، فأبدع أيما إبداع ( ). قال الخطابي: (ومعنى الإحكام لخلق الأشياء إنما ينصرف إلى إتقان التدبير فيها، وحسن التقدير لها، إذ ليس كل الخليقة موصوفا بوثاقة البنية، وشدة الأسر، كالبقة والنملة وما أشبههما من ضعاف الخلق، إلا أن التدبير فيهما، والدلالة بهما على كون الصانع وإثباته، ليس بدون الدلالة عليه بخلق السماوات والأرض والجبال وسائر معاظم الخليقة. وكذلك هذا في قوله جل وعز: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7]. لم تقع الإشارة به إلى الحسن الرائق في المنظر، فإن هذا معدوم في القرد والخنزير والدب، وأشكالها من الحيوان، وإنما ينصرف المعنى فيه إلى حسن التدبير في إنشاء كل شيء من خلقه على ما أحب أن ينشئه عليه، وإبرازه على الهيئة التي أراد أن يهيئه عليها، كقوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2]) ( ). وقال ابن هبيرة رحمه الله: "في بدن الإنسان زهاء خمسة آلاف حكمة تدل على صانعها" ا هـ ( ). ب- حكمته من الخلق: فإنه سبحانه خلق الخلق لحكمة عظيمة، وغاية جليلة هي عبادته تبارك وتعالى، وامتحانهم وابتلاؤهم بالشرائع لينظر كيف يعملون، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، وقال: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا [ص: 27]، وقال: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [المؤمنون: 115 ، 116]. وقال: مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [الأحقاف: 3]. النوع الثاني: حكمته في شرعه: فإنه شرع الشرائع المشتملة على كل خير، والدلالة على الهدى، والمنجية من عذابه وسخطه، المؤدية إلى رضوانه والجنة. فأمره ونهيه يحتويان على غاية الحكمة والصلاح والإصلاح للدين والدنيا، (فما أمر الله تعالى بشيء إلا وفيه مصلحة عاجلة أو آجلة أو كلاهما، وما نهى عن شيء إلا وفيه مفسدة عاجلة أو آجلة أو كلاهما) ( ). (وليس المراد بالآجل أمور الآخرة، لأن الشرائع لا تحدد للناس سيرهم في الآخرة، ولكن الآخرة جعلها الله جزاء على الأحوال التي كانوا عليها في الدنيا، وإنما نريد أن من التكاليف الشرعية ما قد يبدو فيه حرج وإضرار بالمكلفين وتفويت مصالح عليهم ... ولكن المتدبر إذا تدبر في تلك التشريعات ظهرت له مصالحها في عواقب الأمور)( ). وقد جمع الله عز وجل بين هذين النوعين من الحكمة في قوله تعالى: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54]. وذكرهما ابن القيم في نونيته المشهورة حيث قال: ( ) والحكمة العليا على نوعين أيـ ـضا حصلا بقواطع البرهان إحداهما في خلقه سبحانه نوعان أيضا ليس يفترقان إحكام هذا الخلق إذ إيجاده في غاية الإحكام والإتقان وصدوره من أجل غايات له وله عليها حمد كل لسان والحكمة الأخرى فحكمة شرعه أيضا وفيها ذانك الوصفان غاياتها اللائي حمدن وكونها في غاية الإتقان والإحسان الأحكام الشرعية من حيث ظهور حكمها وعدم ظهورها: تنقسم الأحكام الشرعية من حيث ظهور حكمة التشريع منها وعدم ظهورها إلى ثلاثة أقسام ( ): 1- قسم جاءت النصوص بذكر حكمة التشريع منها، إما نصا أو إيماء أو نحو ذلك: كقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة: 179]. وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]، وقوله: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [الحشر: 7]، وقوله: لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ [الأحزاب: 37]. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله  قال: «وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثا، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» [متفق عليه]( ). وعنه رضي الله عنه أن النبي  قال: «إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثا، فإن الشيطان يبيت على خيشومه» [متفق عليه] ( ). وفي حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي  قال: «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر» [متفق عليه] ( ). 2- وقسم لم تأت النصوص بذكر الحكمة منها، لكن يجوز الاجتهاد فيها لأهل العلم لاستنباط الحكمة منها: وهذا النوع لا يجزم بأن الحكمة منه هو ما يذكر وإنما هو من قبيل ما غلب على الظن أن الشارع لاحظه عند التشريع ( ). ومثال ذلك حديث أبي السمح رضي الله عنه: أن النبي  قال: «يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام» ( ). فإن العلماء حاولوا التماس حكمة في سبب التفريق بين بول الجارية وبول الغلام من حيث التطهير، من ذلك ما ذكره أبو اليمان المصري رحمه الله حيث قال: سألت الشافعي عن هذا الحديث، فقال: لأن بول الغلام من الماء والطين وبول الجارية من اللحم والدم، ثم قال: لي: فهمت؟ قلت: لا، فقال: إن الله تعالى لما خلق آدم خلقت حواء من ضلعه القصير، فصار بول الغلام من الماء والطين، وصار بول الجارية من اللحم والدم، قال لي: فهمت؟ قلت: نعم، قال: نفعك الله به ( ). ومثاله أيضا ما ثبت في السنة يوم العيد من ذهابه  إلى المصلى من طريق وعودته من طريق آخر، فقد ذكر العلماء حكما كثيرة لذلك ( ). ويدخل في هذا النوع ما يفعله المفسرون في كتب التفسير من الاجتهاد في بيان وجه ترتيب السور، أو استنباط مناسبة الآيات لما قبلها، وأعمق من ذلك حين يتكلمون في مفردات الآيات فيقولون مثلا: لماذا قال الله كذا ولم يقل كذا؟ كقولهم لماذا قال تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ولم يقل: نعبدك؟!! وهذا لا بأس به إن كان في حدود ما تحتمله الآية، وأما التكلف فلا يخلو من مجازفة بعيدة ( ). 3- وقسم لم ترد النصوص بذكر الحكمة منها، وليس للاجتهاد مدخل فيها، بل لا يجوز تكلف ذلك والخوض فيه، وهذا يسميه العلماء بالأحكام التعبدية: ومثال ذلك: عدد الصلوات المفروضة، وعدد ركعاتها، وصفتها التي هي عليها، والطواف حول البيت، ومقدار النصاب في الزكاة، ومسائل الميراث والأنصباء، ... إلخ. فهذا القسم تعبد محض لا يهتدي إلى حكمته، لأن الشريعة تعبدتنا بذلك الحكم ولم تشرح مرادها منه ( ). قال الشاطبي رحمه الله تعالى: الحكم التعبدي عكس الحكم المعلل، والمراد به ما لا يعقل معناه من الأحكام على الخصوص، بمعنى أنه لا تدرك فيه الحكمة والمصلحة الخاصة التي يصح أن تكون أساسا لأن يقاس عليه غيره، ولو كانت حكمته العامة موقوفا عليها في الجملة.اهـ( ). وقد ذكر أهل العلم أن الأحكام التعبدية هي الغالبة في باب العبادات، بخلاف أبواب المعاملات والعادات الشرعية فالغالب كونها معقول المعنى ( ). سؤال خطير!!! قد تقرر أن الله عز وجل إنما أنزل إلينا شرعه لحكمة عظيمة، وغاية جليلة، فشرعه المطهر كله حكمة ورحمة وخير وهدى. ومع أن هذه العقيدة في نفوس المسلمين ـ على تفاوت بينهم في إدراكها ـ إلا أننا نسمع من بعضهم ـ هداهم الله ـ من يسأل فيقول: لماذا كان هذا الشيء حرامًا؟ وما الحكمة من وجوب كذا؟ وما المصلحة في كون كذا من الشريعة؟ ونحو تلك الأسئلة التي تنم عن ضعضعة لهذه العقيدة في قلب السائل. قال ابن الجوزي رحمه الله: (فأما من يقول: لم فعل كذا؟ وما معنى كذا؟ فإنه يطلب الاطلاع على سر الملك، وما يجد لذلك سبيلا، لوجهين: أحدهما: أن الله تعالى ستر كثيرًا من حكمه عن الخلق. والثاني: أنه ليس في قوى البشر إدراك حكم الله تعالى كلها. فلا يبقى في المعترض سوى الاعتراض المخرج إلى الكفر فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ [الحج: 15]. والمعنى: من رضي بأفعالي، وإلا فليخنق نفسه، فما أفعل إلا ما أريد ( ). وبالجملة فالسائل أحد اثنين: 1- إما أنه مسترشد يريد معرفة الحكمة إن أمكن، وإلا فإنه مسلم مطيع، فهذا يدل إلى الجواب إن حصل، كما في قصة المرأة التي جاءت إلى عائشة رضي الله عنها فقالت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت عائشة رضي الله عنها: أحرورية أنت؟ قالت: لا ولكني أسأل، فقالت: كان يصيبنا ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة. [متفق عليه] ( ). وإنما سألتها: أحرورية أنت؟ لأن هذا السؤال لا يصدر إلا عن متنطع، والحرورية فرقة تنسب للخوارج معروفة بالغلو، فلما علمت أنها مجرد سائلة ومسترشدة، أرشدتها إلى أن هذا حكم تعبدي يجب امتثاله وإن لم نعلم الحكمة منه. 2- وإما أن يكون معاندا مستهترا، معترضا على حكم الله تعالى فهذا هو "الكفر المحض، والجنون البارد!" ( ). قال ابن عبد البر رحمه الله: "فمن سأل مستفهما راغبا في العلم، ونفي الجهل عن نفسه، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه، فلا بأس به، فشفاء العي السؤال، ومن سأل متعنتا غير متفقه ولا متعلم، فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره" ا هـ( ). وأول المعترضين على حكمة الله تعالى هو إبليس، فإنه رأى أن النار أفضل من الطين فما الحكمة في أمره بالسجود لآدم، فاعترض فامتنع فلعن. ثم جاء المشركون فورثوا عن معلمهم الأول هذه اللوثة فاعترضوا على حكمة الله في إرسال الرسل واصطفائه من يشاء من عباده، فقالوا: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31]. وقالوا أيضا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام: 124]. وامتد اعتراضهم هذا ليشمل أتباع الرسل فقالوا: أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [الأنعام: 53]. وقد حاول كفار مكة التشغيب على المسلمين في بعض الأحكام الشرعية، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 121]. أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمدا، فقالوا له: ما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال، وما ذبح الله ـ يعني الميتة ـ فهو حرام!، فنزلت: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام: 121] ( ). وسرت العدوى ـ وللأسف ـ إلى بعض من ينتسب للإسلام ظاهرا، فأظهروا امتعاضهم من بعض أحكام الشريعة السمحة، فهذا الملحد أبو العلاء المعري يعترض على حد السرقة وأن النصاب فيه ربع دينار، فقال: يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار؟ تناقض مالنا إلا السكوت له ونستعيذ بمولانا من النار ( ) ومثل ذلك يحكى عن ابن الراوندي الملحد، وكذا أبو نواس في أول أمره نقل عنه شيء من ذلك ثم تاب - على ما قيل - وحتى الشعراء كان لهم نصيب، كما قال بعض خلعائهم: أيا رب تخلق أقمار ليل وأغصان بان، وكثبان رمل وتنهى عبادك أن يعشقوا أيا حاكم العدل ذا حكم عدل؟! قال ابن الجوزي رحمه الله: ومثل هذا ينشده جماعة من العلماء ويستحسنونه وهو كفر محض ( ). ولا تسرح بخيالك كثيرا ـ أخي القارئ ـ فما ملاحدة الأمس ببعيدين عن زنادقة اليوم، بل ما أشبه اليوم بالبارحة، بالأمس كان المعري يعترض على حد السرقة فقط، وأما اليوم فإن دعاة الوضعية يعترضون على الحدود كلها جملة وتفصيلا!، كان المعري ينظر إلى قلة النصاب في حد السرقة، فلو أنه زيد عليه قليلا لأمكن صلاح ذلك عنده، وأما زنادقة اليوم فينظرون إلى أن الحدود منافية لمنطق العصر، وحكمة التطور والمدنية، فهي لا تصلح ـ عندهم ـ البتة، والله المستعان. وأولئك الفجار الذين ينادون بتحرير المرأة، ويطالبون بمساواة المرأة بالرجل، ويقولون: لا حكمة في التفريق بينهما، ويزعمون أن مكانها الذي اختاره الله لها ظلم وجور، ويندبون حظها المشؤوم، ومستقبلها المدفون فوالذي نفسي بيده لله أعلم بها وبهم وبالخلق أجمعين. أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14]. أما سمعتم تلك الناعقة وهي تقول: لن يهدأ لي بال حتى أسوي المرأة بالرجل!! أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [الزخرف: 32]. ويقال لهؤلاء: أترون الشريعة صلحت في زمن كان فيه أفضل الرسل وخير القرون، ولم تصلح لزمن ليس فيه عشر معشار العشير من خير وفضل من سبق؟! أترونها نقصت يوم احتاج الناس إلى تمامها، أم أنها عجزت يوم احتاج الناس إلى كمالها؟! فواعجبي وعجبي. "فيا معترضين ـ وهم في غاية النقص ـ على من لا عيب في فعله! أنتم في البداية من ماء وطين، وفي الثانية من ماء مهين، ثم تحملون الأنجاس على الدوام، ولو حبس عنكم الهواء لصرتم جيفا، وكم من رأي يراه حازمكم، فإذا عرضه على غيره تبين له قبح رأيه، ثم المعاصي منكم زائدة في الحد، فما فيكم إلا الاعتراض على المالك الحكيم!! ... وأكثر هؤلاء المعترضين لا يكادون يسلمون وقت خروج الروح من اعتراض يخرج إلى الكفر، فتخرج النفس كافرة" ( ). النقاط الرئيسية: هناك ثلاث نقاط مهمة يجب على المسلم أن ينتبه لها ويعتني بها، فإنها تضبط له هذا الباب، وهي: 1- أن الحكمة إذا لم تظهر في آحاد الأحكام الشرعية فإنها ظاهرة بمجموع الشريعة، فالحكمة حاصلة ولابد. 2- أن العلم بالحكمة والجهل بها أمر نسبي، يتفاوت فيه العلماء بله عامة الناس. 3- أن الله تعالى إنما كلفنا امتثال أمره واجتناب نهيه، ولم يكلفنا معرفة الحكمة من كل أمر أو نهي، بل الواجب معرفة الأحكام بدليلها، لا معرفة الحكمة منها. ولم يأت في نصوص الشارع ما يحض على البحث عن الحكمة أو العناية بها، وإنما لو حصل للعبد من ذلك شيء اتفاقا فلا مانع منه، فإنها تزيد في اليقين وتعين على التعبد، ولكن هذا تبع، وأما الأصل فهو الانقياد والتسليم لشرع الله تبارك وتعالى. قال أبو الزناد رحمه الله: إن السنن لا تخاصم، ولا ينبغي لها أن تتبع بالرأي والتفكير، ولو فعل الناس ذلك لم يمض يوم إلا انتقلوا من دين إلى دين، ولكنه ينبغي للسنن أن تلزم ويتمسك بها على ما وافق الرأي أو خالفه. ولعمري إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرا على خلاف الرأي ومجانبته خلافا بعيدا، فما يجد المسلمون بدًا من اتباعها والانقياد لها، من ذلك أن المرأة الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة. ومن ذلك: رجلان قطعت أذنا أحدهما جميعا، يكون له اثنا عشر ألفا، وقتل الآخر فذهبت أذناه وعيناه ويداه ورجلاه، وذهبت نفسه، ليس له إلا اثنا عشر ألفا. وأشباه هذا كثير، فهل وجد المسلمون بدًا من لزوم هذا؟ وأي هذه الوجوه يستقيم على الرأي أو يخرج في التفكير؟ ولكن السنن من الإسلام، بحيث جعلها الله هي ملاك الدين وقيامه الذي بنى عليه الإسلام ... وأيم الله إن كنا لنلتقط السنن من أهل الفقه والثقة، ونتعلمها شبيها بتعليمنا آي القرآن، وما برح من أدركنا من أهل الفضل والفقه من خيار الناس يعيبون أهل الجدل والتنقيب أشد العيب، وينهوننا عن لقائهم ومجالستهم، ويحذروننا مقاربتهم أشد التحذير، ويخبروننا أنهم أهل ضلال وتحريف ... وهل هلك أهل الأهواء وخالفوا الحق إلا بأخذهم الجدل، والتفكير في دينهم، فهم كل يوم على دين ضلال وشبهة جديدة، لا يقيمون على دين وإن أعجبهم إلا نقلهم الجدل والتفكير إلى دين سواه، ولو لزموا السنن وأمر المسلمين وتركوا الجدل لقطعوا عنهم الشك، وأخذوا بالأمر الذي حضهم عليه رسول الله  ورضيه لهم، ولكنهم تكلفوا ما قد كفوا مؤونته، وحملوا على عقولهم من النظر في أمر الله ما قصرت عنه عقولهم، وحق لها أن تقصر عنه وتحسر دونه، فهناك تورطوا، وأين ما أعطى الله العباد من العلم في قلته وزهادته مما تناولوا، قال الله تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] ( ). موقف المسلم: إن موقف المسلم في هذا الموضوع الحساس يتعلق بأصلين مهمين: أحدهما: أصل عقدي. والثاني: أصل عملي. أ- الأصل العقدي: أما الأصل العقدي فإن هذه القضية تتعلق بمسألتين من مسائل الاعتقاد، هما: إثبات الحاكمية لله تعالى، وإثبات الحكمة له جل شأنه. 1- فأما إثبات الحاكمية لله تعالى فلأن الله عز وجل له التصرف المطلق، والحكم التام، والمشيئة النافذة، يقضي ولا راد لقضائه، ويحكم لا معقب لحكمه، فالكل في ملكه وتحت سيطرته. فيجب على المسلم أن يعتقد أن الله تعالى يأمر بما يشاء، وينهى عما شاء، له كمال الربوبية على عباده وهم مربوبون له، خاضعون لأمره ونهيه، وليس لهم أن يعترضوا أو يمتعضوا، بل الطاعة أو المعصية وليس ثمت بين لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23]. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام: 57]. وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص: 68]. وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد: 41]. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة: 1]. لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88]. قال الإمام البربهاري ـ رحمه الله ـ (ت 329هـ): واعلم أنه لا يدخل الجنة أحد إلا برحمة الله، ولا يعذب الله أحدا إلا بذنوبه، بقدر ذنوبه، ولو عذب الله أهل السماوات وأهل الأرضين، برهم وفاجرهم، عذبهم غير ظالم لهم، لا يجوز أن يقال لله تبارك وتعالى إنه ظالم، وإنما يظلم من يأخذ ما ليس له، والله جل ثناؤه له الخلق والأمر، والخلق خلقه، والدار داره، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولا يقال: لم؟ وكيف؟ لا يدخل أحد بين الله وبين خلقه. ا هـ ( ). 2- وأما إثبات الحكمة له سبحانه فلأنه يجب على العبد المؤمن أن يعتقد أن الله تعالى لم يشرع شيئا إلا لحكمة بالغة، وغاية عظيمة، ومصلحة مقصودة. وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة خلافا لأهل البدع من الأشاعرة ومن وافقهم، ممن يعتقد أن الله شرع ذلك لمحض الإرادة، وصرف المشيئة بلا حكمة أو مصلحة أو غاية، تعالى الله عن ذلك( ). وهذه الحكمة قد تخفى علينا، لكن خفاءها لا يعني عدمها، وإنما يعني عدم علمنا بها فقط، ومن القواعد (عدم العلم ليس علما بالعدم) أي عدم علمنا بالحكمة لا يعني أنها معدومة فعلا، وإنما غاية الأمر أننا جهلناها. بل يجب أن نعتقد أن الله تعالى إنما أخفاها عنا أيضا لحكمة، فالحكم شرع لحكمة، والحكمة أخفيت لحكمة. وهذا يندرج تحت ركن من أركان الإيمان وهو الإيمان بالغيب كما قال تعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 1 - 3]، وفي هذا ابتلاء وامتحان للمؤمنين في إيمانهم، فإنه لا يؤمن بالغيب حق الإيمان إلا من خلص إيمانه، وصدق يقينه. ومن المعلوم أن العقل لا يدرك كل شيء، بل هو أعجز ما يكون عن إدراك حقيقة نفسه فكيف يحيط بحكمة الله في خلقه وأمره؟! والشريعة لم تأمر بإهمال العقل وتجميده وتهميشه ... كلا، ولكن في نفس الوقت لم تفتح أمامه الأبواب على مصراعيها فيلج حيث شاء، ويخوض فيما يحسن وما لا يحسن، فإن تطلب المغيبات بمجرد الخواطر والأفكار وأحاديث النفس قد يفضي إلى الهوس، وإنما جعلت له حدودا لا يتعداها، وأطرا لا يتجاوزها، وفتحت له المجال فيما يعود عليه بالنفع والخير، وأقفلت عنه مجالات أخرى جعلتها من أمور الغيب، وأمرته أن يقف عندها كفيفا، ويؤمن بها تكليفا، ليذعن لخالقه وبارئه، وليته أفلح فيما أذن له إنه إذن لسعيد. وهذا المغيب المكنون قد يكون فيه ما يحير العقول، لكن ليس فيه ما هو مستحيل في العقول، فإن الله على كل شيء قدير. ثم إن إثبات العبد الحكمة لله عز وجل فيه حسن ظن بالله وبرسوله وبكتابه وبشرعه، وهو واجب على كل مسلم اعتقاده وظنه، كما ثبت عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا: "إذا حدثتم بالحديث عن رسول الله  فظنوا به الذي هو أهيا، والذي هو أهوى، والذي هو أتقى" ( ). ب- الأصل العملي: وأما الأصل العلمي فهو وجوب الامتثال لأمر الله، واجتناب نهيه، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال: 24]. وقال: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب: 36]. وعز المؤمن ورفعته يكمن في قيامه بأمر الشارع واجتناب نهيه، لأن هذا دليل على عبوديته الصادقة لله عز وجل، فالعبد المسلم كلما تجرد لطاعة ربه، وبادر إلى ابتغاء مرضاته ـ في المنشط والمكره، والعسر واليسر، فيما يحب ويكره ـ بدون تردد أو تلكؤ، كان أبلغ في العبودية، وأرفع عند الله، وأعظم في الأجر والثواب. وهذا لا يتأتى إلا لمن كمل إسلامه، لأن الإسلام هو الاستسلام للشارع الكريم، والانطراح بين يديه انطراح العبد الذليل، والانقياد له تمام الانقياد بكل محبة وإجلال وطواعية. قال الإمام عبد الله بن داود الخريبي رحمه الله: والله لو بلغنا أن القوم لم يزيدوا في الوضوء على غسل أظفارهم، لما زدنا عليه".اهـ قال أبو بكر بن خزيمة رحمه الله: يريد أن الدين الاتباع ( ). ولا ينبغي للمسلم أن يتأفف إذا جاءه الأمر من أمور الشرع مما يكرهه فلعله خير له، كما قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216]. فبين سبحانه أن من الأمور ما يكرهها العبد لما فيها من المشقة أو نحوها، لكنه شرعها لما تشتمل عليه من الحكم الجليلة التي لا تتحصل إلا بتلك العبادة، ولو كانت الشريعة كلها مما لا مشقة للنفوس فيها لما تخلف عن الإيمان بها أحد، وحينئذ يفوت مقصود الشارع من خلق الخلق، وابتلاء بعضهم ببعض. قال ابن شهاب الزهري رحمه الله: سلموا للسنن ولا تعارضوها( ). وهنا مسألة أصولية أختم بها تتميما للفائدة، وهي أن العلماء يربطون الأحكام التكليفية بالعلل وليس بالحكم. وذلك لأن العلل قوية وظاهرة ومنضبطة بخلاف الحكم فإنها ضعيفة وخفية ومضطربة، فهي تختلف من شخص لآخر، ومن حالة لأخرى، وبما أن الشريعة الإسلامية عامة وشاملة وباقية بقاء الليل والنهار فلابد من ضبطها بضوابط ثابتة ومستقرة. فمثلا: الفطر في السفر، هذا الحكم وهو جواز الفطر في رمضان معلق بعلة السفر فحيثما وجد السفر وجد معه جواز الفطر، لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما. بينما الحكمة من جواز الفطر في السفر هو أن السفر مظنة المشقة، ومن قواعد الشريعة الكبرى أن المشقة تجلب التيسير، ولهذا خفف عن المسافر في نهار رمضان بإباحة الفطر له. ولكن لو حصل أن مسافرا سافر سفرا لا مشقة فيه ـ والفقهاء قديما يمثلون لذلك بالملك المترفِّه، واليوم أصبح كثير من عامة الناس مترفِّهين في سفرهم ـ فهل يقال له: يلزمك الصوم ولا يجوز لك الفطر؟! كلا ... لأن الحكم معلق بالسفر الذي هو علة له، لا بالحكمة. فانظر إلى الحكمة ههنا كيف انتفت مع ثبات الحكم في مكانه، فوجود الحكم الشرعي بدونها دليل على ضعفها، ثم إن الناس لا يحسنون ضبط المشقة التي عندها يستصحبون التيسير، ولهذا كانت خفية، وأيضا أمر المشقة يختلف من مسافر إلى آخر وهذا دليل اضطرابها. والسؤال الأخير: إذا كانت الحكمة ظاهرة وقوية ومنضبطة كالعلة فهل يقاس عليها أولا؟ هذا مجال خلاف بين العلماء ليس هذا محل بحثه ( ). وإلى هنا بلغ التمام، نسأل الله تعالى أن يهدينا للتي هي أقوم بالتي هي أحسن إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل... وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. * * * * *