الشبهة الثالثة والعشرون: استدلالهم بقوله تعالى(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولائك هم الكافرون) ومما يلبس به الخوارج ما قالوا: أن الله حكم على الذي لم يحكم بما أنزل الله بأنه الكافر فرتَّب وصفه بالكافر على مجرد الحكم بغير ما أنزل الله دون نظرٍ لاعتقاد فدلَّ على أن علَّة هذا الحكم كونه لم يحكم بما أنزل فحسب ولا يصحُّ لكم أن تحملوا وصف الكافر هنا على الكفر الأصغر لأن الحافظ الإمام ابن تيمية حكى بعد الاستقراء لنصوص الشريعة أن الكفر المعرَّف لا ينصرف إلا إلى الأكبر[1]، ثم ذكر هو وغيره أن الأصل في الكفر إذا أطلق انصرف إلى الأكبر إلا بدليل إذ الأصل في اللفظ إذا أُطلق في الكتاب والسنة انصرف إلى مسماه المطلق وحقيقته المطلقة وكماله. والجواب على الشبهة: : لقد ذكرتم في ثنايا كلامكم حججاً ثلاثاً : والجواب على الحجة الأولى يكون بما يلي : أ‌- لا نخالفكم في أن الشارع علّق الحكم بوصف( الكافر ) على مجرد التحكيم بغير ما أنزل الله لكنني أقول بأن الكفر هنا أصغر لا أكبر للأدلة التالية: فالنصوص الدالة على عدم كفر مثل هذا وكل عاصٍ تكون صارفةً للآية من الأكبر إلى الأصغر لأجل هذا أجمع العلماء على عدم الأخذ بعموم هذه الآية، إذ الخوارج هم المتمسكون بعمومها في تكفير أهل المعاصي والذنوب ولم يلتفتوا إلى الصوارف من الأدلة الأخرى . قال ابن عبد البر : 1- أن الشارع علَّق الحكم بمجرد التحكيم دون النظر للاعتقاد . 2- أن اللفظ إذا أُطلق في الشريعة انصرف إلى كماله إلا بدليل . 3- أن ابن تيمية استقرأ لفظ الكفر في الشريعة وتبين له أنها لا تنصرف إلا إلى الأكبر دون الأصغر . 1- أن الأخذ بعموم الآية يلزم منه تكفير المسلمين في أي حادثةٍ لم يعدلوا فيها بين اثنين حتى الأب مع أبنائه بل والرجل في نفسه إذا عصى ربه ؛ لأن واقعه أنه لما عصى ربه لم يحكم بما أنزل الله في نفسه[2] ووجه هذا اللازم أن لفظة ( مَنْ ) عامةٌ تشمل كل عالم[3] ( وما ) عامة تشمل كل ما ليس بعالم ومن لم يعدل بين بنيه داخلٌ في عموم (من ) ومسألته التي لم يعدل فيها داخلةٌ في عموم ( ما) . وقد ضلَّت جماعة من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة في هذا الباب فاحتجوا بآيات من كتاب الله ليست على ظاهرها مثل قوله تعالى ) وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (. ا . هـ [4]. وقال : أجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمَّد ذلك عالماً به … ا . هـ[5] وقال محمد رشيد رضا :" أما ظاهر الآية لم يقل به أحدٌ من أئمة الفقه المشهورين . بل لم يقل به أحدٌ قط " ا . هـ[6] فلعلَّه لا يرى الخوارج أيضاً متمسكين بظاهر الآية لكونهم لا يكفِّرون بالصغائر وظاهر الآية تشمل حتى الصغائر . وقال الآجري: ومما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله عز وجل ) وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( ويقرءون معها ) ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ( فإذا رأوا الإمام الحاكم يحكم بغير الحق قالوا: قد كفر ، ومن كفر عدل بربه فقد أشرك، فهؤلاء الأئمة مشركون ، فيخرجون فيفعلون ما رأيت ؛ لأنهم يتأولون هذه الآية ا.هـ[7] . وقال الجصاص :" وقد تأولت الخوارج هذه الآية على تكفير من ترك الحكم بما أنزل الله من غير جحود . ا هـ[8] وقال أبو حيان :" واحتجت الخوارج بهذه الآية على أن كل من عصى الله تعالى فهو كافرٌ وقالوا هي نص في كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ا.هـ[9] انظروا – يا رعاكم الله – توارد كلمات علماء الأمة في ذم الأخذ بعموم الآية وأنه مذهب الخوارج ، فكنوا حذرين. فعن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما-في قوله - عز وجل-:{ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة:44] قال: «ليس بالكفر الذي تذهبون إليه». وفي رواية: « 2-- أنه ثبت عن ترجمان القرآن تفسير الآية بالكفر الأصغر دون الأكبر وليس لنا أن نخالفه إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفراً ينقل عن الملة {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} كفر دون كفر». أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (4/1482/749-تكملة) ، وأحمد في «الإيمان»([11]) (4/160/1419) -ومن طريقه ابن بطة في «الإبانة» (2/736/1010)-، ومحمد بن نصر المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (2/521/569) ، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (4/1143/6434-ط الباز)، وابن عبد البر في «التمهيد» (4/237) ، والحاكم (2/313)- وعنه البيهقي (8/20)- عن سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير عن طاووس عن ابن عباس به. قال الحاكم : «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي. قال شيخنا أسد السنة العلامة الألباني- رحمه الله- في «الصحيحة» (6/113): « وحقِّهما أن يقولا : على شرط الشيخين؛ فإنَّ إسناده كذلك. ثم رأيت الحافظ ابن كثير نقل في «تفسيره» (6/163) عن الحاكم أنه قال: «صحيح على شرط الشيخين» ، فالظاهر أن في نسخة «المستدرك» المطبوعة سقطاً ، وعزاه ابن كثير لابن أبي حاتم- أيضاً- ببعض اختصار». قلت: وهو كذلك ؛ إلا أن هشام بن حجير راويه عن طاووس فيه كلام لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن. قال ابن شبرمة: «ليس بمكة مثله» ، وقال العجلي :«ثقة صاحب سنة»، وقال ابن معين: «صالح» ، وقال أبو حاتم الرازي: «يكتب حديثه»، وقال ابن سعد: «ثقة له أحاديث» ، وقال ابن شاهين: «ثقة» ، ووثقه ابن حبان، وقال الساجي: «صدوق»، وقال الذهبي: «ثقة» ، ولخصه الحافظ بقوله: «صدوق له أوهام». وضعفه يحيى القطان، والإمام أحمد، وابن معين - في رواية-([12]). قلت : فرجل حاله هكذا ؛ لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن ما لم يخالف، وقد روى الشيخان له واحتجا به، ومع ذلك لم يتفرد به بل توبع.وإن أبيتم إلا تضعيف الأثر فقد صح عن اثنين من أصحاب ابن عباس وهما: 1. طاووس، 2. وعطاء؛ صرَّحا بأن المراد بالكفر في الآية الكفر الذي لا ينقل عن الملة، (انظر ما رواه المروزي 574، وابن جرير في تفسيره)، كما لم يفهم أحدٌ من العلماء من كلام ابن عباس -رضي الله عنه- أنه يريد بهذه الرواية الكفر الأكبر. فهذا يغلِّب إرادة الأصغر فإن أقوال أصحاب الرجل توضِّح قوله، ومذهب الصحابيِّ يؤخذ من مذهب أصحابه. وثمَّ أمر آخر وهو: أن ابن عباس -رضي الله عنه- أورد كلامه في مقابل قول الخوارج الذين يكفِّرون بالآية الكفر الأكبر؛ فلا وجه لكلام ابن عباس إلا أن يكون المراد عنده الكفر الأصغر. أما الجواب على الحجة الثانية نقول: إنكم جعلتم الأصل في الكفر أنه للأكبر إلا بدليل يصرفه عن ذلك ، وقد ذكرتُ لكم الدليل الصارف من الأكبر إلى الأصغر وهو فهم الصحابي أولاً . وثانياً كل دليل يدل على عدم كفر من ظلم بين اثنين ولم يعدل بل ومن ظلم مطلقاً غيره وأيضاً ما ذكر ابن عبد البر من الإجماع على أن الجور في الحكم ليس كفراً بل كبيرةٌ من كبائر الذنوب . والجواب على الحجة الثالثة نقول: أولاً: هذا لا يصح ، لورود أحاديث صحيحة جاء "الكفر" فيها معرفاً بأل ، ويراد به الكفر الأصغر إجماعاً. عن مسروق -رحمهُ اللهُ- قال: سألت ابن مسعود -t- عن الرشا في الحكم؟ قال: ذلك الكفر([10]). ومعلوم أن الرشوة في الحكم من الكبائر إجماعاً. عن ابن عباس -رضي اللهُ عنهما-: أنَّ امرأة ثابت بن قيس أتت النبي -- فقالت: يا رسول الله ، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام.. الحديث ([11]). وقد قال ابن عباس -t- عن الرجل الذي يأتي المرأة في دبرها : ((ذلك الكفر)) ([12]). قال محمد بن إسحاق حدثني أبان بن صالح عن طاوس وسعيد ومجاهد وعطاء: أنهم كانوا ينكرون إتيان النساء في أدبارهن، ويقولون هو الكفر([13]) . ثانياً: إن الآية ليس فيها كلمة (الكفر) فهذه مصدر، وإنما في الآية (الكافر) وهو اسم فاعل وفرق بين المصدر المعرف بأل ، وبين اسم الفاعل المعرف بأل .. فكلام شيخ الإسلام -رحمهُ اللهُ- على المصدر لا على اسم الفاعل. قال شيخنا العلامة محمد بن صالح بن عثيمين -رحمهُ اللهُ- : "من سوء الفهم أيضاً قول من نَسَبَ لشيخ الإسلام ابن تيميَّة أنَّه قال: "إذا أطْلِق الكفر فإنما يراد به كفر أكبر" مستدلاً بهذا القول على التَّكفير بآية : {فأولئك هم الكافرون} ، مع أنَّه ليس في الآية أن هذا هو (الكفر). وأما القول الصحيح عن شيخ الإسلام فهو تفريقه -رحمهُ اللهُ- بين (الكفر) المعرف بـ(ال)، وبين (كفر) منَكَّراً([14]). فأما الوصف؛ فيصلح أن نقول فيه : "هؤلاء كافرون" أو "هؤلاء الكافرون" ؛ بناء على ما اتصفوا به من الكفر الذي لا يخرج من الملة، فَفَرْقٌ بين أن يوصف الفعل وأن يوصف الفاعل. وعليه؛ فإنه بتأويلنا لهذه الآية على ما ذكر: نحكم بأن الحكم بغير ما أنزل الله ليس بكفر مخرج من الملة، لكنه كفر عملي، لأن الحاكم بذلك خرج عن الطريق الصحيح"([15]) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهُ اللهُ- : "وإذا كان من قول السلف أن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق، فكذلك في قولهم: إنه يكون فيه إيمان وكفر، ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قالوا: كفروا كفراً لا ينقل عن الملة ، وقد اتبعهم على ذلك أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة"([16]) . -------------------------------------------------------------------------------- [1] انظر الاقتضاء ( 1/211 ) وشرح العمدة قسم الصلاة (82) . [2] قال ابن حزم في الفصل ( 3/ 234): فإن الله عز وجل قال : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، ومن لم يحكم بما أنز الله فأولئك هم الفاسقون ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون . فليلزم المعتزلة أن يصرحوا بكفر كل عاص وظالم وفاسق لأن كل عامل بالمعصية فلم يحكم بما أنزل الله ا.هـ [3] درج كثير من العلماء أن يعبر بكلمة (عاقل ) بدل (عالم)لكن عالم أدق لأن (مَنْ ) أطلقت على الله ، فالله يوصف بالعلم ولا يوصف بالعقل .قال الخطابي في كتاب شأن الدعاء ص113 :وفي أسمائه العليم ومن صفته العلم ، فلا يجوز قياساً عليه أن يسمى عارفاً لما تقتضيه المعرفة من تقديم الأسباب التي بها يتوصل إلى علم الشيء وكذلك لا يوصف بالعاقل ..ا.هـ . [4] التمهيد (17/16) . [5] التمهيد (5/74-75 ) . [6] تفسير المنار (6/406) . [7] الشريعة ص27. [8] أحكام القرآن ( 2/534 ) . [9] البحر المحيط ( 3/493 ) . ([10]) رواه مسدد في مسنده -كما في المطالب العالية(10/197)- ، وأبو يعلى(9/173-174) ، وابن جرير في تفسيره(6/240) والطبراني في المعجم الكبير(9/225-226) ، والبيهقي في السنن الكبرى(10/139) وهو صحيح. ([11]) رواه البخاري في صحيحه(6/505رقم5273) . ([12]) رواه معمر في جامعه(11/442رقم20953) ، والنسائي في السنن الكبرى(8/197رقم 8955-الرسالة) وسنده صحيح. ([13]) رواه الدارمي في سننه(1/277) وسنده حسن. ([14]) بينت عدم صحة هذا أيضاً فيما سبق. ([15]) التحذير من فتنة التكفير(ص/77-78). ([16]) مجموع الفتاوى(7/312). الشبهةالرابعة والعشرون :إستدلالهم بقوله تعالى({إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ومما يلبس به الخوارج ما قالوا: إن الله -عزَّ وجلَّ- كفر اليهود في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}([1]) لَمَّا غيروا حكم رجم الزاني المحصن إلى التحميم لأنهم عدلوا عن حكم الله وجعلوا حكمهم نظاماً يطبق على الجميع ، ولم يكن كفرهم لاستحلالهم الحكم بغير ما أنزل الله! ([2]) والجواب على هذه الشبهة: أن هذا من أعجب العجب! فالروايات الصحيحة صريحة بأن اليهود جعلوا حكمهم المبدَّل هو حكم الله وشريعته، حيث نسبوا تشريعهم إلى الله -عزَّ وجلَّ- وجل ، فهذا أمر يتضمن استحلالهم ما حرَّم الله وزيادة.. فسبب نزول الآية: عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "أنَّ اليهودَ جاؤوا إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فذكروا له؛ أنَّ رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟)) فقالوا: نفضحهم ويجلدون. فقال عبد الله بن سلام: كذبتم، إنَّ فيها الرجم، فَأَتَوا بالتوراة، فنشروها، فَوَضَعَ أحدُهم يدَهُ على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم ، فقالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَرُجِمَا"([3]) فقد جاء في هذا الحديث التَّصريح بأن اليهود نسبوا حكمهم إلى التوراة ، والتوراة كتاب الله ووحيه وشريعته، فقد نسبوا حكمهم إلى الله حين سألهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ((ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟)) فقالوا: نفضحهم ويجلدون. وفي حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه-: فدعاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((هكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابكم؟)) قالوا: نعم([4]). قال ابن كثير -رحمهُ اللهُ- : "فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حكم بموافقة حكم التوراة، وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته، لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة، ولكن هذا بوحي خاص من الله -عزَّ وجلَّ- إليه بذلك، وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطؤا على كتمانه وجحده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة، فلما اعترفوا به مع [عملهم] على خلافه بَانَ زيغُهُم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، وعدولهم إلى تحكيم الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم، لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به، ولهذا قالوا: {إن أوتيتم هذا} أي: الجلد والتحميم {فخذوه} أي : اقبلوه ، {وإن لم تؤتوه فاحذروا} أي: من قبوله واتباعه"([5]). وقد بين ابن جرير أن الله كفرهم لأنهم جاحدون لحكم الله حيث قال -رحمهُ اللهُ- : "إن الله عمَّ بالخبر بذلك عن قومٍ كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين ، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم على سبيل ما تركوه كافرون، وكذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به هو بالله كافر، كما قال ابن عباس، لأنَّهُ بِجُحُودِهِ حكمَ الله بعد علمه أنَّهُ أنزله في كتابه نظيرَ جُحودِهِ نبوَّةَ نبيه بعد علمه أنه نَبِيٌّ"([6]). وقال الجصاص -رحمهُ اللهُ- : "من جحد حكم الله ، أو حكم بغير حكم الله ثم قال: إن هذا حكم الله فهو كافر ، كما كفرت بنو إسرائيل حين فعلوا ذلك"([7]). وقال إسماعيل القاضي -رحمهُ اللهُ- : "ظاهر الآيات يدلُّ على أنَّ من فعل مثل ما فعلوا واخترع حكماً يخالف به حكم الله ، وجعله ديناً يعمل به فقد لزمه ما لزمهم من الوعيد المذكور حاكماً كان أو غيره"([8]). فظهر أن اليهود لم يكونوا عادلين عن حكم الله دون جحد أو استحلال بل كانوا جاحدين لحكم الله ، مستحلين الحكم بما تواضعوا واصطلحوا عليه ، ونسبوا فعلهم هذا إلى شريعة الله . وهذا معروف عن اليهود كما ذكر الله ذلك عنهم في كتابه حيث قال -عزَّ وجلَّ- : {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ}([9])، وقال -عزَّ وجلَّ- : {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}([10]). وكما في حديث عدي بن حاتم -رضي الله عنه- حيث قال : ..فانتهيت إليه –يعني : إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ في سورة براءة: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} فقلت: إنا لسنا نعبدهم. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يحرمون ما أحل الله فتحرمون، ويحلون ما حرم الله فتستحلون)) قلت: بلى. قال: ((فتلك عبادتهم)) ([11]). -------------------------------- ([1]) سورة المائدة(آية/44). ([2]) ذكر هذه الشبهة المقدسي والمحمود وغيرهما . ([3])رواه البخاري في صحيحه(4/550رقم3635)، ومسلم في صحيحه(3/1326رقم1699). ([4])رواه مسلم في صحيحه(3/1327رقم1700). ([5]) تفسير ابن كثير(2/60). ([6]) تفسير الطبري(6/257). ([7]) أحكام القرآن (2/439). ([8]) نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري(13/129). ([9]) سورة البقرة(آية/79). ([10]) سورة آل عمران(آية/78). ([11]) رواه البخاري في التاريخ الكبير(7/106)، والترمذي في سننه(5/278رقم3095)، والطبراني في المعجم الكبير(17/92)، والطبري في تفسيره(10/114)، وابن أبي حاتم في تفسيره(6/1784) ، والبيهقي في السنن الكبرى(10/116) ، وفي المدخل(ص/210)، وابن حزم في الإحكام(6/283)، وعزاه الحافظ في تخريج الكشاف إلى : ابن سعد في الطبقات ، وأبي يعلى في مسنده، وابن أبي شيبة في مسنده، وابن مردويه في تفسيره. وحسنه شيخ اسلام ابن تيمية، وقال الترمذي: حسن غريب ، وحسنه الشيخ الألباني. __________________ الشبهة الخامسة والعشرون: إستدلالهم بأثر ابن مسعود ومما يلبس به الخوارج ما قالوا: إن هناك أثراً ثابتاً عن علقمة ومسروق أنهما سألا عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – عن الرشوة ، فقال: من السحت . قال: فقالا: أفي الحكم؟ قال: ذاك الكفر . ثم تلا هذه الآية ) وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( أخرجه الطبري في تفسيره . فهذا يفيد التكفير بمجرد الحكم بغير ما أنزل الله . والجواب على هذه الشبهة من أوجه: الوجه الأول: لو تأملت أثر ابن مسعود ولو قليلاً لعلمنا أنه لا يدل على ما يريد به هؤلاء ولا ممسك لهم به ، وذلك لأمرين: 1- أن الأخذ بظاهره على ما تظن يقتضي الكفر الأكبر لمن أخذ الرشوة ليحكم بغير ما أنزل الله في مسألة واحدة . وهذا الظاهر لا تقول به ، وقطعاً غير مراد للإجماعات التي سبق نقلها عن ابن عبدالبر وغيره من أن هذا قول الخوارج دون غيرهم . 2- أن ابن مسعود لم يبين أي الكفر المراد : الأكبر أو الأصغر . أما أثر ابن عباس فصريح في إرادة الأصغر دون الأكبر فلا يصح جعل الخلاف بين الصحابة بما هو مظنون ، فإن الأصل عدم خلافهم لقلته بينهم . الوجه الثاني : أن ابن مسعود يقول بالتفصيل الذي ذهب إليه ابن عباس وعامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ كما نقله عنه القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» (6/190): «وقال ابن مسعود والحسن هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله؛ أي: معتقداً ذلك مستحلاً له». الوجه الثالث: الرشوة معصية بإجماع المسلمين، ولا يكفر مرتكب الكبيرة إلا بالاستحلال، بإجماع أهل السنة والجماعة. الوجه الرابع: أن ابن مسعود وغيره من الصحابة- رضي الله عنهم- لم يقل أحد منهم برأي الخوارج؛ كما هو صريح قول ابن عباس للخوارج عندما ناظرهم: «جئتكم من عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله». والخوارج هم الذين يستدلون بهذه الآية على التكفير المطلق دون تفصيل؛ فلو كان ابن مسعود - رضي الله عنه- يرى رأيهم لكان معهم -وحاشاه-، وهو الذي أنكر على الخوارج ما هو أدنى من ذلك وأقل- التسبيح بالحصى- في مسجد الكوفة في القصة المشهورة. الوجه الخامس: أن جميع أهل العلم الذين نقلوا تفسير عبد الله بن عباس وتلقوه بالقبول؛ نقلوا معه اتفاق الصحابة - رضي الله عنهم- ولم يذكروا له مخالفاً، فدعوى المخالفة لا دليل عليها، ولا أصل لها، ولكن القوم يتشبثون بخيوط القمر(!). __________________ (لا تحرمونا من دعائكم ♥♥الــــهـــــــدايـــــة♥♥) ///---\\\ منقووووووووووووووووول.... أحفاد الصلاح الدين الأيوبي : أخوكم ابوحسين مزيري Hafar~alqbor@nimbuzz.com حفار القبور في خدمتكم http://paradiseway.yn.lt طريق الجنه خاص لتحميل تكستات اسلاميه، مع قسم اللغة الكردية http://ramadhan.yn.lt رمضان ، لتعرف اكثر عن شهر رمضان، مع قسم اللغة الكردية اذا أعجبك موضوع من موضوعاتى ..فلا تشكرنى ولكن أدع لي (في ظهر الغيب) ملاحظه :- كل ملفات منقوله ______________