التفسير القيم لابن القيم جمع وترتيب / محمد أويس الندوى هذا التفسير قام بجمعه العلامة المحقق الشيخ محمد أويس الندوي خريج ندوة العلماء في الهند بذل فيه جهدا مشكورا حيث قرأ المطبوع من مؤلفات الحافظ ابن القيم واستخرج منها هذه المجموعة القيمة من تفسيره للقرآن وهي لم تشمل القرآن كاملا إلا أنها تعتبر نموذجا صالحا عن تفسير ابن القيم ومنهجه فيه، كما أن المتدبر لهذا التفسير ينتفع به نفعا عظيما.... بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم مقدمة ابن القيم الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له رب العالمين وإله المرسلين وقيوم السموات والأرضين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالكتاب المبين الفارق بين الهدى والضلال والغي والرشاد والشك واليقين أنزله لنقرأه تدبرا ونتأمله تبصرا ونسعد به تذكرا ونحمله على أحسن وجوهه ومعانيه ونصدق به ونجتهد على إقامة أوامره ونواهيه ونجتني ثمار علومه النافعة الموصلة إلى الله سبحانه من أشجاره ورياحين الحكم من بين رياضه وأزهاره فهو كتابه الدال عليه لمن أراد معرفته وطريقه الموصلة لسالكها إليه ونوره المبين الذي أشرقت له الظلمات ورحمته المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات والسبب الواصل بينه وبين عباده إذا انقطعت الأسباب وبابه الأعظم الذي منه الدخول فلا يغلق إذا غلقت الأبواب وهو الصراط المستقيم الذي لاتميل به الآراء والذكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء والنزل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء لا تفنى عجائبه ولا تقلع سحائبه ولا تنقضي آياته ولا تختلف دلالاته كلما ازدادت البصائر فيه تأملا وتفكيرا زادها هداية وتبصيرا وكلما بجست معينه فجر لها ينابيع الحكمة تفجيرا فهو نور البصائر من عماها وشفاء الصدور من أدوائها وجواها وحياة القلوب ولذة النفوس ورياض القلوب وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح والمنادي بالمساء والصباح ياأهل الفلاح حي على الفلاح نادى منادى الإيمان على رأس الصراط المستقيم 46 31 يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم أسمع والله لو صادف آذانا واعية وبصر لو صادف قلوبا من الفساد ________________________________________ خالية لكن عصفت على القلوب هذه الأهواء فأطفأت مصابيحها وتمكنت منها آراء الرجال فأغلقت أبوابها وأضاعت مفاتيحها وران عليها كسبها فلم تجد حقائق القرآن إليها منفذا وتحكمت فيها أسقام الجهل فلم تنتفع معها بصالح العمل واعجبا لها كيف جعلت غذاءها من هذه الأراء التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولم تقبل الإغتذاء بكلام رب العالمين ونصوص حديث نبيه المرفوع أم كيف اهتدت في ظلم الآراء إلى التمييز بين الخطإ والصواب وخفى عليها ذلك في مطالع الأنوار من السنة والكتاب واعجبا كيف ميزت بين صحيح الآراء وسقيمها ومقبولها ومردودها وراجحها ومرجوحها وأقرت على أنفسها بالعجز عن تلقى الهدى والعلم من كلام من كلامه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو الكفيل بإيضاح الحق مع غاية البيان وكلام من أوتي جوامع الكلم واستولى كلامه على الأقصى من البيان كلا بل هي والله فتنة أعمت القلوب عن مواقع رشدها وحيرت العقول عن طرائق قصدها يربى فيها الصغير ويهرم فيها الكبير وظنت خفافيش البصائر أنها الغاية التي يتسابق إليها المتسابقون والنهاية التي تنافس فيها المنافسون وتزاحموا عليها وهيهات أين السهى من شمس الضحى وأين الثرى من كواكب الجوزاء وأين الكلام الذي لم تضمن لنا عصمة قائله بدليل معلوم من النقل المصدق عن القائل المعصوم وأين الأقوال التي أعلا درجاتها أن تكون سائغة الإتباع من النصوص الواجب على كل مسلم تقديمها وتحكيمها والتحاكم إليها في محل النزاع وأين الآراء التي نهى قائلها عن تقليده فيها وحذر من النصوص التي فرض على كل عبد أن يهتدي بها ويتبصر وأين المذاهب التي إذا مات أربها فهي من جملة الأموات من النصوص التي لا تزول إذا زالت الأرض والسموات ________________________________________ سبحان الله ماذا حرم المعرضون عن نصوص الوحي واقتباس العلم من مشكاته من كنوز الذخائر وماذا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر قنعوا بأقوال استنبطتها معاول الآراء فكرا وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زبرا وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا فاتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا درست معالم القرآن في قلوبهم فليسوا يعرفونها ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها ووقعت ألويته وأعلامه من أيديهم فليسوا يرفعونها وأفلت كواكبه النيرة من آفاق نفوسهم فلذلك لا يحبونها وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وعقدها فليسوا يبصرونها خلعوا نصوص الوحي عن سلطان الحقيقة وعزلوها عن ولاية اليقين وشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة فلا يزال يخرج عليها من جيوشهم كمين بعد كمين نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام فعاملوها بغير ما يليق بها من الإجلال والإكرام وتلقوها من بعيد ولكن بالدفع في صدورها والأعجاز وقالوا مالك عندنا من عبور وإن كان ولا بد فعلى سبيل الإجتياز أنزلوا النصوص منزلة الخليفة في هذا الزمان له السكة والخطبة وماله حكم نافذ ولا سلطان المتمسك عندهم بالكتاب والسنة صاحب ظواهر مبخوس حظه من المعقول والمقلد للآراء المتناقضة المتعارضة والأفكار المتهافتة لديهم هو الفاضل المقبول وأهل الكتاب والسنة المقدمون لنصوصها على غيرها جهال لديهم منقوصون 2 13 وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون حرموا والله الوصول بعدولهم عن منهج الوحي وتضييعهم الأصول وتمسكوا بأعجاز لا صدور لها فخانتهم أحرص ما كانوا عليها وتقطعت بهم أسبابها أحوج ما كانوا إليها حتى إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور وتميز لكل قوم حاصلهم الذي حصلوه وانكشفت لهم حقيقة ما اعتقدوه وقدموا على ما قدموه 39 48 وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون وسقط في أيديهم عند الحصاد لما عاينوا غلة ما بذروه ________________________________________ فياشدة الحسرة عند ما يعاين المبطل سعيه وكده هباءا منثورا وياعظم المصيبة عند ما يتبين بواراق أمانيه خلبا وآماله كاذبة غرورا فما ظن من انطوت سريرته على البدعة والهوى والتعصب للآراء بربه يوم تبلى السرائر وما عذر من نبذ الوحيين وراء ظهره في يوم لا تنفع الظالمين فيه المعاذر أفيظن المعرض عن كتاب ربه وسنة رسوله أن ينجو من ربه بآراء الرجال أو يتخلص من بأس الله بكثرة البحوث والجدال وضروب الأقيسة وتنوع الأشكال أو بالإشارات والشطحات وأنواع الخيال هيهات والله لقد ظن أكذب الظن ومنته نفسه أبين المحال وإنما ضمنت النجاة لمن حكم هدى الله على غيره وتزود التقوى وائتم بالدليل وسلك الصراط المستقيم واستمسك من الوحي بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والله سميع عليم وبعد فلما كان كمال الإنسان إنما هو بالعلم النافع والعمل الصالح وهما الهدى ودين الحق وبتكميله لغيره في هذين الأمرين كما قال تعالى والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر أقسم سبحانه أن كل أحد خاسر إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان وقوته العملية بالعمل الصالح وكمل غيره بالتوصية بالحق والصبر عليه فالحق هو الإيمان والعمل ولا يتمان إلا بالصبر عليهما والتواصي بهما كان حقيقا بالإنسان أن ينفق ساعات عمره بل أنفاسه فيما ينال به المطالب العالية ويخلص به من الخسران المبين وليس ذلك إلا بالإقبال على القرآن وتفهمه وتدبره واستخراج كنوزه وإثارة دفائنه وصرف العناية إليه والعكوف بالهمة عليه فإنه الكفيل بمصالح العباد في المعاش والمعاد والموصل لهم إلى سبيل الرشاد فالحقيقة والطريقة والأذواق والمواجيد الصحيحة كلها لا تقتبس إلا من مشكاته ولا تستثمر إلا من شجراته ________________________________________ ونحن بعون الله ننبه على هذا بالكلام على فاتحة الكتاب وأم القرآن وعلى بعض ما تضمنته هذه السورة من هذه المطالب وما تضمنته من الرد على جميع طوائف أهل البدع والضلال وما تضمنته من منازل السائرين ومقامات العارفين والفرق بين وسائلها وغاياتها ومواهبها وكسبياتها وبيان أنه لا يقوم غير هذه السورة مقامها ولا يسد مسدها ولذلك لم ينزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم سورة الفاتحة اعلم أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال وتضمنتها أكمل تضمن فاشتملت على التعريف بالمعبود تبارك وتعالى بثلاثة أسماء مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها ومدارها عليها وهي الله والرب الرحمن وبنيت السورة على الإلهية والربوبية والرحمة ف إياك نعبد مبنى على الإلهية وإياك نستعين على الربوبية وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم بصفة الرحمة والحمد يتضمن الأمور الثلاثة فهو المحمود في إلهيته وربوبيته ورحمته والثناء والمجد كمالان لجده وتضمنت إثبات المعاد وجزاء العباد بأعمالهم حسنها وسيئها وتفرد الرب تعالى بالحكم إذ ذاك بين الخلائق وكون حكمه بالعدل وكل هذا تحت قوله مالك يوم الدين وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة أحدها كونه رب العالمين فلا يليق به أن يترك عباده سدى هملا لا يعرفهم ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وما يضرهم فيهما فهذا هضم للربوبية ونسبة الرب تعالى إلى ما لا يليق به وما قدره حق قدره من نسبه إليه الثاني أخذها من اسم الله وهو المألوه المعبود ولا سبيل للعباد إلى معرفة عبادته إلا من طريق رسله ________________________________________ الموضع الثالث من اسمه الرحمن فإن رحمته تمنع إهمال عباده وعدم تعريفهم ما ينالون به غاية كما لهم فمن أعطى اسم الرحمن حقه عرف أنه متضمن لإرسال الرسل وإنزال الكتب أعظم من تضمنه إنزال الغيث وإنبات الكلأ وأخراج الحب فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح لكن المحجوبون إنما أدركوا من هذا الإسم حظ البهائم والدواب وأدرك منه أولو الألباب أمرا وراء ذلك الموضع الرابع من ذكر يوم الدين فإنه اليوم الذي يدين الله العباد فيه بأعمالهم فيثيبهم على الخيرات ويعاقبهم على المعاصي والسيئات وما كان الله ليعذب أحدا قبل إقامة الحجة عليه والحجة إنما قامت برسله وكتبه وبهم استحق الثواب والعقاب وبهم قام سوق يوم الدين وسيق الأبرار إلى النعيم والفجار إلى الجحيم الموضع الخامس من قوله إياك نعبد فإن ما يعبد به الرب تعالى لا يكون إلا على ما يحبه ويرضاه وعبادته وهي شكره وحبه وخشيته فطرى ومعقول للعقول السليمة لكن طريق التعبد وما يعبد به لا سبيل إلى معرفته إلا برسله وبيانهم وفي هذا بيان أن إرسال الرسل أمر مستقر في العقول يستحيل تعطيل العالم عنه كما يستحيل تعطيله عن الصانع فمن أنكر الرسول فقد أنكر المرسل ولم يؤمن به ولهذا جعل الله سبحانه الكفر برسله كفرا به الموضع السادس من قوله اهدنا الصراط المستقيم فالهداية هي البيان والدلالة ثم التوفيق والإلهام وهو بعد البيان والدلالة ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف ترتب عليه هداية التوفيق وجعل الإيمان في القلب وتحبيبه إليه وتزيينه في القلب وجعله مؤثرا له راضيا به راغبا فيه ________________________________________ وهما هدايتان مستقلتان لا يحصل الفلاح إلا بهما وهما متضمنتان تعريف مالم نعلمه من الحق تفصيلا وإجمالا وإلهامنا له وجعلنا مريدين لإتباعه ظاهرا وباطنا ثم خلق القدرة لنا على القيام بموجب الهدى بالقول والعمل والعزم ثم إدامة ذلك لنا وتثبيتنا عليه إلى الوفاة ومن هنا يعلم اضطرار العبد إلى سؤال هذه الدعوة فوق كل ضرورة وبطلان قول من يقول إذا كنا مهتدين فكيف نسأل الهداية فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم وما لا نريد فعله تهاونا وكسلا مثل ما نريده أو أكثر منه أو دونه وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله فأمر يفوت الحصر ونحن محتاجون إلى الهداية التامة فمن كملت له هذه الأمور كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والدوام وللهداية مرتبة أخرى وهي آخر مراتبها وهي الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة وهو الصرط الموصل إليها فمن هدى في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه هدى هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم وعلى قدر سيره على هذه الصراط يكون سيره على ذاك الصراط فمنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالطرف ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كشد الركاب ومنهم من يسعى سعيا ومنهم من يمشي مشيا ومنهم من يحبوا حبوا ومنهم المخدوش المسلم ومنهم المكردس في النار فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا حذو القذة بالقذة جزاء وفاقا هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ولينظر الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط تخطفه وتعوقه عن المرور عليه فإن كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك وما ربك بظلام للعبيد فسؤال الهداية متضمن لحصول كل خير والسلامة من كل شر ________________________________________ الموضع السابع من معرفة نفس المسئول وهو الصراط المستقيم ولا تكون الطريق صراطا حتى تتضمن خمسة أمور الإستقامة والإيصال إلى المقصود والقرب وسعته للمارين عليه وتعينه طريقا للمقصود ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم لهذه الأمور الخمسة فوصفه بالإستقامة يتضمن قربه لأن الخط المستقيم هو أقرب خط فاصل بين نقطتين وكلما تعوج طال وبعد واستقامته تتضمن إيصاله إلى المقصود ونصبه لجميع من يمر عليه يستلزم سعته وإضافته إلى المنعم عليهم ووصفه بمخالفة صراط أهل الغضب والضلال يستلزم تعينه طريقا والصراط تارة يضاف إلى الله إذ هو الذي شرعه ونصبه كقوله تعالى 6 153 وأن هذا صراطي مستقيما وقوله42 153 وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله وتارة يضاف إلى العباد كما في الفاتحة لكونهم أهل سلوكه وهو المنسوب لهم وهم المارون عليه الموضع الثامن من ذكر المنعم عليهم وتمييزهم عن طائفتي الغضب والضلال فانقسم الناس بحسب معرفة الحق والعمل به إلى هذه الأقسام الثلاثة لأن العبد إما أن يكون عالما بالحق أو جاهلا به والعالم بالحق إما أن يكون عاملا بموجبه أو مخالفا له فهذه أقسام المكلفين لا يخرجون عنها ألبتة فالعالم بالحق العامل به هو المنعم عليه وهو الذي زكى نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وهو المفلح 91 9 قد أفلح من زكاها والعالم به المتبع هواه هو المغضوب عليه والجاهل بالحق هو الضال والمغضوب عليه ضال عن هداية العمل والضال مغضوب عليه لضلاله عن العلم الموجب للعمل فكل منهما ضال مغضوب عليه ولكن تارك العمل بالحق بعد معرفته به أولى بوصف الغضب وأحق به ________________________________________ ومن ههنا كان اليهود أحق به وهو متغلظ في حقهم كقوله تعالى في حقهم 2 90 بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وقال تعالى 5 60 قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة من عندالله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبدالطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل والجاهل بالحق أحق باسم الضلال ومن هنا وصفت النصارى به في قوله تعالى 5 77 قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل فالأولى في سياق الخطاب مع اليهود والثانية في سياقه مع النصارى وفي الترمذي وصحيح ابن حبان من حديث عدي بن حاتم قال قال رسول الله اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون / ح / ففي ذكر المنعم عليهم وهم من عرف الحق واتبعه والمغضوب عيهم وهم من عرفه واتبع هواه والضالين وهم من جهله ما يستلزم ثبوت الرسالة والنبوة لأن انقسام الناس إلى ذلك هو الواقع المشهود وهذه القسمة إنما أوجبها ثبوت الرسالة وأضاف النعمة إليه وحذف فاعل الغضب لوجوه منها أن النعمة هي الخير والفضل والغضب من باب الإنتقام والعدل والرحمة تغلب الغضب فأضاف إلى نفسه أكمل الأمرين وأسبقهما وأقواهما وهذه طريقة القرآن في إسناد الخيرات والنعم إليه وحذف الفاعل في مقابلتهما كقول مؤمني الجن 72 10 وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ومنه قول الخضر في شأن الجدار واليتيمين 18 82 فأراد ربك أن يبلغا أشدهم ويستخرجا كنزهما وقال في خرق السفينة 18 79 فأردت أن أعيبها ثم قال بعد ذلك وما فعلته عن أمري وتأمل قوله تعالى 2 187 أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم وقوله 5 3 حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وقوله 4 23 حرمت عليكم أمهاتكم ثم قال 4 24 وأحل لكم ما رواء ذلكم ________________________________________ وفي تخصيصه لأهل الصراط المستقيم بالنعمة ما دل على أن النعمة المطلقة هي الموجبة للفلاح الدائم وأما مطلق النعمة فعلى المؤمن والكافر فكل الخلق في نعمه وهذا فصل النزاع في مسألة هل لله على الكافر من نعمة أم لا فالنعمة المطلقة لأهل الإيمان ومطلق النعمة تكون للمؤمن والكافر كما قال تعالى 14 34 وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار والنعمة من جنس الإحسان بل هي الإحسان والرب تعالى إحسانه على البر والفاجر والمؤمن والكافر وأما الإحسان المطلق فللذين اتقوا والذين هم محسنون الوجه الثاني أن الله سبحانه هو المنفرد بالنعم 16 53 وما بكم من نعمة فمن الله فأضيف إليه ما هو منفرد به وإن أضيف إلى غيره فلكونه طريقا ومجرى للنعمة وأما الغضب على أعدائه فلا يختص به تعالى بل ملائكته وأنبياؤه ورسله وأولياؤه يغضبون لغضبه فكان في لفظة المغضوب عليهم بموافقة أوليائه له من الدلالة على تفرده بالإنعام وأن النعمة المطلقة منه وحده هوالمنفرد بها ما ليس في لفظة المنعم عليهم الوجه الثالث أن في حذف فاعل الغضب من الإشعار بإهانة المغضوب عليه وتحقيره وتصغير شأنه ما ليس في ذكر فاعل النعمة من إكرام المنعم عليه والإشادة بذكره ورفع قدره ما ليس في حذفه فإذا رأيت من قد أكرمه ملك وشرفه ورفع قدره فقلت هذا الذي أكرمه السلطان وخلع عليه وأعطاه ما تمناه كان أبلغ في الثناء والتعظيم من قولك هذا الذي أكرم وخلع عليه وشرف وأعطى وتأمل سرا بديعا في ذكر السبب والجزاء للطوائف الثلاثة بأوجز لفظ وأخصره فإن الإنعام عليهم يتضمن إنعامه بالهداية التي هي العلم النافع والعمل الصالح وهي الهدى ودين الحق ويتضمن كمال الإنعام بحسن الثواب والجزاء فهذا تمام النعمة ولفظ أنعمت عليهم يتضمن الأمرين وذكر غضبه على المغضوب عليهم يتضمن أيضا أمرين الجزاء بالغضب الذي موجبه غاية العذاب والهوان والسبب الذي استحقوا به غضبه سبحانه ________________________________________ فإنه أرحم وأرأف من أن يغضب بلا جناية منهم ولا ضلال فكأن الغضب عليهم مستلزم لضلالهم وذكر الضالين مستلزم لغضبه عليهم وعقابه لهم فإن من ضل استحق العقوبة التي هي موجب ضلاله وغضب الله عليه فاستلزم وصف كل واحد من الطوائف الثلاث للسبب والجزاء أبين استلزام واقتضاه أكمل اقتضاء في غاية الإيجاز والبيان والفصاحة مع ذكر الفاعل في أهل السعادة وحذفة في أهل الغضب وإسناد الفعل إلى السبب في أهل الضلال وتأمل المقابلة بين الهداية والنعمة والغضب والضلال فذكر المغضوب عليهم و الضالين في مقابلة المهتدين المنعم عليهم وهذا كثير في القرآن يقرن بين الضلال والشقاء وبين الهدى والفلاح فالثاني كقوله 2 4 أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون وقوله أولئك لهم الأمن وهم مهتدون والأول كقوله تعالى 54 47 إن المجرمين في ضلال وسعر وقوله 2 7 ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم وقد جمع سبحانه بين الأمور الأربعة في قوله 20 123 فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى فهذا الهدى والسعادة ثم قال 20 124 ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى فذكر الضلال والشقاء فالهدى والسعادة متلازمان والضلال والشقاء متلازمان فصل وذكر الصراط المستقيم مفردا معرفا تعريفين تعريفا باللام وتعريفا بالإضافة وذلك يفيد تعينه واختصاصه وأنه صراط واحد وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها كقوله 6 153 وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله فوحد لفظ ________________________________________ الصراط و سبيله وجمع السبل المخالفة له وقال ابن مسعود خط لنا رسول الله خطا وقال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره وقال هذه سبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه ثم قرأ قوله تعالى وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد وهو ما بعث به رسله وأنزل به كتبه لا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق ولو أتى الناس من كل طريق واستفتحوا من كل باب فالطرق عليهم مسدودة والأبواب عليهم مغلقة إلا من هذا الطريق الواحد فإنه متصل بالله موصل إلى الله قال الله تعالى 15 14 هذا صراط علي مستقيم قال الحسن معناه صراط إلي مستقيم وهذا يحتمل أمرين أن يكون أراد به أنه من باب إقامة الأدوات بعضها مقام بعض فقامت أداة على مقام إلى والثاني أنه أراد التفسير على المعنى وهو الأشبه بطريق السلف أي صراط موصل إلي وقال مجاهد الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه لا يعرج على شيء وهذا مثل قول الحسن وأبين منه وهو من أصح ما قيل في الآية وقيل علي فيه للوجوب أي علي بيانه وتعريفه والدلالة عليه والقولان نظير القولين في آية النحل وهي 16 9 وعلى الله قصد السبيل والصحيح فيها كالصحيح في آية الحجر أن السبيل القاصد وهو المستقيم المعتدل يرجع إلى الله ويوصل إليه قال طفيل الغنوي مضوا سلفا قصد السبيل عليهم ... وصرف المنايا بالرجال تشقلب أي ممرنا عليهم وإليهم وصولنا وقال الآخر فهن المنايا أي واد سلكته ... عليها طريقي أو علي طريقها فإن قيل لو أريد هذا المعنى لكان الأليق به أداة إلى التي هي للإنتهاء لا أداة على التي هي للوجوب ألا ترى أنه لما أراد الوصول قال ________________________________________ 882223 - 3 إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم وقال 30 23 إلينا مرجعهم وقال 6 108 ثم إلى ربهم مرجعهم وقال لما أراد الوجوب 88 26 ثم إن علينا حسابهم وقال 75 17 إن علينا جمعه وقرآنه وقال 6 38 وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ونظائر ذلك قيل في أداة على سر لطيف وهو الإشعار بكون السالك على هذا الصراط على هدى وهو حق كما قال في حق المؤمنين 2 4 أولئك على هدى من ربهم وقال لرسوله 27 79 فتوكل على الله إنك على الحق المبين والله عز وجل هو الحق وصراطه حق ودينه حق فمن استقام على صراطه فهو على الحق والهدى فكان في أداة على على هذا المعنى ما ليس في أداة إلى فتأمله فإنه سر بديع فإن قلت فما الفائدة في ذكر على في ذلك أيضا وكيف يكون المؤمن مستعليا على الحق وعلى الهدى قلت لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى مع ثباته عليه واستقامته إليه فكان في الإتيان بأداة على ما يدل على علوه وثبوته واستقامته وهذا بخلاف الضلال والريب فإنه يؤتى فيه بأداة في الدالة على انغماس صاحبه وانقماعه وتدسسه فيه كقوله تعالى 9 45 فهم في ريبهم يترددون وقوله 6 39 والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات وقوله 23 24 فذرهم في غمرتهم حتى حين وقوله 42 14 وإنهم لفي شك منه مريب وتأمل قوله تعالى 34 24 وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين فإن طريق الحق تأخذ علوا صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير وطريق الضلال تأخذ سفلا هاوية بسالكها في أسفل سافلين وفي قوله تعالى 15 41 قال هذا صراط علي مستقيم قول ثالث وهو قول الكسائي إنه على التهديد والوعيد نظير قوله 89 14 إن ربك لبالمرصاد كما يقال طريقك على وممرك على لمن تريد إعلامه بأنه غير فائت لك ولا معجز والسياق يأبى هذا ولا يناسبه لمن تأمله فإنه قاله مجيبا لإبليس الذي قال 15 39 لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فإنه لا سبيل لي إلى إغوائهم ولا طريق لي عليهم ________________________________________ فقرر الله عز وجل ذلك أتم التقرير وأخبر أن الإخلاص صراط عليه مستقيم فلا سلطان لك على عبادي الذين هم على هذا الصراط لأنه صراط علي ولا سبيل لإبليس إلى هذا الصراط ولا الحوم حول ساحته فإنه محروس محفوظ بالله فلا يصل عدو الله إلى أهله فليتأمل العارف هذا الموضع حق التأمل ولينظر إلى هذا المعنى ويوازن بينه وبين القولين الآخرين أيهما أليق بالآيتين وأقرب إلى مقصود القرآن وأقوال السلف وأما تشبيه الكسائي له بقوله إن ربك لبالمرصاد فلا يخفى الفرق بينهما سياقا ودلالة فتأمله ولا يقال في التهديد هذا طريق مستقيم علي لمن لا يسلكه وليست سبيل المهدد مستقيمة فهو غير مهدد بصراط الله المستقيم وسبيله التي هو عليها ليست مستقيمة على الله فلا يستقيم هذا القول ألبتة وأما من فسره بالوجوب أي علي بيان استقامته والدلالة عليه فالمعنى صحيح لكن في كونه هو المراد بالآية نظر لأنه حذف في غير موضع الدلالة ولم يؤلف الحذف المذكور ليكون مدلولا عليه إذا حذف بخلاف عامل الظرف إذا وقع صفة فإنه حذف مألوف معروف حتى إنه لا يذكر ألبتة فإذا قلت له درهم على كان الحذف معروفا مألوفا فلو أردت علي نقده أو علي وزنه وحفظه ونحو ذلك وحذفت لم يسغ وهو نظير علي بيانه المقدر في الآية مع أن الذي قاله السلف أليق بالسياق وأجل المعنيين وأكبرهما وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رضي الله عنه يقول وهما نظير قوله تعالى 92 12 13 إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى قال فهذه ثلاثة مواضع في القرآن في هذا المعنى قلت وأكثر المفسرين لم يذكر في سورة والليل إذا يغشى إلا معنى الوجوب أي علينا بيان الهدى من الضلال ومنهم من لم يذكر في سورة النحل إلا هذا المعنى كالبغوي وذكر في الحجر الأقوال الثلاثة وذكر الواحدي في بسيطه المعنيين في سورة النحل واختار شيخنا قول مجاهد والحسن في السور الثلاث ________________________________________ فصل والصراط المستقيم هو صراط الله وهو يخبر أن الصراط عليه سبحانه كما ذكرنا ويخبر أنه سبحانه على الصراط المستقيم وهذا في موضعين من القرآن في هود والنحل قال في هود 11 56 ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم وقال في النحل 16 76 وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم فهذا مثل ضربه الله للأصنام التي لا تسمع ولا تنطق ولا تعقل وهي كل على عابدها يحتاج الصنم إلى أن يحمله عابده ويضعه ويقيمه ويخدمه فكيف يسوونه في العادة بالله الذي يأمر بالعدل والتوحيد وهو قادر متكلم غنى وهو على صراط مستقيم في قوله وفعله فقوله صدق ورشد ونصح وهدى وفعله حكمة وعدل ورحمة ومصلحة هذا أصح الأقول في الآية وهو الذي لم يذكر كثير من المفسرين غيره ومن ذكر غيره قدمه على الأقوال ثم حكاها بعده كما فعل البغوي فإنه جزم به وجعله تفسير الآية ثم قال وقال الكلبي يدلكم على صراط مستقيم قلت ودلالته لنا على الصراط هي من موجب كونه سبحانه على الصراط المستقيم فإن دلالته بفعله وقوله وهو على الصراط المستقيم في أفعاله وأقواله فلا يناقض قول من قال إنه سبحانه على الصراط المستقيم قال وقيل هو رسول الله يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم قلت وهذا حق لا يناقض القول الأول فالله على الصراط المستقيم ورسوله عليه فإنه لا يأمر ولا يفعل إلا مقتضاه وموجبه وعلى هذا يكون المثل مضروبا لإمام الكفار وهاديهم وهو الصنم الذي هو أبكم لا يقدر على هدى ولا خير والإمام الأبرار وهو رسول الله الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ________________________________________ وعلى القول الأول يكون مضروبا لمعبود الكفار ومعبود الأبرار والقولان متلازمان فبعضهم ذكر هذا وبعضهم ذكر هذا وكلاهما مراد من الآية قال وقيل كلاهما للمؤمن والكافر يرويه عطية عن ابن عباس وقال عطاء الأبكم أبي بن خلف ومن يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون قلت والآية تحتمله ولا يناقض القولين قبله فإن الله على صراط مستقيم ورسوله وأتباع رسوله وضد ذلك معبود الكفار وهاديهم والكافر التابع والمتبوع والمعبود فيكون بعض السلف ذكر أعلى الأنواع وبعضهم ذكر الهادي وبعضهم ذكر المستجيب القابل وتكون الآية متناولة لذلك كله ولذلك نظائر كثيرة في القرآن وأما آية هود فصريحة لا تحتمل إلا معنى واحدا وهو أن الله سبحانه على صراط مستقيم وهو سبحانه أحق من كان على صراط مستقيم فإن أقواله كلها صدق ورشد وهدى وعدل وحكمة 6 115 وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا وأفعاله كلها مصالح وحكم ورحمة وعدل وخير فالشر لا يدخل في أفعاله ولا أقواله ألبتة لخروج الشر عن الصراط المستقيم فكيف يدخل في أفعال من هو على الصراط المستقيم أو أقواله وإنما يدخل في أفعال من خرج عنه وفي أقواله وفي دعائه عليه الصلاة والسلام لبيك وسعديك والخير كله بيديك والشر ليس إليك ولا يلتفت إلى تفسير من فسره بقوله والشر لا يتقرب به ________________________________________ إليك أو لا يصعد إليك فإن المعنى أجل من ذلك وأكبر وأعظم قدرا فإن من أسماؤه كلها حسنى وأوصافه كلها كمال وأفعاله كلها حكم وأقواله كلها صدق وعدل يستحيل دخول الشر في أسمائه أو أوصافه أو أفعاله أو أقواله فطابق بين هذا المعنى وبين قوله إن ربي على صراط مستقيم وتأمل كيف ذكر هذا عقيب قوله 11 56 إني توكلت على الله ربي وربكم أي هو ربي فلا يسلمني ولا يضيعني وهو ربكم فلا يسلطكم علي ولا يمكنكم مني فإن نواصيكم بيده لا تفعلون شيئا بدون مشيئته فإن ناصية كل دابة بيده لا يمكنها أن تتحرك إلا بإذنه فهو المتصرف فيها ومع هذا فهو في تصرفه فيها وتحريكه لها ونفوذ قضائه وقدره فيها على صراط مستقيم لا يفعل ما يفعل من ذلك إلا بحكمة وعدل ومصلحة ولو سلطكم علي فله من الحكمة في ذلك ماله الحمد عليه لأنه تسليط من هو على صراط مستقيم لا يظلم ولا يفعل شيئا عبثا بغير حكمة فهكذا تكون المعرفة بالله لا معرفة القدرية المجوسية والقدرية الجبرية نفاة الحكم والمصالح والتعليل والله الموفق سبحانه فصل ولما كان طالب الصراط المستقيم طالب أمر أكثر الناس ناكبون عنه مريدا لسلوك طريق مرافقه فيها في غاية القلة والعزة والنفوس مجبولة على وحشة التفرد وعلى الأنس بالرفيق نبه الله سبحانه على الرفيق في هذه الطريق وأنهم هم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فأضاف الصراط إلى الرفيق السالكين له وهم الذين أنهم الله عليهم ليزول عن الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبنى جنسه وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط هم الذين أنعم الله عليهم فلا يكترث بمخالفة ________________________________________ الناكبين عنه له فإنهم هم الأقلون قدرا وإن كانوا الأكثرين عددا كما قال بعض السلف عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين وإياك وطريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق واحرص على اللحاق بهم وغض الطرف عمن سواهم فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك وقد ضربت لذلك مثلين فليكونا منك على بال المثل الأول رجل خرج من بيته إلى الصلاة لا يريد غيرها فعرض له في طريقه شيطان من شياطين الإنس فألقى عليه كلاما يؤذيه فوقف ورد عليه وتماسكا فربما كان شيطان الإنس أقوى منه فقهره ومنعه عن الوصول إلى المسجد حتى فاتته الصلاة وربما كان الرجل أقوى من شيطان الإنس ولكن اشتغل بمهاوشته عن الصف الأول وكمال إدراك الجماعة فإن التفت إليه أطمعه في نفسه وربما فترت عزيمته فإن كان له معرفة وعلم زاد في السعي والجمز بقدر التفاته أو أكثر فإن أعرض عنه واشتغل بما هو بصدده وخاف فوت الصلاة أوالوقت لم يبلغ عدوه منه ما شاء المثل الثاني الظبي أشد سعيا من الكلب ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه فيدركه الكلب فيأخذه والقصد أن في ذكر هذا الرفيق ما يزيل وحشة التفرد ويحث على السير والتشمير للحاق بهم وهذه إحدى الفوائد في دعاء القنوت اللهم اهدني فيمن هديت أي أدخلني في هذه الزمرة واجعلني رفيقا لهم ومعهم والفائدة الثانية أنه توسل إلى الله بنعمه وإحسانه إلى من أنعم عليه بالهداية أي قد أنعمت بالهداية على من هديت وكان ذلك نعمة منك فاجعل لي نصيبا من هذه النعمة واجعلني واحدا من هؤلاء المنعم عليهم فهو توسل إلى الله بإحسانه والفائدة الثالثة كما يقول السائل للكريم تصدق علي في جملة من تصدقت عليهم وعلمني في جملة من علمته وأحسن إلي في جملة من شملته بإحسانك فصل ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب ________________________________________ ونيله أشرف المواهب علم الله عباده كيفية سؤاله وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه وتمجيده ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم توسل إليه بأسمائه وصفاته وتوسل إليه بعبوديته وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء ويؤيدهما الوسيلتان المذكورتان في حديثي الإسم الأعظم اللذين رواهما ابن حبان في صحيحه والإمام أحمد والترمذي أحدهما حديث عبدالله بن بريدة عن أبيه قال سمع النبي رجلا يدعو ويقول اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى قال الترمذي حديث صحيح فهذا توسل إلى الله بتوحيده وشهادة الداعي له بالواحدانية وثبوت صفاته المدلول عليها باسم الصمد وهو كما قال ابن عباس العالم الذي كمل علمه القادر الذي كملت قدرته وفي رواية عنه هو السيد الذي قد كمل فيه جميع أنواع السؤدد وقال أبو وائل هو السيد الذي انتهى سؤده وقال سعيد بن جبير هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وأقواله وبنفي التشبيه والتمثيل عنه بقوله ولم يكن له كفوا أحد وهذه ترجمة عقيدة أهل السنة والتوسل بالإيمان بذلك والشهادة به هو الإسم الأعظم والثاني حديث أنس أن رسول الله سمع رجلا يدعو اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض ذا الجلال والإكرام ياحي يا قيوم فقال لقد سأل الله باسمه الأعظم فهذا توسل إليه بأسمائه وصفاته وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين وهما التوسل بالحمد والثناء عليه وتمجيده والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده ثم جاء سؤال أهم المطالب وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد الوسيلتين فالداعي به حقيق بالإجابة ________________________________________ ونظير هذا دعاء النبي الذي كان يدعو به إذا قام يصلي من الليل رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق والساعة حق ومحمد حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت إلهي لا إله إلا أنت فذكر التوسل إليه بحمده والثناء عليه وبعبوديته له ثم سأله المغفرة فصل في اشتمال هذه السورة على أنواع التوحيد الثلاثة التي اتفقت عليها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم التوحيد نوعان نوع في العلم والإعتقاد ونوع في الإرادة والقصد ويسمى الأول التوحيد العلمي والثاني التوحيد القصدي الإرادي لتعلق الأول بالأخبار والمعرفة والثاني بالقصد والإرادة وهذا الثاني أيضا نوعان توحيد في الربوبية وتوحيد في الإلهية فهذه ثلاثة أنواع فأما توحيد العلم فمداره إلى إثبات صفات الكمال وعلى نفي التشبيه والمثال والتنزيه عن العيوب والنقائص وقد دل على هذا شيئان مجمل ومفصل أما المجمل فإثبات الحمد له سبحانه وأما المفصل فذكر صفة الإلهية والربوبية والرحمة والملك وعلى هذه الأربع مدار الأسماء والصفات ________________________________________ فأما تضمن الحمد لذلك فإن الحمد يتضمن مدح المحمود بصفات كماله ونعوت جلاله مع محبته والرضا عنه والخضوع له فلا يكون حامدا من جحد صفات المحمود ولا من أعرض عن محبته والخضوع له وكلما كانت صفات كمال المحمود أكثر كان حمده أكمل وكلما نقص من صفات كماله نقص من حمده بحسبها ولهذا كان الحمد لله حمدا لا يحصيه سواه لكمال صفاته وكثرتها ولأجل هذا لا يحصى أحد من خلقه ثناء عليه لما له من صفات الكمال ونعوت الجلال التي لا يحصيها سواه ولهذا ذم الله تعالى آلهة الكفار وعابها بسلب أوصاف الكمال عنها فعابها بأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم ولا تهدي ولا تنفع ولا تضر وهذه صفة إله الجهمية التي عاب بها الأصنام نسبوها إليه تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا فقال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام في محاجته لأبيه 19 42 يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا فلو كان إله إبراهيم بهذه الصفة والمثابة لقال له آزر وأنت إلهك بهذه المثابة فكيف تنكر علي لكن كان مع شركه أعرف بالله من الجهمية وكذلك كفار قريش كانوا مع شركهم مقرين بصفات الصانع سبحانه وعلوه على خلقه وقال تعالى 7 148 واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين فلو كان إله الخلق سبحانه كذلك لم يكن في هذا إنكار عليهم واستدلال على بطلان الإلهية بذلك فإن قيل فالله تعالى لا يكلم عباده ________________________________________ قيل بلى قد كلمهم فمنهم من كلمه الله من وراء حجاب منه إليه بلا واسطة كموسى ومنهم من كلمه الله على لسان رسوله الملكي وهم الأنبياء وكلم الله سائر الناس على ألسنة رسله فأنزل عليهم كلامه الذي بلغته رسله عنه وقالوا لهم هذا كلام الله الذي تكلم به وأمرنا بتبليغه إليكم ومن ههنا قال السلف من أنكر كون الله متكلما فقد أنكر رسالة الرسل كلهم لأن حقيقتها تبليغ كلامه الذي تكلم به إلى عباده فإذا انتفى كلامه انتفت الرسالة وقال تعالى في سورة طه عن السامري 20 88 فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ورجع القول هو التكلم والتكليم وقال تعالى 16 76 ضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم فجعل نفي صفة الكلام موجبا لبطلان الإلهية وهذا أمر معلوم بالفطر والعقول السليمة والكتب السماوية أن فاقد صفات الكمال لا يكون إلها ولا مدبرا ولا ربا بل هو مذموم معيب ناقص ليس له الحمد لا في الأولى ولا في الآخرة وإنما الحمد في الأولى والآخرة لمن له صفات الكمال ونعوت الجلال التي لأجلها استحق الحمد ولهذا سمى السلف كتبهم التي صنفوها في السنة وإثبات صفات الرب وعلوه على خلقه وكلامه وتكليمه توحيدا لأن نفي ذلك وإنكاره والكفر به إنكار للصانع وجحد له وإنما توحيده إثبات صفات كماله وتنزيهه عن التشبيه والنقائص فجعل المعطلة جحد الصفات وتعطيل الصانع عنها ________________________________________ توحيدا وجعلوا إثباتها لله تشبيها وتجسيما وتركيبا فسموا الباطل باسم الحق ترغييا فيه وزخرفا ينفقونه به وسموا الحق باسم الباطل تنفيرا عنه والناس أكثرهم مع ظاهر السكة ليس لهم نقد النقاد 18 17 من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا والمحمود لا يحمد على العدم والسكوت ألبتة إلا إذا كانت سلب عيوب ونقائص تتضمن إثبات أضدادها من الكمالات الثبوتية وإلا فالسلب المحض لا حمد فيه ولا مدح ولا كمال وكذلك حمده لنفسه على عدم اتخاذ الولد المتضمن لكمال صمديته وغناه وملكه وتعبيد كل شيء له فاتخاذ الولد ينافي ذلك كما قال تعالى 10 67 قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السموات وما في الأرض وحمد نفسه على عدم الشريك المتضمن تفرده بالربوبية والإلهية وتوحده بصفات الكمال التي لا يوصف بها غيره فيكون شريكا له فلو عدمها لكان كل موجود أكمل منه لأن الموجود أكمل من المعدوم ولهذا لا يحمد نفسه سبحانه بعدم إلا إذا كان متضمنا لثبوت كمال كما حمد نفسه بكونه لا يموت لتضمنه كمال حياته وحمد نفسه بكونه لا تأخذه سنة ولا نوم لتضمن ذلك كمال قيوميته وحمد نفسه بأنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر لكمال علمه وإحاطته وحمد نفسه بأنه لا يظلم أحدا لكمال عدله وإحسانه وحمد نفسه بأنه لا تدركه الأبصار لكمال عظمته يرى ولا يدرك كما أنه يعلم ولا يحاط به علما فمجرد نفي الرؤية ليس بكمال لأن العدم لا يرى فليس في كون الشيء لا يرى كمال ألبتة وإنما الكمال في كونه لا يحاط به رؤية ولا إدراكا لعظمته في نفسه وتعاليه عن إدراك المخلوق له وكذلك حمد نفسه بعدم الغفلة والنسيان لكمال علمه فكل سلب في القرآن حمدالله به نفسه فلمضادته لثبوت ضده ولتضمنه كمال ثبوت ضده فعلمت أن حقيقة الحمد تابعة لثبوت أوصاف الكمال وأن نفيها نفي لحمده ونفي الحمد مستلزم لثبوت ضده ________________________________________ فصل فهذه دلالة على توحيد الأسماء والصفات وأما دلالة الأسماء الخمسة عليها وهي الله والرب والرحمن والرحيم والملك فمبنى على أصلين أحدهما أن أسماء الرب تبارك وتعالى دالة على صفات كماله فهي مشتقة من الصفات فهي أسماء وهي أوصاف وبذلك كانت حسنى إذ لو كانت ألفاظا لا معانى فيها لم تكن حسنى ولا كانت دالة على مدح ولا كمال ولساغ وقوع أسماء الإنتقام والغضب في مقام الرحمة والإحسان وبالعكس فيقال اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت المنتقم واللهم أعطني فإنك أنت الضار المانع ونحو ذلك ونفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم الإلحاد فيها قال تعالى 7 170 وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ولأنها لو لم تدل على معان وأوصاف لم يجز أن يخبر عنها بمصادرها ويوصف بها لكن الله أخبر عن نفسه بمصادرها وأثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله كقوله تعالى 51 58 إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين فعلم أن القوى من أسمائه ومعناه الموصوف بالقوة وكذلك قوله 35 10 فلله العزة جميعا فالعزيز من له العزة فلولا ثبوت القوة والعزة له لم يسم قويا ولا عزيزا وكذلك قوله 4 166 أنزله بعلمه 11 14 فاعلموا أنما أنزل بعلم الله 2 255 ولا يحيطون بشيء من علمه وفي الصحيح عن النبي إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه فأثبت المصدر الذي اشتق منه اسمه البصير وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات وفي الصحيحح حديث الإستخارة اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك فهو قادر بقدرة وقال تعالى لموسى 7 144 إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فهو متكلم بكلام ________________________________________ وهو العظيم الذي له العظمة كما في الصحيح عنه يقول الله تعالىالعظمة إزاري والكبرياء ردائي وهو الحكيم الذي له الحكم 40 12 فالحكم لله العلي الكبير وأجمع المسلمون أنه لو حلف بحياة الله أو سمعه أو بصره أو قوته أو عزته أو عظمته انعقدت يمينه وكانت مكفرة لأن هذه صفات كماله التي اشتقت منها أسماؤه وأيضا لو لم تكن أسماؤه مشتملة على معان وصفات لم يسغ أن يخبر عنه بأفعالها فلا يقال يسمع ويرى ويعلم ويقدر ويريد فإن ثبوت أحكام الصفات فرع ثبوتها فإذا انتقى أصل الصفة استحال ثبوت حكمها وأيضا فلو لم تسكن أسماؤه ذوات معان وأوصاف لكانت جامدة كالأعلام المحضة التي لم توضع لمسماها باعتبار معنى قام به فكانت كلها سواء ولم يكن فرق بين مدلولاتها وهذا مكابرة صريحة وبهت بين فإن من جعل معنى اسم القدير هو معنى اسم السميع البصير ومعنى اسم التواب هو معنى اسم المنتقم ومعنى اسم المعطي هو معنى اسم المانع فقد كابر العقل واللغة والفطرة فنفي معاني أسمائه من أعظم الإلحاد فيها والإلحاد فيها أنواع هذا أحدها الثاني تسمية الأوثان بها كما يسمونها آلهة وقال ابن عباس ومجاهد عدلوا بأسماء الله تعالى عما هي عليه فسموا بها أوثانهم فزادوا ونقصوا فاشتقوا اللات من الله والعزى من العزيز ومناة من المنان وروي عن ابن عباس يلحدون في أسمائه يكذبون عليه وهذا تفسير بالمعنى وحقيقة الإلحاد فيها العدول بها عن الصواب فيها وإدخال ما ليس من معانيها فيها وإخراج حقائق معانيها عنها هذا حقيقة الإلحاد ومن فعل ذلك فقد كذب على الله ففسر ابن عباس الإلحاد بالكذب أو هو غاية الملحد في أسمائه تعالى فإنه إذا أدخل في معانيها ما ليس منها وخرج بها عن حقائقها أو بعضها فقد عدل بها عن الصواب والحق وهو حقيقة الإلحاد ________________________________________ فالإلحاد إما بجحدها وإنكارها وإما بجحد معانيها وتعطيلها وإما بتحريفها عن الصواب وإخراجها عن الحق بالتأويلات الباطلة وإما بجعلها أسماء لهذه المخلوقات المصنوعات كإلحاد أهل الإتحاد فإنهم جعلوها أسماء هذا الكون محمودها ومذمومها حتى قال زعيمهم وهو المسمى بكل اسم ممدوح عقلا وشرعا وعرفا وبكل اسم مذموم عقلا وشرعا وعرفا تعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا فصل الأصل الثاني أن الإسم من أسمائه تبارك وتعالى كما يدل على الذات والصفة التي اشتق منها بالمطابقة فإنه يدل عليه دلالتين أخريين بالتضمن واللزوم فيدل على الصفة بمفردها بالتضمن وكذلك على الذات المجردة عن الصفة ويدل على الصفة الأخرى باللزوم فإن اسم السميع يدل على ذات الرب وسمعه بالمطابقة وعلى الذات وحدها وعلى السمع وحده بالتضمن ويدل على اسم الحي وصفة الحياة بالإلتزام وكذلك سائر أسمائه وصفاته ولكن يتفاوت الناس في معرفة اللزوم وعدمه ومن ههنا يقع اختلافهم في كثير من الأسماء والصفات والأحكام فإن من علم أن الفعل الإختياري لازم للحياة وأن السمع والبصر لازم للحياة الكاملة وأن سائر الكمال من لوازم الحياة الكاملة أثبت من أسماء الرب وصفاته وأفعاله ما ينكره من لم يعرف لزوم ذلك ولا عرف حقيقة الحياة ولوازمها وكذلك سائر صفاته فإن اسم العظيم له لوازم ينكرها من لم يعرف عظمة الله ولوازمها وكذلك اسم العلي واسم الحكيم وسائر أسمائه فإن من لوازم اسم العلي العلو المطلق بكل اعتبار فله العلو المطلق من جميع الوجوه علو القدر وعلو القهر وعلو الذات فمن جحد علو الذات فقد جحد لوازم اسمه العلي ________________________________________ وكذلك اسمه الظاهر من لوازمه أن لا يكون فوقه شيء كما في الصحيح عن النبي وأنت الظاهر فليس فوقك شيء بل هو سبحانه فوق كل شيء فمن جحد فوقيته سبحانه فقد جحد لوازم اسمه الظاهر ولا يصح أن يكون الظاهر هو من له فوقية القدر فقط كما يقال الذهب فوق الفضة والجوهر فوق الزجاج لأن هذه الفوقية تتعلق بالظهور بل قد يكون المفوق أظهر من الفائق فيها ولا يصح أن يكون ظهور القهر والغلبة فقط وإن كان سبحانه ظاهرا بالقهر والغلبة لمقابلة الإسم الباطن وهو الذي ليس دونه شيء كما قابل الأول الذي ليس قبله شيء ب الآخر الذي ليس بعده شيء وكذلك اسم الحكيم من لوازمه ثبوت الغايات المحمودة المقصودة له بأفعاله ووضعه الأشياء في مواضعها وإيقاعها على أحسن الوجوه فإنكار ذلك إنكار لهذا الإسم ولوازمه وكذلك سائر أسمائه الحسنى فصل إذا تقرر هذان الأصلان فاسم الله دال على جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا بالدلالات الثلاث فإنه دال على إلهيته المتضمنة لثبوت صفات الإلهية له مع نفي أضدادها عنه وصفات الإلهية هي صفات الكمال المنزهة عن التشبيه والمثال وعن العيوب والنقائص ولهذا يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الإسم العظيم كقوله تعالى 7 180 ولله الأسماء الحسنى ويقال الرحمن والرحيم والقدوس والسلام والعزيز والحكيم من أسماء الله ولا يقال الله من أسماء الرحمن ولا من أسماء العزيز ونحو ذلك فعلم أن اسمه الله مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى دال عليها بالإجمال والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم الله واسم الله دال على كونه مألوها معبودا تألهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا وفزعا ________________________________________ إليه في الحوائج والنوائب وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته المتضمنين لكمال الملك والحمد وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم لجميع صفات كماله إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا قادر ولا متكلم ولا فعال لما يريد ولا حكيم في أفعاله وصفات الجلال والجمال أخص باسم الله وصفات الفعل والقدرة والتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة أخص باسم الرب وصفات الإحسان والجود والبر والحنان والمنة والرأفة واللطف أخص باسم الرحمن وكرر إيذانا بثبوت الوصف وحصول أثره وتعلقه بمتعلقاته فالرحمن الذي الرحمة وصفه والرحيم الراحم لعباده ولهذا يقول تعالى 33 43 وكان بالمؤمنين رحيما 9 117 إنه بهم رءوف رحيم ولم يجيء رحمان بعباده ولا رحمان بالمؤمنين مع ما في اسم الرحمن الذي هو على وزن فعلان من سعة هذا الوصف وثبوت جميع معناه الموصوف به ألا ترى أنهم يقولون غضبان للممتليء غضبا وندمان وحيران وسكران ولهفان لمن ملىء بذلك فبناء فعلان للسعة والشمول ولهذا يقرن استواءه على العرش بهذا الإسم كثيرا كقوله تعالى 20 5 الرحمن على العرش استوى 26 59 ثم استوى على العرش الرحمن فاستوى على عرشه باسم الرحمن لأن العرش محيط بالمخلوقات قد وسعها والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم كما قال تعالى 7 156 ورحمتي وسعت كل شيء فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات فلذلك وسعت رحمته كل شيء وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده موضوع على العرش إن رحمتي تغلب غضبي وفي لفظ فهو عنده على العرش فتأمل اختصاص هذا الكتاب بذكر الرحمة ووضعه عنده على العرش وطابق بين ذلك وبين قوله الرحمن على العرش استوى وقوله 25 156 ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا ينفتح لك باب عظيم من معرفة الرب تبارك وتعالى إن لم يغلقه عنك التعطيل والتجهم ________________________________________ وصفات العدل والقبض والبسط والخفض والرفع والعطاء والمنع والإعزاز والإذلال والقهر والحكم ونحوها أخص باسم الملك وخصه بيوم الدين وهو الجزاء بالعدل لتفرده بالحكم فيه وحده ولأنه اليوم الحق وما قبله كساعة ولأنه الغاية وأيام الدنيا مراحل إليه فصل وتأمل ارتباط الخلق والأمر بهذه الأسماء الثلاثة وهي الله والرب والرحمن كيف نشأ عنها الخلق والأمر والثواب والعقاب وكيف جمعت الخلق وفرقتهم فلها الجمع ولها الفرق فاسم الرب له الجمع الجامع لجميع المخلوقات فهو رب كل شيء وخالقه والقادر عليه لا يخرج شيء عن ربوبيته وكل من في السموات والأرض عبد له في قبضته وتحت قهره فاجتمعوا بصفة الربوبية وافترقوا بصفة الإلهية فألهه وحده السعداء وأقروا له طوعا بأنه الله الذي لا إله إلا هو الذي لا تنبغي العبادة والتوكل والرجاء والخوف والحب والإنابة والإخبات والخشية والتذلل والخضوع إلا له وهنا افترق الناس وصاروا فريقين فريقا مشركين في السعير وفريقا موحدين في الجنة فالإلهية هي التي فرقتهم كما أن الربوبية هي التي جمعتهم فالدين والشرع والأمر والنهي مظهره وقيامه من صفة الإلهية والخلق والإيجاد والتدبير والفعل من صفة الربوبية والجزاء بالثواب والعقاب والجنة والنار من صفة الملك وهو ملك يوم الدين فأمرهم بإلهيته وأعانهم ووفقهم وهداهم وأضلهم بربوبيته وأثابهم وعاقبهم بملكه وعدله وكل واحدة من هذه الأمور لا تنفك عن الأخرى وأما الرحمة فهي التعلق والسبب الذي بين الله وبين عباده فالتأليه منهم له والربوبية منه لهم والرحمة سبب واصل بينه وبين عباده بها أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وبها هداهم وبها أسكنهم دار ثوابه وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم فبينهم وبينه سبب العبودية وبينه وبينهم سبب الرحمة ________________________________________ واقتران ربوبيته برحمته كاقتران استوائه على عرشه برحمته ف الرحمن على العرش استوى مطابق لقوله رب العالمين الرحمن الرحيم فإن شمول الربوبية وسعتها بحيث لا يخرج شيء عنها أقصى شمول الرحمة وسعتها فوسع كل شيء برحمته وربوبيته مع أن في كونه ربا للعالمين ما يدل على علوه على خلقه وكونه فوق كل شيء كما يأتي بيانه إن شاء الله فصل في ذكر هذه الأسماء بعد الحمد وإيقاع الحمد على مضمونها ومقتضاها ما يدل على أنه محمود في إلهيته محمود في ربوبيته محمود في رحمانيته محمود في ملكه وأنه إله محمود ورب محمود ورحمان محمود وملك محمود فله بذلك جميع أقسام الكمال كمال من هذا الإسم بمفرده وكمال من الآخر بمفرده وكمال من اقتران أحدهما بالآخر مثال ذلك قوله تعالى والله غني حميد والله عليم حكيم والله قدير والله غفور رحيم فالغنى صفة كمال والحمد صفة كمال واقتران غناه بحمده كمال أيضا وعلمه كمال وحكمته كمال واقتران العلم بالحكمة كمال أيضا وقدرته كمال ومعفرته كمال واقتران القدرة بالمغفرة كمال وكذلك العفو بعد القدرة 4 14 إن الله كان عفوا قديرا واقتران العلم بالحلم 4 11 والله عليم حليم ________________________________________ وحملة العرش أربعة اثنان يقولان سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك واثنان يقولان سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك فما كل من قدر عفا ولا كل من عفا يعفو عن قدرة ولا كل من علم يكون حليما ولا كل حليم عالم فما قرن شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم ومن عفو إلى قدرة ومن ملك إلى حمد ومن عزة إلى رحمة 26 9 وإن ربك لهو العزيز الرحيم ومن ههنا كان قول المسيح عليه السلام 5 121 إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم أحسن من أن يقول وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم أي إن غفرت لهم كان مصدر مغفرتك عن عزة وهي كمال القدرة وعن حكمة وهي كمال العلم فمن غفر عن عجز وجهل بجرم الجاني لا يكون قادرا حكيما عليما بل لا يكون ذلك إلا عجزا فأنت لا تغفر إلا عن قدرة تامة وعلم تام وحكمة تضع بها الأشياء مواضعها فهذا أحسن من ذكر الغفور الرحيم في هذا الموضع الدال ذكره على التعريض بطلب المغفرة في غير حينها وقد فاتت فإنه لو قال وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم كان في هذا من الإستعطاف والتعريض بطلب المغفرة لمن لا يستحقها ما ينره عنه منصب المسيح عليه السلام لا سيما والموقف موقف عظمة وجلال وموقف انتقام ممن جعل لله ولدا واتخذه إلها من دونه فذكر العزة والحكمة فيه أليق من ذكر الرحمة والمغفرة وهذا بخلاف قول الخليل عليه السلام 14 35 و36 واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ولم يقل فإنك عزيز حكيم لأن المقام استعطاف وتعريض بالدعاء أي إن تغفر لهم وترحمهم بأن توفقهم للرجوع من الشرك إلى التوحيد ومن المعصية إلى الطاعة كما في الحديث اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون وفي هذا أظهر الدلالة على أن أسماء الرب تعالى مشتقة من أوصاف ومعان قامت به وأن كل اسم يناسب ما ذكر معه واقترن به من فعله وأمره والله الموفق للصواب ________________________________________ فصل في مراتب الهداية الخاصة والعامة وهي عشر مراتب المرتبة الأولى مرتبة تكليم الله عز وجل لعبده يقظة بلا واسطة بل منه إليه وهذه أعلى مراتبها كما كلم موسى بن عمران صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه قال الله تعالى 4 163 وكلم الله موسى تكليما فذكر في أول الآية وحيه إلى نوح والنبيين من بعده ثم خص موسى من بينهم بالإخبار بأنه كلمه وهذا يدل على أن التكليم الذي حصل له أخصمن مطلق الوحي الذي ذكر في أول الآية ثم أكده بالمصدر الحقيقي الذي هو مصدر كلم هو التكليم رفعا لما يتوهمه المعطلة والجهمية والمعتزلة وغيرهم من أنه إلهام أو إشارة أو تعريف للمعنى النفسي بشيء غير التكليم فأكده بالمصدر المفيد تحقيق النسبة ورفع توهم المجاز قال الفراء العرب تسمى ما يوصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ولكن لا تحققه بالمصدر فإذا حققته بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام كالإرادة يقال فلان أراد إرادة يريدون حقيقة الإرادة ويقال أراد الجدار ولا يقال إرادة لأنه مجاز غير حقيقة هذا كلامه وقال تعالى 7 142 ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك وهذا التكليم غير التكليم الأول الذي أرسله به إلى فرعون وفي هذا التكليم الثاني سأل النظر لا في الأول وفيه أعطى الألواح وكان عن مواعدة من الله له والتكليم الأول لم يكن عن مواعدة وفيه قال الله له 7 143 يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي أي بتكليمي لك بإجماع السلف ________________________________________ وقد أخبر سبحانه في كتابه أنه ناداه وناجاه فالنداء من بعد والنجاء من قرب تقول العرب إذا كبرت الحلقة فهو نداء أو نجاء وقال له أبوه آدم في محاجته أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده وكذلك يقوله له أهل الموقف إذا طلبوا منه الشفاعة إلى ربه وكذلك في حديث الإسراء في رؤية موسى في السماء السادسة أو السابعة على اختلاف الرواية قال وذلك بتفضيله بكلام الله ولو كان التكليم الذي حصل له من جنس ما حصل لغيره من الأنبياء لم يكن لهذا التخصيص به في هذه الأحاديث معنى ولا كان يسمى كليم الرحمن وقال تعالى 42 51 وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ففرق بين تكليم الوحي والتكليم بإرسال الرسول والتكليم من وراء حجاب فصل المرتبة الثانية مرتبة الوحي المختص بالأنبياء قال الله تعالى 4 126 - إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وقال 42 51 وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب الآية فجعل الوحي في هذه الآية قسما من أقسام التكليم وجعله في آية النساء قسيما للتكليم وذلك باعتبارين فإنه قسيم التكليم الخاص الذي هو بلا واسطة وقسم من التكليم العام الذي هو إيصال المعنى بطرق متعددة والوحي في اللغة هو الإعلام السريع الخفي ويقال في فعله وحى وأوحى قال رؤية وحى لها القرار فاستقرت وهو أقسام كما سنذكره فصل المرتبة الثالثة إرسال الرسول الملكي إلى الرسول البشري فيوحى إليه عن الله ما أمره أن يوصله إليه فهذه المراتب الثلاث خاصة بالأنبياء لا تكون لغيرهم ثم هذا الرسول الملكي قد يتمثل للرسول البشرى رجلا يراه عيانا ويخاطبه وقد يراه على صورته التي خلق عليها وقد يدخل فيه الملك ويوحى إليه ما يوحيه ثم يفصم عنه أي يقلع والثلاثة حصلت لنبينا فصل المرتبة الرابعة مرتبة التحديث وهذه دون مرتبة الوحي الخاص ________________________________________ وتكون دون مرتبة الصديقين كما كانت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه كما قال النبي إنه كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في هذه الأمة فعمر بن الخطاب / ح / وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله يقول جزم بأنهم كائنون في الأمم قبلنا وعلق وجودهم في هذه الأمة ب إن الشرطية مع أنها أفضل الأمم لاحتياج الأمم قبلنا إليهم واستغناء هذه الأمة عنهم بكمال نبيها ورسالته فلم يحوج الله الأمة بعده إلى محدث ولا ملهم ولا صاحب كشف ولا منام فهذا التعليق لكمال الأمة واستغنائها لا لنقصها والمحدث هو الذي يحدث في سره وقلبه بالشيء فيكون كما يحدث به قال شيخنا والصديق أكمل من المحدث لأنه استغنى بكمال صديقيته ومتابعته عن التحديث والإلهام والكشف فإنه قد سلم قلبه كله وسره وظاهره وباطنه للرسول فاستغنى به عما منه قال وكان هذا المحدث يعرض ما يحدث به على ما جاء به الرسول فإن وافقه قبله وإلا رده فعلم أن مرتبة الصديقية فوق مرتبة التحديث قال وأما ما يقوله كثير من أصحاب الخيالات والجهالات حدثني قلبي عن ربي فصحيح أن قلبه حدثه ولكن عمن عن شيطانه أو عن ربه فإذا قال حدثني قلبي عن ربي كان مسندا الحديث إلى من لم يعلم أنه حدثه به وذلك كذب قال ومحدث الأمة لم يكن يقول ذلك ولا تفوه به يوما من الدهر وقد أعاذه الله من أن يقول ذلك بل كتب كاتبه يوما هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقال لا امحه واكتب هذا ما رأى عمر بن الخطاب فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمن عمر والله ورسوله منه برىء وقال في الكلالة أقول فيها برأيى فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان فهذا قول المحدث بشهادة الرسول وأنت ترى الإتحادي والحلولي والإباحي الشطاح والسماعي مجاهر بالقحة والفرية يقول حدثني قلبي عن ربي فانظر إلى ما بين القائلين والمرتبتين والقولين والحالين وأعط كل ذي حق حقه ولا تجعل الزغل والخالص شيئا واحدا ________________________________________ فصل المرتبة الخامسة مرتبة الإفهام قال الله تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما فذكر هذين النبيين الكريمين وأثنى عليهما بالعلم والحكم وخص سليمان بالفهم في هذه الواقعة المعينة وقال على ابن أبي طالب وقد سئل هل خصكم رسول الله بشيء دون الناس فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلافهما يؤتيه الله عبدا في كتابه وما في هذه الصحيفة وكان فيها العقل وهو الديات وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر وفي كتاب عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما والفهم الفهم فيما أدلى إليك فالفهم نعمة من الله على عبده ونور يقذفه الله في قلبه يعرف به ويدرك مالا يدركه غيره ولا يعرفه فيفهم من النص مالا يفهمه غيره مع استوائهما في حفظه وفهم أصل معناه فالفهم عن الله ورسوله عنوان الصديقية ومنشور الولاية النبوية وفيه تفاوتت مراتب العلماء حتى عد ألف بواحد فانظر إلى فهم ابن عباس وقد سأله عمر ومن حضر من أهل بدر وغيرهم عن سورة إذا جا نصر الله والفتح وما خص به ابن عباس من فهمه منها أنها نعى الله سبحانه نبيه إلى نفسه وإعلامه بحضور أجله وموافقة عمر له على ذلك وخفائه عن غيرهما من الصحابة وابن عباس إذ ذاك أحدثهم سنا وأين تجد في هذه السورة الإعلام بأجله لولا الفهم الخاص ويدق هذا حتى يصل إلى مراتب تتقاصر عنها أفهام أكثر الناس فيحتاج مع النص إلى غيره ولا يقع الإستغناء بالنصوص في حقه وأما في حق صاحب الفهم فلا يحتاج مع النصوص إلى غيرها فصل المرتبة السادسة مرتبة البيان العام وهو تبيين الحق وتمييزه من ________________________________________ الباطل بأدلته وشواهده وأعلامه بحيث يصير مشهودا للقلب كشهود العين للمرئيات وهذه المرتبة هي حجة الله على خلقه التي لا يعذب أحدا ولا يضله إلا بعد وصوله إليها قال الله تعالى 9 115 وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون فهذا الإضلال عقوبة منه لهم حين بين لهم فلم يقبلوا ما بينه لهم ولم يعملوا به فعاقبهم بأن أضلهم عن الهدى وما أضل الله سبحانه أحدا قط إلا بعد هذا البيان وإذا عرفت هذا عرفت سر القدر وزالت عنك شكوك كثيرة وشبهات في هذا الباب وعلمت حكمة الله في إضلاله من يضله من عباده والقرآن يصرح بهذا في غير موضع كقوله 61 5 فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم 4 155 وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فالأول كفر عناد والثاني كفر طبع وقوله 6 110 ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون فعاقبهم على ترك الإيمان به حين تيقنوه وتحققوه بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم فلم يهتدوا له فتأمل هذا الموضع حق التأمل فإنه موضع عظيم وقال تعالى 41 17 وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فهذا هدى بعد البيان والدلالة وهو شرط لا موجب فإنه إن لم يقترن به هدى آخر بعده لم يحصل به كمال الإهتداء وهو هدى التوفيق والإلهام وهذا البيان نوعان بيان بالآيات المسموعة المتلوة وبيان بالآيات المشهودة المرئية وكلاهما أدلة وآيات على توحيد الله وأسمائه وصفاته وكماله وصدق ما أخبرت به رسله عنه ولهذا يدعو عباده بآياته المتلوة إلى التفكير في آياته المشهودة ويحضهم على التفكر في هذه وهذه وهذا البيان هو الذي بعثت به الرسل وجعل إليهم وإلى العلماء بعدهم وبعد ذلك يضل الله من يشاء قال الله تعالى 64 4 وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم فالرسل تبين والله هو الذي يضل من يشاء ويهدي من يشاء بعزته وحكمته ________________________________________ فصل المرتبة السابعة البيان الخاص وهو البيان المستلزم للهداية الخاصة وهو بيان تقارنه العناية والتوفيق والإجتباء وقطع أسباب الخذلان وموادها عن القلب فلا تتخلف عنه الهداية ألبتة قال تعالى في هذه المرتبة 16 37 إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وقال 38 56 إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء فالبيان الأول شرط وهذا موجب فصل المرتبة الثامنة مرتبة الإسماع قال الله تعالى ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون وقد قال تعالى 35 22 وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير وهذا الإسماع أخص من إسماع الحجة والتبليغ فإن ذلك حاصل لهم وبه قامت الحجة عليهم لكن ذاك إسماع الآذان وهذا إسماع القلوب فإن الكلام له لفظ ومعنى وله نسبة إلى الآذان والقلب وتعلق بهما فسماع لفظه حظ الأذن وسماع حقيقة معناه ومقصوده حظ القلب فإنه سبحانه نفى عن الكفار سماع المقصود والمراد الذي هو حظ القلب وأثبت لهم سماع الألفاظ الذي هو حظ الأذن في قوله 21 2 ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم وهذا السماع لا يفيد السامع إلا قيام الحجة عليه أو تمكنه منها وأما مقصود السماع وثمرته والمطلوب منه فلا يحصل مع لهو القلب وغفلته وإعراضه بل يخرج السامع قائلا للحاضر معه 47 16 ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم والفرق بين هذه المرتبة ومرتبة الإفهام أن هذه المرتبة إنما تحصل بواسطة الأذن ومرتبة الإفهام أعم فهي أخص من مرتبة الفهم من هذا الوجه ومرتبة الفهم أخص من وجه آخر وهي أنها تتعلق بالمعنى المراد ولوازمه ومتعلقاته وإشاراته ومرتبة السماع مدارها على إيصال المقصود بالخطاب إلى القلب ويترتب على هذا السماع سماع القبول ________________________________________ فهو إذن ثلاث مراتب سماع الأذن وسماع القلب وسماع القبول والإجابة فصل المرتبة التاسعة مرتبة الإلهام قال تعالى ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها وقال النبي لحصير بن منذر الخزاعي لما أسلم قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي وقد جعل صاحب المنازل الإلهام هو مقام المحدثين قال وهو فوق مقام الفراسة لأن الفراسة ربما وقعت نادرة واستصعبت على صاحبها وقتا أو استعصت عليه والإلهام لا يكون إلا في مقام عتيد قلت التحديث أخص من الإلهام فإن الإلهام عام للمؤمنين بحسب إيمانهم فكل مؤمن فقد ألهمه الله رشده الذي حصل له به الإيمان فأما التحديث فالنبي قال فيه إن يكن في هذه الأمة أحد فعمر يعني من المحدثين فالتحديث إلهام خاص وهو الوحي إلى غير الأنبياء إما من المكلفين كقوله تعالى 28 7 وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه وقوله 5 111 وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي وإما من غير المكلفين كقوله تعالى 16 29 وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون فهذا كله وحي إلهام وأما جعله فوق مقام الفراسة فقد احتج عليه بأن الفراسة ربما وقعت نادرة كما تقدم والنادر لا حكم له وربما استعصت على صاحبها واستصعبت عليه فلم تطاوعه والإلهام لا يكون إلا في مقام عتيد يعني في مقام القرب والحضور والتحقيق في هذا أن كل واحد من الفراسة والإلهام ينقسم إلى عام وخاص وخاص كل واحد منهما فوق عام الآخر وعام كل واحد قد يقع كثيرا وخاصة قد يقع نادرا ولكن الفرق الصحيح أن الفراسة قد تتعلق بنوع كسب وتحصيل وأما الإلهام فموهبة مجردة لا تنال بكسب ألبتة فصل قال وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى نبأ يقع وحيا قاطعا مقرونا بسماع إذ مطلق النبأ الخبر الذي له شأن فليس كل خبر نبأ وهو نبأ خبر عن غيب معظم ويريد بالوحي والإلهام الإعلام الذي يقطع من وصل إليه بموجبه إما بواسطة سمع أو هو الإعلام بلا واسطة ________________________________________ قلت أما حصوله بواسطة سمع فليس ذلك إلهاما بل هو من قبيل الخطاب وهذا يستحيل حصوله لغير الأنبياء وهو الذي خص به موسى إذ كان المخاطب هو الحق عز وجل وأما ما يقع لكثير من أرباب الرياضات من سماع فهو من أحد وجوه ثلاثة لا رابع لها أعلاها أن يخاطبه الملك خطابا جزئيا فإن هذا يقع لغير الأنبياء فقد كانت الملائكة تخاطب عمران بن حصين بالسلام فلما اكتوى تركت خطابه فلما ترك الكي عاد إليه خطاب ملكي وهو نوعان أحدها خطاب يسمعه بأذنه وهو نادر بالنسبة إلى عموم المؤمنين والثاني خطاب يلقى في قلبه يخاطب به الملك روحه كما في الحديث المشهور إن للملك لمة بقلب ابن آدم وللشيطان لمة فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالوعد ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد ثم قرأ 2 268 الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا وقال تعالى 8 12 إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا قيل في تفسيرها قووا قلوبهم وبشروهم بالنصر وقيل احضروا معهم القتال والقولان حق فإنهم حضروا معهم القتال وثبتوا قلوبهم ومن هذا الخطاب واعظ الله عز وجل في قلوب عباده المؤمنين كما في جامع الترمذي ومسند أحمد من حديث النواس بن سمعان عن النبي إن الله تعالى ضرب مثلا صراطا مستقيما وعلى كنفتي الصراط سوران لهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وداع يدعو على رأس الصراط وداع يدعو فوق الصراط فالصراط المستقيم الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله فلا يقع أحد في حد من حدود الله حتى يكشف الستر والداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن فهذا الواعظ في قلوب المؤمنين هو الإلهام الإلهي بواسطة الملائكة وأما وقوعه بغير واسطة فمما لم يتبين بعد والجزم فيه بنفي أو إثبات موقوف على الدليل والله أعلم فصل النوع الثاني من الخطاب المسموع خطاب الهواتف من الجان وقد ________________________________________ يكون المخاطب جنيا مؤمنا صالحا وقد يكون شيطانا وهذا أيضا نوعان أحدهما أن يخاطبه خطابا يسمعه بأذنه والثاني أن يلقى في قلبه عند ما يلم به ومنه وعده وتمنيته حين يعد الإنسى ويمنيه ويأمره وينهاه كما قال تعالى 4 120 يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا وقال الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء وللقلب من هذا الخطاب نصيب وللأذن أيضا منه نصيب والعصمة منتفية إلا عن الرسل ومجموع الأمة فمن أين للمخاطب أن هذا الخطاب رحماني أو ملكي بأي برهان أو بأي دليل والشيطان يقذف في النفس وحيه ويلقى في السمع خطابه فيقول المغرور المخدوع قيل لي وخوطبت صدقت لكن الشأن في القائل لك والمخاطب وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لغيلان بن سلمة وهو من الصحابة لما طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك فمن يأمن القراء بعدك يا شهر فصل النوع الثالث خطاب حالي تكون بدايته من النفس وعوده إليها فيتوهمه من خارج وإنما هو من نفسه منها بدا وإليها يعود وهذا كثيرا ما يعرض للسالك فيغلط فيه ويعتقد أنه خطاب من الله كلمه به منه إليه وسبب غلطه أن اللطيفة المدركة من الإنسان إذا صفت بالرياضة وانقطعت علقها عن الشواغل الكثيفة صار الحكم لها بحكم إستيلاء الروح والقلب على البدن ومصير الحكم لهما فتنصرف عناية النفس والقلب إلى تجريد المعاني التي هي متصلة بهما وتشتد عناية الروح بها وتصير في محل ________________________________________ تلك العلائق والشواغل فتملأ القلب فتصرف تلك المعاني إلى المنطق والخطاب القلبي الروحي بحكم العادة ويتفق تجرد الروح فتتشكل تلك المعاني للقوة السامعة بشكل الأصوات المسموعة وللقوة الباصرة بشكل الأشخاص المرئية فيرى صورها ويسمع الخطاب وكله في نفسه ليس في الخارج منه شيء ويحلف أنه رأى وسمع وصدق لكن رأى وسمع في الخارج أو في نفسه ويتفق ضعف التمييز وقلة العلم واستيلاء تلك المعاني على الروح وتجردها عن الشواغل فهذه الوجوه الثلاثة هي وجوه الخطاب ومن سمع نفسه غيرها فإنما هو غرور وخدع وتلبيس وهذا الموضع مقطع القول وهو من أجل المواضع لمن حققه وفهمه والله الموفق للصواب فصل قال الدرجة الثانية إلهام يقع عيانا وعلامة صحته أنه لا يخرق سترا ولا يجاوز حدا ولا يخطىء أبدا الفرق بين هذا وبين الإلهام في الدرجة الأولى أن ذلك علم شبيه بالضروري الذي لا يمكن دفعه عن القلب وهذا معاينة ومكاشفة فهو فوقه في الدرجة وأتم منه ظهورا ونسبته إلى القلب نسبة المرئي إلى العين وذكر له ثلاث علامات إحداها أنه لا يخرق سترا أي صاحبه إذا كوشف بحال غير المستور عنه لا يخرق ستره ويكشفه خيرا كان أو شرا أو أنه لا يخرق ما ستره الله من نفسه عن الناس بل يستر نفسه ويستر من كوشف بحاله الثانية أنه لا يجاوز حدا يحتمل وجهين أحدهما أنه لا يتجاوز به إلى ارتكاب المعاصي وتجاوز حدود الله مثل الكهان وأصحاب الكشف الشيطاني الثاني أنه لا يقع على خلاف الحدود الشرعية مثل أن يتجسس به على العورات التي نهى الله عن التجسس عليها وتتبعها فإذا تتبعها وقع عليها بهذا الكشف فهو شيطاني لا رحماني الثالثة أنه لا يخطىء أبدا بخلاف الشيطاني فإن خطأه كثير كما قال النبي لابن صائد ما ترى قال أرى صادقا وكاذبا فقال لبس عليك فالكشف الشيطاني لا بد أن يكذب ولا يستمر صدقه ألبتة فصل قال الدرجة الثالثة إلهام يجلو عين التحقيق صرفا وينطق عن عين ________________________________________ الأزل محضا والإلهام غاية تمتنع الإشارة إليها عين التحقيق عنده هي الفناء في شهود الحقيقة بحيث يضمحل كل ما سواها في ذلك الشهود وتعود الرسوم أعداما محضة فالإلهام في هذه الدرجة يجلو هذا العين للملهم صرفا بحيث لا يمازجها شيء من إدراك العقول ولا الحواس فإن كان هناك إدراك عقلي أو حسي لم يتمحض جلاء عين الحقيقة والناطق عن هذا الكشف عندهم لا يفهم عنه إلا من هو معه ومشارك له وعند أرباب هذا الكشف أن كل الخلق عنه في حجاب وعندهم أن العلم والعقل والحال حجب عليه وأن خطاب الخلق إنما يكون على لسان الحجاب وأنهم لا يفهمون لغة ما وراء الحجاب من المعنى المحجوب فلذلك تمتنع الإشارة إليه والعبارة عنه فإن الإشارة والعبارة إنما يتعلقان بالمحسوس والمعقول وهذا أمر وراء الحس والعقل وحاصل هذا الإلهام أنه إلهام ترتفع معه الوسائط وتضمحل وتعدم لكن في الشهود لا في الوجود وأما الإتحادية القائلون بوحدة الوجود فإنهم يجعلون ذلك اضمحلالا وعدما في الوجود ويجعلون صاحب المنازل منهم وهو برىء منهم عقلا ودينا وحالا ومعرفة والله أعلم فصل المرتبة العاشرة من مراتب الهداية الرؤيا الصادقة وهي من أجزاء النبوة كما ثبت عن النبي أنه قال الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة / ح / وقد قيل في سبب هذا التخصيص المذكور إن أول مبتدأ الوحي كان هو الرؤيا الصادقة وذلك نصف سنة ثم انتقل إلى وحي اليقظة مدة ثلاث وعشرين سنة من حين بعث إلى أن توفي صلوات الله وسلامه عليه فنسبة مدة الوحي في المنام من ذلك جزء من ستة وأربعين جزءا وهذا حسن لولا ما جاء في الرواية الأخرى الصحيحة إنها جزء من سبعين جزءا وقد قيل في الجمع بينهما إن ذلك بحسب حال الرائي فإن رؤيا الصديقين من ستة وأربعين ورؤيا عموم المؤمنين الصادقة من سبعين والله أعلم ________________________________________ والرؤيا مبدأ الوحي وصدقها بحسب صدق الرائي وأصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثا وهي عند اقتراب الزمان لا تكاد تخطىء كما قال النبي وذلك لبعد العهد بالنبوة وآثارها فيتعوض المؤمنون بالرؤيا وأما في زمن قوة نور النبوة ففي ظهور نورها وقوته ما يغني عن الرؤيا ونظير هذا الكرامات التي ظهرت بعد عصر الصحابة ولم تظهر عليهم لإستغنائهم عنها بقوة إيمانهم واحتياج من بعدهم إليها لضعف إيمانهم وقد نص أحمد على هذا المعنى وقال عبادة بن الصامت رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام وقد قال النبي لم يبق من النبوة إلا المبشرات قيل وما المبشرات يا رسول الله قال الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له / ح / وإذا تواطأت رؤيا المسلمين لم تكذب وقد قال النبي لأصحابه لما أروا ليلة القدر في العشر الأواخر قال أرى رؤياكم قد تواطأت في العشر الأواخر فمن كان منكم متحريها فليتحرها في العشر الأواخر من رمضان / ح / والرؤيا كالكشف منها رحماني ومنها نفساني ومنها شيطاني وقال النبي الرؤيا ثلاثة رؤيا من الله ورؤيا تحزين من الشيطان ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة فيراه في المنام / ح / والذي هو من أسباب الهداية هو الرؤيا التي من الله خاصة ورؤيا الأنبياء وحي فإنها معصومة من الشيطان وهذا باتفاق الأمة ولهذا أقدم الخليل على ذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام بالرؤيا وأما رؤيا غيرهم فتعرض على الوحي الصريح فإن وافقته وإلا لم يعمل بها فإن قيل فما تقولون إذا كانت رؤيا صادقة أو تواطأت قلنا متى كانت كذلك استحال مخالفتها للوحي بل لا تكون إلا مطابقة له منبهة عليه أو منبهة على اندراج قضية خاصة في حكمه لم يعرف الرائي اندراجها فيه فيتنبه بالرؤيا على ذلك ومن أراد أن تصدق رؤياه فليتحر الصدق وأكل الحلال والمحافظة على الأمر والنهي ولينم على طهارة كاملة مستقبل القبلة ويذكر الله حتى تغلبه عيناه فإن رؤياه لا تكاد تكذب ألبتة ________________________________________ وأصدق الرؤيا رؤيا الأسحار فإنه وقت النزول الإلهي واقتراب الرحمة والمغفرة وسكون الشياطين وعكسه رؤيا العتمة عند انتشار الشياطين والأرواح الشيطانية وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام وللرؤيا ملك موكل بها يريها العبد في أمثال تناسبه وتشاكله فيضربها لكل أحد بحسبه وقال مالك الرؤيا من الوحي وحى وزجر عن تفسيرها بلا علم وقال أتتلاعب بوحي الله ولذكر الرؤيا وأحكامها وتفاصيلها وطرق تأويلها مظان مخصوصة بها يخرجنا ذكرها عن المقصود والله أعلم فصل في بيان اشتماله الفاتحة على الشفاءين شفاء القلوب وشفاء الأبدان فأما اشتمالها على شفاء القلوب فإنها اشتملت عليه أتم اشتمال فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين فساد العلم وفساد القصد ويترتب عليهما داءان قاتلان وهما الضلال والغضب فالضلال نتيجة فساد العلم والغضب نتيجة فساد القصد وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها فهداية الصراط المستقيم تتضمن الشفاء من مرض الضلال ولذلك كان سؤال هذه الهداية أفرض دعاء على كل عبد وأوجبه عليه كل يوم وليلة في كل صلاة لشدة ضرورته وفاقته إلى الهداية المطلوبة ولا يقوم غير هذا السؤال مقامه والتحقيق ب إياك نعبد وإياك نستعين علما ومعرفة وعملا وحالا يتضمن ________________________________________ الشفاء من مرض فساد القلب والقصد فإن فساد القصد يتعلق بالغايات والوسائل فمن طلب غاية منقطعة مضمحلة فانية وتوسل إليها بأنواع الوسائل الموصلة إليها كان كلا نوعي قصده فاسدا وهذا شأن كل من كان غاية مطلوبه غير الله وعبوديته من المشركين ومتبعي الشهوات الذين لا غاية لهم رواءها وأصحاب الرياسات المتبعين لإقامة رياستهم بأي طريق كان من حق أو باطل فإذا جاء الحق معارضا في طريق رياستهم طحنوه وداسوه بأرجلهم فإن عجزوا عن ذلك دفعوه دفع الصائل فإن عجزوا عن ذلك حبسوه في الطريق وحادوا عنه إلى طريق أخرى وهم مستعدون لدفعه بحسب الإمكان فإذا لم يجدوا منه بدا أعطوه السكة والخطبة وعزلوه عن التصرف والحكم والتنفيذ وإن جاء الحق ناصرا لهم وكان لهم صالوا به وجالوا وأتوا إليه مذعنين لا لأنه حق بل لموافقته غرضهم وأهواءهم وانتصارهم به 24 48 50 وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون والمقصود أن قصد هؤلاء فاسد في غاياتهم ووسائلهم وهؤلاء إذا بطلت الغايات التي طلبوها واضمحلت وفنيت حصلوا على أعظم الخسران والحسرات وهم أعظم الناس ندامة وتحسرا إذا حق الحق وبطل الباطل وتقطعت بهم أسباب الوصل التي كانت بينهم وتيقنوا انقطاعهم عن ركب الفلاح والسعادة وهذا يظهر كثيرا في الدنيا ويظهر أقوى من ذلك عند الرحيل منها والقدوم على الله ويشتد ظهوره وتحققه في البرزخ وينكشف كل الإنكشافيوم اللقاء إذا حقت الحقائق وفاز المحقون وخسر المبطلون وعلموا أنهم كانوا كاذبين وكانوا مخدوعين مغرورين فياله هناك من علم لا ينفع عالمه ويقين لا ينجني مستيقنه ________________________________________ وكذلك من طلب الغاية العليا والمطلب الأسمى ولكن لم يتوسل إليه بالوسيلة الموصلة له وإليه بل توسل إليه بوسيلة ظنها موصلة إليه وهي من أعظم القواطع عنه فحاله أيضا كحال هذا وكلاهما فاسد القصد ولا شفاء من هذا المرض إلا بدواء إياك نعبد وإياك نستعين فإن هذا الدواء مركب من ستة أجزاء عبودية الله لا غيره بأمره وشرعه لا بالهوى ولا بآراء الرجال وأوضاعهم ورسومهم وأفكارهم بالإستعانة على عبوديته به لا بنفس العبد وقوته وحوله ولا بغيره فهذه هي أجزاء إياك نعبد وإياك نستعين فإذا ركبها الطبيب اللطيف العالم بالمرض واستعملها المريض حصل بها الشفاء التام وما نقص من الشفاء فهو لفوات جزء من أجزائها أو اثنين أو أكثر ثم إن القلب يعرض له مرضان عظيمان إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولا بد وهما الرياء والكبر فدواء الرياء ب إياك نعبد ودواء الكبر ب إياك نستعين وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول إياك نعبد تدفع الرياء وإياك نستعين تدفع الكبرياء فإذا عوفى من مرض الرياء ب إياك نعبد ومن مرض الكبرياء والعجب ب إياك نستعين ومن مرض الضلال والجهل ب اهدنا الصراط المستقيم عوفى من أمراضه وأسقامه ورفل في أثواب العافية وتمت عليه النعمة وكان من المنعم عليهم غير المغضوب عليهم وهم أهل فساد القصد الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه والضالين وهم أهل فساد العلم الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه وحق لسورة تشتمل على هذين الشفاءين أن يستشفى بها من كل مرض ولهذا لما اشتملت على هذا الشفاء الذي هو أعظم الشفاءين كان حصدك الشفاء الأدنى بها أولى كما سنبينه فلا شيء أشفى للقلوب التي عقلت عن الله وكلامه وفهمت عنه فهما خاصا اختصها به من معاني هذه السورة وسنبين إن شاء الله تعالى تضمنها للرد على جميع أهل البدع بأوضح البيان وأحسن الطرق فصل وأما تضمنها لشفاء للأبدان فنذكر منه ما جاءت به السنة وما ________________________________________ شهدت به قواعد الطب ودلت عليه التجربة فأما ما دلت عليه السنة ففي الصحيح من حديث أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري أن ناسا من أصحاب النبي مروا بحي من العرب فلم يقروهم ولم يضيفوهم فلدغ سيد الحي فأتوهم فقالوا هل عندكم من رقية أو هل فيكم من راق فقالوا نعم ولكنكم لم تقرونا فلا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا فجعلوا لهم على ذلك قطيعا من الغنم فجعل رجل منا يقرأ عليه بفاتحة الكتاب فقام كأن لم يكن به قلبة فقلنا لا تعجلوا حتى نأتي النبي فأتيناه فذكرنا له ذلك فقال ما يدريك أنها رقية كلوا واضربوا لي معكم بسهم فقد تضمن هذا الحديث حصول شفاء هذا اللديغ بقراءة الفاتحة عليه فأغنته عن الدواء وربما بلغت من شفائه مالم يبلغه الدواء هذا مع كون المحل غير قابل إما لكون هؤلاء الحي غير مسلمين أو أهل بخل ولؤم فكيف إذا كان المحل قابلا فصل وأما شهادة قواعد الطب بذلك فاعلم أن اللدغة تكون من ذوات الحمات والسموم وهي ذوات الأنفس الخبيثة التي تتكيف بكيفية غضبية تثير فيها سمية نارية يحصل بها اللدغ وهي متفاوتة بحسب تفاوت خبث تلك النفوس وقوتها وكيفيتها فإذا تكيفت أنفسها الخبيثة بتلك الكيفية الغضبية أحدث لها ذلك طبيعة سمية تجد راحة ولذة في إلقائها إلى المحل القابل كما يجد الشرير من الناس راحة ولذة في إيصال شره إلى من يوصله إليه وكثير من الناس لا يهنأ له عيش في يوم لا يؤذي فيه أحدا من بني جنسه ويجد في نفسه تأذيا بحمل تلك السمية والشر الذي فيه حتى يفرغه في غيره فيبرد عند ذلك أنينه وتسكن نفسه ويصيبه في ذلك نظير ما يصيب من اشتدت شهوته إلى الجماع فيسوء خلقه وتثقل نفسه حتى يقضي وطره هذا في قوة الشهوة وذاك في قوة الغضب ________________________________________ وقد أقام الله تعالى بحكمته السلطان وازعا لهذه النفوس الغضبية فلولا هو لفسدت الأرض وخرجت 2 251 ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين وأباح الله بلطفه ورحمته لهذه النفوس من الأزواج وملك اليمين ما يكسر حدتها والمقصود أن هذه النفوس الغضبية إذا اتصلت بالمحل القابل أثرت فيه ومنها ما يؤثر في المحل بمجرد مقابلته له وإن لم يمسه فمنها ما يطمس البصر ويسقط الحبل ومن هذا نظر العائن فإنه إذا وقع بصره على المعين حدثت في نفسه كيفية سمية أثرت في المعين بحسب عدم استعداده وكونه أعزل من السلاح وبحسب قوة تلك النفس وكثير من هذه النفوس يؤثر في المعين إذا وصف له فتتكيف نفسه وتقابله على البعد فيتأثر به ومنكر هذا ليس معدودا من بني آدم إلا بالصورة والشكل فإذا قابلت النفس الزكية العلوية الشريفة التي فيها غضب وحمية للحق هذه النفوس الخبيثة السمية وتكيفت بحقائق الفاتحة وأسرارها ومعانيها وما تضمنته من التوحيد والتوكل والثناء على الله وذكر أصول أسمائه الحسنى وذكر اسمه الذي ما ذكر على شر إلا أزاله ومحقه ولا على خير إلا نماه وزاده دفعت هذه النفس بما تكيفت به من ذلك أثر تلك النفس الخبيثة الشيطانية فحصل البرء فإن مبنى الشفاء والبرء على دفع الضد بضده وحفظ الشيء بمثله فالصحة تحفظ بالمثل والمرض يدفع بالضد أسباب ربطها بمسبباتها الحكيم العليم خلقا وأمرا ولا يتم هذا إلا بقوة من النفس الفاعلة وقبول من الطبيعة المنفعلة فلو لم تنفعل نفس الملدوغ لقبول الرقية ولم تقو نفس الراقي على التأثير لم يحصل البرء فهنا أمور ثلاثة موافقة الدواء للداء وبذل الطبيب له وقبول طبيعة العليل فمتى تخلف واحد منها لم يحصل الشفاء وإذا اجتمعت حصل الشفاء ولا بد بإذن الله سبحانه وتعالى ________________________________________ ومن عرف هذا كما ينبغي تبين له أسرار الرقي وميز بين النافع منها وغيره ورقى الداء بما يناسبه من الرقي وتبين له أن الرقية براقيها وقبول المحل كما أن السيف بضاربه مع قبول المحل للقطع وهذه إشارة مطلعة على ما وراءها لمن دق نظره وحسن تأمله والله أعلم وأما شهادة التجارب بذلك فهي أكثر من أن تذكر وذلك في كل زمان وقد جربت أنا من ذلك في نفسي وفي غيري أمورا عجيبة ولا سيما مدة المقام بمكة فإنه كان يعرض لي آلام مزعجة بحيث تكاد تقطع الحركة مني وذلك في أثناء الطواف وغيره فأبادر إلى قراءة الفاتحة وأمسح بها على محل الألم فكأنه حصاة تسقط جربت ذلك مرارا عديدة وكنت آخذ قدحا من ماء زمزم فأقرأ عليه الفاتحة مرارا فأشربه فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء والأمر أعظم من ذلك ولكن بحسب قوة الإيمان وصحة اليقين والله المستعان فصل في اشتماله الفاتحة على الرد على جميع المبطلين من أهل الملل والنحل والرد على أهل البدع والضلال من هذه الأمة وهذا يعلم بطريقين مجمل ومفصل أما المجمل فهو أن الصراط المستقيم متضمن معرفة الحق وإيثاره وتقديمه على غيره ومحبته والإنقياد له والدعوة إليه وجهاد أعدائه بحسب الإمكان والحق هو ما كان عليه رسول الله وأصحابه وما جاء به علما وعملا في باب صفات الرب سبحانه وأسمائه وتوحيده وأمره ونهيه ووعده ووعيده وفي حقائق الإيمان التي هي منازل السائرين إلى الله تعالى وكل ذلك مسلم إلى رسول الله دون آراء الرجال وأوضاعهم وأفكارهم واصطلاحاتهم فكل علم أو عمل أو حقيقة أو حال أو مقام خرج من مشكاة نبوته وعليه السكة المحمدية بحيث يكون من ضرب المدينة فهو من الصراط المستقيم وما لم يكن كذلك فهو من صراط أهل الغضب والضلال فما ثم خروج عن هذه الطرق الثلاث طريق الرسول وما جاء به وطريق أهل ________________________________________ الغضب وهي طريق من عرف الحق وعانده وطريق أهل الضلال وهي طريق من أضله الله عنه ولهذا قال عبدالله ابن عباس وجابر بن عبدالله رضي الله عنهم الصراط المستقيم هو الإسلام وقال عبدالله بن مسعود وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما هو القرآن وفيه حديث مرفوع في الترمذي وغيره وقال سهل بن عبدالله طريق السنة والجماعة وقال بكر بن عبدالله المزني طريق رسول الله ولا ريب أن ما كان عليه رسول الله وأصحابه علما وعملا وهو معرفة الحق وتقديمه وإيثاره على غيره فهو الصراط المستقيم وكل هذه الأقوال المتقدمة دالة عليه جامعة له فبهذا الطريق المجمل يعلم أن كل ما خالفه فباطل وهو من صراط الأمتين الأمة الغضبية وأمة أهل الضلال فصل وأما المفصل فبمعرفة المذاهب الباطلة واشتمال كلمات الفاتحة على إبطالها فنقول الناس قسمان مقر بالحق تعالى وجاحد له فتضمنت الفاتحة إثبات الخالق تعالى والرد على من جحده بإثبات ربوبيته تعالى للعالمين وتأمل حال العالم كله علويه وسفليه بجميع أجزائه تجده شاهدا بإثبات صانعه وفاطره ومليكه فإنكار صانعه وجحده في العقول والفطر بمنزلة إنكار العلم وجحده لا فرق بينهما بل دلالة الخالق على المخلوق والفعال على الفعل والصانع على أحوال المصنوع عند العقول الزكية المشرقة العلوية والفطر الصحيحة أظهر من العكس فالعارفون أرباب البصائر يستدلون بالله على أفعاله وصنعه إذا استدل الناس بصنعه وأفعاله عليه ولا ريب أنهما طريقان صحيحان كل منهما حق والقرآن مشتمل عليهما فأما الإستدلال بالصنعة فكثير وأما الإستدلال بالصانع فله شأن وهو الذي أشارت إليه الرسل بقولهم لأممهم 14 10 أفي الله شك أي أيشك في الله حتى يطلب إقامة الدليل على وجوده وأي دليل أصح وأظهر من هذا المدلول فكيف يستدل على الأظهر بالأخفى ثم نبهوا على الدليل بقولهم فاطر السموات والأرض ________________________________________ وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية قدس الله روح يقول كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل ومعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود النهار ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمها وإذا بطل قول هؤلاء بطل قول أهل الإلحاد القائلين بوحدة الوجود وأنه ما ثم وجود قديم خالق ووجود حادث مخلوق بل وجود هذا العالم هو عين وجود الله وهو حقيقة وجود هذا العالم فليس عند القوم رب وعبد ولا مالك ومملوك ولا راحم ومرحوم ولا عابد ومعبود ولا مستعين ومستعان به ولا هاد ولا مهدي ولا منعم ولا منعم عليه ولا غضبان ومغضوب عليه بل الرب هو نفس العبد وحقيقته والمالك هو عين المملوك والراحم هو عين المرحوم والعابد هو نفس المعبود وإنما التغاير أمر اعتباري بحسب مظاهر الذات وتجلياتها فتظهر تارة في صورة معبود كما ظهرت في صورة فرعون وفي صورة عبد كما ظهرت في صورة العبيد وفي صورة هاد كما في صورة الأنبياء والرسل والعلماء والكل من عين واحدة بل هو العين الواحدة فحقيقة العابد ووجوده أو إنيته هي حقيقة المعبود ووجوده وإنيته والفاتحة من أولها إلى آخرها تبين بطلان قول هؤلاء الملاحدة وضلالهم فصل والمقرون بالرب سبحانه وتعالى أنه صانع العالم نوعان نوع ينفي مباينته لخلقه ويقولون لا مباين ولا محايث ولا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا خلفه ولا أمامه ولا فيه ولا بائن عنه فتضمنت الفاتحة الرد على هؤلاء من وجهين ________________________________________ أحدهما إثبات ربوبيته تعالى للعالم فإن الربوبية المحضة تقتضي مباينة الرب للعالم بالذات كما باينهم بالربوبية وبالصفات والأفعال فمن لم يثبت ربا مباينا للعالم فما أثبت ربا فإنه إذا نفى المباينة لزمه أحد أمرين لزوما لا انفكاك له عنه ألبتة إما أن يكون هو نفس هذا العالم وحينئذ يصح قوله فإن العالم لا يباين ذاته ونفسه ومن ههنا دخل أهل الوحدة وكانوا معطلة أولا واتحادية ثانيا وإما أن يقول ما ثم رب يكون مباينا ولا محايثا ولا داخلا ولا خارجا كما قالته الدهرية المعطلة للصانع وأما هذا القول الثالث المشتمل على جمع النقيضين إثبات رب مغاير للعالم مع نفي مباينته للعالم وإثبات خالق قائم بنفسه لا في العالم ولا خارج العالم ولا فوق العالم ولا تحته ولا خلفه ولا أمامه ولا يمنته ولا يسرته فقول له خبىء والعقول لا تتصوره حتى تصدق به فإذا استحال في العقل تصوره فاستحالة التصديق به أظهر وأظهر وهو منطبق على العدم المحض والنفي الصرف وصدقه عليه أظهر عند العقول والفطر من صدقه على رب العالمين فضع هذا النفي وهذه الألفاظ الدالة عليه على العدم المستحيل ثم ضعها على الذات العلية القائمة بنفسها التي لم تحل في العالم ولا حل العالم فيها ثم انظر أي المعلومين أولى به واستيقظ لنفسك وقم لله قومة مفكر في نفسه في الخلوة في هذا الأمر متجرد عن المقالات وأربابها وعن الهوى والحمية والعصبية صادقا في طلب الهداية من الله فالله أكرم من أن يخيب عبدا هذا شأنه وهذه المسألة لا تحتاج إلى أكثر من إثبات رب قائم بنفسه مباين لخلقه بل هذا نفس ترجمتها فصل ثم المثبتون للخالق تعالى نوعان أهل توحيد وأهل إشراك وأهل الإشراك نوعان ________________________________________ أحدهما أهل الإشراك به في ربوبيته وإلهيته كالمجوس ومن ضاهاهم من القدرية فإنهم يثبتون مع الله خالقا آخر وإن لم يقولوا إنه مكافىء له والقدرية المجوسيه تثبت مع الله خالقين للأفعال ليس أفعالهم مقدورة لله ولا مخلوقة لهم وهي صادرة بغير مشيئته ولا قدرة له عليها ولا هو الذي جعل أربابها فاعلين لها بل هم الذين جعلوا أنفسهم شائين مريدين فاعلين فربوبية العالم الكاملة المطلقة الشاملة تبطل أقوال هؤلاء كلهم لأنها تقتضي ربوبيته لجميع ما فيه من الذوات والصفات والحركات والأفعال وحقيقة قول القدرية المجوسية أنه تعالى ليس ربا لأفعال الحيوان ولا تناولتها ربوبيته وكيف تتناول مالا يدخل تحت قدرته ومشيئته وخلقه مع أن في عموم حمده ما يقتضي حمده على طاعات خلقه إذ هو المعين عليها والموفق لها وهو الذي شاءها منهم كما قال في غير موضع من كتابه 76 30 وما تشاءون إلا أن يشاء الله فهو محمود على أن شاءها لهم وجعلهم فاعليها بقدرته ومشيئته فهو المحمود عليها في الحقيقة وعندهم أنهم هم المحمودون عليها ولهم الحمد على فعلها وليس لله حمد على نفس فاعليتها عندهم ولا على ثوابه وجزائه عليها أما الأول فلأن فاعليتها بهم لا به وأما الثاني فلأن الجزاء مستحق عليه استحقاق الأجرة على المستأجر فهو محض حقهم الذي عاوضوه عليه وفي قوله وإياك نستعين رد ظاهر عليهم إذ استعانتهم به إنما تكون عن شيء هو بيده وتحت قدرته ومشيئته فكيف يستعين من بيده الفعل وهو موجده إن شاء أوجده وإن شاء لم يوجده بمن ليس ذلك الفعل بيده ولا هو داخل تحت قدرته ولا مشيئته ________________________________________ وفي قوله إهدنا الصراط المستقيم أيضا رد عليهم فإن الهداية المطلقة التامة هي المستلزمة لحصول الإهتداء ولولا أنها بيده تعالى دونهم لما سألوه إياها وهي المتضمنة للإرشاد والبيان والتوفيق والإقدار وجعلهم مهتدين وليس مطلوبهم مجرد البيان والدلالة كما ظنته القدرية لأن هذا القدر وحده لا يوجب الهدى ولا ينجي من الردى وهو حاصل لغيرهم من الكفار الذين استحبوا العمى على الهدى واشتروا الضلالة بالهدى فصل النوع الثاني أهل الإشراك به في إلهيته وهم المقرون بأنه وحده رب كل شيء ومليكه وخالقه وأنه ربهم ورب آبائهم الأولين ورب السموات السبع ورب العرش العظيم وهم مع هذا يعبدون غيره ويعدلون به سواه في المحبة والطاعة والتعظيم وهم الذين اتخذوا من دون الله أندادا فهؤلاء لم يوفوا إياك نعبد حقه وإن كان لهم نصيب من نعبدك لكن ليس لهم نصيب من إياك نعبد المتضمن معنى لا نعبد إلا إياك حبا وخوفا ورجاء وطاعة وتعظيما ف إياك نعبد تحقيق لهذا التوحيد وإبطال للشرك في الإلهية كما أن إياك نستعين تحقيق لتوحيد الربوبية وإبطال للشرك به فيها وكذلك قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم فإنهم أهل التوحيد وهم أهل تحقيق إياك نعبد وإياك نستعين وأهل الإشراك هم أهل الغضب والضلال فصل في تضمنها الرد على الجهمية معطلة الصفات وذلك من وجوه أحدها من قوله الحمد لله فإن إثبات الحمد الكامل له يقتضي ثبوت كل ما يحمد عليه من صفات كماله ونعوت جلاله إذ من عدم صفات الكمال فليس بمحمود على الإطلاق وغايته أنه محمود من وجه دون وجه ولا يكون محمودا بكل وجه وبكل اعتبار بجميع أنواع الحمد إلا من استولى على صفات الكمال جميعها فلو عدم منها صفة واحدة لنقص من حمده بحسبها وكذلك في إثبات صفة الرحمة له ما يتضمن إثبات الصفات التي تستلزم من الحياة والإرادة والقدرة والسمع والبصر وغيرها ________________________________________ وكذلك صفة الربوبية تستلزم جميع صفات الفعل وصفة الإلهية تسلتزم جميع أوصاف الكمال ذاتا وأفعالا كما تقدم بيانه فكونه محمودا إلها ربا رحمانا رحيما ملكا معبودا مستعانا هاديا منعما يرضى ويغضب مع نفي قيام الصفات به جمع بين النقيضين وهو من أمحل المحال وهذه الطريق تتضمن إثبات الصفات الخبرية من وجهين أحدهما أنها من لوازم كماله المطلق فإن استواءه على عرشه من لوازم علوه ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا في نصف الليل الثاني من لوازم رحمته وربوبيته وهكذا سائر الصفات الخبرية الوجه الثاني أن السمع ورد بها ثناء على الله ومدحا له وتعرفا منه إلى عباده بها فجحدها وتحريفها عما دلت عليه وعما أريد بها مناقض لما جاءت به فلك أن تستدل بطريق السمع على أنها كمال وأن تستدل بالعقل كما تقدم فصل في تضمنها للرد على الجبرية وذلك من وجوه أحدها من إثبات عموم حمده سبحانه فإنه يقتضي أن لا يعاقب عبيده على مالا قدرة لهم عليه ولا هو من فعلهم بل هو بمنزلة ألوانهم وطولهم وقصرهم بل هو يعاقبهم على نفس فعله بهم فهو الفاعل لقبائحهم في الحقيقة وهو المعاقب لهم عليها فحمده عليها يأبى ذلك أشد الإباء وينفيه أعظم النفي فتعالى من له الحمد كله عن ذلك علوا كبيرا بل إنما يعاقبهم على نفس أفعالهم التي فعلوها حقيقة فهي أفعالهم لا أفعاله وإنما أفعاله العدل والإحسان والخيرات الوجه الثاني إثبات رحمته ورحمانيته ينفي ذلك إذ لا يمكن اجتماع هذين الأمرين قط أن يكون رحمانا رحيما ويعاقب العبد على مالا قدرة له عليه ولا هو من فعله بل يكلفه ما لا يطيقه ولا له عليه قدرة ألبتة ثم يعاقبه عليه وهل هذا إلا ضد الرحمة ونقض لها وإبطال وهل يصح في معقول أحد اجتماع ذلك والرحمة التامة الكاملة في ذات واحدة ________________________________________ الوجه الثالث إثبات العبادة والإستعانة لهم ونسبتها إليهم بقولهم نعبد ونستعين وهي نسبة حقيقية لا مجازية والله لا يصح وصفه بالعبادة والإستعانة التي هي من أفعال عبيده بل العبد حقيقة هو العابد المستعين والله هو المعبود المستعان به فصل في بيان تضمنها للرد على القائلين بالموجب بالذات دون الإختيار والمشيئة وبيان أنه سبحانه فاعل مختار وذلك من وجوه أحدها من إثبات حمده إذ كيف يحمد على ما ليس مختارا لوجوده ولا هو بمشيئته وفعله وهل يصح حمد الماء على آثاره وموجباته أو النار والحديد وغيرها في عقل أو فطرة وإنما يحمد الفاعل المختار بقدرته ومشيئته على أفعاله الحميدة هذا الذي ليس يصح في العقول والفطر سواه فخلافه خارج عن الفطرة والعقل وهو لا ينكر خروجه عن الشرائع والنبوات بل يتبجح بذلك ويعده فخرا الثاني إثبات ربوبيته تعالى يقتضي فعله بمشيئته واختياره وتدبيره وقدرته وليس يصح في عقل ولا فطرة ربوبية الشمس لضوئها والماء لتبريده وللنبات الحاصل به ولا ربوبية شيء أبدا لما لا قدرة له عليه ألبتة وهل هذا إلا تصريح بجحد الربوبية فالقوم كنوا للأغمار وصرحوا لأولي الأفهام الثالث إثبات ملكه وحصول ملك لمن لا اختيار له ولا فعل ولا مشيئة غير معقول بل كل مملوك له مشيئة واختيار وفعل أتم من هذا الملك وأكمل 16 17 أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون الرابع من كونه مستعانا فإن الإستعانة بمن لا اختيار له ولا مشيئة ولا قدرة محال الخامس من كونه مسئولا أن يهدي عباده فسؤال من لا اختيار له محال وكذلك من كونه منعما فصل في بيان تضمنها للرد على منكري تعلق علمه تعالى بالجزئيات وذلك من وجوه أحدها كمال حمده وكيف يستحق الحمد من لا يعلم شيئا من العالم وأحواله وتفاصيله ولا عدد الأفلاك ولا عدد النجوم ولا من يطيعه ممن يعصيه ولا من يدعوه ممن لا يدعوه ________________________________________ الثاني أن هذا مستحيل أن يكون إلها وأن يكون ربا فلا بد للإله المعبود والرب المدبر من أن يعلم عابده ويعلم حاله الثالث من إثبات رحمته فإنه يستحيل أن يرحم من لا يعلم الرابع إثبات ملكه فإن ملكا لا يعرف أحدا من رعيته ألبتة ولا شيئا من أحوال مملكته ألبتة ليس بملك بوجه من الوجوه الخامس كونه مستعانا السادس كونه مسئولا أن يهدي سائله ويجيبه السابع كونه هاديا الثامن كونه منعما التاسع كونه غضبانا على من خالفه العاشر كونه مجازيا يدين الناس بأعمالهم يوم الدين فنفي علمه بالجزيئات مبطل لذلك كله فصل في بيان تضمنها للرد على منكري النبوات وذلك من وجوه أحدها إثبات حمده التام فإنه يقتضي كمال حكمته وأن لا يخلق خلقه عبثا ولا يتركهم سدى لا يؤمرون ولا ينهون ولذلك نزه الله نفسه عن هذا في غير موضع من كتابه وأخبر أن من أنكر الرسالة والنبوة وأن يكون ما أنزل على بشر من شيء فإنه ما عرفه حق معرفته ولا عظمه حق تعظيمه ولا قدره حق قدره بل نسبه إلى ما لا يليق به ويأباه حمده ومجده فمن أعطى الحمد حقه علما ومعرفة وبصيرة استنبط منه أشهد أن محمدا رسول الله كما يستنبط منه أشهد أن لا إله إلا الله وعلم قطعا أن تعطيل النبوات في منافاته للحمد كتعطيل صفات الكمال وكإثبات الشركاء والأنداد الثاني إلهيته وكونه إلها فإن ذلك مستلزم لكونه معبودا مطاعا ولا سبيل إلى معرفة ما يعبد به ويطاع إلا من جهة رسله الثالث كونه ربا فإن الربوبية تقتضي أمر العباد ونهيهم وجزاء محسنهم بإحسانه ومسيئهم بإساءته هذا حقيقة الربوبية وذلك لا يتم إلا بالرسالة والنبوة الرابع كونه رحمانا رحيما فإن من كمال رحمته أن يعرف عباده نفسه وصفاته ويدلهم على ما يقربهم إليه ويباعدهم منه ويثيبهم على طاعته ويجزيهم بالحسنى وذلك لا يتم إلا بالرسالة والنبوة فكانت رحمته مقتضية لها ________________________________________ الخامس ملكه فإن الملك يقتضي التصرف بالقول كما أن الملك يقضي التصرف بالفعل فالملك هو المتصرف بأمره وقوله فتنفذ أوامره ومراسيمه حيث شاء والمالك هو المتصرف في ملكه بفعله والله له الملك وله الملك فهو المتصرف في خلقه بالقول والفعل وتصرفه بقوله نوعان تصرف بكلماته الكونية وتصرف بكلماته الدينية وكمال الملك بهما فإرسال الرسل موجب كمال ملكه وسلطانه وهذا هو الملك المعقول في فطر الناس وعقولهم فكل ملك لا تكون له رسل يبثهم في أقطار مملكته فليس بملك وبهذه الطريق يعلم وجود ملائكته وأن الإيمان بهم من لوازم الإيمان بملكه فإنهم رسل الله في خلقه وأمره السادس ثبوت يوم الدين وهو يوم الجزاء الذي يدين الله فيه العباد بأعمالهم خيرا وشرا وهذا لايكون إلا بعد ثبوت الرسالة والنبوة وقيام الحجة التي بسببها يدان المطيع والعاصي السابع كونه معبودا فإنه لا يعبد إلا بما يحبه ويرضاه ولا سبيل للخلق إلى معرفة ما يحبه ويرضاه إلا من جهة رسله فإنكار رسله إنكار لكونه معبودا الثامن كونه هاديا إلى الصراط المستقيم وهو معرفة الحق والعمل به وهو أقرب الطرق الموصلة إلى المطلوب فإن الخط المستقيم هو أقرب خط موصل بين نقطتين وذلك لا يعلم إلا من جهة الرسل فتوقفه على الرسل ضروري أعظم من توقف الطريق الحسى على سلامة الحواس التاسع كونه منعما على أهل الهداية إلى الصراط المستقيم فإن إنعامه عليهم إنما تم بإرسال الرسل إليهم وجعلهم قابلين الرسالة مستجيبين لدعوته وبذلك ذكرهم منته عليهم وإنعامه في كتابه العاشر انقسام خلقه إلى منعم عليهم ومغضوب عليهم وضالين فإن هذا الإنقسام ضروري بحسب إنقسامهم في معرفة الحق والعمل به إلى عالم به ________________________________________ عامل بموجبه وهم أهل النعمة وعالم به معاند له وهم أهل الغضب وجاهل به وهم الضالون هذا الإنقسام إنما نشأ بعد إرسال الرسل فلولا الرسل لكانوا أمة واحدة فانقسامهم إلى هذه الأقسام مستحيل بدون الرسالة وهذا الإنقسام ضروري بحسب الواقع فالرسالة ضرورية وقد تبين لك بهذه الطريق والتي قبلها بيان تضمنها للرد على من أنكر المعاد الجسماني وقيامة الأبدان وعرفت اقتضاءها ضرورة لثبوت الثواب والعقاب والأمر والنهي وهو الحق الذي خلقت به وله السموات والأرض والدنيا والآخرة وهو مقتضى الخلق والأمر ونفيه نفي لهما فصل إذا ثبتت النبوات والرسالة ثبتت صفة التكلم والتكليم فإن حقيقة الرسالة تبليغ كلام المرسل فإذا لم يكن ثم كلام فماذا يبلغ الرسول بل كيف يعقل كونه رسولا ولهذا قال غير واحد من السلف من أنكر أن يكون الله متكلما أو يكون القرآن كلامه فقد أنكر رسالة محمد بل ورسالة جميع الرسل التي حقيقتها تبليغ كلام الله تبارك وتعالى ولهذا قال منكرو رسالته عن القرآن 74 24 25 إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر وإنما عنوا القرآن المسموع الذي بلغوه وأنذروا به فمن قال إن الله لم يتكلم به فقد ضاهأ قوله قولهم تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا فصل في بيان تضمنها للرد على من قال بقدم العالم وذلك من وجوه أحدها إثبات حمده فإنه يقتضي ثبوت أفعاله لا سيما وعامة مواد الحمد في القرآن أو كلها إنما هي على الأفعال وكذلك هو ههنا فإنه حمد نفسه على ربوبيته المتضمنة لأفعاله الإختيارية ومن المستحيل مقارنة الفعل لفاعله هذا ممتنع في كل عقل سليم وفطرة مستقيمة فالفعل متأخر عن فاعله بالضرورة وأيضا فإنه متعلق الإرادة والتأثير والقدرة ولا يكون متعلقها قديما ألبتة ________________________________________ الثاني إثبات ربوبيته للعالمين وتقريرما ذكرناه والعالم كل ما سواه فثبت أن كل ما سواه مربوب والمربوب مخلوق بالضرورة وكل مخلوق حادث بعد أن لم يكن فإذا ربوبيته تعالى لكل ماسواه تستلزم تقدمه عليه وحدوث المربوب ولا يتصور أن يكون العالم قديما وهو مربوب أبدا فإن القديم مستغن بأزليته عن فاعل له وكل مربوب فهو فقير بالذات فلا شيء من المربوب بغنى ولا قديم الثالث إثبات توحيده فإنه يقتضي عدم مشاركة شيء من العالم له في خصائص الربوبية والقدرة من خصائص الربوبية فالتوحيد ينفى ثبوته لغيره ضرورة كما ينفى ثبوت الربوبية والإلهية لغيره فصل في بيان تضمنها للرد على الرافضة وذلك من قوله اهدنا الصراط المستقيم إلى آخرها ووجه تضمنه إبطال قولهم أنه سبحانه قسم الناس إلى ثلاثة أقسام منعم عليهم وهم أهل الصراط المستقيم الذين عرفوا الحق واتبعوه ومغضوب عليهم وهم الذين عرفوا الحق ورفضوه وضالون وهم الذين جهلوه فأخطأوه فكل من كان أعرف للحق وأتبع له كان أولى بالصراط المستقيم ولا ريب أن أصحاب رسول الله ورضي الله عنهم هم أولى بهذه الصفة من الروافض فإنه من المحال أن يكون أصحاب رسول الله ورضى الله عنهم جهلوا الحق وعرفه الروافض أو رفضوه وتمسك به الروافض ________________________________________ ثم إنا رأينا آثار الفريقين تدل على أهل الحق منهما فرأينا أصحاب رسول الله فتحوا بلاد الكفر وقلبوها بلاد إسلام وفتحوا القلوب بالقرآن والعلم والهدى فآثارهم تدل على أنهم هم أهل الصراط المستقيم ورأينا الرافضة بالعكس في كل زمان ومكان فإنه قط ما قام للمسلمين عدو من غيرهم إلا كانوا أعوانهم على الإسلام وكم جروا على الإسلام وأهله من بلية وهل عاثت سيوف المشركين عباد الأصنام من عسكر هولاكو وذويه من التتار إلا من تحت رءوسهم وهل عطلت المساجد وحرقت المصاحف وقتل سروات المسلمين وعلماؤهم وعبادهم وخليفتهم إلا بسببهم ومن جرائهم ومظاهرتهم للمشركين والنصارى معلومة عند الخاصة والعامة وآثارهم في الدين معلومة فأي الفريقين أحق بالصراط المستقيم وأيهم أحق بالغضب والضلال إن كنتم تعلمون ولهذا فسر السلف الصراط المستقيم وأهله بأبي بكر وعمر وأصحاب رسول الله ورضى الله عنهم وهو كما فسروه فإنه صراطهم الذي كانوا عليه وهو عين صراط نبيهم وهم الذين أنعم الله عليهم وغضب على أعدائهم وحكم لأعدائهم بالضلال وقال أبو العالية رفيع الرياحي والحسن البصري وهما من أجل التابعين الصراط المستقيم رسول الله وصاحباه وقال أبو العالية أيضا في قوله صراط الذين أنعمت عليهم هم آل رسول الله وأبو بكر وعمر وهذا حق فإن آله وأبا بكر وعمر على طريق واحدة ولا خلاف بينهم وموالاة بعضهم بعضا وثناؤهم عليهما ومحاربة من حاربا ومسالمة من سالما معلومة عند الأمة خاصها وعامها وقال زيد بن أسلم الذين أنعم الله عليهم هم رسول الله وأبو بكر وعمر ________________________________________ ولا ريب أن المنعم عليهم هم أتباعه والمغضوب عليهم هم الخارجون عن أتباعه وأتبع الأمة له وأطوعهم أصحابه وأهل بيته وأتبع الصحابة له السمع والبصر أبو بكر وعمر وأشد الأمة مخالفة له هم الرافضة فخلافهم له معلوم عند جميع فرق الأمة ولهذا يبغضون السنة وأهلها ويعادونها ويعادون أهلها فهم أعداء سنته وأهل بيته وأتباعه من بنيهم أكمل ميراثا بل هم ورثته حقا فقد تبين أن الصراط المستقيم طريق أصحابه وأتباعه وطريق أهل الغضب والضلال طريق الرافضة وبهذه الطريق بعينها يرد على الخوارج فإن معاداتهم الصحابة معروفة فصل وسر الخلق والأمر والكتب والشرائع والثواب والعقاب انتهى إلى هاتين الكلمتين وعليهما مدار العبودية والتوحيد حتى قيل أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن وجمع معاني القرآن في المفصل وجمع معاني المفصل في الفاتحة ومعاني الفاتحة في إياك نعبد وإياك نستعين وهما الكلمتان المقسومتان بين الرب وبين عبده نصفين فنصفهما له تعالى وهو إياك نعبد ونصفهما لعبده وهو إياك نستعين وسيأتي سر هذا ومعناه إن شاء الله في موضعه والعبادة تجمع أصلين غاية الحب بغاية الذل والخضوع والعرب تقول طريق معبد أي مذلل والتعبد التذلل والخضوع فمن أحببته ولم تكن خاضعا له لم تكن عابدا له ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدا له حتى تكون محبا خاضعا ومن ههنا كان المنكرون محبة العباد لربهم منكرين حقيقة العبودية والمنكرون لكونه محبوبا لهم بل هو غاية مطلوبهم ووجهه الأعلى نهاية بغيتهم منكرين لكونه إلها وإن أقروا بكونه ربا للعالمين وخالقا لهم فهذا غاية توحيدهم وهو توحيد الربوبية الذي اعترف به مشركو العرب ولم يخرجوا به عن الشرك كما قال تعالى 43 87 ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله وقال تعالى 39 38 ولئن سألتهم من خلق ________________________________________ السموات والأرض ليقولن الله 22 84 89 قل لمن الأرض ومن فيها إلى قوله سيقولون لله قل فأنى تسحرون ولهذا يحتج عليهم به على توحيد إلهيته وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره كما أنه لا خالق غيره ولا رب سواه والإستعانة تجمع أصلين الثقة بالله والإعتماد عليه فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس ولا يعتمد عليه في أموره مع ثقته به لإستغنائه عنه وقد يعتمد عليه مع عدم ثقته به لحاجته إليه ولعدم من يقوم مقامه فيحتاج إلى اعتماده عليه مع أنه غير واثق به والتوكل معنى يلتئم من أصلين من الثقة والإعتماد وهو حقيقة إياك نعبد وإياك نستعين وهذان الأصلان وهما التوكل والعبادة قد ذكرا في القرآن في عدة مواضع قرن بينهما فيها هذا أحدها الثاني قول شعيب 11 88 وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب الثالث قوله تعالى 10 123 ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه الرابع قوله تعالى حكاية عن المؤمنين 60 4 ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير الخامس قوله تعالى 73 8 9 واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا السادس قوله تعالى 43 10 قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب فهذه ستة مواضع يجمع فيها بين الأصلين وهما إياك نعبد وإياك نستعين وتقديم العبادة على الإستعانة في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل إذ العبادة غاية العباد التي خلقوا لها والإستعانة وسيلة إليها ولأن إياك نعبد متعلق بألوهيته واسمه الله وإياك نستعين متعلق بربوبيته واسمه الرب فقدم إياك نعبد على إياك نستعين كما قدم اسم الله على الرب في أول السورة ولأن إياك نعبد قسم الرب فكان من الشطر الأول الذي هو ثناء على الله تعالى لكونه أولى به وإياك نستعين قسم العبد فكان من الشطر الذي له وهو اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة ________________________________________ ولأن العبادة المطلقة تتضمن الإستعانة من غير عكس فكل عابد لله عبودية تامة مستعين به ولا ينعكس لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به على شهواته فكانت العبادة أكمل وأتم ولهذا كانت قسم الرب ولأن الإستعانة جزء من العبادة من غير عكس ولأن الإستعانة طلب منه والعبادة طلب له ولأن العبادة لا تكون إلا من مخلص والإستعانة تكون من مخلص ومن غير مخلص ولأن العبادة حقه الذي أوجبه عليك والإستعانة طلب العون على العبادة وهو بيان صدقته التي تصدق بها عليك وأداء حقه أهم من التعرض لصدقته ولأن العبادة شكر نعمته عليك والله يحب أن يشكر والإعانة فعله بك وتوفيقه لك فإذا التزمت عبوديته ودخلت تحت رقها أعانك عليها فكان التزامها والدخول تحت رقها سببا لنيل الإعانة وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة من الله له أعظم والعبودية محفوفة بإعانتين إعانة قبلها على التزامها والقيام بها وإعانة بعدها على عبودية أخرى وهكذا أبدا حتى يقضي العبد نحببه ولأن إياك نعبد له وإياك نستعين به وماله مقدم على ما به لأن ماله متعلق بمحبته ورضاه وما به متعلق بمشيئته وما تعلق بمحبته أكمل مما تعلق بمجرد مشيئته فإن الكون كله متعلق بمشيئته والملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار والطاعات والمعاصي والمتعلق بمحبته طاعاتهم وإيمانهم فالكفار أهل مشيئته والمؤمنون أهل محبته ولهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدا وكل ما فيها فإنه به تعالى وبمشيئته فهذه الأسرار يتبين بها حكمة تقديم إياك نعبد على إياك نستعين وأما تقديم المعبود والمستعان على الفعلين ففيه أدبهم مع الله بتقديم اسمه على فعلهم وفيه الإهتمام وشدة العناية به وفيه الإيذان بالإختصاص المسمى بالحصر فهو في قوة لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك والحاكم في ذلك ذوق العربية والفقه فيها واستقراء موارد استعمال ذلك مقدما وسيبويه نص على الإهتمام ولم ينف غيره ________________________________________ ولأنه يقبح من القائل أن يعتق عشرة أعبد مثلا ثم يقول لأحدهم إياك أعتقت ومن سمعه أنكر ذلك عليه وقال وغيره أيضا أعتقت ولولا فهم الإختصاص لما قبح هذا الكلام ولا حسن إنكاره وتأمل قوله تعالى 2 40 وإياي فارهبون 2 41 وإياي فاتقون كيف تجده في قوة لا ترهبوا غيري لا تتقوا سواي وكذلك إياك نعبد وإياك نستعين هو في قوة لا نعبد غيرك ولا نستعين بسواك وكل ذي ذوق سليم يفهم هذا الإختصاص من علة السياق ولا عبرة بجدل من قل فهمه وفتح عليه باب الشك والتشكيك فهؤلاء هم آفة العلوم وبلية الأذهان والفهوم مع أن في ضمير إياك من الإشارة إلى نفس الذات والحقيقة ما ليس في الضمير المتصل ففي إياك قصدت وأحببت من الدلالة على معنى حقيقتك وذاتك قصدي ما ليس في قولك قصدتك وأحببتك وإياك أعني فيه معنى نفسك وذاتك وحقيقتك أعني ومن ههنا قال من قال من النحاة إن إيا اسم ظاهر مضاف إلى الضمير المتصل ولم يرد عليه برد شاف ولولا أنا في شأن وراء هذا لأشبعنا الكلام في هذه المسألة وذكرنا مذاهب النحاة فيها ونصرنا الراجح ولعلنا أن نعطف على ذلك بعون الله وفي إعادة إياك مرة أخرى دلالة على تعلق هذه الأمور بكل واحد من الفعلين ففي إعادة الضمير من قوة الإقتضاء لذلك ما ليس في حذفه فإذا قلت لملك مثلا إياك أحب وإياك أخاف كان فيه من اختصاص الحب والخوف بذاته والإهتمام بذكره ما ليس في قولك إياك أحب وأخاف فصل إذا عرفت هذا فالناس في هذين الأصلين وهما العبادة والإستعانة أربعة أقسام أجلها وأفضلها أهل العبادة والإستعانة بالله عليها فعبادة الله غاية مرادهم وطلبهم منه أن يعينهم عليها ويوفقهم للقيام بها ولهذا كان من أفضل ما يسأل الرب تبارك وتعالى الإعانة على مرضاته وهو الذي علمه النبي لحبه معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال يا معاذ والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك / ح / ________________________________________ فأنفع الدعاء طلب العون على مرضاته وأفضل المواهب إسعافه بهذا المطلوب وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا وعلى دفع ما يضاده وعلى تكميله وتيسير أسبابه فتأملها وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته ثم رأيته في الفاتحة في إياك نعبد وإياك نستعين ومقابل هؤلاء القسم الثاني وهم المعرضون عن عبادته والإستعانة به فلا عبادة ولا إستعانة بل إن سأله أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته لا على مرضاة ربه وحقوقه فإنه سبحانه يسأله من في السموات والأرض يسأله أولياؤه وأعداؤه ويمد هؤلاء وهؤلاء وأبغض خلقه عدوه إبليس ومع هذا فقد سأله حاجة فأعطاه إياها ومتعه بها ولكن لما لم تكن عونا له على مرضاته كانت زيادة له في شقوته وبعده عن الله وطرده عنه وهكذا كل من استعان به على أمر وسأله إياه ولم يكن عونا على طاعته كان مبعدا له عن مرضاته قاطعا له عنه ولا بد وليتأمل العاقل هذا في نفسه وفي غيره وليعلم أن إجابة الله لسائليه ليست لكرامة السائل عليه بل يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه وشقوته ويكون قضاؤها له من هوانه عليه وسقوطه من عينه ويكون منعه منها لكرامته عليه ومحبته له فيمنعه حماية وصيانة وحفظا لا بخلا وهذا إنما يفعله بعبده الذي يريد كرامته ومحبته ويعامله بلطفه فيظن بجهله أن الله لا يحبه ولا يكرمه ويراه يقضي حوائج غيره فيسيء ظنه بربه وهذا حشو قلبه ولا يشعر به والمعصوم من عصمه الله والإنسان على نفسه بصيرة وعلامة هذا حمله على الأقدار وعتابه الباطن لها كما قيل وعاجز الرأي مضياع لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا فوالله لو كشف عن حاصله وسره لرأي هناك معاتبة القدر وإتهامه وأنه قد كان ينبغي أن يكون كذا وكذا ولكن ما حيلتي والأمر ليس إلي والعاقل خصم نفسه والجاهل خصم أقدار ربه ________________________________________ فاحذر كل الحذر أن تسأله شيئا معينا خيرته وعاقبته مغيبة عنك وإذا لم تجد من سؤاله بدا فعلقه على شرط علمه تعالى فيه الخيرة وقدم بين يدي سؤالك الإستخارة ولا تكن استخارة باللسان بلا معرفة بل استخارة من لا علم له بمصالحه ولا قدرة له عليها ولا اهتداء له إلى تفاصيلها ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا بل إن وكل إلى نفسه هلك كل الهلاك وانفرط عليه أمره وإذا أعطاك ما أعطاك بلا سؤال تسأله أن يجعله عونا لك على طاعته وبلاغا إلى مرضاته ولا يجعله قاطعا لك عنه ولا مبعدا عن مرضاته ولا تظن أن عطاءه كل ما أعطى لكرامة عبده عليه ولا منعه كل ما يمنعه لهوان عبده عليه ولكن عطاؤه ومنعه ابتلاء وامتحان يمتحن بهما عباده قال الله تعالى 89 25 و16 فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا أي ليس كل من أعطيته ونعمته وخولته فقد أكرمته وما ذاك لكرامته علي ولكنه ابتلاء علي وامتحان له أيشكرني فأعطيه فوق ذلك أم يكفرني فأسلبه إياه وأخول فيه غيره وليس كل من ابتليته فضيقت عليه رزقه وجعلته بقدر لا يفضل عنه فذلك من هوانه علي ولكنه ابتلاء وامتحان مني له أيصبر فأعطيه أضعاف أضعاف ما فاته من سعة الرزق أم يتسخط فيكون حظه السخط فرد الله سبحانه على من ظن أن سعة الرزق إكرام وأن الفقر إهانة فقال لم أبتل عبدي بالغنى لكرامته علي ولم أبتله بالفقر لهوانه علي فأخبر أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره فإنه سبحانه يوسع على الكافر لا لكرامته ويقتر على المؤمن لا لإهانته إنما يكرم من يكرمه بمعرفته ومحبته وطاعته ويهين من يهينه بالإعراض عنه ومعصيته فله الحمد على هذا وعلى هذا وهو الغني الحميد فعادت سعادة الدنيا والآخرة إلى إياك نعبد وإياك نستعين فصل القسم الثالث من له نوع عبادة بلا استعانة وهؤلاء نوعان ________________________________________ أحدهما القدرية القائلون بأنه قد فعل بالعبد جميع مقدوره من الألطاف وأنه لم يبق في مقدوره إعانة له على الفعل فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها وتعريف الطريق وإرسال الرسل وتمكينه من الفعل فلم يبق بعد هذا إعانة مقدورة يسأله إياها بل قد ساوى بين أوليائه وأعدائه في الإعانة فأعان هؤلاء كما أعان هؤلاء ولكن أولياءه اختاروا لنفوسهم الإيمان وأعداءه اختاروا لنفوسهم الكفر من غير أن يكون الله سبحانه وفق هؤلاء بتوفيق زائد أوجب لهم الإيمان وخذل هؤلاء بأمر آخر أوجب لهم الكفر فهولاء لهم نصيب منقوص من العبادة لا استعانة معه فهم موكولون إلى أنفسهم مسدود عليهم طريق الإستعانة والتوحيد قال ابن عباس رضي الله عنهما الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن آمن بالله وكذب بقدره نقض تكذيبه توحيده النوع الثاني من لهم عبادات وأوراد ولكن حظهم ناقص من التوكل والإستعانة لم تتسع قلوبهم لإرتباط الأسباب بالقدر وتلاشيها في ضمنه وقيامها به وأنها بدون القدر كالموات الذي لا تأثير له بل كالعدم الذي لا وجود له وأن القدر كالروح المحرك لها والمعول على المحرك الأول فلم تنفذ قوى بصائرهم من المتحرك إلى المحرك ومن السبب إلى المسبب ومن الآلة إلى الفاعل فضعفت عزائمهم وقصرت هممهم فقل نصيبهم من إياك نستعين ولم يجدوا ذوق التعبد بالتوكل والإستعانة وإن وجدوا ذوقه بالأوراد والوظائف فهؤلاء لهم نصيب من التوفيق والنفوذ والتأثير بحسب استعانتهم وتوكلهم ولهم من الخذلان والضعف والمهانة والعجز بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه وكان مأمورا بإزالته لأزاله فإن قلت فما معنى التوكل والإستعانة ________________________________________ قلت هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله والإيمان بتفرده بالخلق والتدبير والضر والنفع والعطاء والمنع وأنه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس فيوجب له هذا اعتمادا عليه وتفويضا إليه وطمأنينة به وثقة به ويقينا بكفايته لما توكل عليه فيه وأنه ملي به ولا يكون إلا بمشيئته شاءه الناس أم أبوه فتشبه حالته حالة الطفل مع أبويه فيما ينويه من رغبة ورهبة هما مليان بهما فانظر في تجرد قلبه عن الإلتفات إلى غير أبويه وحبس همه على إنزال ما ينويه بهما فهذه حال المتوكل ومن كان هكذا مع الله فالله كافيه ولا بد قال الله تعالى 65 3 ومن يتوكل على الله فهو حسبه أي كافيه والحسب الكافي فإن كان مع هذا من أهل التقوى كانت له العاقبة الحميدة وإن لم يكن من أهل التقوى فهو القسم الرابع وهو من شهد تفرد الله بالنفع والضر وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولم يدر مع ما يحبه ويرضاه فتوكل عليه واستعان به على حظوظه وشهواته وأغراضه وطلبها منه وأنزلها به فقضيت له وأسعف بها سواء كانت أموالا أو رياسة أو جاها عند الخلق أو أحوالا من كشف وتأثير وقوة وتمكين ولكن لا عاقبة له فإنها من جنس الملك الظاهر والأموال لا تستلزم الإسلام فضلا عن الولاية والقرب من الله فإن الملك والجاه والمال والحال معطاة للبر والفاجر والمؤمن والكافر فمن استدل بشيء من ذلك على محبة الله لمن آتاه إياه ورضاه عنه وأنه من أوليائه المقربين فهو من أجهل الجاهلين وأبعدهم عن معرفة الله ومعرفة دينه والتمييز بين ما يحبه ويرضاه ويكرهه ويسخطه فالحال من الدنيا فهو كالملك والمال إن أعان صاحبه على طاعة الله ومرضاته وتنفيذ أوامره ألحقه بالملوك العادلين البررة وإلا فهو وبال على صاحبه ومبعد له عن الله وملحق له بالملوك الظلمة والأغنياء الفجرة فصل إذا عرف هذا فلا يكون العبد متحققا ب إياك نعبد إلا بأصلين عظيمين أحدهما متابعة الرسول ________________________________________ والثاني الإخلاص للمعبود فهذا تحقيق إياك نعبد والناس منقسمون بحسب هذين الأصلين أيضا إلى أربعة أقسام أحدها أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة وهم أهل إياك نعبد حقيقة فأعمالهم كلها لله وأقوالهم لله وعطاؤهم لله ومنعهم لله وحبهم لله وبغضهم لله فمعاملتهم ظاهرا وباطنا لوجه الله وحده لا يريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكورا ولا ابتغاء الجاه عندهم ولا طلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم ولا هربا من ذمهم بل قد عدوا الناس بمنزلة أصحاب القبور لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فالعمل لأجل الناس وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم ورجائهم للضر والنفع منهم لا يكون من عارف بهم ألبتة بل من جاهل بشأنهم وجاهل بربه فمن عرف الناس أنزلهم منازلهم ومن عرف الله أخلص له أعماله وأقواله وعطاءه ومنعه وحبه وبغضه ولا يعامل أحد الخلق دون الله إلا لجهله بالله وجهله بالخلق وإلا فإذا عرف الله وعرف الناس آثر معاملة الله على معاملتهم وكذلك أعمالهم كلها وعبادتهم موافقة لأمر الله ولما يحبه ويرضاه وهذا هو العمل الذي لا يقبل الله من عامل سواه وهو الذي بلا عباده بالموت والحياة لأجله قال الله تعالى 67 2 الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وجعل ما على الأرض زينة لها ليختبرهم أيهم أحسن عملا قال الفضيل بن عياض العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص ما كان لله ________________________________________ والصواب ما كان على السنة وهذا هو المذكور في قوله تعالى 18 110 فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وفي قوله 4 125 ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن فلا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه على متابعة أمره وما عدا ذلك فهو مردود على عامله يرد عليه أحوج ما هو إليه هباء منثورا وفي الصحيح من حديث عائشة عن النبي كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد / ح / وكل عمل بلا اقتداء فإنه لا يزيد عامله من الله إلا بعدا فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره لا بالآراء والأهواء فصل الضرب الثاني من لا إخلاص له ولا متابعة فليس عمله موافقا لشرع وليس هو خالصا للمعبود كأعمال المتزينين للناس المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله وهؤلاء شرار الخلق وأمقتهم إلى الله عز وجل ولهم أوفر نصيب من قوله 3 188 لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة والشرك ويحبون أن يحمدوا باتباع السنة والإخلاص وهذا الضرب يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إلى العلم والفقر والعبادة عن الصراط المستقيم فإنهم يرتكبون البدع والضلالات والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من الإتباع والإخلاص والعلم فهم أهل الغضب والضلال فصل الضرب الثالث من هو مخلص في أعماله لكنها على غير متابعة الأمر كجهال العباد والمنتسبين إلى طريق الزهد والفقر وكل من عبد الله بغير أمره واعتقد عبادته هذه قربة إلى الله فهذا حاله كمن يظن أن سماع المكاء والتصدية قربة وأن الخلوة التي يترك فيها الجمعة والجماعة قربة وأن مواصلة صوم النهار بالليل قربة وأن صيام يوم فطر الناس كلهم قربة وأمثال ذلك فصل الضرب الرابع من أعماله على متابعة الأمر لكنها لغير الله ________________________________________ كطاعة المرائين وكالرجل يقاتل رياء وحمية وشجاعة ويحج ليقال ويقرأ القرآن ليقال فهؤلاء أعمالهم ظاهرها أعمال صالحة مأمور بها لكنها غير صالحة فلا تقبل 98 5 وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين فكل أحد لم يؤمر إلا بعبادة الله بما أمر والإخلاص له في العبادة وهم أهل إياك نعبد وإياك نستعين فصل ثم أهل مقام إياك نعبد لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصيص أربع طرق فهم في ذلك أربعة أصناف الصنف الأول عندهم أنفع العبادات وأفضلها أشقها على النفوس وأصعبها قالوا لأنه أبعد الأشياء عن هواها وهو حقيقة التعبد قالوا والأجر على قدر المشقة ورووا حديثا لا أصل له أفضل الأعمال أحمرها أي أصعبها وأشقها وهؤلاء هم أهل المجاهدات والجور على النفوس قالوا وإنما تستقيم النفوس بذلك إذ طبعها الكسل والمهانة والإخلاد إلى الأرض فلا تستقيم إلا بركوب الأهوال وتحمل المشاق الصنف الثاني قالوا أفضل العبادات التجرد والزهد في الدنيا والتقلل منها غاية الإمكان واطراح الإهتمام بها وعدم الإكتراث بكل ما هو منها ثم هؤلاء قسمان فعوامهم ظنوا أن هذا غاية فشمروا إليه وعملوا عليه ودعوا الناس إليه وقالوا هو أفضل من درجة العلم والعبادة فرأوا الزهد في الدنيا غاية كل عبادة ورأسها وخواصهم رأوا هذا مقصودا لغيره وأن المقصود به عكوف القلب على الله وجمع الهمة عليه وتفريغ القلب لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه والإشتغال بمرضاته فرأوا أن أفضل العبادات في الجمعية على الله ودوام ذكره بالقلب واللسان والإشتغال بمراقبته دون كل ما فيه تفريق للقلب وتشتيت له ثم هؤلاء قسمان فالعارفون المتبعون منهم إذا جاء الأمر والنهي بادروا إليه ولو فرقهم وأذهب جمعيتهم والمنحرفون منهم يقولون المقصود من العبادة جمعية القلب على الله فإذا جاء ما يفرقه عن الله لم يلتفت إليه وربما يقول قائلهم ________________________________________ يطالب بالأوراد من كان غافلا ... فكيف بقلب كل أوقاته ورد ثم هولاء أيضا قسمان منهم من يترك الواجبات والفرائض لجمعيته ومنهم من يقوم بها ويترك السنن والنوافل وتعلم العلم النافع لجمعيته وسأل بعض هؤلاء شيخا عارفا فقال إذا أذن المؤذن وأنا في جمعيتي على الله فإن قمت وخرجت تفرقت وإن بقيت على حالي بقيت على جمعيتي فما الأفضل في حقي فقال إذا أذن المؤذن وأنت تحت العرش فقم وأجب داعي الله ثم عد إلى موضعك وهذا لأن الجمعية على الله حظ الروح والقلب وإجابة الداعي حق الرب ومن آثر حظ روحه على حق ربه فليس من أهل إياك نعبد الصنف الثالث رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها ما كان فيه نفع متعد فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر فرأوا خدمة الفقراء والإشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع أفضل فتصدوا له وعملوا عليه واحتجوا بقول النبي الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله / ح / رواه أبو يعلى واحتجوا بأن عمل العابد قاصر على نفسه وعمل النفاع متعد إلى الغير وأين أحدهما من الآخر قالوا ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب قالوا وقد قال رسول الله لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم / ح / وهذا التفضيل إنما هو للنفع المتعدي واحتجوا بقوله من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء / ح / واحتجوا بقوله إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير / ح / وبقوله إن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر والنملة في جحرها / ح / واحتجوا بأن صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله وصاحب النفع لا ينقطع عمله ما دام نفعه الذي نسب إليه ________________________________________ واحتجوا بأن الأنبياء إنما بعثوا بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم ونفعم في معاشهم ومعادهم لم يبعثوا بالخلوات والإنقطاع عن الناس والترهب ولهذا أنكر النبي على أولئك النفر الذين هموا بالإنقطاع للتعبد وترك مخالطة الناس ورأى هؤلاء التفرق في أمر الله ونفع عباده والإحسان إليهم أفضل من الجمعية عليه بدون ذلك الصنف الرابع قالوا إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا القيام بحقه والإشتغال به عن الورد المستحب وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل والأفضل في أوقات السحر الإشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والإستغفار والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل الإقبال على تعليمه والإشتغال به والأفضل في أوقات الأذان ترك ما هو فيه من ورده والإشتغال بإجابة المؤذن والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت والخروج إلى الجامع وإن بعد كان أفضل والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال الإشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك والأفضل في وقت قراءة القرآن جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه حتى كأن الله تعالى يخاطبك به فتجمع قلبك على فهمه وتدبره والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك والأفضل في وقت الوقوف بعرفة الإجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك والأفضل في أيام عشر ذي الحجة الإكثار من التعبد لا سيما التكبير والتهليل والتحميد فهو أفضل من الجهاد غير المتعين ________________________________________ والأفضل في العشر الأخير من رمضان لزوم المسجد فيه والخلوة والإعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والإشتغال بهم حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته وحضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه والأفضل خلطتهم في الخير فهي خير من اعتزالهم فيه واعتزالهم في الشر فهو أفضل من خلطتهم فيه فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والإشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته فهو يعبدالله على وجه واحد وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت فمدار تعبده عليها فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية كلما رفعت له منزلة ________________________________________ عمل على سيره إليها واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره فإن رأيت العلماء رأيته معهم وإن رأيت العباد رأيته معهم وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم فهذا هو العبد المطلق الذي لم تملكه الرسوم ولم تقيده القيود ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من العبادات بل هو على مراد ربه ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه فهذا هو المتحقق ب إياك نعبد وإياك نستعين حقا القائم بهما صدقا ملبسه ما تهيأ ومأكله ما تيسر واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليا لا تملكه إشارة ولا يتعبده قيد ولا يستولي عليه رسم حر مجرد دائر مع الأمر حيث دار يدين بدين الآمر أني توجهت ركائبه ويدور معه حيث استقلت مضاربه يأنس به كل محق ويستوحش منه كل مبطل كالغيث حيث وقع نفع وكالنخلة لا يسقط ورقها وكلها منفعة حتى شوكها وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله والغضب إذا انتهكت محارم الله فهو لله وبالله ومع الله قد صحب الله بلا خلق وصحب الناس بلا نفس بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين وتخلى عنهم وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها فواها له ما أغربه بين الناس وما أشد وحشته منهم وما أعظم أنسه بالله وفرحه به وطمأنينته وسكونه إليه والله المستعان وعيه التكلان فصل ثم للناس في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها طرق أربعة وهم في ذلك أربعة أصناف ________________________________________ الصنف الأول نفاة الحكم والتعليل الذين يردون الأمر إلى محض المشيئة وصرف الإرادة فهؤلاء عندهم القيام بها ليس إلا لمجرد الأمر من غير أن تكون سببا لسعادة في معاش ولا معاد ولا سببا لنجاة وإنما القيام بها لمجرد الأمر ومحض المشيئة كما قالوا في الخلق إنه لم يخلق ما خلقه لعلة ولا لغاية هي المقصودة به ولا لحكمة تعود إليه منه وليس في المخلوقات أسباب مقتضيات لمسبباتها ولا فيها قوى ولا طبائع فليست النار سببا للإحراق ولا الماء سببا للإرواء والتبريد وإخراج النبات ولا فيه قوة ولا طبيعة تقتضي ذلك وحصول الإحراق والري ليس بهما لكن بإجراء العادة الإقترانية على حصول هذا عند هذا لا بسبب ولا بقوة قامت به وهكذا الأمر عندهم في أمره الشرعي سواء لا فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور ولكن المشيئة اقتضت أمره بهذا ونهيه عن هذا من غير أن يقوم بالمأمور به صفة اقتضت حسنه ولا المنهي عنه صفة اقتضت قبحه ولهذا الأصل لوازم وفروع كثيرة فاسدة وقد ذكرناها في كتابنا الكبير المسمى مفتاح دار السعادة ومطلب أهل العلم والإرادة وبينا فساد هذا الأصل من نحو ستين وجها وهو كتاب بديع في معناه وذكرناه أيضا في كتابنا المسمى سفر الهجرتين وطريق السعادتين وهؤلاء لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذتها ولا يتنعمون بها وليست الصلاة قرة أعينهم وليست الأوامر سرور قلوبهم وغذاء أرواحهم وحياتهم ولهذا يسمونها تكاليف أي قد كلفوا بها ولو سمى مدع لمحبة ملك من الملوك أو غيره ما يأمره به تكليفا وقال إني إنما أفعله بكلفة لم يعده أحد محبا له ولهذا ________________________________________ أنكر هؤلاء أو كثير منهم محبة العبد لربه وقالوا إنما يحب ثوابه وما يخلقه له من النعيم الذي يتمتع به لا أنه يحب ذاته فجعلوا المحبة لمخلوقه دونه وحقيقة العبودية هي كمال المحبة فأنكروا حقيقة العبودية ولبها وحقيقة الإلهية كونه مألوها محبوبا بغاية الحب المقرون بغاية الذل والخضوع والإجلال والتعظيم فأنكروا كونه محبوبا وذلك إنكار لإلهيته وشيخ هؤلاء هو الجعد بن درهم الذي ضحى به خالد بن عبدالله القسري في يوم أضحى وقال إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا وإنما كان إنكاره لكونه تعالى محبوبا محبا لم ينكر حاجة إبراهيم إليه التي هي الخلة عند الجهمية التي يشترك فيها جميع الخلائق فكلهم أخلاء لله عندهم وقد بينا فساد قولهم هذا وإنكارهم محبة الله من أكثر من ثمانين وجها في كتابنا المسمى قرة عيون المحبين وروضة قلوب العارفين وذكرنا فيه وجوب تعلق المحبة بالحبيب الأول من جميع طرق الأدلة النقلية والعقلية والذوقية والفطرية وأنه لا كمال للإنسان بدون ذلك ألبتة كما أنه لا كمال لجسمه إلا بالروح والحياة ولا لعينه إلا بالنور الباصر ولا لأذنه إلا بالسمع وأن الأمر فوق ذلك وأعظم فصل الصنف الثاني القدرية النفاة الذين يثبتون نوعا من الحكمة والتعليل ولكن لا يقوم بالرب ولا يرجع إليه بل يرجع إلى مجرد مصلحة المخلوق ومنفعته فعندهم أن العبادات شرعت أثمانا لما يناله العباد من الثواب والنعيم وأنها بمنزلة استيفاء أجرة الأجير قالوا ولهذا يجعلها الله تعالى عوضا كقوله 7 43 ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون وقوله ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وقوله هل تجزون إلا ما كنتم تعملون وقوله فيما يحكى عن ربه عز وجل يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها / ح / وقوله تعالى 39 10 إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ________________________________________ قالوا وقد سماه الله سبحانه جزاء وأجرا وثوابا لأنه يثوب إلى العامل من عمله أي يرجع إليه منه قالوا ولولا ارتباطه بالعمل لم يكن لتسميته جزاءا ولا أجرا ولا ثوابا معنى قالوا ويدل عليه الوزن فلولا تعلق الثواب والعقاب بالأعمال واقتضائها لها وكونها كالأثمان لها لم يكن للوزن معنى وقد قال تعالى 7 8 9 والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون وهاتان الطائفتان متقابلتان أشد التقابل وبينهما أعظم التباين فالجبرية لم تجعل للأعمال ارتباطا بالجزاء ألبتة وجوزت أن يعذب الله من أفنى عمره في طاعته وينعم من أفنى عمره في معصيته وكلاهما بالنسبة إليه سواء وجوزت أن يرفع صاحب العمل القليل على من هو أعظم منه عملا وأكثر وأفضل درجات والكل عندهم راجع إلى محض المشيئة من غير تعليل ولا سبب ولا حكمة تقتضي تخصيص هذا بالثواب وهذا بالعقاب والقدرية أوجبت على الله سبحانه رعاية الأصلح وجعلت ذلك كله بمحض الأعمال وثمنا لها وأن وصول الثواب إلى العبد بدون عمله فيه تنغيص بإحتمال منة الصدقة عليه بلا ثمن فقاتلهم الله ما أجهلهم بالله وأغرهم به جعلوا تفضله وإحسانه إلى عبده بمنزلة صدقة العبد على العبد حتى قالوا إن إعطاءه ما يعطيه أجرة على عمله أحب إلى العبد وأطيب له من أن يعطيه فضلا منه بلا عمل فقابلتهم الجبرية أشد المقابلة ولم يجعلوا للأعمال تأثيرا في الجزاء ألبتة ________________________________________ والطائفتان جائرتان منحرفتان عن الصراط المستقيم الذي فطر الله عليه عباده وجاءت به الرسل ونزلت به الكتب وهو أن الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب والعقاب مقتضية لهما كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها وأن الأعمال الصالحة من توفيق الله وفضله ومنه وصدقته على عبده إن أعانه عليها ووفقه لها وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها وحببها إليه وزينها في قلبه وكره إليه أضداها ومع هذا فليست ثمنا لجزائه وثوابه ولا هي على قدره بل غايتها إذا بذل العبد فيها نصحه وجهده وأوقعها على أكمل الوجوه أن تقع شكرا له على بعض نعمه عليه فلو طالبه بحقه لبقى عليه من الشكر على تلك النعمة بقية لم يقم بشكرها فلذلك لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم كما ثبت ذلك عن النبي ولهذا نفى النبي دخول الجنة بالعمل كما قال لن يدخل أحدا منكم الجنة عمله وفي لفظ لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله وفي لفظ لن ينجى أحدا منكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل / ح / وأثبت سبحانه دخول الجنة بالعمل كما في قوله 16 32 ادخولا الجنة بما كنتم تعملون ولا تنافي بينها إذا توارد النفي والإثبات ليس على معنى واحد فالمنفي استحقاقها بمجرد الأعمال وكون الأعمال ثمنا وعوضا لها ردا على القدرية المجوسية التي زعمت أن التفضل بالثواب ابتداء متضمن لتكرير المنة وهذه الطائفة من أجهل الخلق بالله وأغلظهم عنه حجابا وحق لهم ________________________________________ أن يكونوا مجوس هذه الأمة ويكفي في جهلهم بالله أنهم لم يعلموا أن أهل سمواته وأرضه في منته وأن من تمام الفرح والسرور والغبطة واللذة اغتباطهم بمنة سيدهم ومولاهم الحق وأنهم إنما طاب لهم عيشهم بهذه المنة وأعظمهم منه منزلة وأقربهم إليه أعرفهم بهذه المنة وأعظمهم إقرارا بها وذكرا لها وشكرا عليها ومحبة له لأجلها فهل يتقلب أحد قط إلا في منته 49 17 يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنت صادقين واحتمال منة المخلوق إنما كانت نقصا لأنه نظيره فإذا من عليه استعلى عليه ورأى الممنون عليه نفسه دونه هذا مع أنه ليس في كل مخلوق فلرسول الله المنة على أمته وكان أصحابه يقولون الله ورسوله أمن ولا نقص في منة الوالد على ولده ولا عار عليه في احتمالها وكذلك السيد على عبده فكيف برب العالمين الذي إنما يتقلب الخلائق في بحر منته عليهم ومحض صدقته عليهم بلا عوض منهم ألبتة وإن كانت أعمالهم أسبابا لما ينالونه من كرمه وجوده فهو المنان عليهم بأن وفقهم لتلك الأسباب وهداهم لها وأعانهم عليها وكملها لهم وقبلها منهم على ما فيها وهذا هو المعنى الذي أثبت به دخول الجنة في قوله بما كنتم تعملون فهذه باء السببية ردا على القدرية والجبرية الذين يقولون لا ارتباط بين الأعمال والجزاء ولا هي أسباب له وإنما غايتها أن تكون أمارات قالوا وليست أيضا مطردة لتخلف الجزاء عنها في الخير والشر فلم يبق إلا محض الأمر الكوني والمشيئة فالنصوص مبطلة لقول هؤلاء كما هي مبطلة لقول أولئك وأدلة المعقول والفطرة أيضا تبطل قول الفريقين وتبين لمن له قلب ولب مقدار قول أهل السنة وهم الفرقة الوسط المثبتون لعموم مشيئة الله وقدرته وخلقه العباد وأعمالهم ولحكمته التامة المتضمنة ربط الأسباب بمسبباتها وانعقادها بها شرعا وقدرا وترتيبها عليها عاجلا وآجلا ________________________________________ وكل واحدة من الطائفتين المنحرفتين تركت نوعا من الحق وارتكبت لأجله نوعا من الباطل بل أنواعا وهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه 2 213 والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم فصل الصنف الثالث الذين زعموا أن فائدة العبادة رياضة النفوس واستعدادها لفيض العلوم عليها وخروج قواها عن قوى النفوس السبعية والبهيمية فلو عطلت عن العبادات لكانت من جنس نفوس السباع والبهائم والعبادات تخرجها عن مألوفاتها وعوائدها وتنقلها إلى مشابهة العقول المجردة فتصير عالمة قابلة لانتقاش صور العلوم والمعارف فيها وهذا يقوله طائفتان إحداهما من يقرب إلى النبوات والشرائع من الفلاسفة القائلين بقدم العالم وعدم إنشقاق الأفلاك وعدم الفاعل المختار الطائفة الثانية من تفلسفت من صوفية الإسلام وتقرب إلى الفلاسفة فإنهم يزعمون أن العبادات رياضات لإستعداد النفوس وتجردها ومفارقتها العالم الحسى ونزول الواردات والمعارف عليها ثم من هؤلاء من لا يوجب العبادات إلا لهذا المعنى فإذا حصل لها بقي مخيرا في حفظه أورده أو الإشتغال بالوارد عنها ومنهم من يوجب القيام بالأوراد والوظائف وعدم الإخلال بها وهم صنفان أيضا أحدهما من يوجبونه حفظا للقانون وضبطا للنفوس والآخرون الذين يوجبونه حفظا للوارد وخوفا من تدرج النفس بمفارقتها له إلى حالتها الأولى من البهيمية فهذه نهاية أقدام المتكلمين على طريق السلوك وغاية معرفتهم بحكم العبادة وما شرعت لأجله ولا تكاد تجد في كتب القوم غير هذه الطرق الثلاثة على سبيل الجمع أو على سبيل البدل فصل وأما الصنف الرابع فهم الطائفة المحمدية الإبراهيمية أتباع الخليلين العارفون بالله وحكمته في أمره وشرعه وخلقه وأهل البصائر في عبادته ومراده بها ________________________________________ فالطوائف الثلاث محجوبون عنهم بما عندهم من الشبه الباطلة والقواعد الفاسدة ما عندهم وراء ذلك شيء قد فرحوا بما عندهم من المحال وقنعوا بما ألفوه من الخيال ولو علموا أن وراءه ما هو أجل منه وأعظم لما ارتضوا بدونه ولكن عقولهم قصرت عنه ولم يهتدوا إليه بنور النبوة ولم يشعروا به ليجتهدوا في طلبه ورأوا أن ما معهم خير من الجهل ورأوا تناقض ما مع غيرهم وفساده فتركب من هذه الأمور إيثار ما عندهم على ما سواه وهذه بلية الطوائف والمعافى من عافاه الله فصل فاعلم أن سر العبودية وغايتها وحكمتها إنما يطلع عليها من عرف صفات الرب عز وجل ولم يعطلها وعرف معنى الإلهية وحقيقتها ومعنى كونه إلها بل هو الإله الحق وكل إله سواه فباطل بل أبطل الباطل وأن حقيقة الإلهية لا تنبغي إلا له وأن العبادة موجب إلهيته وأثرها ومقتضاها وارتباطها بها كإرتباط متعلق الصفات بالصفات وكإرتباط المعلوم بالعلم والمقدور بالقدرة والأصوات بالسمع والإحسان بالرحمة والعطاء بالجود ________________________________________ فمن أنكر حقيقة الإلهية ولم يعرفها كيف يستقيم له معرفة حكمة العبادات وغاياتها ومقاصدها وما شرعت لأجله وكيف يستقيم له العلم بأنها هي الغاية المقصودة بالخلق والتي لها خلقوا ولها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب ولأجلها خلقت الجنة والنار وأن فرض تعطيل الخليقة عنها نسبة لله إلى مالا يليق به ويتعالى عنه من خلق السموات والأرض بالحق ولم يخلقهما باطلا ولم يخلق الإنسان عبثا ولم يتركه سدى مهملا قال تعالى 23 115 أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون أي لغير شيء ولا حكمة ولا لعبادتي ومجازاتي لكم وقد صرح تعالى بهذا في قوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فالعبادة هي الغاية التي خلق لها الجن والإنس والخلائق كلها قال الله تعالى 75 36 أيحسب الإنسان أن يترك سدى أي مهملا قال الشافعي لا يؤمر ولا ينهى وقال غيره لا يثاب ولا يعاقب والصحيح الأمران فإن الثواب والعقاب مترتبان على الأمر والنهي والأمر والنهي طلب العبادة وإرادتها وحقيقة العبادة امتثالهما وقال تعالى 3 191 ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار وقال وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وقال 45 22 وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت فأخبر أنه خلق السموات والأرض بالحق المتضمن أمره ونهيه وثوابه وعقابه فإذا كانت السموات والأرض وما بينهما خلقت لهذا وهو غاية الخلق فكيف يقال إنه لا علة له ولا حكمة مقصودة هي غايته أو إن ذلك لمجرد استئجار العباد حتى لا ينكد عليهم الثواب بالمنة أو لمجرد استعداد النفوس للمعارف العقلية وارتياضها بمخالفة العوائد فليتأمل اللبيب الفرقان بين هذه الأقوال وبين ما دل عليه صريح الوحي يجد أن أصحاب هذه الأقوال ما قدروا الله حق قدره ولا عرفوه حق معرفته فالله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته الجامعة لكمال محبته مع الخضوع له والإنقياد لأمره ________________________________________ فأصل العبادة محبة الله بل إفراده بالمحبة وأن يكون الحب كله لله فلا يحب معه سواه وإنما يحب لأجله وفيه كما يجب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه فمحبتنا لهم من تمام محبته وليست محبة معه كمحبة من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحبه وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله علما عليها وشاهدا لمن ادعاها فقال تعالى 3 31 قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله فجعل اتباع رسوله مشروطا بمحبتهم لله وشرطا لمحبة الله لهم ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه وتحققه بتحققه فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله وانتفاء المتابعة ملزوم لإنتفاء محبة الله لهم فيستحيل إذا ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله ودل على أن متابعة الرسول هي حب الله ورسوله وطاعة أمره ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما فلا يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه ألبتة ولا يهديه الله قال الله تعالى 9 24 قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله أو قول أحد ________________________________________ منهم على قول الله ورسوله أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه أو معاملة أحدهم على معاملة الله فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وإن قاله بلسانه فهو كذب منه وإخبار بخلاف ما هو عليه وكذلك من قدم حكم أحد على حكم الله ورسوله فذلك المقدم عنده أحب إليه من الله ورسوله لكن قد يشتبه الأمر على من يقدم قول أحد أو حكمه أو طاعته أو مرضاته ظنا منه أنه لا يأمر ولا يحكم ولا يقول إلا ما قاله الرسول فيطيعه ويحاكم إليه ويتلقى أقواله كذلك فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك وأما إذا قدر على الوصول إلى الرسول وعرف أن غير من اتبعه هو أولى به مطلقا أو في بعض الأمور ولم يلتفت إلى الرسول ولا إلى من هو أولى به فهذا الذي يخاف عليه وهو داخل تحت الوعيد فإن استحل عقوبة من خالفه وأذله ولم يوافقه على اتباع شيخه فهو من الظلمة المعتدين وقد جعل الله لكل شيء قدرا فصل وبنى إياك نعبد على أربع قواعد التحقق بما يحبه الله ورسوله ويرضاه من قولاللسان والقلب وعمل القلب الجوارح فالعبودية اسم جامع لهذه المراتب الأربع فأصحاب إياك نعبد حقا هم أصحابها فقول القلب هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه به عن نفسه وعن أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه على لسان رسله وقول اللسان الإخبار عنه بذلك والدعوة إليه والذب عنه وتبيين بطلان البدع المخالفة له والقيام بذكره وتبليغ أوامره وعمل القلب كالمحبة له والتوكل عليه والإنابة إليه والخوف منه والرجاء له وإخلاص الدين له والصبر على أوامره وعن نواهيه وعلى أقداره والرضى به وعنه والموالاة فيه والمعاداة فيه والذل له والخضوع والإخبات إليه والطمأنينة به وغير ذلك من أعمال القلوب التي فرضها أفرض من أعمال الجوارح ومستحبها أحب إلى الله من مستحبها وعمل الجوارح بدونها إما عديم المنفعة أو قليل المنفعة ________________________________________ وأعمال الجوارح كالصلاة والجهاد ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات ومساعدة العاجز والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك ف إياك نعبد التزام لأحكام هذه الأربعة وإقرار بها و إياك نستعين طلب للإعانة عليها والتوفيق لها و اهدنا الصراط المستقيم متضمن للتعريف بالأمرين على التفصيل وإلهام القيام بهما وسلوك طريق السالكين إلى الله بها فصل وجميع الرسل إنما دعوا إلى إياك نعبد وإياك نستعين فإنهم كلهم دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته من أولهم إلى آخرهم فقال نوح لقومه 7 59 اعبدوا لله مالكم من إله غيره وكذلك قال هود وصالح وشعيب 7 65 73 85 وإبراهيم قال الله تعالى 16 36 ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وقال 21 25 وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدوا وقال تعالى 23 51 52 يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فصل والله تعالى جعل العبودية وصف أكمل خلقه وأقربهم إليه فقال ________________________________________ 172 - لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا وقال 7 206 إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون وهذا يبين أن الوقف التام في قوله في سورة الأنبياء 21 19 وله من في السموات والأرض ههنا ثم يبتدىء ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون فهما جملتان تامتان مستقلتان أي إن له من في السموات ومن في الأرض عبيدا وملكا ثم استأنف جملة أخرى فقال ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته يعني أن الملائكة الذين عنده لا يستكبرون عن عبادته يعني لا يأنفون عنها ولا يتعاظمون ولا يستحسرون فيعيون وينقطعون يقال حسر واستحسر أيإذا تعب وأعيا بل عبادتهم وتسبيحهم كالنفس لبني آدم فالأول وصف لعبيد ربوبيته والثاني وصف لعبيد إلهيته وقال تعالى 25 63 77 وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا إلى آخر السورة وقال 76 6 عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا وقال 38 17 واذكروا عبدنا داود وقال 38 41 واذكر عبدنا أيوب وقال 38 45 واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب وقال عن سليمان 38 30 نعم العبد إنه أواب وقال عن المسيح 43 59 إن هو إلا عبد أنعمنا عليه فجعل غايته العبودية لا الإلهية كما يقول أعداؤه النصارى ووصف أكرم خلقه عليه وأعلاهم عنده منزلة بالعبودية في أشرف مقاماته فقال تعالى 2 25 وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا وقال تبارك وتعالى تبارك الذي نزل الفرقان على عبده وقال الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب فذكره بالعبودية في مقام إنزال الكتاب عليه وفي مقام التحدي بأن ياتوا بمثله وقال وأنه لما قام عبدالله يدعوه ________________________________________ كادوا يكونون عليه لبدا فذكره بالعبودية في مقام الدعوة إليه وقال سبحان الذي أسرى بعبده ليلا فذكره بالعبودية في مقام الإسراء وفي الصحيح عنه أنه قال لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله / ح / وفي الحديث أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد / ح / وفي صحيح البخاري عن عبدالله بن عمرو قال قرأت في التوراة صفة محمد محمد رسول الله عبدي ورسولي سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر / ح / وجعل الله سبحانه البشارة المطلقة لعباده فقال تعالى فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وجعل الأمن المطلق لهم فقال تعالى يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين وعزل الشيطان عن سلطانه عليهم خاصة وجعل سلطانه على من تولاه وأشرك به فقال إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وقال إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون وجعل النبي إحسان العبودية أعلى مراتب الدين وهو الإحسان فقال في حديث جبريل وقد سأله عن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك / ح / فصل في لزوم إياك نعبد لكل عبد إلى الموت قال الله تعالى لرسوله واعبد ربك حتى يأتيك اليقين وقال أهل النار وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين واليقين ههنا هو الموت بإجماع أهل التفسير وفي الصحيح في قصة موت عثمان بن مظعون ________________________________________ رضي الله عنه أن النبي قال أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه أي الموت وما فيه فلا ينفك العبد من العبودية ما دام في دار التكليف بل عليه في البرزخ عبودية أخرى لما يسأله الملكان من كان يعبد وما يقول في رسول الله ويلتمسان منه الجواب وعليه عبودية أخرى يوم القيامة يوم يدعو الله الخلق كلهم إلى السجود فيسجد المؤمنون ويبقى الكفار والمنافقون لا يستطيعون السجود فإذا دخلوا دار الثواب والعقاب انقطع التكليف هناك وصارت عبودية أهل الثواب تسبيحا مقرونا بأنفاسهم لا يجدون له تعبا ولا نصبا ومن زعم أنه يصل إلى مقام يسقط عنه فيه التعبد فهو زنديق كافر بالله وبرسوله وإنما وصل إلى مقام الكفر بالله والإنسلاخ من دينه بل كلما تمكن العبد في منازل العبودية كانت عبوديته أعظم والواجب عليه منها أكبر وأكثر من الواجب على من دونه ولهذا كان الواجب على رسول الله بل على جميع الرسل أعظم من الواجب على أممهم والواجب على أولى العزم أعظم من الواجب على من دونهم والواجب على أولى العلم أعظم من الواجب على من دونهم وكل أحد بحسب مرتبته فصل في إنقسام العبودية إلى عامة وخاصة العبودية نوعان عامة وخاصة فالعبودية العامة عبودية أهل السموات والأرض كلهم لله برهم وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم فهذه عبودية القهر والملك قال تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا فهذا يدخل فيه مؤمنهم وكافرهم وقال تعالى ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء فسماهم عباده مع ضلالهم لكن تسمية مقيدة بالإشارة وأما المطلقة فلم تجيء إلا لأهل النوع الثاني كما سيأتي بيانه إن شاء الله ________________________________________ وقال تعالى قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون وقال وما الله يريد ظلما للعباد وقال إن الله قد حكم بين العباد فهذا يتناول العبودية الخاصة والعامة وأما النوع الثاني فعبودية الطاعة والمحبة واتباع الأوامر قال تعالى يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون وقال فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وقال وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وقال تعالى عن إبليس لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فقال تعالى عنهم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان فالخلق كلهم عبيد ربوبيته وأهل طاعته وولايته هم عبيد إلهيته ولا يجىء في القرآن إضافة العباد إليه مطلقا إلا لهؤلاء وأما وصف عبيد ربوبيته بالعبودية فلا يأتي إلا على أحد خمسة أوجه إما منكرا كقوله إن كل من في السموات والأرض إلا آت الرحمن عبدا والثاني معرفا باللام كقوله وما الله يريد ظلما للعباد إن الله قد حكم بين العباد الثالث مقيدا بالإشارة أو نحوها كقوله أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء الرابع أن يذكروا في عموم عباده فيندرجوا مع أهل طاعته في الذكر كقوله أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون الخامس أن يذكروا موصوفين بفعلهم كقوله قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله وقد يقال إنما سماهم عباده إذ لم يقنطوا من رحمته وأنابوا إليه واتبعوا أحسن ما أنزل إليهم من ربهم فيكونون من عبيد الإلهية والطاعة وإنما انقسمت العبودية إلى خاصة وعامة لأن أصل معنى اللفظة الذل والخضوع يقال طريق معبد إذا كان مذللا بوطء الأقدام وفلان عبده الحب إذا ذلله لكن أولياؤه خضعوا له وذلوا طوعا واختيارا وانقيادا لأمره ونهيه وأعداؤه خضعوا له قهرا ورغما ________________________________________ ونظير انقسام العبودية إلى خاصة وعامة انقسام القنوت إلى خاص وعام والسجود كذلك قال تعالى في القنوت الخاص أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه وقال في حق مريم وكانت من القانتين وهو كثير في القرآن وقال في القنوت العام وله من في السموات والأرض كل له قانتون أي خاضعون أذلاء وقال في السجود الخاص إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون وقال إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا وهو كثير في القرآن وقال في السجود العام ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ولهذا كان هذا السجود الكره غير السجود المذكور في قوله ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس فخص بالسجود هنا كثيرا من الناس وعمهم بالسجود في سورة النحل ولله يسجد ما في السموات والأرض من دابة والملائكة وهو سجود الذل والقهر والخضوع فكل أحد خاضع لربوبيته ذليل لعزته مقهور تحت سلطانه تعالى فصل في مراتب إياك نعبد علما وعملا للعبودية مراتب بحسب العلم والعمل فأما مراتبها العلمية فمرتبتان إحداهما العلم بالله والثانية العلم بدينه فأما العلم به سبحانه فخمس مراتب العلم بذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه وتنزيهه عما لا يليق به والعلم بدينه مرتبتان إحداهما دينه الأمري الشرعي وهو الصراط المستقيم الموصل إليه والثانية دينه الجزائي المتضمن ثوابه وعقابه وقد دخل في هذا العلم العلم بملائكته وكتبه ورسله وأما مراتبها العلمية فمرتبتان مرتبة لأصحاب اليمين ومرتبة للسابقين المقربين فأما مرتبة أصحاب اليمين فأداء الواجبات وترك المحرمات مع ارتكاب المباحات وبعض المكروهات وترك بعض المستحبات وأما مرتبة المقربين فالقيام بالواجبات والمندوبات وترك المحرمات والمكروهات زاهدين فيما لا ينفعهم في معادهم متورعين عما يخافون ضرره ________________________________________ وخاصتهم قد انقلبت المباحات في حقهم طاعات وقربات بالنية فليس في حقهم مباح متساوي الطرفين بل كل أعمالهم راجحة ومن دونهم يترك المباحات مشتغلا عنها بالعبادات وهؤلاء يأتونها طاعات وقربات ولأهل هاتين المرتبتين درجات لا يحصيها إلا الله فصل ورحى العبودية تدور على خمس عشرة قاعدة من كملها كمل مراتب العبودية وبيانها أن العبودية منقسمة على القلب اللسان والجوارح وعلى كل منها عبودية تخصه والأحكام التي للعبودية خمسة واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح وهي لكل واحد من القلب واللسان والجوارح فواجب القلب منه متفق على وجوبه ومختلف فيه فالمتفق على وجوبه كالإخلاص والتوكل والمحبة والصبر والإنابة والخوف والرجاء والتصديق الجازم والنية في العبادة وهذه قدر زائد على الإخلاص فإن الإخلاص هو إفراد المعبود عن غيره ونية العبادة لها مرتبتان إحداهما تمييز العبادة عن العادة والثانية تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض والأقسام الثلاثة واجبة وكذلك الصدق والفرق بينه وبين الإخلاص أن للعبد مطلوبا وطلبا فالإخلاص توحيد مطلوبه والصدق توحيد طلبه فالإخلاص أن لا يكون المطلوب منقسما والصدق أن لا يكون الطلب منقسما فالصدق بذل الجهل والإخلاص إفراد المطلوب واتفقت الأمة على وجوب هذه الأعمال على القلب من حيث الجملة وكذلك النصح في العبودية ومدار الدين عليه وهو بذل الجهد في إيقاع العبودية على الوجه المحبوب للرب المرضي له وأصل هذا واجب وكماله مرتبة المقربين وكذلك كل واحد من هذه الواجبات القلبية له طرفان واجب مستحق وهو مرتبة أصحاب اليمين وكمال مستحب وهو مرتبة المقربين وكذلك الصبر واجب بإتفاق الأمة قال الإمام أحمد ذكر الله الصبر في تسعين موضعا من القرآن أو بضعا وتسعين وله طرفان أيضا واجب مستحق وكمال مستحب وأما المختلف فيه فكالرضا فإن في وجوبه قولين للفقهاء والصوفية ________________________________________ والقولان لأصحاب أحمد فمن أوجبه قال السخط حرام ولا خلاص عنه إلا بالرضا ومالا خلاص عن الحرام إلا به فهو واجب واحتجوا بأثر من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ ربا سواي ومن قال هو مستحب قال لم يجىء الأمر به في القرآن ولا في السنة بخلاف الصبر فإن الله أمر به في مواضع كثيرة من كتابه وكذلك التوكل قال إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين وأمر بالإنابة فقال وأنيبوا إلى ربكم وأمر بالإخلاص كقوله وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين وكذلك الخوف كقوله فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين وقوله فلا تخشوهم واخشون وقوله وإياي فارهبون وكذلك الصدق قال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين وكذلك المحبة وهي أفرض الواجبات إذ هي قلب العبادة المأمور بها ومخها وروحها وأما الرضا فإنما جاء في القرآن مدح أهله والثناء عليهم لا الأمر به قالوا وأما الأثر المذكور فإسرائيلي لا يحتج به قالوا وفي الحديث المعروف عن النبي إن استطعت أن تعمل الرضا مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره النفس خيرا كثيرا وهو في بعض السنن قالوا وأما قولكم لا خلاص عن السخط إلا به فليس بلازم فإن مراتب الناس في المقدور ثلاثة الرضا وهو أعلاها والسخط وهو أسفلها والصبر عليه بدون الرضا به وهو أوسطها فالأولى للمقربين السابقين والثالثة للمقتصدين والثانية للظالمين وكثير من الناس يصبر على المقدور فلا يسخط وهو غير راض به فالرضا أمر آخر ________________________________________ وقد أشكل على بعض الناس اجتماع الرضا مع التألم وظن أنهما متباينان وليس كما ظنه فالمريض الشارب للدواء الكريه متألم به راض به والصائم في شهر رمضان في شدةالحر متألم بصومه راض به والبخيل متألم بإخراج زكاة ماله راض بها فالتألم كما لا ينافي الصبر لا ينافي الرضا به وهذا الخلاف بينهم إنما هو في الرضا بقضائه الكوني وأما الرضا به ربا وإلها والرضا بأمره الديني فمتفق على فرضيته بل لا يصير العبد مسلما إلا بهذا الرضا أن يرضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا ومن هذا أيضا اختلافهم في الخشوع في الصلاة وفيه قولان للفقهاء وهما في مذهب أحمد وغيره وعلى القولين اختلافهم في وجوب الإعادة على من غلب عليه الوسواس في صلاته فأوجبها ابن حامد من أصحاب أحمد وأبو حامد الغزالي في إحيائه ولم يوجبها أكثر الفقهاء واحتجوا بأن النبي أمر من سها في صلاته بسجدتي السهو ولم يأمره بالإعادة مع قوله إن الشيطان يأتي أحدكم في صلاته فيقول اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يضل الرجل أن يدري كم صلى / ح / ولكن لا نزاع أن هذه الصلاة لا يثاب على شيء منها إلا بقدر حضور قلبه وخضوعه كما قال النبي إن العبد لينصرف من الصلاة ولم يكتب له إلا نصفها ثلثها ربعها حتى بلغ عشرها / ح / وقال ابن عباس رضي الله عنهما ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها / ح / فليست صحيحة باعتبار ترتب كمال مقصودها عليها وإن سميت صحيحه باعتبار أنا لا نأمره بالإعادة ولا ينبغي أن يعلق لفظ الصحة عليها فيقال صلاة صحيحة مع أنه لا يثاب عليها فاعلها والقصد أن هذه الأعمال واجبها ومستحبها هي عبودية القلب فمن عطلها فقد عطل عبودية الملك وإن قام بعبودية رعيته من الجوارح والمقصود أن يكون ملك الأعضاء وهو القلب قائما بعبوديته لله سبحانه هو ورعيته وأما المحرمات التي عليه فالكبر والرياء والعجب والحسد والغفلة والنفاق وهي نوعان كفر ومعصية فالكفر كالشك والنفاق والشرك وتوابعها ________________________________________ والمعصية نوعان كبائر وصغائر فالكبائر كالرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله والأمن من مكر الله والفرح والسرور بأذى المسلمين والشماتة بمصيبتهم ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله وتمنى زوال ذلك عنهم وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريما من الزنا وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها والتوبة منها وإلا فهو قلب فاسد وإذا فسد القلب فسد البدن وهذه الآفات إنما تنشأ من الجهل بعبودية القلب وترك القيام بها فوظيفة إياك نعبد على القلب قبل الجوارح فإذا جهلها وترك القيام بها امتلأ بأضدادها ولا بد وبحسب قيامه بها يتخلص من أضدادها وهذه الأمور ونحوها قد تكون صغائر في حقه وقد تكون كبائر بحسب قوتها وغلظها وخفتها ودقتها ومن الصغائر أيضا شهوة المحرمات وتمنيها وتفاوت درجات الشهوة في الكبر والصغر بحسب تفاوت درجات المشتهي فشهوة الكفر والشرك كفر وشهوة البدعة فسق وشهوة الكبائر معصية فإن تركها لله مع قدرته عليها أثيب وإن تركها عجزا بعد بذله مقدوره في تحصيلها استحق عقوبة الفاعل لتنزيله منزلته في أحكام الثواب والعقاب وإن لم ينزل منزلته في أحكام الشرع ولهذا قال النبي إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا هذا القاتل يا رسول الله فما بال المقتول قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه فنزله منزلة القاتل لحرصه على قتل صاحبه في الإثم دون الحكم وله نظائر كثيرة في الثواب والعقاب وقد علم بهذا مستحب القلب ومباحه فصل وأما عبوديات اللسان الخمس فواجبها النطق بالشهادتين وتلاوة ما يلزمه تلاوته من القرآن وهو ما تتوقف صحة صلاته عليه وتلفظه بالأذكار الواجبة في الصلاة التي أمر الله بها ورسوله كما أمر بالتسبيح في الركوع والسجود وأمر بقول ربنا ولك الحمد بعد الأعتدال وأمر بالتشهد وأمر بالتكبير ________________________________________ ومن واجبه رد السلام وفي ابتدائه قولان ومن واجبه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الجاهل وإرشاد الضال وأداء الشهادة المتعينة وصدق الحديث وأما مستحبه فتلاوة القرآن ودوام ذكر الله والمذاكرة في العلم النافع وتوابع ذلك وأما محرمه فهو النطق بكل ما يبغضه الله ورسوله كالنطق بالبدع المخالفة لما بعث الله به رسوله والدعاء إليها وتحسينها وتقويتها وكالقذف وسب المسلم وأذاه بكل قول والكذب وشهادة الزور والقول على الله بلا علم وهو أشدها تحريما ومكروهة التكلم بما تركه خير من الكلام به مع عدم العقوبة عليه وقد اختلف السلف هل في حقه كلام مباح متساوي الطرفين على قولين ذكرهما ابن المنذر وغيره أحدهما أنه لا يخلو كل ما يتكلم به إما أن يكون له أو عليه وليس في حقه شيء لا له ولا عليه واحتجوا بالحديث المشهور وهو كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ما كان من ذكر الله وما والاه واحتجوا بأنه يكتب كلامه كله ولا يكتب إلا الخير والشر وقالت طائفة بل هذا الكلام مباح لا له ولا عليه كما في حركات الجوارح قالوا لأن كثيرا من الكلام لا يتعلق به أمر ولا نهي وهذا شأن المباح والتحقيق أن حركة اللسان بالكلام لا تكون متساوية الطرفين بل إما راجحة وإما مرجوحة لأن للسان شأنا ليس لسائر الجوارح وإذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان تقول اتق الله فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا وأكثر ما يكب الناس على مناخرهم في النار حصائد ألسنتهم وكل ما يتلفظ به اللسان فإما أن يكون مما يرضى الله ورسوله أولا فإن كان كذلك فهو الراجح وإن لم يكن كذلك فهو المرجوح وهذا بخلاف سائر الجوارح فإن صاحبها ينتفع بتحريكها في المباح المستوى الطرفين لما له في ذلك من الراحة والمنفعة فأبيح له استعمالها فيما فيه منفعة له ولا مضرة عليه فيه في الآخرة وأما حركة اللسان بما لا ينتفع به فلا يكون إلا مضرة فتأمله ________________________________________ فإن قيل فقد يتحرك بما فيه منفعة دنيوية مباحة مستوية الطرفين فيكون حكم حركته حكم ذلك الفعل قيل حركته بها عند الحاجة إليها راجحة وعند عدم الحاجة إليها مرجوحة لا تفيده فتكون عليه لا له فإن قيل فإذا كان الفعل متساوي الطرفين كانت حركة اللسان التي هي الوسيلة إليه كذلك إذ الوسائل تابعة للمقصود في الحكم قيل لا يلزم ذلك فقد يكون الشيء مباحا بل واجبا ووسيلته مكروهة كالوفاء بالطاعة المنذورة هو واجب مع أن وسيلته وهو النذر مكروه منهى عنه وكذلك الحلف المكروه مرجوح مع وجوب الوفاء به أو الكفارة وكذلك سؤال الخلق عند الحاجة مكروه ويباح له الإنتفاع بما أخرجته له المسألة وهذا كثير جدا فقد تكون الوسيلة متضمنة مفسدة تكره أو تحرم لأجلها وما جعلت وسيلة إليه ليس بحرام ولا مكروه فصل وأما العبوديات الخمس على الجوارح فعلى خمس وعشرين مرتبة أيضا إذ الحواس خمسة وعلى كل حاسة خمس عبوديات فعلى السمع وجوب الإنصات والإستماع لما أوجبه الله ورسوله عليه من استماع الإسلام والإيمان وفروضهما وكذلك استماع القراءة في الصلاة إذا جهر بها الإمام واستماع الخطبة للجمعة في أصح قولي العلماء ويحرم عليه استماع الكفر والبدع إلا حيث يكون في استماعه مصلحة راجحة من رده أو الشهادة على قائله أو زيادة قوة الإيمان والسنة بمعرفة ضدهما من الكفر والبدعة ونحو ذلك وكإستماع أسرار من يهرب عنك بسره ولا يحب أن يطلعك عليه ما لم يكن متضمنا لحق لله يجب القيام به أو لأذى مسلم يتعين نصحه وتحذيره منه وكذلك استماع أصوات النساء الأجانب التي تخشى الفتنة بأصواتهن إذا لم تدع إليه حاجة من شهادة أو معاملة أو استفتاء أو محاكمة أو مداواة ونحوها وكذلك استماع المعازف وآلات الطرب واللهو كالعود والطنبور واليراع ونحوها ولا يجب عليه سد أذنه إذا سمع الصوت وهو لا يريد استماعه إلا إذا خاف السكون إليه والإنصات فحينئذ يجب لتجنب سماعها وجوب سد الذرائع ________________________________________ ونظير هذا المحرم لا يجوز له تعمد شم الطيب وإذا حملت الريح رائحته وألقتها في مشامه لم يجب عليه سد أنفه ونظير هذا نظرة الفجاءة لا تحرم على الناظر وتحرم عليه النظرة الثانية إذا تعمدها وأما السمع المستحب فكاستماع المستحب من العلم وقراءة القرآن وذكر الله واستماع كل ما يحبه الله وليس بفرض والمكروه عكسه وهو استماع كل ما يكره ولا يعاقب عليه والمباح ظاهر وأما النظر الواجب فالنظر في المصحف وكتب العلم عند تعين تعلم الواجب منها والنظر إذا تعين لتمييز الحلال من الحرام في الإعيان التي يأكلها أو ينفقها أو يستمتع بها والأمانات التي يؤديها إلى أربابها ليميز بينها ونحو ذلك والنظر الحرام النظر إلى الأجنبيات بشهوة مطلقا وبغيرها إلا لحاجة كنظر الخاطب والمستام والمعامل والشاهد والحاكم والطبيب وذي المحرم والمستحب النظر في كتب العلم والدين التي يزداد بها الرجل إيمانا وعلما والنظر في المصحف ووجوه العلماء الصالحين والوالدين والنظر في آيات الله المشهودة ليستدل بها على توحيده ومعرفته وحكمته والمكروه فضول النظر الذي لا مصلحة فيه فإن له فضولا كما للسان فضولا وكم قاد فضولها إلى فضول عز التلخص منها وأعيى دواؤها وقال بعض السلف كانوا يكرهون فضول النظر كما يكرهون فضول الكلام والمباح النظر الذي لا مضرة فيه في العاجل والآجل ولا منفعة ومن النظر الحرام النظر إلى العورات وهي قسمان عورة وراء الثياب وعورة وراء الأبواب ولو نظر في العورة التي وراء الأبواب فرماه صاحب العورة ففقأ عينه لم يكن عليه شيء وذهبت هدرا بنص رسول في الحديث المتفق على صحته وإن ضعفه بعض الفقهاء لكونه لم يبلغه النص أو تأوله وهذا إذا لم يكن للناظر سبب يباح النظر لأجله كعورة له هناك ينظرها أو ريبة هو مأمور أو مأذون له في الإطلاع عليها ________________________________________ وأما الذوق الواجب فتناول الطعام والشراب عند الإضطرار إليه وخوف الموت فإن تركه حتى مات مات عاصيا قاتلا لنفسه قال الإمام أحمد وطاووس من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات دخل النار ومن هذا تناول الدواء إذا تيقن النجاة له من الهلاك على أصح القولين وإن ظن الشفاء به فهل هو مستحب مباح أو الأفضل تركه فيه نزاع معروف بين السلف والخلف والذوق الحرام كذوق الخمر والسموم القاتلة والذوق الممنوع منه للصوم الواجب وأما المكروه فكذوق المشتبهات والأكل فوق الحاجة وذوق الطعام الفجاءة وهو الطعام الذي تفجأ آكله ولم يرد أن يدعوك إليه وكأكل أطعمة المرائين في الولائم والدعوات ونحوها وفي السنن أن رسول الله نهى عن طعام المتبارين وذوق طعام من يطعمك حياء منك لا بطيبة نفس والذوق المستحب أكل ما يعينك على طاعة الله عز وجل مما أذن الله فيه والأكل مع الضيف ليطيب له الأكل فينال منه غرضه والأكل من طعام صاحب الدعوة الواجب إجابتها أو المستحب وقد أوجب بعض الفقهاء الأكل من الوليمة الواجب إجابتها للأمر به عن الشارع والذوق المباح ما لم يكن فيه إثم ولا رجحان وأما تعلق العبوديات الخمس بحاسة الشم فالشم الواجب كل شم تعين طريقا للتمييز بين الحلال والحرام كالشم الذي تعلم به هذه العين هل هي خبيثة أو طيبة وهل هي سم قاتل أو لا مضرة فيه أو يميز به بين ما يملك الإنتفاع به وما لا يملك ومن هذا شم المقوم ورب الخبرة عند الحكم بالتقويم وشم العبيد ونحو ذلك وأما الشم الحرام فالتعمد لشم الطيب في الإحرام وشم الطيب المغصوب والمسروق وتعمد شم الطيب من النساء الأجنبيات خشية الإفتتان بما وراءه وأما الشم المستحب فشم ما يعينك على طاعة الله ويقوي الحواس ويبسط النفس للعلم والعمل ومن هذا هدية الطيب والريحان إذا أهديت لك ففي صحيح مسلم عن النبي من عرض عليه ريحان فلا يرده فإنه طيب الريح خفيف المحمل / ح / ________________________________________ والمكروه كشم طيب الظلمة وأصحاب الشبهات ونحو ذلك والمباح مالا منع فيه من الله ولا تبعة ولا فيه مصلحة دينية ولا تعلق له بالشرع وأما تعلق هذه الخمسة بحاسة اللمس فاللمس الواجب كلمس الزوجة حين يجب جماعها والأمة الواجب إعفافها والحرام لمس ما لا يحل من الأجنبيات والمستحب إذا كان فيه غض بصره وكف نفسه عن الحرام وإعفاف أهله والمكروه لمس الزوجة في الإحرام للذة وكذلك في الإعتكاف وفي الصيام إذا لم يأمن على نفسه ومن هذا لمس بدن الميت لغير غاسله لأن بدنه قد صار بمنزلة عورة الحي تكريما له ولهذا يستحب ستره عن العيون وتغسيله في قميصه في أحد القولين ولمس فخذ الرجل إذا قلنا هي عورة والمباح مالم يكن فيه مفسدة ولا مصلحة دينية وهذه المراتب أيضا مرتبة على البطش باليد والمشي بالرجل وأمثلتها لا تخفى فالتكسب المقدور للنفقة على نفسه وأهله وعياله واجب وفي وجوبه لقضاء دينه خلاف والصحيح وجوبه ليمكنه من أداء دينه ولا يجب لإخراج الزكاة وفي وجوبه لأداء فريضة الحج نظر والأقوى في الدليل وجوبه لدخوله في الإستطاعة وتمكنه بذلك من أداء النسك والمشهور عدم وجوبه ومن البطش الواجب إعانة المضطر ورمي الجمار ومباشرة الوضوء والتيمم والحرام كقتل النفس التي حرم الله قتلها ونهب المال المعصوم وضرب من لا يحل ضربه ونحو ذلك وكأنواع اللعب المحرم بالنص كالنرد أو ما هو أشد تحريما منه عند أهل المدينة كالشطرنج أو مثله عند فقهاء الحديث كأحمد وغيره أو دونه عند بعضهم ونحو كتابة البدع المخالفة للسنة تصنيفا أو نسخا إلا مقرونا بردها ونقضها وكتابة الزور والظلم والحكم الجائر والقذف والتشبيب بالنساء الأجانب وكتابة ما فيه مضرة على المسلمين في دينهم أو دنياهم ولا سيما أن كسبت عليه مالا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون وكذلك كتابة المفتى على الفتوى ما يخالف حكم الله ورسوله إلا أن يكون مجتهدا مخطئا فالإثم موضوع عنه ________________________________________ وأما المكروه فكالعبث واللعب الذي ليس بحرام وكتابة مالا فائدة في كتابته ولا منفعة فيه في الدنيا والآخرة والمستحب كتابة كل ما فيه منفعة في الدين أو مصلحة لمسلم والإحسان بيده بأن يعين صانعا أو يصنع لأخرق أو يفرغ من دلوه في دلو المستسقى أو يحمل له على دابته أو يمسكها حتى يحمل عليها أو يعاونه بيده فيما يحتاج له ونحو ذلك ومنه لمس الركن بيده في الطواف وفي تقبيلها بعد اللمس قولان والمباح مالا مضرة فيه ولا ثواب وأما المشي الواجب فالمشي إلى الجمعات والجماعات في أصح القولين لبضعة وعشرين دليلا مذكورة في غير هذا الموضع والمشي حول البيت للطواف الواجب والمشي بين الصفا والمروة بنفسه أو بمركوبه والمشي إلى حكم الله ورسوله إذا دعي إليه والمشي إلى صلة رحمه وبر والديه والمشي إلى مجالس العلم الواجب طلبه وتعلمه والمشي إلى الحج إذا قربت المسافة ولم يكن عليه فيه ضرر والحرام المشي إلىمعصية الله وهو من رجل الشيطان قال تعالى وأجلب عليهم بخيلك ورجلك قال مقاتل استعن عليهم بركبان جندك ومشاتهم فكل راكب وماش في معصية الله فهو من جند إبليس وكذلك تتعلق هذه الأحكام الخمس بالركوب أيضا فواجبه في الركوب في الغزو والجهاد الحج الواجب ومستحبه في الركوب المستحب من ذلك ولطلب العلم وصلة الرحم وبر الوالدين وفي الوقوف بعرفة نزاع هل الركوب فيه أفضل أم على الأرض والتحقيق أن الركوب أفضل إذا تضمن مصلحة من تعليم للمناسك واقتداء به وكان أعون على الدعاء ولم يكن فيه ضرر على الدابة وحرامه الركوب في معصية الله عز وجل ومكروهه الركوب للهو واللعب وكل ما تركه خير من فعله ومباحه الركوب لما لم يتضمن فوت أجر ولا تحصيل وزر فهذه خمسون مرتبة على عشرة أشياء القلب واللسان والسمع والبصر والأنف والفم واليد والرجل والفرج والاستواء على ظهر الداب أهـ { مدارج السالكين حـ 1 صـ 3 ــ صـ 122 } فائدة بديعة تفسير اهدنا الصراط المستقيم ________________________________________ قوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم الفاتحة 6 7 فيها عشرون مسألة أحدها ما فائدة البدل في الدعاء والداعي مخاطب لمن لا يحتاج إلى البيان والبدل القصد به بيان الإسم الأول الثانية ما فائدة تعريف الصراط المستقيم باللام وهلا أخبر عنه بمجرد اللفظ دونها كما قال وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم الشورى 52 الثالثة ما معنى الصراط ومن أي شيء اشتقاقه ولم جاء على وزن فعال ولم ذكر في أكثر المواضع في القرآن الكريم بهذا اللفظ وفي سورة الأحقاف ذكر بلفظ الطريق فقال يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم الأحقاف 30 الرابعة ما الحكمة في إضافته إلى قوله تعالى الذين أنعمت عليهم بهذا اللفظ ولم يذكرهم بخصوصهم فيقول صراط النبيين والصديقين فلم عدل إلى لفظ المبهم دون المفسر الخامسة ما الحكمة في التعبير عنهم بلفظ الذي مع صلتها دون أن يقال المنعم عليهم وهو أخصر كما قال المغضوب عليهم وما الفرق السادسة لم فرق بين المنعم عليهم والمغضوب عليهم فقال في أهل النعمة الذين أنعمت وفي أهل الغضب المغضوب بحذف الفاعل السابعة لم قال اهدنا الصراط المستقيم فعدى الفعل بنفسه ولم يعده بإلى كما قال تعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم وقال تعالى واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم الأنعام 87 الثامنة أن قوله تعالى الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم يقتضي أن نعمته مختصة بالأولين دون المغضوب عليهم ولا الضالين وهذا حجة لمن ذهب إلى أنه لا نعمة له على كافر فهل هذا استدلال صحيح أم لا التاسعة أن يقال لم وصفهم بلفظ غير وهلا قال تعالى لا المغضوب عليهم كما قال والضالين وهذا كما تقول مررت بزيد لا عمرو وبالعاقل لا الأحمق ________________________________________ العاشرة كيف جرت غير صفة على الموصوف وهي لا تتعرف بالإضافة وليس المحل محل عطف بيان إذ بابه الإعلام ولا محل لذلك إذ المقصود في باب البدل هو الثاني والأول توطئة وفي باب الصفات المقصود الأول والثاني بيان وهذا شأن هذا الموضع فإن المقصود ذكر المنعم عليهم ووصفهم بمغايرتهم معنى الغضب والضلال الحادية عشرة إذا ثبت ذلك في البدل فالصراط المستقيم مقصود الإخبار عنه بذلك وليس في نية الطرح فكيف جاء صراط الذين أنعمت عليهم بدلا منه وما فائدة البدل هنا الثانية عشرة أنه قد ثبت في الحديث الذي رواه الترمذي والإمام أحمد وابن أبي حاتم تفسير المغضوب عليهم بأنهم اليهود والنصارى بأنهم الضالون // حسن // فما وجه هذا التقسيم والإختصاص وكل من الطائفتين ضال مغضوب عليه الثالثة عشرة لم قدم المغضوب عليهم في اللفظ على الضالين الرابعة عشرة لم أتى في أهل الغضب بصيغة مفعول المأخوذة من فعل ولم يأت في أهل الضلال بذلك فيقال المضلين بل أتى فيهم بصيغة فاعل المأخوذة من فعل الخامسة عشرة ما فائدة العطف ب لا هنا ولو قيل المغضوب عليهم والضالين لم يختل الكلام وكان أوجز السادسة عشرة إذ قد عطف بها فيأتي العطف بها مع الواو للمنفى نحو ما قام زيد ولا عمرو وكقوله تعالى ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج التوبة 91 إلى قوله تعالى ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم التوبة 92 وأما بدون الواو فبابها الإيجاب نحو مررت بزيد لا عمرو السابعة عشرة هل الهداية هنا هداية التعريف والبيان أو هداية التوفيق والإلهام الثامنة عشرة كل مؤمن مأمور بهذا الدعاء أمرا لازما لا يقوم غيره مقامه ولا بد منه وهذا إنما نسأله في الصلاة بعد هدايته فما وجه السؤال لأمر حاصل وكيف يطلب تحصيل الحاصل ________________________________________ التاسعة عشرة ما فائدة الإتيان بضمير الجمع في اهدنا والداعي يسأل ربه لنفسه في الصلاة وخارجها ولا يليق به ضمير الجمع ولهذا يقول رب اغفر لي وارحمني وتب علي العشرون ما حقيقة الصراط المستقيم الذي يتصوره العد وقت سؤاله فهذه أربع مسائل حقها أن تقدم أولا ولكن جر الكلام إليها بعد ترتيب المسائل الست عشرة الجواب بعون الله وتعليمه أنه لا علم لأحد من عباده إلا ما علمه ولا قوة له إلا بإعانته فائدة البدل في الدعاء لقد وردت الآية في معرض التعليم للعباد والدعاء حق الداعي أن يستشعر عند دعائها ما يجب عليه اعتقاده مما لا يتم الإيمان إلا به إذ الدعاء مخ العبادة والمخ لا يكون إلا في عظم والعظم في لحم ودم فإذا وجب إحضار معتقدات الإيمان عند الدعاء وجب أن يكون الطلب ممزوجا بالثناء فمن ثم جاء لفظ الطلب للهداية والرغبة فيها مشوبا بالخير تصريحا من الداعي بمعتقده وتوسلا منه بذلك الإعتقاد الصحيح إلى ربه فكأنه متوسل إليه بإيمانه واعتقاده أن صراط الحق هو الصراط المستقيم وأنه صراط الذين اختصهم بنعمته وحباهم بكرامته فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم والمخالفون للحق يزعمون أنهم على الصراط المستقيم أيضا والداعي يجب عليهم اعتقاد خلافهم وإظهار الحق الذي في نفسه فلذلك أبدل وبين لهم ليمرن اللسان على ما اعتقده الجنان ففي ضمن هذا الدعاء المهم الإخبار بفائدتين جليلتين إحداهما فائدة الخبر والفائدة الثانية فائدة لازم الخبر فأما فائدة الخبر فهي الإخبار عنه بالإستقامة وأنه الصراط المستقيم الذي نصبه لأهل نعمته وكرامته وأما فائدة لازم الخبر فإقرار الداعي بذلك وتصديقه وتوسله بهذا الإقرار إلى ربه فهذه أربع فوائد ________________________________________ الدعاء بالهداية إليه والخبر عنه بذلك والإقرار والتصديق لشأنه والتوسل إلى المدعو إليه بهذا التصديق وفيه فائدة خامسة وهي أن الداعي إنما أمر بذلك لحاجته إليه وأن سعادته وفلاحه لا تتم إلا به فهو مأمور بتدبير ما يطلب وتصور معناه فذكر له من أوصافه ما إذا تصور في خلده وقام بقلبه كان أشد طلبا له وأعظم رغبة فيه وأحرص على دوام الطلب والسؤال له فتأمل هذه النكت البديعة فصل تعريف الصراط باللام وأما المسألة الثانية وهي تعريف الصراط باللام اعلم أن الألف واللام إذا دخلت على اسم موصوف اقتضت أنه أحق بتلك الصفة من غيره ألا ترى أن قولك جالس فقيها أو عالما ليس كقولك جالس الفقيه أو العالم ولا قولك أكلت طيبا كقولك أكلت الطيب ألا ترى إلى قوله أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ثم قال ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق // رواه البخاري ومسلم // فلم يدخل الألف واللام على الأسماء المحدثة وأدخلها على اسم الرب تعالى ووعده وكلامه فإذا عرفت هذا فلو قال اهدنا صراطا مستقيما لكان الداعي إنما يطلب الهداية إلى صراط ما مستقيم على الإطلاق وليس المراد ذلك بل المراد الهداية إلى الصراط المعين الذي نصبه الله تعالى لأهل نعمته وجعله طريقا إلى رضوانه وجنته وهو دينه الذي لا دين له سواه فالمطلوب أمر معين في الخارج والذهن لا شيء مطلق منكر واللام هنا للعهد العلمي الذهني وهو أنه طلب الهداية إلى سر معهود قد قام في القلوب معرفته والتصديق به وتميزه عن سائر طرق الضلال فلم يكن بد من التعريف فإن قيل لم جاء منكرا في قوله لنبيه ويهديك صراطا مستقيما الفتح 2 وقوله تعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم الشورى 52 وقوله تعالى واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم الأنعام 87 وقوله تعالى قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم الأنعام 161 ________________________________________ فالجواب عن هذه المواضع بجواب واحد وهو أنها ليست في مقام الدعاء والطلب وإنما هي في مقام الإخبار من الله تعالى عن هدايته إلى صراط مستقيم وهداية رسوله إليه ولم يكن للمخاطبين عهد به ولم يكن معروفا لهم فلم يجيء معرفا بلام العهد المشيرة إلى معروف في ذهن المخاطب قائم في خلده ولا تقدمه في اللفظ معهود تكون اللام معروفة إليه وإنما تأتي لام العهد في أحد هذين الموضعين أعني أن يكون لها معهود ذهني أو ذكر لفظي وإذ لا واحد منهما في هذه المواضع فالتنكير هو الأصل وهذا بخلاف قوله اهدنا الصراط المستقيم فإنه لما تقرر عند المخاطبين أن لله صراطا مستقيما هدي إليه أنبياءه ورسله وكان المخاطب سبحانه المسئول من هدايته عالما به دخلت اللام عليه فقال اهدنا الصراط المستقيم وقال السهيلي إن قوله تعالى ويهديك صراطا مستقيما نزلت في صلح الحديبية وكان المسلمون قد كرهوا ذلك الصلح ورأوا أن الرأي خلافه وكان الله تعالى عما يقولون ورسوله أعلم فأنزل الله على رسوله هذه الآية فلم يرد صراطا مستقيما في الدين وإنما أراد صراطا في الرأي والحرب والمكيدة وقوله تبارك وتعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم أي تهدي من الكفر والضلال إلى صراط مستقيم ولو قال في هذا الموطن إلى الصراط المستقيم لجعل للكفر وللضلال حظا من الإستقامة إذ الألف واللام تنبيء أن ما دخلت عليه من الأسماء الموصلة أحق بذلك المعنى مما تلاه في الذكر أو ما قرب به في الوهم ولا يكون أحق به إلا أن يكون في الآخر طرف منه وغير خاف ما في هذين الجوابين من الضعف والوهن أما قوله أن المراد بقوله ويهديك صراطا مستقيما في الحرب والمكيدة فهضم لهذا الفضل العظيم والحظ الجزيل الذي امتن الله به على رسوله وأخبر النبي أن هذه الآية أحب إليه من الدنيا وما فيها ومتى سمى الله الحرب والمكيدة صراطا مستقيما ________________________________________ وهل فسر هذه الآية أحد من السلف أو الخلف بذلك بل الصراط المستقيم ما جعله الله عليه من الهدى ودين الحق الذي أمره أن يخبر بأن الله تعالى هداه إليه في قوله قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ثم فسره بقوله تعالى دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين الأنعام 161 ونصب دينا هنا على البدل من الجار والمجرور أي هداني دينا قيما أفتراه يمكنه ههنا أن يقول إن الحرب والمكيدة فهذا جواب فاسد جدا وتأمل ما جمع الله سبحانه لرسوله في آية الفتح من أنواع العطايا وذلك خمسة أشياء أحدها الفتح المبين والثاني مغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر والثالث هدايته الصراط المستقيم والرابع إتمام نعمته عليه والخامس إعطاء النصر العزيز وجمع سبحانه له بين الهدى والنصر لأن هذين الأصلين بهما كمال السعادة والفلاح فإن الهدى هو العلم بالله تعالى ودينه والعمل بمرضاته وطاعته فهو العلم النافع والعمل الصالح والنصر والقدرة التامة على تنفيذ دينه فالحجة والبيان والسيف والسنان فهو النصر بالحجة واليد وقهر القلوب المخالفين له بالحجة وقهر أبدانهم باليد وهو سبحانه كثيرا ما يجمع بين هذين الأصلين إذ بهما تمام الدعوة وظهور دينه على الدين كله كقوله تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله التوبة 33 في موضعين في سورة براءة وفي سورة الصف وقال تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط الحديد 25 فهذا الهدى ثم قال وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد فهذا النصر فذكر الكتاب الهادي والحديد الناصر وقال تعالى ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان آل عمران 1 4 فذكر إنزال الكتاب الهادي والفرقان وهو النصر الذي يفرق بين الحق والباطل ________________________________________ وسر اقتران النصر بالهدى أن كلا منهما يحصل به الفرقان بين الحق والباطل ولهذا سمى تعالى ما ينصر به عباده المؤمنين فرقانا كما قال تعالى إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يون التقى الجمعان الأنفال 41 فذكر الأصلين ما أنزله على رسوله يوم الفرقان وهو يوم بدر وهو اليوم الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل بنصر رسوله ودينه وإذلال أعدائه وخزيهم ومن هذا قوله تعالى ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين الأنبياء 48 فالفرقان نصره له على فرعون وقومه والضياء والذكر التوراة هذا هو معنى الآية ولم يصب من قال إن الواو زائدة وإن ضياء منصوب على الحال كما بينا فساده في الأمالي المكية فبين أن آية الفتح تضمنت الأصلين الهدى والنصر وأنه لا يصح فيها غير ذلك البتة وأما جوابه الثاني عن قوله وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم بأنه لو عرف لجعل للكفر والضلال حظا من الإستقامة فما أدري من أين جاء له هذا الفهم مع ذهنه الثاقب وفهمه البديع رحمه الله تعالى وما هي إلا كبوة جواد ونبوة صارم أفترى قوله تعالى وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم الصافات 117 118 يفهم منه أن لغيره حظا من الإستقامة وما ثم غيره إلا طرق الضلال وإنما الصراط المستقيم واحد وهو ما هدى الله تعالى إليه أنبياءه ورسله أجمعين وهو الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم وكذلك تعريفه في سورة الفاتحة هل يقال أنه يفهم منه أن لغيره حظا من الإستقامة بل يقال تعريفه ينبيء أن لا يكون لغيره حظ من الإستقامة فإن التعريف في قوة الحصر فكأنه قيل الذي لا صراط مستقيم سواه وفهم هذا الإختصاص من اللفظ أقوى من فهم المشاركة فتأمله هنا وفي نظائره فصل بيان اشتقاق الصراط وأما المسألة الثالثة وهي اشتقاق الصراط فالمشهور ________________________________________ أنه من صرطت الشيء أصرطه إذا بلعته بلعا سهلا فسمي الطريق صراطا لأنه يسترط المارة فيه والصراط ما جمع خمسة أوصاف أن يكون طريقا مستقيما سهلا مسلوكا واسعا موصلا إلى المقصود فلا تسمي العرب الطريق المعوج صراطا ولا الصعب المشتق ولا المسدود غير الموصول ومن تأمل موارد الصراط في لسانهم واستعمالهم تبين له ذلك قال جرير أمير المؤمنين على صراط ... إذا أعوج الموارد مستقيم وبنوا الصراط على زنة فعال لأنه مشتمل على سالكه اشتمال الحلق على الشيء المسروط وهذا الوزن كثير في المشتملات على الأشياء كاللحاف والخمار والرداء والغطاء والفراش والكتاب إلى سائر الباب يأتي لثلاثة معان أحدها المصدر كالقتال والضراب والثاني المفعول نحو الكتاب والبناء والغراس والثالث أنه يقصد به قصد الآلة التي يحصل بها الفعل ويقع بها كالخمار والغطاء والسداد لما يخمر به ويغطى ويسد به فهذا آلة محضة والمفعول هو الشيء المخمر والمغطى والمسدود ومن هذا القسم الثالث إله بمعنى مألوه وأما ذكره له بلفظ الطريق في سورة الأحقاف خاصة فهذا حكاية الله تعالى لكلام مؤمني الجن أنهم قالوا لقومهم إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم الأحقاف 30 وتعبيرهم عنه ههنا بالطريق فيه نكتة بديعة وهي أنهم قدموا قبله ذكر موسى وأن الكتاب الذي سمعوه مصدقا لما بين يديه من كتاب موسى وغيره فكان فيه كالنبأ عن رسول الله في قوله لقومه ما كنت بدعا من الرسل أي لم أكن أول رسول بعث إلى أهل الأرض بل قد تقدمت رسل من الله إلى الأمم وإنما بعثت مصدقا لهم بمثل ما بعثوا به من التوحيد والإيمان فقال مؤمنوا الجن إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق ________________________________________ مستقيم أي إلى سبيل مطروق قد مرت عليه الرسل قبله وإنه ليس بدع كما قال في أول السورة نفسها فاقتضت البلاغة والإعجاز لفظ الطريق لأنه فعيل بمعنى مفعول أي مطروق مشت عليه الرسل والأنبياء قبل فحقيق على من صدق رسل الله وآمن بهم أن يؤمن به ويصدقه فذكر الطريق ههنا إذا أولى لأنه أدخل في باب الدعوة والتنبيه على تعين أتباعه والله أعلم ثم رأيت هذا المعنى بعينه قد ذكره السهيلي فوافق فيه الخاطر الخاطر فصل إضافة الصراط إلى الموصول المبهم وأما المسألة الرابعة وهي إضافته إلى الموصول المبهم دون أن يقول صراط النبيين والمرسلين ففيه ثلاث فوائد إحداها إحضار العلم وإشعار الذهن عند سماع هذا فإن استحقاق كونهم من المنعم عليهم هو بهدايتهم إلى هذا الصراط فبه صاروا من أهل النعمة وهذا كما يعلق الحكم بالصلة دون الإسم الجامد لما فيه من الإنعام باستحقاق ما علق عليها من الحكم بها وهذا كقوله تعالى الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم البقرة 274 والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم الأحقاف 13 وهذا الباب مطرد فالإتيان بالإسم موصولا على هذا المعنى من ذكر الإسم الخاص الفائدة الثانية إشارة إلى أن نفي التقليد عن القلب واستشعار العلم بأن من هدى إلى هذا الصراط فقد أنعم عليه فالسائل مستشعر سؤاله الهداية وطلب الإنعام من الله عليه والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الأول يتضمن الإخبار بأن أهل النعمة هم أهل الهداية إليه والثاني يتضمن الطلب والإرادة وأن تكون منه الفائدة الثالثة أن الآية عامة في جميع طبقات المنعم عليهم ولو أتى باسم خاص لكان لم يكن فيه سؤال الهداية إلى صراط جميع المنعم عليهم فكان في الإتيان بالإسم العام من الفائدة أن المسئول الهدى إلى جميع تفاصيل الطريق التي سلكها كل من أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ________________________________________ وهذا أجل مطلوب وأعظم مسئول ولو عرف الداعي قدر هذا السؤال لجعله هجيرا وقرنه بأنفاسه فإنه لم يدع شيئا من خير الدنيا والآخرة إلا تضمنه ولما كان بهذه المثابة فرضه الله على جميع عباده فرضا متكررا في اليوم والليلة لا يقوم غيره مقامه ومن ثم يعلم تعين الفاتحة في الصلاة وأنها ليس منها عوض يقوم مقامها فصل قال أنعمت عليهم ولم يقل المنعم عليهم وأما المسألة الخامسة وهي أنه قال الذين أنعمت عليهم ولم يقل المنعم عليهم كما قال المغضوب عليهم فجوابها وجواب المسألة السادسة واحد وفيه فوائد عديدة إحداها أن هذا جاء على الطريقة المعهودة في القرآن الكريم وهي أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله سبحانه وتعالى فيذكر فاعلها منسوبة إليه ولا يبني الفعل معها للمفعول فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف وبني الفعل معها للمفعول أدبا في الخطاب وإضافته إلى الله تعالى أشرف قسمي أفعاله فمنه هذه الآية فإنه ذكر النعمة فأضافها إليه ولم يحذف فاعلها ولما ذكر الغضب حذف الفاعل وبنى الفعل للمفعول فقال المغضوب عليهم وقال في الإحسان الذين أنعمت عليهم ونظيره قول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين الشعراء 78 80 فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله تعالى ولما جاء إلى ذكر المرض قال وإذا مرضت ولم يقل أمرضني وقال فهو يشفين ومنه قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا الجن 10 فنسبوا إرادة الرشد إلى الرب وحذفوا فاعل إرادة الشر وبنوا الفعل للمفعول ومنه قول الخضر عليه الصلاة والسلام في السفينة فأردت أن أعيبها فأضاف العيب إلى نفسه وقال في الغلامين فأراد ربك أن يبلغا أشدهما الكهف 82 ________________________________________ ومنه قوله تعالى أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم البقرة 187 فحذف الفاعل وبناه للمفعول وقال وأحل الله البيع وحرم الربا البقرة 275 لأن في ذكر الرفث ما يحسن منه أن لا يقترن بالتصريح بالفاعل ومنه حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير المائدة 3 وقوله قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا الأنعام 151 إلى آخرها ومنه وهو ألطف من هذا وأدق معنى قوله حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم النساء 33 إلى آخرها ثم قال وأحل لكم ما وراء ذلكم النساء 24 وتأمل قوله فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم النساء 16 كيف صرح بفاعل التحريم في هذا الموضع وقال في حق المؤمنين حرمت عليكم الميتة والدم الفائدة الثانية أن الإنعام بالهداية يستوجب شكر المنعم بها وأصل الشكر ذكر المنعم والعمل بطاعته وكان من شكره إبراز الضمير المتضمن لذكره تعالى الذي هو أساس الشكر وكان في قوله أنعمت عليهم من ذكره وإضافته النعمة إليه ما ليس في ذكر المنعم عليهم لو قاله فضمن هذا اللفظ الأصلين وهما الشكر والذكر المذكوران في قوله فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون البقرة 152 الفائدة الثالثة أن النعمة بالهداية إلى الصراط لله وحده وهو المنعم بالهداية دون أن يشرك أحد في نعمته فاقتضى اختصاصه بها أن يضاف إليه بوصف الإفراد فيقال أنعمت عليهم أي أنت وحدك المنعم المحسن المتفضل بهذه النعمة وأما الغضب فإن الله سبحانه غضب على من لم يكن من أهل الهداية إلى هذا الصراط وأمر عباده المؤمنين بمعاداتهم وذلك يستلزم غضبهم عليهم موافقة لغضب ربهم عليهم فموافقته تعالى تقتضي أن يغضب على من غضب عليه ويرضى عمن رضي عنه فيغضب لغضبه ويرضى لرضاه وهذا حقيقة العبودية ________________________________________ واليهود قد غضب الله عليهم فحقيق بالمؤمنين الغضب عليهم فحذف فاعل الغضب وقال المغضوب عليهم لما كان للمؤمنين نصيب من غضب الله عليه بخلاف الإنعام فإن لله وحده فتأمل هذه النكت البديعة الفائدة الرابعة أن المغضوب عليهم في مقام الإعراض عنهم وترك الإلتفات والإشارة إلى نفس الصفة التي لهم والإقتصار عليها وأما أهل النعمة فهم في مقام الإشارة إليهم وتعيينهم والإشادة بذكرهم وإذا ثبت هذا فالألف واللام في المغضوب وإن كانتا بمعنى الذين فليست مثل الذين في التصريح والإشارة إلى تعيين ذات المسمى فإن قولك الذين فعلوا معناه القوم الذين فعلوا وقولك الضاربون والمضروبون ليس فيه ما في قولك الذين ضربوا أو ضربوا فتأمل ذلك فالذين أنعمت عليهم إشارة إلى تعريفهم بأعيانهم وقصد ذواتهم بخلاف المغضوب عليهم فالمقصود التحذير من صفتهم والإعراض عنهم وعدم الإلتفات إليهم والمعول عليه من الأجوبة ما تقدم فصل تعدية الفعل بنفسه وأما المسألة السابعة وهي تعدية الفعل هنا بنفسه دون حرف إلى فجوابها أن فعل الهداية يتعدى بنفسه تارة وبحرف إلى تارة وباللام تارة والثلاثة في القرآن فمن المعدى بنفسه هذه الآية وقوله ويهديك صراطا مستقيما ومن المعدى ب إلى قوله وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم وقوله تعالى قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ومن المعدى باللام قوله في قول أهل الجنة الحمد لله الذي هدانا لهذا الأعراف 43 وقوله تعالى إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم الإسراء 9 ________________________________________ والفروق لهذه المواضع تدق جدا عن أفهام العلماء ولكن نذكر قاعدة تشير إلى الفرق وهي أن الفعل المعدى بالحروف المتعددة لا بد أن لا يكون له مع كل حرف معنى زائد على معنى الحرف الآخر وهذا بحسب اختلاف معاني الحروف فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق نحو رغبت عنه ورغبت فيه وعدلت إليه وعدلت عنه وملت إليه وعنه وسعيت إليه وسعيت به وأن تفاوت معنى الأدوات عسر الفرق نحو قصدت إليه وقصدت له وهديته إلى كذا وهديته لكذا وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال فيشربون الفعل المتعدى به معناه هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه رحمه الله تعالى وطريقة حذاق أصحابه يضمنون الفعل معنى الفعل لا يقيمون الحرف مقام الحرف وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فطنة ولطافة في الذهن وهذا نحو قوله تعالى عينا يشرب بها عباد الله الإنسان 6 فإنهم يضمنون يشرب معنى يروي فيعدونه بالباء التي تطلبها فيكون في ذلك دليل على الفعلين أحدهما بالتصريح به والثاني بالتضمن والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غاية الإختصار وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها ومنه قوله في السحاب شربن بماء البحر حتى روين ثم ترفعن وصعدن وهذا أحسن من أن يقال يشرب منها فإنه لا دلالة فيه على الري وأن يقال يروى بها لأنه لا يدل على الشرب بصريحه بل باللزوم فإذا قال يشرب بها دل على الشرب بصريحه وعلى الري بخلاف الباء فتأمله ومن هذا قوله تعالى ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه الحج 25 وفعل الإرادة لا يتعدى بالباء ولكن ضمن معنى يهم فيه بكذا وهو أبلغ من الإرادة فكان في ذكر الباء إشارة إلى استحقاق العذاب عند الإرادة وإن لم تكن جازمة وهذا باب واسع لو تتبعناه لطال الكلام فيه ________________________________________ ويكفي المثالان المذكوران فإذا عرفت هذا ففعل الهداية متى عدي ب إلى تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة فأتى بحرف الغاية ومتى عدي باللام تضمن التخصيص بالشيء المطلوب فأتى باللام الدالة على الإختصاص والتعيين فإذا قلت هديته لكذا فهم معنى ذكرته له وجعلته له وهيأته ونحو هذا وإذا تعدى بنفسه تضمن المعنى الجامع لذلك كله وهو التعرف والبيان والإلهام فالقائل إذا قال اهدنا الصراط المسقيم هو طالب من الله أن يعرفه إياه ويبينه له ويلهمه إياه ويقدره عليه فيجعل في قلبه علمه وإرادته والقدرة عليه فجرد الفعل من الحرف وأتى به مجردا معدى بنفسه ليتضمن هذه المراتب كلها ولو عدي بحرف تعين معناه وتخصص بحسب معنى الحرف فتأمله فإنه من دقائق اللغة وأسرارها فصل تخصيص أهل السعادة بالهداية وأما المسألة الثامنة وهي أنه خص أهل السعادة بالهداية دون غيرهم فهذه مسألة اختلف الناس فيها وطال الحجاج من الطرفين وهي أنه هل لله على الكافر نعمة أم لا فمن ناف محتج بهذه وبقوله ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا النساء 69 فخص هؤلاء بالإنعام فدل على أن غيرهم غير منعم عليه ولقوله لعباده المؤمنين ولأتم نعمتي عليكم البقرة 150 وبأن الإنعام ينافي الإنتقام والعقوبة فأي نعمة على من خلق للعذاب الأبدي ________________________________________ ومن مثبت محتج بقوله وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إبراهيم 34 وقوله لليهود يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم البقرة 40 وهذا خطاب لهم في حال كفرهم وبقوله في سورة النحل التي عدد فيها نعمه المشتركة على عباده من أولها إلى قوله كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون النحل 81 83 وهذا نص صريح لا يحتمل صرفا واحتجوا بأن البر والفاجر والمؤمن والكافر كلهم يعيش في نعمة الله وكل أحد مقر لله تعالى بأنه إنما يعيش في نعمته وهذا معلوم بالإضطرار عند جميع أصناف بني آدم إلا من كابر وجحد حق الله تعالى وكفر بنعمته وفصل الخطاب في المسألة أن النعمة المطلقة مختصة بأهل الإيمان لا يشركهم فيها سواهم ومطلق النعمة عام للخليقة كلهم برهم وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم فالنعمة المطلقة التامة هي المتصلة بسعادة الأبد وبالنعيم المقيم فهذه غير مشتركة ومطلق النعمة عام مشترك فإذا أراد النافي سلب النعمة المطلقة للكافر أخطأ وإن أراد إثبات مطلق النعمة أصاب وبهذا تتفق الأدلة ويزول النزاع ويتبين أن كل واحد من الفريقين معه خطأ وصواب والله الموفق للصواب وأما قوله تعالى يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم فإنما يذكرهم بنعمته على آبائهم ولهذا يعددها واحدة واحدة بأن أنجاهم من آل فرعون وأن فرق بهم البحر وأن وعد موسى أربعين ليلة فضلوا بعده ثم تاب عليهم وعفا عنهم وبأن ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى إلى غير ذلك من نعمه التي يعددها عليهم ________________________________________ وإنما كانت لأسلافهم وآبائهم فأمرهم أن يذكروها ليدعوهم ذكرهم لها إلى طاعته والإيمان برسله والتحذير من عقوبته بما عاقب به من لم يؤمن برسوله ولم ينقد لدينه وطاعته وكانت نعمته على آبائهم نعمة منه عليهم تستدعي منهم شكرا فكيف تجعلون مكان الشكر عليها كفركم برسولي وتكذيبكم له ومعاداتكم إياه وهذا لا يدل على أن نعمته المطلقة التامة حاصلة لهم في حال كفرهم والله أعلم فصل غير مكان لا وأما المسألة التاسعة وهي أنه قال غير المغضوب ولم يقل لا المغضوب عليهم فيقال لا ريب أن لا يعطف بها بعد الإيجاب كما تقول جاءني زيد لا عمرو وجاءني العالم لا الجاهل وأما غير فهي تابع لما قبلها وهي صفة ليس إلا كما سيأتي وإخراج الكلام هنا مخرج الصفة أحسن من إخراجه مخرج العطف وهذا إنما يعلم إذا عرف فرق ما بين العطف في هذا الموضع والوصف فتقول لو أخرج الكلام مخرج العطف وقيل صراط الذين أنعمت عليهم لا المغضوب عليهم لم يكن في العطف بها أكثر من نفي إضافة الصراط إلى المغضوب عليهم كما هو مقتضى العطف فإنك إذا قلت جاءني العالم لا الجاهل لم يكن في العطف أكثر من نفي المجيء عن الجاهل وإثباته للعالم وأما الإتيان بلفظ غير فهي صفة لما قبلها فأفاد الكلام معها وصفهم بشيئين أحدهما أنهم منعم عليهم والثاني أنهم غير مغضوب عليهم فأفاد ما يفيد العطف مع زيادة الثناء عليهم ومدحهم فإنه يتضمن صفتين ثبوتية وهي كونهم منعما عليهم وصفة سلبية وهي كونهم غير مستحقين لوصف الغضب وأنهم مغايرون لأهله ________________________________________ ولهذا لما أريد بها هذا المعنى جرت صفة على المنعم عليهم ولم تكن صفة منصوبة على الإستثناء لأنه يزول منها معنى الوصفية المقصود وفيها فائدة أخرى وهي أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ادعوا أنهم هم المنعم عليهم دون أهل الإسلام فكأنه قيل لهم المنعم عليهم غيركم لا أنتم وقيل للمسلمين المغضوب عليهم غيركم لا أنتم فالإتيان بلفظة غير في هذا السياق أحسن وأدل على إثبات المغايرة المطلوبة فتأمله وتأمل كيف قال المغضوب عليهم ولا الضالين ولم يقل اليهود والنصارى مع أنهم هم الموصوفون بذلك تجريدا لوصفهم بالغضب والضلال الذي به غايروا المنعم عليهم ولم يكونوا منهم بسبيل لأن الإنعام المطلق ينافي الغضب والضلال فلا يثبت لمغضوب عليه ولا ضال فتبارك من أودع كلامه من الأسرار ما يشهد بأنه تنزيل من حكيم حميد فصل جريان غير صفة على المعرفة وأما المسألة العاشرة وهي جريان غير صفة على المعرفة وهي لا تتعرف بالإضافة ففيه ثلاثة أوجه أحدها أن غير هنا بدل لا صفة وبدل النكرة من المعرفة جائز وهذا فاسد من وجوه ثلاثة أحدها أن باب البدل المقصود فيه الثاني والأول توطئة له ومهاد أمامه وهو المقصود بالذكر فقوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا آل عمران 97 المقصود هو أهل الإستطاعة خاصة وذكر الناس قبلهم توطئة وقولك أعجبني زيد علمه إنما وقع الإعجاب على علمه وذكرت صاحبه توطئة لذكره ________________________________________ وكذا قوله يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه البقرة 217 المقصود إنما هو السؤال عن القتال في الشهر الحرام لا عن نفس الشهر وهذا ظاهر جدا في بدل البعض وبدل الإشتمال ويراعى في بدل الكل من الكل ولهذا سمي بدلا إيذانا بأنه المقصود فقوله لنسفعن بالناصية ناصية كاذبة خاطئة المقصود لنسفعن بالناصبة الكاذبة الخاطئة وذكر المبدل منه توطئة لها وإذا عرف هذا فالمقصود هنا ذكر المنعم عليهم وإضافة الصراط إليهم ومن تمام هذا المقصود وتكميله الإخبار بمغايرتهم للمغضوب عليهم فجاء ذكر غير المغضوب مكملا لهذا المعنى ومتمما ومحققا لأن أصحاب الصراط المسئول هدايته هم أهل النعمة فكونهم غير مغضوب عليهم وصف محقق وفائدته فائدة الوصف المبين للموصوف المكمل له وهذا واضح الوجه الثاني أن البدل يجري مجرى توكيد المبدل وتكريره وتثنيته ولهذا كان في تقدير تكرار العامل وهو المقصود بالذكر كما تقدم فهو الأول بعينه ذاتا ووصفا وإنما ذكر بوصف آخر مقصود بالذكر كقوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ولهذا يحسن الإقتصار عليه دون الأول ولا يكون مخلا بالكلام ألا ترى أنك لو قلت في غير القرآن لله حج البيت على من استطاع إليه السبيل لكان كاملا مستقيما لا خلل فيه ولو قلت في دعائك رب اهدني صراط من أنعمت عليه من عبادك لكان مستقيما وإذا كان كذلك فلو قدر الإقتصار على غير وما في حيزها لاختل الكلام وذهب معظم المقصود منه إذ المقصود إضافة الصراط إلى الذين أنعم الله عليهم لا إضافته إلى غير المغضوب عليهم بل أتى بلفظ غير زيادة في وصفهم والثناء عليهم فتأمله الوجه الثالث أن غير لا يعقل ورودها بدلا وإنما ترد استثناء أو صفة أو حالا ________________________________________ وسر ذلك أنها لم توضع مستقلة بنفسها بل لا تكون إلا تابعة لغيرها ولهذا قلما يقال جاءني غير زيد ومررت بغير عمرو والبدل لا بدل أن يكون مستقلا بنفسه كما تبين أنه المقصود ونكتة الفرق أنك في باب البدل قاصد إلى الثاني متوجه إليه قد جعلت الأول سلما ومرقاة إليه فهو موضع قصدك ومحط إرادتك وفي باب الصفة بخلاف ذلك إنما أنت قاصد الموصوف موضح له بصفته فجعل هذه النكتة معيارا على باب البدل والوصف ثم زن بها غير المغضوب عليهم هل يصح أن يكون بدلا أو وصفا الجواب الثاني أن غير ههنا صح جريانه صفة على المعرفة لأنها موصولة والموصول مبهم غير معين ففيه رائحة من النكرة لإبهامه فإنه غير دال على معين فصلح وصفه ب غير لقربه من النكرة وهذا جواب صاحب الكشاف فإن قلت كيف صح أن يقع غير صفة للمعرفة وهو لا يتعرف وإن أضيف إلى المعارف قلت الذين أنعمت عليهم لا توقيت فيه فهو كقوله ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني ومعنى قوله لا توقيت فيه أي لا تعيين لواحد من واحد كما تعين المعرفة بل هو مطلق في الجنس فجرى مجرى النكرة واستشهاده بالبيت معناه أن الفعل نكرة وهو يسبني وقد أوقعه صفة للئيم المعرفة باللام لكونه غير معين فهو في قوة النكرة فجاز أن ينعت بالنكرة وكأنه قال على لئيم يسبني وهذا استدلال ضعيف فإن قوله يسبني حال منه لا وصف والعامل فيه فعل المرور المعني أمر على اللئيم سابا لي أي أمر عليه في هذه الحال فأتجاوزه ولا أحتفل بسبه ________________________________________ الجواب الثالث وهو الصحيح أن غير ههنا قد تعرفت بالإضافة فأن المانع لها من تعريفها شدة إبهامها أو عمومها في كل مغاير للمذكور فلا يحصل بها تعيين ولهذا تجري صفة على النكرة فتقول رجل غيرك يقول كذا ويفعل كذا فتجري صفة للنكرة مع إضافتها إلى المعرفة ومعلوم أن هذا الإبهام يزول لوقوعها بين متضادين يذكر أحدهما ثم تضيفها إلى الثاني فيتعين بالإضافة ويزول الإبهام الذي يمنع تعريفها بالإضافة كما قال نحن بنو عمرو الهجان الأزهر ... النسب المعروف غير المنكر أفلا تراه أجرى غير المنكر صفة على النسب كما أجرى عليه المعرف لأنهما صفتان معينتان فلا إبهام في غير لأن مقابلها المعروف وهو معرفة وضده المنكر متميز متعين كتعين المعرف أعني تعين الجنس وهكذا قوله صراط الذين أنعمت عليهم فالمنعم عليهم هم غير المغضوب عليهم فإذا كان الأول معرفة كانت غير معرفة لإضافتها إلى محصل متميز غير مبهم فاكتسب منه التعريف وينبغي أن تتفطن ههنا لنكتة لطيفة في غير تكشف لك حقيقة أمرها ف أين تكون معرفة وأين تكون نكرة وهي أن غيرا هي نفس ما تكون تابعة له وضد ما هي مضافة إليه فهي واقعة على متبوعها وقوع الإسم المرادف على مرادفه فإن المعرف هو تفسير غير المنكر والمنعم عليهم هم غير المغضوب عليهم هذا حقيقة اللفظة فإذا كان متبوعها نكرة لم تكن إلا نكرة وإن أضيفت كما إذا قلت رجل غيرك فعل كذا وكذا وإذا كان متبوعها معرفة لم تكن إلا معرفة كما إذا قيل المحسن غير المسيء محبوب معظم عند الناس والبر غير الفاجر مهيب والعادل غير الظالم مجاب الدعوة فهذا لا تكون فيه غير إلا معرفة ومن ادعى فيها التنكير هنا غلط وقال ما لا دليل عليه إذ لا إبهام فيها بحال فتأمله ________________________________________ فإن قلت عدم تعريفها بالإضافة له سبب آخر وهي أنها بمعنى مغاير اسم فاعل من غاير كمثل بمعنى مماثل وشبه بمعنى مشابه وأسماء الفاعلين لا تعرف بالإضافة وكذا ما ناب عنها قلت اسم الفاعل إنما لا يتعرف بالإضافة إذا أضيف إلى معموله لأن الإضافة في تقدير الإنفصال نحو هذا ضارب زيد غدا وليست غير بعاملة فيما بعدها عمل اسم الفاعل في المفعول حتى يقال الإضافة في تقدير الإنفصال بل إضافتها إضافة محضة كإضافة غيرها من النكرات ألا ترى أن قولك غيرك بمنزلة قولك سواك ولا فرق بينهما والله أعلم فصل إخراج صراط مخرج البدل وأما المسألة الحادية عشرة وهي ما فائدة إخراج الكلام في قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم مخرج البدل مع أن الأول في نية الطرح فالجواب أن قولهم الأول في البدل في نية الطرح كلام لا يصح أن يؤخذ على إطلاقه بل البدل نوعان نوع يكون الأول فيه في نية الطرح وهو بدل البعض من الكل وبدل الإشتمال لأن المقصود هو الثاني لا الأول وقد تقدم ونوع لا ينوي فيه طرح الأول وهو بدل الكل من الكل بل يكون الثاني بمنزلة التذكير والتوكيد وتقوية النسبة مع ما تعطيه النسبة الإسنادية إليه من الفائدة المتجددة الزائدة على الأول فيكون فائدة البدل التوكيد والإشعار بحصول وصف المبدل للمبدل منه فإنه لما قال اهدنا الصراط المستقيم فكأن الذهن طلب المعرفة ما إذا كان هذا الصراط مختصا بنا أم سلكه غيرنا ممن هداه الله فقال صراط الذين أنعمت عليهم وهذا كما إذا دللت رجلا على طريق لا يعرفها وأردت توكيد الدلالة وتحريضه على لزومها وأن لا يفارقها فأنت تقول هذه الطريق الموصلة إلى مقصودك ثم تزيد ذلك عنده توكيدا وتقوية فتقول وهي الطريق التي سلكها الناس والمسافرون وأهل النجاة ________________________________________ أفلا ترى كيف أفاد وصفك لها بأنها طريق السالكين الناجين قدرا زائدا على وصفك لها بأنها طريق موصلة وقريبة سهلة مستقيمة فإن النفوس مجبولة على التأسي والمتابعة فإذا ذكر لها من تتأسى به في سلوكها أنست واقتحمتها فتأمله فصل تفسير المغضوب عليهم و الضالين وأما المسألة الثانية عشرة وهي ما وجه تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى مع تلازم وصفي الغضب والضلال فالجواب أن يقال هذا ليس بتخصيص يقتضي نفي كل صفة عن أصحاب الصفة الأخرى فإن كل مغضوب عليه ضال وكل ضال مغضوب عليه لكن ذكر كل طائفة بأشهر وصفيها وأحقها به وألصقه بها وأن ذلك هو الوصف الغالب عليهما وهذا مطابق لوصف الله اليهود بالغضب في القرآن والنصارى بالضلال فهو تفسير للآية بالصفة التي وصفهم بها في ذلك الموضع أما اليهود فقال تعالى في حقهم بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين البقرة 90 وفي تكرار هذا الغضب هنا أقول أحدها أنه غضب متكرر في مقابلة تكرر كفرهم برسول الله والبغي عليه ومحاربته فاستحقوا بكفرهم غضبا وبالبغي والصد عنه غضبا آخر ونظيره قوله تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب فالعذاب الأول بكفرهم والعذاب الذي زادهم إياه بصدهم الناس عن سبيله القول الثاني أن الغضب الأول بتحريفهم وتبديلهم وقتلهم الأنبياء والغضب الثاني بكفرهم بالمسيح القول الثالث أن الغضب الأول بكفرهم بالمسيح والغضب الثاني بكفرهم بمحمد والصحيح في الآية أن التكرار هنا ليس المراد به التثنية التي تشفع الواحد بل المراد غضب بعد غضب بحسب تكرر كفرهم وإفسادهم وقتلهم الأنبياء وكفرهم بالمسيح وبمحمد ومعاداتهم لرسل الله إلى غير ذلك من الأعمال التي كل عمل منها يقتضي غضبا على حدته ________________________________________ وهذا كما في قوله فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين الملك 3 4 أي كرة بعد كرة لا مرتين فقط وقصد التعدد في قوله فباءوا بغضب على غضب أظهر ولا ريب أن تعطيلهم ما عطلوه من شرائع التوراة وتحريفهم وتبديلهم يستدعي غضبا وتكذيبهم الأنبياء يستدعي غضبا آخر وقتلهم إياهم يستدعي غضبا آخر وتكذبيهم المسيح وطلبهم قتله ورميهم أمه بالبهتان العظيم يستدعي غضبا وتكذبيهم النبي يستدعي غضبا ومحاربتهم له وأذاهم لأتباعه يقتضي غضبا وصدهم من أراد الدخول في دينه عنه يقتضي غضبا فهم الأمة الغضبية أعاذنا الله من غضبه فهي الأمة التي باءت بغضب الله المضاعف المتكرر وكانوا أحق بهذا الإسم والوصف من النصارى وقال تعالى في شأنهم قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت المائدة 60 فهذا غضب مشفوع باللعنة والمسخ وهو أشد ما يكون من الغضب وقال تعالى لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون المائدة 78 80 ________________________________________ وأما وصف النصارى بالضلال ففي قوله تعالى قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل المائدة 77 فهذا خطاب للنصارى لأنه في سياق خطابه معهم بقوله لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إلى قوله وضلوا عن سواء السبيل المائدة 72 77 فوصفهم بأنهم قد ضلوا أولا ثم أضلوا كثيرا وهم أتباعهم فهذا قبل مبعث النبي محمد حيث ضلوا في أمر المسيح وأضلوا أتباعهم فلما بعث النبي ازدادوا ضلالا آخر بتكذيبهم له وكفرهم به فتضاعف الضلال في حقهم هذا قول طائفة منهم الزمخشري وغيره وهو ضعيف فإن هذا كله وصف لأسلافهم الذين هم لهم تبع فوصفهم بثلاث صفات إحداها أنهم قد ضلوا من قبلهم والثانية أضلوا أتباعهم والثالثة أنهم ضلوا عن سواء السبيل فهذه صفات لأسلافهم الذين نهي هؤلاء عن اتباع أهوائهم فلا يصح أن يكون وصفا للموجودين في زمن النبي لأنهم هم المنهيون أنفسهم لا المنهي عنهم فتأمله وإنما سر الآية أنها اقتضت تكرار الضلال في النصارى ضلالا بعد ضلال لفرط جهلهم بالحق وهي نظير الآية التي تقدمت في تكرار الغضب في حق اليهود ولهذا كان النصارى أخص بالضلال من اليهود ووجه تكرار هذا الضلال أن الضلال قد أخطأ نفس مقصوده فيكون ضالا فيه فيقصد ما لا ينبغي أن يقصده ويعبد من لا ينبغي أن يعبده وقد يصيب مقصودا حقا لكن يضل في طريق طلبة والسبيل الموصلة إليه فالأول ضلال في الغاية والثاني ضلال في الوسيلة ثم إذا دعا غيره إلى ذلك فقد أضله وأسلاف النصارى اجتمعت لهم الأنواع الثلاثة فضلوا عن مقصودهم حيث لم يصيبوه وزعموا أن إلههم بشر يأكل ويشرب ويبكي وأنه قتل وصلب وصفع فهذا ضلال في نفس المقصود حيث لم يظفروا به وضلوا عن السبيل الموصلة إليه فلا اهتدوا إلى المطلوب ولا إلى الطريق الموصل إليه ودعوا أتباعهم إلى ذلك فضلوا عن ________________________________________ الحق وعن طريقه وأضلوا كثيرا فكانوا أدخل في الضلال من اليهود فوصفوا بأخص الوصفين والذي يحقق ذلك أن اليهود إنما أتوا من فساد الإرادة والحسد وإيثار ما كان لهم على قومهم من السحت والرياسة فخافوا أن يذهب بالإسلام فلم يؤتوا من عدم العلم بالحق فإنهم كانوا يعرفون أن محمدا رسول الله كما يعرفون أبناءهم ولهذا لم يوبخهم الله تعالى ويقرعهم إلا بإراداتهم الفاسدة من الكبر والحسد وإيثار السحت والبغي وقتل الأنبياء ووبخ النصارى بالضلال والجهل الذي هو عدم العلم بالحق فالشقاء والكفر ينشأ من عدم معرفة الحق تارة ومن عدم إرادته والعمل بها أخرى يتركب منها فكفر اليهود نشأ من عدم إرادة الحق والعمل به وإيثار غير عليه بعد معرفته فلم يكن ضلالا محضا وكفر النصارى نشأ من جهلهم بالحق وضلالهم فيه فإذا تبين لهم وآثروا الباطل عليه أشبهوا الأمة الغضبية وبقوا مغضوبا عليهم ضالين ثم لما كان الهدى والفلاح والسعادة لا سبيل إلى نيله إلا بمعرفة الحق وإيثاره على غيره وكان الجهل يمنع العبد من معرفته بالحق والبغي يمنعه من إرادته كان العبد أحوج شيء إلى أن يسأل الله تعالى كل وقت أن يهديه الصراط المستقيم تعريفا وبيانا وإرشادا وإلهاما وتوفيقا وإعانة فيعلمه ويعرفه ثم يجعله مريدا له قاصدا لاتباعه فيخرج بذلك عن طريقة المغضوب عليهم الذين عدلوا عنه على عمد وعلم والضالين الذين عدلوا عنه عن جهل وضلال ________________________________________ كان السلف يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى وهذا كما قالوا فإن من فسد من العلماء فاستعمل أخلاق اليهود من تحريف الكلم عن مواضعه وكتمان ما أنزل الله إذا كان فيه فوات غرضه وحسد من آتاه الله من فضله وطلب قتله وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس ويدعونهم إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم إلى غير ذلك من الأخلاق التي ذم بها اليهود من الكفر واللي والكتمان والتحريف والتحيل على المحارم وتلبيس الحق بالباطل فهذا شبهه باليهود ظاهر وأما من فسد من العباد فعبد الله بمقتضى هواه لا بما بعث به رسوله وغلا في الشيوخ فأنزلهم منزلة الربوبية وجاوز ذلك إلى نوع من الحلول أو الإتحاد فشبهه بالنصارى ظاهر فعلى المسلم أن يبعد من هذين الشبهين غاية البعد ومن تصور الشبهين والوصفين وعلم أحوال الخلق علم ضرورته وفاقته إلى هذا الدعاء الذي ليس للعبد دعاء أنفع منه ولا أوجب منه عليه وأن حاجته إليه أعظم من حاجته إلى الحياة والنفس لأن غاية ما يقدر بفوتهما موته وهذا يحصل له بفوته شقاوة الأبد فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين إنه قريب مجيب فصل تقديم المغضوب عليهم على الضالين وأما المسألة الثالثة عشرة وهو تقديم المغضوب عليهم على الضالين فلوجوه أحدها أنهم متقدمون عليهم بالزمان الثاني أنهم كانوا هم الذين يلون النبي من أهل الكتابين فإنهم كانوا جيرانه في المدينة والنصارى كانت ديارهم نائية عنه ولهذا تجد خطاب اليهود والكلام معهم في القرآن الكريم أكثر من خطاب النصارى كما في سورة البقرة والمائدة وآل عمران وغيرها من السور الثالث أن اليهود أغلظ كفرا من النصارى ولهذا كان الغضب أخص بهم واللعنة والعقوبة فإن كفرهم عن عناد وبغي كما تقدم فالتحذير من سبيلهم والبعد منها أحق وأهم بالتقديم وليس عقوبة من جهل كعقوبة من علم ________________________________________ الرابع وهو أحسنها أنه تقدم ذكر المنعم عليهم والغضب ضد الإنعام والسورة هي السبع المثاني التي يذكر فيها الشيء ومقابله فذكر المغضوب عليهم مع المنعم عليهم فيه من الإزدواج والمقابلة ما ليس في تقديم الضالين فقولك الناس منعم عليه ومغضوب عليه فكن من المنعم عليهم أحسن من قولك منعم عليه وضال فصل اسم المفعول في المغضوب واسم الفاعل في الضال وأما المسألة الرابعة عشرة وهي أنه أتى في أهل الغضب باسم المفعول وفي الضالين باسم الفاعل فجوابهما ظاهر فإن أهل الغضب من غضب الله عليهم وأصابهم غضبه فهم مغضوب عليهم وأما أهل الضلال فإنهم هم الذين ضلوا وآثروا الضلال واكتسبوه ولهذا استحقوا العقوبة عليه ولا يليق أن يقال ولا المضلين مبنيا للمفعول لما في رائحته من إقامة عذرهم وأنهم لم يكتسبوا الضلال من أنفسهم بل فعل فيهم ولا حجة في هذا للقدرية فإنا نقول إنهم هم الذين ضلوا وإن كان الله أضلهم بل فيه رد على الجبرية الذين لا ينسبون إلى العبد فعلا إلا على جهة المجاز لا الحقيقة فتضمنت الآية الرد عليهم كما تضمن قوله اهدنا الصراط المستقيم الرد على القدرية ففي الآية إبطال قول الطائفتين والشهادة لأهل الحق أنهم هم المصيبون وهم المثبتون للقدر توحيدا وخلقا والقدرة لإضافة أفعال العباد إليهم عملا وكسبا وهو متعلق الأمر والعمل كما أن الأول متعلق الخلق والقدرة فاقتضت الآية إثبات الشرع والقدر والمعاد والنبوة فإن النعمة والغضب هو ثوابه وعقابه فالمنعم عليهم رسله وأتباعهم ليس إلا وهدى أتباعهم إنما يكون على أيديهم فاقتضى إثبات النبوة بأقرب طريق وأبينهما وأدلها على عموم الحاجة وشدة الضرورة إليها ________________________________________ وأنه لا سبيل للعبد أن يكون من المنعم عليهم إلا بهداية الله له ولا تنال هذه الهداية إلا على أيدي الرسل وأن هذه الهداية لها ثمرة وهي النعمة التامة المطلقة في دار النعيم ولخلافها ثمرة وهي الغضب المقتضي للشفاء الأبدي فتأمل كيف اشتملت هذه الآية مع وجازتها واختصارها على أهم مطالب الدين وأجلها والله الهادي إلى سواء السبيل وهو أعلم فصل زيادة لا بين المعطوف والمعطوف عليه وأما المسألة الخامسة عشرة وهي ما فائدة زيادة لا بين المعطوف والمعطوف عليه ففي ذلك أربع فوائد أحدها أن ذكرها تأكيد للنفي الذي تضمنه غير فلولا ما فيها من معنى النفي لما عطف عليها ب لا مع الواو فهو في قوة لا المغضوب عليهم ولا الضالين أو غير المغضوب عليهم وغير الضالين الفائدة الثانية أن المراد المغايرة الواقعة بين النوعين وبين كل نوع بمفرده فلو لم يذكر لا وقيل غير المغضوب عليهم والضالين أوهم أن المراد ما غاير المجموع المركب من النوعين لا م ؤا غاير كل نوع بمفرده فإذا قيل ولا الضالين كان صريحا في أن المراد صراط غير هؤلاء وغير هؤلاء وبيان ذلك أنك إذا قلت ما قام زيد وعمرو فإنما نفيت القيام عنهما ولا يلزم من ذلك نفيه عن كل واحد منهما بمفرده الفائدة الثالثة رفع توهم أن الضالين وصف للمغضوب عليهم وأنهما صنف واحد وصفوا بالغضب والضلال ودخل العطف بينهما كما يدخل في عطف الصفات بعضها على بعض نحو قوله تعالى قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون المؤمنون 1 3 إلى آخرها فإن هذه صفات المؤمنين ومثل قوله سبح اسم ربك الأعلى الذين خلق فسوى والذي قدر فهدى الأعلى 1 3 ونظائره فلما دخلت لا علم أنهما صنفان متغايران مقصودان بالذكر وكانت لا أولى بهذا المعنى من غير لوجوه أحدها أنها أقل حروفا الثاني التفادي من تكرار اللفظ الثالث الثقل الحاصل بالنطق ب غير مرتين من غير فصل إلا بكلمة مفردة ولا ريب أنه ثقيل على اللسان ________________________________________ الرابع أن لا إنما يعطف بها بعد النفي فالإتيان بها مؤذن بنفي الغضب عن أصحاب الصراط المستقيم كما نفى عنهم الضلال وغير وإن أفهمت هذا فلا أدخل في النفي منها وقد عرف بهذا جواب المسألة السادسة عشرة وهي أن لا إنما يعطف بها في النفي فصل معنى الهداية فالمسألة السابعة عشرة وهي أن الهداية هنا من أي أنواع الهدايات فاعلم أن أنواع الهداية أربعة أحدها الهداية العامة المشتركة بين الخلق المذكورة في قوله تعالى الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى طه 50 أي أعطى كل شيء صورته التي لا يشتبه فيها بغيره وأعطى كل عضو شكله وهيئته وأعطى كل موجود خلقه المختص به ثم هداه إلى ما خلقه له من الأعمال وهذه هداية الحيوان المتحرك بإرادته إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره وهداية الجمال المسخر لما خلق له فله هداية تليق به كما أن لكل نوع من الحيوان هداية تليق به وإن اختلفت أنواعها وصورها وكذلك كل عضو له هداية تليق به فهدى الرجلين للمشي واليدين للبطش والعمل واللسان للكلام والأذن للإستماع والعين لكشف المرئيات وكل عضو لما خلق له وهدى الزوجين من كل حيوان إلى الإزدواج والتناسل وتربية الولد وهدى الولد إلى التقام الثدي عند وضعه وطلبه مراتب هدايته سبحانه لا يحصيها إلا هو فتبارك الله رب العالمين وهدى النحل أن تتخذ من الجبال بيوتا ومن الشجر ومن الأبنية ثم تسلك سبل ربها مذللة لها لا تستعصي عليها ثم تأوي إلى بيوتها وهداها إلى طاعة يعسوبها واتباعه والإئتمام به أين توجه بها ثم هداها إلى بناء البيوت العجيبة الصنعة المحكمة البناء ومن تأمل بعض هدايته المثبوتة في العالم شهد له بأنه الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم ________________________________________ وانتقل من معرفة هذه الهداية إلى إثبات النبوة بأيسر نظر وأول وهلة وأحسن طريق وأخصرها وأبعدها من كل شبهة فإنه لم يهمل هذه الحيوانات سدى ولم يتركها معطلة بل هداها إلى هذه الهداية التي تعجز عقول العقلاء عنها كيف يليق به أن يترك النوع الإنساني الذي هو خلاصة الوجود الذي كرمه وفضله على كثير من خلقه مهملا وسدى معطلا لا يهديه إلى أقصى كمالاته وأفضل غاياته بل يتركه معطلا لا يأمره ولا ينهاه ولا يثبه ولا يعاقبه وهل هذا إلا مناف لحكمته ونسبته له مما لا يليق بجلاله ولهذا أنكر ذلك على من زعمه ونزه نفسه عنه وبين أنه يستحيل نسبة ذلك إليه وأنه يتعالى عنه فقال تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق المؤمنون 115 116 فنزه نفسه عن هذا الحسبان فدل على أنه مستقر بطلانه في الفطر السليمة والعقول المستقيمة وهذا أحد ما يدل على إثبات المعاد بالعقل وأنه مما تظاهر عليه العقل والشرع وكما هو أصح الطريقين في ذلك ومن فهم هذا فهم سر اقتران قوله تعالى وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون الأنعام 38 بقوله تعالى وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون الأنعام 37 وكيف جاء ذلك في معرض جوابهم عن هذا السؤال والإشارة به إلى إثبات النبوة وأن من لم يهمل أمر كل دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه بل جعلها أمما وهداها إلى غاياتها ومصالحها وكيف لا يهديكم إلى كمالكم ومصالحكم فهذه أحد أنواع الهداية وأعمها ________________________________________ النوع الثاني هداية البيان والدلالة والتعريف لنجدي الخير والشر وطريقي النجاة والهلاك وهذه الهداية لا تستلزم الهدى التام فإنها سبب وشرط لا موجب ولهذا ينبغي الهدى معها كقوله تعالى وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فصلت 17 أي بينا لهم وأرشدناهم ودللناهم فلم يهتدوا ومنها قوله وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم الشورى 52 النوع الثالث هداية التوفيق والإلهام وهي الهداية المستلزمة للإهتداء فلا يتخلف عنها وهي المذكورة في قوله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فاطر 8 وفي قوله إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل النحل 37 وفي قول النبي من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له // رواه مسلم وأحمد والبيهقي // وفي قوله تعالى إنك لا تهدي من أحببت القصص 56 فنفى عنه هذه الهداية وأثبت له هداية الدعوة والبيان في قوله وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم النوع الرابع غاية هذه الهداية وهي الهداية إلى الجنة والنار إذا سيق أهلهما إليهما قال تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم يونس 9 وقال أهل الجنة فيها الحمد لله الذي هدانا لهذا الأعراف 43 وقال تعالى عن أهل النار احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم الصافات 22 23 إذا عرف هذا فالهداية المسئولة في قوله الصراط المستقيم إنما تتناول المرتبة الثانية والثالثة خاصة فهي طلب التعريف والبيان والإرشاد والتوفيق والإلهام طلب التعريف والبيان والتوفيق فإن قيل كيف يطلب التعريف والبيان وهو حاصل له وكذلك الإلهام والتوفيق قلنا لقد أجيب عنها بأن المراد التثبيت ودوام الهداية واعلم أن العبد لا يحصل له الهدى التام المطلوب إلا بعد سبعة أمور هو محتاج إليها حاجة لا غنى له عنها ________________________________________ الأمر الأول معرفته في جميع ما يأتيه ويذره بكونه محبوبا للرب تعالى مرضيا له فيؤثره وكونه مغضوبا له مسخوطا عليه فيجتنبه فإن نقص من هذا العلم والمعرفة شيء نقص من الهداية التامة بحسبه الأمر الثاني أن يكون مريد الجميع ما يحب الله منه أن يفعله عازما عليه ومريدا لترك جميع ما نهى الله عازما على تركه بعد خطوره بالبال مفصلا وعازما على تركه من حيث الجملة مجملا فإن نقص من إرادته لذلك شيء نقص من الهدى التام بحسب ما نقص من الإرادة الأمر الثالث أن يكون قائما به فعلا وتركا فإن نقص من فعله شيء نقص من هداه بحسبه فهذه ثلاثة هي أصول في الهداية ويتبعها ثلاثة هي من تمامها وكمالها أحدها أمور هدي إليها جملة ولم يهتد إلى تفاصيلها فهو محتاج إلى هداية التفصيل فيها الثاني أمرو هدي إليها من وجه دون وجه فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها لتكمل له هدايتها الثالث الأمور التي هدي إليها تفصيلا من جميع وجوهها فهو محتاج إلى الإستمرار إلى الهداية والدوام عليها فهذه أصول تتعلق بما يعزم على فعله وتركه الأمر السابع يتعلق بالماضي وهو أمور وقعت منه على غير جهة الإستقامة فهو محتاج إلى تداركها بالتوبة منها وتبديلها بغيرها وإذا كان كذلك فإنما يقال كيف يسأل الهداية وهي موجودة له ثم يجاب عن ذلك بأن المراد التثبيت والدوام عليها إذا كانت هذه المراتب حاصلة له بالفعل فحينئذ يكون سؤاله الهداية سؤال تثبيت ودوام فأما إذا كان ما يجهله أضعاف ما يعلمه وما لا يريده من رشده أكثر مما يريده ولا سبيل له إلى فعله إلا بأن يخلق الله فاعليه فيه فالمسئول هو أصل الهداية على الدوام تعليما وتوفيقا وخلقا للإرادة فيه وإقدارا له وخلقا للفاعلية وتثبيتا له على ذلك فعلم أنه ليس أعظم ضرورة منه إلى سؤال الهداية أصلها وتفصيلها علما وعملا والتثبيت عليها والدوام إلى الممات ________________________________________ وسر ذلك أن العبد مفتقر إلى الهداية في كل نفس في جميع ما يأتيه ويذره أصلا وتفصيلا وتثبيتا ومفتقر إلى مزيد العلم بالهدى على الدوام فليس له أنفع ولا هو إلى شيء أحوج من سؤال الهداية فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم وأن يثبت قلوبنا على دينه فصل الإتيان بالضمير في قوله اهدنا أما المسألة التاسعة عشرة وهي الإتيان بالضمير في قوله اهدنا الصراط ضمير جمع فقد قال بعض الناس في جوابه إن كل عضو من أعضاء العبد وكل حاسة ظاهرة وباطنة مفتقرة إلى هداية خاصة به فأتى بصيغة الجمع تنزيلا لكل عضو من أعضائه منزلة المسترشد الطالب لهداه وعرضت هذا الجواب على شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه فاستضعفه جدا وهو كما قال فإن الإنسان اسم للجملة لا لكل جزء من أجزائه وعضو من أعضائه والقائل إذا قال اغفر لي وارحمني واجبرني وأصلحني واهدني سائل من الله ما يحصل لجملته ظاهره وباطنه فلا يحتاج أن يستشعر لكل عضو مسألة تخصه يفرد لها لفظه فالصواب أن يقال هذا مطابق لقوله إياك نعبد وإياك نستعين الفاتحة 5 والإتيان بضمير الجمع في الموضعين أحسن وأفخم فإن المقام مقام عبودية وافتقار إلى الرب تعالى وإقرار بالفاقة إلى عبوديته واستعانته وهدايته فأتى به بصيغة ضمير الجمع أي نحن معاشر عبيدك مقرون لك بالعبودية وهذا كما يقول العبد للملك المعظم شأنه نحن عبيدك ومماليكك وتحت طاعتك ولا نخالف أمرك فيكون هذا أحسن وأعظم موقعا عند الملك من أن يقول أنا عبدك ومملوكك ولهذا لو قال أنا وحدي مملوكك استدعى مقته فإذا قال أنا وكل من في البلد مماليكك وعبيدك وجند لك كان أعظم وأفخم لأن ذلك يتضمن أن عبيدك كثير جدا وأنا واحد منهم وكلنا مشتركون في عبوديتك والإستعانة بك وطلب الهداية منك فقد تضمن ذلك من الثناء على الرب بسعة مجده وكثرة عبيده وكثرة سائليه الهداية ما لا يتضمنه لفظ الإفراد فتأمله ________________________________________ وإذا تأملت أدعية القرآن رأيت عامتها على هذا النمط نحو ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ونحو دعاء آخر البقرة وآخر آل عمران وأولها وهو أكثر أدعية القرآن الكريم فصل الصراط المستقيم وأما المسألة العشرون وهي ما هو الصراط المستقيم فنذكر فيه قولا وجيزا فإن الناس قد تنوعت عباراتهم فيه وترجمتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته وحقيقته شيء واحد وهو طريق الله الذي نصه لعباده على ألسن رسله وجعله موصلا لعباده إليه ولا طريق لهم إليه سواه بل الطرق كلها مسدودة إلا هذا وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطاعة فلا يشرك به أحدا في عبوديته ولا يشرك برسوله أحدا في طاعته فيجرد التوحيد ويجرد متابعة الرسول وهذا معنى قول بعض العارفين إن السعادة والفلاح كله مجموع في شيئين صدق محبته وحسن معاملته وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فأي شيء فسر به الصراط فهو داخل في هذين الأصلين ونكتة ذلك وعقده أن تحبه بقلبك كله وترضيه بجهدك كله فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه ولا تكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته الأول يحصل بالتحقيق بشهادة أن لا إله إلا الله والثاني يحصل بالتحقيق بشهادة أن محمدا رسول الله وهذا هو الهادي ودين الحق وهو معرفة الحق والعمل له وهو معرفة ما بعث الله به رسله والقيام به فقل ما شئت من العبارات التي هذا أحسنها وقطب رحاها وهي معنى قول من قال علوم وأعمال ظاهرة وباطنة مستفادة من مشكاة النبوة ومعنى قول من قال متابعة رسول الله ظاهرا وباطنا علما وعملا ومعنى قول من قال الإقرار لله بالوحدانية والإستقامة على أمره ________________________________________ وأما ما عدا هذا من الأقوال كقول من قال الصلوات الخمس وقول من قال حب أبي بكر وعمر وقول من قال هو أركان الإسلام الخمس التي بني عليها فكل هذه الأقوال تمثيل وتنويع لا تفسير مطابق له بل هي جزء من أجزائه وحقيقته الجامعة ما تقدم والله أعلم فائدة بدل البعض وبدل المصدر في بدل البعض من الكل وبدل المصدر من الإسم وهما جميعا يرجعان في المعنى والتحصيل إلى بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة إلا أن البدل في هذين الموضعين لا بد من إضافته إلى ضمير المبدل منه بخلاف بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة أما اتفاقهم في المعنى فإنك إذا قلت رأيت القوم أكثرهم أو نصفهم فإنما تكلمت بالعموم وأنت تريد الخصوص وهو كثير شائع فأردت بعض القوم وجعلت أكثرهم أو نصفهم تبيينا لذلك البعض وأضفته إلى ضمير القوم كما كان الإسم المبدل مضافا إلى القوم فقد آل الكلام إلى أنك أبدلت شيئا من شيء وهما لعين واحدة وكذلك بدل المصدر من الإسم لأن الإسم من حيث كان جوهرا لا يتعلق به المدح والذم والإعجاب والحب والبغض إنما متعلق ذلك ونحوه صفات وأعراض قائمة به فإذا قلت نفعني عبد الله علمه دل أن الذي نفعك منه صفة وفعل من أفعاله ثم بينت ذلك الوصف فقلت علمه أو إرشاده أو رويته فأضفت ذلك إلى ضمير الإسم كما كان الإسم المبدل منه مضافا إليه في المعنى فصار التقدير نفعني صفة زيد أو خصلة من خصاله ثم بينتها بقولك علمه أو إحسانه أو لقاؤه فآل المعنى إلى بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة وإذا تقرر هذا فلا يصح في بدل الإشتمال أن يكون الثاني جوهرا لأنه لا يبدل جوهر من عرض ولا بد من إضافته إلى ضمير الإسم لأنه بيان لما هو مضاف إلى ذلك الإسم في التقدير والعجب من الفارسي يقول في قوله تعالى النار ذات الوقود البروج 5 أنها بدل من الأخدود بدل اشتمال والنار جوهر قائم بنفسه ثم ليست مضافة إلى ضمير الأخدود وليس فيها شرط من شرائط الإشتمال ________________________________________ وذهل أبو علي عن هذا وترك ما هو أصح في المعنى وأليق بصناعة النحو وهو حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فكأنه قيل أصحاب الأخدود أخدود النار ذات الوقود فيكون من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة كما قال الشاعر رضيعي لبان ثدي أم تحالفا ... على رواية الجر في ثدي أم أراد لبان ثدي فحذف المضاف أهـ { بدائع الفوائد ؛ـ 2 صـ 248 ــ صـ 277 } ________________________________________ سورة البقرة قوله تعالى { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة الباب الخامس عشر في الطبع والختم والقفل والغل والسد والغشاوة والحائل بين الكافر وبين الإيمان وان ذلك مجعول للرب تعالى قال تعالى {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة وقال تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون وقال تعالى وقالوا قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم وقال كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين وقال ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون وقال أفلا يتدبرون القآن أم على قلوب أقفالها وقال لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وقد دخل هذه الآيات ونحوها طائفتا القدرية والجبرية فحرفها القدرية بأنواع من التحريف المبطل لمعانيها وما أريد منها وزعمت الجبرية أن الله أكرهها على ذلك وقهرها عليه وأجبرها من غير فعل منها ولا إرادة ولا اختيار ولا كسب البتة بل حال بينها وبين الهدى ابتداء من غير ذنب ولا سبب من العبد يقتضي ذلك بل أمره وحال مع أمره بينه وين الهدى فلم ييسر إليه سبيلا ولا أعطاه عليه قدره ولا مكنه منه بوجه وأراد بعضهم بل أحب له الضلال والكفر والمعاصي ورضيه منه فهدى أهل السنة والحديث واتباع الرسول لما اختلف فيه هاتان الطائفتان من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ________________________________________ قالت القدرية لا يجوز حمل هذه الآيات على أنه منعهم من الإيمان وحال بينهم وبينه إذ يكون لهم الحجة على الله ويقولون كيف يأمرنا بأمر ثم يحول بيننا وبينه ويعاقبنا عليه وقد منعنا من فعله وكيف يكلفنا بأمر لا قدرة لنا عليه وهل هذا إلا بمثابة من أمر عبده بالدخول من باب ثم سد عليه الباب سدا محكما لا يمكنه الدخول معه البتة ثم عاقبه أشد العقوبة على عدم الدخول وبمنزلة من أمره بالمشي إلى مكان ثم قيده بقيد لا يمكنه معه نقل قدمه ثم أخذ يعاقبه على ترك المشي وإذا كان هذا قبيحا في حق المخلوق الفقير المحتاج فكيف ينسب إلى الرب تعالى مع كمال غناه وعلمه وإحسانه ورحمته قالوا وقد كذب الله سبحانه الذين قالوا قلوبنا غلف وفي أكنة وأنها قد طبع عليها وذمهم على هذا القول فكيف ينسب إليه تعالى ولكن القوم لما أعرضوا وتركوا الاهتداء بهداه الذي بعث به رسله حتى صار ذلك الإعراض والنفار كالاف والطبيعة والسجية أشبه حالهم حال من منع عن الشيء وصد عنه وصار هذا وقرا في آذانهم وختما على قلوبهم وغشاوة على أعينهم فلا يخلص إليها الهدى وإنما أضاف الله تعالى ذلك إليه لأن هذه الصفة قد صارت في تمكنها وقوة ثباتها كالخلقة التي خلق عليها العبد قالوا ولهذا قال تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا ________________________________________ يكسبون وقال بل طبع الله عليها بكفرهم وقال فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وقال فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ولعمر الله أن الذي قاله هؤلاء حقه أكثر من باطله وصحيحه أكثر من سقيمه ولكن لم يوفوه حقه وعظموا الله من جهة وأخلوا بتعظيمه من جهة فعظموه بتنزيهه عن الظلم وخلاف الحكمة وأخلوا بتعظيمه من جهة التوحيد وكمال القدرة ونفوذ المشيئة والقرآن يدل على صحة ما قالوه في الران والطبع والختم من وجه وبطلانه من وجه وأما صحته فإنه سبحانه جعل ذلك عقوبة لهم وجزاء على كفرهم وأعراضهم عن الحق بعد أن عرفوه كما قال تعالى فلما أزاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين وقال كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وقال ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون وقال ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم وقد اعترف بعض القدرية بأن ذلك خلق الله سبحانه ولكنه عقوبة على كفرهم وإعراضهم السابق فإنه سبحانه يعاقب على الضلال المقدور بإضلال بعده ويثيب على الهدى بهدى بعده كما يعاقب على السيئة بسيئة مثلها ويثيب على الحسنة بحسنة مثلها وقال تعالى والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم وقال يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا آن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر ومن الفرقان الهدى الذي يفرق به بين الحق والباطل وقال في ضد ذلك فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا وقال في قلوبهم مرض فزادهم اله مرضا وقال ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء حق والقرآن دل عليه وهو موجب العدل والله سبحانه ماض في العبد حكمه عدل في عبده قضاؤه فإنه إذا دعى عبده إلى معرفته ومحبته وذكره وشكره فأبى العبد إلا إعراضا وكفرا قضى عليه بأن أغفل قلبه عن ذكره وصده عن الإيمان به وحال بين قلبه ________________________________________ وبين قبول الهدى وذلك عدل منه فيه وتكون عقوبته بالختم والطبع والصد عن الإيمان كعقوبته له بذلك في الآخرة مع دخول النار كما قال كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم أنهم لصالو الجحيم فحجابه عنهم إضلال لهم وصد عن رؤيتهم وكمال معرفته كما عاقب قلوبهم في هذه الدار بصدها عن الإيمان وكذلك عقوبته لهم بصدهم عن السجود له يوم القيامة مع الساجدين هو جزاء امتناعهم من السجود له في الدنيا وكذلك عماهم عن الهدى في الآخرة عقوبة لهم على عماهم في الدنيا ولكن أسباب هذه الجرايم في الدنيا كانت مقدورة لهم واقعة باختيارهم وإرادتهم وفعلهم فإذا وقعت عقوبات لم تكن مقدورة بل قضاء جار عليهم ماض عدل فيهم وقال تعالى ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ومن ههنا ينفتح للعبد باب واسع عظيم النفع جدا في قضاء الله المعصية والكفر والفسوق على العبد وإن ذلك محض عدل فيه وليس المراد بالعدل ما يقوله الجبرية أنه الممكن فكل ما يمكن فعله بالعبد فهو عندهم عدل والظلم هو الممتنع لذاته فهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب الكلام في الأسباب والحكم ولاالمراد به ما تقوله القدرية النفاة أنه إنكار عموم قدرة الله ومشيئته على أفعال عباده وهدايتهم وإضلالهم وعموم مشيته لذلك وأن الأمر إليهم لا إليه وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم ماض في حكمك عدل في قضائك كيف ذكر العبد في القضاء مع الحكم النافذ وفي ذلك رد لقول الطائفتين القدرة والجبرية فإن العدل الذي أثبتته القدرية مناف للتوحيد معطل ________________________________________ لكمال قدرة الرب وعموم مشيئته والعدل الذي أثبته الجبرية مناف للحكمة والرحمة ولحقيقة العدل والعدل الذي هو اسمه وصفته ونعته سبحانه خارج عن هذا وهذا ولم يعرفه إلا الرسل واتباعهم ولهذا قال هود عليه الصلاة والسلام لقومه إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فأخبر عن عموم قدرته ونفوذ مشيئته وتصرفه في خلقه كيف شاء ثم أخبر أنه في هذا التصرف والحكم على صراط مستقيم وقال أبو إسحاق أي هو سبحانه وأن كانت قدرته تنالهم بما شاء فإنه لا يشاء إلا العدل وقال ابن الأنباري لما قال هو آخذ بناصيتها كان في معنى لا يخرج من قبضته وأنه قاهر بعظيم سلطانه لكل دابة فاتبع قوله أن ربي على صراط مستقيم قال وهذا نحو كلام العرب إذا وصفوا بحسن السيرة والعدل والإنصاف قالوا فلان على طريقة حسنة وليس ثم طريق ثم ذكر وجها آخر فقال لما ذكر أن سلطانه قد قهر كل دابة أتبع هذا قوله أن ربي على صراط مستقيم أي لا تخفى عليه مشيئته ولا يعدل عنه هارب فذكر الصراط المستقيم وهو يعني به الطريق الذي لا يكون لأحد مسلك إلا عليه كما قال إن ربك بالمرصاد ________________________________________ قلت فعلى هذا القول الأول يكون المراد أنه في تصرفه في ملكه يتصرف بالعدل ومجازات المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ولا يظلم مثقال ذرة ولا يعاقب أحدا بما لم يجنه ولا يهضمه ثواب ما عمله ولا يحمل عليه ذنب غيره ولا يأخذ أحدا بجريرة أحد ولا يكلف نفسا ما لا تطيقه فيكون من باب له الملك وله الحمد ومن باب ماض في حكمك عدل في قضاؤك ومن باب الحمد لله رب العالمين آي كما أنه رب العالمين المتصرف فيهم بقدرته ومشيئته فهو المحمود على هذا التصرف وله الحمد على جميعه وعلى القول الثاني المراد به التهديد والوعيد وأن مصير العباد إليه طريقهم عليه ولا يفوته منهم أحد كما قال تعالى قال هذا صراط على مستقيم قال الفراء يقول مرجعهم إلي فأجازيهم كقوله أن ربك لنا بالمرصاد قال وهذا كما تقول في الكلام طريقك علي وأنا على طريقك لمن أوعدته وكذلك قال الكلبي والكسائي ومثل قوله وعلى الله قصد السبيل على إحدى القولين في الآية وقال مجاهد الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه ومنها أي ومن السبيل ما هو جائر عن الحق ولو شاء لهداكم أجمعين فأخبر عن عموم مشيئته وأن طريق الحق عليه موصلة إليه فمن سلكها فإليه يصل ومن عدل عنها فإنه يضل عنه والمقصود أن هذه الآيات تتضمن عدل الرب تعالى وتوحيده والله يتصرف في خلقه بمكله وحمده وعدله وإحسانه فهو على صراط مستقيم في قوله وفعله وشرعه وقدره وثوابه وعقابه يقول الحق ويفعل العدل والله يقول الحق وهو يهدي السبيل فهذا العدل والتوحيد الذين دل عليهما القرآن لا يتناقضان وأما توحيد أهل القدر والجبر وعدلهم فكل منهما يبطل الآخر ويناقضه ________________________________________ فصل ومن سلك من القدرية هذه الطريق فقد توسط بين الطائفتين لكنه يلزمه الرجوع إلى مثبت القدر قطعا وألا تناقض أبين تناقض فإنه إذا زعم أن الضلال والطبع والختم والقفل والوقر وما يحول بين العبد وببين الإيمان مخلوق لله وهو واقع بقدرته ومشيئته فقد أعطى أن أفعال العباد مخلوقة وأنها واقعة بمشيئته فلا فرق بين الفعل الابتدائي والفعل الجزائي إن كان هذا مقدور الله واقعا بمشيئته والآخر كذلك وإن لم يكن ذاك مقدورا ولا يصح دخوله تحت المشيئة فهذا كذلك والتفريق بين النوعين تناقض محض وقد حكى هذا التفريق عن بعض القدرية أبو القاسم الأنصاري في شرحه الإرشاد فقال ولقد اعترف بعض القدرية بأن الختم والطبع توابع غير أنها عقوبات من الله لأصحاب الجرائم قال وممن صار إلى هذا المذهب عبد الواحد بن زيد البصري وبكر ابن أخته قال وسبيل المعاقبين بذلك سبيل المعاقبين بالنار وهؤلاء قد بقي عليهم درجة واحدة وقد تحيزوا إلى أهل السنة والحديث فصل وقالت طائفة منهم الكافر هو الذي طبع على قلب نفسه في الحقيقة وختم على قلبه والشيطان ايضا فعل ذلك ولكن لما كان الله سبحانه هو الذي أقدر العبد والشيطان على ذلك نسب الفعل إليه لإقراره للفاعل على ذلك لأنه هو الذي فعله ________________________________________ قال أهل السنة والعدل هذا الكلام فيه حق وباطل فلا يقبل مطلقا ولا يرد مطلقا فقولكم أن الله سبحانه أقدر الكافر والشيطان على الطبع والختم كلام باطل فإنه لم يقدره إلا على التزيين والوسوسة والدعوة إلى الكفر ولم يقدره على خلق ذلك في قلب العبد البتة وهو أقل من ذلك وأعجز وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم بعثت داعيا ومبلغا وليس إلي من الهداية شيء وخلق إبليس مزينا وليس إليه من الضلالة شيء فمقدور الشيطان أن يدعو العبد إلى فعل الأسباب التي إذا فعلها ختم الله على قلبه وسمعه وطبع عليه كما يدعوه إلى الأسباب التي إذا فعلها عاقبه الله بالنار فعقابه بالنار كعقابه بالختم والطبع وأسباب العقاب فعله وتزيينها وتحسينها فعل الشيطان والجميع مخلوق لله وأما ما في هذا الكلام من الحق فهو أن الله سبحانه أقدر العبد على الفعل الذي أوجب الطبع والختم على قلبه فلولا أقدار الله له على ذلك لم يفعله وهذا حق لكن القدرية لم توف هذا الموضوع حقه وقالت أقدره قدرة تصلح للضدين فكان فعل أحدهما باختياره ومشيئته التي لا تدخل تحت مقدور الرب وإن دخلت قدرته الصالحة لهما تحت مقدروه سبحانه فمشيئته واختياره وفعله غير واقع تحت مقدور الرب وهذا من أبطل الباطل فإن كل ما سواه تعالى مخلوق وله داخل تحت قدرته واقع بمشيئته ولو لم يشأ لم يكن قلت القدرية لما أعرضوا عن التدبر ولم يصغوا إلى التذكر وكان ذلك مقارنا لا يراد الله سبحانه حجته عليهم أضيفت أفعالهم إلى الله لأن حدوثها إنما اتفق عند إيراد الحجة عليهم ________________________________________ قال أهل السنة هذا من أمحل المحال آن يضيف الرب إلى نفسه أمر ألا يضاف إليه البتة لمقارنته ما هو من فعله من المعلوم أن الضد يقارن الضد فالشر يقارن الخير والحق يقارن الباطل والصدق يقارن الكذب وهل يقال أن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان لمقارنتها ما يحبه من الإيمان والطاعة وأنه يحب إبليس لمقارنة وجوده لوجود الملائكة فإن قيل قد ينسب الشيء الى الشيء لمقارنته له وإن لم يكن له فيه تأثير كقوله تعالى وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهو يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ومعلوم أن السورة لم تحدث لهم زيادة رجس بل قارن زيادة رجسهم نزولها فنسب إليها قيل لم ينحصر الأمر في هذين الأمرين اللذين ذكرتموهما وهما أحداث السورة الرجس والثاني مقارنته لنزولها بل ههنا أمر ثالث وهو أن السورة لما أنزلت اقتضى نزولها الإيمان بها والتصديق والإذعان لأوامرها ونواهيها والعمل بما فيها فوطن المؤمنون أنفسهم على ذلك فازدادوا إيمانا بسببها فنسبت زيادة الإيمان إليها إذ هي السبب في زيادته وكذب بها الكافرون وجحدوها وكذبوا من جاء بها ووطنوا أنفسهم على مخالفة ما تضمنته وإنكاره فازدادوا بذلك رجسا فنسب إليها إذ كان نزولها ووصولها إليهم هو السبب في تلك ________________________________________ الزيادة فأين هذا من نسبة الأفعال القبيحة عندكم التي لا تجوز نسبتها إلى الله عند دعوتهم إلى الإيمان وتدبر آياته على أن أفعالهم القبيحة لا تنسب إلى الله سبحانه وإنما هي منسوبة إليهم والمنسوب إليه سبحانه أفعاله الحسنة الجميلة المتضمنة للغايات المحمودة والحكم المطلوبة والختم والطبع القفل والإضلال أفعال حسنة من الله وضعها في أليق المواضع بها إذ لا يليق بذلك المحل الخبيث غيرها والشرك والكفر والمعاصي والظلم أفعالهم القبيحة التي لا تنسب إلى الله فعلا وإن نسبت إليه خلقا فخلقها غيرها والخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول والقضاء غير المقضي والقدر غير المقدور وستمر بك هذه المسألة مستوفاة إن شاء الله في باب اجتماع الرضاء بالقضاء وسخط الكفر والفسوق والعصيان إن شاء الله قالت القدرية لما بلغوا في الكفر إلى حيث لم يبق طريق إلى الإيمان لهم الا بالقسر والإلجاء ولم تقتض حكمته تعالى أن يقسرهم على الإيمان لئلا تزول حكمة التكليف عبر عن ترك الألجاء والقسر بالختم والطبع إعلاما لهم بأنهم انتهوا في الكفر والإعراض إلى حيث لا ينتهون عنه إلا بالقسر وتلك الغاية في وصف لجاجهم وتماديهم في الكفر ________________________________________ قال أهل السنة هذا كلام باطل فإنه سبحانه قادر على أن يخلق فيهم مشيئة الإيمان وإرادته ومحبته فيؤمنون بغير قسر ولا إلجاء بل إيمان اختيار وطاعة كما قال تعالى ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا وإيمان القسر والإلجاء لا يسمى إيمانا ولهذا يؤمن الناس كلهم يوم القيامة ولا يسمى ذلك إيمانا لأنه عن الجاء واضطرار قال تعال ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها وما يحصل للنفوس من المعرفة والتصديق بطريق الإلجاء والاضطرار والقسر لا يسمى هدى وكذلك قوله أفلم ييأس الذين امنواأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا فقولكم لم يبق طري إلى الإيمان إلا بالقسر باطل فإنه بقي إلى إيمانهم طريق لم يرهم الله إياه وهو مشيئته وتوفيقه والهامة وإمالة قلوبهم إلى الهدى وإقامتها على الصراط المستقيم وذلك أمر لا يعجز عنه رب كل شيء ومليكه بل هو القادر عليه كقدرته على خلقه ذواتهم وصفاتهم ودرائهم ولكن منعهم ذلك لحكمته وعدله فيهم وعدم استحقاقهم وأهليتهم لبذل ذلك لهم كما منع السفل خصائص العلو ومنع الحار خصائص البارد ومنع الخبيث خصائص الطيب ولا يقال فلم فعل هذا فإن ذلك من لوازم ملكه وربوبيته ومن مقتضيات أسمائه وصفاته وهل يليق بحكمته أن يسوي بين الطيب والخبيث والحسن والقبيح والجيد والرديء ومن لوازم الربوبية خلق الزوجين وتنويع المخلوقات وأخلاقها فقول القائل لم خلق الرديء والخبيث واللئيم سؤال جاهل بأسمائه وصفاته وملكه وربوبيته وهو سبحانه فرق بين خلقه أعظم تفريق وذلك من كمال قدرته وربوبيته فجعل منه ما يقبل جميع الكمال الممكن ومنه ما لا يقبل شيئا منه وبين ذلك درجات متفاوتة لا يحصيها إلا الخلاق العليم وهدى كل نفس إلى حصول ما هي قابلة له والقابل والمقبول والقبول كله مفعوله ومخلوقه وأثر فعله وخلقه وهذا هو الذي ذهب عن الجبرية والقدرية ولم يهتدوا إليه وبالله التوفيق ________________________________________ قالت القدرية الختم والطبع هو شهادته سبحانه عليهم بأنهم لا يؤمنون وعلى أسماعهم وعلى قلوبهم قال أهل السنة هذا هو قولكم بأن الختم والطبع هو الإخبار عنهم بذلك وقد تقدم فساد هذا بما فيه كفاية وأنه لا يقال في لغة من لغات الأمم لمن أخبر عن غيره بأنه مطبوع على قلبه وأن عليه ختما أنه قد طبع على قلبه وختم عليه بل هذا كذب على اللغات وعلى القرآن وكذلك قول من قال أن ختمه على قلوبهم اطلاعه على ما فيها من الكفر وكذلك قول من قال أنه إحصاؤه عليهم حتى يجازيهم به وقول من قال أنه أعلامها بعلامة تعرفها بها الملائكة وقد بينا بطلان ذلك بما فيه كفاية ________________________________________ قالت القدرية لا يلزم من الطبع والختم والقفل آن تكون مانعة من الأيمان بل يجوز أن يجعل الله فيهم ذلك من غير آن يكون منعهم من الإيمان بل يكون ذلك من جنس الغفلة والبلادة والغشا في البصر فيورث ذلك إعراضا عن الحق وتعاميا عنه ولو أنعم النظر وتفكر وتدبر لما آثر على الإيمان غيره وهذا الذي قالوه يجوز آن يكون في أول الأمر فإذا تمكن واستحكم من القلب ورسخ فيه امتنع معه الإيمان ومع هذا فهو أثر فعله وإعراضه وغفلته وإيثاره وشهوته وكبره على الحق والهدى فلما تمكن فيه واستحكم صار صفة راسخة وطبعا وختما وقفلا ورانا فكان مبداه غير حائل بينهم وبين الإيمان والإيمان ممكن معه لو شاؤا لآمنوا مع مبادئ تلك الموانع فلما استحكمت لم يبق إلى الإيمان سبيل ونظير هذا أن العبد يستحسن ما يهواه فيميل إليه بعض الميل ففي هذه الحال يمكن صرف الداعية له إذ الأسباب لم تستحكم فإذا استمر على ميله واستدعى أسبابه واستمكنت لم يمكنه صرف قلبه عن الهوى والمحبة فيطبع على قلبه ويختم عليه فلا يبقى فيه محل لغير ما يهواه ويحبه وكان الانصراف مقدورا له في أول المر فلما تمكنت أسبابه لم يبق مقدورا له كما قال الشاعر ... تولع بالعشق حتى عشق ... فلما استقل به لم يطق ... رأى لجة ظنها موجة ... فلما تمكن منها غرق ... فلو أنهم بادروا في مبدأ الأمر إلى مخالفة الأسباب الصادة عن الهدى لسهل عليهم ولما استعصى عليهم ولقدروا عليه ونظير ذلك المبادرة إلى إزالة العلة قبل استحكام أسبابها ولزومها للبدن لزوما لا ينفك منها فإذا استحكمت العلة وصارت كالجزء من البدن عز على الطبيب استنقاذ العليل منها ونظير ذلك المتوحل في حمأة فإنه ما لم يدخل تحتها فهو قادر على التخلص فإذا توسط معظمها عز عليه وعلى غيره انقاذه فمبادئ الأمور مقدورة للعبد فإذا استحكمت أسبابها وتمكنت لم يبق الأمر مقدور له فتأمل هذا الموضع حق التأمل فإنه من أنفع الأشياء في باب القدر والله الموفق ________________________________________ للصواب والله سبحانه جاعل ذلك كله وخالقه فيهم بأسباب منهم وتلك الأسباب قد تكون أمورا عدمية يكفي فيها عدم مشيئة أضدادها فلا يشاء سبحانه أن يخلق للعبد أسباب الهدى فيبقى على العدم الأصلي وإن أراد من عبده الهداية فهي لا تحصل حتى يريد من نفسه إعانته وتوفيقه فإذا لم يرد سبحانه من نفسه ذلك لم تحصل الهداية فصل ومما ينبغي أن يعلم أنه لا يمتنع مع الطبع والختم والقفل حصول الإيمان بأن يفك الذي ختم على القلب وطبع عليه وضرب عليه القفل ذلك الختم والطابع والقفل ويهديه بعد ضلاله ويعلمه بعد جهله ويرشده بعد غيه ويفتح قفل قلبه بمفاتيح توفيقه التي هي بيده حتى لو كتب على جبينه الشقاوة والكفر لم يمتنع آن يمحوها ويكتب عليه السعادة والإيمان وقرا قارئ عند عمر بن الخطاب افلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها وعنده شاب فقال اللهم عليها أقفالها ومفاتيحها بيدك لا يفتحها سواك فعرفها له عمر وزادته عنده خيرا وكان عمر يقول في دعائه اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحني واكتبني سعيدا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت فالرب تعالى فعال لما يريد لا حجر عليه وقد ضل ههنا فريقان القدرية حيث زعمت أن ذلك ليس مقدورا للرب ولا يدخل تحت فعله إذ لو كان مقدورا له ومنعه العبد لناقض جوده ولطفه والجبرية حيث زعمت أنه سبحانه إذا قدر قدرا أو علم ________________________________________ شيئا فإنه لا يغيره بعد هذا ولا يتصرف فيه بخلاف ما قدره وعلمه والطائفتان حجرت على كل من لا يدخل تحت حجر أحد أصلا وجميع خلقه تحت حجره شرعا وقدرا وهذه المسألة من أكبر مسائل القدر وسيمر بك إن شاء الله في باب المحو والإثبات ما يشفيك فيها والمقصود انه مع الطبع والختم والقفل لو تعرض العبد أمكنه فك ذلك الختم والطابع وفتح ذلك القفل يفتحه من بيده مفاتيح كل شيء وأسباب الفتح مقدورة للعبد غير ممتنعة عليه وإن كان فك الختم وفتح القفل غير مقدور له كما آن شرب الدواء مقدور له وزوال العلة وحصول العافية غير مقدور فإذا استحكم به المرض وصار صفة لازمة له لم يكن له عذر في تعاطي ما إليه من أسباب الشفاء وإن كان غير مقدور له ولكن لما ألف العلة وساكنها ولم يحب زوالها ولا آثر ضدها عليها مع معرفته بما بينها وبين ضدها من التفاوت فقد سد على نفسه باب الشفاء بالكلية والله سبحانه يهدي عبده إذا كان ضالا وهو يحسب انه على هدى فإذا تبين له الهدى لم يعدل عنه لمحبته وملاءمته لنفسه فإذا عرف الهدى فلم يحبه ولم يرض به وآثر عليه الضلال مع تكرار تعريفه منفعة هذا وخيره ومضرة هذا وشره فقد سد على نفسه باب الهدى بالكلية فلو أنه في هذه الحال تعرض وافتقر إلى من بيده هداه وعلم أنه ليس إليه هدى نفسه وأنه ان لم يهده الله فهو ضال وسأل الله أن يقبل بقلبه وأن يقيه شر نفسه وفقه وهداه بل لو علم الله منه كراهية لما هو عليه من الضلال وأنه مرض قاتل إن لم يشفه منه أهلكه لكانت كراهته وبغضه إياه مع كونه مبتلي به مكن أسباب الشفاء والهداية ولكن من أعظم أسباب الشقاء والضلال محبته له ورضاه به وكراهته الهدى والحق فلو أن المطبوع على قلبه المختوم عليه كره ذلك ورغب إلى الله في فك ذلك عنه وفعل مقدوره لكان هداه أقرب شيء إليه ولكن إذا استحكم الطبع والختم حال بينه وبين كراهة ذلك وسؤال الرب فكه وفتح قلبه ________________________________________ فصل فإن قيل فإذا جوزتم أن يكون الطبع والختم والقفل عقوبة وجزاء على الجرايم الإعراض والكفر السابق على فعل الجرائم قيل هذا موضع يغلط فيه أكثر الناس ويظنون بالله سبحانه خلاف موجب أسمائه وصفاته والقرآن من أوله إلى آخره إنما يدل على أن الطبع والختم والغشاوة لم يفعلها الرب سبحانه بعبده من اول وهلة حين أمره بالإيمان آو بينه له وإنما فعله بعد تكرار الدعوة منه سبحانه والتأكيد في البيان والإرشاد وتكرار الإعراض منهم والمبالغة في الكفر والعناد فحينئذ يطبع على قلوبهم ويختم عليها فلا تقبل الهدى بعد ذلك والإعراض والكفر الأول لم يكن مع ختم وطبع بل كان اختيارا فلما تكرر منهم صار طبيعة وسجية فتأمل هذا المعنى في قوله إن الذين كفروا سواء عليهم أءنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ومعلوم أن هذا ليس حكما يعم جميع الكفار بل الذين آمنوا وصدقوا الرسل كان أكثرهم كفارا قبل ذلك ولم يختم على قلوبهم وعلى أسماعهم فهذه الآيات في حق أقوام مخصوصين من الكفار فعل الله بهم ذلك عقوبة منه لهم في الدنيا بهذا النوع من العقوبة العاجلة كما عاقب بعضهم بالمسخ قردة وخنازير وبعضهم بالطمس على أعينهم فهو سبحانه يعاقب بالطمس على القلوب كما يعاقب بالطمس على الأعين وهو سبحانه قد يعاقب بالضلال عن الحق عقوبة دائمة مستمرة وقد يعاقب به إلى وقت ثم يعافي عبده ويهديه كما يعاقب بالعذاب كذلك ________________________________________ فصل وههنا عدة أمور عاقب بها لكفار بمنعهم عن الإيمان وهي الختم والطبع والأكنة والغطاء والغلاف والحجاب والوقرة والغشاوه والران والغل والسد والقفل والصمم والبكم والعمي والصد والصرف والشد على القلب والضلال والإغفال والمرض وتقليب الأفئدة والحول بين المرء وقلبه وإزاغة القلوب والخذلان والأركاس والتثبيط والتزيين وعدم إرادة هداهم وتطهيرهم وإماتة قلوبهم بعد خلق الحياة فيها فتبقى على الموت الأصلي وإمساك النور عنها فتبقى في الظلمة الأصلية وجعل القلب قاسيا لا ينطبع فيه مثال الهدى وصورته وجعل الصدر ضيفا حرجا لا يقبل الإيمان وهذه الأمور منها ما يرجع إلى القلب كالختم والطبع والقفل والأكنة والإغفال والمرض ونحوها ومنها ما يرجع إلى رسوله الموصل إليه الهدى كالصمم والوقر ومنها ما يرجع إلى طليعته ورائده كالعمى والغشا ومنها ما يرجع إلى ترجمانه ورسوله المبلغ عنه كالبكم النطقي وهو نتيجة البكم القلبي فإذا بكم القلب بكم اللسان ولا تصغ إلى قول من يقول أن هذه مجازات واستعارات فإنه قال بحسب مبلغه من العلم والفهم عن الله ورسوله وكان هذا القائل حقيقة الفعل عنده أن يكون من حديد والختم أن يكون بشمع أو طين والمرض أن يكون حمى ينافض أو قولنج أو غيرهما من أمراض البدن والموت هو مفارقة الروح للبدن ليس إلا والعمى ذهاب ضوء العين الذي تبصر به وهذه الفرقة من أغلظ الناس حجابا فإن هذه الأمور إذا أضيفت إلى محلها كانت بحسب تلك المحال فنسبة قفل القلب إلى القلب كنسبة قفل الباب إليه وكذلك الختم والطابع الذي عليه هو بالنسبة إليه كالختم والطابع الذي على الباب والصندوق ونحوهما وكذلك نسبة الصمم والعمى إلى الأذن والعين وكذلك موته وحياته نظير موت البدن وحياته بل هذه الأمور ألزم للقلب منها للبدن فلو قيل أنها حقيقة في ذلك مجاز في الأجسام المحسوسة لكان مثل قول هؤلاء وأقوى منه وكلاهما باطل فالعمى في الحقيقة والبكم والموت والقفل ________________________________________ للقلب ثم قال تعالى فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور والمعنى أنه معظم العمى وأصله وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم إنما الربا في السيئة وقوله إنما الماء من الماء وقوله ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس وقوله ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان إنما المسكين الذي لا يجد ما يعنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه وقوله ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ولم يرد نفي الاسم عن هذه المسميات إنما أراد أن هؤلاء أولى بهذه الأسماء وأحق ممن يسمونه بها فهكذا قوله لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقريب من هذا قوله ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله وباليوم الآخر الآية وعلى التقديرين فقد أثبت للقلب عمي حقيقة وهكذا جميع ما نسب إليه ولما كان القلب ملك الأعضاء وهي جنوده وهو الذي يحركها ويستعملها والإرادة والقوى والحركة الاختيارية تنبعث كانت هذه الأمثال أصلا وللأعضاء تبعا فلنذكر هذه الأمور مفصلة ومواقعها في القرآن فقد تقدم الختم قال الأزهري وأصله التغطية وختم البذر في الأرض إذ غطاه قال أبو إسحاق معنى ختم وطبع في اللغة واحد وهو التغطية على الشيء والاستيثاق منه فلا يدخله شيء كما قال تعالى أم على قلوب أقفالها وكذلك قوله طبع الله على قلوبهم قلت الختم والطبع يشتركان فيما ذكر ويفترقان في معنى آخر وهو أن الطبع ختم يصير سجية وطبيعة فهو تأثير لازم لا ________________________________________ يفارق وأما الأكنة ففي قوله تعالى وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وهي جمع كنان كعنان وأعنة وأصله من الستر والتغطية ويقال كنة وأكنة وكنان بمعنى واحد بل بينهما فرق فأكنة إذا ستره وأخفاه كقوله تعالى أو أكننتم في أنفسكم وكنة إذا صانه وحفظه كقوله بيض مكنون ويشتركان في الستر والكنان ماأكن الشيء وستره وهو كالغلاف وقد أقروا على أنفسهم بذلك فقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فذكروا غطاء القلب وهي الأكنة وغطاء الأذن وهو الوقر وغطاء العين وهو الحجاب والمعنى لا نفقه كلامك ولا نسمعه ولا نراك والمعنى إنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يفقه ما تقول ولا يراك قال ابن عباس قلوبنا في أكنة مثل الكنانة التي فيها السهام وقال مجاهد كجعبة النبل وقال مقاتل عليها غطاء فلا نفقه ما تقول فصل وأما الغطاء فقال تعالى وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء من ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا وهذا يتضمن معنيين أحدهما أن أعينهم في غطاء عما تضمنه الذكر من آيات الله وأدلة توحيده وعجائب قدرته والثاني أن أعين قلوبهم في غطاء عن فهم القرآن وتدبره والاهتداء به وهذا الغطاء للقلب أولا ثم يسري منه إلى العين ________________________________________ فصل وأما الغلاف فقال تعالى وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم وقد اختلف في معنى قولهم قلوبنا غلف فقالت طائفة المعنى قلوبنا أوعية للحكمة والعلم فما بالها لا تفهم عنك ما أتيت به أو لا تحتاج إليك وعلى هذا فيكون غلف جمع غلاف والصحيح قول أكثر المفسرين أن المعنى قلوبنا لا تفقه ولا تفهم ما تقول وعلى هذا فهو جمع أغلف كأحمر وحمر وقال أبو عبيدة كل شيء في غلاف فهو أغلف كما يقال سيف أغلف وقوس أغلف ورجل أغلف غير مختون قال ابن عباس وقتادة ومجاهد على قلوبنا غشاوة فهي في أوعية فلا تعي ولا تفقه ما تقول وهذا هو الصواب في معنى الآية لتكرر نظائره في القرآن كقولهم قلوبنا في أكنة وقوله تعالى كانت أعينهم في غطاء عن ذكرى ونظائر ذلك وأما قول من قال هي أوعية للحكمة فليس في اللفظ ما يدل عليه البتة وليس له في القرآن نظير يحمل عليه ولا يقال مثل هذا اللفظ في مدح الإنسان نفسه بالعلم والحكمة فأين وجدتم في الاستعمال قول القائل قلبي غلاف وقلوب المؤمنين العالمين غلف أي أوعية للعلم والغلاف قد يكون وعاء للجيد والرديء فلا يلزم من كون القلب غلافا أن يكون داخله العلم والحكمة وهذا ظاهر جدا فإن قيل فالإضراب ببل على هذا القول الذي قويتموه ما معناه وأما على القول الآخر فظاهر آي ليست قلوبكم محلا للعلم والحكمة بل مطبوع عليها قيل وجه الإضراب في غاية الظهور وهو أنهم احتجوا بأن الله لم يفتح لهم الطريق إلى فهم ما جاء به الرسول ومعرفته بل جعل قلوبهم داخلة في غلف فلا تفقهه فكيف تقوم به عليه الحجة وكأنهم ادعوا أن قلوبهم خلقت في غلف فهم معذورون في عدم الإيمان فاكذبهم الله وقال بل طبع الله عليها بكفرهم وفي الآية الأخرى بل لعنهم الله بكفرهم فاخبر سبحانه أن الطبع والإبعاد عن توفيقه وفضله إنما كان بكفرهم الذي اختاروه لأنفسهم وآثروه على الإيمان فعاقبهم عليه بالطبع واللعنة والمعنى لم نخلق قلوبهم غلفا لا تعي ولا تفقه ثم نأمرهم ________________________________________ بالإيمان وهم لا يفهمونه ولا يفقهونه بل اكتسبوا أعمالا عاقبناهم عليها بالطبع على القلوب والختم عليها فصل وأما الحجاب ففي قوله تعالى حكاية عنهم ومن بيننا وبينك حجاب وقوله فإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا على أصح القولين والمعنى جعلنا بين القرآن إذا قرأته وبينهم حجابا يحول بينهم وبين فهمه وتدبره والإيمان به ويبينه قوله وجعلنا على قلوبهم أكنة آن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وهذه الثلاثة هي الثلاثة المذكورة في قوله وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فأخبر سبحانه أن ذلك جعله فالحجاب يمنع رؤية الحق والأكنة تمنع من فهمه والوقر يمنع من سماعه وقال الكلبي الحجاب ههنا مانع يمنعهم من الوصول إلى رسول الله بالأذى من الرعب ونحوه مما يصدهم عن الإقدام عليه ووصفه بكونه مستورا فقيل بمعنى ساتر وقيل على النسب أي ذو ستر والصحيح أنه على بابه أي مستورا عن الإبصار فلا يرى ومجيء مفعول بمعنى فاعل لا يثبت والنسب في مفعول لم يشتق من فعله كمكان مهول أي ذي هول ورجل مرطوب أي ذي رطوبة فأما مفعول فهو جار على فعله فهو الذي وقع عليه الفعل كمضروب ومجروح ومستور ________________________________________ فصل وأما الران فقد قال تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون قال أبو عبيدة غلب عليها والخمر ترين على عقل السكران والموت يرون على الميت فيذهب به ومن هذا حديث اسيفع جهينة وقول عمر فأصبح قدرين به أي غلب عليه وأحاط به الرين وقال أبو معاذ النحوي الرين أن يسود القلب من الذنوب والطبع أن يطبع على القلب وهو أشد من الرين والإقفال أشد من الطبع وهو أن يقفل على القلب وقال الفراء كثرت الذنوب والمعاصي منهم فأحاطت بقلوبهم فذلك الرين عليها وقال أبو إسحاق ران غطى يقال ران على قلبه الذنب يرين رينا أي غشيه قال والرين كالغشاء يغشى القلب ومثله الغين قلت أخطأ أبو إسحاق فألغين ألطف شيء وأرقه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه ليغان على قلبي وأني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة وأما الرين والران فهو من أغلظ الحجب على القلب وأكثفها وقال مجاهد هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب وتغشاه فيموت القلب وقال مقاتل غمرت القلوب أعمالهم الخبيثة وفي سنن النسائي والترمذي من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه وهو الران الذي ذكر الله كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون قال الترمذي هذا حديث صحيح وقال عبد الله بن مسعود كلما أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب كله فأخبر سبحانه أن ذنوبهم التي اكتسبوها أوجبت لهم رينا على قلوبهم فكان سبب الران منهم وهو خلق الله فيهم فهو خالق السبب ومسببه لكن السبب باختيار العبد والمسبب خارج عن قدرته واختياره ________________________________________ فصل وأما الغل فقال تعالى لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون قال الفراء حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله وقال أبو عبيدة منعناهم عن الإيمان بموانع ولما كان الغل مانعا للمغلول من التصرف والتقلب كان الغل الذي على القلب مانعا من الإيمان فإن قيل فالغل المانع من الإيمان هو الذي في القلب فكيف ذكر الغل الذي في العنق قيل لما كان عادة الغل أن يوضع في العنق ناسب ذكر محله والمراد به القلب كقوله تعالى وكل إنسان ألزمناه ________________________________________ طائره في عنقه ومن هذا قولهم انما في عنقك وهذا في عنقك ومن هذا قوله ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك شبه الإمساك عن الإنفاق باليد إذا غلت إلى العنق ومن هذا قال الفراء أنا جعلنا في أعناقهم أغلالا حبسناهم عن الإنفاق قال أبو إسحاق وإنما يقال للشيء اللازم هذا في عنق فلان أي لزومه كلزوم القلادة من بين ما يلبس في العنق قال أبو علي هذا مثل قولهم طوقتك كذا وقلدتك كذا ومنه قلده السلطان كذا أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق قلت ومن هذا قولهم قلدت فلانا حكم كذا وكذا كأنك جعلته طوقا في عنقه وقد سمى الله التكاليف الشاقة أغلالا في قوله ويضع عنهم أصرهم والأغلال التي كانت عليهم فشبهها بالأغلال لشدتها وصعوبتها قال الحسن هي الشدائد التي كانت في العبادة كقطع أثر البول وقتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة وتتبع العروق من اللحم وقال ابن قتيبة هي تحريم الله سبحانه عليهم كثيرا مما أطلقه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وجعلها أغلا لأن التحريم يمنع كما يقبض الغل اليد وقوله فهي إلى الأذقان قالت طائفة الضمير يعود إلى الأيدي وإن لم تذكر لدلالة السياق عليها قالوا لأن الغل يكون في العنق فتجمع إليه اليد ولذلك سمي جامعة وعلى هذا فالمعنى فأيديهم او فايمنهم مضمومة الى أذقانهم هذا قول الفراء والزجاج وقالت طائفة الضمير يرجع إلى الأغلال وهذا هو الظاهر وقوله فهي إلى الأذقان أي واصلة وملزوزة إليها فهو غل عريض قد أحاط بالعنق حتى وصل إلى الذقن وقوله فهم مقمحون قال الفراء والزجاج المقمح هو الغاض بصره بعد رفع رأسه ومعنى الإقماح في اللغة رفع الرأس وغض البصر يقال أقمح البعير رأسه وقمح وقال الأصمعي بعير قامح إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب قال الأزهري لما غلت أيديهم إلى أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا كالإبل الرافعة رؤوسها انتهى فإن قيل فما وجه التشبيه بين هذا وبين حبس القلب عن الهدى ________________________________________ والإيمان قيل أحسن وجه وأبينه فإن الغل إذا كان في العنق واليد مجموعة إليها منع اليد عن التصرف والبطش فإذا كان عريضا قد ملأ العنق ووصل إلى الذقن منع الرأس من تصويبه وجعل صاحبه شاخص الرأس منتصبه لا يستطيع له حركة ثم أكد هذا المعنى والحبس بقوله وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا قال ابن عباس منعهم من الهدى لما سبق في علمه والسد الذي جعل من بين أيديهم ومن خلفهم هو الذي سد عليهم طريق الهدى فأخبر سبحانه عن الموانع التي منعهم بها من الإيمان عقوبة لهم ومثلها بأحسن تمثيل وأبلغه وذلك حال قوم قد وضعت الأغلال العريضة الواصلة إلى الأذقان في أعناقهم وضمت أيديهم إليها وجعلوا بين السدين لا يستطيعون النفوذ من بينمها وأغشيت أبصارهم فهم لا يرون شيئا وإذا تأملت حال الكافر الذي عرف الحق وتبين له ثم جحده وكفر به وعاداه أعظم معاداة وجدت هذا المثل مطابقا له أتم مطابقة وانه قد حيل بينه وبين الإيمان كما حيل بين هذا وبين التصرف والله المستعان فصل وأما القفل فقال تعالى أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها قال ابن عباس يريد على قلوب هؤلاء أقفال وقال مقاتل يعني الطبع على القلب وكأن القلب بمنزلة الباب المرتج الذي قد ضرب عليه قفل فإنه ما لم يفتح القفل لا يمكن فتح الباب والوصول إلى ما وراءه وكذلك ما لم يرفع الختم والقفل عن القلب لم يدخل الإيمان والقرآن وتأمل تنكير القلب وتعريف الأقفال فإن تنكير القلوب يتضمن إرادة قلوب هؤلاء وقلوب من هم بهذه الصفة ولو قال أم على القلوب أقفالها لم تدخل قلوب غيرهم في الجملة وفي قوله أقفالها بالتعريف نوع تأكيد فإنه لو قال اقفال لذهب الوهم إلى ما يعرف بهذا الاسم فلما أضافها إلى القلوب علم أن المراد بها ما هو للقلب بمنزلة القفل للباب فكأنه أراد أقفالها المختصة بها التي لا تكون لغيرها والله أعلم ________________________________________ فصل وأما الصمم والوقر ففي قوله صم بكم عمي وقوله أولئك الذين لعنهم الله فاصمهم وأعمى أبصارهم وقوله ولقد درأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يعقلون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل وأولئك هم الغافلون وقوله والذين لا يؤمنون بالآخرة في آذانهم وقر وهو عليهم عمي أولئك ينادون من مكان بعيد قال ابن عباس في آذانهم صمم عن استماع القرآن وهو عليهم عمي أعمى الله قلوبهم فلا يفقهون أولئك ينادون من مكان بعبد مثل البهيمة التي لا تفهم الادعاء ونداء وقال مجاهد بعيد من قلوبهم وقال الفراء تقول للرجل الذي لا يفهم كذلك أنت تنادي من مكان بعيد قال وجاء في التفسير كأنما ينادون من السماء فلا يسمعون انتهى والمعنى أنهم لا يسمعمون ولا يفهمون كما أن من دعى من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم فصل وأما البكم فقال تعالى صم بكم عمي والبكم جمع أبكم وهو الذي لا ينطق والبكم نوعان بكم القلب وبكم اللسان كما أن النطق نطقان نطق القلب ونطق اللسان وأشدهما بكم القلب كما أن عماه وصممه أشد من عمى العين وصمم الأذن فوصفهم سبحانه بأنهم لا يفقهون الحق ولا تنطق به ألسنتهم والعلم يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب من سمعه وبصره وقلبه وقد عليهم سدت هذه الأبواب الثلاثة فسد السمع بالصمم والبصر بالعمى اوالقلب بالبكم ونظيره قوله تعالى لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها وقد جمع سبحانه بين الثلاثة في قوله وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله فإذا أراد سبحانه هداية عبد فتح قلبه وسمعه وبصره وإذا أراد ضلالة أصمه وأعماه وأبكمه وبالله التوفيق ________________________________________ فصل وأما الغشاوة فهو غطاء العين كما قال تعالى وجعل على بصره غشاوة وهذا الغطاء سري اليها من غطاء القلب فإن ما في القلب يظهر على العين من الخير والشر فالعين مرآة القلب تظهر ما فيه وأنت إذا أبغضت رجلا بغضا شديدا أو أبغضت كلامه ومجالسته تجد على عينك غشاوة عند رؤيته ومخالطته فتلك أثر البغض والإعراض عنه وغلظت على الكفار عقوبة لهم على إعراضهم ونفورهم عن الرسول وجعل الغشاوة عليها يشعر بالإحاطة على ما تحته كالعمامة ولما عشوا عن ذكره الذي أنزله صار ذلك العشاء غشاوة على أعينهم فلا تبصر مواقع الهدى فصل وأما الصد فقال تعالى وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل قرأ أهل الكوفة على البناء للمفعول حملا على زين وقرأ الباقون وصد بفتح الصاد ويحتمل وجهين أحدهما أعرض فيكون لازما والثاني يكون صد غيره فيكون متعديا والقراءتان كالآيتين لا يتناقضان وأما الشد على القلب ففي قوله تعالى وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في المياه الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا أطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما فهذا الشد على القلب هو الصد والمنع ولهذا قال ابن عباس يريدا منعها والمعنى قسها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان وهذ ا مطابق لما في التوراة إن الله سبحانه قال لموسى اذهب إلى فرعون فإني سأقسى قلبه فلا يؤمن حتى تظهر آياتي وعجائبي بمصر وهذا الشد والتقسية من كمال عدل الرب سبحانه في أعدائه جعله عقوبة لهم على كفرهم واعراضهم كعقوبته لهم بالمصائب ولهذا كان محمودا عليه فهو حسن منه وأقبح شيء منهم فإنه عدل منه وحكمة وهو ظلم منهم وسفه فالقضاء والقدر فعل عادل حكيم غنى عليم يضع الخير والشر في أليق المواضع بهما والمقضى المقدر يكون ظلما وجورا وسفها وهو فعل جاهل ظالم سفيه ________________________________________ فصل وأما الصرف فقال تعالى وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون فأخبر سبحانه عن فعلهم وهو الانصراف وعن فعله فيهم وهو صرف قلوبهم عن القرآن وتدبره لأنهم ليسوا أهلا له فالمحل غير صالح ولا قابل فإن صلاحية المحل بشيئين حسن فهم وحسن قصد وهؤلاء قلوبهم لا تفقه وقصودهم سيئة وقد صرح سبحانه بهذا في قوله ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فأخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه إلى قلوبهم فلم يسمعهم سماع إفهام ينتفعون به وإن سمعوه سماعا تقوم به عليهم حجته فسماع الفهم الذي سمعه به والمؤمنون لم يحصل لهم ثم أخبر سبحانه عن مانع آخر قام بقلوبهم يمنعهم من الإيمان لو أسمعهم هذا السماع الخاص وهو الكبر والتولي والإعراض فالأول مانع من الفهم والثاني مانع من الإنقياد والإذعان فإفهام سيئة وقصود ردية وهذه نسخة الضلال وعلم الشقاء كما أن نسخة الهدى وعلم السعادة فهم صحيح وقصد صالح والله المستعان وتأمل قوله سبحانه ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم كيف جعل هذه الجملة الثانية سواء كانت خبرا أو عادة عقوبة لانصرافهم فعاقبهم عليه بصرف آخر غير الصرف الأول فإن انصرافهم كان لعدم إرادته سبحانه ومشيئته لإقبالهم لأنه لا صلاحية فيهم ولا قبول فلم ينلهم الإقبال والإذعان فانصرفت قلوبهم بما فيها من الجهل والظلم عن القرآن فجازاهم على ذلك صرفا آخر غير الصرف الأول كما جازاهم على زيغ قلوبهم عن الهدى إزاغة غير الزيغ الأول فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وهكذا إذا أعرض العبد عن ربه سبحانه جازاه بأن يعرض عنه فلا يمكنه من الإقبال عليه ولتكن قصة إبليس منك على ذكر تنتفع بها أتم انتفاع فإنه لما عصى ربه تعالى ولم ينقد لأمره وأصر على ذلك عاقبة بأن جعله داعيا إلى كل معصية فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعيا إلى كل معصية ________________________________________ وفروعها صغيرها وكبيرها وصار هذا الإعراض والكفر منه عقوبة لذلك الإعراض والكفر السابق فمن عقاب السيئة السيئة بعدها كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها فإن قيل فكيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض عنه وقد قال تعالى فإنى يصرفون وأنى يؤفكون وقال فما لهم عن التذكرة معرضين فإذا كان هو الذي صرفهم وجعلهم معرضين ومأفوكين فكيف ينفي ذلك عليهم قيل هم دائرون بين عدله وحجته عليهم فمكنهم وفتح لهم الباب ونهج لهم الطريق وهيأ لهم الأسباب فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه ودعاهم على السنة رسلة وجعل لهم عقولا تميز بين الخير والشر والنافع والضار وأسباب الردي وأسباب الفلاح وجعل لهم أسماعا وأبصارا فآثروا الهوى على التقوى واستحبوا العمى على الهدى وقالوا معصيتك آثر عندنا من طاعتك والشرك أحب إلينا من توحيدك وعبادة سواك أنفع لنا في دنيانا من عبادتك فأعرضت قلوبهم عن ربهم وخالقهم ومليكهم وانصرفت عن طاعته ومحبته فهذا عدله فيهم وتلك حجته عليهم فهم سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختياره فسده عليهم اضطرارا فخلاهم وما اختاروا لأنفسهم وولاهم ما تولوه ومكنهم فيما ارتضوه وأدخلهم من الباب الذي استبقوا إليه وأغلق عنهم الباب الذي تولوا عنه وهم معرضون فلا أقبح من فعلهم ولا أحسن من فعله ولو شاء لخلقهم على غير هذه الصفة ولأنشأهم على غير هذه النشأة ولكنه سبحانه خالق العلو والسفل والنور والظلمة والنافع والضار والطيب والخبيث والملائكة والشياطين والشاء والذياب ومعطيها آلاتها وصفاتها وقواها وأفعالها ومستعملها فيما خلقت له فبعضها بطباعها وبعضها بإرادتها ومشيئتها وكل ذلك جار على وفق حكمته وهو موجب حمده ومقتضى كماله المقدس وملكه التام ولا نسبة لما علمه الخلق من ذلك إلى ما خفي عليهم بوجه ما أن هو إلا كنقرة عصفور من البحر ________________________________________ فصل وأما الإغفال فقال تعالى ولا تطع من أغفلنا قبله عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا سئل أبو العباس ثعلب عن قوله أغفلنا قلبه عن ذكرنا فقال جعلناه غافلا قال ويكون في الكلام أغفلته سميته غافلا ووجدته غافلا قلت الغفل الشيء الفارغ والأرض الغفل التي لا علامة بها والكتاب الغفل الذي لا شكل عليه فأغفلناه تركناه غفلا عن الذكر فارغا منه فهو ابقاء له على العدم الأصلي لأنه سبحانه لم يشأ له الذكر فبقي غافلا فالغفلة وصفه والإغفال فعل الله فيه بمشيئته وعدم مشيئته لتذكره فكل منهما مقتض لغفلته فإذا لم يشأ له التذ كر لم يتذكر وإذا شاء غفلته امتنع منه الذكر فإن قيل فهل تضاف الغفلة والكفر والإعراض ونحوها إلى عدم مشيئة الرب أضدادها أم إلى مشيئته لوقوعها قيل القرآن قد نطق بهذا وبهذا قال تعالى أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم وقال ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ومن يرد أن يضله فإن قيل فكيف يكون عدم السبب المقتضى موجبا للأثر إن كان وجوديا فلا بد له من مؤثر وجودي وأما العدم فيكفي فيه عدم سببه وموجبه فيبقى على العدم الأصلي فإذا أضيف إليه كان من باب إضافة الشيء إلى دليله فعدم السبب دليل على عدم المسبب وإذا سمي موجبا ومقتضيا بهذا الاعتبار فلا مشاحة في ذلك وأما أن يكون العدم أثرا ومؤثرا فلا وهذا الإغفال ترتب عليه اتباع هواه وتفريطه في أمره قال مجاهد كان أمره فرطا أي ضياعا وقال قتادة أضاع أكبر الضيعة وقال السدة هلاكا وقال أبو الهيثم أمر فرط أي متهاون به مضيع والتفريط تقديم العجز قال أبو اسحاق من قدم العجز في أمر إضاعه وأهلكه قال الليث الفرط الأمر الذي يفرط فيه يقول كل أمر فلان فرط قال الفراء فرطا متروكا يفرط فيما لا ينبغي التفريط فيه واتبع مالا ينبغي اتباعه وغفل عما لا يحسن الغفلة عنه ________________________________________ فصل وأما المرض فقال تعالى في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا وقال فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقال ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا ومرض القلب خروج عن صحته واعتداله فإن صحته أن يكون عارفا بالحق محبا له مؤثرا له على غيره فمرضه إما بالشك فيه وإما بإيثار غيره عليه فمرض المنافقين مرض شك وريب ومرض العصاة مرض غي وشهوة وقد سمى الله سبحانه كلا منهما مرضا قال ابن الأنباري أصل المرض في اللغة الفساد مرض فلان فسد جسمه وتغيرت حاله ومرضت بالمرض تغيرت وفسدت قالت ليلى الأخيلية ... إذا هبط الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها ... وقال آخر ... ألم تر أن الأرض أضحت مريضة ... لفقد الحسين والبلاد اقشعرت ... والمرض يدور على أربعة أشياء فساد وضعف ونقصان وظلمة ومنه مرض الرجل في الأمر إذا ضعف فيه ولم يبالغ وعين مريضة النظر أي فاترة ضعيفة وريح مريضة إذا هب هبوبها كما قال ... راحت لأربعك الرياح مريضة ... أي لينة ضعيفة حتى لا يعفى أثرها وقال ابن الأعرابي أصل المرض النقصان ومنه بدن مريض أي ناقص القوة وقلب مريض ناقص الدين ومرض في حاجتي إذا نقصت حركته وقال الأزهري عن المنذري عن بعض أصحابه المرض أظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها قال والمرض الظلمة وأنشد ... وليلة مرضت من كل ناحية ... فما يضيء لها شمس ولا قمر ... هذا أصله في اللغة ثم الشك والجهل والحيرة والضلال وإرادة الغي وشهوة الفجور في القلب تعود إلى هذه الأمور الأربعة فيتعاطى العبد أسباب المرض حتى يمرض فيعاقبه الله بزيادة المرض لإيثاره أسبابه وتعاطيه لها ________________________________________ فصل وأما تقليب الأفئدة فقال تعالى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون وهذا عطف على أنها إذا جاءت لا يؤمنون أي نحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم تلك الآية فلا يؤمنون واختلف في قوله كما لم يؤمنوا به أول مرة فقال كثير من المفسرين المعنى نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم الآية كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة قال ابن عباس في رواية عطاء عنه ونقلب أفئدتهم وأبصارهم حتى يرجعوا إلى ما سبق عليهم من علمي قال وهذا كقوله واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وقال آخرون المعنى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لتركهم الإيمان به أول مرة فعاقبناهم بتقليب أفئدتهم وأبصارهم وهذ معنى حسن فإن كاف التشبيه تتضمن نوعا من التلعيل كقوله وأحسن كما أحسن الله إليك وقوله كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم والذ ي حسن اجتماع التعليل والتشبيه الإعلام بأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر والتقليب تحويل الشيء من وجه إلى وجه وكان الواجب من مقتضى إنزال الآية ووصولهم إليها كما سألوا أن يؤمنوا إذا جاءتهم لأنهم رأوها عيانا وعرفوا أدلتها وتحققوا صدقها فإذا لم يؤمنوا كان تقليبا لقلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي ينبغي أن تكون عليه وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك وروى الترمذي من حديث أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول يا مقلب ________________________________________ القلوب ثبت قلبي على دينك فقلت يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا قال نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء قال هذا حديث حسن وروى حماد عن أيوب وهشام ويعلي بن زياد عن الحسن قال قالت عائشة رضي الله تعالى عنها دعوة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يدعو بها يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقلت يا رسول الله دعوة كثيرا ما تدعو بها قال إنه ليس من عبد إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فإذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أن يزيغه أزاغه وقوله ونذرهم في طغيانهم يعمهون قال ابن عباس أخذلهم وأدعهم في ضلالهم يتمادون فصل وأما إزاغة القلوب فقال تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وقال عن عباده المؤمنين أنهم سألوه ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وأصل الزيغ الميل ومنه زاغت الشمس إذا مالت فأزاغه القلب إمالته وزيغه ميله عن الهدى إلى الضلال والزيغ يوصف به القلب والبصر كما قال تعالى وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وقال قتادة ومقاتل شخصت فرقا وهذا تقريب للمعنى فإن الشخوص غير الزيغ وهو أن يفتح عينيه ينظر إلى الشيء فلا يطرق ومنه شخص بصر الميت ولما مالت الأبصار عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى هؤلاء الذين أقبلوا إليهم من كل جانب اشتغلت عن النظر إلى شيء آخر فمالت عنه وشخصت بالنظر إلى الأحزاب وقال الكلبي مالت أبصارهم إلا من النظر إليهم وقال الفراء زاغت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها متحيرة تنظر إليه قلت القلب إذا امتلأ رعبا شغله ذلك عن ملاحظة ما سوى المخوف فزاغ البصر عن الوقوع عليه وهو مقابلة ________________________________________ فصل وأما الخذلان فقال تعالى إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وأصل الخذلان الترك والتخلية ويقال للبقرة والشاة إذا تخلفت مع ولدها في المرعى وتركت صواحباتها خذول قال محمد بن إسحاق في هذه الآية إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس ولن يضرك خذلان من خذلك وإن يخذلك فلن ينصرك الناس أي لا تترك أمري للناس وارفض الناس لأمري والخذلان أن يخلي الله تعالى بين العبد وبين نفسه ويكله إليها والتوفيق ضده أن لا يدعه ونفسه ولا يكله إليها بل يصنع له ويلطف به ويعينه ويدفع عنه ويكلأه كلاءة الوالد الشفيق للولد العاجز عن نفسه فمن خلى بينه وبين نفسه هلك كل الهلاك ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك فالعبد مطروح بين الله وبين عدوه إبليس فإن تولاه الله لم ظفر به عدوه وإن خذله وأعرض عنه افترسه الشيطان كما يفترس الذئب الشاة فإن قيل فما ذنب الشاة إذا خلى الراعي بين الذئب وبينها وهل يمكنها أن تقوى على الذئب وتنجو منه قيل لعمر الله إن الشيطان ذئب الإنسان كما قاله الصادق المصدوق ولكن لم يجعل الله لهذا الذئب اللعين على هذه الشاة سلطانا مع ضعفها فإذا أعطت بيدها وسالمت الذئب ودعاها فلبت دعوته وأجابت أمره ولم تتخلف بل أقبلت نحوه سريعة مطيعة وفارقت حمى الراعي الذي ليس للذئاب عليه سبيل ودخلت في محل الذئاب الذي من دخله كان صيدا لهم فهل الذئب كل الذئب إلا الشاة فكيف والراعي يحذرها ويخوفها وينذرها وقد رآها مصارع الشاة التي انفردت عن الراعي ودخلت وادي ________________________________________ الذئاب قال أحمد بن مروان المالكي في كتاب المجالسة سمعت ابن أبي الدنيا يقول أن لله سبحانه من العلوم ما لا يحصى يعطي كل واحد من ذلك ما لا يعطي غيره لقد حدثنا أبو عبد الله أحمد بن حمد بن سعيد القطان ثنا عبيد الله بن بكر السهمي عن أبيه أن قوما كانوا في سفر فكان فهم رجل يمر بالطائر فيقول أتدرون ما تقول هؤلاء فيقولون لا فيقول تقول كذا وكذا فيحيلنا على شيء لا ندري أصادق فيه هو أم كاذب إلى أن مروا على غنم وفيها شاة قد تخلفت على سخلة لها فجعلت تحنو عنقها إليها وتثغو فقال أتدرون ما تقول هذه الشاة قلنا لا قال تقول للسخلة إلحقي لا يأكلك الذئب كما أكل أخاك عام أول في هذا المكان قال فانتهينا إلى الراعي فقلنا له ولدت هذه الشاة قبل عامك هذا قال نعم ولدت سخلة عام أول فأكلها الذئب بهذا المكان ثم أتينا على قوم فيهم ظعينة على جمل لها وهو يرغو ويحنو عنقه إليها فقال أتدرون ما يقول هذا البعير قلنا لا قال فانه يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مخيط وهو في سنامه قال فانتهينا إليهم فقلنا يا هؤلاء إن صاحبنا هذا يزعم أن هذا البعير يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مخيط وأنه في سنامه قال فأناخوا البعير وحطوا عنه فإذا هو كما قال فهذه شاة قد حذرت سخلتها من الذئب مرة فحذرت وقد حذر الله سبحانه آدم من ذئبه مرة بعد مره وهو يأبى إلا أن يستجيب له إذا دعاه ويبيت معه ويصبح وقال الشيطان لما قضى الأمر آن الله عدوكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي أني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم ________________________________________ فصل وأما الأركاس فقال تعالى { فمالكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا } قال الفراء أركسهم ردهم إلى الكفر وقال أبو عبيدة يقال ركست الشيء وأركسته لغتان إذا رددته والركس قلب الشيء على رأسه أورد أوله على آخره والارتكاس الارتداد قال أمية ... فاركسوا في حميم النار إنهم ... كانوا عصاة وقالوا الإفك الزورا ... ومن هذا يقال للروث الركس لأنه رد إلى حال النجاسة ولهذا المعنى سمي رجيعا والركس والنكس والمركوس والمنكوس بمعنى واحد قال الزجاج أركسهم نكسهم وردهم والمعنى أنه ردهم إلى حكم الكفار من الذل والصغار وأخبر سبحانه عن حكمه وقضائه فيهم وعدله وإن كان أركاسه كان بسبب كسبهم وأعمالهم كما قال بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون فهذا توحيده وهذا عدله لا ما تقوله القدرية المعطلة من أن التوحيد إنكار الصفات والعدل والتكذيب بالقدر فصل وأما التثبيط فقال تعالى ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين والتثبيط رد الإنسان عن الشيء الذي يفعله قال ابن عباس يريد خذلهم وكسلهم عن الخروج وقال في رواية أخرى حبسهم قال مقاتل واوحى إلى قلوبهم اقعدوا مع القاعدين وقد بين سبحانه حكمته في هذا التثبيط والخذلان قبل وبعد فقال إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين فلما تركوا الإيمان به بلقائه وارتابوا بما لا ريب فيه ولم يريدوا الخروج في طاعة الله ولم يستعدوا له ولا أخذوا أهبة ذلك كره سبحانه انبعاث من هذا شأنه فإن من لم يرفع به وبرسوله أو كتابه رأسا ولم يقبل هديته التي أهداها إليه على يد أحب ________________________________________ خلقه إليه وأكرمهم عليه ولم يعرف قدر هذه النعمة ولا شكرها بل بدلها كفرا فإن طاعة هذا وخروجه مع رسوله يكرهه الله سبحانه فثبطه لئلا يقع ما يكره من خروجه وأوحى إلى قلبه قدرا وكونا أن يقعد مع القاعدين ثم أخبر سبحانه عن الحكمة التي تتعلق بالمؤمنين في تثبيط هؤلاء عنهم فقال لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا و الخبال الفساد و الاضطراب فلو خرجوا مع المؤمنين لأفسدوا عليهم أمرهم فأوقعوا بينهم الاضطراب والاختلاف قال ابن عباس ما زادوكم الا خبالا عجزا و جبنا يعني يجبنوهم عن لقاء العدو بتهويل أمرهم و تعظيمهم في صدورهم ثم قال ولا وضعوا خلالكم أي أسرعوا في الدخول بينكم للتفريق والإفساد قال ابن عباس يريد ضعفوا شجاعتكم يعني بالتفريق بينهم لتفريق الكلمة فيجبنوا عن العدو وقال الحسن لا وضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات البين وقال الكلبي ساروا بينكم يبغونكم العيب قال لبيد ... أرانا موضعين لختم عيب ... وسحر بالطعام وبالشراب ... أي مسرعين ومنه قول عمر بن أبي ربيعة ... تبا لهن بالعرفان لما عرفني ... وقلن أمرؤ باغ أكل وأوضعا ... أي اسرع حتى كلت مطيته يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم قال قتادة وفيكم من يسمع كلامهم ويطيعهم وقال ابن إسحاق وفيكم قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم ومعناه على هذا القول وفيكم أهل سمع وطاعة لهم لو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم قلت فتضمن سماعين معنى مستجيبين وقال مجاهد وابن زيد والكلبي المعنى وفيكم عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم أي جواسيس والقول هو الأول كما قال تعالى سماعون للكذب أي قابلون له ولم يكن في المؤمنين جواسيس للمنافقين فان النافقين كانوا مختلطين بالمؤمنين ينزلون معهم ويرحلون ويصلون معهم ويجالسونهم ولم يكونوا متحيزين عنهم قد أرسلوا فيهم العيون ينقلون إليهم أخبارهم فإن هذا إنما يفعله من انحاز عن طائفة ولم يخالطها وأرصد بينهم عيونا ________________________________________ له فالقول قول قتادة وابن إسحاق أعلم فإن قيل انبعاثهم إلى طاعته طاعة له فكيف يكرهها وإذا كان سبحانه يكرهها فهو يحب ضدها لا محالة إذ كراهة أحد الضدين تستلزم محبة الضد الآخر فيكون قعودهم محبوبا له فكيف يعاقبهم عليه قيل هذا سؤال له شأن وهو من أكبر الأسئلة في هذا الباب وأجوبة الطوائف على حسب أصولهم فالجبرية تجيب عنه بأن أفعاله لا تعلل بالحكم والمصالح وكل ممكن فهو جائز عليه ويجوز أن يعذبهم على فعل ما يحبه ويرضاه وترك ما يبغضه ويسخطه والجميع بالنسبة إليه سواء وهذه الفرقة قد سدت على نفسها باب الحكمة والتعليل والقدرية تجيب عنه على أصولها بأنه سبحانه لم يثبطهم حقيقة ولم يمنعهم بل هم منعوا أنفسهم وثبطوها عن الخروج وفعلوا ما لا يريد ولما كان في خروجهم المفسدة التي ذكرها الله سبحانه ألقى في نفوسهم كراهة الخروج مع رسوله قالوا وجعل سبحانه إلقاء كراهة الانبعاث في قلوبهم كراهة مشيئة من غيره أن يكره هو سبحانه انبعاثهم فإنه أمرهم به قالوا وكيف يأمرهم بما يكرهه ولا يخفى على من نور الله بصيرته فساد هذين الجوابين وبعدهما من دلالة القرآن فالجواب الصحيح أنه سبحانه أمرهم بالخروج طاعة له ولأمره واتباعا لرسوله صلى الله عليه وسلم ونصرة له وللمؤمنين وأحب لك منهم ورضيه لهم دينا وعلم سبحانه أن خروجهم لو خرجوا لم يقع على هذا ________________________________________ الوجه بل يكون خروجهم خروج خذلان لرسوله وللمؤمنين فكان خروجا يتضمن خلاف ما يحبه ويرضاه ويستلزم وقوع ما يكرهه ويبغضه فكان مكروها له من هذا الوجه ومحبوبا له من الوجه الذي خرج عليه أولياؤه وهو يعلم أنه لا يقع منهم إلا على الوجه المكروه إليه فكرهه وعاقبهم على ترك الخروج الذي يحبه ويرضاه لا على ترك الخروج الذي يبغضه ويسخطه وعلى هذا فليس الخروج الذي كرهه منهم طاعة حتى لو فعلوه لم يثبهم عليه ولم يرضه منهم وهذا الخروج المكروه له ضدان أحدهما الخروج المرضي المحبوب وهذا الضد هو الذي يحبه والثاني التخلف عن رسوله والقعود عن الغزو معه وهذا الضد يبغضه ويكرهه أيضا وكراهته للخروج على الوجه الذي كانوا يخرجون عليه لا ينافي كراهته لهذاالضد فيقول للسائل قعودهم مبغوض له ولكن ههنا أمران مكروهان له سبحانه وأحدهما أكره له من الآخر لأنه أعظم مفسدة فإن قعودهم مكروه له وخروجهم على الوجه الذي ذكره أكره إليه ولم يكن لهم بد من أحد المكروهين إليه سبحانه فدفع المكروه الأعلى بالمكروه الأدنى فإن مفسدة قعودهم عنه أصغر من مفسدة خروجهم معه فإن مفسدة قعودهم تختص بهم ومفسدة خروجهم تعود على المؤمنين فتأمل هذا لموضع فإن قلت فهلا وفقهم للخروج الذي يحبه ويرضاه وهو الذي خرج عليه المؤمنون قلت قد تقدم جواب مثل هذا السؤال مرارا وأن حكمته سبحانه تأبى أن يضع التوفيق في غير محله وعند غيرأهله فالله أعلم حيث يجعل هداه وتوفيقه وفضله وليس كل محل يصلح لذلك ووضع الشيء في غير محله لا يليق بحكمته فإن قلت وعلى ذلك فهلا جعل المحال كلها صالحة قلت يأباه كمال ربوبيته وملكه وظهور آثار أسمائه وصفاته في الخلق والأمر وهو سبحانه لو فعل ذلك لكان محبوبا له فإنه يحب أن يذكر ويشكر ويضاع ويوحد ويعبد ولكن كان ذلك يستلزم فوات ما هو أحب إليه من استواء أقدام الخلائق في الطاعة والإيمان وهو محبته لجهاز أعدائه والانتقام منهم وإظهار قدر أوليائه وشرفهم ________________________________________ وتخصيصهم بفضله وبذل نفوسهم له في معاداة من عاداه وظهور عزته وقدرته وسطوته وشدة أخذه وأليم عقابه وأضعاف أضعاف هذه الحكم التي لا سبيل للخلق ولو تناهوا في العلم والمعرفة إلى الإحاطة بها ونسبة ما عقلوه منها إلى ما خفي عليهم كنقرة عصفور في بحر فصل وأما التزيين فقال تعالى وكذلك زينا لكل أمة عملهم وقال أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وقال وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فأضاف التزيين إليه منه سبحانه خلقا ومشيئة وحذف فاعله تارة ونسبة إلى سببه ومن أجراه على يده تارة وهذا التزيين سبحانه حسن إذ هو ابتلاء واختبار بعيد ليتميز المطيع منهم من العاصي والمؤمن من الكافر كما قال تعالى إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم احسن عملا وهو من الشيطان قبيح وأيضا فتزيينه سبحانه للعبد عمله السيئ عقوبة منه له على إعراضه عن توحيده وعبوديته وإيثار سيء العمل على حسنه فإنه لا بد أن يعرفه سبحانه الشيء من الحسن فإذا آثر القبيح واختاره وأحبه ورضيه لنفسه زينه سبحانه له وأعماه عن رؤية قبحه بعد أن رآه قبيحا وكل ظالم وفاجر وفاسق لا بد أن يريه الله تعالى ظلمه وفجوره وفسقه قبيحا فإذا تمادى عليه ارتفعت رؤية قبحه من قلبه فربما رآه حسنا عقوبة له فإنه إنما يكشف له عن قبحه بالنور الذي في قلبه وهو حجة الله عليه فإذا تمادى في غيه وظلمه ذهب ذلك النور فلم ير قبحه في ظلمات الجهل والفسوق والظلم ومع هذا فحجة الله قائمة عليه بالرسالة وبالتعريف الأول فتزيين الرب تعالى عدل وعقوبته حكمة وتزيين الشيطان إغواء وظلم وهو السبب الخارج عن العبد والسبب الداخل فيه حبه وبغضه وإعراضه والرب سبحانه خالق الجميع والجميع واقع بمشيئته وقدرته ولو شاء لهدى خلقه أجمعين والمعصوم من عصمه الله والمخذول من خذله الله ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين أهـ { شفاء العليل حـ1 صـ 85 ـ صـ 104 } ________________________________________ قوله تعالى { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت من حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون } شبه سبحانه أعداءه المنافقين بقوم أوقدوا نارا لتضيء لهم وينتفعوا بها فلما أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم ويضرهم وأبصروا الطريق بعد أن كانوا حيارى تائهين فهم كقوم سفر ضلوا عن الطريق فأوقدوا النار تضيء لهم الطريق فلما أضاءت لهم فأبصروا وعرفوا طفئت تلك الأنوار وبقوا في الظلمات لا يبصرون قد سدت عليهم أبواب الهدى الثلاث فإن الهدي يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب مما يسمعه باذنه ويراه بعينه ويعقله بقلبه وهؤلاء قد سدت عليهم أبواب الهدى فلا تسمع قلوبهم شيئا ولا تبصره ولا تعقل ما ينفعها وقيل لما لم ينتفعوا بأسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نزلوا بمنزلة من لا سمع له ولا بصر ولا عقل والقولان متلازمان وقال في صفتهم فهم لا يرجعون لأنهم قد رأوا في ضوء النهار وأبصروا الهدى فلما طفئت عنهم لم يرجعوا إلى ما رأوا وأبصروا وقال سبحانه وتعالى ذهب الله بنورهم ولم يقل ذهب نورهم وفيه سر بديع وهو انقطاع سر تلك المعية الخاصة التي هي للمؤمنين من الله تعالى فإن الله تعالى مع المؤمنين وإن الله مع الصابرين وإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون فذهاب الله بذلك النور انقطاع لمعيته التي خص بها أولياءه فقطعها بينه وبين المنافقين فلم يبق عندهم بعد ذهاب نورهم ولا معهم فليس لهم نصيب من قوله لا تحزن إن الله معنا ولا من كلا إن معي ربي سيهدين وتأمل قوله تعالى أضاءت من حوله كيف جعل ضوءها خارجا عنه منفصلا ولو اتصل ضوؤها به ولابسه لم يذهب ولكنه كان ضوءه مجاورة لا ملابسة ومخالطة وكان الضوء عارضا والظلمة أصلية فرجع الضوء إلى معدنه وبقيت الظلمة في معدنها فرجع كل منهما إلى أصله اللائق به حجة من الله قائمة وحكمة بالغة تعرف بها إلى أولي الألباب من عباده ________________________________________ وتأمل قوله تعالى ذهب الله بنورهم ولم يقل بنارهم ليطابق أول الآية فإن النار فيها إشراق وإحراق فذهب بما فيها من الإشراق وهو النور وأبقى عليهم ما فيها من الاحراق وهو النارية وتأمل كيف قال بنورهم ولم يقل بضوئهم مع قوله فلما أضاءت ما حوله لأن الضوء هو زيادة في النور فلو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة فقط دون الأصل فلما كان النور أصل الضوء كان الذهاب به ذهابا بالشيء وزيادته وأيضا فإنه أبلغ في النفي عنهم وأنهم من أهل الظلمات الذين لا نور لهم وايضا فإن الله تعالى سمى كتابه نورا ورسوله نورا ودينه نورا وهداه نورا ومن أسمائه النور والصلاة نور فذهابه سبحانه بنورهم ذهاب بهذا كله وتأمل مطابقة هذا المثل لما تقدمه من قوله أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين كيف طابق هذه التجارة الخاسرة التي تضمنت حصول الضلالة والرضى بها وبدل الهدى في مقابلتها وحصول الظلمات التي هي الضلالة والرضى بها بدلا عن النور الذي هو الهدى والنور فبدلوا الهدى والنور وتعوضوا عنه بالظلمة والضلالة فيا لها من تجارة ما أخسرها وصفقة ما أشد غبنها وتأمل كيف قال الله تعالى ذهب الله بنورهم فوحده ثم قال وتركهم في ظلمات فجمعها فإن الحق واحد وهو صراط الله المستقيم الذي لا صراط يوصل إليه سواه وهو عبادته وحده لا شريك له بما شرعه على لسان رسوله لا بالأهواء والبدع وطرق الخارجين عما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق بخلاف طرق الباطل فإنها متعددة متشعبة ولهذا يفرد سبحانه الحق ويجمع الباطل كقوله تعالى الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين ________________________________________ كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات وقال تعالى وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله فجمع سبل الباطل ووحد سبيل الحق ولا يناقض هذا قوله تعالى يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام فإن تلك هي طرق مرضاته التي يجمعها سبيله الواحد وصراطه المستقيم فإن طرق مرضاته كلها ترجع إلى صراط واحد وسبيل واحد وهو سبيله التي لا سبيل إليه إلا منها وقد صح عن النبي أنه خط خطا مستقيما وقال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ قوله تعالى وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصكم به لعلكم تتقون وقد قيل إن هذا مثل للمنافقين وما يوقدونه من نار الفتنة التي يوقعونها بين أهل الإسلام ويكون بمنزلة قول الله تعالى كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويكون قوله تعالى ذهب الله بنورهم مطابقا لقوله تعالى أطفأها الله ويكون تخييبهم وإبطال ما راموه هو تركهم في ظلمات الحيرة لا يهتدون إلى التخلص مما وقعوا فيه ولا يبصرون سبيلا بل هم صم بكم عمي وهذا التقدير وإن كان حقا ففي كونه مرادا بالآية نظر فإن السياق إنما قصد لغيره ويأباه قوله تعالى فلما أضاءت ما حوله وموقد نار الحرب لا يضيء ما حوله أبدا ويأباه قوله تعالى ذهب الله بنورهم وموقد نار الحرب لا نور له ويأباه قوله تعالى وتركهم في ظلمات لا يبصرون وهذا يقتضي أنهم انتقلوا من نور المعرفة والبصيرة إلى ظلمة الشك والكفر قال الحسن رحمه الله هو المنافق أبصر ثم عمي وعرف ثم أنكر ولهذا قال فهم لا يرجعون أي لا يرجعون إلى النور الذي فارقوه وقال تعالى في حق الكفار صم بكم عمي فهم لا يعقلون فسلب العقل عن الكفار إذ لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان وسلب الرجوع عن المنافقين لأنهم آمنوا ثم كفروا فلم يرجعوا إلى الإيمان ________________________________________ فصل في تفسير قوله تعالى أو كصيب من السماء ثم ضرب الله سبحانه لهم مثلا آخر مائيا فقال تعالى أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين فشبه نصيبهم مما بعث الله تعالى به رسوله من النور والحياة بنصيب المستوقد النار التي طفئت عنه أحوج ما كان إليها وذهب نوره وبقي في الظلمات حائرا تائها لا يهتدي سبيلا ولا يعرف طريقا وبنصيب أصحاب الصيب وهو المطر الذي يصوب أي ينزل من علو إلى أسفل فشبه الهدى الذي هدى به عباده بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر ونصيب المنافقين من هذا الهدي بنصيب من لم يحصل له نصيب من الصيب إلا ظلمات ورعد وبرق ولا نصيب له فيما وراء ذلك مما هو المقصود بالصيب من حياة البلاد والعباد والشجر والدواب وإن تلك الظلمات التي فيه وذلك الرعد والبرق مقصود لغيره وهو وسيلة إلى كمال الانتفاع بذلك الصيب فالجاهل لفرط جهله يقتصر على الاحساس بما في الصيب من ظلمة ورعد وبرق ولوازم ذلك من برد شديد وتعطيل مسافر عن سفره وصانع عن صنعته ولا بصيرة له تنفذ إلى ما يؤول إليه أمر ذلك الصيب من الحياة والنفع العام وهكذا شأن كل قاصر النظر ضعيف العقل لا يجاوز نظره الأمر المكروه الظاهر إلى ما وراءه من كل محبوب وهذه حال أكثر الخلق إلا من صحت بصيرته فإذا رأى ضعيف البصيرة ما في الجهاد من التعب والمشاق والتعرض لاتلاف المهجة والجراحات الشديدة وملامة اللوام ومعاداة من يخاف معاداته لم يقدم عليه لأنه لم يشهد ما يؤول إليه من العواقب الحميدة والغايات التي اليها تسابق المتسابقون وفيها تنافس المتنافسون ________________________________________ وكذلك من عزم على سفر الحج إلى البيت الحرام فلم يعلم من سفره ذلك إلا مشقة السفر ومفارقة الأهل والوطن ومقاساة الشدائد وفراق المألوفات ولا يجاوز نظره وبصيرته آخر ذلك السفر ومآله وعاقبته فإنه لا يخرج إليه ولا يعزم عليه وحال هؤلاء حال ضعيف البصيرة والايمان الذي يرى ما في القرآن من الوعد والوعيد والزواجر والنواهي والأوامر الشاقة على النفوس التي تفطمها عن رضاعها من ثدي المألوفات والشهوات والفطام على الصبي أصعب شيء وأشقه والناس كلهم صبيان العقول إلا من بلغ مبالغ الرجال العقلاء الألباء وأدرك الحق علما وعملا ومعرفة فهو الذي ينظر إلى ما وراء الصيب وما فيه من الرعد والبرق والصواعق ويعلم أنه حياة الوجود وقال الزمخشري لقائل أن يقول شبه دين الإسلام بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر وما يتعلق به من تشبه الكفار بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق وما يصيب الكفرة من الاقراع من البلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق والمعنى أو كمثل ذوي صيب والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة فلقوا منها ما لقوا قال والصحيح الذي عليه علماء أهل البيان لا يتخطونه إن المثلين جميعا من جهة التمثلات المتركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء بقدر شبهه فيه وهذا القول الفصل والمذهب الجزل بيانه أن العرب تأخذ شيئا فرادى معزولا بعضها من بعض لم تأخذ هذا بحجزة ذاك ________________________________________ فشبهها بنظائرها كما جاء في القرآن حيث شبه كيفية حاصله من مجموع أشياء قد تضامنت وتلاصقت حتى عادت شيئا واحدا بأخرى مثلها قوله تعالى مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا الغرض تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوراة وآياتها الباهرة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة وتساوي الحالين عند من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأحمال ولا يشعر ذلك إلا بما يريد فيه من الكد والتعب وكقوله تعالى واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كما أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح المراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء هذا النبات فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالافراد غير منوط بعضها ببعض وتصييرها شيئا واحدا فلا وكذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة فشبه حيرتهم وشدة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق قال فإن قلت أي المثلين أبلغ قلت الثاني لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته ولذلك أخر وهم يتدرجون في مثل هذا من الأهون إلى الأغلظ قلت قال شيخنا الناس في الهدى الذي بعث الله تعالى به رسوله أربعة أقسام قد اشتملت عليهم هذه الآيات من أول السورة إلى ههنا بيان أقسام الناس في الهدى القسم الأول من هؤلاء القسم الأول قبلوه باطنا وظاهرا وهم نوعان أحدهما أهل الفقه فيه والفهم والتعليم وهم الأئمة الذين عقلوا عن الله تعالى كتابه وفهموا مراده وبلغوه إلى الأمة واستنبطوا أسراره وكنوزه فهؤلاء مثل الأرض الطيبة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير فرعى الناس فيه ورعت أنعامهم وأخذوا من ذلك الكلأ الغذاء والقوت والدواء وسائر ما يصلح لهم ________________________________________ النوع الثاني حفظوه وضبطوه وبلغوا ألفاظه إلى الأمة فحفظوا عليهم النصوص وليسوا من أهل الاستنباط والنفقة في مراد الشارع فهم أهل حفظ وضبط وأداء لما سمعوه والأولون أهل فهم وفقه واستنباط وإثارة لدفائنه وكنوزه وهذا النوع الثاني بمنزلة الأرض التي أمسكت الماء للناس فوردوه وشربوا منه وسقوا منه أنعامهم وزرعوا به فصل في القسم الثاني من هؤلاء أيضا القسم الثاني من رده ظاهرا وباطنا وكفر به ولم يرفع به رأسا وهؤلاء أيضا نوعان أحدهما عرفه وتيقن صحته وأنه حق ولكن حمله الحسد والكبر وحب الرياسة والملك والتقدم بين قومه على جحده ودفعه بعد البصيرة واليقين النوع الثاني أتباع هؤلاء الذين يقولون هؤلاء ساداتنا وكبراؤنا وهم أعلم منا بما يقبلونه وما يردونه ولنا أسوة بهم ولا نرغب بأنفسنا عن أنفسهم ولو كان حقا لكانوا هم أهله وأولى بقبوله وهؤلاء بمنزلة الدواب والأنعام يساقون حيث يسوقهم راعيهم وهم الذين قال الله عز وجل فيهم إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار وقال تعالى فيهم يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا ________________________________________ السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا وقال تعالى فيهم وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد وقال فيهم هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار أي سننتموه لنا وشرعتموه قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار فقولهم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار أي داخلوها كما دخلناها ومقاسون عذابها كما نقاسيه فأجابهم الأتباع وقالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا وفي الضمير قولان أحدهما أنه ضمير الكفر والتكذيب ورد قول الرسل صلوات الله وسلامه عليهم واستبدال غيره به والمعنى أنتم زينتم لنا الكفر ودعوتمونا اليه وحسنتموه لنا وقيل على هذا القول إنه قول الأمم المتأخرين للمتقدمين والمعنى على هذا أنتم شرعتم لنا تكذيب الرسل ورد ما جاءوا به والشرك بالله سبحانه وتعالى أي بدأتم به وتقدمتمونا اليه فدخلتم النار قبلنا فبئس القرار أي بئس المستقر والمنزل والقول الثاني أن الضمير في قوله أنتم قدمتموه لنا ضمير العذاب وصلي النار والقولان متلازمان وهما حق وأما القائلون ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار فيجوز أن يكون الاتباع دعوا على سادتهم وكبرائهم وأئمتهم به لأنهم الذين حملوهم عليه ودعوهم اليه ويجوز أن يكون جميع أهل النار سألوا ربهم أن يزيد من سن لهم الشرك وتكذيب الرسل صلى الله عليهم وسلم ضعفا وهم الشياطين فصل في القسم الثالث من هؤلاء أيضا القسم الثالث الذين قبلوا ما جاء به الرسول وآمنوا به ظاهرا وجحدوه وكفروا به باطنا وهم المنافقون الذين ضرب لهم هذان المثلان بمستوقد النار وبالصيب وهم أيضا نوعان ________________________________________ أحدهما من أبصر ثم عمي وعلم ثم جهل وأقر ثم أنكر وآمن ثم كفر فهؤلاء رؤوس أهل النفاق وساداتهم وأئمتهم ومثلهم مثل من استوقد نارا ثم حصل بعدها على الظلمة والنوع الثاني ضعفاء البصائر الذين أعشى بصائرهم ضوء البرق فكاد أن يخطفها لضعفها وقوته وأصم أذنهم صوت الرعد فهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق ولا يقربون من سماع القرآن والايمان بل يهربون منه ويكون حالهم حال من يسمع الرعد الشديد فمن شدة خوفه منه يجعل أصابعه في أذنه وهذه حال كثير من خفافيش البصائر في كثير من نصوص الوحي وإذا وردت عليه مخالفة لما تلقاه عن أسلافه وذوي مذهبه ومن يحسن به الظن ورآها مخالفة لما عنده عنهم هرب من النصوص وكره من يسمعه إياها ولو أمكنه لسد أذنيه عند سماعها ويقول دعنا من هذه ولو قدر لعاقب من يتلوها ويحفظها وينشرها ويعلمها فإذا ظهر له منها ما يوافق ما عنده مشى فيها وانطلق فإذا جاءت بخلاف ما عنده أظلمت عليه فقام حائرا لا يدري أين يذهب ثم يعزم له التقليد وحسن الظن برؤسائه وسادته على اتباع ما قالوه دونها ويقول مسكين الحال هم أخبر بها مني وأعرف ________________________________________ فيا لله العجب أو ليس أهلها والذابون عنها والمنتصرون لها والمعظمون لها والمخالفون لأجلها آراء الرجال المقدمون لها على ما خالفها أعرف بها أيضا منك وممن اتبعته فلم كان من خالفها وعزلها عن اليقين وزعم أن الهدى والعلم لا يستفاد منها وأنها أدلة لفظية لا تفيد شيئا من اليقين ولا يجوز أن يحتج بها على مسألة واحدة من مسائل التوحيد والصفات ويسميها الظواهر النقلية ويسمى ما خالفها القواطع العقلية فلما كان هؤلاء أحق بها وأهلها وكان أنصارها والذابون عنها والحافظون لها هم أعداؤها ومحاربوها ولكن هذه سنة الله في أهل الباطل إنهم يعادون الحق وأهله وينسبونهم إلى معاداته ومحاربته كالرافضة الذين عادوا أصحاب النبي بل وأهل بيته ونسبوا أتباعه وأهل سنته إلى معاداته ومعاداة أهل بيته وما كانوا أولياءه إن أولياءه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون والمقصود أن هؤلاء المنافقين قسمان أئمة وسادة يدعون إلى النار وقد مردوا على النفاق وأتباع لهم بمنزلة الأنعام والبهائم فأولئك زنادقة مستبصرون وهؤلاء زنادقة مقلدون فهؤلاء أصناف بني آدم في العلم والإيمان ولا يجاوز هذه السنة اللهم إلا من أظهر الكفر وأبطن الايمان كحال المستضعف بين الكفارالذي تبين له الاسلام ولم يمكنه المهاجرة بخلاف قومه ولم يزل هذا الضرب في الناس على عهد رسول الله وبعده وهؤلاء عكس المنافقين من كل وجه وعلى هذا فالناس إما مؤمن ظاهرا وباطنا وإما كافرا ظاهرا وباطنا أو مؤمن ظاهرا كافر باطنا أو كافر ظاهرا مؤمن باطنا والأقسام الأربعة قد اشتمل عليها الوجود وقد بين القرآن أحكامها فالأقسام الثلاثة الأول ظاهرة وقد اشتمل عليها أول سورة البقرة فصل في القسم الرابع من هؤلاء أيضا ________________________________________ وأما القسم الرابع ففي قوله تعالى فلولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لهم تعلموهم أن تطؤهم فهؤلاء كانوا يكتمون إيمانهم في قومهم ولا يتمكنون من إظهاره ومن هؤلاء مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه ومن هؤلاء النجاشي الذي صلى عليه رسول الله فإنه كان ملك النصارى بالحبشة وكان في الباطن مؤمنا وقد قيل إنه وأمثاله الذين عناهم الله عز وجل بقوله وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل اليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا وقوله تعالى من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين فإن هؤلاء ليس المراد بهم التمسك باليهودية والنصرانية بعد محمد قطعا فإن هؤلاء قد شهد لهم بالكفر وأوجب لهم النار فلا يثنى عليهم بهذا الثناء وليس المراد به من آمن من أهل الكتاب ودخل في جملة المؤمنين وباين قومه فإن هؤلاء لا يطلق عليهم إنهم من أهل الكتاب إلا باعتبار ما كانوا عليه وذلك الاعتبار قد زال بالاسلام واستحدثوا اسم المسلمين والمؤمنين وإنما يطلق الله سبحانه هذا الاسم على من هو باق على دين أهل الكتاب هذا هو المعروف في القرآن كقوله تعالى يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ونظائره ولهذا قال جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك والحسن وقتادة أن قوله تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم أنها نزلت في النجاشي زاد الحسن وقتادة وأصحابه ________________________________________ وذكر ابن جرير في تفسيره من حديث أبي بكر الهذلي عن قتادة عن ابن المسيب عن جابر رضي الله عنه أن النبي قال اخرجوا فصلوا على أخيكم فصلى بنا فكبر أربع تكبيرات فقال هذا النجاشي أصحمة فقال المنافقون انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط فأنزل الله تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله الآية والمقصود أن الأقسام الأربعة قد ذكرها الله تعالى في كتابه وبين أحكامها في الدنيا وأحكامها في الآخرة وقد تبين أن أحد الأقسام من آمن ظاهرا وكفر باطنا وأنهم نوعان رؤساؤهم وساداتهم وأتباعهم ومقلدوهم وعلى هذا فأصحاب المثل الأول الناري شر من أصحاب المثل الثاني المائي كما يد السياق عليه وقد يقال وهو أولى أن المثلين لسائر النوع وإنهم قد جمعوا بين مقتضى المثل الأول من الانكار بعد الاقرار والحصول في الظلمات بعد النور وبين مقتضى المثل الثاني من ضعف البصيرة في القرآن وسد الآذان عند سماعه والاعراض عنه فإن المنافقين فيهم هذا وهذا وقد يكون الغالب على فريق منهم المثل الأول وعلى فريق منهم المثل الثاني فصل في بيان ما اشتمل عليه المثلان المتقدمان وقد اشتمل هذان المثلان على حكم عظيمة منها أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره لا من قبل نفسه فإذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة وهكذا المنافق لما أقر بلسانه من غير اعتقاد ومحبة بقلبه وتصديق جازم كان ما معه من النور كالمستعار ومنها أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة تحمله وتلك المادة للضياء بمنزلة غذاء الحيوان فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة من العلم النافع والعمل الصالح يقوم بها ويدوم بدوامها فإذا ذهبت مادة الإيمان طفيء كما تطفأ النار بفراغ مادتها ________________________________________ ومنها أن الظلمة نوعان ظلمة مستمرة لم يتقدمها نور وظلمة حادثة بعد النور وهي أشد الظلمتين وأشقهما على من كانت حظه فظلمة المنافق ظلمة بعد إضاءة فمثلت حاله بحال المستوقد للنار الذي حصل في الظلمة بعد الضوء وأما الكافر فهو في الظلمات لم يخرج منها قط ومنها أن في هذا المثل إيذانا وتنبيها على حالهم في الآخرة وأنهم يعطون نارا ظاهرا كما كان نورهم في الدنيا ظاهرا ثم يطفأ ذلك النور أحوج ما يكونون إليه إذ لم تكن له مادة باقية تحمله ويبقون في الظلمة على الجسر لا يستطيعون العبور فإنه لا يمكن أحدا عبوره إلا بنور ثابت يصحبه حتى يقطع الجسر فإن لم يكن لذلك النور مادة من العلم النافع والعمل الصالح وإلا ذهب الله تعالى به أحوج ما كان اليه صاحبه فطابق مثلهم في الدنيا بحالتهم التي هم عليها في هذه الدار وبحالتهم يوم القيامة عندما يقسم ومن ههنا يعلم السر في قوله تعالى ذهب الله بنورهم ولم يقل أذهب الله نورهم فإن أردت زيادة بيان وإيضاح فتأمل ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وقد سئل عن الورود فقال نجيء نحن يوم القيامة على تل فوق الناس قال فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأول فالأول ثم يأتينا ربنا تبارك وتعالى بعد ذلك فيقول من تنتظرون فيقولون ننتظر ربنا فيقول أنا ربكم فيقولون حتى ننظر إليك فيتجلى لهم يضحك قال فينطلق بهم فيتبعونه ويعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نورا ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله تعالى ثم يطفأ نور المنافقين ثم ينجو المؤمنون فينجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا لا يحاسبون ثم الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء ثم كذلك ثم تحل الشفاعة ويشفعون حتى يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة فيجعلون بفناء الجنة ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء وذكر باقي الحديث ________________________________________ فتأمل قوله فينطلق فيتبعونه ويعطى كل إنسان منهم نورا المنافق والمؤمن ثم تأمل قوله تعالى ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون وتأمل حالهم إذا طفئت أنوارهم فبقوا في الظلمة وقد ذهب المؤمنون في نور إيمانهم يتبعون ربهم عز وجل وتأمل قوله في حديث الشفاعة لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فيتبع كل مشرك إلهه الذي كان يعبده والموحد الحقيق بأن يتبع الاله الحق الذي كان كل معبود سواه باطل وتأمل قوله تعالى يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون وذكر هذه الآية في حديث الشفاعة في هذا الموضع وقوله في الحديث فيكشف عن ساقه وهذه الاضافة يتبين المراد بالساق المذكور في الآية وتأمل ذكر الانطلاق واتباعه سبحانه بعد هذا وذلك يفتح لك بابا من أسرار التوحيد وفهم القرآن ومعاملة الله سبحانه وتعالى لأهل توحيده الذين عبدوه وحده ولم يشركوا به شيئا هذه المعاملة التي عامل بمقابلتها أهل الشرك حيث ذهبت كل أمة مع معبودها فانطلق بها واتبعته إلى النار وانطلق المعبود الحق واتبعه أولياؤه وعابدوه فسبحان الله رب العالمين الذي قرت عيون أهل التوحيد به في الدنيا والآخرة وفارقوا الناس فيه أحوج ما كانوا اليهم ومنها أن المثل الأول متضمن لحصول الظلمة التي هي الضلال والحيرة التي ضدها الهدى والمثل الثاني متضمن لحصول الخوف الذي ضده الأمن فلا هدى ولا أمن الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون قال ابن عباس وغيره من السلف مثل هؤلاء في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة فاستضاء ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي في ظلمة خائفا متحيرا كذلك المنافقون باظهار كلمة الايمان أمنوا على أموالهم وأولادهم وناكحوا المؤمنين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم فذلك نورهم فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف ________________________________________ قال مجاهد إضاءة النار لهم إقبالهم إلى المسلمين والهدى وذهاب نورهم إقبالهم إلى المشركين والضلالة وقد فسرت تلك الإضاءة وذهاب النور بأنها في الدنيا وفسرت بالبرزخ وفسرت بيوم القيامة والصواب أن ذلك شأنهم في الدور الثلاثة فإنهم لما كانوا كذلك في الدنيا جوزوا في البرزخ وفي القيامة بمثل حالهم جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد فإن المعاد يعود على العبد فيه ما كان حاصلا له في الدنيا ولهذا يسمى يوم الجزاء ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ومن كان مستوحشا مع الله بمعصيته إياه في هذه الدار فوحشته معه في البرزخ يوم المعاد أعظم وأشد ومن قرت عينه به في هذه الحياة الدنيا قرت عينه به يوم القيامة وعند الموت ويوم البعث فيموت العبد على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه ويعود عليه عمله بعينه فينعم به ظاهرا وباطنا فيورثه من الفرح والسرور واللذة والبهجة وقرة العين والنعيم وقوة القلب واستبشاره وحياته وانشراحه واغتباطه ما هو أفضل النعيم وأجله وأطيبه وألذه وهل نعيم إلا طيب النفس وفرح القلب وسروره وانشراحه واستبشاره هذا وينشأ له من أعماله ما تشتهيه نفسه وتلذ عينه من سائر المشتهيات التي تشتهيها الأنفس وتلذها الأعين ويكون تنوع تلك المشتهيات وكمالها وبلوغها مرتبة الحسن والموافقة بحسب كمال عمله ومتابعته فيه وإخلاصه وبلوغه مرتبة الاحسان فيه وبحسب تنوعه فمن تنوعت أعماله المرضية المحبوبة له في هذه الدار تنوعت الأقسام التي يتلذذ بها في تلك الدار وتكثرت له بحسب تكثر أعماله هنا وكان مزيده بتنوعها والابتهاج بها والالتذاذ هناك على حسب مزيده من الأعمال وتنوعه فيها من هذه الدار ________________________________________ وقد جعل الله سبحانه لكل عمل من الأعمال المحبوبة له والمسخوطة أثرا وجزاء ولذة وألما يخصه لا يشبه أثر الآخر وجزاه ولهذا تنوعت لذات أهل الجنة وآلام أهل النار وتنوع ما فيهما من الطيبات والعقوبات فليست لذة من ضرب في كل مرضاة الله بسهم وأخذ منها بنصيب كلذة من أنمى سهمه ونصيبه في نوع واحد منها ولا ألم من ضرب في كل مسخوط لله بنصيب وعقوبته كألم من ضرب بسهم واحد من مساخطه وقد أشار النبي إلى أن كمال ما يستمتع به من الطيبات في الآخرة بحسب كمال ما قابله من الأعمال في الدنيا فرأى قنوا من حشف معلقا في المسجد للصدقة فقال إن صاحب هذا يأكل الحشف يوم القيامة فأخبر أن جزاءه يكون من جنس عمله فيجزى على تلك الصدقة بحشف من جنسها وهذا الباب يفتح لك أبوابا عظيمة من فهم المعاد وتفاوت الناس في أحواله وما يجري فيه من الأمور فمنها خفة حمل العبد على ظهره وثقله إذا قام من قبره فإنه بحسب خفة وزره وثقله إن خف خف وإن ثقل ثقل ومنها استظلاله بظل العرش أو ضحاؤه للحر والشمس إن كان له من الأعمال الصالحة الخالصة والايمان مما يظله في هذه الدار من حر الشرك والمعاصي والظلم استظل هناك في ظل أعماله تحت عرش الرحمن وإن كان ضاحيا هنا للمعاصي والمخالفات والبدع والفجور ضحى هناك للحر الشديد ومنها طول وقوفه في الموقف ومشقته عليه وتهوينه عليه إن طال وقوفه في الصلاة ليلا ونهارا لله وتحمل لأجله المشاق في مرضاته وطاعته خف عليه الوقوف في ذلك اليوم وسهل عليه وإن آثر الراحة هنا والدعة والبطالة والنعمة طال عليه الوقوف هناك واشتدت مشقته عليه وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا فاصبر لحكم ربك بكرة وأصيلا ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا فمن سبح الله ليلا طويلا لم يكن ذلك اليوم ثقيلا عليه بل كان أخف شيء عليه ________________________________________ ومنها أن ثقل ميزانه هناك بحسب تحمل ثقل عمل الحق في هذه الدار لا بحسب مجرد كثرة الأعمال وإنما يثقل الميزان باتباع الحق والصبر عليه وبذله إذا سئل وأخذه إذا بذل كما قال الصديق في وصيته لعمر رضي الله عنهما واعلم أن لله حقا بالليل لا يقبله بالنهار وله حق بالنهار لا يقبله بالليل واعلم أنه إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق وثقل ذلك عليهم ولا يستضيء به غيره ولا يمشي أحدا إلا في نور نفسه إن كان له نور مشى في نوره وإن لم يكن له نور أصلا لم ينفعه نور غيره ولما كان المنافق في الدنيا قد حصل له نور ظاهر غير مستمر ولا متصل بباطنه ولا له مادة من الإيمان أعطي في الآخرة نورا ظاهرا لا مادة له ثم يطفأ عنه أحوج ما كان إليه ومنها أن مشيهم على الصراط في السرعة والبطء بحسب سرعة سيرهم وبطئه على صراط الله المستقيم في الدنيا فأسرعهم سيرا هنا أسرعهم هناك وأبطأهم هنا أبطأهم هناك واشدهم ثباتا على الصراط المستقيم هنا أثبتهم هناك ومن خطفته كلاليب الشهوات والشبهات والبدع المضلة هنا خطفته الكلاليب التي كأنها شوك السعدان هناك ويكون تأثير كلاليب الشهوات والشبهات والبدع فيه هاهنا فناج مسلم ومخدوش مسلم ومخردل أي مقطع بالكلاليب مكردس في النار كما أثر فيهم تلك الكلاليب في الدنيا جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد ________________________________________ والمقصود أن الله تبارك وتعالى ضرب لعباده المثلين المائي والناري في سورة البقرة وفي سورة الرعد وفي سورة النور لما تضمن المثلان من الحياة والاضاءة فالمؤمن حي القلب مستنيره والكافر والمنافق ميت القلب مظلمه وقال الله تعالى أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس الآية وقال تعالى وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات فجعل من اهتدى بهداه واستنار بنوره بصيرا حيا في ظل يقيه من حر الشبهات والضلال والبدع والشرك مستنيرا بنوره والآخر أعمى ميتا في حر الكفر والشرك والضلال منغمسا في الظلمات وقال تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان الآية وقد اختلفوا في مفسر الضمير من قوله تعالى ولكن جعلناه نورا فقيل هو الايمان لكونه أقرب المذكورين وقيل هو الكتاب فإنه النور الذي هدى به عباده قال شيخنا والصواب أنه عائد على الروح المذكور في قوله تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا الآية فسمى وحيه روحا ________________________________________ لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح التي هي الحياة في الحقيقة ومن عدمها فهو ميت لا حي والحياة الأبدية السرمدية في دار النعيم هي ثمرة حياة القلب بهذا الروح الذي أوحى إلى رسوله فمن لم يحيا به في الدنيا فهو ممن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا وأعظم الناس حياة في الدور الثلاث دار الدنيا ودار البرزخ ودار الجزاء أعظمهم نصيبا من الحياة بهذه الروح وسماه روحا في غير موضع من القرآن كقوله تعالى رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق وقال تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن انذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون وسماه نورا لما يحصل به من استنارة القلوب وإضاءتها وكمال الروح بهاتين الصفتين بالحياة والنور ولا سبيل إليهما إلا على أيدي الرسل صلوات الله وسلامه عليهم والاهتداء بما بعثوا به وتلقي العلم النافع والعمل الصالح من مشكاتهم وإلا فالروح ميتة مظلمة وإن كان العبد مشارا إليه بالزهد والفقه والفضيلة والكلام في البحوث فإن الحياة والاستنارة بالروح الذي أوحاه الله تعالى إلى رسوله وجعله نورا يهدي به من يشاء من عباده وراء ذلك كله فليس العلم كثرة النقل والبحث والكلام ولكن نور يميز به صحيح الأقوال من سقيمها وحقها من باطلها وما هو من مشكاة النبوة مما هو من آراء الرجال ويميز النقد الذي عليه سكة أهل المدينة النبوية الذي لا يقبل الله عز وجل ثمنا لجنته سواه من النقد الذي عليه سكة جنكسخان ونوابه من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة وكل من اتخذ لنفسه سكة وضربا ونقدا يروجه بين العالم فهذه الأثمان كلها زيوف لا يقبل الله سبحانه وتعالى في ثمن جنته شيئا منها بل ترد على عاملها أحوج ما يكون اليها وتكون من الأعمال التي قدم الله تعالى عليها فجعلها هباء منثورا ولصاحبها نصيب وافر من قوله تعالى قل هل ننبئكم بالأخسرين ________________________________________ أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وهذا حال أرباب الأعمال التي كانت لغير الله عز وجل أو على غير سنة رسول الله وحال أرباب العلوم والأنظار التي لم يتلقوها عن مشكاة النبوة ولكن تلقوها عن زبالة أذهان الرجال وكناسة أفكارهم فاتبعوا قواهم وأفكارهم وأذهانهم في تقرير آراء الرجال والانتصار لهم وفهم ما قالوه وبثه في المجالس والمحاضر وأعرضوا عما جاء به الرسول صفحا ومن به رمق منهم يعيره أدنى التفات طلبا للفضيلة وإما تجريد اتباعه وتحكيمه وتفريغ قوى النفس في طلبه وفهمه وعرض آراء الرجال عليه ورد ما يخالفه منها وقبول ما وافقه ولا يلتفت إلى شيء من آرائهم وأقوالهم إلا إذا أشرقت عليها شمس الوحي وشهد لها بالصحة فهذا أمر لا تكاد ترى أحدا منهم يحدث به نفسه فضلا عن أن يكون أخيته ومطلوبه وهذا الذي لا ينجي سواه فوارحمتا لعبد شقي في طلب العلم واستفرغ فيه قواه واستعد فيه أوقاته وآثره على ما الناس فيه والطريق بينه وبين رسول الله مسدود وقلبه عن المرسل سبحانه وتعالى وتوحيده والانابة إليه والتوكل عليه والتنعم بحبه والسرور بقربه مطرود ومصدود وقد طاف عمره كله على أبواب المذاهب فلم يفز إلا بأخس المطالب سبحان الله إن هي والله إلا فتنة أعمت القلوب عن مواقع رشدها وحيرت العقول عن طرق قصدها تربى فيه الصغير وهرم عليه الكبير فظنت خفافيش الأبصار أنها الغاية التي تسابق إليها المتسابقون والنهاية التي تتنافس فيها المتنافسون وهيهات أين الظلام من الضياء وأين الثرى من كوكب الجوزاء وأين الحرور من الظلال وأين طريقة أصحاب اليمين من طريقة أصحاب الشمال وأين القول الذي لم تضمن لنا عصمة قائله بدليل معلوم من النقل المصدق عن القائل المعصوم وأين العلم ________________________________________ الذي سنده محمد بن عبد الله عن جبرائيل صلى الله عليه وسلم عن رب العالمين سبحانه وتعالى من الخوض الخرص الذي سنده شيوخ الضلال من الجهمية والمعتزلة وفلاسفة المشائين بل أين الآراء التي أعلى درجاتها أن تكون عند الضرورة سائغة الاتباع إلى النصوص النبوية الواجب على كل مسلم تحكيمها والتحاكم اليها في موارد النزاع وأين الآراء التي نهى قائلها عن تقليده فيها وحض على النصوص التي فرض على كل عبد أن يهتدي بها ويتبصر وأين الأقوال والآراء التي إذا مات أنصارها والقائمون بها فهي من جملة الأموات إلى النصوص التي لا تزول إلا إذا زالت الأرض والسموات لقد استبان والله الصبح لمن له عينان ناظرتان وتبين الرشد من الغي لمن له اذنان واعيتان لكن عصفت على القلوب أهوية البدع والشبهات والآراء المختلفات فأطفأت مصابيحها وتحكمت فيها أيدي الشهوات فاغلقت أبواب رشدها وأضاعت مفاتيحها وران عليها كسبها وتقليدها لآراء الرجال فلم تجد حقائق القرآن والسنة فيها منقذا وتمكنت فيها اسقام الجهل والتخليط فلم تنتفع معها بصالح الغذاء واعجبا جعلت غذاءها من هذه الآراء التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولم تقبل الاغتذاء بكلام الله تعالى ونص نبيه المرفوع واعجبا كيف اهتدت في ظلم الآراء إلى التمييز بين الخطأ فيها والصواب وعجزت عن الاهتداء بمطالع الأنوار ومشارقها من السنة والكتاب فأقرت بالعجز عن تلقي الهدى والعلم من مشكاة السنة والقرآن ثم تلقته من رأي فلان ورأي فلان سبحان الله ماذا حرم المعرضون عن نصوص الوحي واقتباس الهدى من مشكاتها من الكنوز والذخائر وماذا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر قنعوا بأقوال استنبطوها بمعاول الآراء فكرا وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زبرا وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا فاتخذوا الأجل ذلك القرآن مهجورا درست معالم القرآن في قلوبهم فليسوا يعرفونها ودثرت معاهدة عندهم فليسوا يعمرونها ________________________________________ ووقعت أعلامه من أيديهم فليسوا يرفعونها وأفلت كواكبه من آفاقهم فليسوا يبصرونها وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وعقدها فليسوا يثبتونها خلعوا نصوص الوحي عن سلطان الحقيقة وعزلوها عن ولاية اليقين وشنوا عليها غارات التحريف بالتأويلات الباطلة فلا يزال يخرج عليها من جيوشهم المخذولة كمين بعد كمين نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام فعاملوها بغير ما يليق بها من الاجلال والاكرام وتلقوها من بعيد ولكن بالدفع في صدورها والأعجاز ________________________________________ قال مالك عندنا من عبور وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز أنزلوا النصوص منزلة الخليفة العاجز في هذه الأزمان له السكة والخطبة وما له حكم نافذ ولا سلطان حرموا والله الوصول بخروجهم عن منهج الوحي وتضييع الأصول وتمسكوا باعجاز لا صدور لها فخانتهم أحرص ما كانوا عليها وتقطعت بهم أسبابهم أحوج ما كانوا اليها حتى إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور وتميز لكل قوم حاصلهم الذي حصلوه وانكشفت لهم حقيقة ما اعتقدوه وقدموا على ما قدموه وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وسقط في أيديهم عند الحصاد لما عاينوا غلة ما بذروه فيا شدة الحسرة عندما يعاين المبطل سعيه وكده هباء منثورا ويا عظم المصيبة عندما تبين بوارق آماله وأمانيه خلبا وغرورا فما ظن من انطوت سريرته على البدعة والهوى والتعصب للآراء بربه سبحانه وتعالى يوم تبلى السرائر وما عذر من نبذ كتاب الله وسنة رسوله وراء ظهره في يوم لا ينفع فيه الظالمين المعاذر أفيظن المعرض عن كتاب الله وسنة رسوله أن ينجو غدا بآراء الرجال ويخلص من مطالبة الله تعالى له بكثرة البحوث والجدال أو ضروب الأقيسة وتنوع الأشكال أو بالشطحات والمشارات وأنواع الخيال هيهات والله لقد ظن أكذب الظن ومنى نفسه أبين المحال وإنما ضمنت النجاة لمن حكم هدى الله تعالى على غيره وتزود التقوى وأتم بالدليل وسلك الصراط المستقيم واستمسك من التوحيد واتباع الرسول بالعروة الوثقة التي لا انفصام لها والله سميع عليم قوله تعالى { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون } ________________________________________ فتأمل جلالة المبشر ومنزلته وصدقه وعظمة من أرسله إليك بهذه البشارة وقدر ما بشرك به وضمنه لك على أسهل شيء عليك وأيسره وجمع سبحانه في هذه البشارة بين نعيم البدن بالجنات وما فيها من الأنهار والثمار ونعيم النفس بالأزواج المطهرة ونعيم القلب وقرة العين بمعرفة دوام هذا العيش أبد الآباد وعدم انقطاعه والأزواج جمع زوج والمرأة زوج للرجل وهو زوجها هذا هو الأفصح وهو لغة قريش وبها نزل القرآن كقوله أسكن أنت وزوجك الجنة ومن العرب من يقول زوجة وهو نادر لا يكادون يقولونه وأما المطهرة فإن جرت صفة على الواحد فيجرى صفة على جمع التكسير إجراء له مجرى جماعة كقوله تعالى مساكن طيبة وقرى ظاهرة ونظائره والمطهرة من طهرت من الحيض والبول والنفاس والغائط والمخاط والبصاق وكل قذر وكل أذى يكون من نساء الدنيا فظهر مع ذلك باطنها من الأخلاق السيئة والصفات المذمومة وطهر لسانها من الفحش والبذاء وطهر طرفها من أن تطمح به إلى غير زوجها وطهرت أثوابها من أن يعرض لها دنس أو وسخ قال عبد الله بن المبارك ثنا شعبة عن قتادة عن أبي نظرة عن أبي سعيد عن النبي لهم فيها أزواج مطهرة قال من الحيض والغائط والنخامة والبصاق وقال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس مطهرة لا يحضن ولا يحدثن ولا يتنخمن وقال ابن عباس أيضا مطهرة من القذر والأذى وقال مجاهد لا يبلن ولا يتغوطن ولا يمذين ولا يمنين ولا يحضن ولا يبصقن ولا يتنخمن ولا يلدن وقال قتادة مطهرة من الإثم والأذى طهرهن الله سبحانه من كل بول وغائط وقذر ومأثم وقال عبد الرحمن بن زيد المطهرة التي لا تحيض وأزواج الدنيا لسن بمطهرات ألا تراهن يدمين ويتركن الصلاة والصيام قال وكذلك خلقت حواء حتى عصت فلما عصت قال الله إني خلقتك مطهرة وسأدميك كما دميت هذه الشجرة وقال تعالى إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس واستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم بحور عين يدعون فيها بكل فاكهة آمنين لا ________________________________________ يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم ربهم عذاب الجحيم فجمع لهم بين حسن المنزل وحصول الأمن فيه من كل مكروه واشتماله على الثمار والأنهار وحسن اللباس وكمال العشرة لمقابلة بعضهم بعضا وتمام اللذة بالحور العين ودعائهم بجميع أنواع الفاكهة مع أمنهم من انقطاعها ومضرتها وغائلتها وختام ذلك أعلمهم بأنهم لا يذوقون فيها هناك موتا والحور جمع حوراء وهي المرأة الشابة الحسناء الجميلة البيضاء شديدة سواد العين وقال زيد بن أسلم الحوراء التي يحار فيها الطرف وعين حسان الأعين وقال مجاهد الحوراء التي يحار فيها الطرف من رقة الجلد وصفاء اللون وقال الحسن الحوراء شديدة بياض العين شديدة سواد العين واختلف في اشتقاق هذه اللفظة فقال ابن عباس الحور في كلام العرب البيض وكذلك قال قتادة الحور البيض وقال مقاتل الحور البيض الوجوه وقال مجاهد الحور العين التي يحار فيهن الطرف باديا مخ سوقهن من وراء ثيابهن ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون وهذا من الإتفاق وليست اللفظة مشتقة من الحيرة وأصل الحور البياض والتحوير التبييض والصحيح أن الحور مأخوذ من الحور في العين وهو شدة بياضها مع قوة سوادها فهو يتضمن الأمرين وفي الصحاح الحور شدة بياض العين في شدة سوادها امرأة حوراء بينة الحور وقال أبو عمرو الحور أن تسود العين كلها مثل أعين الظباء والبقر وليس في بني آدم حور وإنما قيل للنساء حور العين لأنهن شبهن بالظباء والبقر وقال الأصمعي ما أدري ما الحور في العين قلت خالف أبو عمرو أهل اللغة في اشتقاق اللفظة ورد الحور إلى السواد والناس غيره إنما ردوه إلى البياض أو إلى بياض في سواد والحور في العين معنى يلتئم من حسن البياض والسواد وتناسبهما واكتساب كل واحد منهما الحسن من الآخر عين حوراء إذا اشتد بياض أبيضها وسواد أسودها ولا تسمى المرأة حوراء حتى يكون مع حور عينها بياض لون الجسد والعين جمع عيناء وهي ________________________________________ العظيمة العين من النساء ورجل أعين إذا كان ضخم العين وامرأة عيناء والجمعت والجمع عين والصحيح أن العين اللاتي جمعت أعينهن صفات الحسن والملاحة قال مقاتل العين حسان الاعين ومن محاسن المرأة اتساع عينها في طول و ضيق العين في المرأة من العيون و إنما يستحب الضيق منها في أربعة مواضع فيها وخرق أذنها وانفها وما هنالك ويستحب السعة منها في أربعة مواضع ووجهها وصدرها وكأهلها وهو ما بين كتفيها وجبهتها ويستحسن البياض منها في أربعة مواضع لونها وفرقها وثغرها وبياض عينها ويستحب السواد منها في أربعة مواضع عينها وحاجبها وهدبها وشعرها ويستحب الطول منها في أربعة قوامها وعنقها وشعرها وبنانها ويستحب القصر منها في أربعة وهي معنوية لسانها ويدها ورجلها وعينها فتكون قاصر الطرف قصيرة الرجل واللسان عن الخروج وكثرة الكلام قصيرة اليد عن تناول ما يكره الزوج وعن بذله وتستحب الرقة منها في أربعة خصرها وفرقها وحاجبها وانفها فصل ________________________________________ وقوله تعالى وزوجناهم بحور عين قال أبو عبيدة جعلناهم أزواجا كما يزوج النعل بالنعل جعلناهم اثنين اثنين وقال يونس قرناهم بهن وليس من عقد التزويج قال والعرب لا تقول تزوجت بها و إنما تقول تزوجتها قال بن نصر هذا والتنزيل يدل على ما قاله يونس وذلك قوله تعالى فلما قضى زيدا منها وطرا زوجناكها ولو كان على تزوجت بها لقال زوجناك بها وقال ابن سلام تميم تقول تزوجت امرأة وتزوجت بها وحكها الكسائي أيضا وقال الأزهري تقول العرب زوجته امرأة وتزوجت امرأة وليس من كلامهم تزوجت بامرأة وقوله تعالى وزوجناهم بحور عين أي قرناهم وقال الفراء هي لغة في ازدشنؤة قال الواحدي وقال أبي عبيدة في هذا احسن لانه جعله من التزويج الذي هو بمعنى جعل الشيء زوجا لا بمعنى عقد النكاح ومن هذا يجوز أن يقال كان فردا فزوجته بآخر كما يقال شفعته بآخر و إنما تمتنع الباء عند من يمنعها إذا كان بمعنى عقد التزويج قلت ولا يمتنع أن يراد الأمران معا فلفظ التزويج يدل على النكاح كما قال مجاهد أنكحناهم الحور ولفظ الباء تدل على الاقتران والضم وهذا ابلغ من حذفها والله اعلم وقال تعالى فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن انس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان وصفهن سبحانه بقصر الطرف في ثلاثة مواضع ________________________________________ أحدها هذا والثاني قوله تعالى في الصافات وعندهم قاصرات الطرف عين والثالث قوله تعالى في ص وعندهم قاصرات الطرف أتراب والمفسرون كلهم على أن المعنى قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يطمحن إلى غيرهم وقيل قصرن طرف أزواجهن كلهن فلا يدعهم حسنهن وجمالهن أن ينظروا إلى غيرهن وهذا صحيح من جهة المعنى واما من جهةاللفظ فقاصرات صفة مضافة إلى الفاعل لحسان الوجوه واصله قاصر طرفهن أي لبس بطامح متعد قال آدم حدثنا ورقاء عن أبي نجيح عن مجاهد في قوله قاصرات الطرف قال يقول قاصرات الطرف على أزواجهن فلا يبغين غير أزواجهن قال آدم وحدثنا المبارك بن فضلة عن الحسن قال قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم والله ما هن متبرجات ولا متطلعات وقال منصور عن مجاهد قصرن أبصارهن وقلوبهن و أنفسهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم وفي تفسير سعيد عن قتادة قال وقصرن أطرافهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم و أما الأتراب فجمع ترب وهو لذة الإنسان قال أبو عبيدة و أبو إسحاق أقران أسنانهن واحدة قال ابن عباس وسائر المفسرين مستويات على سن واحد وميلاد واحد وبنات ثلاث وثلاثين سنة وقال مجاهد أتراب أمثال قال إسحاق هن في غاية الشباب والحسن وسمي سن الإنسان وقرنه تربه لانه مس تراب الأرض معه في وقت واحد والمعنى من الأخبار باستواء أسنانهن أنهن ليس فيهن عجائز قد فات حسنهن ولا ولائد لا يقطن الوطء بخلاف الذكور فان فيهم الولدان وهم الخدم وقد اختلف في مفسر الضمير في قوله فيهن فقالت طائفة مفسره الجنتان وما حوتاه من القصور والغرف والخيام وقالت طائفة مفسره الفرش المذكورة في قوله متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وفي بمعنى على وقوله تعالى لم يطمثهن انس قبلهن ولا جان قال أبو عبيدة لم يمسهن يقال ما طمث هذا البعير حبل قط أي ما مسه وقال يونس تقول العرب هذا جمل ما طمثه حبل قط أي ما مسه وقال الفراء الطمث الافتضاض وهو النكاح بالتدمية والطمث هو الدم وفيه لغتان طمث يطمث ________________________________________ ويطمث قال الليث طمثت الجارية إذا افتر عتها والطامث في لغتهم هي الحائض قال أبو الهيثم يقال للمرأة طمثت تطمث إذا أدميت بالافتضاض وطمثت على فعلت تطمث إذا حاضت أول ما تحيض فهي طامث وقال في قول الفرزدق خرجن إلى لم يطمثن قبلي ... وهن اصح من بيض النعام أي لم يمسسن قال المفسرون لم يطأهنولم يغشهن يجاملهم ولم يغشين ولم يجامعن هذه ألفاظهم وهم مختلفون في هؤلاء فبعضهم يقول هن اللواتي أنشئن في الجنة من حورها وبعضهم يقول يعني نساء الدنيا أنشئن خلقا آخر ابكارا كما وصفن قال الشعبي نساء من نساء الدنيا لم يمسسن منذ انشئن خلقا وقال مقاتل لأنهن خلقن في الجنة وقال عطاء عن ابن عباس هن الآدميات اللاتي متن أبكارا وقال الكلبي لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه انس ولا جان قلت ظاهر القران أن هؤلاء النسوة لسن من نساء الدنيا وانما هن من الحور حور العين و أما نساء الدنيا فقد طمثهن الإنس ونساء الجن قد طمثهن الجن والاية تدل على ذلك قال أبو إسحاق وفي الآية دليل على أن الجن يغشي كما أن الأنس يغشى ويدل على أنهن الحور اللاتي خلقن في الجنة انه سبحانه جعلهن مما أعده الله في الجنة لأهلها من الفاكهة والثمار و الأنهار والملابس وغيرها ويدل عليه أيضا الآية التي بعدها وهي قوله تعالى حور مقصورات في الخيام ثم قال لم يطمثن انس قبلهم ولا جان قال الإمام احمد والحور العين لا يمتن عند النفخة للصور لأنهن خلقن للبقاء وفي الآية دليل لما ذهب إليه الجمهور أن مؤمن الجن في الجنة كما أن كافرهم في النار وبوب عليه البخاري في صحيحه فقال باب ثواب الجن وعقابهم ونص عليه غير واحد من السلف قال ضمرة بن حبيب وقد سئل هل للجن ثواب فقال نعم وقرا هذه الآية ثم قال الإنسيات للإنس والجنيات للجن وقال مجاهد في هذه الآية إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على احليله فجامع معه والضمير في قوله قبلهم للمعنيين بقوله متكئين وهم أزواج هؤلاء النسوة ________________________________________ وقوله كأنهم الياقوت والمرجان قال الحسن وعامة المفسرين أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان شبههن في صفاء اللون وبياضه وبالياقوت والمرجان ويدل عليه ما قاله عبد الله ان المرأة من النساء أهل الجنة لتلبس عليها سبعين حلة من حرير فيرى بياض ساقيها من ورائهن ذلك بان الله يقول كأنهن الياقوت والمرجان إلا وان الياقوت حجر لو جعلت فيه سلكا ثم استصفيته نظرت إلى السلك من وراء الحجر فصل وقال تعالى في وصفهن حور مقصورات في الخيام المقصورات المحبوسات قال أبو عبيدة خدرن في الخيام وكذلك قال مقاتل وفيه معنى آخر وهو ان يكون المراد أنهن محبوسات على أزواجهن لا يرون غيرهم وهم في الخيام وهذا معنى قول من قال قصرن على أزواجهن فلا يردن غيرهم ولا يطمحن إلى من سواهم وذكره الفراء قلت وهذا معنى قاصرات الطرف ولكن أولئك قاصرات بأنفسهن وهؤلاء مقصورات وقوله في الخيام على هذا القول صفة لحور أي هن في الخيام وليس معمولا لمقصورات وكأن ارباب هذا القول فسروا بان يكن محبوسات في الخيام وليس لا تفارقنها إلى الغرف والبساتين و أصحاب القول الأول يجيبون عن هذا بان الله سبحانه وصفهن بصفات النساء المخدرات المصونات وذلك اجمل في الوصف ولا يلزم من ذلك أنهن لا يفارقن الخيام إلى الغرف والبساتين كما أن النساء الملوك ودونهم من النساء المخدرات المصونات لا يمنعن ان يخرجن في سفر و غيره إلى منتزه وبستان ونحوه فوصفهن اللازم لهن القصر في البيت ويعرض لهن مع الخدم الخروج إلى البساتين ونحوها و أما مجاهد فقال مقصورات قلوبهن على أزواجهن في خيام اللؤلؤ وقد تقدم وصف النسوة الأول بكونهن قاصرات الطرف وهؤلاء بكونهن مقصورات والوصفان لكلا النوعين فانهما صفتا كمال فتلك الصفة قصر الطرف عن طموحه إلى غير الأزواج وهذه الصفة قصر الرجل على التبرج والبروز والظهور للرجال فصل ________________________________________ وقال تعالى فيهن خيرات حسان فالخيرات جمع خيرة وهي مخففة من خيره كسيدة ولينة وحسان جمع حسنة فهن خيرات الصفات والاخلاق والشيم وحسان الوجوه قال وكيع حدثنا سفيان عن جابر عن القاسم عن ابي بزة عن ابي عبيدة عن مسروق عن عبد الله قال لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة ولكل خيمة اربعة ابواب يدخل عليها في كل يوم من كل باب تحفة وهدية وكرامة لم تكن قبل ذلك لا ترحات ولا ذفرات ولا بخرات ولا صماحات فصل وقال تعالى انا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا وأترابا لاصحاب اليمين أعاد الضمير إلى النساء ولم يجر لهن ذكر لان الفرش دلت عليهن اذ هي محلهن ________________________________________ 155 - وقيل الفرش في قوله وفرش مرفوعة كناية عن النساء كما يكنى عنهن بالقوارير و الأزر وغيرها ولكن قوله مرفوعة يأبى هذا إلا أن يقال المراد رفعة القدر وقد تقدم تفسير النبي للفرش وارتفاعها فالصواب أنها الفرش نفسها ودلت على النساء لأنها محلهن غالبا قال قتادة وسعيد بن جبير خلقناهن خلقا جديدا وقال ابن عباس يريد نساء الآدميات وقال الكلبي ومقاتل يعني نساء أهل الدنيا العجز الشمط يقول تعالى خلقناهن بعد الكبر والهرم وبعد الخلق الأول في الدنيا ويؤيد هذا التفسير حديث انس المرفوع هن عجائزكم العمش الرمض رواه الثوري عن موسى بن عبيدة عن يزيد الرقاشي عنه ويؤيده ما رواه يحيى الحماني حدثنا ابن إدريس عن ليث عن مجاهد عن عائشة أن رسول دخل عليها وعندها عجوز فقال من هذه فقالت إحدى خالاتي قال إما انه لا يدخل الجنة العجوز فدخل على العجوز من ذلك ما شاء الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم انا أنشأناهن إنشاء خلقا آخر يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا واول من يكسى ابراهيم خليل الله ثم قرا النبي صلى الله عليه وسلم انا انشاناهن انشاء قال ادم بن ابي اياس حدثنا شيبان عن الزهري عن جابر الجعفي عن يزيد بن مرة عن سلمة بن يزيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله انا أنشأناهن إنشاء قال يعني الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا قال ادم وحدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة العجز فبكت عجوز فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اخبروها انها يومئذ ليست بعجوز انها يومئذ شابة ان الله عز وجل يقول انا أنشأناهن إنشاء وقال ابن ابي شيبة حدثنا احمد بن طارق حدثنا مسعدة بن اليسع حدثنا سعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن سعيد ابن المسيب عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته عجوز من الأنصار فقالت يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم إن الجنة ________________________________________ لا يدخلها عجوز فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم فصلى ثم رجع إلى عائشة فقالت عائشة لقد لقيت من كلمتك مشقة وشدة فقال صلى الله عليه وسلم أن ذلك كذلك إن الله تعالى إذا أدخلهن الجنة حولهن أبكارا وذكر مقاتل قولا آخر وهو اختيار الزجاج إنهن الحور العين التي ذكرهن قيل انشأهن الله عز 156 - وجل لأوليائهم لهم يقع عليهن ولادة والظاهر أن المراد أنشأهن الله تعالى في الجنة إنشاء ويدل عليه وجوه أحدها انه قد قال في حق السابقين يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب إلى قوله كأمثال اللؤلؤ المكنون فذكر سردهم و آنيتهم وشرابهم وفاكهتهم وطعامهم و أزواجهم والحور العين ثم ذكر أصحاب الميمنة وطعامهم وشرابهم وفراشهم ونساءهم والظاهر انهن مثل نساء من قبلهم خلقن في الجنة الثاني أنه سبحانه قال أنشأناهن إنشاء وهذا ظاهر انه إنشاء أول لا ثان لانه سبحانه حيث يريد الإنشاء الثاني يقيده بذلك كقوله وان عليه النشأة الأخرى وقوله ولقد علمتم النشأة الأولى الثالث إن الخطاب بقوله وكنتم أزواجا إلى آخر للذكور و الإناث و النشأة الثانية أيضا عامة للنوعين وقوله انا أنشأناهن إنشاء ظاهره اختصاصهن بهذا الإنشاء و تأمل تأكيده بالمصدر والحديث لا يدل على اختصاص العجائز المذكورات بهذا الوصف بل يدل على مشاركتهن للحور العين في هذه الصفات المذكورة فلا يتوهم انفراد الحور العين عنهن بما ذكر من الصفات بل هي احق به منهن فالانشاء واقع على الصنفين والله اعلم وقوله عربا جمع عروب وهن المتحببات إلى ازواجهن قال ابن الاعرابي العروب من النساء المطيعة لزوجها المتحببة اليه وقال ابو عبيدة العروب الحسنة التبعل قلت يريد حسن مواقعها وملاطفتها لزوجها عند الجماع وقال المبرد هي العاشقة لزوجها وانشد للبيد وفي الحدوج عروب غير فاحشة ... ريا الروادف يعشي دونها البصر ________________________________________ وذكر لمفسرون في تفسير العرب انهن العواشق المتحببات الغنجات الشكلات المتعشقات الغلمات المغنوجات كل ذلك من الفاظهم وقال البخاري في صحيحه عربا مثقلة واحدها عروب مثل صبور وصبر وتسميها أهل مكة العربة وأهل المدينة الغنجة وأهل العراق الشكلة والعرب والمتحببات إلى ازواجهن هكذا ذكره في كتاب بدء الخلق وقال في كتاب التفسير في سورة الواقعة عربا مثقلة واحدها عروب مثل صبور وصبر تسميها أهل مكة العربة و أهل المدينة الغنجة وأهل العراق الشكلة قلت فجمع سبحانه بين حسن صورتها وحسن عشرتها وهذا غاية ما يطلب من النساء وبه تكمل لذة الرجل بهن وفي قوله لم يطمثهن انس قبلهم ولا جان إعلام بكمال اللذة بهن فان لذة الرجل بالمرأة التي لم يطاها سواه لها فضل على لذته بغيرها وكذلك هي أيضا أهـ { حادى الأرواح حـ صـ 149 ـ صـ157 } فصل وأما الأزواج فجمع زوج وقد يقال زوجة والأول أفصح وبها جاء القرآن قال تعالى يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة البقرة 35 وقال تعالى في حق زكريا عليه السلام وأصلحنا له زوجه الأنبياء 90 ومن الثاني قول ابن عباس رضي الله عنهما في عائشة رضي الله عنها إنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة وقال الفرزدق وإن الذي يبغي ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستبيلها وقد يجمع على زوجات وهذا إنما هو جمع زوجة وإلا فجمع زوج أزواج قال تعالى هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون يس 56 وقال تعالى أنتم وأزواجكم تحبرون الزخرف 70 وقد وقع في القرآن الإخبار عن أهل الإيمان بلفظ الزوج مفردا وجمعا كما تقدم وقال تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم الأحزاب 6 وقال تعالى يا أيها النبي قل لأزواجك الأحزاب 59 والإخبار عن أهل الشرك بلفظ المرأة قال تعالى تبت يدا أبي لهب إلى قوله وامرأته حمالة الحطب المسد 1 4 ________________________________________ وقال تعالى ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط التحريم 10 فلما كانتا مشركتين أوقع عليهما اسم المرأة وقال في فرعون وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون التحريم 11 لما كان هو المشرك وهي مؤمنة لم يسمها زوجا له وقال في حق آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وقال للنبي إنا أحللنا لك أزواجك الأحزاب 50 وقال في حق المؤمنين ولهم فيها أزواج مطهرة البقرة 25 فقالت طائفة منهم السهيلي وغيره إنما لم يقل في حق هؤلاء الأزواج لأنهن لسن بأزواج لرجالهم في الآخرة ولأن التزويج حلية شرعية وهو من أمر الدين فجرد الكافرة منه كما جرد منها امرأة نوح وامرأة لوط ثم أورد السهيلي على نفسه قول زكريا عليه السلام وكانت امرأتي عاقرا مريم 5 وقوله تعالى عن إبراهيم فأقبلت امرأته في صرة الذاريات 29 وأجاب بأن ذكر المرأة أليق في هذه المواضع لأنه في سياق ذكر الحمل والولادة فذكر المرأة أولى به لأن الصفة التي هي الأنوثة هي المقتضية للحمل والوضع لا من حيث كانت زوجا قلت ولو قيل إن السر في ذكر المؤمنين ونسائهم بلفظ الأزواج أن هذا اللفظ مشعر بالمشاكلة والمجانسة والاقتران كما هو المفهوم من لفظه فإن الزوجين هما الشيئان المتشابهان المتشاكلان أو المتساويان ومنه قوله تعالى احشروا الذين ظلموا وأزواجهم الصافات 22 قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أزواجهم أشباههم ونظراؤهم وقاله الإمام أحمد أيضا ومنه قوله تعالى وإذا النفوس زوجت التكوير 7 أي قرن بين كل شكل وشكله في النعيم والعذاب قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذه الآية الصالح مع الصالح في الجنة والفاجر مع الفاجر في النار وقاله الحسن وقتادة والأكثرون وقيل زوجت أنفس المؤمنين بالحور العين وأنفس الكافرين بالشياطين وهو راجع إلى القول الأول ________________________________________ قال تعالى ثمانية أزواج الأنعام 143 ثم فسرها من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين الأنعام 143 144 فجعل الزوجين هما الفردان من نوع واحد ومنه قولهم زوجا خف وزوجا حمام ونحوه ولا ريب أن الله سبحانه وتعالى قطع المشابهة والمشاكلة بين الكافر والمؤمن قال تعالى لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة الحشر 20 وقال تعالى في حق مؤمني أهل الكتاب وكافرهم ليسوا سواء من أهل الكتاب الآية آل عمران 113 وقطع المقارنة سبحانه بينهما في أحكام الدنيا فلا يتوارثان ولا يتناكحان ولا يتولى أحدهما صاحبه فكما انقطعت الوصلة بينهما في المعنى انقطعت في الاسم فأضاف فيها المرأة بلفظ الأنوثة المجرد دون لفظ المشاكلة والمشابهة وتأمل هذا المعنى تجده أشد مطابقة لألفاظ القرآن ومعانيه ولهذا وقع على المسلمة امرأة الكافر وعلى الكافرة امرأة المؤمن لفظ المرأة دون الزوجة تحقيقا لهذا المعنى والله أعلم وهذا أولى من قول من قال إنما سمى صاحبة أبي لهب امرأته ولم يقل لها زوجته لأن أنكحة الكفار لا يثبت لها حكم الصحة بخلاف أنكحة أهل الإسلام فإن هذا باطل بإطلاقه اسم المرأة على امرأة نوح وامرأة لوط مع صحة ذلك النكاح وتأمل في هذا المعنى في آية المواريث وتعليقه سبحانه التوارث بلفظ الزوجة دون المرأة كما في قوله تعالى ولكم نصف ما ترك أزواجكم النساء 12 إيذانا بأن هذا التوارث إنما وقع بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب والمؤمن والكافر لا تشاكل بينهما ولا تناسب فلا يقع بينهما التوارث وأسرار مفردات القرآن ومركباته فوق عقول العالمين أهـ { جلاء الأفهام صـ 229 ـ صـ 233 } الباب الثاني في اختلاف الناس في الجنة التي أسكنها آدم عليه الصلاة ________________________________________ والسلام وأهبط منها هل هي جنة الخلد أو جنة أخرى غيرها في موضع عال من الأرض قال منذر أبن سعيد في تفسير قوله تعالى أسكن أنت وزوجك الجنة فقالت طائفة أسكن الله آدم جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة وقال آخرون هي جنة غيرها جعلها الله له وأسكنه إياها ليست جنة الخلد قال وهذا قول تكثر الدلائل الشاهدة له والموجبة للقول به وقال أبو الحسن الماوردي في تفسيره واختلف الناس في الجنة التي أسكناها على قولين أحدهما أنها جنة الخلد الثاني أنها جنة أعدها الله تعالى لهما وجعلها ابتلاء وليست هي جنة الخلد التي جعلها دار جزاء ومن قال بهذا اختلفوا فيه قولين أحدهما أنها في السماء لأنه أهبطهما منها وهذا قول الحسن الثاني أنها في الأرض لأنه امتحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نهيا عنها دون غيرها من الثمار وهذا قول أبن بحر وكان ذلك بعد أن أمر إبليس بالسجود لآدم عليه الصلاة والسلام والله اعلم بصواب ذلك هذا كلامه وقال ابن الخطيب في تفسيره المشهور واختلفوا في الجنة المذكورة في هذه الآية هل كانت في الأرض أو في السماء وبتقدير أنها كانت في السماء فهل هي الجنة التي هي دار الثواب وجنة الخلد أو جنة أخرى فقال ابو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصبهاني هذه الجنة في الأرض وجملا الأهباط على الأنتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله أهبطوا مصرا واحتجا عليه بوجوده القول الثاني وهو قول الجبائي أن تلك الجنة التي كانت في السماء السابعة والقول الثالث وهو قول جمهور أصحابنا أن هذه الجنة هي دار الثواب وقال أبو القاسم الراغب في تفسيره واختلف في الجنة التي أسكنها آدم فقال بعض المتكلمين كان بستانا جعله الله تعالى له امتحانا ولم يكن جنة المآوى وذكر بعض الاستدلال على القولين وممن ذكر الخلاف أيضا أبو عيسى الرماني في تفسيره واختار أنها جنة الخلد ثم قال والمذهب الذي إخترناه قول الحسن وعمرو وواصل واكثر أصحابنا وهو قول أبي علي وشيخنا ________________________________________ أبي بكر وعليه أهل التفسير وأختار أبن الخطيب التوقف في المسألة وجعله قولا رابعا فقال والقول الرابع أن لكل ممكن والإدلة متعارضة فوجب التوقف وترك القطع قال منذر بن سعيد والقول بإنها جنة في الأرض ليست جنة الخلد قول أبي حنيفة وأصحابه قال وقد رأيت أقواما نهضوا لمخالفتنا في جنة آ4دم عليه السلام بتصويب مذهبهم من غير حجة إلا الدعاوي والأماني ما أتوا بحجة من كتاب ولا سنة ولا اثر عن صاحب ولا تابع ولا تابع التابع ولا موصولا ولا شاذا مشهورا وقد أوجدناهم أن فقيه العراق ومن قال بقوله قالوا أن جنة آدم ليست جنة الخلد وهذه الدواوين مشحونة من علومهم ليسوا عند أحد من الشاذين بل بين رؤساء المخالفين وإنما قلت هذا ليعلم اني لا انصر مذهب أبي حنيفة وإنما أنصر ما قام لي عليه الدليل من القرآن والسنة هذا أبن زيد المالكي يقول في تفسيره سألت أبن نافع عن الجنة أمخلوقة هي فقال السكوت عن الكلام في هذا أفضل وهذا أبن عيينة يقول في قوله عز وجل إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى قال يعني في الأرض وابن نافع وامام وأبن عيينة امام وهو لا يأتوننا بمثلهما ولا من يضاد قوله لهما وهذا ابن قتيبة ذكر في كتاب المعارف بعد ذكره خلق الله لآدم وزوجه قال ثم تركتهما وقال أثمروا واكثروا وأملؤا الأرض وتسلطوا على انوان البحور وطير السماء والأنعام وعشب الأرض وشجرها وثمرها فأخبر ان في الرض خلقه وفيها امره ثم قال ونصب الفردوس فانقسم على أربعة أنهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات ثم ذكر الحية فقال وكانت أعظم دواب البر فقالت للمراة أنكالا تموتان إن أكلتما من هذه الشجرة ثم قال بعد كلام ثم اخرجه من مشرق جنة عدن إلى الأرض التي منها أخذ ثم قال قال وهب وكان مهبطه حين أهبط من جنة عدن في شرقي أرض الهند قال واحتمل قابيل أخاه حتى اتى به واديا من اودية اليمن في شرقي عدن فكمن فيه وقال غيره فيما نقل أبو صالح عن أبن عباس في قوله أهبطوا هو كما يقال هبط ________________________________________ فلان أرض كذا وكذا قال منذر بن سعيد فهذا وهب بن منبه يحكي أن آدم عليه السلام خلق في الأرض وفيها سكن وفيها نصب له الفردوس وإنه كان بعدن وإن أربعة أنهار أنقسمت من ذلك النهر الذي كان يسمى فردوس آدم وتلك الأنهار بقيت في الأرض لاختلاف بين المسلمين في ذلك فاعتبروا يا اولي الألباب وأخبر ان الحية التي كلمت آدم كانت من أعظم دواب البر ولم يقل من أعظم دواب السماء فهم يقولون إن الجنة لم تكن في الأرض وإنما كانت فوق السماء السابعة ثم قال وأخرجه من مشرق جنة عدن وليس في جنة المآوى مشرق ولا مغرب لأنه لا شمس فيها ثم قال وأخرجه إلى الأرض التي اخذ منها يعني أخرجه من الفردوس الذي نصب له في عدن في شرقي أرض الهند وهذه الأخبار التي حكى ابن قتيبة إنما تنبئ عن أرض اليمن وعن عدن وهي من أرض اليمن وأخبر أن الله نصب الفردوس لآدم عليه السلام بعدن ثم أكد ذلك بأن قال أربعة الأنهار التي ذكرناها منقسمة عن النهر الذي كان يسمى فردوس آدم قال منذر وقال ابن قتيبة عن ابن منبه عن أبي هريرة قال واشتهى آدم عند موته قطفا من الجنة التي كان فيها بزعمهم على ظهر السماء السابعة وهو في الأرض فخرج أولاده يطلبون ذلك له حتى بلغتهم الملائكة موته فأولاد آدم كانوا مجانين عندكم إن كان ما نقله إبن قتيبة حقا يطلبون لابيهم ثمر جنة الخلد في الأرض قال ونحن لم نقل غير ما قال هؤلاء ولو كانت جنة الخلد فيها ونحن استدللنا من القرآن وغيرنا قطع وادعى بما ليس له عليه برهان فهذا ذكر بعض أقوال من حكى الخلاف في هذه المسئلة ونحن نسوق حجج الفريقين إن شاء الله تعالى ونبين لهم ما لهم وما عليهم الباب الثالث في سياق حجج من اختار أنها جنة الخلد التي يدخلها الناس ________________________________________ يوم القيامة قالوا قولنا هذا هو الذي فطر الله عليه الناس صغيرهم وكبيرهم لم يخطر بقلوبهم سواه وأكثرهم لا يعلم في ذلك نزاعا قالوا وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك عن أبي حازم عن أبي هريرة وأبي مالك عن ربعي عن حذيفة قالا قال رسول الله يجمع الله تعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم عليه السلام فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم وذكر الحديث قالوا وهذا يدل على أن الجنة التي أخرج منها هي بعينها التي يطلب منه أن يستفتحها وفي الصحيحين حديث احتجاج آدم وموسى وقول موسى أخرجتنا ونفسك من الجنة ولو كانت في الأرض فهم قد خرجوا من بساتين فلم يخرجوا من الجنة وكذلك قول آدم للمؤمنين يوم القيامة وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم وخطيئته لم تخرجهم من جنات الدنيا قالوا وقد قال تعالى في سورة البقرة وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما ________________________________________ كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين فهذا يدل على أن هبوطهم كان من الجنة إلى الأرض من وجهين أحدهما من لفظة اهبطوا فإنه نزول من علو إلى اسفل والثاني قوله ولكم في الأرض مستقر عقب قوله اهبطوا فدل على أنهم لم يكونوا قبل ذلك في الأرض ثم أكد هذا بقوله في سورة الأعراف قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون ولو كانت الجنة في الأرض لكانت حياتهم فيها قبل الأخراج وبعد قالوا وقد وصف سبحانه جنة آدم بصفات لا تكون إلا في جنة الخلد فقال إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنت لا تظمأ فيها ولا تضحى وهذا لا يكون في الدنيا أصلا فأن الرجل ولو كان أطيب منازلها لا بد أن يعرض له شيء من ذلك وقابل سبحانه بين الجوع والظمأ والعرى والضحى فإن الجوع ذل الباطن والعري ذل الظاهر والظمأ حر الباطن والضحى حر الظاهر فنفى عن سكانها ذل الظاهر والباطن وحر الظاهر والباطن وذلك احسن من المقابلة بين الجوع والعطش والعري والضحى وهذا شأن ساكن جنة الخلد قالوا وأيضا فلو كانت تلك الجنة في الدنيا لعلم آدم كذب إبليس في قوله هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فإن آدم كان يعلم إن الدنيا منقضية فانية وإن ملكها يبلى قالوا وأيضا هذه القصة في سورة البقرة ظاهرة جدا في أن الجنة التي اخرج منها فوق السماء فإنه سبحانه قال وإذا قلنا للملائكة أسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم فهذا اهباط آدم وحواء وإبليس من الجنة فلهذا أتى فيه بضمير الجمع وقد قيل إن الخطاب لهما وللحية وهذا ضعيف جدا إذ لا ذكر للحية في شيء من قصة آدم ولا في السياق ________________________________________ ما يدل عليها وقيل الخطاب لآدم وحواء وأتى فيه بضمير الجمع كقوله وكنا لحكمهم شاهدين وهما داود وسليمان وقيل لآدم وحواء وذريتهما وهذه الأقوال ضعيفة غير الأول لأنها قول لا دليل عليه بين ما يدل اللفظ على خلافه فثبت أن إبليس داخل في هذا الخطاب وانه من المهبطين فإذا تقرر هذا فقد ذكر سبحانه الإهباط ثانيا بقوله قلنا إهبطوا منها جميعا فأما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والظاهر أن هذا الأهباط الثاني في غير الأول وهو اهباط من السماء إلى الأرض والأول اهباط من الجنة وحينئذ فتكون الجنة التي اهبط منها أولا فوق السماء جنة الخلد وقد ظن الزمخشري أن قوله اهبطوا منها جميعا خطاب لآدم وحواء خاصة وعبر عنهما بالجمع لاستتباعهما ذرياتهما قال والدليل عليه قوله تعالى قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو قال ويدل على ذلك قوله فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم ومعنى قوله بعضكم لبعض عدو ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم بعضا وهذا الذي اختاره أضعف الأقوال في الاية فإن العداوة التي ذكرها الله تعالى إنما هي بين آدم وإبليس وذريتهما كما قال الله تعالى إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا وهو سبحانه قد أكد أمر العداوة بين الشيطان والإنسان واعاد وأبدى ذكرها في القرآن لشدة الحاجة إلى التحرز من هذا العدو وأما آدم وزوجته فإنه إنما أخبر في كتابه أنه خلقها ليسكن إليها وجعل بينهما مودة ورحمة فالمودة والرحمة بين الرجل وامرأته والعداوة بين الإنسان والشيطان وقد تقدم ذكر آدم وزوجه وإبليس وهو ثلاثة فلماذا يعود الضمير على بعض المذكور مع منافرته لطريق الكلام دون جميعه مع أن اللفظ والمعنى يقتضيه فلم يصنع الزمخشري شيئا وأما قوله تعالى في سورة طه قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو وهذا خطاب لآدم ________________________________________ وحواء وقد جعل بعضهم لبعض عداوا فالضمير في قوله اهبطا منها أما أن يرجع إلى آدم وزوجته أو إلى آدم وإبليس ولم يذكر الزوجة لأنها تبع له وعلى هذا فلعداوة المذكورة للمتخاطبين بالاهباط وهما آدم وإبليس فالأمر ظاهر وأما على الأول فتكون الآية قد اشتملت على أمرين أحدهما أمره تعالى لا لآدم وزوجه بالهبوط والثاني إخباره بالعداوة بين آدم وزوجته وبين إبليس ولهذا أتى الضمير الجمع في الثاني دون الأول ولا بد أن يكون إبليس داخلا في حكم هذه العداوة قطعا كما قال تعالى إن هذا عدو لك ولزوجك وقال للذرية إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا وتأمل كيف اتفقت المواضع التي فيها ذكر العداوة على ضمير ________________________________________ الجمع دون التثنية وأما الاهباط فتارة يذكره بلفظ الجمع وتارة بلفظ التثنية وتارة بلفظ الأفراد كقوله في سورة الأعراف قال اهبط منها وكذلك في سورة ص وهذا لإبليس وحده وحيث ورد بصيغة الجمع فهو لآدم وزوجه وإبليس إذ مدار القصة عليهم وحيث ورد بلفظ التثنية فأما أن يكون لآدم وزوجه اذهما اللذان باشرا الأكل من الشجرة وأقدما على المعصية وإما أن يكون لآدم وإبليس اذ هما أبوا الثقلين وأصلا الذرية فذكر حالهما ومآل أمرهما ليكون عظة وعبرة لأولادهما وقد حكيت القولين في ذلك والذي يوضح أن الضمير في قوله اهبطا منها جميعا لآدم وإبليس إن الله سبحانه لما ذكر المعصية أفرد بها آدم دون زوجه فقال وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعا وهذا يدل على أن المخاطب بالاهباط هو آدم ومن زين له المعصية ودخلت الزوجة تبعا فإن المقصود إخبار الله تعالى للثقلين بما جرى على أبويهما من شؤم المعصية ومخالفة الأمر فذكر أبويهما أبلغ في حصول هذا المعنى من ذكر أبوي الإنس فقط وقد اخبر سبحانه عن الزوجة بأنها أكلت مع آدم وأخبر أنه اهبطه وأخرجه من الجنة بتلك الأكلة فعلم أن حكم الزوجة كذلك وأنها صارت إلى ما صار إليه آدم وكان تجريد العناية إلى ذكر حال أبوي الثقلين أولى من تجريده إلى ذكر أبي الأنس وأمهم فتأمله ________________________________________ وبالجملة فقوله اهبطوا بعضكم لبعض عدو ظاهر في الجمع فلا يسوغ حمله على الأثنين في قوله اهبطا من غير موجب قالوا وأيضا فالجنة جاءت معرفة بلام التعريف في جميع المواضع كقوله أسكن أنت وزوجك الجنة ونظائره ولا جنة يعهدها المخاطبون ويعرفونها الأجنة الخلد التي وعد الرحمن عباده بالغيب فقد صار هذا الاسم علما عليها بالغلبة كالمدينة والنجم والبيت والكتاب ونظائرها فحيث ورد لفظها معرفا انصرف إلى الجنة المعهودة المعلومة في قلوب المؤمنين وأما أن أريد به جنة غيرها فإنها تجيء منكرة أو مقيدة بالإضافة أو مقيدة من السياق بما يدل على أنها جنة في الأرض فالأول كقوله جنتين من أعناب والثاني كقوله ولولا إذ دخلت جنتك والثالث كقوله أنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة قالوا مما يدل على أن جنة آدم هي جنة المآوى ما روى هوذة بن خليفة عن عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى الأشعري قال إن الله تعالى لما أخرج آدم من الجنة زوده من ثمار الجنة وعلمه صنعة كل شيء فثماركم هذه من ثمار الجنة غير إن هذه تتغير وتلك لا تتغير قالوا وقد ضمن الله سبحانه وتعالى له إن تاب إليه وأناب أن يعيده إليها كما روى المنهال عن سعيد أبن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه قال يا رب ألم تخلقني بيدك قال بلى قال أي رب ألم تنفخ في من روحك قال بلى قال أي رب ألم تسكني جنتك قال بلى قال أي رب ألم تسبق رحمتك غضبك قال بلى قال أرأيت أن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة قال بلى قال فهو قوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه وله طرق عن ابن عباس وفي بعضها كان آدم قال لربه إذا عصاه رب أن أنا تبت وأصلحت فقال له ربه إني راجعك إلى الجنة فهذا بعض ما احتج به القائلون بأنها جنة الخلد ونحن نسوق حجج الآخرين الباب الرابع في سياق حجج الطائفة التي قالت ليست جنة الخلد وإنما هي ________________________________________ جنة في الأرض قالوا هذا قول تكثر الدلائل الموجبة للقول به فنذكر بعضها قالوا قد أخبر الله سبحانه على لسان جميع رسله أن جنة الخلد أنما يكون الدخول إليها يوم القيامة ولم يأت زمن دخولها بعد وقد وصفها الله سبحانه وتعالى لنا في كتابة بصفاتها ومحال أن يصف الله سبحانه وتعالى شيئا بصفته ثم يكون ذلك الشيء بغير تلك الصفة التي وصفه بها قالوا فوجدنا الله تعالى وصف الجنة التي اعدت للمتقين بإنها دار المقامة فمن دخلها أقام بها ولم يقم آدم بالجنة التي دخلها ووصفها بإنها جنة الخلد وآدم لم يخلد فيها ووصفها بأنها دار ثواب وجزاء لا دار تكليف وأمر ونهى ووصفها بأنها دار سلامة مطلقة لا دار ابتلاء وامتحان وقد ابتلى آدم فيها بأعظم الابتلاء ووصفها بأنها دار لا يعصي الله فيها أبدا وقد عصى آدم ربه في جنته التي دخلها ووصفها بأنها ليست دار خوف ولا حزن وقد حصل للأبوين فيها من الخوف والحزن ما حصل وسماها دار السلام ولم يسلم فيها الأبوان من الفتنة ودار القرار ولم يستقر فيها وقال في داخلها وما هم منها بمخرجين وقد اخرج منها الأبوان وقال لا يمسهم فيها نصب وقد ند فيها آدم هاربا فارا وطفق يخصف ورق الجنة على نفسه وهذا النصب بعينه وأخبر أنه لالغو فيها ولا تأثيم وقد سمع فيها آدم لغو إبليس وإثمه وأخبر أنه لا يسمع فيها لغو ولا كذاب وقد سمع فيها آدم عليه السلام كذب ________________________________________ إبليس وقد سماها الله سبحانه وتعالى مقعد صدق وقد كذب فيها إبليس وحلف على كذبه وقد قال تعالى للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ولم يقل إني جاعل في جنة المأوى فقالت الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ومحال أن يكون هذا في جنة المأوى وقد أخبر الله تعالى عن إبليس إنه قال لآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فإن كان الله سبحانه وتعالى قد اسكن آدم جنة الخلد والملك الذي لا يبلى فكيف لم يرد عليه ويقول له كيف تدلني على شيء أنا فيه وقد أعطيته ولم يكن الله سبحانه وتعالى قد اخبر آدم إذ أسكنه الجنة أنه فيها من الخالدين ولو علم أنها دار الخلد لما ركن إلى قول إبليس ولا مال إلى نصيحته ولكنه لما كان في غير دار خلود غره بما أطعمه فيه من الخلد قالوا ولو كان أدم أسكن جنة الخلد وهي دار القدس التي لا يسكنها إلا طاهر مقدس فكيف توصل إليها إبليس الرجس النجس المذموم المدحور حتى فتن فيها أدم عليه السلام ووسوس له وهذه الوسوسة إما أن تكون في قلبه وإما أن تكون في أذنه وعلى التقديرين فكيف توصل اللعين إلى دخول دار المتقين وأيضا فبعد أن قيل له اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها أيفسح له أن يرقى إلى جنة المأوى فوق السماء السابعة بعد السخط عليه والأبعاد له والزجر والطرد بعتوه واستكباره وهل هذا يلائم قوله فما يكون لك أن تتكبر فيها فإن كانت مخاطبته لآدم بما خاطبه به وقاسمه عليه ليست تكبرا فما التكبر بعد هذا فإن قلتم فلعل وسوسته وصلت إلى الأبوين وهو في الأرض وهما فوق السماء في عليين فهذا غير معقول لغة ولا حسا ولا عرفا وإن زعمتم انه دخل في بطن الحية حتى أوصل إليهما الوسوسة فأبطل وأبطل إذ كيف يرتقي بعد الاهباط إلى أن يدخل الجنة ولو في بطن الحية وإذا قلتم إنه دخل في قلوبهما ووسوس إليهما فالمحذور قائم وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى حكى مخاطبته لهما كلاما سمعاه شفاها فقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة ________________________________________ وهذا دليل على مشاهدته لهما وللشجرة ولما كان آدم خارجا من الجنة وغير ساكن فيها قال الله تعالى له ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ولم يقل عن هذه الشجرة فعندما قال لهما ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة لما أطعمها في ملكها والخلود في مقرها أتى باسم الإشارة بلفظ الحضور تقريبا لها وإحضارا لها عندهما وربهما تعالى قال لهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ولما اراد إخراجهما منها فأتى باسم الإشارة بلفظ البعد والغيبة كأنهما لم يبق لهما من الجنة حتى ولا مشاهدة الشجرة التي نهيا عنها وأيضا فإنه سبحانه قال إليه يصعد الكلم الطيب ووسوسة اللعين من اخبث الكلم فلا تصعد إلى محل القدس قال منذر وقد روى عن النبي أن آدم عليه السلام نام في جنته وجنة الخلد لا نوم فيها بالنص وإجماع المسلمين فإن النبي سئل أيتام أهل الجنة في الجنة قال لا النوم أخو الموت والنوم وفاة وقد نطق به القرآن والوفاة تقلب حال ودار السلام مسلمة من تقلب الأحوال والنائم ميت أو كالميت قلت الحديث الذي أشار إليه المعروف أنه موقوف من رواية أبن أبي نجيح عن مجاهد قال خلقت حواء من قصيري آدم وهو نائم وقال أسباط عن السدي أسكن آدم عليه السلام الجنة وكان يمشي فيها وحشا ليس له زوج يسكن إليها فنام نومه فاستيقظ فإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه فسألها ما انت قالت امرأة قال ولم خلقت قالت لتسكن إلى وقال ابن إسحاق عن ابن عباس ألقى الله على آدم عليه السلام السنة ثم اخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ولأم مكانه لحما وآدم نائم لم يهب من نومته حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء فسواها امرأة يسكن إليها فلما كشف عنه السنة وهب من نومته رآها إلى جنبه فقال لحمي ودمي وروحي فسكن إليها قالوا ولا نزاع إن الله سبحانه وتعالى خلق آدم في الأرض ولم يذكر في موضع واحد أصلا أنه نقله إلى السماء بعد ذلك ولو كان قد نقله ذلك إلى السماء لكان هذا أولى بالذكر لأنه من اعظم الآيات ________________________________________ ومن اعظم النعم عليه فإنه كان معراجا ببدنه وروحه من الأرض إلى فوق السموات قالوا وكيف ينقله سبحانه ويسكنه فوق السماء وقد اخبر ملائكته أنه جاعله في الأرض خليفة وكيف يسكنه دار الخلد التي من دخلها خلد فيها ولا يخرج منها قال تعالى وما هم فيها بمخرجين قالوا ولم يكن معنا في المسألة إلا أن الله سبحانه أهبط إبليس من السماء حين امتنع من السجود لآدم عليه السلام وهذا أمر تكوين لا يمكن وقوع خلافه ثم أدخل آدم عليه السلام والجنة بعد هذا فإن الأمر بالسجود كان عقب خلقه من غير فصل فلو كانت الجنة فوق السموات لم يكن لإبليس سبيل إلى صعوده ________________________________________ إليها وقد أهبط منها وأما تلك التقادير التي قدرتموها فتكلفات ظاهرة كقول من قال يجوز أن يصعد إليها صعودا عارضا لا مستقرا وقول من قال أدخلته الحية وقول من قال دخل في أجوافها وقول من قال يجوز أن تصل وسوسته إليها وهو في الأرض وهما فوق السماء ولا يخفى ما في ذلك من التعسف الشديد والتكلف البعيد وهذا بخلاف قولنا فإنه سبحانه لما أهبطه من ملكوت السماء حيث لم يسجد لآدم عليه السلام أشرب عداوته فلما أسكنه جنته حسده عدوه وسعى بكيده وغروره في إخراجه منها والله أعلم وقالوا ومما يدل على أن جنة آدم لم تكن جنة الخلد التي وعد المتقون أن الله سبحانه لما خلقه أعلمه أن لعمره أجلا ينتهي إليه وأنه لم يخلقه للبقاء كما روى الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله لما خلق الله آدم عليه السلام ونفخ فيه الروح عطس فقال الحمد لله فحمد الله بأذنه فقال ربه يرحمك الله يا آدم أذهب إلى أولئك الملائكة إلى ملأ منهم جلوس فقال السلام عليكم قالوا وعليك السلام الخ ثم رجع إلى ربه فقال إن هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم فقال الله له ويداه مقبوضتان أختر أيهما شئت فقال أخترت يمين ربي وكلتا يديه يمين مباركة ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته فقال يا رب ما هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فإذا كل إنسان مكتوب بين عينيه عمره فأذا فيهم رجل أضوؤهم قال يا رب من هذا قال هذا ابنك داود قد كتبت له عمرا أربعين سنة قال يا رب زده في عمره قال ذلك الذي كتبت له قال اي رب فاني قد جعلت له من عمري ستين سنة قال أنت وذلك قال ثم اسكن الجنة ما شاء الله ثم اهبط منها فكان آدم عليه السلام يعد لنفسه قال فأتاه ملك الموت فقال له آدم قد عجلت قد كتبت إلى ألف سنة قال بلى ولكنك جعلت لأبنك داود ستين سنة فجحد فجحدت ذريته ونسي فنسيت ذريته قال فمن يومئذ أمر بالكتاب والشهود قال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه وقد روى من غير وجه عن ابي هريرة قالوا فهذا صريح في أن آدم ________________________________________ عليه السلام لم يخلق في دار البقاء التي لا يموت من دخلها وإنما خلق في دار الفناء التي جعل الله تعالى لها ولسكانها أجلا معلوما وفيها اسكن فإن قيل فإذا كان آدم عليه السلام قد علم أن له عمرا مقدرا وأجلا ينتهي إليه وإنه ليس من الخالدين فكيف لم يعلم كذب إبليس في قوله هل أدلك على شجرة الخلد وقوله أو تكونا من الخالدين فالجواب من وجهين أحدهما أن الخلد لا يستلزم الدوام والبقاء بل هو المكث الطويل كما سيأتي الثاني أن إبليس لما حلف له وغره وأطعمه في الخلود نسي ما قدر له من عمره قالوا وأيضا فمن المعلوم الذي لا ينازع فيه مسلم أن الله سبحانه خلق آدم عليه السلام من تربة هذه الأرض وأخبر أنه خلقه من سلالة من طين وأنه خلقه من صلصال من حمأ مسنون فقيل هو الذي له صلصلة لبيسة وقيل هو الذي تغيرت رائحته من قولهم صل اللحم إذا تغير والحمأ الطين الأسود المتغير والمسنون المصبوب وهذه كلها أطوار للتراب الذي هو مبدؤه الأول كما أخبر عن أطوار خلق الذرية من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ولم يخبر سبحانه وتعالى أنه رفعه من الأرض إلى فوق السموات لا قبل التحليق ولا بعده فأين الدليل الدال على إصعاد مادته أو إصعاده هو بعد خلقه وهذا ما لا دليل لكم عليه ولا هو لازم من لوازم ما اخبر الله به وقالوا من المعلوم أن ما فوق السموات ليس بمكان للطين الأرضي المتغير الرائحة الذي قد انتن من تغيره وإنما محل هذه الأرض التي هي محل المتغيرات الفاسدات وأما ما فوق الأفلاك فلا يلحقه تغير ولا نتن ولا فساد ولا استحالة فهذا أمر لا يرتاب فيه العقلاء قالوا وقد قال الله تعالى وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ فأخبر سبحانه أن عطاء جنة الخلد غير مجذوذ قالوا فإذا جمع ما أخبر به سبحانه من أنه خلقه من الأرض وجعله خليفة في الأرض وإن إبليس وسوس إليه في مكانه الذي أسكنه فيه بعد ان أهبطه من ________________________________________ السماء بامتناعه من السجود له وانه أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفة وان دار الخلد دار جزاء وثواب على الامتحان والتكاليف وإنه لا لغو فيها ولا تأثيم ولا كذاب وأن من دخلها لا يخرج منها ولا ييأس ولا يحزن ولا يخاف ولا ينام وان الله حرمها على الكافرين وإبليس رأس الكفر فإذا جمع ذلك بعضه إلى بعض وفكر فيه المنصف الذي رفع له علم الدليل فشمر إليه بنفسه عن حضيض التقليد تبين له الصواب والله الموفق فلو لم يكن في المسألة إلا أن الجنة ليست دار تكليف وقد كلف الله سبحانه الأبوين بينهما عن الأكل من الشجرة فدل على أنها دار تكليف لا جزاء وخلد فهذا أيضا بعض ما احتجت به هذه الفرقة على قولها والله أعلم الباب الخامس في جواب أرباب هذا القول لأصحاب القول الأول قالوا أما قولكم إن قولنا هو الذي فطر الله عليه عباده بحيث لا يعرفون سواه فالمسألة سمعية لا تعرف إلا بأخبار الرسل ونحن وأنتم أنما تلقينا هذا من القرآن لا من ________________________________________ المعقول ولا من الفطرة فالمتبع فيه ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله ونحن نطالبكم بصاحب واحد أو تابع أو أثر صحيح او حسن بأنها جنة الخلد التي أعدها الله للمؤمنين بعينها ولن تجدوا إلى ذلك سبيلا وقد اوجدناكم من كلام السلف ما يدل على خلافه ولكن لما وردت الجنة مطلقة في هذه القصة ووافقت أسم الجنة التي اعدها الله لعباده في أطلاقها وبعض اوصافها فذهب كثير من الأوهام إلى أنها هي بعينها فإن أردتم بالفطرة هذا القدر لم يفدكم شيئا وإن أردتم أن الله فطر الخلق على ذلك كما فطرهم على حسن العدل وقبح الظلم وغير ذلك من الأمور الفطرية فدعوى باطلة ونحن إذا رجعنا إلى فطرنا لم نجد علمها بذلك كعلمها بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات وأما استدلالكم بحديث أبي هريرة رضي الله عنه وقول آدم وهل أخرجكم منها إلا خطيئة أبيكم فأنما يدل على تأخر آدم عليه السلام عن الاستقباح للخطيئة التي قد تقدمت منه في دار الدنيا وأنه بسبب تلك الخطيئة حصل له الخروج من الجنة كما في اللفظ الآخر أني نهيت عن أكل الشجرة فأكلت منها فأين في هذا ما يدل على أنها جنة المأوى بمطابقة أو تضمن أو استلزام وكذلك قول موسى له أخرجتنا ونفسك من الجنة فإنه لم يقل له أخرجتنا من جنة الخلد وقولكم أنهم خرجوا إلى بساتين من جنس الجنة التي في الأرض فاسم الجنة وأن أطلق على تلك البساتين فبينها وبين جنة آدم ما لا يعلمه إلا الله وهي كالسجن بالنسبة إليها واشتراكهما في كونهما في الأرض لا ينفي تفاوتهما أعظم تفاوت في جميع الأشياء وأما استدلالكم بقوله تعالى وقلنا أهبطوا عقيب إخراجهم من الجنة فلفظ الهبوط لا يستلزم النزول من السماء إلى الأرض غايته أن يدل على النزول من مكان عال إلى أسفل منه وهذا غير منكر فإنها كانت جنة في أعلى الأرض فاهبطوا منها إلى الأرض وقد بينا أن الأمر كان لآدم عليه السلام وزوجه وعدوهما فلو كانت الجنة في السماء لما كان عدوهما متمكنا منها بعد ________________________________________ اهباطه الأول لما أبى السجود لآدم عليه السلام فالآية أيضا من أظهر الحجج عليكم ولا تغني عنكم وجوه التعسفات والتكلفات التي قدرتموها وقد تقدمت وأما قوله تعالى ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين فهذا لا يدل على أنهم لم يكونوا قبل ذلك في الأرض فإن الأرض اسم جنس وكانوا في أعلاها وأطيبها وأفضلها في محل لا يدركهم فيه جوع ولا عرى ولا ظمأ ولا ضحى فاهبطوا إلى أرض يعرض فيها ذلك كله وفيها حياتهم وموتهم وخروجهم من القبور والجنة التي اسكناها لم تكن دار نصب ولا تعب ولا أذى والأرض التي اهبطوا إليها هي محل التعب والنصب والأذى وأنواع المكاره وأما قولكم إنه سبحانه وتعالى وصفها بصفات لا تكون في الدنيا فجوابه أن تلك الصفات لا تكون في الأرض التي أهبطوا إليها فمن أين لكم أنها لا تكون في الأرض التي اهبطوا منها وأما قولكم إن آدم عليه السلام كان يعلم إن الدنيا منقضية فانية فلو كانت الجنة فيها لعلم كذب إبليس في قوله هل أدلك على شجرة الخلد فجوابه من وجهين أحدهما أن اللفظ أنما يدل على الخلد وهو أعم من الدوام الذي ى انقطاع له فإنه في اللغة المكث الطويل ومكث كل شيء بحسبه ومنه قولهم رجل مخلد إذا أسن وكبر ومنه قولهم لاثا في الصخور خوالد لطول بقائها بعد دروس الاطلال قال الارمادا هامدا دفعت ... عنه الرياح خوالد الفحم ونظير هذا أطلاقهم القديم على ما تقادم عهده وإن كان له أول كما قال تعالى كالعرجون القديم وإنك لفي ضلالك القديم وأفك قديم وقد أطلق تعالى الخلود في النار على عذاب بعض العصاة كقاتل النفس واطلقه النبي على قاتل نفسه ________________________________________ الوجه الثاني أن العلم بانقطاع الدنيا ومجئ الآخرة أنما يعلم الوحي ولم يتقدم لآدم عليه الصلاة والسلام نبوة يعلم بها ذلك وهو وأن نباه الله سبحانه وتعالى وأوحى إليه وأنزل عليه صحفا كما في حديث أبي ذر لكن هذا بعد اهباطه إلى الأرض بنص القرآن قال تعالى اهبطوا منها جميعا فاما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى وكذلك في سورة البقرة قلنا أهبطوا منها جميعا فأما يأتينكم مني هدى الآية وإما قولكم أن الجنة وردت معرفة باللام التي للعهد فتنصرف إلى جنة الخلد فقد وردت معرفة باللام غير مراد بها جنة الخلد قطعا كقوله تعالى إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ اقسموا ليصرمنها مصبحين وقولكم أن السياق ها هنا دل على أنها جنة في الأرض قلنا والأدلة التي ذكرناها دلت على أن جنة آدم عليه السلام في الأرض فلذلك صرنا إلى موجبها إذ لا يجوز تعطيل دلالة الدليل الصحيح وإما استدلالكم بأثر أبي موسى أن الله أخرج آدم عليه السلام من الجنة وزوده من ثمارها فليس فيه زيادة على ما دل عليه القرآن إلا تزوده منها وهذا لا يقتضي أن تكون جنة الخلد وقولكم أن هذه تتغير وتلك لا تتغير فمن أين لكم أن الجنة التي اسكنها آدم كان التغير يعرض لثمارها كما يعرض لهذه الثمار وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي أنه قال لولا بنو إسرائيل لم يخبز اللحم أي لم يتغير ولم ينتن وقد أبقى سبحانه وتعالى في هذا العالم طعام العزير وشرابه مائة سنة لم يتغير ________________________________________ وأما قولكم أن الله سبحانه وتعالى ضمن لآدم عليه السلام أن تاب أن يعيده إلى الجنة فلا ريب أن الأمر كذلك ولكن ليس يعلم أن الضمان إنما يتناول عوده إلى تلك الجنة بعينها بل إذا أعاده إلى جنة الخلد فقد وفى سبحانه بضمانه حق الوفاء ولفظ العود لا يستلزم الرجوع إلى عين الحالة الأولى ولا زمانها ولا مكانها بل ولا إلى نظيرها كما قال شعيب لقومه قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وقد جعل الله سبحانه المظاهر عائدا بإرادته الوطء ثانيا أو بنفس الوطء أو بالإمساك وكل منها غير الأول لا عينه فهذا ما أجابت به هذه الطائفة لمن نازعها الباب السادس في جواب من زعم أنها جنة الخلد عما احتج به منازعوهم ________________________________________ قالوا أما قولكم إن الله سبحانه أخبر أن جنة الخلد إنما يقع الدخول إليها يوم القيامة ولم يأت زمن دخولها بعد فهذا حق في الدخول المطلق الذي هو دخول استقرار ودوام وأما الدخول العارض فيقع قبل يوم القيامة وقد دخل النبي الجنة ليلة الإسراء وأرواح المؤمنين والشهداء في البرزخ في الجنة وهذا غير الدخول الذي اخبر الله به في يوم القيامة فدخول الخلود إنما يكون يوم القيامة فمن أين لكم أن مطلق الدخول لا يكون في الدنيا وبهذا خرج الجواب عن استدلالكم بكونها دار المقامة ودار الخلد قالوا وأما احتجاجكم بسائر الوجوه التي ذكرتموها في الجنة وأنها لم توجد في جنة آدم عليه السلام من العرى والنصب والحزن واللغو والكذب وغيرها فهذا كله حق لا ننكره نحن ولا أحد من أهل الإسلام ولكن هذا إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة كما يدل عليه سياق الآيات كلها فإن نفي ذلك مقرون بدخول المؤمنين إياها وهذا لا ينفي أن يكون فيها بين أبوي الثقلين ما حكاه الله سبحانه وتعالى من ذلك ثم يصير الأمر عند دخول المؤمنين إياها إلى ما أخبر الله عنها فلا تنافي بين الأمرين وأما قولكم أنها دار جزاء وثواب لا دار تكليف وقد كلف الله سبحانه آدم بالنهي عن الأكل من تلك الشجرة فدل على أن تلك الجنة دار تكليف لا دار خلود فجوابه من وجهين أحدهما أنه إنما تمتنع أن تكون دار تكليف إذا دخلها المؤمنين يوم القيامة فحينئذ ينقطع التكليف واما وقوع التكليف فيها دار الدنيا فلا دليل على امتناعه البتة كيف وقد ثبت عن النبي أنه قال دخلت البارحة الجنة فرأيت امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت لمن أنت الحديث وغيره ممتنع أن يكون فيها من يعمل بأمر الله ويعبد الله قبل يوم القيامة بل هذا هو الواقع فإن من فيها الآن مؤتمرون بأوامر من قبل ربهم لا يتعدونها سواء سمى ذلك تكليفا أو لم يسم ________________________________________ الوجه الثاني أن التكليف لم يكن بالأعمال التي يكلف بها الناس في الدنيا من الصيام والصلاة والجهاد ونحوها وإنما كان حجرا عليهما في شجرة واحدة من جملة أشجارها إما واحدة بالعين أو بالنوع وهذا القدر لا يمتنع وقوعه في دار الخلد كما أن كل واحد محجور عليه أن يقرب أهل غيره فيها فإن أردتم بكونها ليست دار تكليف امتناع وقوع مثل هذا فيها في وقت من الأوقات فلا دليل عليه وإن أردتم أن تكاليف الدنيا منتفعة عنها فهو حق ولكن لا يدل على مطلوبكم وأما استدلالكم بنوم آدم فيها والجنة لا ينام أهلها فهذا أن ثبت النقل بنوم آدم فإنما ينفي النوم عن أهلها يوم دخول الخلود حيث لا يموتون وأما قبل ذلك فلا وأما استدلالكم بقصة وسوسة إبليس له بعد اهباطه وإخراجه من السماء فلعمر الله أنه لمن أقوى الأدلة وأظهرها على صحة قولكم وتلك التعسفات لدخوله الجنة وصعوده إلى السماء بعد اهباط الله له منها لا يرتضيها منصف ولكن لا يمتنع أن يصعد ألى هنالك صعودا عارضا لتمام الابتلاء والامتحان الذي قدره الله تعالى وقد أسبابه وإن لم يكن ذلك المكان مقعدا له مستقرا كما كان وقد اخبر الله سبحانه عن الشياطين أنهم كانوا قبل مبعث رسول الله يقعدون من السماء مقاعد للسمع فيستمعون الشيء من الوحي وهذا صعود إلى هناك ولكنه صعود عارض لا يستقرون في المكان الذي يصعدون إليه مع قوله تعالى اهبطوا بعضكم لبعض عدو فلا تنافي بين هذا الصعود وبين الأمر بالهبوط فهذا محتمل والله اعلم وأما استدلالكم بأن الله سبحانه أعلم آدم عليه السلام مقدار أجله وما ذكرتم من الحديث وتقرير الدلالة منه فجوابه أن إعلامه بذلك لا ينافي إدخاله جنة الخلد وإسكانه فيها مدة وأما أخباره سبحانه إن داخلها لا يموت وإنه لا يخرج منها فهذا يوم القيامة وأما احتجاجكم بكونه خلق من الأرض فلا ريب في ذلك ولكن من أين لكم أنه كمل خلقه فيها وقد جاء في بعض الآثار أن الله ________________________________________ سبحانه ألقاه على باب الجنة أربعين صباحا فجعل إبليس يطوف به ويقول لأمر ما خلقت فلما رآه أجوف علم أنه خلق لا يتمالك فقال لئن سلطت عليه لأهلكنه ولئن سلط على لا عصينه مع أن قوله سبحانه وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم اقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض يدل على أنه كان معهم في السماء حيث أنبأهم بتلك الأسماء وإلا فهم لم ينزلوا كلهم إلى الأرض حتى سمعوا منه ذلك ولو كان خلقه قد كمل في الأرض لم يمتنع أن يصعده سبحانه الى السماء لأمر دبره وقدره ثم يعيده إلى الأرض فقد اصعد المسيح إلى السماء ثم ينزله إلى الأرض قبل يوم القيامة وقد اسرى ببدن رسول الله وروحه إلى فوق السموات فهذا جواب القائلين بأنها جنة الخلد لمنازعيهم والله أعلم الباب السابع في ذكر شبه من زعم أن الجنة لم تخلق بعد قالوا لو كانت الجنة مخلوقة الآن لوجب اضطرار أن تفنى يوم القيامة وأن يهلك كل ما فيها ويموت لقوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه و كل نفس ذائقة الموت فتموت الحور العين التي فيها والولدان وقد أخبر سبحانه أن الدار دار خلود ومن فيها مخلدون لا يموتون فيها وخبره سبحانه لا يجوز عليه خلف ولا نسخ قالوا وقد روى الترمذي في جامعه من حديث أبن مسعود قال قال رسول الله لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال يا محمد أقريء أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر قال هذا حديث حسن غريب وفيه أيضا من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي أنه قال من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة قال هذا حديث حسن صحيح قالوا فلو كانت الجنة مخلوقة مفروغا منها لم تكن قيعانا ولم يكن لهذا الغرس معنى ________________________________________ قالوا وقد قال تعالى عن امرأة فرعون إنها قالت رب إبني لي عندك بيتا في الجنة ومحال أن يقول قائل لمن نسج له ثوبا أو بنى له بيتا انسج لي ثوبا وأبن لي بيتا وأصرح من هذا قول النبي من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة متفق عليه وهذه جملة مركبة من شرط وجزاء تقتضي وقوع الجزاء بعد الشرط باع جمأ أهل العربية وهذا ثابت عن النبي من رواية عثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وعمرو بن عنبسة قالوا وقد جاءت آثار بأن الملائكة تغرس فيها وتبني للعبد ما دام يعمل فإذا فتر فتر الملك عن العمل قالوا وقد روى ابن حبان في صحيحه والأمام أحمد في مسنده من حديث أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله إذا قبض الله ولد العبد قال يا ملك الموت قبضت ولد عبدي قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده قال نعم قال فما قال قال حمدك واسترجع قال إبنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد وفي المسند من حديثه أيضا قال قال رسول الله من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة سوى الفريضة بنى الله له بيتا في الجنة قالوا وليس هذا من أقوال أهل البدع والاعتزال كما زعمتم فهذا ابن مزين قد ذكر في تفسيره عن ابن نافع وهو من أئمة السنة أنه سئل عن الجنة أمخلوقة هي فقال السكوت عن هذا أفضل والله أعلم الباب الثامن في الجواب عما احتجت به هذه الطائفة قد تقدم في الباب الأول من ذكر الأدلة الدالة على وجود الجنة الآن ما فيه كفاية فنقول ما تعنون بقولكم إن الجنة لم تخلق بعد أتريدون أنها الآن عدم محض لم تدخل إلى الوجود بعد بل هي بمنزلة النفخ في الصور وقيام الناس من القبور فهذا قول باطل يرده المعلوم بالضرورة من الأحاديث الصريحة الصحيحة التي تقدم بعضها وسيأتي بعضها وهذا قول لم يقله أحد من السلف ولا أهل السنة وهو باطل قطعا ________________________________________ أم تريدون أنها لم تخلق بكمالها وجميع ما اعد الله فيها لأهلها وأنها لا يزال الله يحدث فيها شيئا بعد شيء وإذا دخلها المؤمنون أحدث الله فيها عند دخولهم أمورا أخر فهذا حق لا يمكن رده وادلتكم هذه إنما دلت على هذا القدر وحديث ابن مسعود الذي ذكرتموه وحديث أبي الزبير عن جابر صريحان في أن أرضها مخلوقة وأن الذكر ينشىء الله سبحانه لقائله منه غراسا في تلك الأرض وكذا بناء البيوت فيها بالأعمال المذكورة والعبد كلما وسع في أعمال البر وسع له في الجنة وكلما عمل خيرا غرس له به هناك غراس وبنى له بناء وأنشيء له من عمله أنواع مما يتمتع به فهذا القدر لا يدل على إن الجنة لم تخلق بعد ولا يسوغ اطلاق ذلك وأما احتجاجكم بقوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه فإنما أتيتم من عدم فهمكم معنى الآية واحتجاجكم بها على عدم وجود الجنة والنار الآن نظيرا احتجاج إخوانكم بها على فنائهما ________________________________________ وخرابهما وموت أهلهما فلا انتم وفقتم لفهم معناها ولا إخوانكم وإنما وفق لفهم معناها السلف وأئمة الإسلام ونحن نذكر بعض كلامهم في الآية قال البخاري في صحيحه يقال كل شيء هالك إلا وجهه إلا ملكه ويقال إلا ما أريد به وجهه وقال الأمام أحمد في رواية ابنه عبد الله فأما السماء والأرض فقد زالتا لأن أهلهما صاروا إلى الجنة وإلى النار وأما العرش فلا يبيد ولا يذهب لأنه سقف الجنة والله سبحانه وتعالى عليه فلا يهلك ولا يبيد وأما قوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه فذلك أن الله سبحانه وتعالى أنزل كل من عليها فان فقالت الملائكة هلك أهل الأرض وطمعوا في البقاء فأخبر الله تعالى عن أهل السموات وأهل الأرض أنهم يموتون فقال كل شيء هالك يعني ميت إلا وجهه لأنه حي لا يموت فأيقنت الملائكة عند ذلك بالموت انتهى كلامه وقال في رواية أبي العباس أحمد بن جعفر ابن يعقوب الاصطخري ذكره أبو الحسين في كتاب الطبقات قال قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروتها المعروفين بها والمقتدى بهم فيها من لدن أصحاب نبينا إلى يومنا هذا وأدركت من أدركت من علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق وساق أقوالهم إلى ان قال وقد خلقت الجنة وما فيها وخلقت النار وما فيها و خلقهما الله عز وجل وخلق الخلق لهما ولا يفنيان ولا يفنى ما فيهما أبدا فإن احتج مبتدع أو زنديق بقول الله عز وجل كل شيء هالك إلا وجهه وبنحو هذا من متشابه القرآن قيل له كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك وهما من الآخرة لا من الدنيا والحور العين لا يمتن عند قيام الساعة ولا عند النفخة ولا أبدا لأن الله عز وجل خلقهن للبقاء لا للفناء ولم يكتب عليهن الموت فمن قال ________________________________________ خلاف هذا فهو مبتدع وقد ضل عن سواء السبيل وخلق سبع سموات بعضها فوق بعض وسبع أرضين بعضها أسفل من بعض وبين الأرض العليا والسماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة عام والماء فوق السماء العليا السابعة وعرش الرحمن عز وجل فوق الماء وأن الله عز وجل على العرش والكرسي موضع قدميه وهو يعلم ما في السموات والأرضين السبع وما بينهما وما تحت الثرى وما في قعر البحر ومنبت كل شعرة وشجرة وكل زرع وكل نبات ومسقط كل ورقة وعدد كل كلمة وعدد الحصا والتراب والرمل ومثاقيل الجبال و أعمال العباد وآثارهم وكلامهم وأنفاسهم ويعلم كل شيء لا يخفى عليه من ذلك شيء وهو على العرش فوق السماء السابعة ودونه حجب من نار ونور وظلمة وما هو أعلم بها فإن احتج مبتدع ومخالف بقول الله عز وجل ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وقوله وهو معكم أينما كنتم وقوله إلا هو معهم أينما كانوا وقوله ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ونحو هذا من متشابه القرآن فقل إنما يعني بذلك العلم لأن الله عز وجل على العرش فوق السماء السابعة العليا يعلم ذلك كله وهو بائن من خلقه لا يخلو من علمه مكان وقال في رواية أبي جعفر الطائي محمد بن عوف بن سفيان الحمصي قال الخلال حافظ أمام في زمانه معروف بالتقدم في العلم والمعرفة كان أحمد بن حنبل يعرف له ذلك ويقبل منه ويسأله عن الرجال من أهل بلده قال أملي على احمد بن حنبل فذكر رسالة في السنة ثم قال في اثنائها وأن الجنة والنار مخلوقتان قد خلقتا كما جاء الخبر قال النبي صلى دخلت الجنة فرأيت فيها قصرا ورأيت الكوثر واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها كذا وكذا فمن زعم أنهما لم يخلقا فهو مكذب برسول الله وبالقرآن كافر بالجنة والنار يستتاب فإن تاب وإلا قتل ________________________________________ وقال في رواية عبندوس بن مالك العطار وذكر رسالة في السنة قال فيها والجنة والنار مخلوقتان قد خلقتا كما جاء عن رسول الله أطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها كذا وكذا وأطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها كذا وكذا فمن زعم أنهما لم يخلقا فهو مكذب بالقرآن وأحاديث رسول الله ولا أحسبه يؤمن بالجنة والنار فتأمل هذه الأبواب وما تضمنته من النقول والمباحث والنكت والفوائد التي لا تظفر بها في غير هذا الكتاب البتة ونحن اختصرنا الكلام في ذلك ولو بسطناه لقام منه سفر ضخم والله المستعان وعليه التكلان وهو الموفق للصواب أهـ { حادى الأرواح صـ 19 ـ صـ 37 } قوله تعالى { قلانا اهبطوا منها جميعا } ________________________________________ وقد ظن الزمخشري أن قوله اهبطوا منها جميعا خطاب لآدم وحواء خاصة وعبر عنهما بالجمع لاستتباعهما ذرياتهما قال والدليل عليه قوله تعالى قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو قال ويدل على ذلك قوله فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم ومعنى قوله بعضكم لبعض عدو ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم بعضا وهذا الذي اختاره أضعف الأقوال في الاية فإن العداوة التي ذكرها الله تعالى إنما هي بين آدم وإبليس وذريتهما كما قال الله تعالى إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا وهو سبحانه قد أكد أمر العداوة بين الشيطان والإنسان واعاد وأبدى ذكرها في القرآن لشدة الحاجة إلى التحرز من هذا العدو وأما آدم وزوجته فإنه إنما أخبر في كتابه أنه خلقها ليسكن إليها وجعل بينهما مودة ورحمة فالمودة والرحمة بين الرجل وامرأته والعداوة بين الإنسان والشيطان وقد تقدم ذكر آدم وزوجه وإبليس وهو ثلاثة فلماذا يعود الضمير على بعض المذكور مع منافرته لطريق الكلام دون جميعه مع أن اللفظ والمعنى يقتضيه فلم يصنع الزمخشري شيئا وأما قوله تعالى في سورة طه قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو وهذا خطاب لآدم وحواء وقد جعل بعضهم لبعض عداوا فالضمير في قوله اهبطا منها أما أن يرجع إلى آدم وزوجته أو إلى آدم وإبليس ولم يذكر الزوجة لأنها تبع له وعلى هذا فلعداوة المذكورة للمتخاطبين بالاهباط وهما آدم وإبليس فالأمر ظاهر وأما على الأول فتكون الآية قد اشتملت على أمرين أحدهما أمره تعالى لا لآدم وزوجه بالهبوط والثاني إخباره بالعداوة بين آدم وزوجته وبين إبليس ولهذا أتى الضمير الجمع في الثاني دون الأول ولا بد أن يكون إبليس داخلا في حكم هذه العداوة قطعا كما قال تعالى إن هذا عدو لك ولزوجك وقال للذرية إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا وتأمل كيف اتفقت المواضع التي ________________________________________ فيها ذكر العداوة على ضمير الجمع دون التثنية وأما الاهباط فتارة يذكره بلفظ الجمع وتارة بلفظ التثنية وتارة بلفظ الأفراد كقوله في سورة الأعراف قال اهبط منها وكذلك في سورة ص وهذا لإبليس وحده وحيث ورد بصيغة الجمع فهو لآدم وزوجه وإبليس إذ مدار القصة عليهم وحيث ورد بلفظ التثنية فأما أن يكون لآدم وزوجه اذهما اللذان باشرا الأكل من الشجرة وأقدما على المعصية وإما أن يكون لآدم وإبليس اذ هما أبوا الثقلين وأصلا الذرية فذكر حالهما ومآل أمرهما ليكون عظة وعبرة لأولادهما وقد حكيت القولين في ذلك والذي يوضح أن الضمير في قوله اهبطا منها جميعا لآدم وإبليس إن الله سبحانه لما ذكر المعصية أفرد بها آدم دون زوجه فقال وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعا وهذا يدل على أن المخاطب بالاهباط هو آدم ومن زين له المعصية ودخلت الزوجة تبعا فإن المقصود إخبار الله تعالى للثقلين بما جرى على أبويهما من شؤم المعصية ومخالفة الأمر فذكر أبويهما أبلغ في حصول هذا المعنى من ذكر أبوي الإنس فقط وقد اخبر سبحانه عن الزوجة بأنها أكلت مع آدم وأخبر أنه اهبطه وأخرجه من الجنة بتلك الأكلة فعلم أن حكم الزوجة كذلك وأنها صارت إلى ما صار إليه آدم وكان تجريد العناية إلى ذكر حال أبوي الثقلين أولى من تجريده إلى ذكر أبي الأنس وأمهم فتأمله ________________________________________ وبالجملة فقوله اهبطوا بعضكم لبعض عدو ظاهر في الجمع فلا يسوغ حمله على الأثنين في قوله اهبطا من غير موجب قالوا وأيضا فالجنة جاءت معرفة بلام التعريف في جميع المواضع كقوله أسكن أنت وزوجك الجنة ونظائره ولا جنة يعهدها المخاطبون ويعرفونها الأجنة الخلد التي وعد الرحمن عباده بالغيب فقد صار هذا الاسم علما عليها بالغلبة كالمدينة والنجم والبيت والكتاب ونظائرها فحيث ورد لفظها معرفا انصرف إلى الجنة المعهودة المعلومة في قلوب المؤمنين وأما أن أريد به جنة غيرها فإنها تجيء منكرة أو مقيدة بالإضافة أو مقيدة من السياق بما يدل على أنها جنة في الأرض فالأول كقوله جنتين من أعناب والثاني كقوله ولولا إذ دخلت جنتك والثالث كقوله أنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة قالوا مما يدل على أن جنة آدم هي جنة المآوى ما روى هوذة بن خليفة عن عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى الأشعري قال إن الله تعالى لما أخرج آدم من الجنة زوده من ثمار الجنة وعلمه صنعة كل شيء فثماركم هذه من ثمار الجنة غير إن هذه تتغير وتلك لا تتغير قالوا وقد ضمن الله سبحانه وتعالى له إن تاب إليه وأناب أن يعيده إليها كما روى المنهال عن سعيد أبن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه قال يا رب ألم تخلقني بيدك قال بلى قال أي رب ألم تنفخ في من روحك قال بلى قال أي رب ألم تسكني جنتك قال بلى قال أي رب ألم تسبق رحمتك غضبك قال بلى قال أرأيت أن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة قال بلى قال فهو قوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه وله طرق عن ابن عباس وفي بعضها كان آدم قال لربه إذا عصاه رب أن أنا تبت وأصلحت فقال له ربه إني راجعك إلى الجنة فهذا بعض ما احتج به القائلون بأنها جنة الخلد أهـ { حادى الأرواح صـ19 ـ صـ25 } ________________________________________ قوله تعالى : فتمنوا الموت إن كنتم صادقين البقرة : 94 قلت : هذه الآية فيها للناس كلام معروف قالوا : إنها معجزة للنبي أعجز بها اليهود ودعاهم إلى تمني الموت وأخبر : أنهم لا يتمنونه أبدا وهذا علم من أعلام نبوته إذ لا يمكن الاطلاع على بواطنهم إلا بأخبار الغيب ولم ينطق الله ألسنتهم بتمنيه أبدا وقالت طائفة : لما ادعت اليهود : أن لهم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس وأنهم أبناؤه وأحباؤه وأهل كرامته كذبهم الله في دعواهم وقال : إن كنتم صادقين فتمنوا الموت لتصلوا إلى الجنة دار النعيم فإن الحبيب يتمنى لقاء حبيبه ثم أخبر سبحانه : أنهم لا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم من الأوزار والذنوب الحائلة بينهم وبين ما قالوه فقال : ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم البقرة : 95 وقالت طائفة منهم محمد بن إسحاق وغيره هذه من جنس آية المباهلة وأنهم لما عاندوا ودفعوا الهدى عيانا وكتموا الحق : دعاهم إلى أمر يحكم بينهم وبينه وهو أن يدعوا بالموت على الكاذب المفتري و التمني سؤال ودعاء فتمنوا الموت وادعوا به على المبطل الكاذب المفتري وعلى هذا فليس المراد : تمنوه لأنفسكم خاصة كما قاله أصحاب القولين الأولين بل معناه : ادعوا بالموت وتمنوه للمبطل وهذا أبلغ في إقامة الحجة وبرهان الصدق وأسلم من أن يعارضوا رسول الله بقولهم : فتمنوه أنتم أيضا إن كنتم محقين أنكم أهل الجنة لتقدموا على ثواب الله وكرامته كانوا أحرص شيء على معارضته فلو فهموا منه ما ذكره أولئك لعارضوه بمثله وأيضا فإنا نشاهد كثيرا منهم يتمنى الموت لضره وبلائه وشدة حاله ويدعو به وهذا بخلاف تمنيه والدعاء به على الفرقة الكاذبة فإن هذا لا يكون أبدا ولا وقع من أحد منهم في حياة النبي ألبتة وذلك لعلمهم بصحة نبوته وصدقه وكفرهم به حسدا وبغيا فلا يتمنوه أبدا لعلمهم أنهم هم الكاذبون وهذا القول : هو الذي نختاره والله أعلم بما أراد من كتابه ________________________________________ أ هـ { مدارج السالكين حـ 2 صـ 276 ـ صـ 277 } وقوله تعالى بمثل ما آمنتم به وليس له مثل والجواب من أوجه الأول أن المراد به التبكيت والمعنى حصلوا دينا آخر مثله وهو لا يمكن الثاني أن المثل صلة الثالث أنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف ولا تحريف فإن آمنوا بالتوراة من غير تصحيف ولا تحريف فقد اهتدوا الرابع أن المراد أن آمنوا بمثل ما صرتم به مؤمنين روى ابن جرير أن ابن عباس قال قولوا فإن آمنوا بالذي آمنتم به قال عبد الجبار ولا يجوز ترك القراءة المتواترة أ هـ { بدائع الفوائد حـ 4 صـ 308 } قوله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله فأخبر أن من أحب من دون الله شيئا كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية فإن أحدا من أهل الأرض لم يثبت هذا الند في الربوبية بخلاف ند المحبة فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أندادا في الحب والتعظيم ثم قال والذين آمنوا أشد حبا لله وفي تقدير الآية قولان أحدهما والذين آمنوا أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم وآلهتهم التي يحبونها ويعظمونها من دون الله والثاني والذين آمنوا أشد حبا لله من محبة المشركين في الأنذار فإن محبة المؤمنين خالصة ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها والمحبة الخالصة أشد من المشتركة والقولان مرتبان على القولين في قوله تعالى يحبونهم كحب الله فإن فيها قولان أحدهما يحبونهم كما يحبون الله فيكون قد أثبت لهم محبة الله ولكنها محبة يشركون فيها مع الله أندادا والثاني أن المعنى يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون الله ثم بين أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرجح القول الأول ويقول إنما ذموا بأن أشركوا بين الله وبين أندادهم في المحبة ولم يخلصوها لله كمحبة المؤمنين له ________________________________________ وهذه التسوية المذكورة في قوله تعالى حكاية عنهم وهم في النار يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضرة معهم في العذاب تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ومعلوم أنهم لم يسووهم برب العالمين في الخلق والربوبية وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم وهذا أيضا هو العدل المذكور في قوله تعالى ثم الذين كفروا بربهم يعدلون أي يعدلون به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم وهذا أصح القولين وقيل الباء بمعنى عن والمعنى ثم الذين كفروا عن ربهم يعدلون عن عبادته إلى عبادة غيره وهذا ليس بقوي إذ لا تقول العرب عدلت بكذا أي عدلت عنه وإنما جاء هذا في فعل السؤال نحو سألت بكذا أي عنه كأنهم ضمنوه اعتنيت به واهتممت ونحو ذلك وقال تعالى إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وهي تسمى آية المحبة قال أبو سليمان الداراني لما ادعت القلوب محبة الله أنزل الله لها محنة قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله قال بعض السلف ادعى قوم محبة الله فأنزل الله آية المحنة قل إن كنتم تحبون الله فايتبعوني يحببكم الله وقال يحبكم الله إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها فدليلها وعلامتها اتباع الرسول وفائدتها وثمرتها محبة المرسل لكم فما لم تحصل المتابعة فليست محبتكم له حاصلة ومحبته لكم منتفية أهـ { مدارج السالكين حـ 3 صـ 13 ـ صـ 14 } ________________________________________ هذا قلب المؤمن توحيد الله وذكر رسوله مكتوبان فيه لا يتطرق اليهما محو ولا ازالة ولما كانت كثرة ذكر الشيء موجبة لدوام محبته ونسيانه سببا لزوال محبته أو اضعافها وكان سبحانه هو المستحق من عبادة نهاية الحب مع نهاية التعظيم بل الشرك الذي لا يغفره الله تعالى هو أن يشرك به في الحب والتعظيم فيحب غيره ويعظم من المخلوقات غيره كما يحب الله تعالى ويعظمه قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دونه الله اندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا اشد حبا لله البقرة 165 فأخبر سبحانه أن المشرك يحب الند كما يحب الله تعالى وان المؤمن اشد حبا لله من كل شيء وقال أهل النار في النار تالله أن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين الشعراء 97 98 ومن المعلوم انهم إنما سووهم به سبحانه في الحب والتأله والعبادة وألا فلم يقل أحد قط أن الصنم أو غيره من الانداد مساو لرب العالمين في صفاته وفي افعاله وفي خلق السماوات والأرض وفي خلق عباده أيضا وانما كانت السوية في المحبة والعبادة واضل من هؤلاء واسوأ حالا من سوى كل شيء بالله سبحانه في الوجود وجعله وجود كل موجود كامل أو ناقص فإذا كان الله قد حكم بالضلال والشقاء لمن سوى بينه وبين الاصنام في الحب مع اعتقادههم تفاوت ما بين الله وبين خلقه في الذات والصفات والافعال فكيف بمن سوى الله بالموجودات في جميع ذلك وزعم انه ما عبد غير الله في كل معبود أهـ { جلاء الأفهام صـ 305 ـ صـ 306 } قوله تعالى ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون فتضمن هذا المثل ناعقا أي مصوتا بالغنم وغيرها ومنعوقا به وهو الدواب فقيل الناعق العابد وهو الداعي للصنم والصنم المنعوق به المدعو وإن حال الكافر في دعائه كحال من ينعق بما لا يسمعه هذا قول طائفة منهم عبد الرحمن بن زيد وغيره ________________________________________ واستشكل صاحب الكشاف وجماعة معه هذا القول وقالوا قوله إلا دعاء ونداء لا يساعد عليه لأن الأصنام لا تسمع دعاء ولا نداء وقد أجيب عن هذا الاستشكال بثلاثة أجوبة أحدها أن إلا زائدة والمعنى بما لا يسمع دعاء ونداء قالوا وقد ذكر ذلك الأصمعي في قول الشاعر ... حراجيح ما تنفك إلا مناخة أي ما تنفك مناخة وهذا جواب فاسد فإن إلا لا تزاد في الكلام الجواب الثاني أن التشبيه وقع في مطلق الدعاء لا في خصوصيات المدعو الجواب الثالث أن المعنى أن مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه هو في دعاء ونداء وكذلك المشرك ليس له من دعائه وعبادته إلا العناء وقيل المعنى ومثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه مما يقول الراعي أكثر من الصوت فالراعي هو داعي الكفار والكفار هم البهائم المنعوق بها قال سيبويه المعنى ومثلك يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به وعلى قوله فيكون المعنى ومثل الذين كفروا وداعيهم كمثل الغنم والناعق بها ولك أن تجعل هذا من التشبيه المركب وأن تجعله من التشبيه المفرق فإن جعلته من المركب كان تشبيها للكفار في عدم فقههم وانتفاعهم بالغنم التي ينعق بها الراعي فلا تفقه من قوله شيئا غير الصوت المجرد الذي هو الدعاء والنداء وإن جعلته من التشبيه المفرق فالذين كفروا بمنزلة البهائم ودعاء داعيهم إلى الطريق والهدى بمنزلة الذي ينعق بها ودعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النعق وإدراكهم مجرد الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرد صوت الناعق والله أعلم أهـ { إعلام الموقعين حـ1 صـ218 } قوله تعالى { ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب لعلكم تتقون } ________________________________________ وفي ضمن هذا الخطاب ما هو كالجواب لسؤال مقدر أن إعدام هذه البنية الشريفة وإيلام هذه النفس وإعدامها في مقابلة إعدام المقتول تكثير لمفسدة القتل فلأية حكمة صدر هذا ممن وسعت رحمته كل شيء وبهرت حكمته العقول فتضمن الخطاب جواب ذلك بقوله تعالى ولكم في القصاص حياة وذلك لأن القاتل إذا توهم أنه يقتل قصاصا بمن قتله كف عن القتل وارتدع وآثر حب حياته ونفسه فكان فيه حياة له ولمن أراد قتله ومن وجه آخر وهو أنهم كانوا إذا قتل الرجل من عشيرتهم وقبيلتهم قتلوا به كل من وجدوه من عشيرة القاتل وحيه وقبيلته وكان في ذلك من الفساد والهلاك ما يعم ضرره وتشتد مؤنته فشرع الله تعالى القصاص وأن لا يقتل بالمقتول غير قاتله ففي ذلك حياة عشيرته وحيه وأقاربه ولم تكن الحياة في القصاص من حيث أنه قتل بل من حيث كونه قصاصا يؤخذ القاتل وحده بالمقتول لا غيره فتضمن القصاص الحياة في الوجهين وتأمل ما تحت هذه الألفاظ الشريفة من الجلالة والإيجاز والبلاغة والفصاحة والمعنى العظيم فصدر الآية بقوله لكم المؤذن بأن منفعة القصاص مختصة بكم عائدة إليكم فشرعه إنما كان رحمة بكم وإحسانا إليكم فمنفعته ومصلحته لكم لا لمن لا يبلغ العباد ضره ونفعه ثم عقبه بقوله في القصاص إيذانا بأن الحياة الحاصلة إنما هي في العدل وهو أن يفعل به كما فعل والقصاص في اللغة المماثلة وحقيقته راجعة إلى الاتباع ومنه قوله تعالى وقالت لأخته قصيه أي اتبعي أثره ومنه قوله فارتدا على آثارهما قصصا أي يقصان الأثر ويتبعانه ومنه قص الحديث واقتصاصه لأنه يتبع بعضه بعضا في الذكر فسمى جزاء الجاني قصاصا لأنه يتبع أثره فيفعل به كما فعل وهذا أحد ما يستدل به على أن يفعل بالجاني كما فعل فيقتل بمثل ما قتل به لتحقيق معنى القصاص أ هـ { مفتاح دار السعادة حـ 2 صـ 102 ـ صـ 103 } ________________________________________ قوله تعالى فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم البقرة 187 فروى شعبة عن الحكم عن مجاهد قال هو الولد وقاله الحكم وعكرمة والحسن البصري والسدي والضحاك وأرفع ما فيه ما رواه محمد بن سعد عن أبيه حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قال هو الولد وقال ابن زيد هو الجماع وقال قتادة ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم وعن ابن عباس رواية أخرى قال ليلة القدر والتحقيق أن يقال لما خفف الله عن الأمة بإباحة الجماع ليلة الصوم إلى طلوع الفجر وكان المجامع يغلب عليه حكم الشهوة وقضاء الوطر حتى لا يكاد يخطر بقلبه غير ذلك أرشدهم سبحانه إلى أن يطلبوا رضاه في مثل هذه اللذة ولا يباشروها بحكم مجرد الشهوة بل يبتغوا بها ما كتب الله لهم من الأجر والولد الذي يخرج من أصلابهم يعبد الله لا يشرك به شيئا ويبتغوا ما أباح الله لهم من الرخصة بحكم محبته لقبول رخصه فإن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته ومما كتب لهم ليلة القدر وأمروا أن يبتغوها لكن يبقى أن يقال فما تعلق ذلك بإباحة مباشرة أزواجهم فيقال فيه إرشاد إلى أن لا يشغلهم ما أبيح لهم من المباشرة عن طلب هذه الليلة التي هي خير من ألف شهر فكأنه سبحانه يقول اقضوا وطركم من نساءكم ليلة الصيام ولا يشغلكم ذلك عن ابتغاء ما كتب الله لكم من هذه الليلة التي فضلكم الله بها والله أعلم أهـ { تحفة المودود صـ 3 } قوله تعالى {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } ________________________________________ في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد فان العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب والمحبوب قد يأتي بالمكروه لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرة ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة لعدم علمه بالعواقب فان الله يعلم منها مالا يعلمه العبد وأوجب له ذلك أمورا منها أنه لا انفع له من امتثال الأمر وان شق عليه في الابتداء لأن عواقبه كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح وان كرهته نفسه فهو خير لها وأنفع وكذلك لا شيء أضر عليه من ارتكاب النهى وان هويته نفسه ومالت إليه وإن عواقبه كلها آلام وأحزان وشرور ومصائب وخاصة العقل تحمل الألم اليسير لما يعقبه من اللذة العظيمة والخير الكثير واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبه من الألم العظيم والشر الطويل فنظر الجاهل لا يجاوز المباديء إلى غاياتها والعاقل الكيس دائما ينظر إلى الغايات من وراء ستور مبادئها فيرى ما وراء تلك الستور من الغايات المحمودة والمذمومة فيرى المناهي كطعام لذيذ قد خلط فيه سم قاتل فكلما دعنه لذته إلى تناوله نهاه ما فيه من السم ويرى الأوامر كدواء كريه المذاق مفض إلى العافية والشفاء وكلما نهاه كراهة مذاقه عن تناوله أمره نفعه بالتناول ولكن هذا يحتاج إلى فضل علم تدرك به الغايات من مبادئها وقوة صبر يوطن به نفسه على تحمل مشقة الطريق لما يؤول اعند الغاية فإذا فقد اليقين والصبر تعذر عليه ذلك وإذا قوى يقينه وصبره هان عليه كل مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم واللذة الدائمة ________________________________________ ومن أسرار هذه الآية إنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور والرضا بما يختاره له ويقضيه له لما يرجو فيه من حسن العاقبة ومنها أنه لا يقترح على ربه ولا يختار عليه ولا يسأله ما ليس له به علم فلعل مضرته وهلاكه فيه وهولا يعلم فلا يختار على ربه شيئا بل يسأله حسن الاختيار له وأن يرضيه بما يختاره فلا أنفع له من ذلك ومنها انه إذا فوض إلى ربه ورضى بما يختاره له أمده فيما يختاره له بالقوة عليه والعزيمة والصبر وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه ومنها أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منه في عقبة وينزل في أخرى ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه فلو رضى باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه لأنه مع اختياره لنفسه ومتى صح تفويضه ورضاه اكتنفه في المقدور العطف عليه اللطف به فيصير بين عطفه ولطفه فعطفه يقيه ما يحذره ولطفه يهون عليه ما قدره إذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه تحيله في رده فلا أنفع له من الاستسلام وإلقاء نفسه بين يدي القدر طريحا كالميتة فان السبع لا يرضى بأكل الجيف أهـ { الفوائد صـ 128 } قوله تعالى { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} البقرة 226 227 فختم حكم الفيء الذي هو الرجوع والعود إلى رضى الزوجة والإحسان إليها بأنه غفور رحيم يعود على عبده بمغفرته ورحمته إذا رجع إليه والجزاء من جنس العمل فكما رجع إلى التي هي أحسن رجع الله إليه بالمغفرة والرحمة وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم فإن الطلاق لما كان لفظا يسمع ومعنى يقصد عقبه باسم السميع للنطق به العليم بمضمونه ________________________________________ أهـ { جلاء الأفهام 109 } قوله تعالى { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو اكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم البقرة 235 فلما ذكر سبحانه وتعالى التعريض بخطبة المرأة الدال على أن المعرض في قلبه رغبة فيها ومحبة لها وأن ذلك يحمله على الكلام الذي يتوصل به إلى نكاحها ورفع الجناح عن التعريض وانطواء القلب على ما فيه من الميل والمحبة ونفي مواعدتهن سرا فقيل هو النكاح والمعنى لا تصرحوا لهن بالتزويج إلا أن تعرضوا تعريضا وهو القول المعروف وقيل هو أن يتزوجها في عدتها سرا فإذا انقضت العدة أظهر العقد ويدل على هذا قوله ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله وهو انقضاء العدة ومن رجح القول الأول قال دلت الآية على إباحة التعريض بنفي الجناح وتحريم التصريح بنفي المواعدة سرا وتحريم عقد النكاح قبل انقضاء العدة فلو كان معنى مواعدة السر هو إسرار العقد كان تكرارا ثم عقب ذلك بقوله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه أن تتعدوا ما حد لكم فإنه مطلع على ما تسرون وما تعلنون ثم قال واعلموا أن الله غفور حليم لولا مغفرته وحلمه لعنتم غاية العنت فإنه سبحانه مطلع عليكم يعلم ما في قلوبكم ويعلم ما تعملون فإن وقعتم في شيء مما نهاكم عنه فبادروا إليه بالتوبة والاستغفار فإنه الغفور الحليم وهذه طريقة القرآن يقرن بين أسماء الرجاء وأسماء المخافة كقوله تعالى اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور ________________________________________ رحيم المائدة 98 وقال أهل الجنة الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور سبأ 34 لما صاروا إلى كرامته بمغفرته ذنوبهم وشكره إحسانهم قالوا إن ربنا لغفور شكور وفي هذا معنى التعليل أي بمغفرته وشكره وصلنا إلى دار كرامته فإنه غفر لنا السيئات وشكر لنا الحسنات وقال تعالى ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما النساء 147 فهذا جزاء لشكرهم أي إن شكرتم ربكم شكركم وهو عليم بشكركم لا يخفى عليه من شكره ممن كفره والقرآن مملوء من هذا والمقصود التنبيه عليه وأيضا فإنه سبحانه يستدل بأسمائه على توحيده ونفي الشرك عنه ولو كانت أسماء لا معنى لها لم تدل على ذلك كقول هارون لعبدة العجل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن طه 90 وقوله سبحانه في القصة إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما طه 98 وقوله تعالى وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم البقرة 163 وقوله سبحانه في آخر سورة الحشر هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون الحشر 22 23 فسبح نزه نفسه عن شرك المشركين به عقب تمدحه بأسمائه الحسنى المقتضية لتوحيده واستحالة إثبات شريك له أهـ { جلاء الأفهام صـ109 ـ 110 } ________________________________________ قوله تعالى { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون } فصدر سبحانه الآية بألطف أنواع الخطاب وهو الاستفهام المتضمن لمعنى الطلب وهو أبلغ في الطلب من صيغة الأمر والمعنى هل أحد يبذل هذا القرض الحسن فيجازى عليه أضعافا مضاعفة وسمي ذلك الإنفاق قرضا حسنا حثا للنفوس وبعثا لها على البذل لأن الباذل متى علم أن عين ماله يعود إليه ولا بد طوعت له نفسه بذله وسهل عليه إخراجه فإن علم أن المستقرض ملي وفي محسن كان أبلغ في طيب قلبه وسماحة نفسه فإن علم أن المستقرض يتجر له بما اقترضه وينميه له ويثمره حتى يصير أضعاف ما بذله كان بالقرض أسمح وأسمح فإن علم أنه مع ذلك كله يزيده من فضله وعطائه أجرا آخر من غير جنس القرض وأن ذلك الأجر حظ عظيم وعطاء كريم فإنه لا يتخلف عن قرضه إلا لآفة في نفسه من البخل والشح أو عدم الثقة بالضمان وذلك من ضعف إيمانه ولهذا كانت الصدقة برهانا لصاحبها وهذه الأمور كلها تحت هذه الألفاظ التي تضمنتها الآية فإنه سماه قرضا وأخبر أنه هو المقترض لا قرض حاجة ولكن قرض إحسان إلى المقرض واستدعاء لمعاملته وليعرف مقدار الربح فهو الذي أعطاه ماله واستدعى منه معاملته به ثم أخبر عما يرجع إليه بالقرض وهو الأضعاف المضاعفة ثم أخبر عما يعطيه فوق ذلك من الزيادة وهو الأجر الكريم وحيث جاء هذا القرض في القرآن قيده بكونه حسنا وذلك يجمع أمورا ثلاثة أحدها أن يكون من طيب ماله لا من رديئه وخبيثه الثاني أن يخرجه طيبة به نفسه ثابتة عند بذله ابتغاء مرضاة الله الثالث أن لا يمن به ولا يؤذي فالأول يتعلق بالمال والثاني يتعلق بالمنفق بينه وبين الله والثالث بينه وبين الآخذ أهـ { طريق الهجرتين 473 } وقال تعالى مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم } ________________________________________ وحتى قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا } وهذه الآية كأنها كالتفسير والبيان لمقدار الأضعاف التي يضاعفها للمقرض ومثل سبحانه بهذا المثل إحضارا لصورة التضعيف في الأذهان بهذه الحبة التي غيبت في الأرض فأنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة حتى كأن القلب ينظر إلى هذا التضعيف ببصيرته كما تنظر العين إلى هذه السنابل التي من الحبة الواحدة فينضاف الشاهد العياني إلى الشاهد الإيماني القرآني فيقوى إيمان المنفق وتسخو نفسه بالإنفاق وتأمل كيف جمع السنبلة في هذه الآية على سنابل وهي من جموع الكثرة إذ المقام مقام تكثير وتضعيف وجمعها على سنبلات في قوله تعالى وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات فجاء بها على جمع القلة لأن السبعة قليلة ولا مقتضى للتكثير وقوله تعالى والله يضاعف لمن يشاء قيل المعنى والله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء لا لكل منفق بل يختص برحمته من يشاء وذلك لتفاوت أحوال الإنفاق في نفسه ولصفات المنفق وأحواله في شدة الحاجة وعظيم النفع وحسن الموقع وقيل والله يضاعف لمن يشاء فوق ذلك فلا يقتصر به على السبعمائة بل يجاوز في المضاعفة هذا المقدار إلى أضعاف كثيرة واختلف في تفسير الآية فقيل مثل نفقة الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة وقيل مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل باذر حبة ليطابق الممثل للممثل به فههنا أربعة أمور منفق ونفقة وباذر وبذر فذكر سبحانه من كل شق أهم قسميه فذكر من شق الممثل المنفق إذ المقصود ذكر حاله وشأنه وسكت عن ذكر النفقة لدلالة اللفظ عليها وذكر من شق الممثل به البذر إذ هو المحل الذي حصلت فيه المضاعفة وترك ذكر الباذر لأن القرض لا يتعلق بذكره فتأمل هذه البلاغة والفصاحة والإيجاز المتضمن لغاية البيان وهذا كثير في أمثال القرآن بل عامتها ترد على هذا النمط ثم ختم الآية باسمين من أسمائه الحسنى مطابقين لسياقها وهما الواسع والعليم فلا يستبعد العبد هذه المضاعفة ________________________________________ ولا يضيق عنها عطاؤه فإن المضاعف واسع العطاء واسع الغنى واسع الفضل ومع ذلك فلا يظن أن سعة عطائه تقتضي حصولها لكل منفق فإنه عليم بمن تصلح له هذه المضاعفة وهو أهل لها ومن لا يستحقها ولا هو أهل لها فإن كرمه وفضله تعالى لا يناقض حكمته بل يضع فضله مواضعه لسعته ورحمته ويمنعه من ليس من أهله بحكمته وعلمه ثم قال تعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون هذا بيان للقرض الحسن ما هو وهو أن يكون في سبيله أي في مرضاته والطريق الموصلة إليه ومن أنفعها سبيل الجهاد وسبيل الله خاص وعام والخاص جزء من السبيل العام وأن لا يتبع صدقته بمن ولا أذى فالمن نوعان أحدهما من بقلبه من غير أن يصرح به بلسانه وهذا إن لم يبطل الصدقة فهو من نقصان شهود منة الله عليه في إعطائه المال وحرمان غيره وتوفيقه للبذل ومنع غيره منه فلله المنة عليه من كل وجه فكيف يشهد قلبه منة لغيره والنوع الثاني أن يمن عليه بلسانه فيعتدي على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه اصطنعه وأنه أوجب عليه حقا وطوقه منة في عنقه فيقول أما أعطيتك كذا وكذا ويعدد أياديه عنده قال سفيان يقول أعطيتك فما شكرت وقال عبدالرحمن بن زياد كان أبي يقول إذا أعطيت رجلا شيئا ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه وكانوا يقولون إذا اصطنعتم صنيعة فانسوها وإذا أسديت إليكم صنيعة فلا تنسوها وفي ذلك قيل وإن امرأ أهدى إلي صنيعة ... وذكرنيها مرة لبخيل وقيل صنوان من منح سائله ومن ومن منع نائله وضن وحظر الله على عباده المن بالصنيعة واختص به صفة لنفسه لأن من العباد تكدير وتعبير ومن الله سبحانه وتعالى إفضال وتذكير وأيضا فإنه هو المنعم في نفس الأمر والعباد وسائط فهو المنعم على عبده في الحقيقة وأيضا ________________________________________ فالامتنان استعباد وكسر وإذلال لمن يمن عليه ولا تصلح العبودية والذل إلا لله وأيضا فالمنة أن يشهد المعطي أنه هو رب الفضل والإنعام وأنه ولي النعمة ومسديها وليس ذلك في الحقيقة إلا الله وأيضا فالمان بعطائه يشهد نفسه مترفعا على الآخذ مستعليا عليه غنيا عنه عزيزا ويشهد ذل الآخذ وحاجته إليه وفاقته ولا ينبغي ذلك للعبد وأيضا فإن المعطي قد تولى الله ثوابه ورد عليه أضعاف ما أعطى فبقي عوض ما أعطى عند الله فأي حق بقي له قبل الآخذ فإذا امتن عليه فقد ظلمه ظلما بينا وادعى أن حقه في قلبه ومن هنا والله أعلم بطلت صدقته بالمن فإنه لما كانت معاوضته ومعاملته مع الله وعوض تلك الصدقة عنده فلم يرض به ولاحظ العوض من الأخذ والمعاملة عنه فمن عليه بما أعطاه أبطل معاوضته مع الله ومعاملته له فتأمل هذه النصائح من الله لعباده ودلالته على ربوبيته وإلهيته وحده وأنه يبطل عمل من نازعه في شيء من ربوبيته وإلهيته لا إله غيره ولا رب سواه ونبه بقوله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى على أن المن والأذى ولو تراخى عن الصدقة وطال زمنه ضر بصاحبه ولم يحصل له مقصود الإنفاق ولو أتى بالواو وقال ولا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لأوهمت تقييد ذلك بالحال وإذا كان المن والأذى المتراخي مبطلا لأثر الإنفاق مانعا من الثواب فالمقارن أولى وأحرى وتأمل كيف جرد الخبر هنا عن الفاء فقال لهم أجرهم عند ربهم وقرنه بالفاء في قوله تعالى الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم فإن الفاء الداخلة على خبر المبتدأ الموصول أو الموصوف تفهم معنى الشرط والجزاء وأنه مستحق بما تضمنه المبتدأ من الصلة أو الصفة ________________________________________ فلما كان هنا يقتضي بيان حصر المستحق للجزاء دون غيره جرد الخبر عن الفاء فإن المعنى أن الذي ينفق ماله لله ولا يمن ولا يؤذي هو الذي يستحق الأجر المذكور لا الذي ينفق لغير الله ويمن ويؤذي بنفقته فليس المقام مقام شرط وجزاء بل مقام بيان للمستحق دون غيره وفي الآية الأخرى ذكر الإنفاق بالليل والنهار سرا وعلانية فذكر عموم الأوقات وعموم الأحوال فأتى بالفاء في الخبر ليدل على أن الإنفاق في أي وقت وجد من ليل أو نهار وعلى أي حالة وجد من سر وعلانية فإنه سبب للجزاء على كل حال فليبادر إليه العبد ولا ينتظر به غير وقته وحاله ولا يؤخر نفقة الليل إذا حضر إلى النهار ولا نفقة النهار إلى الليل ولا ينتظر بنفقة العلانية وقت السر ولا بنفقة السر وقت العلانية فإن نفقته في أي وقت وعلى أي حال وجدت سبب لأحره وثوابه فتدبر هذه الأسرار في القرآن فلعلك لا تظفر بها تمر بك في التفاسير والمنة والفضل لله وحده لا شريك له ثم قال تعالى قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم فأخبر أن القول المعروف وهو الذي تعرفه القلوب ولا تنكره والمغفرة وهي العفو عمن أساء إليك خير من الصدقة بالأذى فالقول المعروف إحسان وصدقة بالقول والمغفرة إحسان بترك المؤاخذة والمقابلة فهما نوعان من أنواع الإحسان والصدقة المقرونة بالأذى حسنة مقرونة بما يبطلها ولا ريب أن حسنتين خير من حسنة باطلة ويدخل في المغفرة مغفرته للسائل إذا وجد منه بعض الجفوة والأذى له بسبب رده فيكون عفوه عنه خيرا من أن يتصدق عليه ويؤذيه هذا على المشهور من القولين في الآية والقول الثاني أن المغفرة من الله أي مغفرة لكم من الله بسبب القول المعروف والرد الجميل خير من صدقة يتبعها أذى وفيها قول ثالث أي مغفرة وعفو من السائل إذا رد وتعذر المسؤول خير من ________________________________________ أن ينال بنفسه صدقة يتبعها أذى وأوضح الأقوال هو الأول ويليه الثاني والثالث ضعيف جدا لأن الخطاب إنما هو للمنفق المسؤول لا للسائل الآخذ والمعنى أن قول المعروف له والتجاوز والعفو خير لك من أن تتصدق عليه وتؤذيه ثم ختم الآية بصفتين مناسبتين لما تضمنته فقال والله غني حليم وفيه معنيان أحدهما أن الله غني عنكم لن يناله شيء من صدقاتكم وإنما الحظ الأوفر لكم في الصدقة فنفعها عائد عليكم لا إليه سبحانه وتعالى فكيف يمن بنفقته ويؤذي مع غنى الله التام عنها وعن كل ما سواه ومع هذا فهو حليم إذ لم يعاجل المان بالعقوبة وفي ضمن هذا الوعيد والتحذير والمعنى الثاني أنه سبحانه وتعالى مع غناه التام من كل وجه فهو الموصوف بالحلم والتجاوز والصفح مع عطائه الواسع وصدقاته العميمة فكيف يؤذي أحدكم بمنه وأذاه مع قلة ما يعطي ونزارته وفقره ثم قال الله تعالى يا أيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين تضمنت هذه الآية الإخبار بأن المن والأذى يحبط الصدقة وهذا دليل على أن الحسنة قد تحبط بالسيئة مع قوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون وقد تقدم الكلام على هذه المسألة في أول هذه الرسالة فلا حاجة إلى إعادته وقد يقال إن المن والأذى المقارن للصدقة هو الذي يبطلها دون ما يلحقها بعدها إلا أنه ليس في الفظ ما يدل على ________________________________________ هذا التقييد والسياق يدل على إبطالها به مطلقا وقد يقال تمثيله بالمرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر يدل على أن المن والأذى المبطل هو المقارن كالرياء وعدم الإيمان فإن الرياء لو تأخر عن العمل لم يبطله ويجاب عن هذا بجوابين أحدهما أن التشبيه وقع في الحال التي يحبط بها العمل وهي حال المرائي والمان المؤذي في أن كل واحد منهما يحبط العمل الثاني أن الرياء لا يكون إلا مقارنا للعمل لأنه فعال من الرؤية التي صاحبها يعمل ليرى الناس عمله فلا يكون متراخيا وهذا بخلاف المن والأذى فإنه يكون مقارنا ومتراخيا وتراخيه أكثر من مقارنته وقوله كالذي ينفق إما أن يكون المعنى كإبطال الذي ينفق فيكون شبه الإبطال بالإبطال أو المعنى لا تكونوا كالذي ينفق ماله رئاء الناس فيكون تشبيها للمنفق بالمنفق وقوله فمثله أي مثل هذا المنفق الذي قد بطل ثواب نفقته كمثل صفوان وهو الحجر الأملس وفيه قولان أحدهما أنه واحد والثاني جمع صفوة عليه تراب فأصابه وابل وهن المطر الشديد فتركه صلدا وهو الأملس الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره وهذا من أبلغ الأمثال وأحسنها فإنه يتضمن تشبيه قلب هذا المنفق المرائي الذي لم يصدر إنفاقه عن إيمان بالله واليوم الآخر بالحجر لشدته وصلاته وعدم الانتفاع به وتضمن تشبيه ما علق به من أثر الصدقة بالغبار الذي علق بذلك الحجر والوابل الذي أزال ذلك التراب عن الحجر فأذهبه بالمانع الذي أبطل صدقته وأزالها كما يذهب الوابل التراب الذي على الحجر فيتركه صلدا فلا يقدر المنفق على شيء من ثوابه لبطلانه وزواله وفيه معنى آخر وهو أن المنفق لغير الله هو في الظاهر عامل عملا يرتب عليه الأجر ويزكو له كما تزكو الحبة التي إذا بذرت في التراب الطيب أنبتت ________________________________________ سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ولكن وراء هذا الإنفاق مانع يمنع من نموه وزكائه كما أن تحت التراب حجرا يمنع من نبات ما يبذر من الحب فيه فلا ينبت ولا يخرج شيئا ثم قال ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير هذا مثل الذي مصدر نفقته عن الإخلاص والصدق فإن ابتغاء مرضاته سبحانه هو الإخلاص والتثبيت من النفس هو الصدق في البذل فإن المنفق يعترضه عند إنفاقه آفتان إن نجا منهما كان مثله ما ذكره في هذه الآية إحداهما طلبه بنفقته محمدة أو ثناء أو غرضا من أغراضه الدنيوية وهذا حال أكثر المنفقين والآفة الثانية ضعف نفسه وتقاعسها وترددها هل يفعل أم لا فالآفة الأولى تزول بابتغاء مرضاة الله والآفة الثانية تزول بالتثبيت فإن تثبيت النفس تشجيعها وتقويتها والإقدام بها على البذل وهذا هو صدقها وطلب مرضاة الله إرادة وجهه وحده وهذا إخلاصها فإذا كان مصدر الإنفاق عن ذلك كان مثله كجنة وهي البستان الكثير الأشجار فهو مجتن بها أي مستتر ليس قاعا فارغا والجنة بربوة وهو المكان المرتفع فإنها أكمل من الجنة التي بالوهاد والحضيض لأنها إذا ارتفعت كانت بدرجة الأهوية والرياح وكانت ضاحية للشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها فكانت أنضج ثمرا وأطيبه وأحسنه وأكثره فإن الثمار تزداد طيبا وزكاء بالرياح والشمس بخلاف الثمار التي تنشأ في الظلال وإذا كانت الجنة بمكان مرتفع لم يخش عليها إلا من قلة الماء والشراب فقال تعالى أصابها وابل وهو المطر الشديد العظيم القدر فأدت ثمرتها وأعطت بركتها فأخرجت ضعفي ما يثمر غيرها أو ضعفي ما كانت تثمر بسبب ذلك الوابل ________________________________________ فهذا حال السابقين المقربين فإن لم يصبها وابل فطل فهو دون الوابل فهو يكفيها لكرم منبتها وطيب مغرسها فتكتفي في إخراج بركتها بالطل وهذا حال الأبرار المقتصدين في النفقة وهم درجات عند الله فأصحاب الوابل أعلاهم درجة وهم الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة وأصحاب الطل مقتصدوهم فمثل حال القسمين وأعمالهم بالجنة على الربوة ونفقتهم الكثيرة بالوابل والطل وكما أن كل واحد من المطرين يوجب زكاء ثمر الجنة ونحوه بالأضعاف فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة بعد أن صدرت عن ابتغاء مرضاة الله والتثبيت من نفوسهم فهي زاكية عند الله نامية مضاعفة واختلف في الضعفين فقيل ضعفا الشيء مثلاه زائدا عليه وضعفه مثله وقيل ضعفه مثلاه وضعفاه ثلاثة أمثاله وثلاثة أضعافه أربعة أمثاله كلما زاد ضعفا زاد مثلا والذي حمل هذا القائل ذلك فراره من استواء دلالة المفرد والتثنية فإنه رأى ضعف الشيء هو مثله الزائد عليه فإذا زاد إلى المثل صار مثلين وهما الضعف فلو قيل لها ضعفان لم يكن فرق بين المفرد والمثنى فالضعفان عنده مثلان مضافان إلى الأصل ويلزم من هذا أن يكون ثلاثة أضعاف ثلاثة أمثاله مضافة إلى الأصل ومثله وعليه يدل قوله تعالى فآتت أكلها ضعفين أي مثلين وقوله تعالى يضاعف لها العذاب ضعفين أي مثلين ولهذا قال في الحسنات نؤتها أجرها مرتين وأما ما توهموه من استواء دلالة المفرد والتثنية فوهم منشاؤه ظن أن الضعف هو المثل مع الأصل وليس كذلك بل المثل له اعتباران إن اعتبر وحده فهو ضعف وإن اعتبر مع نظيره فهما ضعفان والله أعلم واختلف في رافع قوله فطل فقيل هو مبتدأ خبره ________________________________________ محذوف أي وطله يكفيها وقيل خبر مبتدأه محذوف فالذي يرويها ويصيبها طل والضمير في أصابها إما أن يرجع إلى الجنة أو إلى الربوة وهما متلازمان ثم قال تعالى أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون قال الحسن هذا مثل قل والله من يعقله من الناس شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا وفي صحيح البخاري عن عبيد بن عمير قال سأل عمر يوما أصحاب النبي فيم هم يرون هذه الآيات نزلت أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل الآية قالوا الله أعلم فغضب عمر فقال قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين فقال عمر قم يا ابن أخي ولا تحقر بنفسك قال ابن عباس ضربت مثلا لعمل قال عمر أي عمل قال ابن عباس لعمل قال عمر لرجل عمل بطاعة الله ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله فقوله تعالى أيود أحدكم أخرجه مخرج الاستفهام الإنكاري وهو ! من النفي والنهي وألطف موقعا كما ترى غيرك يفعل فعلا قبيحا فتقول لا يفعل هذا عاقل لا يفعل هذا من يخاف الله والدار الآخرة وقال تعالى أيود أحدكم بلفظ الواحد لتضمنه معنى الإنكار العام كما تقول أيفعل هذا ________________________________________ أحد فيه خير وهو أبلغ في الإنكار من أن يقول أيودون وقوله أيود أبلغ في الإنكار من لو قيل أيريد لأن محبة هذا الحال المذكورة وتمنيها أقبح وأنكر من مجرد إرادتها وقوله تعالى أن تكون له جنة من نخيل وأعناب خص هذين النوعين من الثمار بالذكر لأنهما أشرف أنواع الثمار وأكثرها نفعا فإن منهما القوت والغذاء والدواء والشراب والفاكهة والحلو والحامض ويؤكلان رطبا يابسا منافعهما كثيرة جدا وقد اختلف في الأنفع والأفضل منهما فرجحت طائفة النخيل ورجحت طائفة العنب وذكرت كل طائفة حججا لقولها فذكرناها في غير هذا الموضع وفصل الخطاب أن هذا يختلف باختلاف البلاد فإن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بأن سلطان أحدهما لا يحل حيث يحل سلطان الآخر فالأرض التي يكون فيها سلطان النخيل لا يكون العنب بها طائلا ولا كثيرا لأنه أنما يخرج في الأرض الرخوة اللينة المعتدلة غير السبخة فينمو فيها ويكثر وأما النخيل فنموه وكثرته في الأرض الحارة السبخة وهي لا تناسب العنب فالنخل في أرضه وموضعه أنفع وأفضل من العنب فيها والعنب في أرضه ومعدنه أفضل من النخل فيها والله أعلم والمقصود أن هذين النوعين هما أفضل أنواع الثمار وأكرمها فالجنة المشتملة عليهما من أفضل الجنان ومع هذا فالأنهار تجري تحت هذه الجنة وذلك أكمل لها وأعظم في قدرها ومع ذلك فلم تعدم شيئا من أنواع الثمار المشتهاة بل فيها من كل الثمرات ولكن معظمها ومقصودها النخيل والأعناب فلا تنافي بين كونها من نخيل وأعناب و فيها من كل الثمرات ونظير هذا قوله تعالى واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما ________________________________________ بنخل وجعلنا بينهما زرعا إلى قوله تعالى وكان له ثمر وقد قيل إن الثمار هنا وفي آية البقرة 266 المراد بها المنافع والأموال والسياق يدل على أنها الثمار المعروفة لا غيرها لقوله هنا له فيها من كل الثمرات ثم قال تعالى فأصابها أي الجنة إعصار فيه نار فاحترقت وفي وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها وما ذلك إلا ثمار الجنة ثم قال تعالى وأصابه الكبر هذا إشارة إلى شدة حاجته إلى جنته وتعلق قلبه بها من وجوه أحدها أنه قد كبر سنه عن الكسب والتجارة ونحوها الثاني أن ابن آدم عند كبر سنه يشتد حرصه الثالث أن له ذرية فهو حريص على بقاء جنته لحاجته وحاجة ذريته الرابع أنهم ضعفاء فهم كل عليه لا ينفعونه بقوتهم وتصرفهم الخامس أن نفقتهم عليه لضعفهم وعجزهم وهذا نهاية ما يكون من تعلق القلب بهذه الجنة لخطرها في نفسها وشدة حاجته وذريته إليها فإذا تصورت هذه الحال وهذه الحاجة فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب جنته إعصار وهي الريح التي تستدير في الأرض ثم ترتفع في طبقات الجو كالعمود وفيه نار مرت بتلك الجنة فأحرقتها وصيرتها رمادا فصدق والله الحسن هذا مثل قل من يعقله من الناس ولهذا نبه سبحانه وتعالى على عظم هذا المثل وحدا القلوب إلى التفكر فيه لشدة حاجتها إليه فقال تعالى كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون فلو فكر العاقل في هذا المثل وجعله قبلة قلبه لكفاه وشفاه ________________________________________ فهكذا العبد إذا عمل بطاعة الله ثم أتبعها بما يبطلها ويفرقها من معاصي الله كانت كالإعصار ذي النار المحرق للجنة التي غرسها بطاعته وعمله الصالح ولولا أن هذه المواضع أهم مما كلامنا بصدده من ذكر مجرد الطبقات لم نذكرها ولكنها من أهم المهم والله المستعان الموفق لمرضاته فلو تصور العامل بمعصية الله بعد طاعته هذا المعنى حق تصوره وتأمله كما ينبغي لما سولت له نفسه والله إحراق أعماله الصالحة وإضاعتها ولكن لا بد أن يغيب عنه علمه عند المعصية ولهذا استحق اسم الجهل فكل من عصى الله فو جاهل فإن قيل الواو في قوله تعالى وأصابه الكبر واو الحال أم واو العطف وإذا كانت للعطف فعلام عطفت ما بعدها قلت فيه وجهان أحدهما أنه واو الحال اختاره الزمخشري والمعنى أيود أحدكم أن تكون له جنة شأنها كذا وكذا في حال كبره وضعف ذريته والثاني أن تكون للعطف على المعنى فإن فعل التمني وهو قوله أيود أحدكم لطلب الماضي كثيرا فكان المعنى أيود لو كانت له جنة من نخيل وأعناب وأصابه الكبر فجرى عليها ما ذكر وتأمل كيف ضرب سبحانه المثل للمنفق المرائي الذي لم يصدر إنفاقه عن الإيمان بالصفوان الذي عليه التراب فإنه لم ينبت شيئا أصلا بل ذهب بذره ضائعا لعدم إيمانه وإخلاصه ثم ضرب المثل لمن عمل بطاعة الله مخلصا بنيته لله ثم عرض له ما أبطل ثوابه بالجنة التي هي من أحسن الجنان وأطيبها وأزهرها ثم ________________________________________ سلط عليها الإعصار الناري فأحرقها فإن هذا نبت له شيء وأثمر له عمله ثم احترق والأول لم يحصل له شيء يدركه الحريق فتبارك من جعل كلامه حياة للقلوب وشفاء للصدور وهدى ورحمة ثم قال يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون أضاف سبحانه الكسب إليهم وإن كان هو الخالق لأفعالهم لأنه فعلهم القائم بهم وأسند الإخراج إليه لأنه ليس فعلا لهم ولا هو مقدور لهم فأضاف مقدورهم إليهم وأضاف مفعوله الذي لا قدرة لهم عليه إليه ففي ضمنه الرد على من سوى بين النوعين وسلب قدرة العبد وفعله وتأثيره عنها بالكلية وخص سبحانه هذين النوعين وهما الخارج من الأرض والحاصل بكسب التجارة دون غيرهما من المواشي إما بحسب الواقع فإنهما كانا أغلب أموال القوم إذ ذاك فإن المهاجرين كانوا أصحاب تجارة وكسب والأنصار كانوا أصحاب حرث وزرع فخص هذين النوعين بالذكر لحاجتهم إلى بيان حكمهما وعموم وجودهما وإما لأنهما أصول الأموال وما عداهما فعنهما يكون ومنهما ينشأ فإن الكسب تدخل فيه التجارات كلها على اختلاف أصنافها وأنواعها من الملابس والمطاعم والرقيق والحيوانات والآلات والأمتعة وسائر ما تتعلق به التجارة والخارج من الأرض يتناول حبها وثمارها وركازها ومعدنها وهذان هما أصول الأموال وأغلبها على أهل الأرض فكان ذكرهما أهم ثم قال ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون فنهى سبحانه عن قصد إخراج الرديء للفقير ونهيه سبحانه عن قصد ذلك وتيممه فيه ما يشبه العذر لمن فعل ذلك لا عن قصد وتيمم بل عن اتفاق إذا كان هو الحاضر إذ ذاك أو كان ماله من جنسه فإن هذا لم يتيمم الخبيث بل تيمم إخراج بعض ما من الله عليه وموقع ________________________________________ قوله منه تنفقون موقع الحال أي لا تقصدوه منفقين منه ثم قال ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه أي لو كنتم أنتم المستحقين له وبذل لكم لم تأخذوه في حقوقكم إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه من قولهم أغمض فلان عن بعض حقه ويقال للبائع أغمض أي لا تستقص كأنك لا تبصر وحقيقته من إغماض الجفن فكأن الرائي لكراهته له لا يملأ عينه منه بل يغمض من بصره ويغمض عنه بعض نظره بغضا ومنه قول الشاعر لم يفتنا بالوتر قوم واللضي ... م رجال يرضون بالإغماض وفيه معنيان أحدهما كيف تبذلون لله وتهدون له مالا ترضون ببذله لكم ولا يرضى أحدكم من صاحبه أن يهديه له والله أحق من يخير له خيار الأشياء وأنفسها والثاني كيف تجعلون له ما تكروهو لأنفسكم وهو سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبا ثم ختم الآيتين بصفتين يقتضيهما سياقهما فقال واعلموا أن الله غني حميد فغناه وحمده يأبى قبول الرديء فإن قبل الرديء الخبيث إما أن يقبله لحاجته إليه وإما أن نفسه لا تأباه لعدم كمالها وشرفها وأما الغني عنه الشريف القدر الكامل الأوصاف فإنه لا يقبله ثم قال تعالى الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم هذه الآية تتضمن الحض على الإنفاق والحث عليه بأبلغ الألفاظ وأحسن المعاني فإنها اشتملت على بيان الداعي إلى البخل والداعي إلى البذل والإنفاق وبيان ما يدعوه إليه داعي البخل وما يدعو إليه داعي الإنفاق وبيان ما يدعو به داعي ________________________________________ الأمرين فأخبر سبحانه أن الذي يدعوهم إلى البخل والشح هو الشيطان وأخبر أن دعوته هي بما يعدهم به ويخوفهم من الفقر إن أنفقوا أموالهم وهذا هو الداعي الغالب على الخلق فإنه يهم بالصدقة والبذل فيجد في قلبه داعيا يقول له متى أخرجت هذا دعتك الحاجة إليه وافتقرت إليه بعد إخراجه وإمساكه خير لك حتى لا تبقى مثل الفقير فغناك خير لك من غناه فإذا صور له هذه الصورة أمره بالفحشاء وهي البخل الذي هو من أقبح الفواحش وهذا إجماع من المفسرين أن الفحشاء هنا البخل فهذا وعده وهذا أمره وهو الكاذب في وعده الغار الفاجر في أمره فالمستجيب لدعوته مغرور مخدوع مغبون فإنه يدلي من يدعوه بغروره ثم يورده شر الموارد كما قال دلاهم بغرور ثم أوردهم ... إن الخبيث لمن والاه غرار هذا وإن وعده له الفقر ليس شفقة عليه ولا نصيحة له كما ينصح الرجل أخاه ولا محبة في بقائه غنيا بل لا شيء أحب إليه من فقره وحاجته وإنما وعده له بالفقر وأمره إياه بالبخل ليسيء ظنه بربه ويترك ما يحبه من الإنفاق لوجهه فيستوجب منه الحرمان وأما الله سبحانه فإنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه وفضلا بأن يخلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه إما في الدنيا أو في الدنيا والآخرةفهذا وعد الله وذاك وعد الشيطان فلينظر البخيل والمنفق أي الوعدين هو أوثق وإلى أيهما يطمئن قلبه وتسكن نفسه والله يوفق من يشاء ويخذل من يشاء وهو الواسع العليم وتأمل كيف ختم هذه الآية بهذين الإسمين فإنه واسع العطاء عليم بمن يستحق فضله ومن يستحق عدله فيعطي هذا بفضله ويمنع هذا بعدله وهو بكل شيء عليم فتأمل هذه الآيات ولا تستطل بسط الكلام فيها فإن لها شأنا لا يعقله إلا من عقل عن الله خطابه وفهم مراده وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون وتأمل ختم هذه السورة التي هي سنام القرآن بأحكام الأموال وأقسام الأغنياء وأحوالهم وكيف قسمهم إلى ثلاثة أقسام ________________________________________ القسم الأول محسن وهم المتصدقون فذكر جزاءهم ومضاعفته وما لهم في قرض أموالهم للمليء الوفي ثم حذرهم مما يبطل ثواب صدقاتهم ويحرقها بعد استوائها وكمالها من المن والأذى وحذرهم مما يمنع ترتب أثرها عليها ابتداء من الرياء ثم أمرهم أن يتقربوا إليه بأطيبها ولا يتيمموا أردأها وخبيثها ثم حذرهم من الاستجابة لداعي البخل والفحش وأخبر أن استجابتهم لدعوته وثقتهم بوعده أولى بهم وأخبر أن هذا من حكمته التي يؤتيها من يشاء من عباده وأن من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا أوتي ما هو خير وأفضل من الدنيا كلها لأنه سبحانه وصف الدنيا بالقلة فقال تعالى قل متاع الدنيا قليل وقال تعالى ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا فدل على أن ما يؤتيه عبده من حكمته خير من الدنيا وما عليها ولا يعقل هذا كل أحد بل لا يعقله إلا من له لب وعقل ذكي فقال تعالى وما يذكر إلا أولو الألباب ثم أخبر أن كل ما أنفقوه من نفقة أو تقربوا به إليه من نذر فإنه يعلمه فلا يضيع لديه بل يعلم ما كان لوجهه ويكل جزاء من عمل لغيره إلى من عمل له فإنه ظالم لنفسه وما له من نصير ثم أخبر سبحانه عن أحوال المتصدقين لوجهه في صدقاتهم وأنه يثيبهم عليها إن أبدوها أو كتموها بعد أن تكون ________________________________________ خالصة لوجهه فقال إن تبدوا الصدقات فنعماهي أي فنعم شيء هي وهذا مدح لها موصوفة بكونها ظاهرة بادية فلا يتوهم مبديها بطلان أثره وثوابه فيمنعه ذلك من إخراجها وينتظر بها الإخفاء فتفوت أو تعترضه الموانع ويحال بينه وبين قلبه أو بينه وبين إخراجها فلا يؤخر صدقة العلانية بعد حضور وقتها إلى وقت السر وهذه كانت حال الصحابة ثم قال وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم فأخبر أن إعطاءها للفقير في خفية خير للمنفق من إظهارها وإعلانها وتأمل تقييده تعالى الإخفاء بإيتاء الفقراء خاصة ولم يقل وإن تخفوها فهو خير لكم فإن من الصدقة ما لا يمكن إخفاؤه كتجهيز جيش وبناء قنطرة وإجراء نهر أو غير ذلك وأما إيتاؤها الفقراء ففي إخفائها من الفوائد الستر عليه وعدم تخجيله بين الناس وإقامته مقام الفضيحة وأن يرى الناس أن يده هي اليد السفلى وأنه لا شيء له فيزهدون في معاملته ومعاوضته وهذا قدر زائد من الإحسان إليه بمجرد الصدقة مع تضمنه الإخلاص وعدم المراءاة وطلبهم المحمدة من الناس وكان إخفاؤها للفقير خيرا من إظهارها بين الناس ومن هذا مدح النبي صدقة السر وأثنى على فاعلها وأخبر أنه أحد السبعة الذين هم في ظل عرش الرحمن يوم القيامة ولهذا جعله سبحانه خيرا للمنفق وأخبر أنه يكفر عنه بذلك الإنفاق من سيئاته ولا يخفى عليه سبحانه أعمالكم ولا نياتكم فإنه بما تعملون خبير ثم أخبر أن هذا الإنفاق إنما نفعه لأنفسهم يعود عليهم أحوج ما كانوا إليه فكيف يبخل أحدكم عن نفسه بما نفعه مختص بها عائد إليها وإن نفقة المؤمنين إنما تكون ابتغاء وجهه خالصا لأنها صادرة عن إيمانهم وأن نفقتهم ترجع إليهم وافية كاملة ولا يظلم منها مثقال ذرة وصدر هذا الكلام بأن الله هو الهادي الموفق لمعاملته وإيثار مرضاته وأنه ليس على رسوله هداهم بل عليه إبلاغهم وهو سبحانه الذي يوفق من يشاء لمرضاته ________________________________________ ثم ذكر المصرف الذي توضع فيه الصدقة فقال تعالى للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا فوصفهم بست صفات إحداها الفقر الثانية حبسهم أنفسهم في سبيله تعالى وجهاد أعدائه ونصر دينه وأصل الحصر المنع فمنعوا أنفسهم من تصرفها في أشغال الدنيا وقصروها على بذلها لله في سبيله الثالثة عجزهم عن الأسفار للتكسب والضرب في الأرض هو السفر قال تعالى علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وقال تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة الرابعة شدة تعففهم وهو حسن صبرهم وإظهارهم الغنى حتى يحسبهم الجاهل أغنياء من تعففهم وعدم تعرضهم وكتمانهم حاجتهم الخامسة أنهم يعرفون بسيماهم وهي العلامة الدالة على حالتهم التي وصفهم الله بها وهذا لا ينافي حسبان الجاهل أنهم أغنياء لأن الجاهل له ظاهر الأمر والعارف هو المتوسم المتفرس الذي يعرف الناس بسيماهم فالمتوسمون خواص المؤمنين كما قال تعالى إن في ذلك لآيات للمتوسمين السادسة تركهم مسألة الناس فلا يسألونهم والإلحاف هو الإلحاح والنفي متسلط عليهما معا أي لا يسألون ولا يلحفون فليس يقع منهم سؤال يكون بسببه إلحاف وهذا كقوله على لاحب لا يهتدي لمناره أي ليس فيه منار فيهتدي به وفيه كالتنبيه على أن المذموم من السؤال هو سؤال الإلحاف فأما السؤال بقدر الضرورة من غير إلحاف فالأفضل تركه ولا يحرم فهذه ست صفات للمستحقين للصدقة فألغاها أكثر الناس ولحظوا منها ظاهر الفقر وزيه من غير حقيقته وأما سائر الصفات المذكورة فعزيز أهلها ومن يعرفهم أعززه والله يختص بتوفيقه من يشاء فهؤلاء هم المحسنون في أموالهم ________________________________________ القسم الثاني الظالمون وهم ضد هؤلاء وهم الذين يذبحون المحتاج المضطر فإذا دعته الحاجة إليهم لم ينفسوا كربته إلا بزيادة على ما يبذلونه له وهم أهل الربا فذكرهم تعالى بعد هذا فقال يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا إن كنتم مؤمنين فصدر الآية بالأمر بتقواه المضادة للربا وأمر بترك ما بقي من الربا بعد نزول الآية وعفا لهم عما قبضوه به قبل التحريم ولولا ذلك لردوا ما قبضوه به قبل التحريم وعلق هذا الامتثال على وجود الإيمان منهم والمعلق على شرط منتف عند انتفائه ثم أكد عليهم التحريم بأغلظ شيء وأشده وهي محاربة المرابي لله ورسوله فقال تعالى فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ففي ضمن هذا الوعيد أن المرابي محارب لله ورسوله قد آذنه الله بحربه ولم يجىء هذا الوعيد في كبيرة سوى الربا وقطع الطريق والسعي في الأرض بالفساد لأن كل واحد منهما مفسد في الأرض قاطع الطريق على الناس هذا بقهره لهم وتسلطه عليهم وهذا بامتناعه من تفريج كرباتهم إلا بتحميلهم كربات أشد منها فأخبر عن قطاع الطريق بأنهم يحاربون الله ورسوله وآذن هؤلاء إن لم يتركوا الربا بحربه وحرب رسوله ثم قال وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم يعني إن تركتم الربا وتبتم إلى الله منه وقد عاقدتم عليه فإنما لكم رؤوس أموالكم لا تزدادون عليها فتظلمون الآخذ ولا تنقصون منها فيظلمكم من أخذها فإن كان هذا القابض معسرا فالواجب إنظاره إلى ميسرة وإن تصدقتم عليه وابرأتموه فهو أفضل لكم وخير لكم فإن أبت نفوسكم وشحت بالعدل الواجب أو الفضل المندوب فذكروها يوما ترجعون فيه إلى الله وتلقون ربكم فيوفيكم جزاء أعمالكم أحوج ما أنتم إليه فذكر سبحانه المحسن وهو المتصدق ثم عقبه بالظالم وهو المرابي ________________________________________ ثم ذكر العادل في آية التداين فقال تعالى يا أيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين الآية ولولا أن هذه الآية تستدعي سفرا وحدها لذكرت بعض تفسيرها والغرض إنما هو التنبيه والإشارة وقد ذكر أيضا العادل وهو آخذ رأس ماله من غريمه لا بزيادة ولا نقصان ثم ختم السورة بهذه الخاتمة العظيمة التي هي من كنز تحت عرشه والشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه وفيها من العلوم والمعارف وقواعد الإسلام وأصول الإيمان ومقامات الإحسان ما يستدعي بيانه كتابا مفردا والمقصود ذكر طبقات الخلائق في الدار الآخرة ولنعد إلى المقصود فإن هذا من سعي القلم ولعله أهم مما نحن بصدده فهذه الطبقات الأربع من طبقات الأمة هم أهل الإحسان والنفع المتعدي وهم العلماء وأئمة العدل وأهل الجهاد وأهل الصدقة وبذل الأموال في مرضاة الله فهؤلاء ملوك الآخرة وصحائف حسناتهم متزايدة تملى فيها الحسنات وهم في بطون الأرض ما دامت آثارهم في الدنيا فيا لها من نعمة ما أجلها وكرامة ما أعظمها يختص الله بها من يشاء من عباده الطبقة الثامنة من فتح الله له بابا من أبواب الخير القاصر على نفسه كالصلاة والحج والعمرة وقراءة القرآن والصوم والاعتكاف والذكر ونحوها مضافا إلى أداء فرائض الله عليه فهو جاهد في تكثير حسناته وإملاء صحيفته وإذا عمل خطيئة تاب إلى الله منها فهذا على خير عظيم وله ثواب أمثاله من أعمال الآخرة ولكن ليس له إلا عمله فإذا مات طويت صحيفته فهذه طبقة أهل الربح والحظوة أيضا عند الله ________________________________________ الطبقةالتاسعة طبقة أهل النجاة وهي طبقة من يؤدي فرائض الله ويترك محارم الله مقتصرا على ذلك لا يزيد عليه ولا ينقص منه فلا يتعدى إلى ما حرم الله عليه ولا يزيد على ما فرض عليه هذا من المفلحين بضمان رسول الله لمن أخبره بشرائع الإسلام فقال والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال أفلح إن صدق وأصحاب هذه الطبقة مضمون لهم على الله تكفير سيئاتهم إذا أدوا فرائضه واجتنبوا كبائر ما نهاهم عنه قال تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما وصح عنه أنه قال الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان والجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهن ما لم تغش كبيرة فإن غشي أهل هذه الطبقة كبيرة وتابوا منها توبة نصوحا لم يخرجوا من طبقتهم فكانوا بمنزلة من لا ذنب له فتكفير الصغائر يقع بشيئين أحدهما الحسنات الماحية والثاني اجتناب الكبائر وقد نص عليها سبحانه وتعالى في كتابه فقال تعالى وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات وقال تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم الطبقة العاشرة طبقة قوم أسرفوا على أنفسهم وغشوا كبائر ما نهى الله عنه ولكن رزقهم الله التوبة النصوح قبل الموت فماتوا على توبة صحيحة فهؤلاء ناجون من عذاب الله إما قطعا عند قوم وإما رجاء وظنا عند آخرين وهم موكولون إلى المشيئة ولكن نصوص القرآن والسنة تدل على نجاتهم وقبول توبتهم وهو وعد وعدهم الله إياه والله لا يخلف الميعاد فإن قيل فما الفرق بين أهل هذه الطبقة والتي قبلها فإن الله إذا كفر عنهم سيئاتهم وأثبت لهم بكل سيئة حسنة كانوا قبلهم أو أرجح قيل قد تقدم الكلام على هذه المسألة بما فيه كفاية فعليك بمعاودته هناك وكيف يستوي عند الله من أنفق عمره في طاعته ولم يغش كبيرة ________________________________________ ومن لم يدع كبيرة إلا ارتكبها وفرط في أوامره ثم تاب فهذا غايته أن تمحى سيئاته ويكون لا له ولا عليه وأما أن يكون هو من قبله سواء أو أرجح منه فكلا الطبقةالحادية عشرة طبقة أقوام خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فعملوا حسنات وكبائر ولقوا الله مصرين عليها غير تائبين منها لكن حسناتهم أغلب من سيئاتهم فإذا وزنت بها ورجحت كفة الحسنات فهؤلاء أيضا ناجون فائزون قال تعالى والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون قال حذيفة وعبدالله بن مسعود وغيرهما من الصحابة يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف فمن رجحت حسناته على سيئاته بواحدة دخل الجنة ومن رجحت سيئاته على حسناته بواحدة دخل النار ومن استوت حسناته وسيئاته فهو من أهل الأعراف وهذه الموازنة تكون بعد قصاص واستيفاء المظلومين حقوقهم من حسناته فإذا بقي شيء منها وزن هو وسيئاته أهـ { طريق الهجرتين صـ 474 ـ صـ 494 } ________________________________________ سورة آ ل عمران قوله تعالى { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم } التوحيد تنزيه الله عز وجل عن الحدث وإنما نطق العلماء بما نطقوا به وأشار المحققون بما أشاروا به في هذا الطريق لقصد تصحيح التوحيد وما سواه من حال أو مقام فكله مصحوب بالعلل قلت التوحيد أول دعوة الرسل وأول منازل الطريق وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله تعالى قال تعالى لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره وقال هود لقومه اعبدوا الله مالكم من إله غيره وقال صالح لقومه اعبدوا الله مالكم من إله غيره وقال شعيب لقومه اعبدوا الله مالكم من إله غيره وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فالتوحيد مفتاح دعوة الرسل ولهذا قال النبي لرسوله معاذ ابن جبل رضي الله عنه وقد بعثه إلى اليمن إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله وحده فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة وذكر الحديث وقال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله لا النظر ولا القصد إلى النظر ولا الشك كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا كما قال النبي من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة فهو أول واجب وآخر واجب فالتوحيد أول الأمر وآخره ________________________________________ قوله التوحيد تنزيه الله عن الحدث هذا الحد لا يدل على التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وينجو به العبد من النار ويدخل به الجنة ويخرج من الشرك فإنه مشترك بين جميع الفرق وكل من أقر بوجود الخالق سبحانه أقر به فعباد الأصنام والمجوس والنصارى واليهود والمشركون على اختلاف نحلهم كلهم ينزهون الله عن الحدث ويثبتون قدمه حتى أعظم الطوائف على الإطلاق شركا وكفرا وإلحادا وهم طائفة الاتحادية فإنهم يقولون هو الوجود المطلق وهو قديم لم يزل وهو منزه عن الحدث ولم تزل المحدثات تكتسي وجوده تلبسه وتخلعه والفلاسفة الذين هم أبعد الخلق عن الشرائع وما جاءت به الأنبياء يثبتون واجب الوجود قديما منزها عن الحدث والمشركون عباد الأصنام الذين يعبدون معه آلهة أخرى يثبتون قديما منزها عن الحدث فالتنزيه عن الحدث حق لكن لا يعطي إسلاما ولا إيمانا ولا يدخل في شرائع الأنبياء ولا يخرج من نحل أهل الكفر ومللهم ألبتة وهذا القدر لا يخفى على شيخ الإسلام ومحله من العلم والمعرفة محله ومع هذا فقد سئل سيد الطائفة الجنيد عن التوحيد فقال هو إفراد القديم عن المحدث والجنيد أشار إلى أنه لا تصح دعوى التوحيد ولا مقامه ولا حاله ولا يكون العبد موحدا إلا إذا أفرد القديم عن المحدث فإن كثيرا ممن ادعى التوحيد لم يفرده سبحانه من المحدثات فإن من نفى مباينته لخلقه فوق سمواته على عرشه وجعله في كل مكان بذاته لم يفرده عن المحدث بل جعله حالا في المحدثات مخالفا لها موجودا فيها بذاته وصوفية هؤلاء وعبادهم هم الحلولية الذين يقولون إن الله عز وجل يحل بذاته في المخلوقات وهم طائفتان طائفة تعم الموجودات بحلوله فيها وطائفة تخص به بعضها دون بعض قال الأشعري في كتاب المقالات هذه حكاية قول قوم من النساك وفي الأمة قوم ينتحلون النسك يزعمون أنه جائز على الله تعالى الحلول في الأجسام وإذا رأوا شيئا يستحسنونه قالوا لا ندري لعله ربنا ________________________________________ قلت وهذه الفرقة طائفتان إحداهما تزعم أنه سبحانه يحل في الصورة الجميلة المستحسنة والثانية تزعم أنه سبحانه يحل في الكمل من الناس وهم الذين تجردت نفوسهم عن الشهوات واتصفوا بالفضائل وتنزهوا عن الرذائل والنصارى تزعم أنه حل في بدن المسيح وتدرع به والاتحادية تزعم أنه وجود مطلق أكتسته الماهيات فهو عين وجودها فكل هؤلاء لم يفردوا القديم عن المحدث فصل وهذا الإفراد الذي أشار إليه الجنيد نوعان أحدهما إفراد في الاعتقاد والخبر وذلك نوعان أيضا أحدهما إثبات مباينة الرب تعالى للمخلوقات وعلوه فوق عرشه من فوق سبع سموات كما نطقت به الكتب الإلهية من أولها إلى آخرها وأخبرت به جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم والثاني إفراده سبحانه بصفات كماله وإثباتها له على وجه التفصيل كما أثبتها لنفسه وأثبتها له رسله منزهة عن التعطيل والتحريف والتمثيل والتكييف والتشبيه بل تثبت له سبحانه حقائق الأسماء والصفات وتنفي عنه فيها مماثلة المخلوقات إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تحريف ولا تعطيل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وفي هذا النوع يكون إفراده سبحانه بعموم قضائه وقدره لجميع المخلوقات أعيانها وصفاتها وأفعالها وأنها كلها واقعة بمشيئته وقدرته وعلمه وحكمته فيباين صاحب هذا الإفراد سائر فرق أهل الباطل من الاتحادية والحلولية والجهمية الفرعونية الذين يقولون ليس فوق السموات رب يعبد ولا على العرش إله يصلى له ويسجد والقدرية الذين يقولون إن الله لا يقدر على أفعال العباد من الملائكة والإنس والجن ولا على أفعال سائر الحيوانات بل يقع في ملكه مالا يريد ويريد مالا يكون فيريد شيئا لا يكون ويكون شيء بغير إرادته ومشيئته والله سبحانه أعلم فصل والنوع الثاني من الإفراد إفراد القديم عن المحدث بالعبادة من ________________________________________ التأله والحب والخوف والرجاء والتعظيم والإنابة والتوكل والاستعانة وابتغاء الوسيلة إليه فهذا الإفراد وذلك الإفراد بهما بعثت الرسل وأنزلت الكتب وشرعت الشرائع ولأجل ذلك خلقت السموات والأرض والجنة والنار وقام سوق الثواب والعقاب فتفريد القديم سبحانه عن المحدث في ذاته وصفاته وأفعاله وفي إرادته وحده ومحبته وخوفه ورجائه والتوكل عليه والاستعانة والحلف به والنذر له والتوبة إليه والسجود له والتعظيم والإجلال وتوابع ذلك ولذلك كانت عبارة الجنيد عن التوحيد عبارة سادة مسددة فشيخ الإسلام إن أراد ما أراد أبو القاسم فلا إشكال وإن أراد أن ينزه الله سبحانه عن قيام الأفعال الاختيارية به التي يسميها نفاة أفعاله حلول الحوادث ويجعلون تنزيه الرب تعالى عنها من كمال التوحيد بل هو أصل التوحيد عندهم فكأنه قال التوحيد تنزيه الرب تعالى عن حلول الحوادث وحقيقة ذلك أن التوحيد عندهم تعطيله عن أفعاله ونفيها بالكلية وأنه لا يفعل شيئا ألبتة فإن إثبات فاعل من غير فعل يقوم به ألبتة محال في العقول والفطر ولغات الأمم ولا يثبت كونه سبحانه ربا للعالم مع نفي ذلك أبدا فإن قيام الأفعال به هو معنى الربوبية وحقيقتها ونافى هذه المسألة ناف لأصل الربوبية جاحد لها رأسا وإن أراد تنزيه الرب تعالى عن سمات المحدثين وخصائص المخلوقين فهو حق ولكنه تقصير في التعبير عن التوحيد فإن إثبات صفات الكمال أصل التوحيد ومن تمام هذا الإثبات تنزيهه سبحانه عن سمات المحدثين وخصائص المخلوقين وقد استدرك عليه الاتحادي في هذا الحد فقال شهود التوحيد يرفع الحدوث أصلا ورأسا فلا يكون هناك وجودان قديم ومحدث فالتوحيد هو أن لا يرى مع الوجود المطلق سواه والله سبحانه أعلم فصل وقد تقسمت الطوائف التوحيد وسمى كل طائفة باطلهم توحيدا ________________________________________ فأتباع أرسطوا وابن سينا والنصير الطوسي عندهم التوحيد إثبات وجود مجرد عن الماهية والصفة بل هو وجود مطلق لا يعرض لشيء من الماهيات ولا يقوم به وصف ولا يتخصص بنعت بل صفاته كلها سلوب وإضافات فتوحيد هؤلاء هو غاية الإلحاد والجحد والكفر وفروع هذا التوحيد إنكار ذات الرب والقول بقدم الأفلاك وأن الله لا يبعث من في القبور وأن النبوة مكتسبة وأنها حرفة من الحرف كالولاية والسياسة وأن الله لا يعلم عدد الأفلاك ولا الكواكب ولا يعلم شيئا من الموجودات المعينة ألبتة وأنه لا يقدر على قلب شيء من أعيان العالم ولا شق الأفلاك ولا خرقها وأنه لا حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي ولا جنة ولا نار فهذا توحيد هؤلاء وأما الاتحاديه فالتوحيد عندهم أن الحق المنزه هو عين الخلق المشبه وأنه سبحانه هو عين وجود كل موجود وحقيقته وماهيته وأنه آية كل شيء وله فيه آية تدل على أنه عينه وهذا عند محققيهم من خطإ التعبير بل هو نفس الآية ونفس الدليل ونفس المستدل ونفس المستدل عليه فالتعدد بوجود اعتبارات وهمية لا بالحقيقة والوجود فهو عندهم عين الناكح وعين المنكوح وعين الذابح وعين المذبوح وعين الآكل وعين المأكول وهذا عندهم هو السر الذي رمزت إليه هوامس الدهور الأولية ورامت إفادته الهداية النبوية كما قاله محققهم وعارفهم ابن سبعين ________________________________________ ومن فروع هذا التوحيد أن فرعون وقومه مؤمنون كاملوا الإيمان عارفون بالله على الحقيقة ومن فروعه أن عباد الأصنام على الحق والصواب وأنهم إنما عبدوا عين الله سبحانه لا غيره ومن فروعه أن الحق أن لا فرق في التحريم والتحليل بين الأم والأخت والأجنبية ولا فرق بين الماء والخمر والزنا والنكاح الكل من عين واحدة بل هو العين الواحدة وإنما المحجوبون عن هذا السر قالوا هذا حرام وهذا حلال نعم هو حرام عليكم لأنكم في حجاب عن حقيقة هذا التوحيد ومن فروعه أن الأنبياء ضيقوا الطريق على الناس وبعدوا عليهم المقصود والأمر وراء ما جاءوا به ودعوا إليه وأما الجهمية فالتوحيد عندهم إنكار علو الله على خلقه بذاته واستوائه على عرشه وإنكار سمعه وبصره وقوته وحياته وكلامه وصفاته وأفعاله ومحبته ومحبة العباد له فالتوحيد عندهم هو المبالغة في إنكار التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وأما القدرية فالتوحيد عندهم هو إنكار قدر الله وعموم مشيئته للكائنات وقدرته عليها ومتأخروهم ضموا إلى ذلك توحيد الجهمية فصار حقيقة التوحيد عندهم إنكار القدر وإنكار حقائق الأسماء الحسنى والصفات العلى وربما سموا إنكار القدر والكفر بقضاء الرب وقدره عدلا وقالوا نحن أهل الوأما الجبرية فالتوحيد عندهم هو تفرد الرب تعالى بالخلق والفعل وأن العباد غير فاعلين على الحقيقة ولا محدثين لأفعالهم ولا قادرين عليها وأن الرب تعالى لم يفعل لحكمة ولا غاية تطلب بالفعل وليس في المخلوقات قوى وطبائع وغرائز وأسباب بل ما ثم إلا مشيئة محضة ترجح مثلا على مثل بغير مرجح ولا حكمة ولا سبب ألبتة وأما صاحب المنازل ومن سلك سبيله فالتوحيد عندهم نوعان أحدهما غير موجود ولا ممكن وهو توحيد العبد ربه فعندهم ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد والثاني توحيد صحيح وهو توحيد الرب لنفسه وكل من ينعته سواه فهو ملحد فهذا توحيد الطوائف ومن الناس إلا أولئك والله سبحانه أعلم ________________________________________ فصل وأما التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه فوراء ذلك كله وهو نوعان توحيد في المعرفة والإثبات وتوحيد في المطلب والقصد فالأول هو حقيقة ذات الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وعلوه فوق سمواته على عرشه وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح كما في أول سورة الحديد وسورة طه وآخر سورة الحشر وأول سورة تنزيل السجدة وأول سورة آل عمران وسوة الإخلاص بكمالها وغير ذلك النوع الثاني مثل ما تضمنته سورة قل يا أيها الكافرون وقوله قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم الآية وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها وأول سورة يونس ووسطها وآخرها وأول سورة الأعراف وآخرها وجملة سورة الأنعام وغالب سور القرآن بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد عدل والتوحيد بل نقول قولا كليا إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد شاهدة به داعية إليه فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله فهو التوحيد العلمي الخبري وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع كل ما يعبد من دونه فهو التوحيد الإرادي الطلبي وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته في نهيه وأمره فهي حقوق التوحيد ومكملاته وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة فهو جزاء توحيده وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب فهو خبر عمن خرج عن حكم التوحيد ________________________________________ فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم ف الحمد لله توحيد رب العالمين توحيد الرحمن الرحيم توحيد مالك يوم الدين توحيد إياك نعبد توحيد وإياك نستعين توحيد اهدنا الصراط المستقيم توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين الذين فارقوا التوحيد ولذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد وشهد له به ملائكته وأنبياؤه ورسله قال شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام فتضمنت هذه الآية الكريمة إثبات حقيقة التوحيد والرد على جميع هذه الطوائف والشهادة يبطلان أقوالهم ومذاهبهم وهذا إنما يتبين بعد فهم الآية ببيان ما تضمنته من المعارف الإلهية والحقائق الإيمانية فتضمنت هذه الآية أجل شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها من أجل شاهد بأجل مشهود به وعبارات السلف في شهد تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار قال مجاهد حكم وقضى وقال الزجاج بين وقالت طائفة أعلم وأخبر وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره وقوله وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه فلها أربع مراتب فأول مراتبها علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته وثانيها تكلمه بذلك ونطقه به وإن لم يعلم به غيره بل يتكلم به مع نفسه ويذكرها وينطق بها أو يكتبها وثالثها أن يعلم غيره بما شهد به ويخبره به ويبينه له ورابعها أن يلزمه بمضمونها ويأمره به فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربعة علم الله سبحانه بذلك وتكلمه به وإعلامه وإخباره لخلقه به وأمرهم وإلزامهم به أما مرتبة العلم فإن الشهادة بالحق تتضمنها ضرورة وإلا كان الشاهد شاهدا بما لا علم له به قال الله تعالى إلا من شهد بالحق وهم يعلمون وقال النبي على مثلها فاشهد وأشار إلى الشمس ________________________________________ وأما مرتبة التكلم والخبر فمن تكلم بشيء وأخبر به فقد شهد به وإن لم يتلفظ بالشهادة قال تعالى قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم وقال تعالى وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم سنكتب شهادتهم ويسألون فجعل ذلك منهم شهادة وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عند غيرهم قال النبي عدلت شهادة الزور الإشراك بالله وشهادة الزور هي قول الزور كما قال تعالى واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به وعند نزول هذه الآية قال رسول الله عدلت شهادة الزور الإشراك بالله \ ح \ فسمى قول الزور شهادة وسمى الله تعالى إقرار العبد على نفسه شهادة قال تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم فشهادة المرء على نفسه هي إقراره على نفسه وفي الحديث الصحيح في قصة ماعز الأسلمي فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه رسول الله وقال تعالى قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين وهذا وأضعافه يدل على أن الشاهد عند الحاكم وغيره لا يشترط في قبول شهادته أن يتلفظ بلفظ الشهادة كما هو مذهب مالك وأهل المدينة وظاهر كلام أحمد ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين اشتراط ذلك وقد قال ابن عباس شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن رسول الله نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس ومعلوم أنهم لم يتلفظوا بلفظ الشهادة والعشرة الذين شهد لهم رسول الله بالجنة لم يتلفظ في شهادته لهم بلفظ الشهادة بل قال أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة الحديث ________________________________________ وأجمع المسلمون على أن الكافر إذا قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فقد دخل في الإسلام وشهد شهادة الحق ولم يتوقف إسلامه على لفظ الشهادة وأنه قد دخل في قوله حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وفي لفظ آخر حتى يقولوا لا إله إلا الله فدل على أن مجرد قولهم لا إله إلا الله شهادة منهم وهذا أكثر من أن تذكر شواهده من الكتاب والسنة فليس مع من اشترط لفظ الشهادة دليل يعتمد عليه والله أعلم فصل وأما مرتبة الإعلام والإخبار فنوعان إعلام بالقول وإعلام بالفعل وهذا شأن كل معلم لغيره بأمر تارة يعلمه بقوله وتارة بفعله ولهذا كان من جعل دارا مسجدا وفتح بابها لكل من دخل إليها وأذن بالصلاة فيها معلما أنها وقف وأن لم يتلفظ به وكذلك من وجد متقربا إلى غيره بأنواع المسار معلما له ولغيره أنه يحبه وإن لم يتلفظ بقوله وكذلك بالعكس وكذلك شهادة الرب جل جلاله وبيانه وإعلامه يكون بقوله تارة وبفعله تارة أخرى فالقول هو ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه ومما قد علم بالاضطرار أن جميع الرسل أخبروا عن الله أنه شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو وأخبر بذلك وأمر عباده أن يشهدوا به وشهادته سبحانه أن لا إله إلا هو معلومة من جهة كل من بلغ عنه كلامه وأما بيانه وإعلامه بفعله فهو ما تضمنه خبره تعالى عن الأدلة الدالة على وحدانيته التي تعلم دلالتها بالعقل والفطرة وهذا أيضا يستعمل فيه لفظ الشهادة كما يستعمل فيه لفظ الدلالة والإرشاد والبيان فإن الدليل يبين المدلول عليه ويظهره كما يبينه الشاهد والمخبر بل قد يكون البيان بالفعل أظهر وأبلغ وقد يسمى شاهد الحال نطقا وقولا وكلاما لقيامه مقامه وأدائه مؤداه كما قيل وقالت له العينان سمعا وطاعة ... وحدرتا بالدر لما يثقب وقال الآخر شكا إلي جملي طول السرى ... صبرا جميلي فكلانا مبتلى وقال الآخر امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلا رويدا قد ملأت بطني ________________________________________ ويسمى هذا شهادة أيضا كما في قوله تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلون من أعمال الكفر وأقواله فهي شهادة بكفرهم وهم شاهدون على أنفسهم بما شهدت به والمقصود أن الله سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه فإن دلالتها إنما هي بخلقه وجعله ويشهد بآياته القولية الكلامية المطابقة لما شهدت به آياته الخلقية فتتطابق شهادة القول وشهادة الفعل كما قال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أي أن القرآن حق فأخبر أنه يدل بآياته الأفقية والنفسية على صدق آياته القولية الكلامية وهذه الشهادة الفعلية قد ذكرها غير واحد من أئمة العربية والتفسير قال ابن كيسان شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عند خلقه أنه لا إله إلا هو فصل وأما المرتبة الرابعة وهي الأمر بذلك والإلزام به وإن كان مجرد الشهادة لا يستلزمه لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه وتتضمنه فإنه سبحانه شهد به شهادة من حكم به وقضى وأمر وألزم عباده به كما قال تعالى وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وقال تعالى وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد وقال تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين وقال تعالى لا تجعل مع الله إلها آخر وقال الله سبحانه وتعالى ولا تدع مع الله إلها آخر والقرآن كله شاهد بذلك ________________________________________ ووجه استلزام شهادته سبحانه لذلك أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو فقد أخبر وبين وأعلم وحكم وقضى أن ما سواه ليس بإله وأن إلهية ما سواه أبطل الباطل وإثباتها أظلم الظلم فلا يستحق العبادة سواه كما لا تصلح الإلهية لغيره وذلك يستلزم الأمر باتخاذه وحده إلها والنهي عن اتخاذ غيره معه إلها وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات كما إذا رأيت رجلا يستفتى أو يستشهد أو يستطب من ليس أهلا لذلك ويدع من هو أهل له فتقول هذا ليس بمفت ولا شاهد ولا طبيب المفتي فلان والشاهد فلان والطبيب فلان فإن هذا أمر منك ونهي وأيضا فإن الأدلة قد دلت على أنه سبحانه وحده المستحق للعبادة فإذا أخبر أنه هو وحده المستحق للعبادة تضمن هذا الإخبار أمر العباد وإلزامهم بأداء ما يستحقه الرب تعالى عليهم وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم فإذا شهد سبحانه أنه لا إله إلا هو تضمنت شهادته الأمر والإلزام بتوحيده وأيضا فلفظ الحكم والقضاء يستعمل في الجمل الخبرية فيقال للجملة الخبرية قضية وحكم وقد حكم فيها بكيت وكيت قال تعالى ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أصطفى البنات على البنين مالكم كيف تحكمون فجعل هذا الإخبار المجرد منهم حكما وقال في موضع آخر أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون لكن هذا حكم لا الزام الإلزام معه والحكم والقضاء بأنه لا إله إلا هو متضمن للإلزام والله سبحانه أعلم فصل وقوله تعالى قائما بالقسط القسط هو العدل فشهد الله سبحانه أنه قائم بالعدل في توحيده وبالوحدانية في عدله والتوحيد والعدل هما جماع صفات الكمال فإن التوحيد يتضمن تفرده سبحانه بالكمال والجلال والمجد والتعظيم الذي لا ينبغي لأحد سواه والعدل يتضمن وقوع أفعاله كلها على السداد والصواب وموافقة الحكمة ________________________________________ فهذا توحيد الرسل وعدلهم إثبات الصفات والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وإثبات القدر والحكم والغايات المطلوبة المحمودة بفعله وأمره لا توحيد الجهمية والمعتزلة والقدرية الذي هو إنكار الصفات وحقائق الأسماء الحسنى وعدلهم الذي هو التكذيب بالقدر أو نفي الحكم والغايات والعواقب الحميدة التي يفعل الله لأجلها ويأمر وقيامه سبحانه بالقسط في شهادته يتضمن أمورا أحدها أنه قائم بالقسط في هذه الشهادة التي هي أعدل شهادة على الإطلاق وإنكارها وجحودها أعظم الظلم على الإطلاق فلا أعدل من التوحيد ولا أظلم من الشرك فهو سبحانه قائم بالعدل في هذه الشهادة قولا وفعلا حيث شهد بها وأخبر وأعلم عباده وبين لهم تحقيقها وصحتها وألزمهم بمقتضاها وحكم به وجعل الثواب والعقاب عليها وجعل الأمر والنهي من حقوقها وواجباتها فالدين كله من حقوقها والثواب كله عليها والعقاب كله على تركها ________________________________________ وهذا هو العدل الذي قام به الرب تعالى في هذه الشهادة فأوامره كلها تكميل لها وأمر بأداء حقوقها ونواهيه كلها صيانة لها عما يهضمها ويضادها وثوابه كله عليها وعقابه كله على تركها وترك حقوقها وخلقه السموات والأرض وما بينهما كان بها ولأجلها وهي الحق الذي خلقت به وضدها هو الباطل والعبث الذي نزه نفسه عنه وأخبر أنه لم يخلق به السموات والأرض قال تعالى ردا على المشركين المنكرين لهذه الشهادة وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار وقال تعالى حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون وقال وهو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق وقال أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون وقال وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ماخلقناهما إلا بالحق وهذا كثير في القرآن والحق الذي خلقت به السموات والأرض ولأجله هو التوحيد وحقوقه من الأمر والنهي والثواب والعقاب فالشرع والقدر والخلق والأمر والثواب والعقاب قائم بالعدل والتوحيد صادر عنهما وهذا هو الصراط المستقيم الذي عليه الرب سبحانه وتعالى قال تعالى حكاية عن نبيه هود إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فهو سبحانه على صراط مستقيم في قوله وفعله فهو يقول الحق ويفعل العدل وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ________________________________________ فالصراط المستقيم الذي عليه ربنا تبارك وتعالى هو مقتضى التوحيد والعدل قال تعالى وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم فهذا مثل ضربه الله لنفسه وللصنم فهو سبحانه الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم والصنم مثل العبد الذي هو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير والمقصود أن قوله تعالى قائما بالقسط هو كقوله إن ربي على صراط مستقيم وقوله قائما بالقسط نصب على الحال وفيه وجهان أحدهما أنه حال من الفاعل في شهد الله والعامل فيها الفعل والمعنى على هذا شهد الله حال قيامه بالقسط أنه لا إله إلا هو والثاني أنه حال من قوله هو والعامل فيها معنى النفي أي لا إله إلا هو حال كونه قائمة بالقسط وبين التقديرين فرق ظاهر فإن التقدير الأول يتضمن أن المعنى شهد الله متكلما بالعدل مخبرا به آمرا به فاعلا له مجازيا به أنه لا إله إلا هو فإن العدل يكون في القول والفعل والمقسط هو العادل في قوله وفعله فشهد الله قائما بالعدل قولا وفعلا أنه لا إله إلا هو وفي ذلك تحقيق لكون هذه الشهادة شهادة عدل وقسط وهي أعدل شهادة كما أن المشهود به أعدل شيء ________________________________________ وأصحه وأحقه وذكر ابن السائب وغيره في سبب نزول الآية ما يشهد بذلك وهو أن حبرين من أحبار الشأم قدما على النبي فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه ما أشبه هذه المدينة بمدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان فلما دخلا على النبي قالا له أنت محمد قال نعم وأحمد قال نعم قالا نسألك عن شهادة فإن أخبرتنا بها آمنا بك قال سلاني قالا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فنزلت شهد الله أنه لا إله إلا هو الآية وإذا كان القيام بالقسط يكون في القول والفعل كان المعنى أنه كان سبحانه يشهد وهو قائم بالعدل عالم به لا بالظلم فإن هذه الشهادة تضمنت قولا وعملا فإنها تضمنت أنه هو الذي يستحق العبادة وحده دون غيره وأن الذين عبدوه وحده هم المفلحون السعداء وأن الذين أشركوا به غيره هم الضالون الأشقياء فإذا شهد قائما بالعدل المتضمن جزاء المخلصين بالجنة وجزاء المشركين بالنار كان هذا من تمام موجب الشهادة وتحقيقها وكان قوله قائما بالقسط تنبيها على جزاء الشاهد بها والجاحد لها والله أعلم فصل وأما التقدير الثاني وهو أن يكون قوله قائما حالا مما بعد إلا فالمعنى أنه لا إله إلا هو قائما بالعدل فهو وحده المستحق الإلهية مع كونه قائما بالقسط قال شيخنا وهذا التقدير أرجح فإنه يتضمن أن الملائكة وأولي العلم يشهدون له بأنه لا إله إلا هو وأنه قائم بالقسط قلت مراده أنه إذا كان قوله قائما بالقسط حالا من المشهود به فهو كالصفة له فإن الحال صفة في المعنى لصاحبها فإذا وقعت الشهادة على ذي الحال وصاحبها كان كلاهما مشهودا به فيكون الملائكة وأولوا العلم قد شهدوا بأنه قائم بالقسط كما شهدوا بأنه لا إله إلا هو والتقدير الأول لا يتضمن ذلك فإنه إذا كان التقدير شهد الله قائما بالقسط أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم يشهدون أنه لا إله إلا هو كان القيام بالقسط حالا من اسم الله وحده ________________________________________ وأيضا فكونه قائما بالقسط فيما شهد به أبلغ من كونه حالا من مجرد الشهادة فإن قيل فإذا كان حالا من هو فهلا اقترن به ولم فصل بين صاحب الحال وبينها بالمعطوف فجاء متوسطا بين صاحب الحال وبينها قلت فائدته ظاهرة فإنه لو قال شهد الله أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط والملائكة وأولو العلم لأوهم عطف الملائكة وأولي العلم على الضمير في قوله قائما بالقسط ولا يحسن العطف لأجل الفصل وليس المعنى على ذلك قطعا وإنما المعنى على خلافه وهو أن قيامه بالقسط مختص به كما أنه مختص بالإلهية فهو وحده الإله المعبود المستحق العبادة وهو وحده المجازي المثيب المعاقب بالعدل قوله لا إله إلا هو ذكر محمد بن جعفر أنه قال الأولى وصف وتوحيد والثانية رسم وتعليم أي قولوا لا إله إلا هو ومعنى هذا أن الأولى تضمنت أن الله سبحانه شهد بها وأخبر بها والتالي للقرآن إنما يخبر عن شهادته هو وليس في ذلك شهادة من التالي نفسه فأعاد سبحانه ذكرها مجردة ليقولها التالي فيكون شاهدا هو أيضا وأيضا فالأولى خبر عن الشهادة بالتوحيد والثانية خبر عن نفس التوحيد وختم بقوله العزيز الحكيم فتضمنت الآية توحيده وعدله وعزته وحكمته فالتوحيد يتضمن ثبوت صفات كماله ونعوت جلاله وعدم المماثل له فيها وعبادته وحده لا شريك له والعدل يتضمن وضعه الأشياء موضعها وتنزيلها منازلها وأنه لم يخص شيئا منها إلا بمخصص اقتضى ذلك وأنه لا يعاقب من لا يستحق العقوبة ولا يمنع من يستحق العطاء وإن كان هو الذي جعله مستحقا والعزة تتضمن كمال قدرته وقوته وقهره والحكمة تتضمن كمال علمه وخبرته وأنه أمر ونهى وخلق وقدر لما له في ذلك من الحكم والغايات الحميدة التي يستحق عليها كمال الحمد ________________________________________ فاسمه العزيز يتضمن الملك واسمه الحكيم يتضمن الحمد وأول الآية يتضمن التوحيد وذلك حقيقة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وذلك أفضل ما قاله رسول الله والنبيون من قبله والحكيم الذي إذا أمر بأمر كان حسنا في نفسه وإذا نهى عن شيء كان قبيحا في نفسه وإذا أخبر بخبر كان صدقا وإذا فعل فعلا كان صوابا وإذا أراد شيئا كان أولى بالإرادة من غيره وهذا الوصف على الكمال لا يكون إلا لله وحده فتضمنت هذه الآية وهذه الشهادة الدلالة على وحدانيته المنافية للشرك وعدله المنافي للظلم وعزته المنافية للعجز وحكمته المنافية للجهل والعيب ففيها الشهادة له بالتوحيد والعدل والقدرة والعلم والحكمة ولهذا كانت أعظم شهادة ولا يقوم بهذه الشهادة على وجهها من جميع الطوائف إلا أهل السنة وسائر طوائف أهل البدع لا يقومون بها فالفلاسفة أشد الناس إنكارا وجحودا لمضمونها من أولها إلى آخرها وطوائف الاتحادية هم أبعد خلق الله عنها من كل وجه وطائفة الجهمية تنكر حقيقتها من وجوه منها أن الإله هو الذي تألهه القلوب محبة له واشتياقا إليه وإنابة وعندهم أن الله لا يحب ولا يحب ومنها أن الشهادة كلامه وخبره عما شهد به وهو عندهم لا يقول ولا يتكلم ولا يشهد ولا يخبر ومنها أنها تتضمن مباينته لخلقه بذاته وصفاته وعند فرعونيهم أنه لا يباين الخلق ولا يحايثهم وليس فوق العرش إله يعبد ولا رب يصلى له ويسجد وعند حلوليتهم أنه حال في كل مكان بذاته حتى في الأمكنة التي يستحي من ذكوها فهؤلاء مثبتة الجهمية وأولئك نفاتهم ومنها أن قيامه بالقسط في أفعاله وأقواله وعندهم أنه لم يقم ولا يقوم به فعل ولا قول ألبتة وأن قوله مخلوق من بعض المخلوقات وفعله هو المفعول المنفصل وأما أن يكون له فعل يكون به فاعلا حقيقة فلا ________________________________________ ومنها أن القسط عندهم لا حقيقة له بل كل ممكن فهو قسط وليس في مقدوره ما يكون ظلما وقسطا بل الظلم عندهم هو المحال الممتنع لذاته والقسط هو الممكن فنزه الله سبحانه نفسه على قولهم عن المحال الممتنع لذاته الذي لا يدخل تحت القدرة ومنها أن العزة هي القوة والقدرة وعندهم لا يقوم به صفة ولا له صفة وقدرة تسمى قدرة وقوة ومنها أن الحكمة هي الغاية التي يفعل لأجلها وتكون هي المطلوبة بالفعل ويكون وجودها أولى من عدمها وهذا عندهم ممتنع في حقه سبحانه فلا يفعل لحكمة ولا غاية بل لا غاية لفعله ولا أمره وما ثم إلا محض المشيئة المجردة عن الحكمة والتعليل ومنها أن الإله هو الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى وهو الذي يفعل بقدرته ومشيئته وحكمته وهو الموصوف بالصفات والأفعال المسمى بالأسماء التي قامت بها حقائقها ومعانيها وهذا لا يثبته على الحقيقة إلا أتباع الرسل وهم أهل العدل والتوحيد فصل فالجهمية والمعتزلة تزعم أن ذاته لا تحب ووجهه لا يرى ولا يلتذ بالنظر إليه ولا تشتاق القلوب إليه فهم في الحقيقة منكرون الإلهية والقدرية تنكر دخول أفعال الملائكة والجن والإنس وسائر الحيوان تحت قدرته ومشيئته وخلقه فهم منكرون في الحقيقة لكمال عزته وملكه والجبرية تنكر حكمته وأن يكون له في أفعاله وأوامره غاية يفعل ويأمر لأجلها فهم منكرون في الحقيقة لحكمته وحمده وأتباع ابن سينا والنصير الطوسي وفروخهما ينكرون أن يكون ماهية غير الوجود المطلق وأن يكون له وصف ثبوتي زائد على ماهية الوجود فهم في الحقيقة منكرون لذاته وصفاته وأفعاله لا يتحاشون من ذلك والاتحادية أدهى وأمر فإنهم رفعوا القواعد من الأصل وقالوا ما ثم وجود خالق ووجود مخلوق بل الخلق المشبه هو عين الحق المنزه كل ذلك من عين واحدة بل هو العين الواحدة ________________________________________ فهذه الشهادة العظيمة كل هؤلاء هم بها غير قائمين وهي متضمنة لإبطال ما هم عليه ورده كما تضمنت إبطال ما عليه المشركون ورده وهي مبطلة لقول طائفتي الشرك والتعطيل ولا يقوم بهذه الشهادة إلا أهل الإثبات الذين يثبتون لله ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات وينفون عنه مماثلة المخلوقات ويعبدونه وحده لا يشركون به شيئا فصل وإذا كانت شهادته سبحانه تتضمن بيانه للعباد ودلالتهم وتعريفهم بما شهد به وإلا فلو شهد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها لم ينتفعوا ولم يقم عليهم بها الحجة كما أن الشاهد من العباد إذا كانت عنده شهادة ولم يبينها بل كتمها لم ينتفع بها أحد ولم تقم بها حجة وإذا كان لا ينتفع بها إلا ببيانها فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة السمع والبصر والعقل أما السمع فبسمع آياته المتلوة القولية المتضمنة لإثبات صفات كماله ونعوت جلاله وعلوه على عرشه فوق سبع سمواته وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده تكلما وتكليما حقيقة لا مجازا ________________________________________ وفي هذا إبطال لقول من قال إنه لم يرد من عباده ما دلت عليه آياته السمعية من إثبات معانيها وحقائقها التي وضعت لها ألفاظها فإن هذا ضد البيان والإعلام ويعود على مقصود الشهادة بالإبطال والكتمان وقد ذم الله من كتم شهادة عنده من الله وأخبر أنه من أظلم الظالمين فإذا كانت عند العبد شهادة من الله تحقق ما جاء به رسوله من أعلام نبوته وتوحيد الرسل وأن إبراهيم وأهل بيته كانوا على الإسلام كلهم وكتم هذه الشهادة كان من أظلم الظالمين كما فعله أعداء رسول الله من اليهود الذين كانوا يعرفونه كما يعرفون أبنائهم فكيف يظن بالله سبحانه أنه كتم شهادة الحق التي يشهد بها الجهمية والمعتزلة والمعطلة ولا يشهد بها لنفسه ثم يشهد لنفسه بما يضادها ويناقضها ولا يجامعها بوجه ما سبحانك هذا بهتان عظيم فإن الله سبحانه شهد لنفسه بأنه استوى على العرش وبأنه القاهر فوق عباده وبأن ملائكته يخافونه من فوقهم وأن الملائكة تعرج إليه بالأمر وتنزل من عنده به وأن العمل الصالح يصعد إليه وأنه يأتي ويجيء ويتكلم ويرضى ويغضب ويحب ويكره ويتأذى ويفرح ويضحك وأنه يسمع ويبصر وأنه يراه المؤمنون بأبصارهم يوم لقائه إلى غير ذلك مما شهد به لنفسه وشهد له به رسله وشهدتوشهدت له الجهمية بضد ذلك وقالوا شهادتنا أصح وأعدل من شهادة النصوص فإن النصوص تضمنت كتمان الحق وإظهار خلافه فشهادة الرب تعالى تكذب هؤلاء أشد التكذيب وتتضمن أن الذي شهد به قد بينه وأوضحه وأظهره حتى جعله في أعلى مراتب الظهور والبيان وأنه لو كان الحق فيما يقوله المعطلة والجهمية لم يكن العباد قد انتفعوا بما شهد به سبحانه فإن الحق في نفس الأمر عندهم لم يشهد به لنفسه والذي شهد به لنفسه وأظهره وأوضحه فليس يجوز بحق ولا يجوز أن يستفاد منه الحق واليقين ________________________________________ وأما آياته العيانية الخلقية والنظر فيها والاستدلال بها فإنها تدل على ما تدل عليه آياته القولية السمعية وآيات الرب هي دلائله وبراهينه التي بها يعرفه العباد وبها يعرفون أسماءه وصفاته وتوحيده وأمره ونهيه فالرسل تخبر عنه بكلامه الذي تكلم به وهو آياته القولية ويستدلون على ذلك بمفعولاته التي تشهد على صحة ذلك وهي آياته العيانية والعقل يجمع بين هذه وهذه فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة وهو سبحانه لكمال عدله ورحمته وإحسانه وحكمته ومحبته للعذر وإقامته للحجة لم يبعث نبيا من الأنبياء إلا ومعه آية تدل على صدقه فيما أخبر به قال تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وقال تعالى قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير وقال تعالى وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وقال تعالى وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير حتى إن من أخفى آيات الرسل آيات هود عليه السلام حتى قال له قومه يا هود ما جئتنا ببينة ومع هذا فبينته من أظهر البينات وقد أشار إليها بقوله إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فيكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فهذا من أعظم الآيات أن رجلا واحدا يخاطب أمة عظيمة بهذا الخطاب غير جزع ولا فزع ولا خوار بل واثق مما قاله جازم به قد أشهد الله أولا على براءته من دينهم ومما هم عليه إشهاد واثق به معتمد عليه معلم لقومه أنه وليه وناصره وأنه غير مسلطهم عليه ________________________________________ ثم أشهدهم إشهاد مجاهر لهم بالمخالفة أنه بريء من دينهم وآلهتهم التي يوالون عليها ويعادون ويبذلون دماءهم وأموالهم في نصرتها ثم أكد عليهم ذلك بالاستهانة بهم واحتقارهم وازدرائهم وأنهم لو يجتمعون كلهم على كيده وشفاء غيظهم منه ثم يعاجلونه ولا يمهلونه وفي ضمن ذلك أنهم أضعف وأعجز وأقل من ذلك وأنكم لو رمتموه لانقلبتم بغيظكم مكبوتين مخذولين ثم قرر دعوته أحسن تقرير وبين أن ربه تعالى وربهم الذي نواصيهم بيده هو وليه ووكيله القائم بنصره وتأييده وأنه على صراط مستقيم فلا يخذل من توكل عليه وآمن به ولا يشمت به أعدائه ولا يكون معهم عليه فإن صراطه المستقيم الذي هو عليه في قوله وفعله يمنع ذلك ويأباه وتحت هذا الخطاب أن من صراطه المستقيم أن ينتقم ممن خرج عنه وعمل بخلافه وينزل به بأسه فإن الصراط المستقيم هو العدل الذي عليه الرب تعالى ومنه انتقامه من أهل الشرك والإجرام ونصره أولياءه ورسله على أعدائهم وأنه يذهب بهم ويستخلف قوما غيرهم ولا يضره ذلك شيئا وأنه القائم سبحانه على كل شيء حفظا ورعاية وتدبيرا وإحصاء فأي آية وبرهان دليل أحسن من آيات الأنبياء وبراهينهم وأدلتهم وهي شهادة من الله سبحانه لهم بينها لعباده غاية البيان وأظهرها لهم غاية الإظهار بقوله وفعله وفي الصحيح عنه أنه قال ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ________________________________________ ومن أسمائه تعالى المؤمن وهو في أحد التفسيرين المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم فهو الذي صدق رسله وأنبياءه فيما بلغوا عنه وشهد لهم بأنهم صادقون بالدلائل التي دل بها على صدقهم قضاء وخلقا فإنه سبحانه أخبر وخبره الصدق وقوله الحق أنه لا بد أن يرى العباد من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغته رسله حق فقال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أي القرآن فإنه هو المتقدم في قوله قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به ثم قال أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد فشهد سبحانه لرسوله بقوله أن ما جاء به حق ووعده أن يرى العباد من آياته الفعلية الخلقية ما يشهد بذلك أيضا ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك وأجل وهو شهادته سبحانه على كل شيء فإن من أسمائه الشهيد الذي لا يغيب عنه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء بل هو مطلع على كل شيء مشاهد له عليم بتفاصيله وهذا استدلال بأسمائه وصفاته والأول استدلال بقوله وكلماته والاستدلال بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته فإن قلت قد فهمت الاستدلال بكلماته والاستدلال بمخلوقاته فبين لي كيفية الاستدلال بأسمائه وصفاته فإن ذلك أمر لا عهد لنا به في تخاطبنا وكتبنا قلت أجل هو لعمر الله كما ذكرت وشأنه أجل وأعلى فإن الرب تعالى هو المدلول عليه وآياته هي الدليل والبرهان فاعلم أن الله سبحانه في الحقيقة هو الدال على نفسه بآياته فهو الدليل لعباده في الحقيقة بما نصبه لهم من الدلالات والآيات وقد أودع في الفطر التي لم تتنجس ________________________________________ بالتعطيل والجحود أنه سبحانه الكامل في أسمائه وصفاته وأنه الموصوف بكل كمال المنزه عن كل عيب ونقص فالكمال كله والجمال والجلال والبهاء والعزة والعظمة والكبرياء كله من لوازم ذاته يستحيل أن يكون على غير ذلك فالحياة كلها له والعلم كله له والقدرة كلها له والسمع والبصر والإرادة والمشيئة والرحمة والغنى والجود والإحسان والبر كله خاص له قائم به وما خفي على الخلق من كماله أعظم وأعظم مما عرفوه منه بل لا نسبة لما عرفوه من ذلك إلى ما لم يعرفوه ومن كماله المقدس اطلاعه على كل شيء وشهادته عليه بحيث لا يغيب عنه وجه من وجوه تفاصيله ولا ذرة من ذراته باطنا وظاهرا ومن هذا شأنه كيف يليق بالعباد أن يشركوا به وأن يعيدوا معه غيره وأن يجعلوا معه إلها آخر وكيف يليق بكماله أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه ثم ينصره على ذلك ويؤيده ويعلي كلمته ويرفع شأنه ويجيب دعوته ويهلك عدوه ويظهر على يديه من الآيات والبراهين والأدلة ما تعجز عن مثله قوى البشر وهو مع ذلك كاذب عليه مفتر ساع في الأرض بالفساد ومعلوم أن شهادته سبحانه على كل شيء وقدرته على كل شيء وحكمته وعزته وكماله المقدس يأبى ذلك كل الإباء ومن ظن ذلك به وجوزه عليه فهو من أبعد الخلق من معرفته وإن عرف منه بعض صفاته كصفة القدرة وصفة المشيئة والقرآن مملوء من هذه الطريق وهي طريق الخاصة بل خاصة الخاصة هم الذين يستدلون بالله على أفعاله وما يليق به أن يفعله وما لا يفعله وإذا تدبرت القرآن رأيته ينادي على ذلك فيبديه ويعبده لمن له فهم وقلب واع عن الله قال الله تعالى ولو تقول علينا بعض الأقاويل ________________________________________ لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين أفلا تراه كيف يخبر سبحانه أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقول عليه بعض الأقاويل بل لا بد أن يجعله عبرة لعباده كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه وقال تعالى أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ههنا انتهى جواب الشرط ثم أخبر خبرا جازما غير متعلق أنه يمحو الله الباطل ويحق الحق وقال تعالى وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء فأخبر أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره ولا عرفه كما ينبغي ولا عظمه كما يستحق فكيف من ظن أنه ينصر الكاذب المفتري عليه ويؤيده ويظهر على يديه الآيات والأدلة وهذا في القرآن كثير جدا يستدل بكماله المقدس وأوصافه وجلاله على صدق رسله وعلى وعده ووعيده ويدعو عباده إلى ذلك كما يستدل بأسمائه وصفاته على وحدانيته وعلى بطلان الشرك كما في قوله هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون وأضعاف أضعاف ذلك في القرآن ويستدل سبحانه بأسمائه وصفاته على بطلان ما نسب إليه من الأحكام والشرائع الباطلة وأن كماله المقدس يمنع من شرعها كقوله وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون وقوله عقيب ما نهى عنه وحرمه من الشرك والظلم والفواحش والقول عليه بلا علم كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها فأعلمك أن ما كان سيئة في نفسه فهو يكرهه وكماله يأبى أن يجعله شرعا له ودينا فهو سبحانه يدل عباده بأسمائه وصفاته على ما يفعله ويأمر به وما يحبه ويبغضه ويثيب عليه ويعاقب عليه ولكن هذه الطريق لا يصل إليها ________________________________________ إلا خاصة الخاصة فلذلك كانت طريقة الجمهور الدلالات بالآيات المشاهدة فإنها أوسع وأسهل تناولا والله سبحانه يفضل بعض خلقه على بعض ويرفع درجات من يشاء وهو العليم الحكيم فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه مالم يجتمع في غيره فإنه هو الدعوة والحجة وهو الدليل والمدلول عليه وهو الشاهد والمشهود له وهو الحكم والدليل وهو الدعوة والبينة قال الله تعالى أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه أي من ربه وهو القرآن وقال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السموات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون فأخبر سبحانه أن الكتاب الذي أنزله على رسوله يكفي عن كل آية ففيه الحجة والدلالة على أنه من الله وأن الله سبحانه أرسل به رسوله وفيه بيان ما يوجب لمن اتبعه السعادة وينجبه من العذاب ثم قال قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السموات والأرض فإذا كان الله سبحانه عالما بجميع الأشياء كانت شهادته أصدق شهادة وأعدلها فإنها شهادة بعلم تام محيط بالمشهود به فيكون الشاهد به أعدل الشهداء وأصدقهم وهو سبحانه يذكر علمه عند شهادته وقدرته وملكه عند مجازاته وحكمته عند خلقه وأمره ورحمته عند ذكر إرسال رسوله وحلمه عند ذكر ذنوب عباده ومعاصيهم وسمعه عند ذكر دعائهم ومسألته وعزته وعلمه عند قضائه وقدره فتأمل ورود أسمائه الحسنى في كتابه وارتباطها بالخلق والأمر والثواب والعقاب فصل ومن هذا قوله تعالى ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب فاستشهد على رسالته ________________________________________ بشهادة الله له ولا بد أن تعلم هذه الشهادة وتقوم بها الحجة على المكذبين له وكذلك قوله قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وكذلك قوله لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا وكذلك قوله يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين وقوله تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين وقوله والله يعلم أنك لرسوله وقوله محمد رسول الله فهذا كله شهادة منه لرسوله قد أظهرها وبينها وبين صحتها غاية البيان بحيث قطع العذر بينه وبين عباده وأقام الحجة عليهم فكونه سبحانه شاهدا لرسوله معلوم بسائر أنواع الأدلة عقليها ونقليها وفطريها وضروريها ونظريها ومن نظر في ذلك وتأمله علم أن الله سبحانه شهد لرسوله أصدق الشهادة وأعدلها وأظهرها وصدقه بسائر أنواع التصديق بقوله الذي أقام البراهين على صدقه فيه وبفعله وإقراره وبما فطر عليه عباده من الإقرار بكماله وتنزيهه عن القبائح وعما لا يليق به وفي كل وقت يحدث من الآيات الدالة على صدق رسوله ما يقيم به الحجة ويزيل به العذر ويحكم له ولأتباعه بما وعدهم به من العز والنجاة والظفر والتأييد ويحكم على أعدائه ومكذبيه بما توعدهم به من الخزي والنكال والعقوبات المعجلة الدالة على تحقيق العقوبات المؤجلة هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا فيظهره ظهورين ظهورا بالحجة والبيان والدلالة وظهورا بالنصر والظفر والغلبة والتأييد حتى يظهره على مخالفيه ويكون منصورا وقوله لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون فما فيه من الخبر عن علم الله الذي لا يعلمه غيره من أعظم الشهادة بأنه هو الذي أنزله كما قال في الآية الأخرى أم يقولون افتراه قل فاتوا ________________________________________ بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا انما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون وليس المراد مجرد الإخبار بأنه أنزله وهو معلوم له كما يعلم سائر الأشياء فإن كل شيء معلوم له من حق وباطل وإنما المعنى أنزله مشتملا على علمه فنزوله مشتملا على علمه هو آية كونه من عنده وأنه حق وصدق ونظير هذا قوله قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض ذكر ذلك سبحانه تكذيبا وردا على من قال افتراه فصل ومن شهادته أيضا ما أودعه في قلوب عباده من التصديق الجازم واليقين الثابت والطمأنينة بكلامه ووحيه فإن العادة تحيل حصول ذلك بما هو من أعظم الكذب والافتراء على رب العالمين والإخبار عنه بخلاف ما هو عليه من أسمائه وصفاته بل ذلك يوقع أعظم الريب والشك وتدفعه الفطر والعقول السليمة كما تدفع الفطر التي فطر عليها الحيوان الأغذية الخبيثة الضارة التي لا تغذى كالأبوال والأنتان فإن الله سبحانه فطر القلوب على قبول الحق والانقياد له والطمأنينة به والسكون إليه ومحبته وفطرها على بغض الكذب والباطل والنفور عنه والريبة به وعدم السكون إليه ولو بقيت الفطر على حالها لما آثرت على الحق سواه ولما سكنت إلا إليه ولا اطمأنت إلا به ولا أحبت غيره ولهذا ندب الله عز وجل عباده إلى تدبر القرآن فإن كل من تدبره أوجب له تدبره علما ضروريا ويقينا جازما أنه حق وصدق بل أحق كل حق وأصدق كل صدق وأن الذي جاء به أصدق خلق الله وأبرهم وأكملهم علما وعملا ومعرفة كما قال تعالى أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وقال تعالى أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها فلو رفعت الأقفال عن القلوب ________________________________________ لباشرتها حقائق القرآن واستنارت فيها مصابيح الإيمان وعلمت علما ضروريا يكون عندها كسائر الأمور الوجدانية من الفرح والألم والحب والخوف أنه من عند الله تكلم به حقا وبلغه رسوله جبريل عنه إلى رسوله محمد فهذا الشاهد في القلب من أعظم الشواهد وبه احتج هرقل على أبي سفيان حيث قال له فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فقال لا فقال له وكذلك الإيمان إذا خالطت حلاوته بشاشة القلوب لا يسخطه أحد وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى في قوله بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وقوله ويرى الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به وقوله ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق وقوله أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى وقوله ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب يعني أن الآية التي يقترحونها لا توجب هداية بل الله هو الذي يهدي ويضل ثم نبههم على أعظم آية وأجلها وهي طمأنينة قلوب المؤمنين بذكره الذي أنزله فقال الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله أي بكتابه وكلامه ألا بذكر الله تطمئن القلوب فطمأنينة القلوب الصحيحة والفطر السليمة به وسكونها إليه من أعظم الآيات إذ يستحيل في العادة أن تطمئن القلوب وتسكن إلى الكذب والافتراء والباطل فإن قيل فلم لم يذكر الله سبحانه شهادة رسله مع الملائكة فيقول شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة والرسل وهم أعظم شهادة من أولي العلم قيل في ذلك عدة فوائد إحداها أن أولي العلم أعم من الرسل والأنبياء فيدخلون هم وأتباعهم وثانيها أن في ذكر أولي العلم في هذه الشهادة وتعليقها بهم ما يدل على أنها من موجبات العلم ومقتضايته وأن من كان من أولي العلم فإنه يشهد ________________________________________ بهذه الشهادة كما يقال إذا طلع الهلال واتضح فإن كل من كان من أهل النظر يراه وإذا فاحت رائحة ظاهرة فكل من كان من أهل الشم يشم هذه الرائحة قال تعالى وبرزت الجحيم لمن يرى أي كل من له رؤية يراها حينئذ عيانا ففي هذا بيان أن من لم يشهد له الله سبحانه بهذه الشهادة فهو من أعظم الجهال وإن علم من أمور الدنيا مالم يعلمه غيره فهو من أولي الجهل لا من أولي العلم وقد بينا أنه لم يقم بهذه الشهادة ويؤديها على وجهها إلا أتباع الرسل أهل الإثبات فهم أولو العلم وسائر من عداهم أولو الجهل وإن وسعوا القول وأكثروا الجدال ومنها الشهادة من الله سبحانه لأهل هذه الشهادة أنهم أولو العلم فشهادته لهم أعدل وأصدق من شهادة الجهمية والمعطلة والفرعونية لهم بأنهم جهال وأنهم حشوية وأنهم مشبهة وأنهم مجسمة ونوابت ونواصب فكفاهم أصدق الصادقين لهم بأنهم من أولي العلم إذ شهدوا له بحقيقة ما شهد به لنفسه من غير تحريف ولا تعطيل واثبتوا له حقيقة هذه الشهادة ومضمونها وخصومهم نفوا عنه حقائقها وأثبتوا له ألفاظها ومجازاتها فصل وفي ضمن هذه الشهادة الإلهية الثناء على أهل العلم الشاهدين بها وتعديلها فإنه سبحانه قرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته واستشهد بهم جل وعلا على أجل مشهود به وجعلهم حجة على من أنكر هذه الشهادة كما يحتج بالبينة على من أنكر الحق فالحجة قامت بالرسل على الخلق وهؤلاء نواب الرسل وخلفاؤهم في إقامة حجج الله على العباد فصل وقد فسرت شهادة أولي العلم بالإقرار وفسرت بالتبيين والإظهار والصحيح أنها تتضمن الأمرين فشهادتهم إقرار وإظهار وإعلام وهم ________________________________________ شهداء الله على الناس يوم القيامة قال الله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وقال تعالى هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأخبر أنه جعلهم عدولا خيارا ونوه بذكرهم قبل أن يوجدهم لما سبق في علمه من اتخاذه لهم شهداء يشهدون على الأمم يوم القيامة فمن لم يقم بهذه الشهادة علما وعملا ومعرفة وإقرارا ودعوة وتعليما وإرشادا فليس من شهداء الله والله المستعان قوله تعالى إن الدين عند الله الإسلام اختلف المفسرون هل هو كلام مستأنف أو داخل في مضمون هذه الشهادة فهو بعض المشهود به وهذا الاختلاف مبني على القراءتين في كسر إن فتحها فالأكثرون على كسرها على الاستئناف وفتحها الكسائي وحده والوجه هو الكسر لأن الكلام الذي قبله قد تم فالجملة الثانية مقررة مؤكدة لمضمون ما قبلها وهذا أبلغ في التقرير وأذهب في المدح والثناء ولهذا كان كسر إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم أحسن من الفتح وكان الكسر في قول الملبي لبيك إن الحمد والنعمة لك أحسن من الفتح وقد ذكر في توجيه قراءة الكسائي ثلاثة أوجه أحدها أن تكون الشهادة واقعة على الجملتين فهي واقعة على أن الدين عند الله الإسلام وهو المشهود به ويكون فتح أنه من قوله أنه لا إله إلا هو على إسقاط حرف الجر أي بأنه لا إله إلا هو وهذا توجيه الفراء وهو ضعيف جدا فإن المعنى على خلافه وأن المشهود به هو نفس قوله أنه لا إله إلا هو فالمشهود به أن وما في حيزها والعناية إلى هذا صرفت وبه حصلت ولكن لهذا القول مع ضعفه وجه وهو أن يكون المعنى شهد الله بتوحيده أن الدين عند الله الإسلام والإسلام هو توحيده سبحانه فتضمنت الشهادة توحيده وتحقيق دينه أنه الإسلام لا غيره ________________________________________ الوجه الثاني أن تكون الشهادة واقعة على الجملتين معا كلاهما مشهود به على تقدير حذف الواو وإرادتها والتقدير وأن الدين عنده الإسلام فتكون جملة استغنى فيها عن حرف العطف بما تضمنت من ذكر المعطوف عليه كما وقع الاستغناء عنها في قوله ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم فيحسن ذكر الواو وحذفها كما حذفت هنا وذكرت في قوله ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم الوجه الثالث وهو مذهب البصريين أن يجعل أن الثانية بدلا من الولى والتقدير شهد الله أن الدين عند الله الإسلام وقوله أنه لا إله إلا هو توطئة للثانية وتمهيد ويكون هذا من البدل الذي الثاني فيه نفس الأول فإن الدين الذي هو نفس الإسلام عند الله هو شهادة أن لا إله إلا الله والقيام بحقها ولك أن تجعله على هذا الوجه من باب بدل الاشتمال لأن الإسلام يشتمل على التوحيد فإن قيل فكان ينبغي على هذه القراءة أن يقول إن الدين عند الله الإسلام لأن المعنى شهد الله أن الدين عنده الإسلام فلم عدل إلى لفظ الظاهر قيل هذا يرجح قراءة الجمهور وأنها أفصح وأحسن ولكن يجوز إقامة الظاهر مقام المضمر وقد ورد في القرآن وكلام العرب كثيرا فإن الله تعالى قال واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب وقال واتقوا الله إن الله غفور رحيم وقال تعالى والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين قال ابن عباس افتخر المشركون بآبائهم فقال كل فريق لا دين إلا دين آبائنا وما كانوا عليه فأكذبهم الله تعالى فقال إن الدين عند الله الإسلام يعني الذي جاء به محمد وهو دين الأنبياء من أولهم إلى آخرهم ليس لله دين سواه ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ________________________________________ وقد دل قوله إن الدين عند الله الإسلام على أنه دين جميع أنبيائه ورسله وأتباعهم من أولهم إلى آخرهم وأنه لم يكن لله قط ولا يكون له دين سواه قال أول الرسل نوح فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين وقال إبراهيم وإسماعيل ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون وقال يعقوب لبنيه عند الموت ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك إلى قوله ونحن له مسلمون وقال موسى لقومه إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين وقال تعالى فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون وقالت ملكة سبأ رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين فالإسلام دين أهل السموات ودين أهل التوحيد من أهل الأرض لا يقبل الله من أحد دينا سواه فأديان أهل الأرض ستة واحد للرحمن وخمسة للشيطان فدين الرحمن هو الإسلام والتي للشيطان اليهودية والنصرانية والمجوسية والصابئة ودين المشركين فهذا بعض ما تضمنته هذه الآية العظيمة من أسرار التوحيد والمعارف ولا تستطل الكلام فيها فإنه أهم من الكلام على كلام صاحب المنازل فلنرجع إلى شرح كلامه وبيان ما فيه قال وإنما نطق العلماء بما نطقوا به وأشار المحققون إلى ما أشاروا إليه من هذا الطريق لقصد تصحيح التوحيد وما سواه من حال أو مقام فكله مصحوب العلل يريد أن التوحيد هو الغاية المطلوبة من جميع المقامات والأعمال والأحوال فغايتها كلها التوحيد وإنما كلام العلماء والمحققين من أهل السلوك كله لقصد تصحيحه وهذا بين من أول المقامات إلى آخرها فإنها تشير إلى تصحيحه وتجريده ________________________________________ وقوله وما سواه من حال أو مقام فكله مصحوب العلل يريد أن تجريد التوحيد لا علة معه إذ لو كان معه علة تصحبه لم يجرد فتجرده ينفي عنه العلل بالكلية بخلاف ما سواه من المقامات والأحوال فإن العلل تصحبها وعندهم أن علل المقامات لا تزول بتجريد التوحيد مثاله أن علة مقام التوكل أن يشهد متوكلا ومتوكلا عليه ومتوكلا فيه ويشهد نفس توكله وهذا كله علة في مقام التوكل فإنه لا يصح له مقامه إلا بأن لا يشهد مع الوكيل الحق الذي يتوكل عليه غيره ولا يرى توكله عليه سببا لحصول المطلوب ولا وسيلة إليه وفيه علة أخرى أدق من هذه عند أرباب الفناء وهي أن المتوكل قد وكل أمره إلى مولاه والتجأ إلى كفايته وتدبيره له والقيام بمصالحه قالوا وهذا في طريق الخاصة عمي عن التوحيد ورجوع إلى الأسباب لأن الموحد قد رفض الأسباب ووقف مع المسبب وحده والمتوكل وإن رفض الأسباب فإنه واقف مع توكله فصار توكله بدلا من تلك الأسباب التي رفضها فهو متعلق بما رفضه وتجريد التوكل عندهم وحقيقته هو تخليص القلب من علة التوكل وهو أن يعلم أن الله سبحانه فرغ من الأسباب وقدرها وهو سبحانه يسوق المقادير إلى المواقيت فالمتوكل حقيقة عندهم هو من أراح نفسه من كد النظر ومطالعة السبب سكونا إلى ما سبق له من القسم مع استواء الحالين عنده وهو أن يعلم أن الطلب لا ينفع والتوكل لا يجمع ومتى طالع بتوكله عرضا كان توكله مدخولا وقصده معلولا فإذا خلص من رق هذه الأسباب ومطالعة العوارض ولم يلاحظ في توكله سوى خالص حق الرب سبحانه كفاه تعالى كل مهم كما أوحى الله تعالى إلى موسى كن لي كما أريد أكن لك كما تريد وهذا الكلام وأمثاله بعضه صواب وبعضه خطأ وبعضه محتمل ________________________________________ فقوله إن التوكل في طريق الخاصة عمى عن التوحيد ورجوع إلى الأسباب خطأ محض بل التوكل حقيقة التوحيد ولا يتم التوحيد إلا به وقد تقدم في باب التوكل بيان ذلك وأنه من مقامات الرسل وهم خاصة الخاصة وإنما المتحذلقون المتنطعون جعلوه من مقامات العامة ولا أخص ممن أرسل الله واصطفى ولا أعلى من مقاماتهم وقوله إنه رجوع إلى الأسباب يقال بل هو قيام بحق الأمر فإن الله سبحانه اقتضت حكمته ربط المسببات بأسبابها وجعل التوكل والدعاء من أقرب الأسباب التي تحصل المقصود فالتوكل امتثال لأمر الله وموافقة لحكمته وعبودية القلب له فكيف يكون مصحوب العلل وكيف يكون من مقامات العامة وقوله لأن الموحد قد رفض الأسباب كلها يقال له هذا الرفض لا يخرج عن الكفر تارة والفسق تارة والتقصير تارة فإن الله أمر بالقيام بالأسباب فمن رفض ما أمره الله أن يقوم به فقد ضاد الله في أمره وكيف يحل لمسلم أن يرفض الأسباب كلها فإن قلت ليس المراد رفض القيام بها وإنما المراد رفض الوقوف معها قلت وهذا أيضا غير مستقيم فإن الوقوف مع الأسباب قسمان وقوف مأمور به مطلوب وهو أن يقف معها حيث أوقفه الله ورسوله فلا يتعدى حدودها ولا يقصر عنها فيقف معها مراعاة لحدودها وأوقاتها وشرائطها وهذا الوقوف لا تتم العبودية إلا به ________________________________________ ووقوف معها بحيث يعتقد أنها هي الفاعلة المؤثرة بنفسها وأنها تنفع وتضر بذاتها فهذا لا يعتقده موحد ولا يحتاج أن يحترز منه من يتكلم في المعرفة والسلوك نعم لا ينقطع بها عن رؤية المسبب ويعتقدها هي الغاية المطلوبة منه بل هي وسيلة توصل إلى الغاية ولا تصل إلى الغاية المطلوبة بدونها فهذا حق لكن لا يجامع رفضها والاعراض عنها بل يقوم بها معتقدا أنها وسيلة موصلة إلى الغاية فهي كالطريق الحسي الذي يقطعه المسافر إلى مقصده فإن قيل له ارفض الطريق ولا تلتفت إليها انقطع عن المسير بالكلية وإن جعلها غايته ولم يقصد بالسير فيها وصوله إلى مقصد معين كان معرضا عن الغاية مشتغلا بالطريق وإن قيل له التفت إلى طريقك ومنازل سيرك وراعها وسر فيها ناظرا إلى المقصود عاملا على الوصول إليه فهذا هو الحق وقوله المتوكل وإن رفض الأسباب واقف مع توكله فيقال إن وقف مع توكله امتثالا لأمر الله وأداء لحق عبوديته معتقدا أن الله هو الذي من عليه بالتوكل وأقامه فيه وجعله سببا موصلا له إلى مطلوبه فنعم الوقوف وقف وما أحسنه من وقوف وإن وقف معه اعتقادا أن بنفس توكله وعمله يصل مع قطع النظر عن فضل ربه وإعانته ومنه عليه بالتوكل فهو وقوف منقطع عن الله وقوله إن التوكل بدل من الأسباب التي رفضها فالمتوكل متنقل من سبب إلى سبب يقال له إن كانت الأسباب التي رفضها غير مأمور بها فالتوكل المجرد خير منها وإن كانت مأمورا بها فرفضه لها إلى التوكل معصية وخروج عن الأمر نعم للتوكل ثلاث علل إحداها أن يترك ما أمر به من الأسباب استغناء بالتوكل عنها فهذا توكل عجز وتفريط وإضاعة لا توكل عبودية وتوحيد كمن يترك الأعمال التي هي سبب النجاة ويتوكل في حصولها ويترك القيام بأسباب الرزق من العمل والحراثة والتجارة ونحوها ويتوكل في حصوله ويترك طلب العلم ويتوكل في حصوله فهذا توكله عجز وتفريط كما قال بعض السلف لا تكن ممن يجعل توكله عجزا وعجزه توكلا ________________________________________ العلة الثانية أن يتوكل في حظوظه وشهواته دون حقوق ربه كمن يتوكل في حصول مال أو زوجة أو رياسة وأما التوكل في نصرة دين الله وإعلاء كلمته وإظهار سنة رسوله وجهاد أعدائه فليس فيه علة بل هو مزيل للعلل العلة الثالثة أن يرى توكله منه ويغيب بذلك عن مطالعة المنة وشهود الفضل وإقامة الله له في مقام التوكل وليس مجرد رؤية التوكل علة كما يظنه كثير من الناس بل رؤية التوكل وأنه من عين الجود ومحض المنة ومجرد التوفيق عبودية وهي أكمل من كونه يغيب عنه ولا يراه فالأكمل أن لا يغيب بفضل ربه عنه ولا به عن شهود فضله كما تقدم بيانه فهذه العلل الثلاث هي التي تعرض في مقام التوكل وغيره من المقامات وهي التي يعمل العارفون بالله وأمره على قطعها وهكذا الكلام في سائر علل المقامات وإنما ذكرنا هذا مثالا لما يذكر من عللها وقد أفرد لها صاحب المنازل مصنفا لطيفا وجعل غالبها معلولا والصواب أن عللها هذه الثلاثة المذكورة أن يترك بها ما هو أعلى منها وأن يعلقها بحظه والانقطاع بها عن المقصود وأن لا يراها من عين المنة ومحض الجود وبالله التوفيق قوله والتوحيد على ثلاثة أوجه الوجه الأول توحيد العامة الذي يصح بالشواهد والوجه الثاني توحيد الخاصة وهو الذي يثبت بالحقائق والوجه الثالث توحيد قائم بالقدم وهو توحيد خاصة الخاصة فيقال لا ريب أن أهل التوحيد يتفاوتون في توحيدهم علما ومعرفة وحالا تفاوتا لا يحصيه إلا الله فأكمل الناس توحيدا الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم والمرسلون منهم أكمل في ذلك وأولو العزم من الرسل أكمل ________________________________________ توحيدا وهم نوح وإبراهيم وموسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وأكملهم توحيدا الخليلان محمد وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليهما فإنهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما علما ومعرفة وحالا ودعوة للخلق وجهادا فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسل ودعوا إليه وجاهدوا الأمم عليه ولهذا أمر الله سبحانه نبيه أن يقتدي بهم فيه كما قال سبحانه بعد ذكر إبراهيم ومناظرته أباه وقومه في بطلان الشرك وصحة التوحيد وذكر الأنبياء من ذريته ثم قال أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها كافرين أولئك الذين هدى الله فبهداهم أقتده فلا أكمل من توحيد من أمر رسول الله أن يقتدى بهم ولما قاموا بحقيقته علما وعملا ودعوة وجهادا جعلهم الله أئمة للخلائق يهدون بأمره ويدعون إليه وجعل الخلائق تبعا لهم يأتمون بأمرهم وينتهون إلى ما وقفوا بهم عنده وخص بالسعادة والفلاح والهدى أتباعهم وبالشقاء والضلال مخالفيهم وقال لإمامهم وشيخهم إبراهيم خليله إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين أي لا ينال عهدي بالإمامة مشرك ولهذا أوصى نبيه محمدا أن يتبع ملة إبراهيم وكان يعلم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين فملة إبراهيم التوحيد ودين محمد ما جاء به من عند الله قولا وعملا واعتقادا وكلمة الإخلاص هي شهادة أن لا إله إلا الله وفطرة الإسلام هي ما فطر الله عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له والاستسلام له عبودية وذلا وانقيادا وإنابة فهذا هو توحيد خاصة الخاصة الذي من رغب عنه فهو من أسفه السفهاء قال تعالى ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ________________________________________ فقسم سبحانه الخلائق قسمين سفيها لا أسفه منه ورشيدا فالسفيه من رغب عن ملته إلى الشرك والرشيد من تبرأ من الشرك قولا وعملا وحالا فكان قوله توحيدا وعمله توحيدا وحاله توحيدا ودعوته إلى التوحيد وبهذا أمر الله سبحانه جميع المرسلين من أولهم إلى آخرهم قال تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعلمون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال تعالى أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي أي هذا الكتاب الذي أنزل علي وهذه كتب الأنبياء كلهم هل وجدتم في شيء منها اتخاذ آلهة مع الله أم كلها ناطقة بالتوحيد آمرة به وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت والطاغوت اسم لكل ما عبدوه من دون الله فكل مشرك إلهه طاغوته وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية على ما ذكره صاحب المنازل في التوحيد فقال بعد أن حكى كلامه إلى آخره أما التوحيد الأول الذي ذكره فهو التوحيد الذي جاءت به الرسل من أولهم إلى آخرهم ونزلت به الكتب كلها وبه أمر الله الأولين والآخرين وذكر الآيات الواردة بذلك ________________________________________ ثم قال وقد أخبر الله عن كل رسول من الرسل انه قال لقومه اعبدوا الله مالكم من إله غيره وهذه أول دعوة الرسل وآخرها قال النبي أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وقال من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة والقرآن مملوء من هذا التوحيد والدعوة إليه وتعليق النجاة والسعادة في الآخرة به وحقيقته إخلاص الدين كله لله والفناء في هذا التوحيد مقرون بالبقاء وهو أن تثبت إلهية الحق تعالى في قلبه وتنفي إلهية ما سواه فتجمع بين النفي والإثبات فالنفي هو الفناء والإثبات هو البقاء وحقيقته أن تفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه وبمحبته عن محبة ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه وكذلك بموالاته وسؤاله والاستغناء به والتوكل عليه ورجائه ودعائه والتفويض إليه والتحاكم إليه واللجإ إليه والرغبة فيما عنده قال تعالى قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض وقال تعالى أفغير الله أبتغي حكما وقال تعالى قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء وقال تعالى قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين وقال تعالى قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له الآية وقال تعالى فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وقال تعالى لا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا وقال تعالى ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه وقال تعالى قل أرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل كاشفات ضره أو أرادني ________________________________________ برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون وقال وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله وقال تعالى إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين الخالص وقال عن أصحاب الكهف قالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا وقال عن صاحب يس ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون وقال تعالى أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وقال تعالى أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون وقال تعالى يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز وقال تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وهذا في القرآن كثير بل هو أكثر من أن يذكر وهو أول الدين وآخره وباطنه وظاهره وذروة سنامه وقطب رحاه وأمرنا تعالى أن نتأسى بإمام هذا التوحيد في نفيه وإثباته كما قال تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده وقال تعالى وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وقال تعالى واتل عليهم نبأ إبرهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين ________________________________________ قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباءكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين وإذا تدبرت القرآن من أوله إلى آخره رأيته يدور على هذا التوحيد وتقريره وحقوقه قال شيخنا والخليلان هم أكمل خاصة الخاصة توحيدا ولا يجوز أن يكون في الأمة من هو أكمل توحيدا من نبي من الأنبياء فضلا عن الرسل فضلا عن أولي العزم فضلا عن الخليلين وكمال هذا التوحيد أن لا يبقى في القلب شيء لغير الله أصلا بل يبقى العبد مواليا لربه في كل شيء يحب من أحب وما أحب ويبغض من أبغض وما أبغض ويوالي من يوالي ويعادي من يعادي ويأمر بما يأمر به وينهى عما نهي عنه فصل قوله وهذا توحيد العامة الذي يصح بالشواهد قد تبين أن هذا توحيد خاصة الخاصة الذي لا شيء فوقه ولا أخص منه وأن الخليلين أكمل الناس فيه توحيدا فليهن العامة نصيبهم منه قوله يصح بالشواهد أي بالأدلة والآيات والبراهين وهذا مما يدل على كماله وشرفه أن قامت عليه الأدلة ونادت عليه الشواهد وأوضحته الآيات والبراهين وما عداه فدعاوي مجردة لا يقوم عليها دليل ولا تصح بشاهد فكل توحيد لا يصح بشاهد فليس بتوحيد فلا يجوز أن يكون توحيدا أكمل من التوحيد الذي يصح بالشواهد والآيات وتوحيد القرآن من أوله إلى آخره كذلك قوله هذا هو التوحيد الظاهر الجلي الذي نفى الشرك الأعظم ________________________________________ فنعم لعمر الله ولظهوره وجلائه أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه وأمر الله به الأولين والآخرين من عباده وأما الرمز والإشارة والتعقيد الذي لا يكاد أن يفهمه أحد من الناس إلا بجهد وكلفة فليس مما جاءت به الرسل ولا دعوا إليه فظهور هذا التوحيد وانجلاؤه ووضوحه وشهادة الفطر والعقول به من أعظم الأدلة أنه أعلى مراتب التوحيد وذروة سنامه ولذلك قوي على نفي الشرك الأعظم فإن الشيء كلما عظم لا يدفعه إلا العظيم فلو كان شيء أعظم من هذا التوحيد لدفع الله به الشرك الأعظم ولعظمته وشرفه نصبت عليه القبلة وأسست عليه الملة ووجبت به الذمة وانفصلت به دار الكفر من دار الإسلام وانقسم به الناس إلى سعيد وشقي ومهتد وغوي ونادت عليه الكتب والرسل قوله وإن لم يقوموا بحسن الاستدلال يعني هو مستتر في قلوب أهله وإن كان أكثرهم لا يحسن الاستدلال عليه تقريرا وإيضاحا وجوابا عن المعارض ودفعا لشبه المعاند ولا ريب أن أكثر الناس لا يحسنون ذلك وهذا قدر زائد على وجود التوحيد في قلوبهم فما كل من وجد شيئا وعلمه وتيقنه أحسن أن يستدل عليه ويقرره ويدفع الشبه القادحة فيه فهذا لون ووجوده لون ولكن لا بد مع ذلك من نوع استدلال قام عنده وإن لم يكن على شروط الأدلة التي ينظمها أهل الكلام وغيرهم وترتيبها فهذه ليست شرطا في التوحيد لا في معرفته والعلم به ولا في القيام به عملا وحالا فاستدلال كل أحد بحسبه ولا يحصى أنواع الاستدلال ووجوهه ومراتبه إلا الله فلكل قوم هاد ولكل علم صحيح ويقين دليل يوجبه وشاهد يصح به وقد لا يمكن صاحبه التعبير عنه عجزا وعيا وإن عبر عنه فقد لا يمكنه التعبير عنه باصطلاح أهل العلم وألفاظهم وكثيرا ما يكون الدليل الذي عرف به الحق أصح من كثير من أدلة المتكلمين ومقدماتها وأبعد عن الشبه وأقرب تحصيلا للمقصود وإيصالا إلى المدلول عليه بل من استقرأ أحوال الناس رأى أن كثيرا من أهل الإسلام أو أكثرهم ________________________________________ أعظم توحيدا وأكثر معرفة وأرسخ إيمانا من أكثر المتكلمين وارباب النظر والجدال ويجد عندهم من أنواع الأدلة والآيات التي يصح بها إيمانهم ما هو أظهر وأوضح وأصح مما عند المتكلمين وهذه الآيات التي ندب الله عباده إلى النظر فيها والاستدلال بها على توحيده وثبوت صفاته وأفعاله وصدق رسله هي آيات مشهودة بالحس معلومة بالعقل مستقرة في الفطر لا يحتاج الناظر فيها إلى أوضاع أهل الكلام والجدل واصطلاحهم وطرقهم ألبتة وكل من له حس سليم وعقل يميز به يعرفها ويقر بها وينتقل من العلم بها إلى العلم بالمدلول وفي القرآن ما يزيد على عشرات ألوف من هذه الآيات البينات ومن لم يحفظ القرآن فإنه إذا سمعها وفهمها وعقلها انتقل ذهنه منها إلى المدلول أسرع انتقال وأقر به وبالجملة فما كل من علم شيئا أمكنه أن يستدل عليه ولا كل من أمكنه الاستدلال عليه يحسن ترتيب الدليل وتقريره والجواب عن المعارض والشواهد التي ذكرها هي الأدلة كالاستدلال بالمصنوع على الصانع والمخلوق على الخالق وهذه طريقة القرآن الذي لا توحيد أكمل من توحيده قوله بعد أن يسلموا من الشبهة والحيرة والريبة الشبهة الشكوك التي توقع في اشتباه الحق بالباطل فيتولد عنها الحيرة والريبة وهذا حق فإن هذا التوحيد لا ينفع إن لم يسلم قلب صاحبه من ذلك وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من أتى الله به فيسلم من الشبه المعارضة لخبره والإرادات المعارضة لأمره بل ينقاد للخبر تصديقا واستيقانا وللطلب إذعانا وامتثالا قوله بصدق شهادة صححها قبول القلب أي سلموا من الشبهة والحيرة والريبة بصدق شهادة تواطأ عليها القلب واللسان فصحت شهادتهم بقبول قلوبهم لها واعتقادهم صحتها والجزم بها بخلاف شهادة المنافق التي لم يقبلها قلبه ولم يواطئ عليها لسانه ________________________________________ قوله وهو توحيد العامة الذي يصح بالشواهد قد عرفت أن هذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب واتفقت عليه الشرائع ثم بين مراده بالشواهد أنها الرسالة والصنائع فقال والشواهد الأدلة على التوحيد والرسالة أرشدت إليها وعرفت بها ومقصوده أن الشواهد نوعان آيات متلوة وهي الرسالة وآيات مرئية وهي الصنائع قوله ويجب بالسمع ويوجد بتبصير الحق وينمو على مشاهد الشواهد هذه ثلاث مسائل إحداها ما يجب به والثانية ما يوجد به والثالثة ما ينمو به فأما المسألة الأولى فاختلف فيها الناس فقالت طائفة يجب بالعقل ويعاقب على تركه والسمع مقرر لما وجب بالعقل مؤكد له فجعلوا وجوبه والعقاب على تركه ثابتين بالعقل والسمع مبين ومقرر للوجوب والعقاب وهذا قول المعتزلة ومن وافقهم من أتباع الأئمة في مسألة التحسين والتقبيح العقليين وقالت طائفة لا يثبت بالعقل لا هذا ولا هذا بل لا يجب بالعقل فيها شيء وإنما الوجوب بالشرع ولذلك لا يستحق العقاب على تركه وهذا قول الأشعرية ومن وافقهم على نفي التحسين والتقبيح والقولان لأصحاب أحمد والشافعي وأبي حنيفة والحق أن وجوبه ثابت بالعقل والسمع والقرآن على هذا يدل فإنه يذكر الأدلة والبراهين العقلية على التوحيد ويبين حسنه وقبح الشرك عقلا وفطرة ويأمر بالتوحيد وينهى عن الشرك ولهذا ضرب الله سبحانه الأمثال وهي الأدلة العقلية وخاطب العباد بذلك خطاب من استقر في عقولهم وفطرهم حسن التوحيد ووجوبه وقبح الشرك وذمه والقرآن مملوء بالبراهين العقلية الدالة على ذلك كقوله ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وقوله ________________________________________ ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم وقوله يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعواله إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز إلى أضعاف ذلك من براهين التوحيد العقلية التي أرشد إليها القرآن ونبه عليها ولكن ههنا أمر آخر وهو أن العقاب على ترك هذا الواجب يتأخر إلى حين ورود الشرع كما دل عليه قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقوله كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقوله وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون وقوله ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون فهذا يدل على أنهم ظالمون قبل إرسال الرسل وأنه لا يهلكهم بهذا الظلم قبل إقامة الحجة عليهم فالآية رد على الطائفتين معا من يقول إنه لا يثبت الظلم والقبح إلا بالسمع ومن يقول إنهم معذبون على ظلمهم بدون السمع فالقرآن يبطل قول هؤلاء وقول هؤلاء كما قال تعالى ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فأخبر أن ما قدمت أيديهم قبل إرسال الرسل سبب لإصابتهم بالمصيبة ولكن لم يفعل سبحانه ذلك قبل إرسال الرسول الذي يقيم به حجته عليهم كما قال تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس ________________________________________ على الله حجة بعد الرسل وقال تعالى وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة وقوله أن تقول نفس يا حسري على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الخاسرين إلى قوله بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين وهذا في القرآن كثير يخبر أن الحجة إنما قامت عليهم بكتابه ورسوله كما نبههم بما في عقولهم وفطرهم من حسن التوحيد والشكر وقبح الشرك والكفر وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة في كتاب مفتاح دار السعادة وذكرنا هناك نحوا من ستين وجها تبطل قول من نفى القبح العقلي وزعم أنه ليس في الأفعال ما يقتضي حسنها ولا قبحها وأنه يجوز أن يأمر الله بعين ما نهى عنه وينهى عن عين ما أمر به وأن ذلك جائز عليه وإنما الفرق بين المأمور والمنهي بمجرد الأمر والنهي لا بحسن هذا وقبح هذا وأنه لو نهى عن التوحيد والإيمان والشكر لكان قبيحا ولو أمر بالشرك والكفر والظلم والفواحش لكان حسنا وبينا أن هذا القول مخالف للعقول والفطر والقرآن والسنة والمقصود الكلام على قول الشيخ ويجب بالسمع وأن الصواب وجوبه بالسمع والعقل وإن اختلفت جهة الإيجاب فالعقل يوجبه بمعنى اقتضائه لفعله وذمه على تركه وتقبيحه لضده والسمع يوجبه بهذا المعنى ويزيد إثبات العقاب على تركه والإخبار عن مقت الرب تعالى لتاركه وبغضه له وهذا قد يعلم بالعقل فإنه إذا تقرر قبح الشيء وفحشه بالعقل وعلم ثبوت كمال الرب جل جلاله بالعقل أيضا اقتضى ثبوت هذين الأمرين علم العقل بمقت الرب تعالى لمرتكبه وأما تفاصيل العقاب وما يوجبه مقت الرب منه فإنما يعلم بالسمع ________________________________________ واعلم أنه إن لم يكن حسن التوحيد وقبح الشرك معلوما بالعقل مستقرا في الفطر فلا وثوق بشيء من قضايا العقل فإن هذه القضية من أجل القضايا البديهيات وأوضح ما ركب الله في العقول والفطر ولهذا يقول سبحانه عقيب تقرير ذلك افلا تعقلون أفلا تذكرون وينفي العقل عن أهل الشرك ويخبر عنهم بأنهم يعترفون في النار أنهم لم يكونوا يسمعون ولا يعقلون وأنهم خرجوا عن موجب السمع والعقل وأخبر عنهم أنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون وأخبر عنهم إن سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم لم تغن عنهم شيئا وهذا إنما يكون في حق من خرج عن موجب العقل الصريح والفطرة الصحيحة ولو لم يكن في صريح العقل ما يدل على ذلك لم يكن في قوله تعالى انظروا واعتبروا وسيروا في الأرض فانظروا فائدة فإنهم يقولون عقولنا لا تدل على ذلك وإنما هو مجرد إخبارك فما هذا النظر والتفكر والاعتبار والسير في الأرض وما هذه الأمثال المضروبة والأقيسة العقلية والشواهد العيانية أفليس في ذلك أظهر دليل على حسن التوحيد والشكر وقبح الشرك والكفر مستقر في العقول والفطر معلوم لمن كان له قلب حي وعقل سليم وفطرة صحيحة قال تعالى ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون وقال تعالى وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون وقال تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وقال تعالى أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقال تعالى كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون وقال تعالى قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون وقال تعالى ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ________________________________________ ومن بعض الأدلة العقلية ما أبقاه الله تعالى من آثار عقوبات أهل الشرك وآثار ديارهم وما حل بهم وما أبقاه من نصر أهل التوحيد وإعزازهم وجعل العاقبة لهم قال تعالى وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وقال في ثمود فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون وقال في قوم لوط إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون وقال تعالى إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين وإن كان أصحاب الأيلة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين وقال تعالى في قوم لوط وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعلقون وهو سبحانه يذكر في سورة الشعراء ما أوقع بالمشركين من أنواع العقوبات ويذكر إنجاءه لأهل التوحيد ثم يقول إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم فيذكر شرك هؤلاء الذين استحقوا به الهلاك وتوحيد هؤلاء الذين استحقوا به النجاة ثم يخبر أن في ذلك آية وبرهانا للمؤمنين ثم يذكر مصدر ذلك كله وأنه عن أسمائه وصفاته فصدور هذا الإهلاك عن عزته وذلك الإنجاء عن رحمته ثم يقرر في آخر السورة نبوة رسوله بالأدلة العقلية أحسن تقرير ويجيب عن شبه المكذبين له أحسن جواب وكذلك تقريره للمعاد الدله العقلية والحسية فضرب الأمثال والأقيسة فدلالة القرآن سمعية عقلية قوله تعالى { قل اللهم مالك الملك } لا خلاف أن لفظة اللهم معناها يا الله ولهذا لا تستعمل إلا في الطلب فلا يقال اللهم غفور رحيم بل يقال اللهم اغفر لي وارحمني واختلف النحاة في الميم المشددة من آخر الاسم فقال سيبويه زيدت عوضا من حرف النداء ولذلك لا يجوز عنده الجمع بينهما في اختيار الكلام فلا يقال يا اللهم إلا فيما ندر كقول الشاعر إني إذا ما حدث ألما ... أقول يا اللهم يا اللهما ________________________________________ ويسمى ما كان من هذا الضرب عوضا إذ هو في غير محل المحذوف فإن كان في محله سمي بدلا كالألف في قام وباع فإنها بدل عن الواو والياء ولا يجوز عنده أن يوصف هذا الاسم أيضا فلا يقال يا اللهم الرحيم ارحمني ولا يبدل منه والضمة التي على الهاء ضمة الاسم المنادى المفرد وفتحت الميم لسكونها وسكون الميم التي قبلها وهذا من خصائص هذا الاسم كما اختص بالتاء في القسم وبدخول حرف النداء عليه مع لام التعريف وبقطع همزة وصله في النداء وتفخيم لامه وجوبا غير مسبوقة بحرف إطباق هذا ملخص مذهب الخليل وسيبويه وقيل الميم عوض عن جملة محذوفة والتقدير يا الله أمنا بخير أي اقصدنا ثم حذف الجار والمجرور وحذف المفعول فبقي في التقدير يا الله أم ثم حذفوا الهمزة لكثرة دوران هذا الاسم في الدعاء على ألسنتهم فبقي يا اللهم وهذا قول الفراء وصاحب هذا القول يجوز دخول يا عليه ويحتج بقول الشاعر وما عليك أن تقولي كلما صليت أو سبحت ... يا اللهما اردد علينا شيخنا مسلما وبالبيت المتقدم وغيرهما ورد البصريون هذا بوجوه أحدها أن هذه تقادير لا دليل عليها ولا يقتضيها القياس فلا يصار إليها بغير دليل الثاني أن الأصل عدم الحذف فتقدير هذه المحذوفات الكثيرة خلاف الأصل الثالث أن الداعي بهذا قد يدعو بالشر على نفسه وعلى غيره فلا يصح هذا التقدير فيه تجمع بين يا واللهم ولو كان أصله ما ذكره الفراء لم يمتنع الجمع بل كان استعماله فصيحا شائعا والأمر بخلافه الخامس أنه لا يمتنع أن يقول الداعي اللهم أمنا بخير ولو كان التقدير كما ذكره لم يجز الجمع بينهما لما فيه من الجمع بين العوض والمعوض السادس أن الداعي بهذا الاسم لا يخطر ذلك بباله وإنما تكون غايته مجردة إلى المطلوب بعد ذكر الاسم السابع أنه لو كان التقدير ذلك لكان اللهم جملة تامة يحسن السكوت عليها لاشتمالها على الاسم المنادى وفعل الطلب وذلك باطل ________________________________________ الثامن أنه لو كان التقدير ما ذكره لكتب فعل الأمر وحده ولم يوصل بالاسم المنادى كما يقال يا الله قه ويا زيد عه ويا عمرو فه لأن الفعل لا يوصل بالاسم الذي قبله حتى يجعلا في الخط كلمة واحدة هذا لا نظير له في الخط وفي الاتفاق على وصل الميم باسم الله دليل على أنها ليست بفعل مستقل التاسع أنه لا يسوغ ولا يحسن في الدعاء أن يقول العبد اللهم أمني بكذا بل هذا مستكره اللفظ والمعنى فإنه لا يقال اقصدني بكذا إلا لمن كان يعرض له الغلط والنسيان فيقول له اقصدني وأما من لا يفعل إلا بإرادته ولا يضل ولا ينسى فلا يقال اقصد كذا العاشر أنه يسوغ استعمال هذا اللفظ في موضع لا يكون بعده دعاء كقوله في الدعاء اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك وقوله اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك وقوله تعالى قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء آل عمران 26 الآية وقوله تعالى قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون الزمر 46 وقول النبي في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي فهذا كله لا يسوغ فيه التقدير الذي ذكروه والله أعلم ________________________________________ وقيل زيدت الميم للتعظيم والتفخيم كزيادتها في زرقم لشديد الزرقة وابنم في الابن وهذا القول صحيح ولكن يحتاج إلى تتمة وقائله لحظ معنى صحيحا لا بد من بيانه وهو أن الميم تدل على الجمع وتقتضيه ومخرجها يقتضي ذلك وهذا مطرد على أصل من أثبت المناسبة بين اللفظ والمعنى كما هو مذهب أساطين العربية وعقد له أبو الفتح بن جني بابا في الخصائص وذكره عن سيبويه واستدل عليه بأنواع من تناسب اللفظ والمعنى ثم قال ولقد كنت برهة يرد علي اللفظ لا أعلم موضوعه وآخذ معناه من قوة لفظه ومناسبة تلك الحروف لذلك المعنى ثم أكشفه فأجده كما فهمته أو قريبا منه فحكيت لشيخ الإسلام هذا عن ابن جني فقال وأنا كثيرا ما يجري لي ذلك ثم ذكر لي فصلا عظيم النفع في التناسب بين اللفظ والمعنى ومناسبة الحركات لمعنى اللفظ وأنهم في الغالب يجعلون الضمة التي هي أقوى الحركات للمعنى الأقوى والفتحة الخفيفة للمعنى الخفيف والمتوسطة للمتوسط فيقولون عز يعز بفتح العين إذا صلب وأرض عزاز صلبة ويقولون عز يعز بكسرها إذا امتنع والممتنع فوق الصلب فقد يكون الشيء صلبا ولا يمتنع على كاسره ثم يقولون عزه يعزه إذا غلبه قال الله تعالى في قصة داود عليه السلام وعزني في الخطاب ص 23 والغلبة أقوى من الامتناع إذ قد يكون الشيء ممتنعا في نفسه متحصنا من عدوه ولا يغلب غيره فالغالب أقوى من الممتنع فأعطوه أقوى الحركات والصلب أضعف من الممتنع فأعطوه أضعف الحركات والممتنع المتوسط بين المرتبتين فأعطوه حركة الوسط ________________________________________ ونظير هذا قولهم ذبح بكسر أوله للمحل المذبوح وذبح بفتح أوله لنفس الفعل ولا ريب أن الجسم أقوى من العرض فأعطوا الحركة القوية للقوي والضعيفة للضعيف وهو مثل قولهم نهب ونهب بالكسر للمنهوب وبالفتح للفعل وكقولهم ملء وملء بالكسر لما يملأ الشيء وبالفتح للمصدر الذي هو الفعل وكقولهم حمل وحمل فبالكسر لما كان قويا مرئيا مثقلا لحامله على ظهره أو رأسه أو غيرهما من أعضائه والحمل بالفتح لما كان خفيفه غير مثقل لحامله كحمل الحيوان وحمل الشجرة به أشبه ففتحوه وتأمل كونهم عكسوا هذا في الحب والحب فجعلوا المكسور الأول لنفس المحبوب ومضمومه للمصدر إيذانا بخفة المحبوب على قلوبهم ولطف موقعه في أنفسهم وحلاوته عندهم وثقل حمل الحب ولزومه للمحب كما يلزم الغريم غريمه ولهذا يسمى غراما ولهذا كثر وصفهم لتحمله بالشدة والصعوبة وإخبارهم بأن أعظم المخلوقات وأشدها من الصخر والحديد ونحوهما لو حمله لذاب ولم يستقل به كما هو كثير في أشعار المتقدين والمتأخرين وكلامهم فكان الأحسن أن يعطوا المصدر هنا الحركة القوية والمحبوب الحركة التي هي أخف منها ومن هذا قولهم قبض بسكون وسطه للفعل وقبض بتحريكه للمقبوض والحركة أقوى من السكون والمقبوض أقوى من المصدر ونظيره سبق بالسكون للفعل وسبق بالفتح للمال المأخوذ في هذا العقد وتأمل قولهم دار دورانا وفارت القدر فورانا وغلت غليانا كيف تابعوا بين الحركات في هذه المصادر لتتابع حركة المسمى فطابق اللفظ المعنى وتأمل قولهم حجر وهواء كيف وضعوا للمعنى الثقيل الشديد هذه الحروف الشديدة ووضعوا للمعنى الخفيف هذه الحروف الهوائية التي هي من أخف الحروف وهذا أكثر من أن يحاط به وإن مد الله في العمر وضعت فيه كتابا مستقلا إن شاء الله تعالى ________________________________________ ومثل هذه المعاني يستدعي لطافة ذهن ورقة طبع ولا تتأتى مع غلظ القلوب والرضى بأوائل مسائل النحو والتصريف دون تأملها وتدبرها والنظر إلى حكمة الواضع ومطالعة ما في هذه اللغة الباهرة من الأسرار التي تدق على أكثر العقول وهذا باب ينبه الفاضل على ما وراءه ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور النور 40 وانظر إلى تسميتهم الغليظ الجافي بالعتل والجعظري والجواظ كيف تجد هذه الألفاظ تنادي على ما تحتها من المعاني وانظر إلى تسميتهم الطويل بالعشنق وتأمل اقتضاء هذه الحروف ومناسبتها لمعنى الطويل وتسميتهم القصير بالبحتر وموالاتهم بين ثلاث فتحات في اسم الطويل وهو العشنق وإتيانهم بضمتين بينهما سكون في البحتر كيف يقتضي اللفظ الأول انفتاح الفم وانفراج آلات النطق وامتدادها وعدم ركوب بعضها بعضا وفي اسم البحتر الأمر بالضد وتأمل قولهم طال الشيء فهو طويل وكبر فهو كبير فإن زاد طوله قالوا طوالا وكبارا فأتوا بالألف التي هي أكثر مدا وأطول من الياء في المعنى الأطول فإن زاد كبر الشيء وثقل موقعه من النفوس ثقلوا اسمه فقالوا كبارا بتشديد الباء ولو أطلقنا عنان القلم في ذلك لطال مداه واستعصى على الضبط فلنرجع إلى ما جرى الكلام بسببه فنقول الميم حرف شفهي يجمع الناطق به شفتيه فوضعته العرب علما على الجمع فقالوا للواحد أنت فإذا جاوزوه إلى الجمع قالوا أنتم وقالوا للواحد الغائب هو فإذا جاوزوه إلى الجمع قالوا هم وكذلك في المتصل يقولون ضربت وضربتم وإياك وإياكم وإياه وإياهم ونظائره نحو به وبهم ويقولون للشيء الأزرق أزرق فإذا اشتدت زرقته واستحكمت قالوا زرقم ويقولون للكبير الاست ستهم ________________________________________ وتأمل الألفاظ التي فيها الميم كيف تجد الجمع معقودا بها مثل لم الشيء يلمه إذا جمعه ومنه لم الله شعثه أي جمع ما تفرق من أموره ومنه قولهم دار لمومة أي تلم الناس وتجمعهم ومنه أكلا لما الفجر 19 جاء في تفسيرها يأكل نصيبه ونصيب صاحبه وأصله من اللم وهو الجمع كما يقال لفه يلفه ومنه ألم بالشيء إذا قارب الاجتماع به والوصول إليه ومنه اللمم وهو مقاربة الاجتماع بالكبائر ومنه الملمة وهي النازلة التي تصيب العبد ومنه اللمة وهي الشعر الذي قد اجتمع وتقلص حتى جاوز شحمة الأذن ومنه تم الشيء وما تصرف منها ومنه بدر التم إذا كمل واجتمع نوره ومنه التوأم للولدين المجتمعين في بطن ومنه الأم وأم الشيء أصله الذي تفرع منه فهو الجامع له وبه سميت مكة أم القرى والفاتحة أم القرآن واللوح المحفوظ أم الكتاب قال الجوهري أم الشيء أصله ومكة أم القرى وأم مثواك صاحبة منزلك يعني التي تأوي إليها وتجتمع معها وأم الدماغ الجلدة التي تجمع الدماغ ويقال لها أم الرأس وقوله تعالى في الآيات المحكمات هن أم الكتاب آل عمران 7 والأمة الجماعة المتساوية في الخلقة والزمان قال تعالى وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم الأنعام 38 وقال النبي لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها ومنه الإمام الذي يجتمع المقتدون به على اتباعه ومنه أم الشيء يؤمه إذا اجتمع قصده وهمه إليه ومنه رم الشيء يرمه إذا أصلحه وجمع متفرقة قيل ومنه سمي الرمان لاجتماع حبه وتضامه ومنه ضم الشيء يضمه إذا جمعه ومنه هم الإنسان وهمومه وهي إرادته وعزائمه التي تجتمع في قلبه ومنه قولهم للأسود أحم وللفحمة السوداء حممة وحمم رأسه إذا اسود بعد حلقه كل هذا لأن السواد لون جامع للبصر لا يدعه يتفرق ولهذا يجعل على عيني الضعيف البصر لوجع أو غيره شيء أسود من شعر أو خرقة ليجمع عليه بصره فتقوى القوة الباصرة وهذا باب طويل فلنقتصر منه على هذا القدر ________________________________________ وإذا علم هذا من شأن الميم فهم ألحقوها في آخر هذا الاسم الذي يسأل الله سبحانه به في كل حاجة وكل حال إيذانا بجميع أسمائه وصفاته فالسائل إذا قال اللهم إني أسألك كأنه قال أدعو الله الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى بأسمائه وصفاته فأتى بالميم المؤذنة بالجمع في آخر هذا الاسم إيذانا بسؤاله تعالى بأسمائه كلها كما قال النبي في الحديث الصحيح ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحا قالوا يا رسول الله أفلا نتعلمهن قال بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن // إسناده صحيح // فالداعي مندوب إلى أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته كما في الاسم الأعظم اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم // إسناده صحيح // وهذه الكلمات تتضمن الأسماء الحسنى كما ذكر في غير هذا الموضع والدعاء ثلاثة أقسام أحدها أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته وهذا أحد التأويلين في قوله تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها الأعراف 180 والثاني أن تسأله بحاجتك وفقرك وذلك فتقول أنا العبد الفقير المسكين البائس الذليل المستجير ونحو ذلك والثالث أن تسأل حاجتك ولا تذكر واحدا من الأمرين فالأول أكمل من الثاني والثاني أكمل من الثالث فإذا جمع الدعاء الأمور الثلاثة كان أكمل وهذه عامة أدعية النبي ________________________________________ وفي الدعاء الذي علمه صديق الأمة رضي الله عنه ذكر الأقسام الثلاثة فإنه قال في أوله ظلمت نفسي ظلما كثيرا وهذا حال السائل ثم قال وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وهذا حال المسؤول ثم قال فاغفر لي فذكر حاجته وختم الدعاء باسمين من الأسماء الحسنى تناسب المطلوب وتقتضيه وهذا القول الذي اخترناه جاء عن غير واحد من السلف قال الحسن البصري اللهم مجمع الدعاء وقال أبو رجاء العطاردي إن الميم في قوله اللهم فيها تسعة وتسعون اسما من أسماء الله تعالى وقال النضر بن شميل من قال اللهم فقد دعا الله بجميع أسمائه وقد وجه طائفة هذا القول بأن الميم هنا بمنزلة الواو الدالة على الجمع فإنها من مخرجها فكأن الداعي بها يقول يا الله الذي اجتمعت له الأسماء الحسنى والصفات العلى قال ولذلك شددت لتكون عوضا عن علامتي الجمع وهي الواو والنون في مسلمون ونحوه وعلى الطريقة التي ذكرناها أن نفس الميم دالة على الجمع لا يحتاج إلى هذا يبقى أن يقال فهلا جمعوا بين يا وبين هذه الميم على المذهب الصحيح فالجواب أن القياس يقتضي عدم دخول حرف النداء على هذا الاسم لمكان الألف واللام منه وإنما احتملوا ذلك فيه لكثرة استعمالهم دعاءه واضطرارهم إليه واستغاثتهم به فإما أن يحذفوا الألف واللام منه وذلك لا يسوغ للزومهما له وإما أن يتوصلوا إليه ب أي وذلك لا يسوغ لأنها لا يتوصل بها إلا إلى نداء اسم الجنس المحلى بالألف واللام كالرجل والرسول والنبي وأما في الأعلام فلا فخالفوا قياسهم في هذا الاسم لمكان الحاجة فلما أدخلوا الميم المشددة في آخره عوضا عن جميع الأسماء جعلوها عوضا عن حرف النداء فلم يجمعوا بينهما والله أعلم أهـ { جلاء الأفهام صـ 143 ـ صـ 152 } ________________________________________ قوله اركعي مع الراكعين ولم يقل اسجدي مع الساجدين فإنما عبر بالسجود عن الصلاة وأراد صلاتها في بيتها لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها مع قومها ثم قال لها اركعي مع الراكعين أي صلي مع المصلين في بيت المقدس ولم يرد أيضا الركوع وحده دون أجزاء الصلاة ولكنه عبر بالركوع عن الصلاة كما تقول ركعت ركعتين وأربع ركعات يريد الصلاة لا الركوع بمجرده فصارت الآية متضمنة لصلاتين صلاتها وحدها عبر عنها بالسجود لأن السجود أفضل حالات العبد وكذلك صلاة المرأة في بيتها أفضل لها ثم صلاتها في المسجد عبر عنها بالركوع لأنه في الفضل دون السجود وكذلك صلاتها مع المصلين دون صلاتها وحدها في بيتها ومحرابها وهذا نظم بديع وفقه دقيق وهذه نبذ تسير بك إلى ما وراءها ترشدك وأنت صحيح وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركوع السجود وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود الحج 26 بدأ بالطائفين للرتبة والقرب من البيت المأمور بتطهيره من أجل الطوافين وجمعهم جمع السلامة لأن جمع السلامة أدل على لفظ الفعل الذي هو علة تعلق بها حكم التطهير ولو كان مكان الطائفين الطواف لم يكن في هذا اللفظ من بيان قصد الفعل ما في قوله للطائفين ألا ترى أنك تقول تطوفون كما تقول طائفون فاللفظان متشابهان أهـ { بدائع الفوائد حـ63 } قال تعالى ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون قال قتادة كانت مريم ابنة إمامهم وسيدهم فتشاح عليها بنو إسرائيل فاقترعوا عليها بسهامهم أيهم يكفلها فقرع زكريا وكان زوج أختها فضمها إليه وروى نحوه عن مجاهد وقال ابن عباس لما وضعت مريم في المسجد اقترع عليها أهل المصلى وهم يكتبون الوحي فاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها وهذا متفق عليه بين أهل التفسير وقال تعالى وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين يقول تعالى فقارع فكان من المغلوبين ________________________________________ فهذان نبيان كريمان استعملا القرعة وقد احتج الأئمة الأربعة بشرع من قبلنا إن صح ذلك عنهم وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا وفي الصحيحين أيضا عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه وفي صحيح مسلم عن عمران بن حصين أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثا ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة وقال له قولا شديدا وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض على قوم اليمين فسارعوا إليه فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أكره اثنان على اليمين أو استحباها فليستهما عليها أهـ { الطرق الحكمية صـ365 ـ صـ366 } قال الله تعالى : كل الطعام كان حلا لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين فتضمنت هذه الآيات بيان كذبهم صريحا في إبطال النسخ فإنه سبحانه وتعالى أخبر أن الطعام كله كان حلالا لبني إسرائيل قبل نزول التوراة سوى ما حرم إسرائيل على نفسه منه ومعلوم أن بني إسرائيل كانوا على شريعة أبيهم اسرائيل وملته وأن الذي كان لهم حلالا إنما هو بإحلال الله تعالى له على لسان إسرائيل والأنبياء بعده إلى حين نزول التوراة ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم التي كانت حلالا لبني إسرائيل وهذا محض النسخ ________________________________________ وقوله تعالى : من قبل أن تنزل التوراة أي كانت حلالا لهم قبل نزول التوراة وهم يعلمون ذلك ثم قال تعالى : قل فائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين هل تجدون فيها أن إسرائيل حرم على نفسه ما حرمته التوارة عليكم أم تجدون فيها تحريم ما خصه بالتحريم وهي لحوم الإبل وألبانها خاصة وإذا كان إنما حرم هذا وحده وكان ما سواه حلالا له ولبنيه وقد حرمت التوراة كثيرا منه ظهر كذبكم وافتراؤكم في إنكار نسخ الشرائع والحجر على الله تعالى في نسخها فتأمل هذا الموضع الشريف الذي حام حوله أكثر المفسرين وما وردوه وهذا أولى من احتجاج كثير من أهل الكلام عليهم بأن التوراة حرمت أشياء كثيرة من المناكح والذبائح والأفعال والأقوال وذلك نسخ لحكم البراءة الأصلية فإن هذه المناظرة ضعيفة جدا فإن القوم لم ينكروا رفع البراءة الأصلية بالتحريم والإيجاب إذ هذا شأن كل الشرائع وإنما أنكروا تحريم ما أباحه الله تعالى فيجعله حراما أو تحليل ما كان حرمه فيجعله مباحا وأما رفع البراءة والاستصحاب فلم ينكره أحد من أهل الملل ثم يقال لهذه الأمة الغضبية : هل تقرون أنه كان قبل التوراة شريعة أم لا فهم لا ينكرون أن يكون قبل التوراة شريعة فيقال لهم : فهل رفعت التوراة شيئا من أحكام تلك الشرائع المتقدمة أم لا فإن قالوا : لم ترفع شيئا من أحكام تلك الشرائع فقد جاهروا بالكذب والبهت وإن قالوا : قد رفعت بعض الشرائع المتقدمة فقد أقروا بالنسخ قطعا وأيضا فيقال للأمة الغضبية : هل أنتم اليوم على ما كان عليه موسى عليه السلام فإن قالوا : نعم قلنا : أليس في التوراة أن من مس عظم ميت أو وطيء قبرا أو حضر حضر ميتا عند موته فإنه يصير من النجاسة بحال لا مخرج له منها إلا برماد البقرة التي كان الإمام الهاروني يحرقها فلا يمكنهم إنكار ذلك فيقال لهم : فهل أنتم اليوم على ذلك ________________________________________ فإن قالوا : لا نقدر عليه فيقال لهم : لم جعلتم أن من مس العظم والقبر والميت طاهرا يصلح للصلاة والذي في كتابكم خلافه فإن قالوا : لأنا عدمنا أسباب الطهارة وهي رماد البقرة وعدمنا الإمام المطهر المستغفر فيقال لهم : فهل أغناكم عدمه عن فعله أو لم يغنكم فإن قالوا : أغنانا عدمه عن فعله قيل لهم : قد تبدل الحكم الشرعي من الوجوب إلى إسقاطه لمصلحة التعذر فيقال : وكذلك يتبدل الحكم الشرعي بنسخه لمصلحة النسخ فإنكم إن بنيتم على اعتبار المصالح والمفاسد في الأحكام فلا ريب أن الشيء يكون مصلحة في وقت دون وقت وفي شريعة دون أخرى كما كان تزويج الأخ بالأخت مصلحة في شريعة آدم عليه السلام ثم صار مفسدة في سائر الشرائع وكذلك إباحة العمل يوم السبت كان مصلحة في شريعة إبراهيم عليه السلام ومن قبله وفي سائر الشرائع ثم صار مفسدة في شريعة موسى عليه السلام وأمثال ذلك كثيرة وإن منعتم مراعاة المصالح في الأحكام ومنعتم تعليلها بها فالأمر حينئذ أظهر فإنه سبحانه يحلل ما يشاء ويحرم ما يشاء والتحليل والتحريم تبع لمجرد مشيئته لا يسأل عما يفعل وإن قلتم : لا نستغني في الطهارة عن ذلك الطهور الذي كان عليه أسلافنا فقد أقررتم بأنكم الأنجاس أبدا ولا سبيل لكم إلى حصول الطهارة فإن قالوا : نعم الأمر كذلك قيل لهم : فإذا كنتم أنجاسا على مقتضى أصولكم فما بالكم تعتزلون الحائض بعد انقطاع الحيض وارتفاعه سبعة أيام اعتزالا تخرجون فيه إلى حد لو أن أحدكم لمس ثوبه ثوب المرأة نجستموه مع ثوبه فإن قلتم : ذلك من أحكام التوراة قيل لكم : ليس في التوراة أن ذلك يراد به الطهارة فإذا كانت الطهارة قد تعذرت عندكم والنجاسة التي أنتم عليها لا ترتفع بالغسل فهي إذا أشد من نجاسة الحيض ثم إنكم ترون أن الحائض طاهر إذا كانت من غير ملتكم ولا تنحسون من لمسها ولا الثوب الذي تلمسه فتخصيص هذا الأمر بطائفتكم ليس في التوراة ________________________________________ فصل قالت الأمة الغضبية : التوراة قد حظرت أمورا كانت مباحة من قبل ولم تأت بإباحة محظور والنسخ الذي ننكره ونمنع منه : هو ما أوجب إباحة محظور لأن تحريم الشيء إنما هو لأجل ما فيه من المفسدة فإذا جاءت شريعة بتحريمه كان ذلك من مؤكداتها ومقرراتها فإذا جاء من أباحه علمنا بإباحة المفسدة : أنه غير نبي بخلاف تحريم ما كان مباحا فإنا نكون متعبدين بتحريمه قالوا : وشريعتكم جاءت بإباحة كثير مما حرمته التوراة مع أنه إنما حرم لما فيه من المفسدة فهذه النكتة هي التي تعتمد عليها الأمة الغضبية ويتلقاها خالف منهم عن سالف والمتكلمون لم يشفوهم في جوابها وإنما أطالوا معهم الكلام في رفع البراءة الأصلية بالشرائع وفي نسخ الإباحة بالتحريم ولعمر الله إنه بما يبطل شبهتهم لأن رفع البراءة الأصلية ورفع الإباحة بالتحريم : هو تغيير لما كان عليه الحكم الاستصحابي أو الشرعي بحكم آخر لمصلحة اقتضت تغييره ولا فرق في اقتضاء المصلحة بين تغيير الإباحة بالتحريم أو تغيير التحريم بالإباحة والشبهة التي عرضت لهم في أحد الموضعين هي بعينها في الموضع الآخر فإن إباحة الشيء في الشريعة تابع لعدم مفسدته إذ لو كانت فيه مفسدة راجحة لم تأت الشريعة باباحته فإذا حرمته الشريعة الأخرى وجب قطعا أن يكون تحريمه فيها هو المصلحة كما كان إباحته في الشريعة الأولى هو المصلحة فإن تضمن إباحة الشحوم المحرمة في الشريعة الأولى إباحة المفاسد وحاشا لله تضمن تحريم المباح في الشريعة الأولى تحريم المصالح وكلاهما باطل قطعا فإذا جاز أن تأتي شريعة التوراة بتحريم ما كان إبراهيم ومن تقدمه يستبيحه فجائز أن تأتي شريعة أخرى بتحليل بعض ما كان في التوراة محظورا ________________________________________ وهذه الشبهة الباطلة الداحضة هي التي ردت بها الأمة الغضبية نبوة سيدنا محمدصلى الله عليه وسلم هي بعينها رد بها أسلافهم نبوة المسيح وتوارثوها كافرا عن كافر وقالوا لمحمدصلى الله عليه وسلم كما قال أسلافهم للمسيح : لا نقر بنبوة من غير شريعة التوراة فيقال لهم : فكيف أقررتم لموسى بالنبوة وقد جاء بتغيير بعض شرائع من تقدمه فإن قدح ذلك في المسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام قدح في موسى فلا تقدحون في نبوتهما بقادح إلا ومثله في نبوة موسى سواء كما أنكم لا تثبتون نبوة موسى ببرهان إلا وأضعافه شاهد على نبوة محمدصلى الله عليه وسلم فمن أبين المحال أن يكون موسى رسولا صادقا ومحمد ليس برسول أو يكون المسيح رسولا ومحمدصلى الله عليه وسلمليس برسول ويقال للأمة الغضبية أيضا : لا يخلو المحرم إما أن يكون تحريمه لعينه وذاته بحيث تمنع إباحته في زمان من الأزمنة وإما أن يكون تحريمه لما تضمنه من المفسدة في زمان دون زمان ومكان دون مكان وحال دون حال فإن كان الأول لزم أن يكون ما حرمته التوراة محرما على جميع الأنبياء في كل زمان ومكان من عهد نوح إلى خاتم الأنبياء عليهم السلام وإن كان الثاني ثبت أن التحريم والإباحة تابعان للمصالح وإنما يختلفان باختلاف الزمان والمكان والحال فيكون الشيء الواحد حراما في ملة دون ملة وفي وقت دون وقت وفي مكان دون مكان وفي حال دون حال وهذا معلوم بالاضطرار من الشرائع ولا يليق بحكمة أحكم الحاكمين غير ذلك ألا ترى أن تحريم السبت لو كان لعينه لكان حراما على إبراهيم ونوح وسائر النبيين وكذلك ما حرمته التوراة من المطاعم والمناكح وغيرها لو كان حراما لعينه وذاته لوجب تحريمه على كل نبي وفي كل شريعة ________________________________________ وإذا كان الرب تعالى لا حجر عليه بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ويبتلي عباده بما يشاء ويحكم ولا يحكم عليه فما الذي يحيل عليه ويمنعه أن يأمر أمة بأمر من أوامر الشريعة ثم ينهى أمة أخرى عنه أو يحرم محرما على أمة ويبيحه لأمة أخرى بل أي شيء يمنعه سبحانه أن يفعل ذلك في الشريعة الواحدة في وقتين مختلفين بحسب المصلحة وقد بين ذلك سبحانه وتعالى بقوله ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شىء قدير ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض [ ] فأخبر سبحانه أن عموم قدرته وملكه وتصرفه في مملكته وخلقه لا يمنعه أن ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء كما أنه يمحو من أحكامه القدرية الكونية ما يشاء ويثبت فهكذا أحكامه الدينية الأمرية ينسخ منها ما يشاء ويثبت منها ما يشاء فمن أكفر الكفر وأظلم الظلم : أن يعارض الرسول الذي جاء بالبينات والهدى وتدفع نبوته وتجحد رسالته : بكونه أتى بإباحة بعض ما كان محرما على من قبله أو تحريم بعض ما كان مباحا لهم وبالله التوفيق يضل من يشاء ويهدي من يشاء ومن العجب أن هذه الامة الغضبية تحجر على الله تعالى أن ينسخ ما يشاء من شرائعه وقد تركوا شريعة موسى عليه السلام في أكثر ما هم عليه وتمسكوا بما شرعه لهم أحبارهم وعلماؤهم فمن ذلك : أنهم يقولون في صلاتهم ما ترجمته هكذا : اللهم اضرب ببوق عظيم لفيفنا واقبضنا جميعا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك سبحانك يا جامع شتات قوم إسرائيل ويقولون كل يوم ما ترجمته هكذا : أردد حكامنا كالأولين ومسراتنا كالابتداء وابن أو رشليم قرية قدسك في أيامنا وأعزنا بابتنائها سبحانك ياباني يورشليم فهذا قولهم في صلاتهم مع علمهم بأن موسى وهارون عليهما السلام لم يقولا شيئا من ذلك ولكنها فصول لفقوها بعد زوال دولتهم ________________________________________ وكذلك صيامهم كصوم إحراق بيت المقدس وصوم أحصا وصوم كدليا التي جعلوها فرضا لم يصمها موسى ولا يوشع بن نون وكذلك صوم صلب هامان ليس شيء من ذلك في التوراة وإنما وضعوها لأسباب اقتضت وضعها عندهم هذا مع أن في التوراة ما ترجمته لا تزيدوا على الأمر الذي أنا موصيكم به شيئا ولا تنقصوا منه شيئا وقد تضمنت التوراة أوامر كثيرة جدا هم مجمعون على تعطيلها وإلغائها فإما أن تكون منسوخة بنصوص أخرى من التوراة أو بنقل صحيح عن موسى عليه السلام أو باجتهاد علمائهم وعلى التقادير الثلاث فقد بطلت شبهتهم في إنكار النسخ ثم من العجب أن أكبر تلك الأوامر التي هم مجمعون على عدم القول والعمل بها إنما يستندون فيها إلى أقوال علمائهم وأمرائهم وقد اتفقوا على تعطيل الرجم للزاني وهو نص التوراة وتعطيل أحكام كثيرة منصوصة في التوراة ومن تلاعب الشيطان بهم أنهم يزعمون أن الفقهاء إذا أحلوا لهم الشيء صار حلالا وإذا حرموه صار حراما وإن كان نص التوراة بخلافه وهذا تجويز منهم لنسخهم ما شاءوا من شريعة التوراة فحجروا على الرب تعالى وتقدس أن ينسخ ما يريد من شريعته وجوزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم كما تكبر إبليس أن يسجد لأدم ورأى أن ذلك يغض منه ثم رضي أن يكون قوادا لكل عاص وفاسق وكما أبى عباد الأصنام أن يكون النبي المرسل إليهم بشرا ثم رضوا أن يكون إلههم ومعبودهم حجرا وكما نزهت النصارى بتاركتهم عن الولد والصاحبة ولم يتحاشوا من نسبة ذلك إلى الله سبحانه وتعالى وكما نزهت الفرعونية من الجهمية الرب سبحانه أن يكون مستويا على عرشه لئلا يلزم الحصر ثم جعلوه سبحانه في الآبار والحانات وأجواف الحيوانات أهـ { إغاثة اللهفان حـ 2 صـ 321 ـ صـ325 } ________________________________________ قوله تعالى { إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون } هذا مثل ضربه الله تعالى لمن أنفق ماله في غير طاعته ومرضاته فشبه سبحانه ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر لا يبتغون به وجه الله وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله واتباع رسله بالزرع الذي زرعه صاحبه يرجو نفعه وخيره فأصابته ريح شديدة البرد جدا يحرق بردها ما يمر عليه من الزرع والثمار فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته واختلف في الصر فقيل البرد الشديد وقيل النار قاله ابن عباس قال ابن الأنباري وإنما وصفت النار بأنها صر لتصريتها عند الالتهاب وقيل الصر الصوت الذي يصحب الريح من شدة هبوبها والأقوال الثلاثة متلازمة فهو برد شديد محرق يبسه للحرث كما تحرقه النار وفيه صوت شديد وفي قوله أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم تنبيه على أن سبب إصابتها لحرثهم هو ظلمهم فهو الذي سلط عليهم الريح المذكورة حتى أهلكت زرعهم وأيبسته فظلمهم هو الريح التي أهلكت أعمالهم ونفقاتهم وأتلفتها أهـ { إعلام الموقعين حـ 1 صـ 123 ـ صـ 224 } ________________________________________ قوله تعالى {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده} وأما الخذلان فقال تعالى {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده} وأصل الخذلان الترك والتخلية ويقال للبقرة والشاة إذا تخلفت مع ولدها في المرعى وتركت صواحباتها خذول قال محمد بن إسحاق في هذه الآية إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس ولن يضرك خذلان من خذلك وإن يخذلك فلن ينصرك الناس أي لا تترك أمري للناس وارفض الناس لأمري والخذلان أن يخلي الله تعالى بين العبد وبين نفسه ويكله إليها والتوفيق ضده أن لا يدعه ونفسه ولا يكله إليها بل يصنع له ويلطف به ويعينه ويدفع عنه ويكلأه كلاءة الوالد الشفيق للولد العاجز عن نفسه فمن خلى بينه وبين نفسه هلك كل الهلاك ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك فالعبد مطروح بين الله وبين عدوه إبليس فإن تولاه الله لم ظفر به عدوه وإن خذله وأعرض عنه افترسه الشيطان كما يفترس الذئب الشاة فإن قيل فما ذنب الشاة إذا خلى الراعي بين الذئب وبينها وهل يمكنها أن تقوى على الذئب وتنجو منه قيل لعمر الله إن الشيطان ذئب الإنسان كما قاله الصادق المصدوق ولكن لم يجعل الله لهذا الذئب اللعين على هذه الشاة سلطانا مع ضعفها فإذا أعطت بيدها وسالمت الذئب ودعاها فلبت دعوته وأجابت أمره ولم تتخلف بل أقبلت نحوه سريعة مطيعة وفارقت حمى الراعي الذي ليس للذئاب عليه سبيل ودخلت في محل الذئاب الذي من دخله كان صيدا لهم فهل الذئب كل الذئب إلا الشاة فكيف والراعي يحذرها ويخوفها وينذرها وقد رآها مصارع الشاة التي انفردت عن الراعي ودخلت وادي الذئاب قال أحمد بن مروان المالكي في كتاب المجالسة سمعت ابن أبي الدنيا يقول أن لله سبحانه من العلوم ما لا يحصى يعطي كل واحد من ذلك ما لا يعطي غيره لقد حدثنا أبو عبد الله أحمد بن حمد بن سعيد ________________________________________ القطان ثنا عبيد الله بن بكر السهمي عن أبيه أن قوما كانوا في سفر فكان فهم رجل يمر بالطائر فيقول أتدرون ما تقول هؤلاء فيقولون لا فيقول تقول كذا وكذا فيحيلنا على شيء لا ندري أصادق فيه هو أم كاذب إلى أن مروا على غنم وفيها شاة قد تخلفت على سخلة لها فجعلت تحنو عنقها إليها وتثغو فقال أتدرون ما تقول هذه الشاة قلنا لا قال تقول للسخلة إلحقي لا يأكلك الذئب كما أكل أخاك عام أول في هذا المكان قال فانتهينا إلى الراعي فقلنا له ولدت هذه الشاة قبل عامك هذا قال نعم ولدت سخلة عام أول فأكلها الذئب بهذا المكان ثم أتينا على قوم فيهم ظعينة على جمل لها وهو يرغو ويحنو عنقه إليها فقال أتدرون ما يقول هذا البعير قلنا لا قال فانه يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مخيط وهو في سنامه قال فانتهينا إليهم فقلنا يا هؤلاء إن صاحبنا هذا يزعم أن هذا البعير يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مخيط وأنه في سنامه قال فأناخوا البعير وحطوا عنه فإذا هو كما قال فهذه شاة قد حذرت سخلتها من الذئب مرة فحذرت وقد حذر الله سبحانه آدم من ذئبه مرة بعد مره وهو يأبى إلا أن يستجيب له إذا دعاه ويبيت معه ويصبح وقال الشيطان لما قضى الأمر آن الله عدوكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي أني كفرت بما أشركتموني من قبل أن الظالمين لهم عذاب أليم أهـ { شفاء العليل صـ 100 ـ صـ 101 } ________________________________________ قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } فأمرهم بالصبر وهو حال الصابر في نفسه والمصابرة وهى حاله في الصبر مع خصمه والمرابطة وهى الثبات واللزوم والاقامة على الصبر والمصابرة فقد يصبر العبد ولا يصابر وقد يصابر ولا يرابط وقد يصبر ويصابر ويرابط من غير تعبد بالتقوى فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله التقوى وأن الفلاح موقوف عليها فقال واتقوا الله لعلكم تفلحون فالمرابطة كما أنها لزوم الثغر الذى يخاف هجوم العدو منه في الظاهر فهى لزوم ثغر القلب لئلا يدخل منه الهوى والشيطان فيزيله عن مملكته أهـ { عدة الصابرين صـ 17 } ________________________________________ سورة النساء قوله تعالى { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا } النساء 3 قال الشافعي إن لا تكثر عيالكم فدل على أن قلة العيال أولى قيل قد قال الشافعي رحمه الله ذلك وخالفه جمهور المفسرين من السلف والخلف وقالوا معنى الآية ذلك أدنى أن لا تجوروا ولا تميلوا فانه يقال عال الرجل يعول عولا إذا مال وجار ومنه عول الفرائض لأن سهامها إذا زادت دخلها النقص ويقال عال يعيل عيلة إذا احتاج قال تعالى وان خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء الله التوبة 28 وقال الشاعر وما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغني متى يعيل أي متى يحتاج ويفتقر وأما كثرة العيال فليس من هذا ولا من هذا ولكنه من أفعل يقال أعال الرجل يعيل إذا كثر عياله مثل ألبن وأتمر إذا صار ذا لبن وتمر هذا قول أهل اللغة قال الواحدي في بسيطه ومعنى تعولوا تميلوا وتجوروا عن جميع أهل التفسير واللغة وروي ذلك مرفوعا روت عائشة رضي الله عنها عن النبي في قوله ذلك أن لا تعولوا قال أن لا تجوروا وروي أن لا تميلوا قال وهذا قول ابن عباس والحسن وقتادة والربيع والسدي وأبي مالك وعكرمة والفراء والزجاج وابن قتيبة وابن الأنبا ري قلت ويدل على تعين هذا المعنى من الآية وان كان ما ذكره الشافعي رحمه الله لغة حكاها الفراء عن الكسائي أنه قال ومن الصحابة من يقول عال يعول إذا كثر عياله قال الكسائي وهو لغة فصيحة سمعتها من العرب لكن يتعين الأول لوجوه أحدها أنه المعروف في اللغة الذي لا يكاد يعرف سواه ولا يعرف عال يعول إذا كثر عياله إلا في حكاية الكسائي وسائر أهل اللغة على خلافه الثاني أن هذا مروي عن النبي ولو كان من الغرائب فانه يصلح للترجيح ________________________________________ الثالث أنه مروي عن عائشة وابن عباس ولم يعلم لهما مخالف من المفسرين وقد قال الحاكم أبو عبد الله تفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع الرابع أن الأدلة التي ذكرناها على استحباب تزوج الولود وأخبار النبي أنه يكاثر بأمته الأمم يوم القيامة يرد هذا التفسير الخامس أن سياق الآية إنما هو في نقلهم مما يخافون الظلم والجور فيه إلى غيره فإنه قال في أولها وان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع النساء 4 فدلهم سبحانه على ما يتخلصون به من ظلم اليتامى وهو نكاح ما طاب لهم من النساء البوالغ وأباح لهم منه ثم دلهم على ما يتخلصون به من الجور والظلم في عدم التسوية بينهن فقال فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم النساء 4 ثم أخبر سبحانه أن الواحدة وملك اليمين أدنى إلى عدم الميل والجور وهذا صريح في المقصود السادس أنه لا يلتئم قوله فان خفتم ألا تعدلوا في الأربع فانكحوا واحدة أو تسروا ما شئتم بملك اليمين فان ذلك أقرب إلى أن لا تكثر عيالكم بل هذا أجنبي من الأول فتأمله السابع أنه من الممتنع أن يقال لهم إن خفتم أن ألا تعدلوا بين الأربع فلكم أن تتسروا بمائة سرية وأكثر فانه أدنى أن لا تكثر عيالكم الثامن أن قوله ذلك أدنى ألا تعولوا تعليل لكل واحد من الحكمين المتقدمين وهما نقلهم من نكاح اليتامى إلى نكاح النساء البوالغ ومن نكاح الأربع إلى نكاح الواحدة أو ملك اليمين ولا يليق تعليل ذلك بعلة العيال التاسع أنه سبحانه قال فان خفتم ألا تعدلوا ولم يقل وان خفتم أنا تفتقروا أو تحتاجوا ولو كان المراد قلة العيال لكان الأنسب أن يقول ذلك ________________________________________ العاشر أنه سبحانه إذا ذكر حكما منهيا عنه وعلل النهي بعلة أو أباح شيئا وعلل عدمه بعلة فلا بد أن تكون العلة مصادفة لضد الحكم المعلل وقد علل سبحانه إباحة نكاح غير اليتامى والاقتصار على الواحدة أو ما ملك اليمين بأنه أقرب إلى عدم الجور ومعلوم أن كثرة العيال لا تضاد عدم الحكم المعلل فلا يحسن التعليل به أهـ { تحفة المودود صـ 5 ـ صـ 6 } قوله تعالى { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما } فنفى سبحانه وتعالى التسوية بين المؤمنين القاعدين عن الجهاد وبين المجاهدين ثم أخبر عن تفضيل المجاهدين على القاعدين درجة ثم أخبر عن تفضيلهم عليهم درجات ________________________________________ وقد أشكل فهم هذه الآية على طائفة من الناس من جهة أن القاعدين الذين فضل عليهم المجاهدون بدرجات إن كانوا هم القاعدين الذي فضل عليهم أولو الضرر فيكون المجاهدون أفضل من القاعدين مطلقا وعلى هذا فما وجه استثناء أولي الضرر من القاعدين وهم لا يستوون والمجاهدين أصلا فيكون حكم المستثني والمستثنى منه واحدا فهذا وجه الإشكال ونحن نذكر ما يزيل الإشكال بحمد الله فاختلف القراء في إعراب غير فقرىء رفعا ونصبا وهما في السبعة وقرىء بالجر في غير السبعة وهي قراءة أبي حيوة فأما قراءة النصب فعلى الاستثناء لأن غيرا يعرب في الاستثناء إعراب الاسم الواقع بعد إلا وهو النصب هذا هو الصحبح وقالت طائفة إعرابها نصب على الحال أي لايستوي القاعدون غير مضرورين أي لا يستوون في حال صحتهم هم والمجاهدون والاستثناء أصح فإن غير لا تكاد تقع حالا في كلامهم إلا مضافة إلى نكرة كقوله تعالى فمن اضطر غير باغ وقوله عز وجل في أول المائدة أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وقوله تعالى مرحبا بالوفد غير خزايا ولا ندامى فإن أضيفت إلى معرفة كانت تابعة لما قبلها كقوله تعالى صراط الذين أنعمت عيهم غير المغضوب عليهم ولو قلت مرحبا بالوفد غير الخزايا ولا الندامى لجرت غير هذا هو المعروف من كلامهم والكلام في عدم تعرف غير بالإضافة وحسن وقوعها إذ ذاك حالا له مقام آخر وأما الرفع فعلى النعت للقاعدين هذا هو الصحيح وقال أبو إسحاق وغيره هو خبر مبتدأ محذوف تقديره الذين هم غير أولي الضرر والذي حمله على هذا ظنه أن غيرا لا تقبل التعريف بالإضافة فلا تجري صفة للمعرفة وليس مع من ادعى ذلك حجة يعتمد عليها سوى أن غيرا توغلت في الإبهام فلا تتعرف بما يضاف إليه وجواب هذا أنها إذا دخلت بين متقابلين لم يكن فيها إبهام لتعيينها ما تضاف إليه وأما قراءة الجر ففيها وجهان أيضا أحدهما وهو الصحيح أنه نعت للمؤمين والثاني وهو قول المبرد أنه بدل منه ________________________________________ بناء على أنه نكرة فلا تنعت به المعرفة وعلى الأقوال كلها فهو مفهوم معنى الاستثناء وإن نفي التسوية غير مسلط على ما أضيفت إليه غيره وقوله فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة هو مبين لمعنى نفي المساواة قالوا والمعنى فضل الله المجاهد على القاعد من اولي الضرر درجة واحدة لامتيازه عنه بالجهاد بنفسه وماله ثم أخبر سبحانه وتعالى أن الفريقين كليهما موعود بالحسنى فقال وكلا وعد الله الحسنى أي المجاهد والقاعد المضرور لاشتراكهما في الإيمان قالوا وفي هذا دليل على تفضيل الغني المنفق على الفقير لأن الله أخبر أن المجاهد بماله ونفسه أفضل من القاعد وقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس وأما الفقير فنفى عنه الحرج بقوله ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه فأين مقام من حكم له بالتفضيل إلى مقام من نفى عنه الحرج قالوا فهذا حكم القاعد من أولي الضرر والمجاهد وأما القاعد من غير أولي الضرر فقال تعالى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما وقوله درجات قيل هو نصب على البدل من قوله أجرا عظيما وقيل تأكيد له وإن كان بغير لفظه لأنه هو في المعنى قال قتادة كان يقال الإسلام درجة والهجرة في الإسلام درجة والجهاد في الهجرة درجة والقتل في الجهاد درجة وقال ابن زيد الدرجات التي فضل الله بها المجاهد على القاعد سبع وهي التي ذكرها الله تعالى إذ يقول تعالى ذلك بأنهم لا يصيبهم طمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين فهذه خمس ثم قال ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم به عمل صالح فهاتان اثنتان وقيل الدرجات سبعون درجة ما بين الدرجتين حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة والصحيح إن الدرجات هي المذكورة في حديث ابي ________________________________________ هريرة الذي رواه البخاري في صحيحه عن النبي أنه قال من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان فإن حقا على الله أن يدخله الجنة هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها قالوا يا رسول الله أفلا نخبر الناس بذلك قال إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله كل درجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة قالوا وجعل سبحانه وتعالى التفضيل الأول بدرجة فقط وجعله ههنا بدرجات ومغفرة ورحمة وهذا يدل على أنه يفضل على غير أولي الضرر فهذا تقرير هذا القول وإيضاحه ولكن بقي أن يقال إذا كان المجاهدون من القاعدين مطلقا لزم أن لا يستوي مجاهد وقاعد مطلقا فلا يبقى في تقييد القاعدين بكونهم من غير أولي الضرر فائدة فإنه لا يستوي المجاهدون والقاعدون من أولي الضرر ايضا وأيضا فإن القاعدين المذكورين في الآية الذين وقع التفضيل عليهم هم غير أولي الضرر لا القاعدون الذين هم أولو الضرر فإنهم لم يذكر حكمهم في الآية بل استثناهم وبين أن التفضيل على غيرهم فاللام في القاعدين للعهد والمعهود هم غير أولي الضرر لا المضرورون وأيضا فالقاعد من المجاهدين لضرورة تمنعه من الجهاد له مثل أجر المجاهد كما ثبت عن النبي أنه قال إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل صحيحا مقيما وقال إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا وهم معكم قالوا وهم بالمدينة قال وهم بالمدينة حبسهم العذر وعلى هذا فالصواب أن يقال الآية ________________________________________ دلت على أن القاعدين عن الجهاد من غير أولي الضرر لا يستوون هم والمجاهدون وسكت عن حكمهم بطريقب منطوقها ولا يدل مفهومها على مساواتهم للمجاهدين بل هذا النوع منقسم إلى معذور من أهل الجهاد غلبه عذره وأقعده عنه ونيته جازمة لم يتخلف عنها مقدورها وإنما أقعده العجز فهذا الذي تقتضيه أدلة الشرع أن له مثل أجر المجاهد وهذا القسم لا يتناوله الحكم بنفي التسوية وهذا لأن قاعدة الشريعة أن العزم التام إذا اقترن به ما يمكن من الفعل أو مقدمات الفعل نزل صاحبه في الثواب والعقاب منزلة الفاعل التام كما دل عليه قوله إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه وفي الترمذي ومسند الإمام أحمد من حديث أبي كبشة الأنماري عن النبي أنه قال إنما الدنيا لأربعة نفر عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي في ماله ربه ويصل به رحمه ويعلم لله فيه حقا فهذا بأحسن المنازل وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته وهما في الأجر سواء وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو لا يتقي في ماله ربه ولا يصل به رحمه ولا يعلم لله فيه حقا فهذا بأسوأ المنازل عند الله وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته وهما في الوزر سواي فأخبر أن وزر الفاعل والناوي الذي ليس مقدوره إلا بقوله دون فعله سواء لأنه أتى بالنية ومقدوره التام وكذلك أجر الفاعل والناوي الذي اقترن قوله بنيته وكذلك المقتول الذي اقترن قوله بنيته وكذلك المقتول الذي سل السيف وأراد به قتل أخيه المسلم فقتل نزل منزلة القاتل لنيته التامة التي اقترن بها مقدورها من السعي والحركة ومثل هذا قوله من دل على خير فله مثل أجر فاعله فإنه بدلالته ونيته نزل منزلة الفاعل ومثله من دعا إلى هدى فله مثل أجور من اتبعه ومن دعا إلى ضلالة عليه من ________________________________________ الوزر مثل آثام من اتبعه لأجل نيته واقتران مقدورها بها من الدعوة ومثله إذا جاء المصلي إلى المسجد ليصلي جماعة فأدركهم وقد صلوا فصلى وحده كتب له مثل أجر صلاة الجماعة بنيته وسعيه كما جاء مصرحا به في حديث مروي ومثل هذا من كان له ورد يصليه من الليل فنام ومن نيته أن يقوم إليه فغلب عينه نوم كتب له أجر ورده وكان نومه عليه صدقة ومثله المريض والمسافر إذا كان له عمل يعمله فشغل عنه المرض والسفر كتب له مثل عمله وهو صحيح مقيم ومثله من سأل الله الشهادة بصدق بغله الله سبحانه وتعالى منازل الشهداء ولو مات على فراشه ونظائر ذلك كثيرة والقسم الثاني معذور ليس من نيته الجهاد ولا هو عازم عليه عزما تاما فهذا لا يستوي هو والمجاهد في سبيل الله بل قد فضل الله المجاهدين عليه وإن كان معذورا لأنه لا نية له تلحقه بالفاعل التام كنية أصحاب القسم الأول وقد قال النبي في حديث عثمان بن مظعون إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته فلما كان القسم المعذور فيه هذا التفصيل لم يجز أن يساوي بالمجاهد مطلقا ولا ينفي عنه المساواة مطلقا ________________________________________ ودلالة المفهوم لا عموم لها فإن العموم إنما هو من أحكام الصيغ العامة وعوارض الألفاظ والدليل الموجب للقول بالمفهوم لا يدل على أن له عموما يجب اعتباره فإن أدلة المفهوم ترجع إلى شيئين أحدهما التخصيص والآخر التعليل فأما التخصيص فهو أن تخصيص الحكم بالمذكور يقتضي نفي الحكم عما عداه وإلا بطلت فائدة التخصيص وهذا لا يقتضي العموم وسلب حكم المنطوق عن جميع صور المفهوم لأن فائدة التخصيص قد تحصل بانقسام صور المفهوم إلى ما يسلب الحكم عن بعضها ويثبت لبعضها ثبوت تفصيل فيه فيثبت له حكم المنطوق على وجه دون وجه إما بشرط لا تجب مراعاته في المنطوق وإما في وقت دون وقت بخلاف حكم المنطوق فإنه ثابت أبدا ونحو ذلك من فوائد التخصيص وإذا كانت فائدة التخصيص حاصلة بالتفصيل والانقسام فدعوى لزوم العموم من التخصيص دعوى باطلة فإثباته مجرد التحكم وأما التعليل فإنهم قالوا ترتيب الحكم على هذا الوصف المناسب له يقتضي نفي الحكم عما عداه وإلا لم يكن الوصف المذكور علة وهذا أيضا لا يستلزم عموم النفي عن كل ما عداه وإنما غايته اقتضاؤه نفي الحكم المرتب على ذلك الوصف عن الصور المنفي عنها الوصف وأما نفي الحكم جملة فلا يجوز ثبوته بوصف آخر وعلة أخرى فإن الحكم الواحد بالنوع يجوز تعليله بعلل مختلفة وفي الواحد بالعين كلام ليس هذا موضعه ومثال هذا ما نحن فيه لأن قوله تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون لا يدل على مساواة المضرورين المجاهدين مطلقا من حيث الضرورة بل إن ثبتت المساواة فإنها معللة بوصف آخر وهي النية الجازمة والعزم التام والضرر المانع من الجهاد في ذلك الحال لا يكون مانعا من المساواة في الأجر والله أعلم أهـ { طريق الهجرتين صـ 528 ـ صـ 536 } ________________________________________ قوله تعالى { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما } النساء : 113 وقال عن المسيح عليه السلام : ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل آل عمران : 48 الحكمة في كتاب الله نوعان : مفردة ومقترنة بالكتاب فالمفردة : فسرت بالنبوة وفسرت بعلم القرآن قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي علم القرآن : ناسخة ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله وقال الضحاك : هي القرآن والفهم فيه وقال مجاهد : هي القرآن والعلم والفقه وفي رواية أخرى عنه : هي الإصابة في القول والفعل وقال النخعي : هي معاني الأشياء وفهمها وقال الحسن : الورع في دين الله كأنه فسرها بثمرتها ومقتضاها وأما الحكمة المقرونة بالكتاب : فهي السنة كذلك قال الشافعي وغيره من الأئمة وقيل : هي القضاء بالوحي وتفسيرها بالسنة أعم وأشهر وأحسن ما قيل في الحكمة : قول مجاهد ومالك : إنها معرفة الحق والعمل به والإصابة في القول والعمل وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن والفقه في شرائع الإسلام وحقائق الإيمان و الحكمة حكمتان : علمية وعملية فالعلمية : الاطلاع على بواطن الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقا وأمرا قدرا وشرعا و العلمية كما قال صاحب المنازل : وهي وضع الشيء في موضعه قال : وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى : أن تعطي كل شيء حقه ولا تعديه حده ولا تعجله عن وقته ولا تؤخره عنه ________________________________________ لما كانت الأشياء لها مراتب وحقوق تقتضيها شرعا وقدرا ولها حدود ونهايات تصل إليها ولا تتعداها ولها أوقات لا تتقدم عنها ولا تتأخر كانت الحكمة مراعاة هذه الجهات الثلاثة بأن تعطي كل مرتبة حقها الذي أحقه الله لها بشرعه وقدره ولا تتعدى بها حدها فتكون متعديا مخالفا للحكمة ولا تطلب تعجيلها عن وقتها فتخالف الحكمة ولا تؤخرها عنه فتفوتها وهذا حكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعا وقدرا فإضاعتها تعطيل للحكمة بمنزلة إضاعة البذر وسقي الأرض وتعدي الحق : كسقيها فوق حاجتها بحيث يغرق البذر والزرع ويفسد وتعجيلها عن وقتها : كحصاده قبل إدراكه وكماله وكذلك ترك الغذاء والشراب واللباس : إخلال بالحكمة وتعدي الحد المحتاج إليه : خروج عنها أيضا وتعجيل ذلك قبل وقته : إخلال بها وتأخيره عن وقته : إخلال بها فالحكمة إذا : فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي والله تعالى أورث الحكمة آدم وبنيه فالرجل الكامل : من له إرث كامل من أبيه ونصف الرجل كالمرأة له نصف ميراث والتفاوت في ذلك لا يحصيه إلا الله تعالى وأكمل الخلق في هذا : الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وأكملهم أولو العزم وأكملهم محمد ولهذا امتن الله سبحانه وتعالى عليه وعلى أمته بما آتاهم من الحكمة كما قال تعالى : وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم النساء : 113 وقال تعالى : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون البقرة : 151 فكل نظام الوجود مرتبط بهذه الصفة وكل خلل في الوجود وفي العبد فسببه : الإخلال بها فأكمل الناس : أوفرهم منها نصيبا وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال : أقلهم منها ميراثا ولها ثلاثة أركان : العلم والحلم والأناة وآفاتها وأضدادها : الجهل والطيش والعجلة فلا حكمة لجاهل ولا طائش ولا عجول والله أعلم أهـ {مدارج السالكين حـ صـ 478 ـ صـ 480 } ________________________________________ سورة المائدة قال الله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } وكل منهما إذا أفرد تضمن الآخر فكل إثم عدوان إذ هو فعل ما نهى الله عنه أو ترك ما أمر الله به فهو عدوان على أمره ونهيه وكل عدوان إثم فإنه يأثم به صاحبه ولكن عند اقترانهما فهما شيئان بحسب متعلقهما ووصفهما فالإثم ما كان محرم الجنس كالكذب والزنا وشرب الخمر ونحو ذلك والعدوان ما كان محرم القدر والزيادة فالعدوان تعدى ما أبيح منه إلى القدر المحرم والزيادة كالإعتداء في أخذ الحق ممن هو عليه إما بأن يتعدى على ماله أو بدنه أو عرضه فإذا غصبه خشبة لم يرض عوضها إلا داره وإذا أتلف عليه شيئا أتلف عليه أضعافه وإذا قال فيه كلمة قال فيه أضعافها فهذا كله عدوان وتعد للعدل وهذا العدوان نوعان عدوان في حق الله وعدوان في حق العبد وعدوان في حق العبد فالعدوان في حق الله كما إذا تعدى ما أباح الله له من الوطء الحلال في الأزواج والمملوكات إلى ما حرم عليه من سواهما كما قال تعالى والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون وكذلك تعدى ما أبيح له من زوجته وأمته إلى ما حرم عليه منها كوطئها في حيضها أو نفاسها أو في غير موضع الحرث أو في إحرام أحدهما أو صيامه الواجب ونحو ذلك ________________________________________ وكذلك كل من أبيح له منه قدر معين فتعداه إلى أكثر منه فهو من العدوان كمن أبيح له إساغة الغصة بجرعة من خمر فتناول الكأس كلها أو أبيح له نظرة الخطبة والسوم والشهادة والمعاملة والمداواة فأطلق عنان طرفه في ميادين محاسن المنظور وأسام طرف ناظره في تلك الرياض والزهور فتعدى المباح إلى القدر المحظور وحام حول الحمى المحوط المحجور فصار ذا بصر حائر وقلب عن مكانه طائر أرسل طرفه رائدا يأتيه بالخبر فخامر عليه وأقام في تلك الخيام فبعث القلب في آثاره فلم يشعر إلا وهو أسير يحجل في قيوده بين تلك الخيام فما أقلعت لحظات ناظره حتى تشحط بينهن قتيلا وما برحت تنوشه سيوف تلك الجفون حتى جندلته تجديلا هذا خطر العدوان وما أمامه أعظم وأخطر وهذا فوت الحرمان وما حرمه من فوات ثواب من غض طرفه لله عز وجل أجل وأكبر سافر الطرف في مفاوز محاسن المنظور إليه فلم يربح إلا أذى السفر وغرر بنفسه في ركوب تلك البيداء وما عرف أن راكبها على أعظم الخطر يا لها من سفرة لم يبلغ المسافر منها ما نواه ولم يضع فيها عن عاتقه عصاه حتى قطع عليه فيها الطريق وقعد له فيها الرصد على كل نقب ومضيق لا يستطيع الرجوع إلى وطنه والإياب ولا له سبيل إلى المرور والذهاب يرى هجير الهاجرة من بعيد فيظنه برد الشراب حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب وتيقن أنه كان مغرورا بلامع السراب تالله ما استوت هذه الذلة وتلك اللذة في القيمة فيشتريها بها العارف الخبير ولا تقاربا في المنفعة فيتحير بينهما البصير ولكن على العيون غشاوة فلا تفرق بين مواطن السلامة ومواضع العثور والقلوب تحت أغطية الغفلات راقدة فوق فرش الغرور فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ومن أمثلة العدوان تجاوز ما أبيح من الميتة للضرورة إلى ما لم يبح منها إما بأن يشبع وإنما أبيح له سد الرمق على أحد القولين في مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة ________________________________________ وأباح مالك له الشبع والتزود إذا احتاج إليه فإذا استغنى عنها وأكلها واقيا لماله وبخلا عن شراء المذكى ونحوه كان تناولها عدوانا قال تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم قال قتادة والحسن لا يأكلها من غير اضطرار ولا يعدو شبعه وقيل غير باغ غير طالبها وهو يجد غيرها ولا عاد أي لا يتعدى ما حد له منها فيأكل حتى يشبع ولكن سد الرمق وقال مقاتل غير مستحل لها ولا متزود منها وقيل لا يبغى بتجاوز الحد الذي حد له منها ولا يتعدى بتقصيره عن تناوله حتى يهلك فيكون قد تعدى حد الله بمجاوزته أو التقصير عنه فهذا آثم وهذا آثم وقال مسروق من اضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار وهذا أصح القولين في الآية وقال ابن عباس وأصحابه والشافعي غير باغ على السلطان ولا عاد في سفره فلا يكون سفر معصية وبنوا على ذلك أن العاصي بسفره لا يترخص والقول الأول أصلح لعشرة أوجه ليس هذا موضع ذكرها إذ الآية لا تعرض فيها للسفر بنفي ولا إثبات ولا للخروج على الإمام ولا هي مختصة بذلك ولا سيقت له وهي عامة في حق المقيم والمسافر والبغي والعدوان فيها يرجعان إلى الأكل المقصود بالنهي لا إلى أمر خارج عنه لا تعلق له بالأكل ولأن نظير هذا قوله تعالى في الآية الأخرى فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فهذا هو الباغي العادي والمتجانف للإثم المائل إلى القدر الحرام من أكلها وهذا هو الشرط الذي لا يباح له بدونه ولأنها إنما أبيحت للضرورة فتقدرت الإباحة بقدرها وأعلمهم أن الزيادة عليها بغي وعدوان وإثم فلا تكون الإباحة للضرورة سببا لحله والله أعلم والإثم والعدوان هما الإثم والبغي المذكوران في سورة الأعراف مع أن البغي غالب استعماله في حقوق العباد والإستطالة عليهم ________________________________________ وعلى هذا فإذا قرن البغي بالعدوان كان البغي ظلمهم بمحرم الجنس كالسرقة والكذب والبهت والإبتداء بالأذى والعدوان تعدى الحق في استيفائه إلى أكبر منه فيكون البغي والعدوان في حقهم كالإثم والعدوان في حقهم كالإثم والعدوان في حدود الله فههنا أربعة أمور حق لله وله حد وحق لعباده وله حد فالبغي والعدوان والظلم تجاوز الحدين إلى ما رواءهما أو التقصير عنهما فلا يصل إليهما أهـ { مدارج السالكين حـ 1 صـ268 ـ صـ 271 } ________________________________________ قوله تعالى { اليوم اكملت لكم دينكم }الاية وتأمل كيف وصف الدين الذي اختاره لهم بالكمال والنعمة التي اسبغها عليهم بالتمام إيذانا في الدين بأنه لا نقص فيه ولا عيب ولا خلل ولا شيء خارجا عن الحكمة بوجه بل هو الكامل في حسنه وجلالته ووصف النعمة بالتمام إيذانا بدوامها واتصالها وأنه لا يسلبهم إياها بعد إذ أعطاهموها بل يتمها لهم بالدوام في هذه الدار وفي دار القرار وتأمل حسن اقتران التمام بالنعمة وحسن اقتران الكمال بالدين وإضافة الدين اليهم إذ هم القائمون به المقيمون له وأضاف النعمة اليه إذ هو وليها ومسديها والمنعم بها عليهم فهي نعمته حقا وهم قابلوها واتى في الكمال باللام المؤذنة بالاختصاص وأنه شيء خصوا به دون الامم وفي إتمام النعمة بعلى المؤذنة بالاستعلاء والاشتمال والاحاطة فجاء اتممت في مقابلة أكملت وعليكم في مقابلة لكم ونعمتي في مقابلة دينكم واكد ذلك وزاده تقريرا وكمالا وإتماما للنعمة بقوله ورضيت لكم الاسلام دينا وكان بعض السلف الصالح يقول ياله من دين لو ان له رجالا وقد ذكرنا فصلا مختصرا في دلالة خلقه على وحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله وأسمائه الحسنى واردنا ان نختم به القسم الاول من الكتاب ثم راينا ان نتبعه فصلا في دلالة دينه وشرعه على وحدانيته وعلمه وحكمته ورحمته وسائر صفات كماله إذ هذا من أشرف العلوم التي يكتسبها العبد في هذه الدار ويدخل بها الى الدار الاخرة وقد كان الاولى بنا الامساك عن ذلك لان ما يصفه الواصفون منه وتنتهي اليه علومهم هو كما يدخل الرجل اصبعه في اليم ثم ينزعها فهو يصف البحر بما يعلق على إصبعه من البلل وأين ذلك من البحر فيظن السامع ان تلك الصفة احاطت بالبحر وإنما هي صفة ما علق بالاصبع منه وإلا فالأمر اجل وأعظم وأوسع من ان تحيط عقول البشر بأدنى جزء منه وماذا عسى ان يصف به الناظر الى قرص الشمس من ضوئها وقدرها وحسنها وعجائب صنع الله فيها ولكن قد رضى الله من عباده ________________________________________ بالثناء عليه وذكر آلائه وأسمائه وصفاته وحكمته وجلاله مع انه لايحصى ثناء عليه ابدا بل هو كما اثنى على نفسه فلا يبلغ مخلوق ثناء عليه تبارك وتعالى ولا وصف كتابه ودينه بما ينبغي له بل لا يبلغ احد من الامة ثناء على رسوله كما هو اهل ان يثني عليه بل هو فوق ما يثنون به عليه ومع هذا ان الله تعالى يحب ان يحمد ويثني عليه وعلى كتابه ودينه ورسوله فهذه مقدمة اعتذار بين يدي القصور والتقصير من راكب هذا البحر الاعظم والله عليم بمقاصد العباد دنياهم وهو اولى بالعذر والتجاوز أهـ { مفتاح دار السعادة صـ313 } ________________________________________ والنعمة نعمتان نعمة مطلقة ونعمة مقيدة فالنعمة المطلقة هي المتصلة بسعادة الأبد وهي نعمة الإسلام والسنة وهي التي أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نسأله في صلواتنا أن يهدينا صراط أهلها ومن خصهم بها وجعلهم أهل الرفيق الأعلى حيث يقول تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة وأصحابها أيضا هم المعنيون بقول الله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فأضاف الدين إليهم إذ هم المختصون بهذا الدين القيم دون سائر الأمم والدين تارة يضاف إلى العبد وتارة يضاف إلى الرب فيقال الاسلام دين الله الذي لا يقبل من أحد دينا سواه ولهذا يقال في الدعاء اللهم انصر دينك الذي أنزلت من السماء ونسب الكمال إلى الدين والتمام إلى النعمة مع إضافتها إليه لأنه هو وليها ومسديها إليهم وهم محل محض النعمة قابلين لها ولهذا يقال في الدعاء المأثور للمسلمين واجعلهم مثنين بها عليك قابليها وأتممها عليهم وأما الدين فلما كانوا هم القائمين به الفاعلين له بتوفيق ربهم نسبه إليهم فقال أكملت لكم دينكم وكان الاكمال في جانب الدين والتمام في جانب النعمة واللفظتان وإن تقاربتا وتواخيتا فبينهما فرق لطيف يظهر عند التأمل فإن الكمال أخص بالصفات والمعاني ويطلق على الأعيان والذوات ولكن باعتبار صفاتها وخواصها كما قال النبي وآله كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وقال عمر بن عبد العزيز إن للإيمان حدودا وفرائض وسننا وشرائع فمن استملكها فقد استكمل الإيمان وأما التمام فيكون في الأعيان والمعاني ونعمة الله أعيان وأوصاف ومعان وأما دينه فهو شرعه المتضمن لأمره ونهيه ومحابه فكانت نسبة الكمال إلى الدين والتمام إلى النعمة أحسن كما كانت اضافة الدين إليهم ________________________________________ والنعمة اليه أحسن والمقصود أن هذه النعمة هي النعمة المطلقة وهي التي اختصت بالمؤمنين وإذا قيل ليس لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار فهو صحيح النعمة المقيدة والنعمة الثانية النعمة المقيدة كنعمة الصحة والغنى وعافية الجسد وتبسط الجاه وكثرة الولد والزوجة الحسنة وأمثال هذه فهذه النعمة مشتركة بين البر والفاجر والمؤمن والكافر وإذا قيل لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار فهو حق فلا يصح اطلاق السلب والايجاب إلا على وجه واحد وهو أن النعمة المقيدة لما كانت استدراجا للكافر ومآلها إلى العذاب والشقاء فكأنها لم تكن نعمة وإنما كانت بلية كما سماها الله تعالى في كتابه كذلك فقال تعالى فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا أي ليس كل من أكرمته في الدنيا ونعمته فيها فقد أنعمت عليه وإنما كان ذلك ابتلاء مني له واختبارا ولا كل من قدرت عليه رزقه فجعلته بقدر حاجته من غير فضيلة أكون قد أهنته بل أبتلي عبدي بالنعم كما أبتليه بالمصائب ________________________________________ فإن قيل كيف يلتئم هذا المعنى ويتفق مع قوله فأكرمه فأثبت له الإكرام ثم أنكر عليه قوله ربي أكرمن وقال كلا أي ليس ذلك إكراما مني وإنما هو ابتلاء فكأنه أثبت له الاكرام ونفاه قيل الاكرام المثبت غير الاكرام المنفي وهما من جنس النعمة المطلقة والمقيدة فليس هذا الإكرام المقيد بموجب لصاحبه أن يكون من أهل الإكرام المطلق وكذلك أيضا إذا قيل إن الله أنعم على الكافر نعمة مطلقة ولكنه رد نعمة الله وبدلها فهو بمنزلة من أعطى ما لا يعيش به فرماه في البحر كما قال تعالى ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وقال تعالى وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فهدايته إياهم نعمة منه عليهم فبدلوا نعمة الله وآثروا عليها الضلال فهذا فصل النزاع في مسألة هل لله على الكافر نعمة أم لا وأكثر اختلاف الناس من جهتين إحداهما اشتراك الألفاظ وإجمالها والثانية من جهة الاطلاق والتفصيل فصل في أن النعمة المطلقة هي التي يفرح بها في الحقيقة وهذه النعمة المطلقة هي التي يفرح بها في الحقيقة والفرح بها مما يحبه الله ويرضاه وهو لا يحب الفرحين قال الله تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون وقد دارت أقوال السلف على أن فضل الله ورحمته الاسلام والسنة وعلى حسب حياة القلب يكون فرحه بهما وكلما كان أرسخ فيهما كان قبله أشد فرحا حتى إن القلب إذا باشر روح السنة ليرقص فرحا أحزن ما يكون الناس أهـ { اجتماع الجيوش الإسلامية صـ 3 ـ صـ 6 } ________________________________________ سورة الأنعام قوله تعالى { وللبسنا عليهم ما يلبسون } إن المشركين قالوا تعنتا في كفرهم لولا أنزل عليه ملك يعنون ملكا نشاهده ونراه يشهد له ويصدقه وإلا فالملك كان ينزل عليه بالوحي من الله فأجاب الله تعالى عن هذا وبين الحكمة في عدم إنزال الملك على الوجه الذي اقترحوه بأنه لو أنزل ملكا كما اقترحوا ولم يؤمنوا ويصدقوه لعوجلوا بالعذاب كما جرت واستمرت به سنته تعالى مع الكفار في آيات الاقتراح إذا جاءتهم ولم يؤمنوا بها فقال ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ثم بين سبحانه أنه لو أنزل ملكا كما اقترحوا لما حصل به مقصودهم لأنه إن أنزله في صورته لم يقدروا على التلقي عنه إذ البشر لا يقدرون على مخاطبة الملك ومباشرته وقد كان النبي وهو أقوى الخلق إذا نزل عليه الملك كرب لذلك وأخذه البرحاء وتحدر منه العرق في اليوم الشاتي وإن جعله في صورة رجل حصل لهم لبس هل هو رجل أم ملك فقال تعالى ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم في هذه الحال ما يلبسون على أنفسهم حينئذ فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة الإنسان هذا إنسان وليس بملك أهـ { مدارج السالكينحـ 2 صـ 353 } قوله تعالى ولو ترى اذ وقفوا على النار قالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وانهم لكاذبون ________________________________________ وقد حام أكثر المفسرين حول معنى هذه الآية وما أوردوا فراجع أقوالهم تجدها لا تشفى عليلا ولا تروى غليلا ومعناها أجل وأعظم مما فسروها به ولم يتفطنوا لوجه الاضراب ببل ولا للأمر الذى بدا لهم وكانوا يخفونه وطنوا أن الذى بدا لهم العذاب فلما لم يروا ذلك ملتئما مع قوله ما كانوا يخفون من قبل قد روا مضافا محذوفا وهو خبر ما كانوا يخفون من قبل فدخل عليهم أمر آخر لا جواب لهم عنه وهو أن القوم لم يكونوا يخفون شركهم وكفرهم بل كانوا يظهرونه ويدعون إليه ويحاربون عليه ولما علموا أن هذا وارد عليهم قالوا ان القوم فى بعض موارد القيامة ومواطنها أخفوا شركهم وجحدوه وقالوا والله ربنا ما كنا مشركين فلما وقفوا على النار بدا لهم جزاء ذلك الذى أخفوه قال الواحدى وعلى هذا أهل التفسير ولم يصنع أرباب هذا القول شيئا فإن السياق والاضراب ببل والاخبار عنهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وقولهم والله ربنا ما كنا مشركين لا يلتئم بهذا الذى ذكروه فتأمله وقالت طائفة منهم الزجاج بل بدا للاتباع ما أخفاه عنهم الرؤساء من أمر البعث وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير وفيه من التكلف ما ليس بخاف واجود من هذا ما فهمه المبرد من الآية قال كأن كفرهم لم يكن باديا لهم اذ خفيت عليهم مضرته ومعنى كلامه أنهم لما خفيت عليهم مضرة عاقبته ووباله فكأنه كان خفيا عنهم لم تظهر لهم حقيقته فلما عاينو العذاب ظهرت لهم حقيقته وشره قال وهذا كما تقول لمن كنت حدثته فى أمر قبل وقد ظهر لك الآن ما كنت قلت لك وقد كان ظاهرا له قبل هذا ولا يسهل أن يعبر عن كفرهم وشركهم الذى كانوا ينادون به على رءوس الاشهاد ويدعون اليه كل حاضر وباد بأنهم كانوا يخفونه لخفاء عاقبته عنهم ولا يقال لمن أظهر الظلم والفساد وقتل النفوس والسعى فى الأرض بالفساد أنه أخفى ذلك لجهله بسوء عاقبته وخفائها عليه ________________________________________ فمعنى الآية والله أعلم بما أراد من كلامه أن هؤلاء المشركين لما وقفوا على النار وعاينوها وعلموا أنهم داخلوها تمنوا أنهم يردون الى الدنيا فيؤمنون بالله وآياته ولا يكذبون رسله فأخبر سبحانه أن الأمر ليس كذلك وأنهم ليس فى طبائعهم وسجاياهم الايمان بل سجيتهم الكفر والشرك والتكذيب وأنهم لو ردوا لكانوا بعد الرد كما كانوا قبله وأخبر أنهم كاذبون فى زعمهم أنهم لو ردوا لآمنوا وصدقوا فإذا تقرر مقصود الآية ومرادها تبين معنى الاضراب ببل وتبين معنى الذى بدا لهم والذى كانوا يخفونه والحامل لهم على قولهم يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا فالقوم كانوا يعلمون أنهم كانوا فى الدنيا على باطل وأن الرسل صدقوهم فيما بلغوهم عن الله وتيقنوا ذلك وتحققوه ولكنهم أخفوه ولم يظهروه بينهم بل تواصوا بكتمانه فلم يكن الحامل لهم على تمنى الرجوع والايمان معرفة ما لم يكونوا يعرفونه من صدق الرسل فإنهم كانوا يعلمون ذلك ويخفونه وظهر لهم يوم القيامة ما كانوا ينطوون عليه من علمهم أنهم على باطل وأن الرسل على الحق فعاينوا ذلك عيانا بعد أن كانوا يكتمونه ويخفونه فلو ردوا لما سمحت نفوسهم بالايمان ولعادوا الى الكفر والتكذيب فإنهم لم يتمنوا الايمان لعلمهم يومئذ أنه هو الحق وأن الشرك باطل وانما تمنوا لما عاينوا العذاب الذى لا طاقة لهم باحتماله وهذا كمن كان يخفى محبة شخص ومعاشرته وهو يعلم أن حبه باطل وأن الرشد فى عدوله عنه فقيل له ان اطلع عليه وليه عاقبك وهو يعلم ذلك ويكابر ويقول بل محبته ومعاشرته هى الصواب فلما أخذه وليه ليعاقبه على ذلك وتيقن العقوبة تمنى أن يعفى من العقوبة وأنه لا يجتمع به بعد ذلك وفى قلبه من محبته والحرص على معاشرته ما يحمله على المعاوده بعد معاينة العقوبة بل بعد أن مسته وأنهكته فظهر له عند العقوبة ما كان يخفى من معرفته بخطئه وصواب ما نهاه عنه ولو رد لعاد لما نهى عنه ________________________________________ وتأمل مطابقة الاضراب لهذا المعنى وهو نفى قولهم انا لو رددنا لآمنا وصدقنا لأنه ظهر لنا الآن أن ما قاله الرسل هو الحق أى ليس كذلك بل كنتم تعلمون ذلك وتعرفونه وكنتم تخفونه فلم يظهر لكم شئ لتكونوا عالمين به لتعذروا بل ظهر لكم ما كان معلوما وكنتم تتواصون بإخفائه وكتمانه والله أعلم ولا تستطل هذا الفضل المعترض فى أثناء هذه المسألة فلعله أهم منها وأنفع وبالله التوفيق أهـ { عدة الصابرين صـ 198 } قوله تعالى { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون } وهذا عطف على أنها إذا جاءت لا يؤمنون أي نحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم تلك الآية فلا يؤمنون واختلف في قوله كما لم يؤمنوا به أول مرة فقال كثير من المفسرين المعنى نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم الآية كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة قال ابن عباس في رواية عطاء عنه ونقلب أفئدتهم وأبصارهم حتى يرجعوا إلى ما سبق عليهم من علمي قال وهذا كقوله واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وقال آخرون المعنى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لتركهم الإيمان به أول مرة فعاقبناهم بتقليب أفئدتهم وأبصارهم وهذ معنى حسن فإن كاف التشبيه تتضمن نوعا من التلعيل كقوله وأحسن كما أحسن الله إليك وقوله كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم والذ ي حسن اجتماع التعليل والتشبيه الإعلام بأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر والتقليب تحويل الشيء من وجه إلى وجه وكان الواجب من مقتضى إنزال الآية ووصولهم إليها كما سألوا أن يؤمنوا إذا جاءتهم لأنهم رأوها عيانا وعرفوا أدلتها وتحققوا صدقها فإذا لم يؤمنوا كان تقليبا لقلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي ينبغي أن تكون عليه وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أن قلوب بني آدم كلها بين ________________________________________ إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك وروى الترمذي من حديث أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقلت يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا قال نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء قال هذا حديث حسن وروى حماد عن أيوب وهشام ويعلي بن زياد عن الحسن قال قالت عائشة رضي الله تعالى عنها دعوة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يدعو بها يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقلت يا رسول الله دعوة كثيرا ما تدعو بها قال إنه ليس من عبد إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فإذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أن يزيغه أزاغه وقوله ونذرهم في طغيانهم يعمهون قال ابن عباس أخذلهم وأدعهم في ضلالهم يتمادون أهـ شفاء العليل صـ 99 } ________________________________________ سورة الأعراف قوله تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون} وهذا دليل على أنها فواحش في نفسها لا تستحسنها العقول فتعلق التحريم بها لفحشها فإن ترتيب الحكم على الوصف المناسب المشتق يدل على أنه هو العلة المقتضية له وهذا دليل في جميع هذه الآيات التي ذكرناها فدل على أنه حرمها لكونها فواحش وحرم الخبيث لكونه خبيثا وأمر بالمعروف لكونه معروفا والعلة يجب أن تغاير المعلول فلو كان كونه فاحشة هو معنى كونه منهيا عنه وكونه خبيثا هو معنى كونه محرما كانت العلة عين المعلول وهذا محال فتأمله وكذا تحريم الإثم والبغي دليل على أن هذا وصف ثابت له قبل التحريم ومن هذا قوله تعالى ولا تقربوا الزنا أنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا فعلل النهي في الموضعين بكون المنهي عنه فاحشة ولو كان جهة كونه فاحشة هو النهي لكان تعليلا للشيء بنفسه ولكان بمنزلة أن يقال لا تقربوا الزنا فإنه يقول لكم لا تقربوه أو فإنه منهي عنه وهذا محال من وجهين أحدهما أنه يتضمن إخلاء الكلام من الفائدة والثاني أنه تعليل للنهي بالنهي ومن ذلك قوله تعالى ولو لا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فأخبر تعالى أن ما قدمت أيديهم قبل البعثة سبب لإصابتهم بالمصيبة وأنه سبحانه لو أصابهم بما يستحقون من ذلك لاحتجوا عليه بأنه لم يرسل إليهم رسولا ولم ينزل عليهم كتابا فقطع هذه الحجة بإرسال الرسول وإنزال الكتاب لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وهذا صريح في أن أعمالهم قبل البعثة كانت قبيحة بحيث استحقوا أن يصيبوا بها المصيبة ولكنه سبحانه لا يعذب إلا بعد إرسال الرسل وهذا هو فصل الخطاب ________________________________________ وتحقيق القول في هذا الأصل العظيم أن القبح ثابت للفعل في نفسه وأنه لا يعذب الله عليه إلا بعد إقامة الحجة بالرسالة وهذه النكتة هي التي فاتت المعتزلة والكلابية كليهما فاستطالت كل طائفة منهما على الأخرى لعدم جمعهما بين هذين الأمرين فاستطالت الكلابية على المعتزلة بإثباتهم العذاب قبل إرسال الرسل وترتيبهم العقاب على مجرد القبح العقلي وأحسنوا في رد ذلك عليهم واستطالت المعتزلة عليهم في إنكارهم الحسن والقبح العقليين جملة وجعلهم انتفاء العذاب قبل البعثة دليلا على انتفاء القبح واستواء الأفعال في أنفسها وأحسنوا في رد هذا عليهم فكل طائفة استطالت على الأخرى بسبب إنكارها الصواب وأما من سلك هذا المسلك الذي سلكناه فلا سبيل لواحدة من الطائفتين إلى رد قوله ولا الظفر عليه أصلا فانه موافق لكل طائفة على ما معها من الحق مقرر له مخالف في باطلها منكر له وليس مع النفاة قط دليل واحد صحيح على نفي الحسن والقبح العقليين وإن الأفعال المتضادة كلها في نفس الأمر سواء لا فرق بينها إلا بالأمر والنهي وكل أدلتهم على هذا باطلة كما سنذكرها ونذكر بطلانها إن شاء الله تعالى وليس مع المعتزلة دليل واحد صحيح قط يدل على إثبات العذاب على مجرد القبح العقلي قبل بعثة الرسل وأدلتهم على ذلك كلها باطلة كما سنذكرها ونذكر بطلانها إن شاء الله تعالى ومما يدل على ذلك أيضا أنه سبحانه يحتج على فساد مذهب من عبد غيره بالأدلة العقلية التي تقبلها الفطر والعقول ويجعل ما ركبه في العقول من حسن عبادة الخالق وحده وقبح عبادة غيره من أعظم الأدلة على ذلك وهذا في القرآن أكثر من أن يذكر ههنا ولولا أنه مستقر في العقول والفطر حسن عبادته وشكره وقبح عبادة غيره وترك شكره لما احتج عليهم بذلك أصلا وإنما كانت الحجة في مجرد الأمر وطريقة القرآن صريحة في هذا أهـ { مفتاح دار السعادة حـ3 صـ2 } بسم الله الرحمن الرحيم فصل دعاء العبادة ودعاء المسألة ________________________________________ قوله عز وجل {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين } هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء دعاء العبادة ودعاء المسألة فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة ويرادبه مجموعهما وهما متلازمان فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره أو دفعه وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود حقا والمعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضرر ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه مالا يملك ضرا ولا نفعا وذلك كثير في القرآن كقوله تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم وقوله تعالى ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك وقوله تعالى قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم وقوله تعالى أفتعبدون من دون الله ما لاينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله وقوله تعالى واتل عليهم نبأإبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذا تدعون أو ينفعونكم أو يضرون وقوله تعالى واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا وقال تعالى ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا فنفى سبحانه عن هؤلاء المعبودين من دونه النفع والضر القاصر والمتعدي فلا يملكونه لأنفسهم ولا لعابديهم وهذا في القرآن كثير بيد أن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر فهو يدعى للنفع والضر دعاء المسألة ويدعي خوفا ورجاء دعاء العبادة فعلم أن النوعين متلازمان ________________________________________ فعل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة وعلى هذا فقوله تعالى إذا سألك عبادى عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان يتناول نوعي الدعاء وبكل منهما فسرت الآية قيل أعطيه إذا سألني وقيل أثيبه إذا عبدني والقولان متلازمان وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما أو استعمال اللفظ في حقيقة ومجازه بل هذا استعمال له في حقيقةته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعا فتأمله فإنه موضع عظيم النفع قل من يفطن له وأكثر ألفاظ القرآن الدالة على معنيين فصاعدا هي من هذا القبيل ومثال ذلك قوله أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل فسر بالزوال وفسر الدلوك بالغروب وحكيا قولين في كتب التفسير وليسا بقولين بل اللفظ يتناولهما معا فإن الدلوك هو الميل ودلوك الشمس ميلها ولهذا الميل مبدأ ومنتهى فمبدأه الزوال ومنتهاه الغروب فاللفظ متناول لهما بهذا الاعتبار لا يتناول المشترك لمعنييه ولا اللفظ لحقيقته ومجازه ومثاله أيضا ما تقدم من تفسير الغاسق بالليل والقمر وإن ذلك ليس باختلاف بل يتناولهما لتلازمهما فإن القمر آية الليل ونظائره كثيرة ومن ذلك قوله عز وجل قل ما يعبأبكم ربي لولا دعاؤكم قيل لولا دعاؤكم إياه وقيل دعاؤه إياكم إلى عبادته فيكون المصدر مضافا إلى المفعول وعلى الأول مضافا إلى الفاعل وهو الأرجح من القولين وعلى هذا فالمراد به نوعا الدعاء وهو في دعاء العبادة أظهر أي ما يعبأبكم ربي لولا أنكم تعبدونه وعبادته تستلزم مسألته فالنوعان داخلان فيه ومن ذلك قوله تعالى وقال ربكم ادعوني أستحب لكم فالدعاء يتضمن النوعين وهو في دعاء العبادة أظهر ولهذا عقبة بقوله إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين الدعاء هو العبادة فسر الدعاء في الآية بهذا وهذا وقد روى سفيان عن منصور عن ذر يسيع الكندي عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله يقول على المنبر إن الدعاء هو العبادة ________________________________________ ثم قرأ ادعوني أستحب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين رواه الترمذي // صحيح // وقال حديث حسن صحيح وأما قوله تعالى يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وقوله إن يدعون من دونه إلا إناثا وقوله وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين لأصنامهم وآلهتهم فالمراد به دعاء العبادة المتضمن دعاء المسألة فهو في دعاء العبادة أظهر لوجوه ثلاثة أحدها أنهم قالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم هو عبادتهم لهم الثاني أن الله تعالى فسر هذا الدعاء في مواضع أخرى بأنه العبادة كقوله وقيل لهم أينما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون وقوله إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم وقوله قل يا أيها الكافرون لا اعبد ما تعبدون وهو كثير في القرآن فدعاؤهم لآلهتهم هو عبادتهم لها الثالث أنهم إنما كانوا يعبدونها ويتقربون بها إلى الله فإذا جاءتهم الحاجات والكربات والشدائد دعوا الله وحده وتركوها ومع هذا فكانوا يسألونها بعض حوائجهم ويطلبون منها وكان دعاؤهم لها دعاء عبادة ودعاء مسألة وقوله تعالى فادعوا الله مخلصين له الدين هو دعاء العبادة والمعنى اعبدوه وحده وأخلصوا عبادته لا تعبدوا معه غيره وأما قول إبراهيم الخليل إن ربي لسميع الدعاء فالمراد بالسمع هنا السمع الخاص وهو سمع الإجابة والقبول لا السمع العام لأنه سميع لكل مسموع وإذا كان كذلك فالدعاء هنا يتناول دعاء الثناء ودعاء الطلب وسمع الرب تبارك وتعالى له إثابته على الثناء وإجابته للطلب فهو سميع لهذا وهذا وأما قول زكريا ولم أكن بدعائك رب شقيا فقد قيل إنه دعاء المسألة والمعنى إنك عودتني إجابتك وإسعافك ولم تشقني بالرد والحرمان فهو توسل ________________________________________ إليه تعالى بما سلف من إجابته وإحسانه كما حكى أن رجلا سأل رجلا وقال أنا الذي أحسنت إلى وقت كذا وكذا فقال مرحبا بمن توسل إلينا بنا وقضي حاجته وهذا ظاهر ههنا ويدل عليه أنه قدم ذلك أمام طلبه الولد وجعله وسيلة إلى ربه فطلب منه أن يجاريه على عادته التي عوده من قضاء حوائجه إلى ما سأله قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن فأما قوله تعالى قل ادعوا الله او ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى فهذا الدعاء المشهور وأنه دعاء المسألة وهو سبب النزول قالوا كان النبي يدعوا ربه فيقول مرة يا لله ومرة يا رحمن فظن الجاهلون من المشركين أنه يدعوا إليهين فأنزل الله تعالى هذه الآية قال ابن عباس سمع المشركون النبي في سجوده يا رحمن يا رحيم فقالوا هذا يزعم أنه يدعوا واحدا وهو يدعوا مثنى مثنى فأنزل الله هذه الآية قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن وقيل إن الدعاء ههنا الدعاء ههنا بمعنى التسمية كقولهم دعوت ولدي سعيدا وادعه بعبد الله ونحوه والمعنى سموا الله أو أو سموا الرحمن فالدعاء ههنا بمعنى التسمية وهذا قول الزمخشري والذي حمله على هذا قوله أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى فإن المراد بتعدده معنى أي وعمومها ههنا تعدد الأسماء ليس إلا والمعنى أي اسم سميتموه به من أسماء الله تعالى إما الله إما الرحمن فله الأسماء الحسنى أي فللمسمي سبحانه الأسماء الحسنى والضمير في له يعود إلى المسمى فهذا الذي أوجب له أن يحمل الدعاء في الداء في هذه الآية على التسمية وهذا الذي قاله هو من لوازم المعنى المرادبالدعاء في الآية وليس هو عين المراد بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطرد في القرآن وهو دعاء السؤال ودعاء الثناء ولكنه متضمن معنى التسمية فليس المراد مجرد التسمية الخالية عن العبادة والطلب بل التسمية الواقعة في دعاء الثناء والطلب فعلى هذا المعنى يصح أن يكون في تدعوا معنى تسموا فتأمله ________________________________________ والمعنى أيا ما تسموا في ثنائكم ودعائكم وسؤالكم والله أعلم وأما قوله تعالى إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم فهذا دعاء العبادة المتضمن للسؤال رغبة ورهبة والمعنى إنا كنا من قبل نخلص له العبادة وبهذا استحقوا أن وقاهم عذاب السموم لا بمجرد السؤال المشترك بين الناجي وغيره فإن الله سبحانه يسأله من في السموات ومن في الأرض والفوز والنجاة إنما هي بإخلاص العبادة لا بمجرد السؤال والطلب وكذلك قول الفتية أصحاب الكهف ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها أي لن نعبد غيره وكذلك قوله تعالى أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين وأما قوله تعالى وقيل ادعوا شركاءكم فدعوا فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون فهذا من دعاء المسألة يبكتهم الله عز وجل ويخزيهم يوم القيامة بإراءتهم أن شركاءهم لا يستجيبون لدعوتهم وليس المراد اعبدوهم وهو نظير قوله تعالى ويوم يقول نادوا شركائى الذي زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وهذا التقرير نافع في مسألة الصلاة وأنها هل نقلت عن مسماها في اللغة فصارت حقيقة شرعية منقولة أو استعملت في هذه العبادة مجازا للعلاقة بينها وبين المسمى اللغوي أو هي باقية على الوضع اللغوي وضم إليها أركان وشرائط وعلى ما قررناه ولا حاجة إلى شيء عبادة وثناء أو دعاء طلب ومسألة وهو في الحالين داع فما خرجت الصلاة عن حقيقة الدعاء فتأمله إخفاء الدعاء إذا عرفت هذا فقوله ادعوا ربكم تضرعا وخفية فإنه يتناول نوعي الدعاء لكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمن دعاء العبادة ولهذا أمر بإخفائه وإسراره قال الحسن بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أن الله تعالى يقول ادعوا ربكم تضرعا وخفية وأن الله تعالى ذكر عبدا صالحا ورضي بفعله فقال إذ نادي ربه نداء خفيا وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة ________________________________________ أحدها أنه أعظم إيمانا لأن صاحبه يعلم أن الله تعالى يسمع دعاءه الخفي وليس كالذي قال أن الله يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا ثانيها أنه أعظم في الأدب والتعظيم ولهذا لا تخاطب الملوك ولا تسأل برفع الأصوات وإنما تخفض عندهم الأصوات ويخف عندهم الكلام بمقدار ما يسمعونه ومن رفع وصوته لديهم مقتوه ولله المثل الأعلى فإذا كان يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به ثالثها أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل قد انكسر قلبه وذلت جوارحه وخشع صوته حتى إنه ليكاد تبلغ به ذلته ومسكنته وكسره وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوله بالنطق فقلبه سائل طالب مبتهل ولسانه لشدة ذله وضراعته ومسكنته ساكت وهذه الحالة لا يتأتى معها رفع الصوت بالدعاء أصلا رابعها أنه أبلغ في الأخلاص خامسها أنه أبلغ في جمعه القلب على الله تعالى في الدعاء فإن رفع الصوت يفرقه ويشتته فكلما خفض صوته كان أبلغ في صمده وتجريد همته وقصده للمدعو سبحانه وتعالى سادسها وهو من النكت السرية البديعة جدا أنه دال على قرب صاحبه من الله وأنه لاقترابه منه وشدة حضوره يسأله مسألة أقرب شيء إليه فيسألة مسألة مناجاة للقريب لا مسألة نداء البعيد للبعيد ولهذا أثنى سبحانه على عبده زكريا بقوله إذ نادى ربه نداء خفيا فكلما استحضر القلب قرب الله تعالى منه وإنه أقرب إليه من كل قريب وتصور ذلك أخفى دعاءه ما أمكنه ولم يتأت له رفع الصوت به بل يراه غير مستحسن كما أن من خاطب جليسا له يسمع خفي كلامه فبالغ في رفع الصوت استهجن ذلك منه ولله المثل الأعلى سبحانه وقد أشار النبي هذا المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فقال ________________________________________ اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته وقال تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان وقد جاء أن سبب نزولها أن الصحابة قالوا يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه فأنزل الله عز وجل وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان وهذا يدل على إرشادهم للمناجاة في الدعاء لا للنداء الذي هو رفع الصوت فإنهم عن هذا سألوا فأجيبوا بأن ربهم تبارك وتعالى قريب لا يحتاج في دعائه وسؤاله إلى النداء وإنما يسأل مسألة القريب المناجي لا مسألة البعيد المنادي وهذا القرب من الداعي هو قرب خاص ليس قربا عاما من كل أحد فهو قريب من داعيه وقريب من عابده وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وهو أخص من قرب الإنابة وقرب الإجابة الذي لم يثبت أكثر المتكلمين سواه بل هو قرب خاص من الداعي والعابد كما قال النبي راويا عن ربه تبارك وتعالى من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا // رواه البخاري ومسلم // فهذا قربه من عابده وأما قربه من داعيه وسائله فكما قال تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعى إذا دعان وقوله ادعوا ربكم تضرعا وخفية فيه الإشارة والإعلام بهذا القرب وأما قربة تبارك وتعالى من محبه فنوع آخر وبناء آخر وشأن آخر كما قد ذكرناه في كتاب التحف المكية على أن العبارة تنبو عنه ولا تحصل في القلب حقيقة معناه أبدا لكن بحسب قوة المحبة وضعفها يكون تصديق العبد بهذا القرب وإياك ثم إياك أن تعبر عنه بغير العبارة النبوية أو يقع في قلبك غير معناها ومرادها فتزل قدم بعد ثبوتها وقد ضعف تمييز خلائق في هذا المقام وساء تعبيرهم فوقعوا في أنواع من الطامات والشطح وقابلهم من غلط حجابه فأنكر محبة العبد لربه جملة وقربه منه وأعاد ذلك إلى مجرد الثواب المخلوف فهو عنده المحبوب القريب ليس إلا ________________________________________ وقد ذكرنا من طرق الرد على هؤلاء وهولاء في كتاب التحفة أكثر من مائة طريق والمقصود ههنا الكلام علي هذه الآية سابعها أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب بخلاف ما إذا رفع صوته فإنه قد يكل لسانه وتضعف بعض قواه وهذانظير من يقرأويكرر رافعا صوته فإنه لا يطول له ذلك بخلاف من يخفض صوته ثامنها أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات والمضعفات فإن الداعي إذاأخفى دعاءه لم يدر به أحد فلا يحصل هناك تشويش ولا غيره وإذا جهر به تفطنت له الأرواح الشريرة والباطولية والخبيثة من الجن والأنس فشوشت عليه ولا بد ومانعته وعارضته ولو لم يكن إلا أن تعلقها به يفرق عليه همته فيضعف أثر الدعاء لكفى ومن له تجربة يعرف هذا فإذا أسر الدعاء وأخفاه أمن هذه المفسدة تاسعها إن أعظم النعم الإقبال على الله والتعبد له والانقطاع إليه والتبتل إليه ولكل نعمة حاسد على قدرها دقت أو جلت ولا نعمة أعظم من هذه النعمة فأنفس الحاسدين المنقطعين متعلقة بها وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد وأن لا يقصد إظهارها له وقد قال يعقوب ليوسف لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين وكم من صاحب قلب وجمعية وحال مع الله قد تحدث بها وأخبر بها فسلبه إياها الأغيار فأصبح يقلب كفيه ولهذا يوصى العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله وأن لا يطلعوا عليه أحدا ويتكتمون به غاية التكتم كما أنشد بعضهم في ذلك من سارروه فأبدي السر مجتهدا ... لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا وأبعدوه فلم يظفر بقربهم ... وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا لا يأمنون مذيعا بعض سرهم ... حاشا ودادهم من ذلكم حاشا والقوم أعظم شيء كتمانا لأحوالهم مع الله وما وهب الله لهم من محبته والأنس به وجمعية القلب عليه ولا سيما للمبتدىء والسالك فإذا تمكن أحدهم وقوي وثبتت أصول تلك الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء في قلبه بحيث لا ________________________________________ يخشي عليه من العواصف فإنه إذا أبدى حاله وشأنه مع الله ليقتدي به ويؤتم به لم يبال وهذا باب عظيم النفع وإنما يعرفه أهله وإذا كان الدعاء المأمور بإخفائه يتضمن دعاء الطلب والثناء والمحبة والإقبال على الله فهو من أعظم الكنوز التي هي أحق بالإخفاء والستر عن أعين الحاسدين وهذه فائدةشريفة نافعة عاشرها أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه متضمن للطلب منه والثناء عليه بأسمائه وأوصافه فهو ذكر وزيادة كما أن الذكر سمي دعاء لتضمنه الطلب كما قال النبي أفضل الدعاء الحمد لله // حسن // فسمى الحمد لله دعاء وهو ثناء محض لأن الحمد يتضمن الحب والثناء والحب أعلى أنواع الطلب للمحبوب فالحامد طالب لمحبوبه فهو أحق أن يسمى داعيا من السائل الطالب من ربه حاجة ما فتأمل هذا الموضع ولا تحتاج إلى ما قيل ان الذاكر متعرض للنوال وإن لم يكن مصرحا بالسؤال فهو داع بما تضمنه ثناؤه من التعرض كما قال أمية بن إبي الصلت أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء وعلى هذه الطريقة التي ذكرناها فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب وهو طلب المحب فهو دعاء حقيقة بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذي هو دونه والمقصود أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه وقد قال تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية ودون الجهر من القول فأمر تعالى نبيه أن يذكره في نفسه قال مجاهد وابن جريج أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت أو الصياح وقد تقدم حديث أبي موسى كنا مع النبي في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا اقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ________________________________________ // رواه البخاري ومسلم // وتأمل كيف قال في آية الذكر واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة وفي آية الدعاء ادعوا ربكم تضرعا وخفية فذكر التضرع فيهما معا وهو التذلل والتمسكن والانكسار وهو روح الذكر والدعاء وخص الدعاء الخفيه لما ذكرنا من الحكم وغيرها اقتران محبة الله بالخوف منه وخص الذكر بالخفيه لحاجة الذاكر إلى الخوف فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها ولا بد فمن أكثر من ذكر الله تعالى أثمر له ذلك محبته والمحبة ما لم تقرن بالخوف فإنها لا تنفع صاحبها بل قد تضره لأنها توجب الإدلال والانبساط وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات وقالوا المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب وإقباله على الله ومحبته له وتألهه له فإذا حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل ولقد حدثني رجل إنه أنكر على رجل من هؤلاء خلوة له ترك فيها حضور الجمعة فقال له الشيخ أليس الفقهاء يقولون إذا خاف على شيء من ماله فإن الجمعة تسقط عنه فقال له بلى فقال له فقلب المريد أعز عليه من ضياع عشرة دراهم أو كما قال وهو إذا خرج ضاع قلبه فحفظه لقلبه عذر مسقط للجمعة في حقه فقال له هذا غرور بل الواجب عليه الخروج إلى أمر الله وحفظ قلبه مع الله فالشيخ المربي العارف يأمر المريد بأن يخرج إلى الأمر ويراعى حفظ قلبه أو كما قال فتأمل هذا الغرور العظيم كيف آل بهؤلاء إلى الانسلاخ عن الإسلام جملة فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام كانسلاخ الحية من قشرها وهو يظن أنه من الخاصة أنواع العبادة وسبب هذا اقتران الخوف من الله تعالى بحبه وإرادته ولهذا قال بعض السلف من عبد الله تعالى بالحب وحده فهو زنديق ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجي ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن ________________________________________ وقد جمع الله تعالى هذه المقامات الثلاثة بقوله أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم اقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه فابتغاء الوسيلة هو محبته الداعية إلى التقرب إليه ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف فهذه طريقة عبادة وأوليائه وربما آل الأمر بمن عبده بالحب المجرد إلى استحلال المحرمات ويقول المحب لا يضره ذنب وصنف بعضهم في ذلك مصنفا وذكر فيه أثرا مكذوبا إذا أحب الله العبد لم تضره الذنوب وهذا كذب قطعا مناف للإسلام فالذنوب تضر بالذات لكل أحد كضرر السم للبدن ولو قدر أن هذا الكلام صح عن بعض الشيوخ وأما عن رسول الله فمعاذ الله من ذلك فله محمل وهو أنه إذا أحبه لم يدعه حبه إياه إلى أن يصر على ذنب لأن الإصرارعلى الذنب مناف لكونه محبا لله وإذا لم يصر على الذنب بل بادر إلى التوبة النصوح منه فإنه يمحو أثره ولا يضر الذنب وكلما أذنب وتاب إلى الله زال عنه أثر الذنب وضرره فهذا المعنى صحيح والمقصود أن تجريد الحب والذكر عن الخوف يوقع في هذه المعاطب فإذا اقترن بالخوف جمعه على الطريق ورده إليها كلما شرد فكأن الخوف سوط يضرب به مطيته لئلا تخرج عن الدرب والرجاء حاد يحدوها يطيب لها السير والحب قائدها وزمامها الذي يسوقها فإذا لم يكن للمطية سوط ولا عصا يردها إذا حادت عن الطريق وتركت تركب التعاسيف خرجت عن الطريق وضلت عنها فما حفظت حدود الله ومحارمه ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته فمتى خلا القلب عن هذه الثلاثة فسد فسادا لا يرجى صلاحه أبدا ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضغف إيمانه بحسبه اقتران الخيفة والخفية بالذكر والدعاء ________________________________________ فتأمل أسرار القرآن الكريم وحكمته في هذا الاقتران فإنه قال اذكر ربك في نفسك فلم يحتج بعدها أن يقول خفية وقال في الدعاء وادعوه خوفا وطمعا فلم يحتج أن يقول في الأول ادعوا ربكم تضرعا وخيفة فانتظمت كل واحدة من الآيتين للخيفة والخفية والتضرع أحسن انتظام ودلت على ذلك أكمل دلالة وذكر الطمع الذي هو الرجاء في آية الدعاء لأن الدعاء مبني عليه فإن الداعي ما لم يطمع في سؤله ومطلوبه لم تتحرك نفسه لطلبة إذ طلب ما لا طمع فيه ممتنع وذكر الخوف في آية الذكر لشدة حاجة الخائف إليه كما تقدم فذكر في كل آية ما هو اللائق بها والأولى بها من الخوف والطمع فتبارك من أنزل كلامه شفاء لما في الصدور وهدي ورحمة للمؤمنين فصل المقصود بقوله إنه لا يحب المعتدين وقوله تعالى إنه لا يحب المعتدين قيل المراد أنه لا يحب المعتدين في الدعاء كالذي يسأل ما لا يليق به من منازل الأنبياء وغير ذلك وقد روى أبو داود في سنته من حديث حماد بن سلمة عن سعيد الجريري عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال يا بنى سل الله الجنة وتعوذ به من النار فإني سمعت رسول الله يقول إنه سيكون في هذه الآمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء أنواع الاعتداء في الدعاء وعلى هذا فالاعتداء بالدعاء تارة بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من الإعانة على المحرمات وتارة بأن يسأل ما لا يفعله الله مثل أن يساله تخليده إلى يوم القيامة أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب أو يسأله أن يطلعه على غيبه أو يساله أن يجعله من المعصومين أو يسأله أن يهب له ولدا من غير زوجة ولا أمة ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء فكل سؤال يناقض حكمه الله أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره أو يتضمن خلاف ما أخبر به فهو اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله وفسر الاعتداء برفع الصوت أيضا في الدعاء ________________________________________ قال ابن جريح من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء والنداء في الدعاء والصياح وبعد فالآية أعم من ذلك كله وإن كان الاعتداء في الدعاء مرادا بها فهو من جملة المراد والله لا يحب المعتدين في كل شيء دعاء كان أو غيره كما قال ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وعلى هذا فيكون قد أمر بدعائه وعبادته وأخبر أنه لا يحب أهل العدوان وهم الذين يدعون معه غيره فهؤلاء أعظم المعتدين عدوانا فإن أعظم العدوان الشرك وهو وضع العبادة في غير موضعها فهذا العدوان لا بد أن يكون داخلا في قوله أنه لا يحب المعتدين ومن العدوان أن يدعوه غير متضرع بل دعاء مدل كالمستغني بما عنده المدل على ربه به وهذا من أعظم الاعتداء المنافي لدعاء الضارع الذليل الفقير المسكين من كل جهة في مجموع حالاته فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد ومن الاعتداء أن تعبده بما لم يشرعه وتثني عليه بما لم يثن به على نفسه ولا أذن فيه فإن هذا اعتداء في دعاء الثناء والعبادة وهو نظير الاعتداء في دعاء المسألة والطلب وعلى هذا فتكون الآية دالة على شيئين أحدهما محبوب للرب تبارك وتعالى مرض له وهو الدعاء تضرعا وخفية الثاني مكروه له مبغوض مسخوط وهو الاعتداء فأمر بما يحبه الله وندب إليه وحذر مما يبغضه وزجر عنه بما هو ابلغ طرق الزجر والتحذير وهو أنه لا يحب فاعله ومن لم يحبه الله فأي خير يناله وفي قوله إنه لا يحب المعتدين عقب قوله ادعو ربكم تضرعا وخفية دليل على أن من لم يدعه تضرعا وخفية فهو من المعتدين الذين لا يحبهم فقسمت الآية الناس إلى قسمين داع لله تضرعا وخفية ومعتد بترك ذلك فصل الإفساد في الأرض بالمعاصي والدعاء لغير الله ________________________________________ وقوله تعالى ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها قال أكثر المفسرين لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في ألأرض بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره قال تعالى ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس وقال عطية في الآية ولا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم وقال غير واحد من السلف إذا قحط المطر فإن الدواب تلعن عصاة بني آدم وتقول اللهم العنهم فبسببهم أجدبت الأرض وقحط المطر وبالجملة فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير رسول الله هو أعظم الفساد في الأرض ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود والدعوة له لا لغيره والطاعة والأتباع لرسوله ليس إلا وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة فإن الله أصلح الأرض برسوله ودينه وبالأمر بتوحيده ونهي عن إفسادها بالشرك به وبمخالفة رسوله ومن تدبير أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله وكل شر في العالم وفتنة وبلا وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله ومن تدبر هذا حق التدبر وتأمل أحوال العالم منذ قام إلى الآن وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه وفي حق غيره عموما وخصوصا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فصل تكرار الأمر بالدعاء ________________________________________ وقوله تعالى وادعوا خوفا وطمعا إنما كرر الأمر بالدعاء لما ذكر معه من الخوف والطمع فأمر أولا بدعائه تضرعا وخفية ثم أمر بأن يكون الدعاء أيضا خوفا وطمعا وفصل بين الجملتين إحداهما خبرية ومتضمنة للنهي وهي قوله إنه لا يحب المعتدين والثانية طلبية وهي قوله ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها والجملتان مقررتان مقويتان للجملة الأولى مؤكدتان لمضمونها ثم لما ثم تقريرها تقدم وبيان ما يضادها ويناقضها أمر بدعائه خوفا وطمعا ثم قرر ذلك وأكد مضمونة بجملة خبرية وهي إن رحمة الله قريب من المحسنين فتعلق هذه الجملة بقوله وادعواه خوفا وطمعا كتعلق قوله إنه لا يحب المعتدين بقوله ادعوا ربكم تضرعا وخفية ولما كان قوله تعالى وادعوه خوفا وطمعا مشتملا على جميع مقامات الإيمان والإحسان وهي الحب والخوف والرجاء عقبها بقوله إن رحمة الله قريب من المحسنين أي إنما ينال من دعاة خوفا وطمعا فهو المحسن والرحمة قريب منه لأن مدار الإحسان على هذه الأصول الثلاثة ولما كان دعاء التضرع والخفية يقابله الاعتداء بعدم التضرع والخفية عقب ذلك بقوله إنه لا يحب المعتدين وجوب انتصاب قوله خوفا وطمعا إن انتصاب قوله تضرعا وخفية وخوفا وطمعا قيل هو على الحال أي ادعوه متضرعين مخفين خائفين طامعين وهذا هو الذي رجحه السهيلي وغيره وقيل هو نصب على المفعول له وهذا قول كثير من النحاة وقيل هو نصب على المصدر وفيه على هذا تقديران أحدهما أنه منصوب بفعل مقدر من لفظ المصدر والمعنى تضرعوا إليه تضرعا واخفوا خفية الثاني أنه منصوب بالفعل المذكور نفسه لأنه في معنى المصدر فإن الداعي متضرع في حصول مطلوبة خائف من فواته فكأنه قال تضرعوا تضرعا 2 والصحيح في هذا أنه منصوب على الحال والمعنى عليه فإن المعنى ادعوا ربكم متضرين إليه خائفين طامعين ويكون وقوع المصدر موقع الإسم على حد قوله ولكن البر من آمن بالله وقولهم رجل عدل ورجل صوم قال الشاعر فإنما هي إقبال وإبار ... ________________________________________ وهو أحسن من أن يقال ادعوه متضرعين خائفين والذي حسنه أن المأمور به هنا شيئان الدعاء الموصوف المقيد بصفة معينة وهي صفة التضرع والخوف والطمع فالمقصود تقييد المأمور به بتلك الصفة وتقييد الموصوف الذي هو صاحبها بها فأتى بالحال على لفظ المصدر لصلاحيته لأن يكون صفة للفاعل وصفة للفعل المأمور به فتأمل هذه النكتة فإنك إذا قلت اذكر ربك تضرعا فإنك تريد اذكره متضرعا إليه واذكره ذكر تضرع فأنت مريد للأمرين معا ولذلك إذا قلت ادعه طمعا أي ادعه دعاء طمع وادعه طامعا في فضله وكذلك إذا قلت ادعه رغبة ورهبة كقوله تعالى إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا كان المراد ادعه راغبا وراهبا وادعه دعاء رغبة ورهبة فتأمل هذا الباب تجده كذلك فأتى فيه بالمصدر الدال على وصف المأمور به بتلك الصفة وعلى تقييد الفاعل بها تقييد صاحب الحال بالحال ومما يدل على هذا أنك تجد مثل هذا صالحا وقوعه جوابا لكيف فإذا قيل كيف أدعوه قيل تضرعا وخفية وتجد اقتضاء كيف لهذا أشد من اقتضاء لم ولو كان مفعولا له لكان جوابا ل لم ولا تحسن هنا ألا ترى أن المعنى ليس عليه فإنه لا يصح أن يقال لم أدعوه فيقول تضرعا وخفية وهذا واضح ولا هو انتصاب على المصدر المبين للنوع الذي لا يتقيد به الفاعل لما ذكرناه من صلاحيته جوابا ل كيف وبالجملة فالمصدرية في هذا الباب لا تنافي الحال بل الإتيان بالحال ههنا بلفظ المصدر يفيد ما يفيده المصدر مع زيادة فائدة الحال فهو أتم معنى ولا تنافي بينهما والله أعلم فصل حق العبد الرحمة وواجبه الإحسان ________________________________________ وقوله تعالى إن رحمة الله قريب من المحسنين فيه تنبيه ظاهر على أن فعل هذا المأمور به هو الإحسان المطلوب منكم ومطلوبكم أنتم من الله هو رحمته ورحمته قريب من المحسنين الذين فعلوا ما أمروا به من دعائه خوفا وطمعا فقرب مطلوبكم منكم وهو الرحمة بحسب أدائكم لمطلوبه منكم وهو الإحسان الذي هو في الحقيقة إحسان إلى أنفسكم فإن الله تعالى هو الغني الحميد وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وقوله إن رحمة الله قريب من المحسنين له دلالة بمنطوقه ودلالة بإيمائه وتعليله ودلالة بمفهومه فدلالته بمنطوقه على قرب الرحمة من أهل الإحسان ودلالته بتعليله وإيمانه على أن هذا القرب مستحق بالإحسان فهو السبب في قرب الرحمة منهم ودلالته بمفهومه على بعد الرحمة من غير المحسنين فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة وإنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة منهم لأنها إحسان من الله أرحم الراحمين وإحسانه تعالى إنما يكون لأهل الإحسان لأن الجزاء من جنس العمل فكما أحسنوا بأعماهلم أحسن إليهم برحمته وأما من لم يكن من أهل الإحسان فإنه لما بعد عن الإحسن بعدت عنه الرحمة بعدا ببعد وقربا بقرب فمن تقرب بالإحسان تقرب الله إليه برحمته ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته والله سبحانه يحب المحسنين وببغض من ليس من المحسنين ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيء منه ومن أبغضه فرحمته أبعد شيء منه والإحسان ههنا هو فعل المأمور به سواء كان إحسانا إلى الناس أو إلى نفسه فأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله والإقبال عليه والتوكل عليه وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالا ومهابه وحياء ومحبة وخشية فهذا هو مقام الإحسان كما قال النبي وقد سأله جبريل عن الإحسان فقال أن تعبد الله كأنك تراه // رواه مسلم الترمذي والنسائي وغيرهم // وإذا كان هذا هو الإحسان فرحمه الله قريب من صاحبه فإن الله إنما يرحم أهل توحيده المؤمنين به ________________________________________ وإنما كتب رحمته للذين ويتقون الزكاة والذين هم بأياتنا يؤمنون والذين يتبعون رسوله فهؤلاء هم أهل الرحمة كما أنهم هم المحسنون وكما أحسنوا جوزوا بالإحسان وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان يعني هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن ربه إليه قال ابن عباس هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد إلا الجنة وقد ذكر ابن أبي شيبة وغيره من حديث الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال قرأ رسول الله هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ثم قال هل تدرون ما قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة // ضعيف // فصل الرحمة مؤنته وقريب مذكر وأما الإخبار عن الرحمة وهي مؤنثة بالتاء بقوله قريب وهو مذكر ففيه اثنا عشر مسلكا نذكرها ونبين ما فيها من صحيح وسقيم ومقارب المسلك الأول أن فعيلا على ضربين احدهما يأتي بمعنى فاعل كقدير وسميع وعليم والثاني يأتي بمعنى مفعول كقتيل وجريح وكف خضيب وطرف كحيل وشعر دهين كله بمعنى مفعول فإذا أتى بمعنى فاعل فقياسه أن يجري مجراه في إلحاق التاء به مع المؤنث دون المذكر كجميل وجميلة وشريف وشريفة وصبيح وصبيه وصبي وصبية ومليح ومليحة فطويل وطويلة ونحوه وإذ أتى بمعنى مفعول فلا يخلو إما أن يكون يصحب الموصوف كرجل قتيل وامرأة قتيل أو يفرد عنه فإن صحب الموصوف استوى فيه المذكر والمؤنث كرجل قتيل وامرأة قتيل وإن لم يصحب الموصوف فإنه يؤنث إذا جرى على المؤنث نحو قتيلة بني فلان ومنه قوله تعالى حرمت عليكم الميتة إلى قوله والنطيحة هذا حكم فعيل وفعول قريب منه لفظا ومعنى فإنهما مشتبهان في الوزن والدلالة على المبالغة وورودها بمعنى فاعل ومفعول ________________________________________ ولما كان فعيل أخف استغنى به عن فاعل في المضاعف كجليل وعزيز وذليل كراهية منهم لثقل التضعيف إذ قالوا جالل وعازز وذالل فأتوا بفعيل مفصولا فيه بين المثلين بالياء الساكنة ولم يأتوا في هذا بفعولا لأن فعيلا أخف منه ولخفته أيضا اطرد بناؤه من فعل كشريف وظريف وجميل ونبيل وليس لفعول بناء يطرد منه ولخفته أيضا كان في أسماء الله تعالى أكثر من فعول فإن الرحيم والقدير والحسيب والجليل والرقيب ونظائره أكثر من ألفاظ الرؤوف والغفور والشكور والصبور والودود والعفو ولا يعرف إلا هذه الألفاظ الستة وإذا ثبت التشابه بين وفعيل فعول فيما ذكرنا وكانوا قد خصوا فعولا الذي بمعنى فاعل بتجريده من التاء الفارقة بين المذكر والمؤنث وشركوا بينهما في لفظ المذكر فقالوا رجل صبور وشكور وامرأة صبور وشكور ونظائرهما وأما عدو وعدوة فشاذ فإن قصد بالتاء المبالغة لحقت المذكر والمؤنث كرجل ملولة وفروقة وامراة كذلك وإن كان فعول في معنى مفعول لحقته التاء في المؤنث كحلوبة وركوبة فإذا تقر فقريب في الآية هو فعيل بمعنى فاعل وليس المراد أنه بمعنى قارب بل بمعنى اسم الفاعل العام فكان حقه أن يكون بالتاء ولكنهم أجروه مجرى فعيل بمعنى مفعول فلم يلحقوه التاء كما جرى فعيل بمعنى مفعول مجرى فعيل بمعنى فاعل في إلحاقه التاء كما قالوا خصلة حميدة وفعله ذميمة بمعنى محموده ومذمومة فحملا على جميلة وشريفة في لحاق التاء فحملوا قريبا على امرأة قتيل وكف خضيب وعين كحيل في عدم إلحاق التاء حملا لكل من البابين على الآخر ونظيره قوله تعالى قال من يحيى العظام وهي رميم فحمل رميما وهي بمعنى فاعل على امرأة قتيل وبابه فهذا المسلك هو من أقوى مسالك النحاة وعليه يعتمدون وقد اعترض عليه بثلاثة اعتراضات ________________________________________ أحدها أن ذلك يستلزم التسوية بين اللازم والمتعدي فإن فعيلا بمعنى مفعول بابه الفعل المتعدى وفعيلا بمعنى فاعل بابه الفعل اللازم لأنه غالب ما يأتي من فعل المضموم العين فلو جرى على أحدهما حكم الآخر لكان ذلك تسوية بين اللازم والمتعدي وهو ممتنع الاعتراض الثاني إن هذا أن ادعى على وجه العموم فباطل وإن ادعى على سبيل الخصوص فما الضابط وما الفرق بين ما يسوغ فيه هذا الاستعمال وما لا يسوغ الاعتراض الثالث أن العرب قد نطقت في فعيل بالتاء وهو بمعنى مفعول وجردته من التاء وهو بمعنى فاعل قال جرير يرثي خالته نعم القرين وكنت علق مضنه ... وأرى بنعق بلية الأحجار فجرد القرين من التاء وهو بمعنى فاعل وقال فسقاك حيث حللت غير فقيدة ... هزج الرواح وديمة لا تقلع فقرن فقيدة بالتاء وهو فعيل بمعنى مفعول أي غير مفقودة وقال الفرزدق فداويته عامين وهي قريبة ... أراها وتدنوا لي مرار وأرشف ويقولون امرأة فتين وسريح وهريت فجردوه عن التاء وهو بمعنى فاعل وقالوا امرأة فروك وهلوك ورشوف وأنوف فجردوه وهو بمعنى فاعل كصبور وقالوا امرأة عروب فجردوه وهو بمعنى فاعل أيضا ودعوى أن التاء ههنا للمبالغة لا دليل عليها فقد رأيت اشتراك فعول وفعيل في الاقتران بالتاء والتجرد منها فدعوى أصالة المجرد منهما وشذوذ المقرون مقابلة بمثلها ومع مقابلها قياس اللغة في اقتران المؤنث وتجريد المذكور وأما ما استشهدتم به من قوله تعالى من يحيى العظام وهي رميم فهو على وفق قياس العربية فإن العظام جمع عظيم وهو مذكر ولكن جمعه جمع تكسير وجمع التكسير يجوز أن يراعى فيه تأنيث الجماعة وباعتباره قال وهي ولم يقل وهو ويراعى فيه معنى الواحد وباعتبار قال رميم كما يقال عظم رميم مع أن رميما يطلق على جمع المذكر مفردا وجمعا قال جرير إلى المهلب جذ الله دابرهم ... أمسو رميما فلا أصل ولا طرف فهذا الاعتراض على هذا المسلك فصل ________________________________________ المسلك الثاني أن قريبا في الآية من باب تأويل المؤنث بمذكر موافق له في المعنى كقول الشاعر أرى رجلا منهم أسيفا كأنما ... يضم إلى كشحيه مخضبا فكف مؤنث ولكن تأويله بمعنى عضو وطرف فذكر صفته فكذلك تؤل الرحمة وهي مؤنثة بالإحسان فيذكر خبرها قالوا وتأويل الرحمة أولى من تأويل الكف بعضو لوجهين أحدهما أن الرحمة معنى قائم بالرحم والإحسان هو بر المرحوم ومعنى القرب في البر من المحسنين أظهر منه في الرحمة الثاني أن ملاحظة الإحسان بالرحمة الموصوفة بالقرب من المحسنين هو مقابلة للإحسان الذي صدر منهم وباعتبار المقابلة ازداد المعنى قوة واللفظ جزالة حتى كأنه قال إن إحسان الله قريب من أهل الإحسان كما قال تعالى هل جزاء الإحسان إلاالإحسان فذكر قريبا ليفهم منه أنه صفة لمذكر وهو الإحسان فيفهم المقابلة المطلوبة قالوا ومن تأويل المؤنث بمذكر ماأنشده الفراء وقائع في مضر تسعة ... وفي وائل كانت العاشرة فتأول الوقائع وهي مؤنثة بأيام الحرب المذكرة فأنث العدد الجاري عليها فقال تسعة ولولا هذا التأويل لقال تسع لأن الوقائع مؤنثة قالوا وإذا جاز تأويل المذكر بمؤنث في قول من قال جاءته كتابي أي صحيفتي وفي قول الشاعر يا أيها الراكب المزجي مطيته ... سائل بني أسد ما هذه الصوت أي ما هذه النصيحة مع أنه حمل أصل على فرغ فلأن يجوز تأويل مؤنث بمذكر لكونه حمل فرع على أصل أولى وأحرى وهذا وجه جيد وقد اعترض عليه باعتراضين فاسدين غير لازمين أحدهما أنه لو جاز تأويل المؤنث بمذكر يوافقه وعكسه لجاز أن يقال كلمتني زيد أكرمتني عمرو وكلمني هند وأكرمني زينب تأويلا لزيد وعمرو بالنفس والجثة وتأويلا لهند وزينب بالشخص والشيخ وهذا باطل وهذا الاعتراض غير لازم فإنهم لم يدعوا اطراد ذلك وإنما ادعوا أنه مما يسوغ أن يستعمل وفرق بين ما يسوغ في بعض الأحيان وبين ما يطرد كرفع الفاعل ونصب المفعول وهم لم يدعوا أنه من القسم الثاني ________________________________________ ثم إن هذا الاعتراض مردود بكل ما يسوغ استعماله بمسوغ وهو غير مطرد وهو أكثر من أن يذكر ههنا ولا ينكره نحوى أصلا وهل هذا إلا اعتراض على قواعد العربية بالتشكيكات والمناقضات وأهل العربية لا يلتفتون إلى شيء من ذلك فلو أنهم قالوا يجوز تاويل كل مؤنث بمذكر يوافقه وبالعكس لصح النقض وأنما قالوا يسوغ أحيانا تاويل أحدهما بالآخر لفائدة يتضمنها التأويل كالفائدة التي ذكرناها من تأويل الرحمة بالإحسان الاعتراض الثاني أن حمل الرحمة على الإحسان إما أن يكون حملا على حقيقتة أو مجازة وهما ممتنعان فإن الرحمة والإحسان متغايران لا يلزم من أحدهما وجود الآخر لأن الرحمة قد توجد وافرة في حق من لا يتمكن من الإحسان كالوالدة العاجزة ونحوها وقد يوجد الإحسان ممن لا رحمة في طباعة كالملك القاسي فإنه قد يحسن إلى بعض أعدائه وغيرهم لمصلحة ملكه مع أنه لا رحمة عنده وإذا تبين انفكاك أحدهما عن الآخر لم يجز إطلاقه عليه لا حقيقة ولا مجازا أما الحقيقة فظاهر وأما المجاز فإن شرطه خطور المعنى المجازي بالبال ليصح انتقال الذهن إليه فإذا كان منفكا عن الحقيقة لم يخطر بالذهن وهذا الاعتراض أفسد من الذي قبله وهو من باب التعنت والمناكدة وأين هذا من قول أكثر المتكلمين ولعل هذا المعترض منهم أنه لا معنى للرحمة غائبا إلا الإحسان المحض وأما الرقة التي في الشاهد فلا يوصف الله تعالى بها وإنما رحمته مجرد إحسانه ومع أنا لا نرتضي هذا القول بل تثبت لله تعالى الرحمة حقيقة كما أثبتها لنفسه منزهة مبراة عن خواص صفات المخلوقين كما نقوله في سائر صفاته من إرادته وسمعه وبصره وعلمه وحياته وعلمه وحياته وسائر صفات كماله فلم نذكره إلا لنبين فساد اعتراض هذا المعترض على قول أئمته ________________________________________ ومن قال بقوله من المتكلمين ثم نقول الرحمة لا تنفك عن إرادة الإحسان فهي مستلزمة للإحسان أو إرادته استلزام الخاص للعام فكما يستحيل وجود الخاص بدون العام فكذلك الرحمة بدون الإحسان أو إرادته يستحيل وجودها وأما قضية الأم العاجزة فإنها وإن لم تكن تقدر على الإحسان بالفعل فهي محسنة بالإرادة فرحمتها لا تنفك عن إرادتها التامة للإحسان التي يقترن بها مقدورها إما بدعاء وإما بأيثار بما تقدر عليه ونحو ذلك فتخلف بعض الإحسان الذي لا تقدر عليه عن رحمتها لا يخرج رحمتها عن استلزامها للإحسان المقدور وهذا واضح وأما الملك القاسي إذا أحسن فإن إحسانه لا يكون رحمة فهذا لأن الإحسان أعم من الرحمة والأعم لا يستلزم الأخص وهم لم يدعوا ذلك فلا يلزمهم وأيضا فإن الإحسان قد يقال إنه يستلزم الرحمة وما فعله الملك المذكور فليس بإحسان في الحقيقة وإن كانت صورته صورة الإحسان وبالجملة فالعنت والمناكدة على هذا الاعتراض أبين من أن يتكلف معه رده وإبطاله فصل المسلك الثالث أن قريبا في الآية من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه مع الالتفات إلى المحذوف فكأنه قال إن مكان الرحمة قريب من المحسنين ثم حذف المكان وأعطى الرحمة إعرابه وتذكيره ومن ذلك قول الشاعر حسان يسقون من ورد البريص عليهم ... بردي يصفق بالرحيف السلسل فقال يصفق بالياء وبردى هي مؤنث لأنه أراد ماء بردى ومنه قول النبي وقد أخذ بيديه ذهبا وحريرا فقال هذان حرام على ذكور أمتي // صحيح // فقال حرام بالإفراد والمخبر عنه مثنى كأنه قال استعمال هذين حرام وهذا المسلك ضعيف جدا لأن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه لا يسوغ ادعاؤه مطلقا وإلا لالتبس الخطاب وفسد التفاهم وتعطلت الأدلة إذ ما من لفظ أمر أو نهي أو خبر متضمن مأمورا به ومنهيا عنه ومخبرا إلا ويمكن على هذا أن يقدر له لفظ مضاف يخرجه عن تعلق الأمر والنهي والخبرية ________________________________________ فيقول الملحد في قوله ولله على الناس حج البيت أي معرفة حج البيت وكتب عليكم الصيام أي معرفة الصيام وإذا فتح هذا الباب فسد التخاطب وتعطلت الأدلة وإنما يضمر المضاف حيث يتعين ولا يصح الكلام إلا بتقديره للضرورة كما إذا قيل اكلت الشاة فإن المفهوم من ذلك أكلت لحمها فحذف المضاف لا يلبس وكذلك إذا قلت أكل فلان كبد فلان إذا أكل ماله فإن المفهوم أكل ثمرة كبده فحذف المضاف هنا لا يلبس ونظائره كثيرة وليس منه واسأل القرية وإن كان أكثر الأصوليين يمثلون به فإن القرية اسم للسكان في مسكن مجتمع فإنما تطلق القرية باعتبار الأمرين كالكأس لما فيه من الشراب والذنوب للدلو الملآن ماء النهر والخوان للمائدة إذا كان عليها طعام ونظائره ثم إنهم لكثرة استعمالهم لهذه اللفظه ودورانها في كلامهم أطلقوها على السكان تارة وعلى المسكن تارة بحسب سياق الكلام وبساطه وإنما يفعلون هذا حيث لا لبس فيه فلا إضمار في ذلك ولا حذف فتأمل هذا الموضع الذي خفي على القوم مع وضوحه وإذا عرفت هذا فقوله إن رحمة الله قريب من المحسنين ليس في اللفظ ما يدل على إرادة موضع ولا مكان أصلا فلا يجوز دعوى إضماره بل دعوى إضمار خطأ قطعا لأنه يتضمن الإخبار بأن المتكلم أراد المحذوف ولم ينص على إرادته دليلا لا صريحا ولا لزوما فدعوى المدعي أنه أراده دعوى باطلة وأما قوله بردى يصفق فليس أيضا من باب حذف المضاف بل اراد ببردى النهر وهو مذكر فوصفه بصفة المذكر فقال يصفق فلم يذكر بناء على حذف المضاف وإنما ذكر بناء على أن بردى المراد به النهر فإن قلت فلا بد من حذف مضاف لأنهم إنما يسقون ماء بردى لا نفس النهر قلت هذا وإن كان مراد الشاعر فلم يلزم منه صحة ما ادعاه من أنه ذكر يصفق باعتبار الماء المحذوف فإن تذكيره إنما يكون باعتبار إرادة النهر وهو مذكر فلا يدل على ما ادعوه وأما قوله هذان حرام ________________________________________ ففي إفراد الخبر سر بديع جدا وهو التنبيه والإشارة على أن كل واحد منهما بمفرده موصوف بأنه حرام فلو ثنى الخبر لم يكن فيه تنبيه على هذا المعنى فلهذا أفرد الخبر فكأنه قال وكل واحد من هذين حرام فدل إفراد الخبر على إرادة الإخبار عن كل واحد واحد بمفرده فتأمله فإنه من بديع اللغة وقد تقدم بيانه في هذا التعليق في مسألة كلا وكلتا وإن قولهم كلاهما قائم بالافراد لا يدل على أن كلا مفرد كما ذهب إليه البصريون بل هو مثنى حقيقة وإنما أفردوا الخبر للدلالة على أن الإخبار عن كل واحد منهما بالقيام وقد قررنا ذلك هناك بما فيه كفاية فصل المسلك الرابع أنه من باب حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامة كأنه قال إن رحمة الله شيء قريب من المحسنين أو لطف قريب أو بر قريب ونحو ذلك وحذف الموصوف كثير فمنه قول الشاعر قامت تبكيه على قبره ... من لي من بعدك يا عامر تركتني في الدار ذا غربة ... قد ذل من ليس له ناصر المعنى تركتني شخصا أو إنسانا ذا غربة ولولا ذلك لقالت تركتني ذات غربة ومنه قول الآخر فلو أنك في يوم الرخاء سألتني ... فراقك لم أبخل وأنت صديق أراد وأنت شخص أو إنسان صديق وعلى هذا المسلك حمل سيبويه قولهم للمرأة حائض وطالق وطال فقال كأنهم قالوا شيء حائض وشيء طامث وهذا المسلك أيضا ضعيف لثلاثة أوجه أحدها أن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقاومة إنما يحسن بشرطين أن تكون الصفة خاصة يعلم ثبوتها لذلك الموصوف بعينه لا لغيره الثاني أن تكون الصفة قد غلب استعمالها مفردة على الموصوف كالبر والفاجر ________________________________________ والعالم والجاهل والمتقي والرسول والنبي ونحو ذلك مما غلب استعمال الصفة فيه مجردة عن الموصوف فلا يكاد يجيء ذكر الموصوف معها كقوله تعالى إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم وقوله إن المتقين في جنات وعيون وقوله إن المتقين في جنات وعيون وقوله إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات وقوله والكافرون هم المظالمون وهو كثير جدا في القرآن وكلام العرب وبدون ذلك لا يحسن الاقتصار على الصفة فلا يحسن أن تقول جاءني طويل ورأيت جميلا أو قبيحا وأنت تريد جاءني رجل طويل ورأيت رجلا جميلا أو قبيحا ولا تقول سكت في قريب تريد في مكان قريب مع دلالة السكنى على المكان الثاني إن الشيء أعم المعلومات فإنه يشمل الواجب والممكن فليس في تقديره ولا في اللفظ به زيادة فائدة يكون الكلام بها فضلا عن أن يكون بها في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة فأي فصاحة وبلاغة في قول القائل في حائض وطامث وطالق شيء حائض وشيء طامث وشىء طالق وهو لو صرح بهذا لاستهجنه السامع فكيف يقدر في الكلام مع أنه لا يتضمن فائدة أصلا إذ كونه شيئا أمر معلوم عام لا يدل على مدح ولا ذم ولا كمال ولا نقصان وينبغي أن يتفطن ههنا لأمر لا بد منه وهو أنه لا يجوز أن يحمل كلام الله عز وجل ويفسر بمجرد الاحتمال النحوى الاعرابي الذي يحتمله تركيب الكلام ويكون الكلام به له معنى ما فإن هذا مقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن فإنهم يفسرون الآية ويعربونها بما يحتمله تركيب تلك الجملة ويفهم من ذلك التركيب أي معنى اتفق وهذا غلط عظيم يقطع السامع بأن مراد القرآن غيره وإن احتمل ذلك التركيب هذا المعنى في سياق آخر وكلام آخر فإنه لا يلزم أن يحتمله القرآن مثل قول بعضهم في قراءة من قرأ والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا بالجر أنه قسم ومثل قول بعضهم في قوله تعالى وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام إن المسجد مجرور بالعطف على الضمير المجرور في به ________________________________________ ومثل قول بعضهم في قوله تعالى لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما انزل من قبلك والمقيمين الصلاة إن المقيمين مجرور بواو القسم ونظائر ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا وأوهى بكثير بل للقرآن عرف خاص ومعان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها ولا يجوز تفسيره بغير عرفة والمعهود من معانية فإن نسبة معانية إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ بل أعظم فكما أن ألفاظه ملوك الألفاظ وأجلها وأفصحها ولها من الفصاحة أعلى مراتبها التي يعجز عنها قدر العالمين فكذلك معانية أجل المعاني وأعظمها وأفخمها فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به بل غيرها أعظم منها وأجل وأفخم فلا يجوز حمله على المعاني القاصرة بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي فتدبر هذه القاعدة ولتكن منك على بال فإنك تنتفع بها في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزيفها وتقطع أنها ليست مراد المتكلم تعالى بكلامه وسنزيد هذا إن شاء الله تعالى بيانا وبسطا في الكلام على أصول التفسير فهذا أصل من أصوله بل هو أهم أصوله الوجه الثالث أن طالقا وحائضا وطامثا إنما حذفت تاؤه لعدم الحاجة إليها فإن التاء إنما دخلت للفرق بين المذكر والمؤنث في محل اللبس فإذا كانت الصفة خاصة بالمؤنث فلا لبس فلا حاجة إلى التاء هذا هو الصواب في ذلك وهو المذهب الكوفي فإن قلت هذا خلاف مذهب سيبويه قلت فهل يرتضي محصل برد موجب الدليل الصحيح لكونه خلاف قول عالم معين هذه طريقة الخفافيش فأما أهل البصائر فإنهم لا يردون الدليل وموجبه بقول معين ابدا وقليل ما هم ________________________________________ ولا ريب أن أبا بشر رحمة الله ضرب في هذا العلم بالقدح المعلى وأحرز من قصبات سبقه واستولى من أمده على ما لم يستول عليه غيره فهو المصلى في هذا المضمار ولكن لا يوجب ذلك أن يعتقد أنه أحاط بجميع كلام العرب وإن لا حق إلا ما قاله وكم لسيبويه من نص قد خالفه جمهور أصحابه فيه والمبرزون منهم ولو ذهبنا نذكر ذلك لطال الكلام به ولا تنس قوله في باب الصفة المشبهة مررت برجل حسن وجهه بإضافة حسن إلى الوجه والوجه إلى الضمير ومخالفة جميع البصريين والكوفيين في ذلك فسيبويه رحمة الله ممن يؤخذ من قوله ويترك وأما أن نعتقد صحة قوله في كل شيء فكلا وسنفرد إن شاء الله كتابا للحكومة بين البصريين والكوفيين فيما اختلفوا فيه وبيان الراجح من ذلك وبالله التوفيق والتأييد فإن قلت يكفي في رد ما اخترتموه في طامث وحائض وطالق من المذهب الكوفي قوله تعالى يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت فهذا وصف يختص به الإناث وقد جاء بالتاء قلت ليس في هذا ولله الحمد رد لهذا المذهب ولا إبطال له فإن دخول التاء ههنا يتضمن فائدة لا تحصل بدونها فتعين الإتيان بها وهي أن المراد بالمرضعة فاعلة الرضاع فالمراد الفعل لا مجرد الوصف ولو أريد الوصف المجرد بكونها من أهل الإرضاع لقيل مرضع كحائض وطامث ألا ترى إلى قوله يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار // صحيح // فإن المراد به الموصوفة بكونها من أهل الحيض لا من يجري دمها فالحائض والمرضع وصف عام يقال على من لها ذلك وصفا وإن لم يكن قائما بها ويقال على من قام بها بالفعل فأدخلت التاء ههنا إيذانا بأن المراد من تفعل الرضاع فإنها تذهل عما ترضعه لشدة هول زلزلة الساعة وأكد هذا المعنى بقوله عما أرضعت فعلم أن المراد المرضعة التي ترضع بالفعل لا بالقوة والتهيؤ وترجيح هذا المذهب له موضع غير هذا فصل المسلك الخامس أن هذا من باب اكتساب المضاف حكم المضاف إليه إذا كان صالحا للحذف والاستغناء عنه بالثاني كقول الشاعر ________________________________________ لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع وقال الآخر مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم وقال الآخر بغي النفوس معيدة نعماءها ... نقما وإن عمهت وطال غرورها فأنت في الأول السور المضاف إلى المدينة وفي الثاني المر المضاف إلى الرياح وفي الثالث البغي المضاف إلى النفوس لتأنيث المضاف إليه مع أن التذكير أصل والتأنيث فرع فحمل الأصل على الفرع فلأن يجوز تذكير المؤنث لإضافته إلى غير مؤنث أولى لأنه حمل للفرع على الأصل ومن الأول أيضا قول الشاعر وتشرق بالأمر الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم فأنث الصدر لإضافته إلى القناة وأنشدني بعض أصحابنا لأبي محمد بن حزم في هذا المعنى بإسناد لا يحضرني تجنب صديقا مثل ما واحذرالذي ... تراه كعمرو بين عرب وأعجم فإن صديق السوء يردي وشاهدي ... كما شرقت صدر القناة من الدم ومنه قول النابغة الذبياني حتى استغن بأهل الملح ضاحية ... يركضن قد قلقت عقد الأطانيب وهذا المسلك وإن كان قد ارتضاه غير واحد من الفضلاء فليس بقوي لأنه إنما يعرف ومنه قول لبيد فمضى وقدمها وكانت عادة ... منه إذا هي عردت أقدامها مجيئه في الشعر ولا يعرف في الكلام الفصيح منه إلا النادر كقولهم ذهبت بعض أصابعه والذي قواه ههنا شدة اتصال المضاف بالمضاف إليه وكونه جزؤه حقيقة فكأنه قال ذهبت إصبع وإصبعان من أصابعه وحمل القرآن على المكثور الذي خلافه أفصح منه ليس بسهل فصل المسلك السادس إن هذا من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الأخ لكونه تبعا له ومعنى من معانيه فإذا ذكر أغنى عن ذكره لأنه يفهم منه ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين فاستغنى عن خبر الأعناق بالخبر عن أصحابها ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى والله ورسوله أحق أن يرضوه ________________________________________ المعنى والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك فاستغنى بإعادة الضمير إلى الله إذ إرضاؤه هو ارضاء رسوله فلم يحتج أن يقول يرضوهما فعلى هذا يكون الأصل في الآية إن الله قريب من المحسنين وإن رحمة الله قريبة من المحسنين فاستغنى بخبر المحذوف عن خبر الموجود وسوغ ذلك ظهور المعنى وهذا المسلك مسلك حسن إذا كسي تعبيرا أحسن من هذا وهومسلك لطيف المنزع دقيق على الأفهام وهو من أسرار القرآن والذي ينبغي أن يعبر عنه به أن الرحمة صفة من صفات الرب تبارك وتعالى والصفة قائمة بالموصوف لا تفارقه لأن الصفة لا تفارق موصوفها فإذا كانت قريبة من المحسنين فالموصوف تبارك وتعالى أولى بالقرب منه بل قرب رحمته تبع لقربه هو تبارك وتعالى من المحسنين وقد تقدم في أول الآية أن الله تعالى قريب من أهل الإحسان بإثابته ومن أهل سؤاله بإجابته وذكرنا شواهد ذلك وأن الإحسان يقتضي قرب الرب من عبده كما أن العبد قرب من ربه بالإحسان وأن من تقرب منه شبرا تقرب الله منه ذراعا ومن تقرب منه ذراعا تقرب منه باعا فالرب تبارك وتعالى قريب من المحسنين ورحمته قريبة منهم وقربة يستلزم قرب رحمته ففي حذف التاء ههنا تنبيه على هذه الفائدة العظيمة الجليلة وأن الله تعالى قريب من المحسنين وذلك يستلزم القربين قربة وقرب رحمته ولو قال إن رحمة الله قريبة من المحسنين لم يدل على قربه تعالى منهم لأن قربة تعالى أخص من قرب رحمته والأعم لا يسلتزم الأخص بخلاف قربة فإنه لما كان أخص استلزم الأعم وهو قرب رحمته فلا تستهن بهذا المسلك فإن له شأنا وهو متضمن لسر بديع من أسرار الكتاب وما أظن صاحب هذا المسلك قصد هذا المعنى ولا ألم به وإنما أراد أن الإخبار عن قرب الله تعالى من المحسنين كاف عن الإخبار عن قرب رحمته منهم ________________________________________ فهو مسلك سابع في الآية وهو المختار وهو من أليق ما قيل فيها وإن شئت قلت قربة تبارك وتعالى من المحسنين وقرب رحمته منهم متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر فإذا كانت رحمته قريبة منهم فهو أيضا قريب منهم وإذا كان المعنيان متلازمين صح إرادة كل واحد منهما فكان في بيان قربه سبحانه من المحسنين من التحريض على الإحسان واستدعائه من النفوس وترغيبها فيه غاية حظ وأشرفه وأجله على الإطلاق وهو أفضل إعطاء أعطيه العبد وهو قربة تبارك وتعالى من عبده الذي هو غاية الأماني ونهاية الآمال وقرة العيون وحياة القلوب وسعادة العبد كلها فكان في العدول عن قريب إلى قريب من استدعاء الإحسان وترغيب النفوس فيه ما لا يتخلف بعده إلا من غلبت عليه شقاوته ولا قوة إلا بالله تعالى فصل المسلك الثامن إن الرحمة مصدر والمصادر كما لا تثنى ولا تجمع فحقها أن لا تؤنث وهذا المسلك ضعيف جدا فإن الله سبحانه حيث ذكر الرحمة أجرى عليها التأنيث كقوله ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون وقوله فيما حكى عنه رسوله إن رحمتي غلبت أو سبقت غضبي // رواه البخاري ومسلم والترمذي // ولو كان حذف التاء من الرحمة لكونها مصدرأ والمصادر لا حظ للتأنيث فيها لم يعد عليها الضمير إلا مذكرا وكذلك ما كان من المصادر بالتاء كالقدرة والإرادة والحكمة والهمة ونظائرها وفي بطلان ذلك دليل على بطلان هذا المسلك المسلك التاسع أن القريب يراد به شيئان أحدهما النسب والقرابة فهذا بالتاء تقول فلانه قريبة لي والثاني قرب المكان وهذا بلا تاء تقول جلست فلانه قريبا مني ولا تقول قريبة منى وهذا مسلك الفراء رحمة الله وجماعة وهو أيضا ضعيف فإن هذا إنما هو إذا كان لفظ القريب ظرفا فإنه يذكر كما قال تقول جلست المرأة مني قريبا فأما إذا كان اسما محضا فلا فصل ________________________________________ المسلك العاشر أن تأنيث الرحمة لما كان غير حقيقي ساغ فيه حذف التاء كما تقول طلع الشمس وطلعت وهذا المسلك أيضا فاسد فإن هذا إنما يكون إذا أسند الفعل إلى ظاهر المؤنث فإما إذا أسند إلى ضميره فلا بد من التاء كقولك الشمس طلعت وتقول الشمس طالعة ولا تقول طالع لأن في الصفة ضميرها فهي بمعنى الفعل في ذلك سواء فصل المسلك الحادي عشر أن القريبا مصدر لا وصف وهو بمنزلة النقيض فجرد من التاء لأنك إذا أخبرت عن المؤنث بالمصدر لم تلحقه التاء ولهذا تقول امرأة عدل ولا تقول عدلة وامرأة صوم وصلاة وصدق وبر ونظائره وهذا المسلك من أفسد ما قيل عن القريب فإنه لا يعرف استعماله مصدرا أبدا وإنما هو وصف والمصدر هو القرب لا القريب فصل المسلك الثاني عشر إن فعيلا وفعولا مطلقا يستوي فيهما المذكر والمؤنث حقيقيا كان أو غير حقيقي كما قال امرؤ القيس يرهرهه رودة رخصة ... كخرعوبة البانة المنقطر قطيع القيام فتور الكلام ... تفتر عن ذي عزوب خصر وقال أيضا له الويل إن أمسى ولا أم هاشم ... قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا وقال جرير أتنفعك الحياة وأم عمرو ... قريب لا تزور ولا تزار وقال جرير أيضا كأن لم نحارب يا بثين لو أنها ... تكشف غماها وأنت صديق وقال أيضا دعون الهون ثم ارتهن قلوبنا ... بأسهم أعداء وهن صديق قالوا وشواهد ذلك كثيرة وفي هذا المسلك غنية عن تلك التعسفات والتأويلات وهذا المسلك ضعيف أيضا ومما رده أبو عبد الله بن مالك فقال هذا القول ضعيف لأن قائله إما أن يريد أن فعيلا في هذا الموضع وغيره يستحق ما يستحقه فعول من الجري على المذكر والمؤنث بلفظ واحد وإما أن يريد أن فعيلا في هذا الموضع خاصة محمول على فعول فالأول مردود لإجماع أهل العربية على التزام التاء في ظريفة وشريفة وأشباههما ________________________________________ وزنا ودلالة ولذلك احتاج علماؤهم أن يقولوا في قوله تعالى وما كانت أمك بغيا وقوله ولم أك بغيا أن الأصل هو يغوى على فعول فلذلك لم تلحقه التاء ثم أعل بإبدال الواو ياء والضمة كسرة فصار لفظه كلفظ فعيل ولو كان فعيلا أصلا للحقته التاء فقيل الم أك بغية والثاني أيضا مردود لأن لفعيل على فعول من المزايا ما لايليق به أن يكون تبعا له بل العكس أولى أن يكون فعولا تبعا لفعيل ولأنه يتضمن حمل فعيل على فعول وهما مختلفان لفظا ومعنى أما اللفظ فظاهر وأما المعنى فلأن قريبا لا مبالغة فيه لأنه يوصف به كل ذي قرب وإن قل وفعول لا بد فيه من المبالغة وأيضا فإن الدال على المبالغة لا بد أن يكون له بنية لا مبالغة فيها ثم يقصد به المبالغة فتتغير بنيته كضارب وضروب وعالم وعليم وقريب ليس كذلك فلا مبالغة فيه وأما بيت امرؤ القيس فلا حجة فيه لوجوه أحدها أنه نادر فلا حكم له فلا كثرت صوره ولا جاء على الأصل كاستجوذ واستوثق البعير واغيمت السماء واغور واحول وما كان كذلك فلا حكم له الثاني أن يكون قد أراد قطيعة القيام ثم حذف التاء للإضافة فإنها تجوز بحذفها عند الفراء وغيره وعليه حمل قوله تعالى وإقام الصلاة أي إقامتها لأن المعروف في ذلك إنما هو لفظ الإقامة ولا يقال إقام دون إضافة كما لا يقال أراد في أرادة ولا أقال في إقالة لأنهم جعلوا هذه التاء عوضا عن ألف إفعال أو عينه لأن أصل إقامة أقوام فنقلت حركة العين إلى الفاء فانقلبت ألفا فالتقت ألفان فحذفت إحداهما فجاءوا بالتاء عوضا فلزمت إلا مع الإضافة فإن حذفها جائز عند قوم قياسا وعند أخرين سماعا ومثلها في اللزوم تاء عدة وزنة وأصلهما وعد ووزن فحذفت الواو وجعلت التاء عوضا منها فلزمت وقد تحذف للإضافة كقول الشاعر إن الخليط أجدوا البين وانجردوا ... وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا ________________________________________ أي أخلفوك عدة الأمر فحذف التاء وعلى هذه اللغة قرأ بعض القراء ولو ارادوا الخروج لأعدوا له عدة بالهاء أي عدته فحذف التاء الثالث أن يكون فعيل في قوله قطيع القيام بمعنى مفعول لأن صاحب المحكم حكى أنه قال مبينا على قطعه وأقطعه إذا بكته وأقطعه إذا بكته وقطع هو فهو قطيع القول فقطيع على هذا بمعنى مقطوع أي مبكت فحذف التاء على هذا التوجيه ليس مخالفا للقياس وإن جعل قطيعا مبنيا على قطع كسريع من سرع فحقه على ذلك أن يلحقه التاء عند جريه على المؤنث إلا أنه شبه بفعيل الذي بمعنى مفعول فأجرى مجراه فهذا تمام اثنى عشر مسلكا في هذه الآية اصحها المسلك المركب من السادس والسابع وباقيها ضعيف وواه ومحتمل والمبتدىء والمقلد لا يدرك هذه الدقائق والفاضل المنصف لا يخفى عليه قويها من ضعيفها وليكن هذا آخر الكلام على الآية والله أعلم فائدة تقسيم الخب إلى مفرد وجمله خبر المبتدأ إما مفرد وإما جملة فإن كان جملة فإما أن يكون نفس المبتدأأو غيره فإن كان نفس المبتدأ لم يحتج إلى رابط يربطها به إذ لا رابط أقوى من اتحادهما نحو قولي الحمد لله وإن كانت غير المبتدأ فلا بد فيها من رابط يربطها بالمبتدأ لئلا يتوهم استقلالها وانقطاعها عن المبتدأ لأن الجملة كلام قائم تام بنفسه وذلك الرابط لا يتعين أن يكون ضميرا بل يجوز أن يكون ضميرا وهو الأكثر واسم إشارة كقوله تعالى ولباس التقوى ذلك خيرا وقوله والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ونظائره كثيرة واسما ظاهرا قائما مقام الضمير كقوله تعالى والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين ________________________________________ وقد يستغني عن الضمير إذا علم الرابط وعدم الاستقلال بالسياق وباب هذا التفصيل بعد الجملة ففيه يقع الاستغناء عن الضمير كثيرا كقولك المال لهؤلاء لزيد درهم ولعمرو درهمان ولخالد ثلاثة ومثله الناس واحد في الجنة وواحد في النار ولا حاجة إلى تقدير ضمير رابط محذوف تقديره لزيد منه درهم وواحد منهم في الجنة فإن تفصيل المبتدأبالجملة بعده رابط أغنى عن الضمير فتأمله ومثله السمن منوان بدرهم وهذا بخلاف قولك زيد عمرو مسافر فإنه لا رابط بينهما بوجه فلذلك يحتاج أن يقول في حاجته ونحو ذلك ليفيد الإخبار هذا حكم الجملة وأما المفردا فقد اشتهر على ألسنة النحاة أنه إن كان مشتقا فلا بد من ضمير يربطه بالمبتدأوإن كان جامدا لم يحتج إلى ضمير وبعضهم يتكلف تأويله بالمشتق وهذا موضع لا بد من تحريره فنقول الخبر المفرد لما كان نفس المبتدأكان اتحادهما أعظم رابط يمكن فلا وجه لاشتراط الرابط بعد هذا أصلا فإن المخاطب يعرف أن الخبر مسند لى المبتدأوأنه هو نفسه ومن هنا يعلم غلط المنطقيين في قولهم إنه لا بد من الرابط إما مضمرا وإما مظهرا وهذا كلام من هو بعيد من تصور المعاني وارتباطها بالألفاظ ولا تستنكر هذه العبارة في حق المنطقيين فإنهم من أفسد الناس تصورا ولا يصدق بهذا إلا من عرف قوانين القوم وعرف ما فيها من التخبيط والفساد وأما إن كان الخبر اسما مشتقا مفردا فلا بد فيه من ضمير ولكن ليس الجالب لذلك الضمير ربطه بالمبتدأبل الجالب له أن المشتق كالفعل في المعنى فلا بد له من فاعل ظاهر أو مضمر فإن قيل وما الذي يدل على أن في الفعل ضميرا حتى يكون في ثانية ضمير فإذا قلت زيد قام فإن هذا اللفظ لا ضمير فيه يستمع فدعوى تحمله للضمير دعوى محضة ________________________________________ قيل الذي يدل على أن فيه الضمير تأكيدهم له وعطفهم عليه وإبدالهم منه كقولك في التأكيد إن زيدا سيقوم نفسه برفع نفس وفي العطف كقوله تعالى سيصلى نارا ذات لهب وامرأته فامرأته رفع عطفا على الضمير في سيصلى وفي الإبدال قولك إن زيدا يعجبني علمه على أن يكون علمه بدل اشتمال لا فاعل فإذا كان المشتق مفردا كان الضمير الذي فيه فعلا كان أو اسما نحو زيد يذهب وزيد ذاهب وأما في التثنية والجمع فلا يكون ضميرا إلا في الأفعال نحو يذهبان ويذهبون وأما في الأسماء فإنه لا يكون فيها إذا ظهر إلا علامة لا ضميرا نحو ذاهبان وذاهبون فهما في الاسم حرفان وفي الفعل اسمان برهان ذلك انقلابهما في الاسم ياء في التثنية والجمع كما ينقلبان فيما لا يحتمل ضميرا كزيدين والزيدين ولو كان ضميرا ك هما في الفعل لبقيا على لفظ واحد كما تقول في الفعل هؤلاء رجال يذهبون ومررت برجال يذهبون ورأيت رجالا يذهبون وكذلك في التثنية سواء فلا يتغير لفظ الواو لأنها فاعل وليست علامة إعراب الفعل فثبت بهذا صحة دعوى النحاة على العرب أن الضمير المستتر في الإسم المشتق لا يظهر في تثنية ولا جمع وأن الضمير المستتر في الفعل يظهر في التثنية والجمع ولولا الدليل الذي ذكرناه لما عرف هذا أبدا لأن العرب لم تشافهنا بهذا مشافهة ولا أفصحت عن هذا القدر في هذا ونحوه إلا باستقراء كلامها والتتبع لأنحائها ومقاصدها الموصل إلى غرائب هذه اللغة وأسرارها وحكمها فإن قيل فقد عرفنا صحة ذلك فما هي الحكمة التي من أجلها فرقوا بين المواطنين فجعلوها ضمائر في الأفعال وحروفا في الأسماء ________________________________________ قيل في ذلك حكمة بديعة وهي أن الأسماء لما كان أصلها الإعراب كانت أحوج إلى علامة إعراب منها إلى علامة إضمار والأفعال أصلها البناء ولم يكن لها بد من الفاعل ضرورة فكانت احوج إلى علامة إضمار الفاعلين منها إلى علامة إعراب مع أن هذه العلامة في الأسماء علامة تثنية وجمع وحروف إعراب أيضا والأفعال لا تثنى ولا تجمع إذ هي مشتقة من المصدر وهو لا يثنى ولا يجمع لأنه يدل على القليل والكثير بلفظ واحد هذه علة النحاة وفيه علة أخرى هي أصح من هذه وألطف وأدق قد تقدمت في أول هذا التعليق وإذا ثبت أن الأفعال لا تثنى ولا تجمع وعلامة التثنية والجمع حروف إعراب فلا يكون الواو والألف إلا علامة إضمار ولا يكون في الأسماء وإن احتملت الضمائر إلا علامة تثنية وجمع وحروف إعراب على قول سيبويه أي محل الأعراب أو هي الأعراب نفسها على قول قطرب وغيره بمنزلة الحركات في المفرد أو دليل إعراب على قول أبي الحسن الأخفش وأبي العباس المبرد فصل حكم الخبر إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا هذا حكم الخبر إذا كان مفردا أو جملة فأما إذا كان واقعا موقع الخبر وليس هو نفسه خبرا كالظرف والمجرور فإنه واقع موقع مشتق متحمل للضمير وهو إما مفرد وإما جملة وأكثر النحاة يقدرونه بمفرد مشتق نظرا إلى أن الأصل في الخبر أن يكون مفردا فتقديره كذلك موافق للأصل وأيضا فإنما قدر لضرورة صحة الكلام فإن الظرف والمجرور ليس هو نفس المبتدأ وما قدر للضرورة لا يتعدى به ما تقتضيه الضرورة وهي تزول بالمفرد فتقدير الجملة مستغنى عنه مع أنه خلاف الأصل ________________________________________ وأيضا فإنه قدر للتعلق وهذا التعلق يكفي فيه المفرد وأيضا فإنه يقع في موضع لا يصح فيه تقدير الجملة كقولك أما عندك فزيد وأما في الدار فعمر فإن أما لا يليها إلا اسم مفرد فإذا تعين المفرد ههنا يرجح في الباقي ليجري الباب على سنن واحد ولا ينتقض هذا بوقوعه في صلة الموصول كقولك جاءني الذي في الدار إذ يتعين تقدير الجملة لأن كلامنا في التقدير في باب الخبر لا في التقدير في سائر الأبواب كالصلة والصفة والحال ولا يلزم من تعين الجملة في التقدير في الصلة تعينها ولا ترجيحها في باب المبتدأ وسأل أبو الفتح بن جني أبا علي عن هذه المسألة فلم يراجعه بجواب شاف أكثر من أن قال له تقدير الاسم ههنا أولى لأن خبر المبتدأ في أغلب أحواله اسم وكشف الغطاء عن هذه المسألة أن يقال الجار هنا لا يتصور تعليقه بفعل محض إذ الفعل المحض ما دل على حدث وزمان ودلالته على الزمان ببنيته فإذا لم يكن له وجود في اللفظ لم يكن له بنية تدل على الزمان مع أن الجار لا تعلق له بالزمان ولا يدل عليه إنما هو في أصل وضعه لتقييد الحدث وجره إلى الإسم على وجه ما من الإضافة فلا تعلق له إلا بالحدث والحدث الذي هو المصدر لا يمكن تقديره ههنا لأنه خبر المبتدأ والمبتدأ ليس هو الحدث فبطل أن يكون التقدير زيد استقرار في الدار وبطل أيضا بما تقدم أن يكون التقدير زيد استقر في الدار ألا ترى أن يقبح أن يقال زيد في الدار أمس أو أول من أمس وإذا بطل القسمان أعنى إضمار المصدر والفعل لم يبق إلا القسم الثالث وهو إضمار اسم الفاعل فتتضح الفائدتان أحدهما أن يكون خبرا عن المبتدأويضمر فيه ما يعود عليه إذ لا يمكن ذلك في المصدر ________________________________________ والثانية أن يصبح تعلق الجار به إذ مطلوبة الحدث واسم الفاعل متضمن للحدث لا للزمان إذا عرف هذا فلا يصح ارتفاع الاسم بعد الظرف والمجرور بالاستقرار على أنه فاعل وإن كان في موضع خبر أو نعت وإنما يرتفع بالابتداء كما يرتفع في قولك قائم زيد بالابتداء لا بقائم خلافا للأخفش فإذا قلت في الدار زيد فارتفاع زيد بالابتداء لا بالاستقرار اسم الفاعل فإن قلت إليس إذا قلت زيد قائم أبوه ورأيت رجلا قائما أبوه ومررت برجل قائم أبوه فترفع الاسم بقائم إذا كان معتمدا على مبتدأأو منعوت أو ذي حال وكذلك إذا كان قبله استفهام أو نفي نحو أقائم زيد وما قائم زيد قيل اسم الفاعل مشتق وفيه لفظ الفعل ومعناه فإذا اقترن به ألف الاستفهام أو قرينة من القرائن التي ذكرت التي يقوي بها معنى الفعل عمل عمل الفعل بخلاف قائم زيد فإنه لا قرينة معه تقتضي أن يعمل عمل الفعل فحمل على أصله من الابتداء والخبر فإن قيل فهلا قلت إن الظرف والمجرور إذا اعتمد كما يعتمد اسم الفاعل أنه يرفع الاسم كما هو معزى إلى سيبويه فإذا قلت زيد في الدار أبوه كان أبوه مرفوعا بالظرف كما إذا قلت زيد قائم أبوه قلت قد توهم قوم أن هذا مذهب سيبويه وأنك إذا قلت مررت برجل معه صقر أن صقرا مرفوعا بالظرف لاعتماده على الموصوف وكنا نظن ذلك زمانا حتى تبين أن هذا ليس بمذهبه وأنه غلط عليه وقد بين أبو سعيد السيرافي مراد سيبويه من كلامه وشرح وجه الغلط عليه بما فيه كفاية فراجعه في كتابه ________________________________________ والفرق بين الظرف وبين اسم الفاعل ما تقدم أن اسم الفاعل مشتق وفيه لفظ الفعل ومعناه فإذا اعتمد أن اقترنت به قرينة جانب الفعلية فيه فعمل عمل الفعل وأما الظرف فلا لفظ للفعل فيه إنما هو معنى يتعلق به الفعل ويدل عليه ولم يكن في قوة القرينة التي يعتمد عليها أن تجعله كالفعل كما لم يكن في قوته إذا كان ملفوظا به دون قرينة أن يكون كالفعل فإذا اجتمع الاعتماد المقوي لمعنى الفعل مع اللفظ المشتق من الفعل عمل الاسم حينئذ عمل الفعل ووجه آخر من الفرق بين المسألتين أنك إذا قلت مررت برجل قائم أبوه فالقيام لا محالة مسند إلى الأب في المعنى وهو في اللفظ جار على رجل والكلام له لفظ معنى فقائم في اللفظ جار عل ما قبله وفي المعنى مسند إلى ما بعده وأما الظرف والمجرور فليس كذلك إنما هو معنى يتعلق به الجار وذلك المعنى مسند إلى الاسم المرفوع وخبر عنه فصح أنه مبتدأ والمجرور خبر عنه والجملة في موضع نعت أو خبر فإن قيل فليزمكم إذا قدمتم الظرف في موضع الخبر وقدرتم فيه ضميرا يعود على المبتدأ أن تجيزوا في الدار نفسه زيد وفيها أجمعون إخوتك وهذا لا يجوزه أحد وفي هذا حجة للأخفش ولمن قال بقوله في أن رفع الاسم بالظرف قيل إنما قبح توكيد المضمر إذا كان الظرف خبرا مقدما لأن الظرف في الحقيقة ليس ________________________________________ هو الحامل للضمير إنما هو متعلق بالاسم الحامل للضمير وذلك الاسم غير موجود في اللفظ حتى يقال إنه مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى وإذا لم يكن ملفوظا به فهو في المعنى والرتبة بعد المبتدأوالمجرور المقدم قبل المبتدأ دال عليه والدال على الشيء غير الشيء فلذلك قبح فيها أجمعون الزيدون لأن التوكيد لا يتقدم على المؤكد ولذلك صح تقديم خبر إن على اسمها إذا كان ظرفا لأن الظرف ليس هو الخبر في الحقيقة إنما هو متعلق بالخبر والخبر منوي في موضعه مقدر في مكانه ولذلك لم ينكسر أصل الخليل في منعه تقديم خبر المبتدأ مع كثرة هذا النحو في الكلام أعني في الدار زيد ولذلك عدل سيبويه في قولهم فيها قائما رجل ولمية موحشا طلل إلى أن جعل الحال من النكرة ولم يجعلها حالا من الضمير الذي في الخبر لأن الخبر مؤخر في النية وهو العامل في الحال وهو منوي والحال لا يتقدم على العامل المنوي فهذا كله مما يبين أن الظرف والمجرور ليس هو الخبر في الحقيقة ولا الحامل للضمير ولا العامل في شيء من الأشياء لا في حال ولا في ظرف ولا في فاعل ومن جهة المفعول أن الدار إذاانفردت بلفظها لم يصح أن تكون خبرا عن زيد ولا عاملة ولا حاملة للضمير وكذلك في ومن وسائر حروف الجر لو انفردت لم يكن فيها شيء من ذلك فقد وضح أن الخبر غيرها وأنها واقعة موقعة والله أعلم فإن قيل فما تقول فيما حكاه الزجاج عن بعض النحاة أنك إذا قلت قائم زيد أن قائما مبتدأوزيد فاعل به سد مسد الخبر قيل هذا وإن كان قد جوزه بعض النحاة فهو فاسد في القياس لأن اسم الفاعل اسم محض واشتقاقه من الفعل لا يوجب له عمل الفعل كمسجد ومرقد ومروحة ومغرفة ________________________________________ ولكن إنما يعمل إذا تقدم ما يطلب الفعل أو كان في موضع لا تدخل عليه العوامل اللفظية نحو النعت والخبر والحال فيقوى حينئذ معنى الفعل فيه ويعضد هذامن السماع أنهم لم يحكوا قائم الزيدان وذاهب إخوتك عن العرب إلا على الشرط الذي ذكرنا ولو وجد الأخفش ومن قال بقوله سماعا لاحتجوا به على الخليل وسيبويه فإذا لم يكن مسموعا وكان بالقياس مدفوعا فأخرى به أن يكون باطلا ممنوعا فإن قلت فما تصنع في قول الشاعر خبير بني لهب فلا تك ملغيا ... مقالة لهبي إذا الطير مرت فهذا صريح في أن خبير مبتدأوبنو لهب فاعل به وفي قول الآخر فخير نحن عند الناس منكم ... إذا الداعي المثوب قال يالا قلت أما البيت الأول فعلى شذوذه وندرته لا يعرف قائله ولم يعرف أن متقدمي النحاة وأئمتهم استشهدوا به وما كان كذلك فإنه لا يحتج به باتفاق على أنه لو صح أن قائله حجة عند العرب لاحتمل أن يكون المبتدأ محذوفا مضافا إلى بني لهب وأصله كل بني لهب خبير وكل يخبر عنها بالمفرد كما تقدم في أول التعليق ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه فاستحق إعرابه ويدل على إرادة العموم عجز البيت وهو قوله فلا تك ملغيا مقالة لهبي أفلا ترى كيف يعطي هذا الكلام أن كل واحد من بني لهب خبير فلا تلغ مقالة لهبي وكذلك البيت الثاني فلا متعلق فيه أصلا لأن أفعل التفضيل إذا وقع خبرا عن غيره وكان مقترنا بمن كان مفردا على كل حال نحو الزيدون خير من العمرين فصل وجوه اسم الفاعل إذا ثبت هذا فيجوز في اسم الفاعل إذا اعتمد على ماقبله أو كان معه قرينة مقتضية للفعل وبعده اسم مرفوع وجهان أحدهما أن يكون خبرا مقدما والاسم بعده مبتدأ وأن يكون مبتدأوالمرفوع بعده فاعل نحو أقائم زيد وما قائم عمرو ونحوه إلا أن يمنع مانع من ذلك وذلك في ثلاث مسائل أحدها قولك زيد قائم أخواه فإن هذا يتعين فيه أن يكون أخواه فاعلا بقائم ولا يجوز أن يكون أخواه مبتدأ وقائم الخبر لعدم المطابقة ________________________________________ الثانية قولك زيد قائمان أخواه فإن هذا يتعين فيه على الأفصح أن يكون مبتدأ وخبرا لو كان من باب الفعل والفاعل لقلت قائم أخواه كما تقول قام أخواه الثالثة قولك زيد قائم أنت إليه وزيد قائم هو إذا كان الفاعل ضميرا منفصلا فإن هذا لا يكون إلا مبتدأوخبرا لأن الضمير المنفصل لا يكون فاعلا مع اتصاله بعامله إنما يكون فاعلا إذا لم يمكن اتصاله نحو ما قائم إلا أنت ونحو الضار به هو فإذا عرفت ذلك فقوله في حديث المبعث أو مخرجي هم // رواه البخاري ومسلم والترمذي // فمخرجي يتعين أن يكون خبرا مقدما وهم مبتدألأن الرواية اتفقت على تشديد مخرجي وكان أصله مخرجون لي فحذف اللام وأضيف مخرجون إلى الياء فسقط نون الجمع لأنها تسقط للإضافة فصار مخرجوي فاجتمع الواو والياء والسابق منهما ساكن فقلبت الواو ياء فصار مثلان فأدغم أحدهما في الآخر فجاء مخرجي ومثله ضاربي ومكرمي ولو أن لصفة ههنا رافعة للضمير لكانت مفردة وكان يقول أو مخرجي هم بالتخفيف كما تقول أضاربي إخوتك ولو جعلته مبتدأ خيرا لقلت أضاربي بالتشديد والله أعلم فان قلت ما هم بمخرجي تعين التشديد ليس إلا لأن الفاعل لا يتقدم فلو خففت لكانت المسألة من باب الفعل والفاعل والفاعل لا يتقدم عامله وإن أخرت الضمير جاز لك الوجهان كما تقدم ظروف الزمان والإخبار عن الجثة ________________________________________ قولهم ظروف الزمان لا تكون إخبار عن الجثة ليس على إطلاقه بل فيه تفصيل يعرف من العلة في منع ذلك والعلة أن الزمان لما كان عبارة عن أوقات الحوادث وكانوا محتاجين إلى تقييد حوادثهم بأزمنة تقارنها معلومة عن المتكلم والمخاطب كما يقدرونها بالإماكن التي تقع فيها جعل الله سبحانه وتعالى حركات الشمس والقمر وما يحدث بسببها من الليل والنهار والشهور وألاعوام معيارا يعلم به العباد مقادير حوادث أفعالهم وتاريخها ومعيارها لشدة حاجتهم إلى ذلك في الآجال كالعدد والإجارات والسلم والديون المؤجلة ومعرفة مواقيت الحج والصيام وغيرها فصارت حركة الشمس والقمر تاريخا وتقييدا ومعيار للأفعال والحياة والموت والمولد وغير ذلك فالزمان إذا عبارة عن مقارنة حادث لحادث مقارنة الحادث من الحركة العلوية للحادث من حركات العباد ومعيارا له ولهذا سماه النحاة ظرفا لأنه مكيال ومعيار يعلم به مقدار الحركة والفعل وتقدمه وتأخره وقربه وبعده وطوله وقصره وانقطاعه ودوامه فإذا أخبرت أن فعلك قارن ذلك الحادث المعلوم من حركة الشمس والقمر يوقت له ويقيد به فسمي وقتا وهو في الأصل مصدر وقت الشيء أوقته حددته وقدرته حتى لو أمكن أن يقيد ويؤرخ بما يقارن الفعل من الحوادث غير الزمان استغنى عن الزمان نحو قمت عند خروج الأمير وعند قدوم الحاج وعند موت فلان لكن ذلك لا يشترك في علمه ومعرفته كالاشتراك في معرفة يوم الجمعة وشهر رمضان ونحوه ولا يطرد مع أنه أيضا توقيت وتاريخ بالزمان في الحقيقة فإن قولك عند خروج الأمير وقدوم الحاج إنما تريد به هذه الأوقات والأزمنة ولكن المعلوم عند جميع المخاطبين إنما هي أجزاء الزمان كالشهر والسنة واليوم وأبعاض ذلك وإذا عرف ذلك فلا معنى لقولك زيد اليوم وعمرو غدا لأن الجثث ليست بأحداث فتحتاج إلى تقييدها بما يقارنها وإلى تاريخها بحدث معها فما ليس بحدث لا معنى لتقييده بالحدث الذي هو الزمان ________________________________________ وعلى هذا فإذا أردت حدوث الجثة ووجودها فهو أيضا حادث فيجوز أن يخبر عنه بالزمان إذا كان الزمان يسع مدتها تقول نحن في المائة الثامنة وكان الأوزاعي في المائة الثانية والإمام أحمد في المائة الثالثة ونحو هذا وعلى هذا إذا قلت الليلة الهلال صح ولا حاجة بك إلى تكليف إضمار الليلة طلوع الهلال فإن المراد حدوث هلال ذلك الشهر فجرى مجرى الأحداث وكذلك تقول الورد في ايار وتقول الرطب في شهر كذا وكذا ومنه قول الشاعر أكل عام نعم يحوونه ... يلقحه قوم وتنتجونه ومثله قولك البدر ليلة رابع عشرة ولا حاجة إلى تكلف طلوع البدر بل لا يصح هذا التقدير لأن السائل إذا سألك أي وقت البدر فإنه لم يسألك عن الطلوع إذ هو لا يجهله وإنما يسألك عن ذات البدر ونفسه فقولك هو ليلة أربع عشرة تريد به أن ليلة أربع عشرة هي ليلة كونه بدرا لا ليلة طلوعه فتأمله وعلى هذا فلا يسوغ هذا الاستعمال حتى يكون الزمان يسع ما قيدته به من الحدث والجثة التي في معناه فلو كان الزمان أضيق من ذلك لم يجز التقييد به لأن الوقت لا يكون أقل من المؤنث فلا تقول نحن في يوم السبت وإن صح أن تقول نحن في المائة الثامنة ولا تقول الحجاج في يوم الخميس وتقول الحجاج في زمن بني أمية والله اعلم إشكالات إعرابية قوله عز وجل إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وقال تعالى سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم وقوله تعالى سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون مما أشكل إعرابه على فحول العربية واختلفت أقوالهم في ذلك فقال صاحب الكشاف سواء اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر ومنه قوله تعالى تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم وقوله تعالى في أربعة أيام سواء للسائلين بمعنى مستوية وارتفاعه على أنه خبر لأن وأنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع رفع على الفاعلية ________________________________________ كأنه قيل إن للذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه كما تقول إن زيدا مختصم أخوه وابن عمه أو يكون أنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع الابتداء وسواء خبرا مقدما بمعنى سواء عليهم إنذارك وعدمه والجملة خبر لأن فإن قلت الفعل أبدا خبر لا مخبر عنه فكيف صح الإخبار عنه في هذا الكلام قلت هو من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعني وقد وجدنا العرب يميلون في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلا بينا من ذلك قولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل والهمزة وأم مجردتان بمعنى الاستواء وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأسا قال سيبويه جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء في قولك اللهم اغفر لنا أيتها العصابة يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام كما أن ذاك جرى على صورة النداء ولا نداء ومعنى الاستواء استواؤهما في علم المستفهم عنهما لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن إما الإنذار وإما عدمه ولكن لا بعينه وكلاهما معلوم بعلم غير معين قلت هذا قوله وقول طائفة من النحاة وقد اعترض على ما ذكراه بأنه يلزم القائل به أن يجيز سواء قمت أم قعدت دون أن تقول علي أو عليك وأنه يجيز سيان أذهب زيد أم جلس ويتفقان أقام زيد أم قعد وما كان نحو هذا مما لا يجوز في الكلام ولا روي عن أحد لأن التقدير الذي قدروه منطبق على هذا وقالت طائفة أخري سواء ههنا مبتدأوالجملة الاستفهامية في موضع الخبر وإنما قالوا هذا وإن كان سواء نكرة لأن الجملة لا تكون في موضع المبتدأأبدا ولا في موضع الفاعل وأورد عليهم أن الجملة إذا وقعت خبرا فلا بد فيها من ضمير يعود على المبتدأفأين الضمير العائد على سواء ههنا فأجابوا عن هذا بأن سواء وإن كان مبتدأ في اللفظ فهو في المعنى خبر لأن المعنى سواء عليهم الإنذار وعدمه ________________________________________ قالوا ولا يلزم أن يعود من المبتدأضمير على الخبر فلما كان سواء خبر في المعنى دون اللفظ روعي المعنى ونظير هذا قولهم ضربي زيدا قائما فإنه لم يعد على ضربي ضمير من الحال التي سدت مسد الخبر لأن معناه اضرب زيدا أو ضربت زيدا والفعل لا يعود عليه ضمير فكذلك ما هو في معناه وقوته ونظيره أيضا أقائم أخوك لان اخوك وإن سد مسد الخبر فإنه فاعل في المعنى وقائم معناه معنى الفعل الرافع للفاعل فروعيت هذه المعاني في هذه المواضع وهجر فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى وبقي حكم الابتداء مقتضيا للرفع لفظا والمبتدأ متضمن لمعنى يخالف معنى الابتداء فحكم لذلك المعنى فلم يعد على اللفظ ضمير وحكم للفظ المبتدأ بحكم الابتداء فارتفع فهذا قول هذه الطائفة الأخرى واعترض عليه بعد الاعتراف بحسنه وقوته بأن العرب لم تنطق بمثل هذا في سواء حتى قرنته بالضمير المجرور ب على نحو سواء عليكم وسواء عليهم وسواء علي فإن طردوا ما أصلوه في سواء سواء قرن ب على أم لم يقرن فليس كذلك وإن خصوه بالمقرون ب على فلم يبينوا سر اختصاصه بذلك وقالت طائفة ثالثة منهم السهيلي وهذا لفظه لما كانت العرب لا تقول سيان أقمت أم قعدت ولا مثلان ولا شبيهان ولا يقولون ذلك إلا في سواء مع المجرور ب على وجب البحث عن السر في ذلك وعن مقصد القوم في هذا الكلام وعن المساواة بين أي شيء هي وفي أي الصفات هي من الأسمين الموصوفين بالتساوى فوجدنا معنى الكلام ومقصوده إنما هو تساوي عدم المبالاة بقيام أو قعود أو إنذار أو ترك إنذار ولو أرادوا المساواة في صفة موجودة في الذات لقالوا سواء الإقامة والشخوص كما يقولون سواء زيد وعمرو وسيان ومثلان يعنى استواءهما في صفة ذاتيهما فإذا أردت أن تسوى بين أمرين في عدم المبالاة وترك الالتفات لهما وأنهما قد هانا عليك وخفا عليك ________________________________________ قلت سواء علي أفعل أم لم يفعل كما تقول لا أبالي أفعل أم لم يفعل لأن المبالاة فعل من افعال القلب وأفعال القلب تلغي إذا وقعت بعدها الجمل المستفهم عنها أو المؤكد باللام تقول لا أدرى أقام زيد أم قعد وقد وقعت بعدها ليقومن زيد ولكن لا تلغى هذه الأفعال القلبية حتى يذكر فاعلها في اللفظ أو في المعنى فتكون حينئذ في موضع المفعول بالعلم ثم قال فصل إعراب سواء عليهم أأنذرتهم فإذا ثبت هذا ف سواء مبتدأ في اللفظ وعلى وعليكم أو عليهم مجرور في اللفظ وهو فاعل في المعنى المضمون من مقصود الكلام إذ قولك سواء علي في معنى لا أبالي وفي أبالي فاعل وذلك الضمير الفاعل هو المجرور ب على في المعنى لان الأمرين إنما استويا عليك في عدم المبالاة فإن لم تبال بهما لم تلتفت بقلبك إليهما وإذا لم تلتفت فكأنك قلت لا أدري أقمت أم قعدت فلما صارت الجملة الاستفهامية في معنى المفعول لفعل من افعال القلب لم يلزم أن يكون فيها ضمير يعود على ما قبلها إذ لبس قبلها في الحقيقة إلا معنى فعل يعمل فيها من المفعول ضمير على عاملة ولولا قولك علي وعليكم ما قوى ذلك المعنى ولا عمل في الجملة ولكن لما تعلق الجارية صار في حكم المنطوق به وصار المجرور هو الفاعل في المعنى كالفاعل في علمت ودريت وباليت ألا ترى كيف صار المجرور في قولهم له صوت غراب بمنزلة الفاعل في يصوت حتى كأنك نطقت بيصوت فنصب صوت غراب لذلك وإذا قلت عليه نوح الحمام رفعت نوح الحمام لأن الضمير المخفوض ب على ليس هو الفاعل الذي ينوح كما كان في قولك له صوت صوت غراب وكذلك المجرور في سواء عليهم هوالفاعل الذي في قولك لا يبالون ولا يلتفتون إذ المساواة إنما هي في عدم المبالاة والالتفات والمتكلم لا يريد غير هذا فصار الفاعل مذكورا والمبالاة مفعوله مقصوده فوقعت الجملة الاستفهامية مفعولا لها ________________________________________ قال ونظير هذه المسألة حذو القذة بالقذه قوله تعالى ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الأيات ليسجننه حتى حين فبدا فعل ماض فلا بد له من فاعل والجملة المؤكدة باللام لا تكون في موضع فاعل أبدا وإنما تكون في موضع المفعول ب علمت وأن لم يكن في اللفظ علموا ففي اللفظ ما هو معناه لأن قولهم بدا ظهر للقلب لا للعين وإذا ظهر الشيء للقلب فقد علم والمجرور من قوله لهم هو الفاعل فلما حصل معنى العلم وفاعله مقدما على الجملة المؤكدة باللام صارت الجملة مفعولا لذلك العلم كما تقول علمت ليقومن زيد ولام الابتداء وألف الاستفهام يكون قبلها أفعال القلب ملغاة فكذلك سواء عليهم أأنذرتهم رفعت الجملة الاستفهامية في المعنى بعد فعل من أفعال القلب وبعد فاعله كما تقدم بيان ذلك حين قدرناه بقولك لا يبالون فالواو في يبالون هو الفاعل والضمير في عليهم هو الفاعل في المعنى إلا ترى كيف اختص ب على من بين حروف الجر لأن المعنى إذا كان يرجع إلى عدم المبالاة فقد هان عليك الأمران وصار أخف شيء على من لا يبالهما ويلتفت إليهما فتأمله تجد المعاني صحيحة والفوائد كثيرة مزدحمة تحت هذا اللفظ الوجيز فلذلك نبت عنه كثير من الأفهام حتى تناقضت عليهم الأصول التي اصلوها واضطربوا في الجواب عن الاعتراضات التي التزموها مع ما غاب عنهم من فوائد هذه الآيات وإعجازها وسمانه هذه الكلمات على إيجازها ثم قال فصل الاستفهام مع أم فإن قيل ما بال الاستفهام في هذه الجملة والكلام خبر محض قلنا الاستفهام مع أم يعطي معنى التسوية فإذا قلت أقام زيد أم قعد فقد سويت بينهما في علمك فهذا جواب فيه مقنع ________________________________________ وإما التحقيق في الجواب فأن تقول الف الاستفهام لم يخلع منها ما وضعت له ولا عزلت عنه وإنما معناه علمت أقام زيد أم قعد أي علمت ما كنت أقول فيه هذا القول واستفهم عنه بهذا اللفظ فحكيت الكلام كما كان كما كان ليعلم المخاطب ما كان مستفهما عنه معلوم كما تقول قام زيد فترفعه لأنه فاعل ثم تقول ما قام زيد فيبقى الكلام كما كان وتبقى الجملة محكية على لفظها لتدل على أنه ما كان خبرا متوهما عند المخاطب فهو الذي نغى بحرف النفي ولهذا نظائر يطول ذكرها فكذلك قوله سواء عليهم أأنذرتهم لما لم يبالوا بالإنذار ولا نفعهم ولا ذخل في قلوبهم منه شيء صار في حكم المستفهم عنه أكان أم لم يكن فلا تسمى الألف ألف التسوية كما فعل بعضهم ولكن ألف الاستفهام بالمعنى الذي وضعت له ولم يزل عنه مجىء أنذرتهم و أدعوتهم بلفظ الماضي فإن قيل فلم جاء بلفظ الماضي أعني أنذرتهم وكذلك أدعوتموهم أم أنتم صامتون وأقام زيد أم قعد ولم يجىء بلفظ الحال ولا المستقبل فالجواب من وجهين أحدهما أن في الكلام معنى الشرط والشرط يقع بعد المستقبل بلفظ الماضي تقول إن قام زيد غذا قمت وههنا يتعذر ذلك المعنى كأنك قلت إن قام زيد أو قعد لم أباله ولا ينتفع القوم إن أنذرتهم أم لم تنذرهم فلذلك جاء بلفظ الماضي وقد قال الفارسي قولا غير هذا ولكنه قريب منه في اللفظ قال إن ألف الاستفهام تضارع إن التي للجزاء لأن الاستفهام واجب كما أن الشرط ليس بحاصل إذا عدم المشروط فهذه العبارة فاسدة من وجوه يطول ذكرها ولو رأي المعنى الذي قدمناه لكان أشبه على أنه عندي مدخول أيضا لأن معنى الشرط يطلب الاستقبال خاصة دون الحال والماضي وقوله سواء عليكم أدعوتموهم وسواء عليهم أأنذرتهم لا تختص بالاستقبال بل المساواة في عدم المبالاة موجودة في كل حال بل هي أظهر في فعل الحال ولا يقع بعد حرف الشرط فعل حال بوجه ________________________________________ والتحقيق في الجواب أن تقول قد أصلنا في نتائج الفكر أصلا وهو أن الفعل لم يشتق من المصدر مضافا إلا ليدل على كون الاسم مخبرا عنه أعني الفاعل الذي كان المصدر مضافا إليه ولم تختلف أبنيته بعدما اشتق من المصدر إلا لاختلاف أحوال الحدث من مضي أو استقبال فإن كان قصد المتكلم أن لا يقيد الحدث بزمان دون زمان ولا بحال استقبال دون حال مضي بل يجعله مطلقا جاء بلفظ الماضي الذي لا زوائد فيه ليكون أخف على اللسان وأقرب إلى لفظ الحدث المشتق منه ألا ترى أنهم يقولون لا أفعله ما لاح برق وما طار طائر بلفظ الماضي خاصة لما أرادوا مدة مطلقة غير مقيدة وأنه لا يفعل هذا الشيء في مدة لوح البرق وطيران الطائر ونحو ذلك فلم يجاوزوا لفظ الماضي لأنهم لا يريدون استقبالا ولا حالا على الخصوص فإن قلت ولا يريدون أيضا ماضيا فكيف جاء بلفظ الماضي قلنا قد قرن معه لا أكلمه ولا أفعله فدل على أن قوله ما لاح برق لا يريد به لوحا قد انقضى وانقطع إنما يريد مقارنة الفعل المنفي للفعل الآخر في المدة على الإطلاق والدوام فليس في قوله ما لاح برق إلا معنى اللوح خاصة غير أنه ترك لفظ المصدر ليكون البرق مخبرا عنه كما تقدم فمتى أردت هذا ولم ترد تقييدا بزمان فلفظ الماضي أحق وأولى وكذلك قوله تعالى سواء عليهم أأنذرتهم أضاف الإنذار إلى المخاطب المخبر عنه فاشتق من الإنذار الفعل ليدل على أن المخاطب فاعل الإنذار وترك الفعل بلفظ الماضي لأنه مطلق في الزمان كله وأن القوم لم يبالوا بهذا ولا هم في حال مبالاة فلم يكن لإدخال الزوائد الأربع معنى إذ ليس المراد تقييد الفعل بوقت ولا تخصيصه بحال فإن قلت لفظ الماضي يخصصه بالانقطاع ________________________________________ قلت حدث حديثين امرأة وفيما قدمناه ما يغني عن الجواب مع ما في قوله سواء عليهم أأنذرتهم من ثبوت هذه الصفة فيهم وحصولها في الحال وفي المآل فلا تقول سواء ثوباك أو غلاماك إذا كان الاستواء فيما مضى وهما الآن مختلفان فهذه القرينة تنفي الانقطاع الذي يتوهم في لفظ المضي كما كان لفظ الحال في قولك لا أكلمه ما دامت السموات والأرض بنفي الانقطاع المتوهم في دام وإذا انتفى الانقطاع وانتفت الزوائد الأربع بقي الحدث مطلقا غير مقيد في المسألتين جميعا فتأمل هذا تجده صحيحيا فصل واو الثمانية الكلام على واو الثمانية قولهم إن الواو تأتي للثمانية ليس عليه دليل مستقيم وقد ذكروا ذلك في مواضع فلنتكلم عليها واحدا واحدا الموضع الأول قوله تعالى التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر فقيل الواو في والناهون واو الثمانية لمجيئها بعد استيفاء الأوصاف السبعة وذكروا في الآية وجوها آخر منها أن هذا من التفنن في الكلام أن يعطف بعضه ويترك عطف بعضه ومنها أن الصفات التي قبل هاتين الصفتين صفات لازمة متعلقة بالعامل وهاتان الصفتان متعديتان متعلقتان بالغير فقطعتا عما قبلهما بالعطف ومنها أن المراد التنبيه على أن الموصوفين بالصفات المتقدمة هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وكل هذه الأجوبة غير سديدة وأحسن ما يقال فيها أن الصفات إذا ذكرت في مقام التعداد فتارة يتوسط بينها حرف العطف لتغايرها في نفسها وللإيذان بأن المراد ذكر كل صفة بمفردها وتارة لا يتوسطها العاطف لاتحاد موصوفها وتلازمها في نفسها وللإيذان بأنها في تلازمها كالصفة الواحدة وتارة يتوسط العاطف بين بعضها ويحذف مع بعض بحسب هذين المقامين ________________________________________ فإذا كان المقام مقام تعداد الصفات من غير نظر إلى جمع أو انفراد حسن إسقاط حرف العطف وإن أريد الجمع بين الصفات أوالتنبيه على تغايرها حسن إدخال حرف العطف فمثال ألأول التائبون العابدون الحامدون وقوله مسلمات مؤمنات قانتات تائبات ومثال الثاني قوله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن وتأمل كيف اجتمع النوعان في قوله تعالى حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول فأتي بالواو في الوصفين الأولين وحذفها في الوصفين الآخرين لأن غفران الذنب وقبول التوب قد يظن أنهما يجريان مجرى الوصف الواحد لتلازمهما فمن غفر الذنب قبل التوب فكان في عطف أحدهما على الآخر مايدل على أنهما صفتان وفعلان متغايران ومفهومان مختلفان لكل منهما حكمه أحدهما يتعلق بالإساءة والإعراض وهو المغفرة والثاني يتعلق بالإحسان والإقبال على الله تعالى والرجوع إليه وهو التوبة فتقبل هذه الحسنة وتغفر تلك السيئة وحسن العطف ههنا هذا التغاير الظاهر وكلما كان التغاير أبين كان العطف أحسن ولهذا جاء العطف في قوله هو الأول والآخر والظاهر والباطن وترك في قوله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن وقوله الخالق الباريء المصور وأما شديد العقاب ذي الطول فترك العطف بينهما لنكته بديعة وهي الدلالة على اجتماع هذين الأمرين في ذاته سبحانه وأنه حال كونه شديد العقاب فهو ذو الطول وطوله لا ينافى شدة عقابه بل هما مجتمعان له بخلاف الأول والآخر فإن الأولية لا تجامع الآخرية ولهذا فسرها النبي بقوله أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء فأوليته أزليته وآخريته أبديته فإن قلت فما تصنع بقوله والظاهر والباطن فإن ظهوره تعالى ثابت مع بطونه فيجتمع في حقه الظهور والبطون والنبي الظاهر بأنه الذي ليس فوقه شيء والباطن بأنه الذي ليس دونه شيء وهذا العلو والفوقية مجامع لهذا القرب والدنو والإحاطة ________________________________________ قلت هذا سؤال حسن والذي حسن دخوله الواو ههنا أن هذه الصفات متقابلة متضادة وقد عطف الثاني منها على الأول للمقابلة التي بينهما والصفتان الأخريان كالأوليين في المقابلة ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة الآخر إلى الأول فكما حسن العطف بين الأوليين حسن بين الأخريين فإذا عرف هذا فالآية التي نحن فيها يتضح بما ذكرناه معنى العطف وتركه فيها لأن كل صفة لم تعطف على ما قبلها فيها كان فيه تنبيه على أنها في اجتماعها كالوصف الواحد لموصوف واحد فلم يحتج إلى عطف فلما ذكر الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وهما متلازمان مستمدان من مادة واحدة حسن العطف ليتبين أن كل وصف منهما قائم على حدته مطلوب تعيينه لا يكتفي فيه بحصول الوصف الآخر بل لا بد أن يظهر أمره بالمعروف بصريحة ونهيه عن المنكر بصريحة وأيصا فحسن العطف ههنا ما تقدم من التضاد فلما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضدين أحدهما طلب الإيجاد والآخر طلب الإعدام كانا كالنوعين المتغايرين المتضادين فحسن لذلك العطف الموضع الثاني قوله تعالى عسى ربه إن طلقكن أن بيدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات إلى قوله تعالى ثيبات وأبكارا فقيل هذه واو الثمانية لمجيئها بعد الوصف السابع وليس كذلك ودخول الواو ههنا متعين لأن الأوصاف التي قبلها المراد اجتماعها في النساء وأما وصفا البكارة والثيوبة فلا يمكن اجتماعهما فتعين العطف لأن المقصود أنه يزوجه بالنوعين الثيبات والأبكار الموضع الثالث قوله تعالى سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قيل المراد إدخال الواو ههنا لأجل الثمانية وهذا يحتمل أمرين أحدهما هذا والثاني أن يكون دخول الواو ههنا إيذانا بتمام كلامهم عند قولهم سبعة ثم ابتدأ قوله وثامنهم كلبهم وذلك يتضمن تقرير قولهم سبعة كما إذا قال لك زيد فقيه فقلت ونحوي وهذا اختيار السهيلي ________________________________________ وقد تقدم الكلام عليه وأن هذا إنما يتم إذا كان قوله وثامنهم كلبهم ليس داخلا في المحكي بالقول والظاهر خلافه والله أعلم الموضع الرابع قوله تعالى وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها فأتى بالواو لما كانت أبواب الجنة ثمانية وقال في النار حتى أذا جاءونا فتحت أبوابها لما كانت سبعة وهذا في غاية البعد ولا دلالة في اللفظ على الثمانية حتى تدخل الواو لأجلها بل هذامن باب حذف الجواب لنكتة بديعة وهي أن تفتيح أبواب النار كان حال موافاة أهلها ففتحت في وجوههم لأنه أبلغ في مفاجأة المكروه وأما الجنة فلما كانت ذات الكرامة وهي مأدبة الله وكان الكريم إذا دعا أضيافه إلى داره شرع لهم أبوابها ثم استدعاهم إليها مفتحة الأبواب أتى بالواو العاطفة ههنا الدالة على أنها جاءوها بعدما فتحت أبوابها وحذف الجواب تفخيما لشأنه وتعظيما لقدرة كعادتهم في حذف الأجوبة وقد أشبعنا الكلام على هذا فيما تقدم والله اعلم فصل اتصال لولا بضمير متصل مذهب سيبويه أن لولا إذا اتصل بها الضمير المتصل نحو لولا ه ولولاك كان مجرورا وخالفه الأخفش وقال الأخفش والكوفيون هذه الضمائر مما وقع المضمر المتصل موقع المنفصل كما وقع المنفصل موقع المتصل في قولهم ما أنا كأنت ولا أنت كأنا وقد وقع المتصل موقع المنفصل في قوله وما نبالي إذا ما كنت جارتنا ... أن لا يجاورنا إلاك ديار وقال المبرد بقول الكوفيين فأما حجة سيبويه فهي الاستعمال قال الشاعر وكم موطن لولاي طحت كما هوى ... بإجرامه من قلة النيق منهوي وقال الآخر لولاك هذا العام لم أحجج ... وقال آخر لولاك لم يعرض لأحسابنا حسن ... واحتج سيبويه على أن الضمير هنا مجرور بأن هذه الضمائر التي هي الهاء والكاف والياء إما أن تكون ضمائر نصب أو ضمائر جر ومحال أن تكون ضمائر رفع ولا يجوز أن تكون ضمائر نصب لأن الحروف إذا اتصل بها ياء المتكلم وكانت في موضع ________________________________________ نصب اتصل بها نون الوقاية نحو إني وأنني وكأني وكأنني فإن أدى ذلك إلى اجتماع مثلين جاز حذف نون الوقاية فيقال إني وكأني ولكني فلو كانت الياء ضمير نصب لقالوا لولاني كما قالوا ليتني ولم يات ذلك فتعين أن تكون ضمير جر فإذا ثبت هذا في الياء فكذلك في الكاف والهاء وأما الكوفيين فاحتجوا بأن الظاهر لا يقع بعد هذه الحروف إلا مرفوعا فكذلك المضمر وقد وجد ذلك في المنفصل فيكون المتصل كذلك ولكن هذه الضمائر المتصلة وقعت موقع الضمائرالمنفصلة كما يقع المنفصل موقع المتصل فهما يتعاقبان ويتعاوضان فقالوا ما أنا كأنت فأوقعوا الرفع موقع ضمير الجر فلذلك قالوا لولاك فأوقعوا ضمير الجر موقع ضمير الرفع فالتغيير وقع في الصيغة لا في الإعراب قالوا وقد ثبت أن لولا لا تعمل في الظاهر فكيف تعمل في المضمر وإجاب البصريون عن هذا بأن الأصل أن الضمائر لا يقع بعضها موقع بعض إلا للضرورة في الشعر وبأنه يستلزم مخالفة الأصل من وجهين أحدهما إيقاع المتصل موقع المنفصل والثاني إيقاع المجرور موقع المرفوع وهذا تغيير مرتين فالتغينير في لولا بكونها حرف جر في هذا الموضع أسهل قالوا وأما عملها في المضمر خاصة فليس بمستنكر عمل العامل في بعض الأسماء دون بعض فهذه لدن لا تعمل إلا في غدوة وحدها فإذا كان العامل يعمل في بعض الظاهرات دون بعض وهي جنس واحد فلأن يعمل في المضمر دون الظاهر وهما جنسان أولى وقد رد بعض النحاة هذا الاستعمال جملة وقال هو لحن واختلف على المبرد فقيل إن هذا مذهبه وقيل إن مذهبه قول الكوفيين والله اعلم فصل مذهب النحاة في المستثنى اختلف في المستثنى من أي شيء هو مخرج فذهب الكسائي إلي أنه مخرج من المستثنى منه وهو المحكوم عليه فقط فإذا قلت جاء القوم إلا زيدا فزيدا مخرج من القوم فكأنك أخبرت عن القوم الذين ليس فيهم زيد بالمجي وأما هو فلم تخبر عنه بشيء بل سلبت الإخبار عنه لا أنك أخبرت عنه بسلب المجيء ________________________________________ والفرق بين الأمرين واضح وعلى قوله فالإسناد وقع بعد الإخراج وذهب الفراء إلى أنه مخرج من الحكم نفسه وذهب الأكثرون إلى أنه مخرج منهما معا فله اعتباران أحدهما كونه مستثنى وبهذا الاع4تبار هو مخرج من الاسم المستثنى منه والثاني كونه محكوما عليه بضد حكم المستثنى منه وبهذا الاعتبار هو مخرج من حكمه والتحقيق في ذلك أنه مخرج من الاسم المقيد بالحكم فهو مخرج من اسم مقيد لا مطلق الاحتجاج لكل مذهب ونذكر هنا ما احتج به لهذه المذاهب وما تعقب به على الاحتجاج احتج الكسائي بقوله تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبي ووجه الاستدلال أن الاستثناء لو كان مخرجا من الحكم لكان قوله أبي تكرار لأنه قد علم بالاستثناء وأجيب عن هذا بأنه تأكيد واعترض على هذا الجواب بأن المعاني المستفادة من الحروف لا تؤكد فلا يقال ما قام زيد نفيا وهل قام عمرو استفهاما ولكن قام زيد استدراكا ونحوه لأن الحرف وضع على الاختصار ولهذا عدل عن الفعل إليه فتأكيده بالفعل ينافي المقصود بوضعه والتحقيق في الجواب أن ابي أفاد معنى زائدا وهو ان عدم سجوده استند إلى إبانه وهو أمر وجودي اتصف به نشأعنه الذنب فلم يكن ترك سجوده لعجز ولا لسهو ولا لغفلة بل كان إباء واستكبارا ومعلوم أن هذا لا يفهم من مجرد الاستثناء وإنما المفهوم منه عدم سجوده وأما الحامل على عدم السجود فلا يدل الاستثناء عليه فصرح بذكره ونظير هذا الاحتجاج والاعتراض والتقدير سواء قوله تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا ابليس لم يكن من الساجدين فإن نفي كونه من الساجدين أخص من نفي السجود عنه لأن نفي الكون يقتضي نفي الأهلية والاستعداد فهو أبلغ في الذم من أن يقال لم يسجد ثم الذي يدل على بطلان هذا المذهب وجوه منها أنه لو كان ما بعد إلا سكوتا عن حكمه لم يكن قولنا لا إله إلاالله توحيدا واللازم باطل فالملزوم مثله والمقدمتان ظاهرتان ________________________________________ ومنها أن الاستئناء المنقطع لا يتصور الإخراج فيه من الاسم لعدم دخوله فيه فكذلك المتصل ومنها أنه لو كان الإخراج من الاسم وحده لما صح الاستثناء من مضمون الجملة كقولك زيد أخوك إلا أنه ناء عنك وعمرو صديقك إلا أنه يواد عدوك ونحو هذا ومنها أنه لا يوجد في كلام العرب قام القوم إلا زيدا فإنه قام ولو كان الإخراج من الاسم وحده والمستثنى مسكوت عنه لجار إثبات القيام له كما جاز نفيه عنه فإن السكوت عن حكمه لا يفيد نفي القيام عنه ولا إثباته فلا يكون واحد منهما مناقضا للاسئثناء وإذا تبين بطلان المذهبين صح مذهب مخرج من الحكم لا من الاسم وكذلك الباب كله ومأجيب عن ذلك بأن المستثنى داخل مع الاسم المحكوم عليه تقديرا إذ يقدر ألأول شاملا بوجه ليصح الاستثناء ولمن نصر قول الكسائي أيضا أن يجيب بهذا الجواب وإذا تبين بطلان المذهبين صح مذهب الجمهور أن الإخراج من الاسم والحكم معا فالاسم المستثنى مخرج من المستثنى منه وحكمه مخرج من حكمه وأن الممتنع إخراج الاسم المستثنى من المستثنى منه مع دخوله تحته في الحكم فإنه لا يعقل الإخراج حينئذ البتة فإنه لو شاركه في حكمه لدخل معه في الحكم والاسم جميعا فكان استثناؤه غير معقول ولا يقال إن معنى الاستثناء أن المتكلم تارك للإخبار عنه بنفي أو إثبات مع احتمال كل واحد منهما لأنا نقول هذا باطل من وجوه عديدة منها أنك اذا قلت ما قام إلا زيد وما ضربت إلا عمرا وما مررت إلا بزيد ونحوه من الاستثناءات المفرغات لم يشك أحد في أنك أثبت هذه الأحكام لما بعد إلا كما أنك سلبتها عن غيره بل إثباتها للمستثني أقوى من سلبها عن غيره ويلزم من قال إن حكم المستثنى مسكوت عنه أن لا يفهم من هذا إثبات القيام والضرب والمرور لزيد وهو باطل قطعا ________________________________________ ومنها أنه لو كان مسكوتا عنه لم يدخل الرجل في الإسلام بقوله لا إله إلا الله لأنه على هذا التقدير الباطل لم يثبت الإلهية لله وهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفي الإلهية عما سوى الله وإثباتها له بوصف الاختصاص فدلالتها على الإثبات أعظم من دلالة قولنا الله إله ولا يستريب أحد في هذا البتة ومنها أنه لو ادعى عليه بمائة درهم فقال له عندي مائة إلا ثلاثة دراهم فإنه ناف لثبوت المستثنى في ذمته ولو كان ساكتا عنه لكان قد أقر بالبعض ونكل عن الجواب عن البعض وهذا لم يقله عاقل ولو كان حكم المستثنى السكوت لكان هذا ناكلا ومنها أن المفهوم من هذا عند أهل التخاطب نفي الحكم عن المستثنى وإثباته للمستثنى منه ولا فرق عندهم بين فهم هذا النفي وذلك الإثبات البتة وذلك جرى عندهم مجرى فهم الأمر والنهي النفي والاستفهام وسائر معاني الكلام فلا يفهم سامع من قول الله عز وجل فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما أنه أخبر عن تسع مائة عام وخمسين عاما وسكت عن خمسين فلم يخبر عنها بشيء ولا يفهم أحد قط إلا أن الخمسين لم يلبثها فيهم وكذلك قوله تعالى قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين لا يفهم منها إلا أن المخلصين لا يتمكن من إغوائهم وكذلك سائر الاستثناءات ومنها أن القائل إذا قال قام القوم إلا زيدا لم يكن كلامه صدقا إلا بقيامهم وعدم قيام زيد ولهذا من أراد تكذيبه قال له كذبت بل قام زيد ولو كان زيد مسكوتا عنه لم يكن هذا تكذيبا له والعقلاء قاطبة يعدونه تكذيبا ويعدون خبره كاذبا حيث يعدون الإخبار بخلاف ما الشيء عليه كذبا ________________________________________ إذ عرف هذا فبه بنحل الإشكال الذي أورده بعض المتاخرين على الاستثناء وقال الاستثاء مشكل التعقل قال لأنك إذا قلت جاء القوم إلا زيدا فإما أن يكون زيد داخلا في القوم أم لا فإن كان غير داخل لم يستقم الاستثناء لأنه إخراج وإخراج ما لم يدخل غير معقول وإن كان داخلا فيهم لم يستقم إخراجه للتناقض لأنك تحكم عليه بحكمين متناقضين ولهذه الشبهة قال القاضي وموافقوه إن عشرة إلا ثلاثة مرادف لسبعة فهما اسمان ركبا مع الحرف وجعلا بإزاء هذا العدد فإن أراد القاضي أن المفهوم منهما واحد فصحيح وإن أراد التركيب النحوى فباطل والجواب عن هذا الإشكال أنه لا يحكم بالنسب إلا بعد كمال ذكر المفردات فالإسناد إنما وقع بعد الإخراج فالقائل إذا قال قام القوم إلا زيد ا فها هنا خمسة أمور أحدها القيام بمفردة الثاني القوم بمفردهم الثالث زيد بمفرده الرابع النسبة بين المفردين الخامس الأداة الدالة على سلب النسبة عن زيد فزيد دخل في القوم على تقدير عدم الإسناد وخرج منهم على تقدير الإسناد ثم أسند بعد إخراجه فدخوله وخروجه باعتبارين غير متنافيين فإنه دخل باعتبار الإفراد وخرج باعتبار النسبة فهو من القوم غير محكوم عليهم وليس من القوم المقيدين بالحكم عليهم هذا إيضاح هذا الإشكال وحله والله الموفق فصل جعل المستثني تابعا لما قبله المستثني إذا جعل تابعا لما قبله فمذهب البصريين أنه بدل وقد نص عليه سيبويه ومذهب الكوفيين أنه عطف فأما القول بالبدل فعليه إشكالان أحدهما أنه لو كان بدلا لكان بدل بعض إذ يمتنع أن يكون بدل كل من كل وبدل البعض لا بد فيه من ضمير يعود على المبدل منه نحو قبضت المال نصفه ________________________________________ الثاني أن حكم البدل حكم المبدل منه لأنه تابع يشارك متبوعه في حكمه وحكم المستثنى ههنا مخالف لحكم المستثى منه فكيف يكون بدلا وأجيب عن الأول بأن إلا وما بعدها من تمام الكلام الأول وإلا قرينة مفهمة أن الثاني قد كان تناوله الأول فمعلوم أنه بعض الأول فلا يحتاج فيه إلى رابط بخلاف قبضت المال نصفه وأجيب عنه أيضا بأن البدل في الاستثناء قسم على حدته ليس من تلك الأبدال التي تبينت في غير الاستثناء وأجيب عنه أيضا بأن البدل في الاستثناء إنما المراعى فيه وقوعه مكان المبدل منه فإذا قلت ما قام أحد إلا زيد ف إلا زيد هو البدل وهو الذي يقع موقع أحد فليس زيد وحده بدلا من أحد فإلا زيد هو الأحد الذي نفيت عنه القيام فقولك إلا زيد هو بيان ألأحد الذي عنيت وعلى هذا فالبدل في الاستثناء أشبه ببدل الشيء من الشيء من بدل البعض من الكل وأما الإشكال الثاني فقال السيرافي مجيبا عنه هو بدل منه في عمل العامل فيه وتخافهما بالنفي والإيجاب لا يمنع البدلية لأن مذهب البدلية أن يجعل الأول كأنه لم يذكر والثاني في موضعه وتتخالف الصفة والموصوف نفيا وإثباتا نحو مررت برجل لا كريم ولا لبيب ومعنى هذا الجواب أنه إنما يشترط في البدل أن يحل محل الأول في العامل خاصة وأما أن يكون حكمهما واحدا فلا وأما القول الكوفي أنه عطف فإنهم جعلوا إلا من حروف العطف في هذا الباب خاصة والحامل لهم على ذلك وجود المخالفة المذكورة ________________________________________ قال ثعلب كيف يكون بدلا وهو موجب ومتبوعة منفي والعطف توجد فيه المخالفة في المعنى كالمعطوف ب بل ولكن وهذا ممكن خال من التكلف ولا يقال إنه يستلزم الاشتراك في الحروف وهو مذهب ضعيف لأنا نقول ليس هذا من الاشتراك في الحروف فإن إلا للإخراج على بابها وإنما سموا هذا النوع من الإخراج عطفا على نحو تسميتهم الإخراج ب بل ولكن عطفا والاشتراك المردود قول من يقول إن إلا تكون بمعنى الواو لكن قد رد قولهم بالعطف بأن إلا لو كانت عاطفة لم تباشر العامل في نحو ما قام إلا زيد لأن حروف العطف لا تلي العوامل ويجاب عن هذا بأن إلا التي باشرت العامل ليست هي العاطفة فليس ههنا عطف ولا بدل البتة وإنما الكلام فيما إذا كان ما بعد إلا تابعا لما قبلها قال ابن مالك ولمقوي العطف أن يقول تخالف الصفة والموصوف كلا تخالف لأن نفي الصفتين إثبات لضديهما فإذا قلت مررت برجل لا كريم ولا شجاع فكأنك قلت بخيل جبان وليس كذلك تخالف المستثني والمستثنى منه فإن جعل زيد بدلا من أحد إذا قيل ما فيها أحد إلا زيد يلزم منه عدم النظير إذ لا يدل في غير محل النزاع إلا وتعلق العامل به مساو لتعلقه بالمبدل منه والأمر فيما قام أحد إلا زيد بخلاف ذلك فيضعف كونه بدلا إذ ليس في الإبدال ما يشبهه وإن جعل معطوفا لم يلزم من ذلك مخالف المعطوفات بل يكون نظير المعطوف ب لا وبل ولكن فكان جعله معطوفا أولى من جعله بدلا قلت ويقوى العطف أيضا أنك تقول لا أحد في الدار إلا عبد الله فعبد الله لا يصح أن يكون بدلا من أحد فإنه لا يحل محله ________________________________________ فإن قيل هذا جائز على توهم ما فيها أحد إلا عبد الله إذ المعنى واحد فأمكن أن يحل أحدهما محل الأخر قيل هذا كاسمه وهم والحقائق لا تبني على الأوهام وأجاب ابن عصفور عن هذا بأن قال لا يلزم أن يحل عبد الله محل أحد الواقع بعد لا لأن المبدل إنما يلزم أن يكون على نية تكرار العامل وقد حصل ذلك كله في هذه المسألة وأمثالها ألا ترى أن عبد الله بدل من موضع لا أحد فيلزم أن يكون العامل فيه الابتداء كما أن العامل في موضع لا أحد الابتداء وبلا شك أنك إذا أبدلته منه كان مبتدا في التقدير وخبره محذوف وكذلك حرف النفي لدلالة ما قبله عليه والتقدير لا أحد فيها إلا عبد الله ثم حذف ذلك وعللوه بعدم صحة حلول الثاني محل الأول فدل على أنه مشترط أهـ { بدائع الفوائد حـ 3 صـ 513 ـ صـ 569 } ________________________________________ قوله تعالى { وهو الذي يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه إلى بلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون فأخبر سبحانه أنهما إحياءان وأن أحدهما معتبر بالآخر مقيس عليه ثم ذكر قياسا آخر أن من الأرض ما يكون أرضا طيبة فإذا أنزلنا عليها الماء أخرجت نباتها بإذن ربها ومنها ما تكون أرضا خبيثة لا تخرج نباتها إلا نكدا أي قليلا غير منتفع به فهذه إذا أنزل عليها الماء لم تخرج ما أخرجت الأرض الطيبة فشبه سبحانه الوحي الذي أنزله من السماء على القلوب بالماء الذي أنزله على الأرض بحصول الحياة بهذا وهذا وشبه القلوب بالأرض إذا هي محل الأعمال كما أن الأرض محل النبات وأن القلب الذي لا ينتفع بالوحي ولا يزكو عليه ولا يؤمن به كالأرض التي لا تنتفع بالمطر ولا تخرج نباتها به إلا قليلا لا ينفع وأن القلب الذي آمن بالوحي وزكا عليه وعمل بما فيه كالأرض التي أخرجت نباتها بالمطر فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقله وتدبره بان أثره عليه فشبه بالبلد الطيب الذي يمرع ويخصب ويحسن أثر المطر عليه فينبت من كل زوج كريم والمعرض عن الوحي عكسه والله الموفق أهـ { إلام الموقعين حـ 1 صـ 165 ـ صـ 166 } قوله تعالى { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } فهذا صريخ في أن الحلال كان طيبا قبل حله وأن الخبيث كان خبيثا قبل تحريمه ولم يستفد طيب هذا وخبث هذا من نفس الحل والتحريم لوجهين اثنين أحدهما أن هذا علم من أعلام نبوته التي احتج الله بها على أهل الكتاب فقال ________________________________________ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوارة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم فلو كان الطيب والخبيث إنما استفيد من التحريم والتحليل لم يكن في ذلك دليل فإنه بمنزلة أن يقال يحل لهم ما بحل ويحرم عليهم ما يحرم وهذا أيضا باطل فإنه لا فائدة فيه وهو الوجه الثاني فثبت أنه أحل ما هو طيب في نفسه قبل الحل فكساه بأحلاله طيبا آخر فصار منشأ طيبه من الوجهين معا فتأمل هذا الموضع حق محاسنها وكمالها وبهجتها وجلالها وأنه من الممتنع في حكمة أحكم الحاكمين أن ترد بخلاف ما وردت به وأن الله تعالى يتنزه عن ذلك كما يتنزه عن سائر مالا يليق به أهـ { مفتاح دار السعادة حـ 2 صـ 6 ، 7 } ________________________________________ قوله تعالى { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون } فشبه سبحانه من أتاه كتابه وعلمه العلم الذي منعه غيره فترك العمل به واتبع هواه وآثر سخط الله على رضاه ودنياه على آخرته والمخلوق على الخالق بالكلب الذي هو من أخبث الحيوانات وأوضعها قدرا وأخسها نفسا وهمته لا تتعدى بطنه وأشدها شرها وحرصا ومن حرصه أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض بتشمم ويستروح حرصا وشرها ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزائه وإذا رميت إليه بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان وأرضاها بالدنايا والجيف القذرة المروحة أحب إليه من اللحم الطري والعذرة أحب إليه من الحلوى وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلبا واحدا يتناول منها شيئا إلا هر عليه وقهره لحرصه وبخله وشرهه ومن عجيب أمره وحرصه أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دنية وحال زرية نبحه وحمل عليه كأنه يتصور مشاركته له ومنازعته في قوته وإذا رأى ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورياسة وضع له خطمه بالأرض وخضع له ولم يرفع إليه رأسه ________________________________________ وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه بالكلب في حال لهثه سر بديع وهو أن الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه إنما كان لشدة لهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة فهو شديد اللهف عليها ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى قال ابن جريج الكلب منقطع الفؤاد لا فؤاد له إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث فهو مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع قلت مراده بانقطاع فؤاده أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك اللهث وهكذا الذي انسلخ من آيات الله لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا وترك اللهف عليها فهذا يلهف على الدنيا من قلة صبره عنها وهذا يلهث من قلة صبره عن الماء فالكلب من أقل الحيوانات صبرا عن الماء وإذا عطش أكل الثرى من العطش وإن كان فيه صبر على الجوع وعلى كل حال فهو من أشد الحيوانات لهثا يلهث قائما وقاعدا وماشيا وواقفا وذلك لشدة حرصه فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث فهكذا مشبهه شدة الحرص وحرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهف فإن حملت عليه ________________________________________ الموعظة والنصيحة فهو يلهف وإن تركته ولم تعظه فهو يلهف قال مجاهد وذلك مثل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به وقال ابن عباس إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها وإن تركته لم يهتد إلى خير كالكلب إن كان رابضا لهث وإن طرد لهث وقال الحسن هو المنافق لا يثبت على الحق دعي أو لم يدع وعظ أو لم يوعظ كالكلب يلهث طرد أو ترك وقال عطاء ينبح إن حملت عليه أو لم تحمل عليه وقال أبو محمد بن قتيبة كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا ا لكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال الصحة وحال المرض والعطش فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته وقال إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث ونظيره قوله سبحانه وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون وتأمل ما في هذا المثل من الحكم والمعنى فمنها قوله آتيناه آياتنا فأخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته فإنها نعمة والله هو الذي أنعم بها عليه فأضافها إلى نفسه ثم قال فانسلخ منها أي خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها وفارقها فراق الجلد يسلخ عن اللحم ولم يقل فسلخناه منها لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباع هواه ومنها قوله سبحانه فأتبعه الشيطان أي لحقه وأدركه كما قال في قوم فرعون فأتبعوهم مشرقين وكان محفوظا محروسا بآيات الله محمي الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئا إلا على غرة وخطفة فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته فكان من الغاوين العاملين بخلاف علمهم الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه كعلماء السوء ومنها أنه سبحانه قال ولو شئنا لرفعناه بها فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم فإن هذا كان من العلماء وإنما هي باتباع الحق وإيثاره وقصد مرضاة الله فإن هذا كان من أعلم أهل زمانه ولم يرفعه الله بعلمه ولم ينفعه به ________________________________________ فنعوذ بالله من علم لا ينفع وأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا شاء بما آتاه من العلم وإن لم يرفعه الله فهو موضوع لا يرفع أحد به رأسا فإن الخافض الرافع سبحانه خفضه ولم يرفعه والمعنى لو شئنا فضلناه وشرفناه ورفعنا قدره ومنزلته بالآيات التي آتيناه قال ابن عباس ولو شئنا لرفعناه بعمله بها وقالت طائفة الضمير في قوله لرفعناه عائد على الكفر والمعنى لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بما معه من آياتنا قال مجاهد وعطاء لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعصمناه وهذا المعنى حق والأول هو مراد الآية وهذا من لوازم المراد وقد تقدم أن السلف كثيرا ما ينبهون على لازم معنى الآية فيظن الظان أن ذلك هو المراد منها وقوله ولكنه أخلد إلى الأرض قال سعيد بن جبير ركن إلى الأرض وقال مجاهد سكن وقال مقاتل رضي بالدنيا وقال أبو عبيدة لزمها وأبطأ والمخلد من الرجال هو الذي يبطيء مشيته ومن الدواب التي تبقى ثناياه إلى أن تخرج رباعيته وقال الزجاج خلد وأخلد وأصله من الخلود وهو الدوام والبقاء ويقال أخلد فلان بالمكان إذا أقام به قال مالك بن نويرة ... بأبناء حي من قبائل مالك ... وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا ... قلت ومنه قوله تعالى يطوف عليهم ولدان مخلدون أي قد خلقوا للبقاء لذلك لا يتغيرون ولا يكبرون وهم على سن واحد أبدا وقيل هم المقرطون في آذانهم والمسورون في أيديهم وأصحاب هذا القول فسروا اللفظة ببعض لوازمها وذلك أمارة التخليد على ذلك السن فلا تنافي بين القولين وقوله واتبع هواه قال الكلبي اتبع مسافل الأمور وترك معاليها وقال أبو روق اختار الدنيا على الآخرة وقال عطاء أراد الدنيا وأطاع شيطانه وقال ابن دريد كان هواه مع القوم يعني الذين حاربوا موسى وقومه وقال يمان اتبع امرأته لأنها هي التي حملته على ما فعل ________________________________________ فإن قيل الاستدراك بلكن يقتضي أن يثبت بعدها ما نفي قبلها أو ينفي ما أثبت كما تقول لو شئت لأعطيته لكني لم أعطه ولو شئت لما فعلت كذا لكني فعلته فالاستدراك يقتضي ولو شئنا لرفعناه بها ولكنا لم نشأ أو لم نرفع فكيف استدرك بقوله ولكنه أخلد إلى الأرض بعد قوله ولو شئنا لرفعناه بها قيل هذا من الكلام الملحوظ فيه جانب المعنى المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني وذلك أن مضمون قوله ولو شئنا لرفعناه بها أنه لم يتعاط الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات من إيثار الله ومرضاته على هواه ولكنه آثر الدنيا وأخلد إلى الأرض واتبع هواه وقال الزمخشري المعنى لو لزم آياتنا لرفعناه بها فذكر المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه كأنه قيل ولو لزمها لرفعناه بها قال ألا ترى إلى قوله ولكنه أخلد فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله فوجب أن يكون ولو شئنا في معنى ما هو فعله ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال لو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ فهذا منه شنشنة نعرفها من قدري ناف للمشيئة العامة مبعد للنجعة في جعل كلام الله معتزليا قدريا فأين قوله ولو شئنا من قوله ولو لزمها ثم إذا كان اللزوم لها موقوفا على مشيئة الله وهو الحق بطل أصله وقوله إن مشيئة الله تابعة للزومه الآيات من أفسد الكلام وأبطله بل لزومه لآياته تابع لمشيئة الله فمشيئة الله سبحانه متبوعة لا تابعة وسبب لا مسبب وموجب مقتض لا مقتضى فما شاء الله وجب وجوده ولم لم يشأ امتنع وجوده أهـ { إلام الموقعين حـ 1 صـ 197 ـ صـ 203 } ________________________________________ قوله تعالى { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها } فجعل علة السكون أنها منه ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب أن لا يستحسن الأنقص من الصور ونحن نجد كثيرا ممن يؤثر الأدنى ويعلم فلضل غيره ولا يجد محيدا لقلبه عنه ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يساعده ولا يوافقه فعلمنا أنه شيء في ذات النفس وربما كانت المحبة لسبب من الأسباب وتلك تفنى بفناء سببها أهـ { روضة المحبين صـ 86 سورة الأنفال قوله تعالى { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } قلت اعتقد جماعة أن المراد بالآية سلب فعل الرسول عنه وإضافته إلى الرب تعالى وجعلوا ذلك أصلا في الجبر وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده وهذا غلط منهم في فهم القرآن فلو صح ذلك لوجب طرده في جميع الأعمال فيقال ما صليت إذ صليت وما صمت إذ صمت وما ضحيت إذ ضحيت ولا فعلت كل فعل إذ فعلته ولكن الله فعل ذلك فإن طردوا ذلك لزمهم في جميع أفعال العباد طاعتهم ومعاصيهم إذ لا فرق فإن خصوه بالرسول وحده وأفعاله جميعها أو رميه وحده تناقضوا فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية ________________________________________ وبعد فهذه الآية نزلت في شأن رميه المشركين يوم بدر بقبصة من الحصباء فلم تدع وجه أحد منهم إلا أصابته ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ فكان منه مبدأ الرمي وهو الحذف ومن الله سبحانه وتعالى نهايته وهو الإيصال فأضاف إليه رمى الحذف الذي هو مبدؤه ونفى عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته ونظير هذا قوله في الآية نفسها فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ثم قال وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فأخبره أنه هو وحده هو الذي تفرد بقتلهم ولم يكن ذلك بكم أنتم كما تفرد بإيصال الحصى إلى أعينهم ولم يكن ذلك من رسوله ولكن وجه الإشارة بالآية أنه سبحانه أقام أسبابا ظاهرة كدفع المشركين وتولى دفعهم وإهلاكهم بأسباب باطنة غير الأسباب التي تظهر للناس فكان ما حصل من الهزيمة والقتل والنصرة مضافا إليه به وهو خير الناصرين أهـ { مدارج السالكين حـ 3 صـ 273 ـ صـ 274 } ________________________________________ قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول اذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه واليه تحشرون } فتضمنت هذه الآية أمورا أحدها ان الحياة النافعة انما تحصل بالاستجابة لله ورسوله فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له وان كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرا وباطنا فهؤلاء هم الأحياء وان ماتوا وغيرهم أموات وان كانوا احياء الأبدان ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول فان كان ما دعا اليه ففيه الحياة فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول قال مجاهد لما يحيكم يعني للحق وقال قتادة هو هذا القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة وقال السدى هو الاسلام أحياهم به بعد موتهم بالكفر وقال ابن اسحق وعروة بن الزبير واللفظ له لما يحيكم يعنى للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل وقواكم بعد الضعف ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم وهذه كل عبارات عن حقيقة واحدة وهى القيام بما جاء به الرسول ظاهرا وباطنا قال الواحدى والأكثرون على ان معنى قوله لما يحيكم هو الجهاد وهو قول ابن اسحق واختيار أكثر أهل المعاني قال الفراء اذا دعاكم الي احياء أمركم بجهاد عدوكم يريد ان أمرهم انما يقوى بالحرب والجهاد فلو تركوا لجهاد ضعف أمرهم واجترأ عليهم عدوهم قلت الجهاد من أعظم ما يحيهم به فى الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة أما في الدنيا فان قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد وأما في البرزخ فقد قال تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون وأما في الآخرة فان حظ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظم من حظ غيرهم ولهذا قال ابن قتيبة لما يحيكم يعني الشهادة وقال بعض المفسرين لما يحيكم يعني الجنة فانها دار الحيوان وفيها الحياة الدائمة الطيبة ________________________________________ حكاة أبو علي الجرجاني والآية تتناول هذا كله فان الايمان والاسلام والقرآن والجهاد يحي القلوب الحياة الطيبة وكمال الحياة في الجنة والرسول داع الي الايمان والى الجنة فهو داع الى الحياة في الدنيا والآخرة والانسان مضطر الى نوعين من الحياة حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار ويؤثر ما ينفعه على ما يضره ومتي نقصت فيه هذه الحياة ناله من الألم والضعف بحسب ذلك ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب الهم والغم والخوف والفقر والذل دون حياة من هو معافى من ذلك وحياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل والغى والرشاد والهوى والضلال فيختار الحق علي ضده فتفيده هذه الحياة قوة التميز بين النافع والضار في العلوم والارادات والأعمال وتفيده قوة الايمان والارادة والحب للحق وقوة البغض والكراهة للباطل فشعوره وتمييزه وحبه ونفرته بحسب نصيبه من هذه الحياة كما ان البدن الحى يكون شعوره واحساسه بالنافع والمؤلم أتم ويكون ميله الي النافع ونفرته عن المؤلم أعظم فهذا بحسب حياة البدن وذاك بحساب حياة القلب فاذا بطلت حياته بطل تمييزه وان كان له نوع تمييز لم يكن فيه قوة يؤثر بها النافع علي الضار كما ان الانسان لا حياة له حتي ينفخ فيه الملك الذي هو رسول الله من روحه فيصير حيا بذلك النفخ وان كان قبل ذلك من جملة الأموات فكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول من الروح الذي ألقى اليه قال تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره علي من يشاء من عباده وقال يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده وقال وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا لايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا فاخبر أن وحيه روح ونور فالحياة والاستنارة موقوفة على نفخ الرسول ________________________________________ الملكي فمن أصابه نفخ الرسول الملكي ونفخ الرسول البشري حصلت له الحياتان ومن حصل له نفخ الملك دون نفخ الرسول حصلت له احدى الحياتين وفاتته الأخرى الأخرى قال تعالى أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها فجمع له بين النور والحياة كما جمع لمن أعرض عن كتابة بين الموت والظلمة قال ابن عباس وجميع المفسرين كان كافرا ضالا فهديناه وقوله وجعلنا له نورا يمشي به في الناس يتضمن امورا احدها انه يمشي في الناس بالنور وهم في الظلمة فمثله ومثلهم كمثل قوم أظلم عليهم الليل فضلوا ولم يهتدوا للطريق وآخر معه نور يمشي به في الطريق ويراها ويرى ما يحذره فيها وثانيها انه يمشي فيهم بنوره فهم يقتبسون منه لحاجتهم الى النور وثالثها انه يمشي بنوره يوم القيامة على الصراط اذا بقى اهل الشرك والنفاق في ظلمات شركهم ونفاقهم وقوله ________________________________________ واعلموا ان الله يحؤل بين المرء وقلبه المشهور في الآية انه يحول بين المؤمن وبين الكفر وبين الكافر وبين الايمان ويحول بين اهل طاعته وبين معصيته وبين اهل معصيته وبين طاعته وهذا قول ابن عباس وجمهور المفسرين وفي الآية قول آخر ان المعنى انه سبحانه قريب من قلبه لا تخفى عليه خافيه فهو بينه وبين قلبه ذكره الواحدي عن قتادة وكان هذا انسب بالسياق لأن الاستجابة اصلها بالقلب فلا تنفع الاستجابة بالبدن دون القلب فان الله سبحانه بين العبد وبين قلبه فيعلم هل استجاب له قلبه وهل أضمر ذلك أو أضمر خلافه وعلي القول الأول فوجه المناسبة انكم ان تثاقلتم عن الاستجابة و أبطأتم عنها فلا تأمنوا أن الله يحول بينكم وبين قلوبكم فلا يمكنكم بعد ذلك من الاستجابة عقوبة لكم على تركها بعد وضوح الحق واستبانة فيكون كقوله ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة وقوله فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وقوله فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل ففي الآية تحذير عن ترك الاستجابة بالقلب وان استجاب بالجوارح وفي الآية سر آخر وهو أنه جمع لهم بين الشرع والأمر به وهو الاستجابة وبين القدر والايمان به فهي كقوله لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤن الا أن يشاء الله رب العالمين وقوله فمن شاء ذكره وما يذكرون الا أن يشاء الله والله أعلم أهـ { الفوائد صـ 88 ـ صـ 91 } قوله تعالى : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } [ الأنفال : 64 ] أي : الله وحده كافيك وكافي أتباعك فلا تحتاجون معه إلى أحد وهنا تقديران أحدهما : أن تكون الواو عاطفة لـ من على الكاف المجرورة ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار على المذهب المختار وشواهده كثيرة وشبه المنع منه واهية والثاني : أن تكون الواو واو مع وتكون من في محل نصب عطفا على الموضع فإن حسبك في معنى كافيك أي : الله يكفيك ويكفي من اتبعك كما تقول العرب : حسبك وزيدا درهم قال الشاعر : ________________________________________ ( إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا ... فحسبك والضحاك سيف مهند ) وهذا أصح التقديرين وفيها تقدير ثالث : أن تكون من في موضع رفع بالإبتداء أي : اتبعك من المؤمنين فحسبهم الله وفيها تقدير رابع وهو خطأ من جهة المعنى وهو أن تكون من موضع رفع عطفا على اسم الله ويكون المعنى : حسبك الله وأتباعك وهذا وإن قاله بعض الناس فهو خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه فإن الحسب و الكفاية لله وحده كالتوكل والتقوى والعبادة قال الله تعالى : { وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين } [ الأنفال : 62 ] ففرق بين الحسب والتأييد فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد له بنصره وبعباده وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث أفردوه بالحسب فقال تعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } [ آل عمران : 173 ] ولم يقولوا : حسبنا الله ورسوله فإذا كان هذا قولهم ومدح الرب تعالى لهم بذلك فكيف يقول لرسوله : الله وأتباعك حسبك وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب ولم يشركوا بينه وبين رسوله فيه فكيف يشرك بينهم وبينه في حسب رسوله ؟ ! هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل ونظير هذا قوله تعالى : { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } [ التوبة : 59 ] فتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله كما قال تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه } [ الحشر : 59 ] وجعل الحسب له وحده فلم يقل : وقالوا : حسبنا الله ورسوله بل جعله خالص حقه كما قال تعالى : { إنا إلى الله راغبون } [ التوبة : 59 ] ولم يقل : وإلى رسوله بل جعل الرغبة إليه وحده كما قال تعالى : ________________________________________ { فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب } [ الإنشراح : 7 ، 18 ] فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده كما أن العبادة والتقوى والسجود لله وحده والنذر والحلف لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى ونظير هذا قوله تعالى : { أليس الله بكاف عبده } [ الزمر : 36 ] فالحسب : هو الكافي فأخبر سبحانه وتعالى أنه وحده كاف عبده فكيف يجعل أتباعه مع الله في هذه الكفاية ؟ ! والأدلة الدالة على بطلان هذا التأويل الفاسد أكثر من أن تذكر ها هنا أهـ { زاد المعاد حـ1 صـ 5 } سورة التوبة قوله تعالى {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين } والتثبيط رد الإنسان عن الشيء الذي يفعله قال ابن عباس يريد خذلهم وكسلهم عن الخروج وقال في رواية أخرى حبسهم قال مقاتل واوحى إلى قلوبهم اقعدوا مع القاعدين وقد بين سبحانه حكمته في هذا التثبيط والخذلان قبل وبعد فقال إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين فلما تركوا الإيمان به بلقائه وارتابوا بما لا ريب فيه ولم يريدوا الخروج في طاعة الله ولم يستعدوا له ولا أخذوا أهبة ذلك كره سبحانه انبعاث من هذا شأنه فإن من لم يرفع به وبرسوله أو كتابه رأسا ولم يقبل هديته التي أهداها إليه على يد أحب ________________________________________ خلقه إليه وأكرمهم عليه ولم يعرف قدر هذه النعمة ولا شكرها بل بدلها كفرا فإن طاعة هذا وخروجه مع رسوله يكرهه الله سبحانه فثبطه لئلا يقع ما يكره من خروجه وأوحى إلى قلبه قدرا وكونا أن يقعد مع القاعدين ثم أخبر سبحانه عن الحكمة التي تتعلق بالمؤمنين في تثبيط هؤلاء عنهم فقال لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا و الخبال الفساد و الاضطراب فلو خرجوا مع المؤمنين لأفسدوا عليهم أمرهم فأوقعوا بينهم الاضطراب والاختلاف قال ابن عباس ما زادوكم الا خبالا عجزا و جبنا يعني يجبنوهم عن لقاء العدو بتهويل أمرهم و تعظيمهم في صدورهم ثم قال ولا وضعوا خلالكم أي أسرعوا في الدخول بينكم للتفريق والإفساد قال ابن عباس يريد ضعفوا شجاعتكم يعني بالتفريق بينهم لتفريق الكلمة فيجبنوا عن العدو وقال الحسن لا وضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات البين وقال الكلبي ساروا بينكم يبغونكم العيب قال لبيد ... أرانا موضعين لختم عيب ... وسحر بالطعام وبالشراب ... أي مسرعين ومنه قول عمر بن أبي ربيعة ... تبا لهن بالعرفان لما عرفني ... وقلن أمرؤ باغ أكل وأوضعا ... أي اسرع حتى كلت مطيته يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم قال قتادة وفيكم من يسمع كلامهم ويطيعهم وقال ابن إسحاق وفيكم قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم ومعناه على هذا القول وفيكم أهل سمع وطاعة لهم لو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم قلت فتضمن سماعين معنى مستجيبين وقال مجاهد وابن زيد والكلبي المعنى وفيكم عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم أي جواسيس والقول هو الأول كما قال تعالى سماعون للكذب أي قابلون له ولم يكن في المؤمنين جواسيس للمنافقين فان النافقين كانوا مختلطين بالمؤمنين ينزلون معهم ويرحلون ويصلون معهم ويجالسونهم ولم يكونوا متحيزين عنهم قد أرسلوا فيهم العيون ينقلون إليهم أخبارهم فإن هذا إنما يفعله من انحاز عن طائفة ولم يخالطها وأرصد بينهم عيونا ________________________________________ له فالقول قول قتادة وابن إسحاق أعلم فإن قيل انبعاثهم إلى طاعته طاعة له فكيف يكرهها وإذا كان سبحانه يكرهها فهو يحب ضدها لا محالة إذ كراهة أحد الضدين تستلزم محبة الضد الآخر فيكون قعودهم محبوبا له فكيف يعاقبهم عليه قيل هذا سؤال له شأن وهو من أكبر الأسئلة في هذا الباب وأجوبة الطوائف على حسب أصولهم فالجبرية تجيب عنه بأن أفعاله لا تعلل بالحكم والمصالح وكل ممكن فهو جائز عليه ويجوز أن يعذبهم على فعل ما يحبه ويرضاه وترك ما يبغضه ويسخطه والجميع بالنسبة إليه سواء وهذه الفرقة قد سدت على نفسها باب الحكمة والتعليل والقدرية تجيب عنه على أصولها بأنه سبحانه لم يثبطهم حقيقة ولم يمنعهم بل هم منعوا أنفسهم وثبطوها عن الخروج وفعلوا ما لا يريد ولما كان في خروجهم المفسدة التي ذكرها الله سبحانه ألقى في نفوسهم كراهة الخروج مع رسوله قالوا وجعل سبحانه إلقاء كراهة الانبعاث في قلوبهم كراهة مشيئة من غيره أن يكره هو سبحانه انبعاثهم فإنه أمرهم به قالوا وكيف يأمرهم بما يكرهه ولا يخفى على من نور الله بصيرته فساد هذين الجوابين وبعدهما من دلالة القرآن فالجواب الصحيح أنه سبحانه أمرهم بالخروج طاعة له ولأمره واتباعا لرسوله صلى الله عليه وسلم ونصرة له وللمؤمنين وأحب لك منهم ورضيه لهم دينا وعلم سبحانه أن خروجهم لو خرجوا لم يقع على هذا ________________________________________ الوجه بل يكون خروجهم خروج خذلان لرسوله وللمؤمنين فكان خروجا يتضمن خلاف ما يحبه ويرضاه ويستلزم وقوع ما يكرهه ويبغضه فكان مكروها له من هذا الوجه ومحبوبا له من الوجه الذي خرج عليه أولياؤه وهو يعلم أنه لا يقع منهم إلا على الوجه المكروه إليه فكرهه وعاقبهم على ترك الخروج الذي يحبه ويرضاه لا على ترك الخروج الذي يبغضه ويسخطه وعلى هذا فليس الخروج الذي كرهه منهم طاعة حتى لو فعلوه لم يثبهم عليه ولم يرضه منهم وهذا الخروج المكروه له ضدان أحدهما الخروج المرضي المحبوب وهذا الضد هو الذي يحبه والثاني التخلف عن رسوله والقعود عن الغزو معه وهذا الضد يبغضه ويكرهه أيضا وكراهته للخروج على الوجه الذي كانوا يخرجون عليه لا ينافي كراهته لهذاالضد فيقول للسائل قعودهم مبغوض له ولكن ههنا أمران مكروهان له سبحانه وأحدهما أكره له من الآخر لأنه أعظم مفسدة فإن قعودهم مكروه له وخروجهم على الوجه الذي ذكره أكره إليه ولم يكن لهم بد من أحد المكروهين إليه سبحانه فدفع المكروه الأعلى بالمكروه الأدنى فإن مفسدة قعودهم عنه أصغر من مفسدة خروجهم معه فإن مفسدة قعودهم تختص بهم ومفسدة خروجهم تعود على المؤمنين فتأمل هذا لموضع فإن قلت فهلا وفقهم للخروج الذي يحبه ويرضاه وهو الذي خرج عليه المؤمنون قلت قد تقدم جواب مثل هذا السؤال مرارا وأن حكمته سبحانه تأبى أن يضع التوفيق في غير محله وعند غيرأهله فالله أعلم حيث يجعل هداه وتوفيقه وفضله وليس كل محل يصلح لذلك ووضع الشيء في غير محله لا يليق بحكمته فإن قلت وعلى ذلك فهلا جعل المحال كلها صالحة قلت يأباه كمال ربوبيته وملكه وظهور آثار أسمائه وصفاته في الخلق والأمر وهو سبحانه لو فعل ذلك لكان محبوبا له فإنه يحب أن يذكر ويشكر ويضاع ويوحد ويعبد ولكن كان ذلك يستلزم فوات ما هو أحب إليه من استواء أقدام الخلائق في الطاعة والإيمان وهو محبته لجهاز أعدائه والانتقام منهم وإظهار قدر أوليائه وشرفهم ________________________________________ وتخصيصهم بفضله وبذل نفوسهم له في معاداة من عاداه وظهور عزته وقدرته وسطوته وشدة أخذه وأليم عقابه وأضعاف أضعاف هذه الحكم التي لا سبيل للخلق ولو تناهوا في العلم والمعرفة إلى الإحاطة بها ونسبة ما عقلوه منها إلى ما خفي عليهم كنقرة عصفور في بحر أهـ { شفاء العليل صـ 101 ـ صـ 103 } قوله تعالى { وصل عليهم } في بيان معنى الصلاة على النبي وأصل هذه اللفظة في اللغة يرجع إلى معنيين أحدهما الدعاء والتبريك والثاني العبادة فمن الأول قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم التوبة 103 وقوله تعالى في حق المنافقين ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره التوبة 84 وقول النبي إذا دعي أحدكم إلى الطعام فليجب فإن كان صائما فليصل فسر بهما قيل فليدع لهم بالبركة وقيل يصلي عندهم بدل أكله وقيل إن الصلاة في اللغة معناها الدعاء والدعاء نوعان دعاء عبادة ودعاء مسألة والعابد داع كما أن السائل داع وبهما فسر قوله تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم غافر 60 قيل أطيعوني أثبكم وقيل سلوني أعطكم وفسر بهما قوله تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان البقرة 186 والصواب أن الدعاء يعم النوعين وهذا لفظ متواطئ لا اشتراك فيه فمن استعماله في دعاء العبادة قوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض سبأ 22 وقوله تعالى والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون النحل 20 وقوله تعالى قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم الفرقان 77 ________________________________________ والصحيح من القولين لولا أنكم تدعونه وتعبدونه أي أي شيء يعبأ بكم لولا عبادتكم إياه فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل وقال تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا الأعراف 55 56 وقال تعالى إخبارا عن أنبيائه ورسله إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا الأنبياء 90 وهذه الطريقة أحسن من الطريقة الأولى ودعوى الاختلاف في مسمى الدعاء وبهذا تزول الإشكالات الواردة على اسم الصلاة الشرعية هل هو منقول عن موضعه في اللغة فيكون حقيقة شرعية أو مجازا شرعيا فعلى هذا تكون الصلاة باقية على مسماها في اللغة وهو الدعاء والدعاء دعاء عبادة ودعاء مسألة والمصلي من حين تكبيره إلى سلامه بين دعاء العبادة ودعاء المسألة فهو في صلاة حقيقية لا مجازا ولا منقولة لكن خص اسم الصلاة بهذه العبادة المخصوصة كسائر الألفاظ التي يخصها أهل اللغة والعرف ببعض مسماها كالدابة والرأس ونحوهما فهذا غايته تخصيص اللفظ وقصره على بعض موضوعه ولهذا لا يوجب نقلا ولا خروجا عن موضوعه الأصلي والله أعلم فصل هذه صلاة الآدمي وأما صلاة الله سبحانه على عبده فنوعان عامة وخاصة أما العامة فهي صلاته على عباده المؤمنين قال تعالى هو الذي يصلي عليكم وملائكته الأحزاب 43 ومنه دعاء النبي بالصلاة على آحاد المؤمنين كقوله اللهم صل على آل أبي أوفى وفي حديث آخر أن امرأة قالت له صل علي وعلى زوجي قال صلى الله عليك وعلى زوجك وسيأتي ذكر هذا الحديث وما شابهه إن شاء الله تعالى النوع الثاني صلاته الخاصة على أنبيائه ورسله خصوصا على خاتمهم وخيرهم محمد فاختلف الناس في معنى الصلاة منه سبحانه على أقوال أحدها أنها رحمته قال إسماعيل حدثنا نصر بن علي حدثنا محمد بن سواء عن جويبر عن الضحاك قال صلاة الله رحمته وصلاة الملائكة الدعاء // سنده ضعيف // ________________________________________ وقال المبرد أصل الصلاة الرحم فهي من الله رحمة ومن الملائكة رقة واستدعاء للرحمة من الله وهذا القول هو المعروف عند كثير من المتأخرين والقول الثاني أن صلاة الله مغفرته قال إسماعيل ثنا محمد بن أبي بكر ثنا محمد بن سواء عن جويبر عن الضحاك هو الذي يصلي عليكم قال صلاة الله مغفرته وصلاة الملائكة الدعاء // ضعيف جدا // وهذا القول من جنس الذي قبله وهما ضعيفان لوجوه أحدها أن الله سبحانه فرق بين صلاته على عباده ورحمته فقال تعالى وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون البقرة 157 فعطف الرحمة على الصلاة فاقتضى ذلك تغايرهما هذا أصل العطف وأما قولهم وألفى قولها كذبا ومينا فهو شاذ نادر لا يحمل عليه أفصح الكلام مع أن المين أخص من الكذب الوجه الثاني أن صلاة الله سبحانه خاصة بأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين وأما رحمته فوسعت كل شيء فليست الصلاة مرادفة للرحمة لكن الرحمة من لوازم الصلاة وموجباتها وثمراتها فمن فسرها بالرحمة فقد فسرها ببعض ثمرتها ومقصودها وهذا كثيرا ما يأتي في تفسير ألفاظ القرآن والرسول يفسر اللفظة بلازمها وجزء معناها كتفسير الريب بالشك والشك جزء مسمى الريب وتفسير المغفرة بالستر وهو جزء مسمى المغفرة وتفسير الرحمة بإرادة الإحسان وهو لازم الرحمة ونظائر ذلك كثيرة قد ذكرناها في أصول التفسير الوجه الثالث أنه لا خلاف في جواز الترحم على المؤمنين واختلف السلف والخلف في جواز الصلاة على الأنبياء على ثلاثة أقوال سنذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى فعلم أنهما ليسا بمترادفين الوجه الرابع أنه لو كانت الصلاة بمعنى الرحمة لقامت مقامها في امتثال الأمر وأسقطت الوجوب عند من أوجبها إذا قال اللهم ارحم محمدا وآل محمد وليس الأمر كذلك ________________________________________ الوجه الخامس أنه لا يقال لمن رحم غيره ورق عليه فأطعمه أو سقاه أو كساه إنه صلى عليه ويقال إنه قد رحمه الوجه السادس أن الإنسان قد يرحم من يبغضه ويعاديه فيجد في قلبه له رحمة ولا يصلي عليه الوجه السابع أن الصلاة لا بد فيها من كلام فهي ثناء من المصلي على من يصلي عليه وتنويه به وإشارة لمحاسنه ومناقبه وذكره ذكر البخاري في صحيحه عن أبي العالية قال صلاة الله على رسوله ثناؤه عليه عند الملائكة // سنده قابل للتحسن // وقال إسماعيل في كتابه حدثنا نصر بن علي حدثنا خالد بن يزيد عن أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية إن الله وملائكته يصلون على النبي الأحزاب 56 قال صلاة الله عز وجل ثناؤه عليه وصلاة الملائكة عليه الدعاء الوجه الثامن أن الله سبحانه فرق بين صلاته وصلاة ملائكته وجمعهما في فعل واحد فقال إن الله وملائكته يصلون على النبي وهذه الصلاة لا يجوز أن تكون هي الرحمة وإنما هي ثناؤه سبحانه وثناء ملائكته عليه ولا يقال الصلاة لفظ مشترك ويجوز أن يستعمل في معنييه معا لأن في ذلك محاذير متعددة أحدها أن الاشتراك خلاف الأصل بل لا يعلم انه وقع في اللغة من واضع واحد كما نص على ذلك أئمة اللغة منهم المبرد وغيره وإنما يقع وقوعا عارضا اتفاقيا بسبب تعدد الواضعين ثم تختلط اللغة فيقع الاشتراك الثاني أن الأكثرين لا يجووزون استعمال اللفظ المشترك في معنييه لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز وما حكي عن الشافعي رحمه الله من تجويزه ذلك فليس بصحيح عنه وإنما أخذ من قوله إذا أوصى لمواليه وله موال من فوق ومن أسفل تناول جميعهم فظن من ظن أن لفظ المولى مشترك بينهما وأنه عند التجرد يحمل عليهما وهذا ليس بصحيح فإن لفظ المولى من الألفاظ المتواطئة فالشافعي في ظاهر مذهبه وأحمد يقولان بدخول نوعي الموالي في هذا اللفظ وهو عنده عام متواطئ لا مشترك ________________________________________ واما ما حكي عن الشافعي رحمه الله أنه قال في مفاوضة جرت له في قوله أو لامستم النساء وقد قيل له قد يراد بالملامسة المجامعة قال هي محمولة على الجس باليد حقيقة وعلى الوقاع مجازا فهذا لا يصح عن الشافعي ولا هو من جنس المألوف من كلامه وإنما هذا من كلام بعض الفقهاء المتأخرين وقد ذكرنا على إبطال استعمال اللفظ المشترك في معنييه معا بضعة عشر دليلا في مسألة القرء في - كتاب التعليق على الأحكام - فإذا كان معنى الصلاة هو الثناء على الرسول والعناية به وإظهار شرفه وفضله وحرمته كما هو المعروف من هذه اللفظة لم يكن لفظ الصلاة في الآية مشتركا محمولا على معنييه بل قد يكون مستعملا في معنى واحد وهذا هو الأصل وسنعود إلى هذه المسألة إن شاء الله تعالى في الكلام على تفسير قوله تعالى إن الله وملائكته يصلون على النبي الأحزاب 56 الوجه التاسع أن الله سبحانه أمر بالصلاة عليه عقب إخباره بأنه وملائكته يصلون عليه والمعنى أنه إذا كان الله وملائكته يصلون على رسوله فصلوا أنتم عليه فأنتم أحق بأن تصلوا عليه وتسلموا تسليما لما نالكم ببركة رسالته ويمن سفارته من شرف الدنيا والآخرة ومن المعلوم أنه لو عبر عن هذا المعنى بالرحمة لم يحسن موقعه ولم يحسن النظم فينقض اللفظ والمعنى فإن التقدير يصير إلى أن الله وملائكته ترحم ويستغفرون لنبيه فادعوا أنتم له وسلموا وهذا ليس مراد الآية قطعا بل الصلاة المأمور بها فيها هي الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته وصلاة ملائكته وهي ثناء عليه وإظهار لفضله وشرفه وإرادة تكريمه وتقريبه فهي تتضمن الخبر والطلب وسمي هذا السؤال والدعاء منا نحن صلاة عليه لوجهين أحدهما أنه يتضمن ثناء المصلي عليه والإشادة بذكر شرفه وفضله والإرادة والمحبة لذلك من الله تعالى فقد تضمنت الخبر والطلب ________________________________________ والوجه الثاني أن ذلك سمي منا صلاة لسؤالنا من الله أن يصلي عليه فصلاة الله عليه ثناؤه وإرادته لرفع ذكره وتقريبه وصلاتنا نحن عليه سؤالنا الله تعالى أن يفعل ذلك به وضد هذا في لعنة أعدائه الشانئين لما جاء به فإنها تضاف إلى الله وتضاف إلى العبد كما قال تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون البقرة 159 فلعنة الله تعالى لهم تتضمن ذمه وإبعاده وبغضه لهم ولعنة العبد تتضمن سؤال الله تعالى أن يفعل ذلك بمن هو أهل للعنته وإذا ثبت هذا فمن المعلوم أنه لو كانت الصلاة هي الرحمة لم يصح أن يقال لطالبها من الله مصليا وإنما يقال له مسترحما له كما يقال لطالب المغفرة مستغفرا له ولطالب العطف مستعطفا ونظائره ولهذا لا يقال لمن سأل الله المغفرة لغيره قد غفر له فهو غافر ولا لمن سأله العفو عنه قد عفا عنه وهنا قد سمي العبد مصليا فلو كانت الصلاة هي الرحمة لكان العبد راحما لمن صلى عليه وكان قد رحمه برحمة ومن رحم النبي مرة رحمه الله بها عشرا وهذا معلوم البطلان فإن قيل ليس معنى صلاة العبد عليه رحمته وإنما معناها طلب الرحمة له من الله قيل هذا باطل من وجوه أحدها أن طلب الرحمة مطلوب لكل مسلم وطلب الصلاة من الله يختص رسله صلوات الله وسلامه عليهم عند كثير من الناس كما سنذكره إن شاء الله تعالى الثاني أنه لو سمي طالب الرحمة مصليا لسمي طالب المغفرة غافرا وطالب العفو عافيا وطالب الصفح صافحا ونحوه فإن قيل فأنتم قد سميتم طالب الصلاة من الله مصليا قيل إنما سمي مصليا لوجود حقيقة الصلاة منه فإن حقيقتها الثناء وإرادة الإكرام والتقريب وإعلاء المنزلة وهذا حاصل من صلاة العبد لكن العبد يريد ذلك من الله عز وجل والله سبحانه وتعالى يريد ذلك من نفسه أن يفعله برسوله ________________________________________ وأما على الوجه الثاني وأنه سمي مصليا لطلبه ذلك من الله فلأن الصلاة نوع من الكلام الطلبي والخبري والإرادة وقد وجد ذلك من المصلي بخلاف الرحمة والمغفرة فإنها أفعال لا تحصل من الطالب وإنما تحصل من المطلوب منه والله أعلم الوجه العاشر أنه قد ثبت عن النبي في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا وأنه سبحانه وتعالى قال له إنه من صلى عليك من أمتك مرة صليت عليه بها عشرا وهذا موافق للقاعدة المستقرة في الشريعة أن الجزاء من جنس العمل فصلاة الله على المصلي على رسوله جزاء لصلاته هو عليه ومعلوم أن صلاة العبد على رسول الله ليست هي رحمة من العبد لتكون صلاة الله عليه من جنسها وإنما هي ثناء على الرسول وإرادة من الله تعالى أن يعلي ذكره ويزيده تعظيما وتشريفا والجزاء من جنس العمل فمن أثنى على رسول جزاه الله من جنس عمله بأن يثني عليه ويزيد تشريفه وتكريمه فصح ارتباط الجزاء بالعمل ومشاكلته له ومناسبته له كقوله من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة ومن سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار // حديث صحيح // ومن صلى على النبي مرة صلى الله عليه بها عشرا ونظائره كثيرة الوجه الحادي عشر أن أحدا لو قال عن رسول الله رحمه الله أو قال رسول الله رحمه الله بدل لبادرت الأمة إلى الإنكار عليه وسموه مبتدعا غير موقر للنبي ولا مصل عليه ولا مثن عليه بما يستحقه ولا يستحق أن يصلي الله عليه بذلك عشر صلوات ولو كانت الصلاة من الله الرحمة لم يمتنع شيء من ذلك ________________________________________ الوجه الثاني عشر أن الله سبحانه وتعالى قال لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا النور 63 فأمر سبحانه ألا يدعى رسوله بما يدعو الناس بعضهم بعضا بل يقال يا رسول الله ولا يقال يا محمد وإنما كان يسميه باسمه وقت الخطاب الكفار وأما المسلمون فكانوا يخاطبونه يا رسول الله وإذا كان هذا في خطابه فهكذا في مغيبه لا ينبغي أن يجعل ما يدعى به له من جنس ما يدعو به بعضنا لبعض بل يدعى له بأشرف الدعاء وهو الصلاة عليه ومعلوم أن الرحمة يدعى بها لكل مسلم بل ولغير الآدمي من الحيوانات كما في دعاء الاستسقاء اللهم ارحم عبادك وبلادك وبهائمك الوجه الثالث عشر أن هذه اللفظة لا تعرف في اللغة الأصلية بمعنى الرحمة أصلا والمعروف عند العرب من معناها إنما هو الدعاء والتبريك والثناء قال وإن ذكرت صلى عليها وزمزما ... أي برك عليها ومدحها ولا تعرف العرب قط صلى عليه بمعنى الرحمة فالواجب حمل اللفظة على معناها المتعارف في اللغة الوجه الرابع عشر أنه يسوغ بل يستحب لكل أحد أن يسأل الله تعالى أن يرحمه فيقول اللهم ارحمني كما علم النبي الداعي أن يقول اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني فلما حفظها قال أما هذا فقد ملأ يديه من الخير ومعلوم أنه لا يسوغ لأحد أن يقول اللهم صل علي بل الداعي بهذا معتد في دعائه والله لا يحب المعتدين بخلاف سؤال الرحمة فإن الله تعالى يحب أن يسأله عبده مغفرته ورحمته فعلم أنه ليس معناهما واحدا الوجه الخامس عشر أن أكثر المواضع التي تستعمل فيها الرحمة لا يحسن أن تقع فيها الصلاة كقوله تعالى ورحمتي وسعت كل شيء الأعراف 156 وقوله إن رحمتي سبقت غضبي وقوله إن رحمة الله قريب من المحسنين الأعراف 56 وقوله وكان بالمؤمنين رحيما الأحزاب 43 وقوله إنه بهم رؤوف رحيم التوبة 117 وقول النبي لله ارحم بعباده من الوالدة بولدها وقوله ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء // الحديث صحيح // وقوله من لا يرحم لا يرحم ________________________________________ وقوله لا تنزع الرحمة إلا من شقي // سنده حسن // وقوله والشاة إن رحمتها رحمك الله // إسناده صحيح // فمواضع استعمال الرحمة في حق الله وفي حق العباد لا يحسن أن تقع الصلاة في كثير منها بل في أكثرها فلا يصح تفسير الصلاة بالرحمة والله أعلم وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما إن الله وملائكته يصلون على النبي قال يباركون عليه وهذا لا ينافي تفسيرها بالثناء وإرادة التكريم والتعظيم فإن التبريك من الله يتضمن ذلك ولهذا قرن بين الصلاة عليه والتبريك عليه وقالت الملائكة لإبراهيم رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت هود 73 وقال المسيح وجعلني مباركا أينما كنت مريم 31 قال غير واحد من السلف معلما للخير أينما كنت وهذا جزء المسمى فالمبارك كثير الخير في نفسه الذي يحصله لغيره تعليما وإقدارا ونصحا وإرادة واجتهادا ولهذا يكون العبد مباركا لأن الله بارك فيه وجعله كذلك والله تعالى متبارك لأن البركة كلها منه فعبده مبارك وهو المتبارك تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الفرقان 1 وقوله تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الملك 1 وسنعود إلى هذا المعنى عن قريب إن شاء الله تعالى وقد رد طائفة من الناس تفسير الصلاة من الله بالرحمة بأن قال الرحمة معناها رقة الطبع وهي مستحيلة في حق الله سبحانه وتعالى كما أن الدعاء منه سبحانه مستحيل وهذا الذي قاله هذا عرق عرق جهمي ينضح من قلبه على لسانه وحقيقته إنكار رحمة الله جملة وكان جهم يخرج إلى الجذمي ويقول أرحم الراحمين يفعل هذا إنكارا لرحمته سبحانه ________________________________________ وهذا الذي ظنه هذا القائل هو شبهة منكري صفات الرب سبحانه وتعالى فإنهم قالوا الإرادة حركة النفس لجلب ما ينفعها ودفع ما يضرها والرب تعالى يتعالى عن ذلك فلا إرادة له والغضب غليان دم القلب طلبا للانتقام والرب منزه عن ذلك فلا غضب له وسلكوا هذا المسلك الباطل في حياته وكلامه وسائر صفاته وهو من أبطل الباطل فإنه أخذ في مسمى الصفة خصائص المخلوق ثم نفاها جملة عن الخالق وهذا في غاية التلبيس والإضلال فإن الخاصة التي أخذها في الصفة لم يثبت لها لذاتها وإنما يثبت لها بإضافتها إلى المخلوق الممكن ومعلوم أن نفي خصائص صفات المخلوقين عن الخالق لا يقتضي نفي أصل الصفة عنه سبحانه ولا إثبات أصل الصفة له يقتضي إثبات خصائص المخلوق له كما أن ما نفي عن صفات الرب تعالى من النقائص والتشبيه لا يقتضي نفيه عن صفة المخلوق ولا ما ثبت لها من الوجوب والقدم والكمال يقتضي ثبوته للمخلوق ولا إطلاق الصفة على الخالق والمخلوق وهذا مثل الحياة والعلم فإن حياة العبد تعرض لها الآفات المضادة لها من المرض والنوم والموت وكذلك علمه يعرض له النسيان والجهل المضاد له وهذا محال في حياة الرب وعلمه فمن نفى علم الرب وحياته لما يعرض فيهما للمخلوق فقد أبطل وهو نظير نفي من نفى رحمة الرب وعلمه فمن نفى رحمة الرب عنه لما يعرض في رحمة المخلوق من رقة الطبع وتوهم المتوهم أنه لا تعقل رحمة إلا هكذا نظير توهم المتوهم أنه لا يعقل علم ولا حياة ولا إرادة إلا مع خصائص المخلوق ________________________________________ وهذا الغلط منشؤه إنما هو توهم صفة المخلوق المقيدة به أولا وتوهم أن إثباتها لله هو مع هذا القيد وهذان وهمان باطلان فإن الصفة الثابتة لله مضافة إليه لا يتوهم فيها شيء من خصائص المخلوقين لا في لفظها ولا في ثبوت معناها وكل من نفى عن الرب تعالى صفة من صفاته لهذا الخيال الباطل لزمه نفي جميع صفات كماله لأنه لا يعقل منها إلا صفة المخلوق بل ويلزمه نفي ذاته لأنه لا يعقل من الذوات إلا الذوات المخلوقة ومعلوم أن الرب سبحانه وتعالى لا يشبهه شيء منها وهذا الباطل قد التزمه غلاة المعطلة وكلما أوغل النافي في نفيه كان قوله أشد تناقضا وأظهر بطلانا ولا يسلم على محك العقل الصحيح الذي لا يكذب إلا ما جاءت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم كما قال تعالى سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين الصافات 159 فنزه سبحانه وتعالى عما يصفه به كل أحد إلا المخلصين من عباده وهم الرسل ومن تبعهم كما قال في الآية الأخرى سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين الصافات 180 182 فنزه نفسه عما يصفه به الواصفون وسلم على المرسلين لسلامة ما وصفوه به من كل نقص وعيب وحمد نفسه إذ هو الموصوف بصفات الكمال التي يستحق لأجلها الحمد ومنزه عن كل نقص ينافي كمال حمده أهـ { جلاء الأفهام صـ 155 ـ صـ 170 } ________________________________________ قوله تعالى {وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون } فأخبر سبحانه عن فعلهم وهو الانصراف وعن فعله فيهم وهو صرف قلوبهم عن القرآن وتدبره لأنهم ليسوا أهلا له فالمحل غير صالح ولا قابل فإن صلاحية المحل بشيئين حسن فهم وحسن قصد وهؤلاء قلوبهم لا تفقه وقصودهم سيئة وقد صرح سبحانه بهذا في قوله ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فأخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه إلى قلوبهم فلم يسمعهم سماع إفهام ينتفعون به وإن سمعوه سماعا تقوم به عليهم حجته فسماع الفهم الذي سمعه به والمؤمنون لم يحصل لهم ثم أخبر سبحانه عن مانع آخر قام بقلوبهم يمنعهم من الإيمان لو أسمعهم هذا السماع الخاص وهو الكبر والتولي والإعراض فالأول مانع من الفهم والثاني مانع من الإنقياد والإذعان فإفهام سيئة وقصود ردية وهذه نسخة الضلال وعلم الشقاء كما أن نسخة الهدى وعلم السعادة فهم صحيح وقصد صالح والله المستعان وتأمل قوله سبحانه ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم كيف جعل هذه الجملة الثانية سواء كانت خبرا أو عادة عقوبة لانصرافهم فعاقبهم عليه بصرف آخر غير الصرف الأول فإن انصرافهم كان لعدم إرادته سبحانه ومشيئته لإقبالهم لأنه لا صلاحية فيهم ولا قبول فلم ينلهم الإقبال والإذعان فانصرفت قلوبهم بما فيها من الجهل والظلم عن القرآن فجازاهم على ذلك صرفا آخر غير الصرف الأول كما جازاهم على زيغ قلوبهم عن الهدى إزاغة غير الزيغ الأول فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وهكذا إذا أعرض العبد عن ربه سبحانه جازاه بأن يعرض عنه فلا يمكنه من الإقبال عليه ولتكن قصة إبليس منك على ذكر تنتفع بها أتم انتفاع فإنه لما عصى ربه تعالى ولم ينقد لأمره وأصر على ذلك عاقبة بأن جعله داعيا إلى كل معصية فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعيا إلى كل معصية وفروعها صغيرها ________________________________________ وكبيرها وصار هذا الإعراض والكفر منه عقوبة لذلك الإعراض والكفر السابق فمن عقاب السيئة السيئة بعدها كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها فإن قيل فكيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض عنه وقد قال تعالى فإنى يصرفون وأنى يؤفكون وقال فما لهم عن التذكرة معرضين فإذا كان هو الذي صرفهم وجعلهم معرضين ومأفوكين فكيف ينفي ذلك عليهم قيل هم دائرون بين عدله وحجته عليهم فمكنهم وفتح لهم الباب ونهج لهم الطريق وهيأ لهم الأسباب فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه ودعاهم على السنة رسلة وجعل لهم عقولا تميز بين الخير والشر والنافع والضار وأسباب الردي وأسباب الفلاح وجعل لهم أسماعا وأبصارا فآثروا الهوى على التقوى واستحبوا العمى على الهدى وقالوا معصيتك آثر عندنا من طاعتك والشرك أحب إلينا من توحيدك وعبادة سواك أنفع لنا في دنيانا من عبادتك فأعرضت قلوبهم عن ربهم وخالقهم ومليكهم وانصرفت عن طاعته ومحبته فهذا عدله فيهم وتلك حجته عليهم فهم سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختياره فسده عليهم اضطرارا فخلاهم وما اختاروا لأنفسهم وولاهم ما تولوه ومكنهم فيما ارتضوه وأدخلهم من الباب الذي استبقوا إليه وأغلق عنهم الباب الذي تولوا عنه وهم معرضون فلا أقبح من فعلهم ولا أحسن من فعله ولو شاء لخلقهم على غير هذه الصفة ولأنشأهم على غير هذه النشأة ولكنه سبحانه خالق العلو والسفل والنور والظلمة والنافع والضار والطيب والخبيث والملائكة والشياطين والشاء والذياب ومعطيها آلاتها وصفاتها وقواها وأفعالها ومستعملها فيما خلقت له فبعضها بطباعها وبعضها بإرادتها ومشيئتها وكل ذلك جار على وفق حكمته وهو موجب حمده ومقتضى كماله المقدس وملكه التام ولا نسبة لما علمه الخلق من ذلك إلى ما خفي عليهم بوجه ما أن هو إلا كنقرة عصفور من البحر أهـ { شفاء العليل صـ92 } ________________________________________