تفسير القرآن الكريم - المجلد الثاني تفسير سورة البقرة من الآيه 114 إلى الآيه 207 محمد بن صالح العثيمين القــــرآن {)وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (البقرة:114) التفسير:ـ { 114 } قوله تعالى: { ومن أظلم }: { من } اسم استفهام؛ وهي مبتدأ؛ و{ أظلم } خبرها؛ والاستفهام هنا بمعنى النفي؛ يعني لا أحد أظلم؛ والميزان الذي يبيِّن أن الاستفهام بمعنى النفي أنك لو حذفت الاستفهام، وأقمت النفي مقامه لصح؛ والفائدة من تحويل النفي إلى الاستفهام أنه أبلغ في النفي؛ إذ إن الاستفهام الذي بمعنى النفي مشرب معنى التحدي؛ كأنه يقول: بيِّنوا لي أيّ أحد أظلم من كذا وكذا. وقوله تعالى: { أظلم } اسم تفضيل من الظلم؛ وأصله في اللغة النقص؛ وهو أن يفرط الإنسان فيما يجب؛ أو يعتدي فيما يحرم؛ ويدل على هذا قوله تعالى: {كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً} [الكهف: 33] أي لم تنقص؛ وهو في الشرع بهذا المعنى؛ لأن الظلم عبارة عن تفريط في واجب، أو انتهاك لمحرم ــــ وهذا نقص قوله تعالى: { ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه }: «مِن» حرف جر؛ و{ مَن } اسم موصول؛ أي من الذي منع؛ وأضيفت المساجد إلى الله عز وجل؛ لأنها محل عبادته؛ فتكون الإضافة هنا من باب التشريف. وقوله تعالى: { مساجد الله } منصوب على أنه مفعول { منع }؛ و{ أن يذكر فيها اسمه } بدل منه. قوله تعالى: { وسعى في خرابها } معطوف على { منع }؛ يعني جمع وصفين: منع المساجد أن يذكر فيها اسمه؛ والسعي في خرابها؛ والخراب هو الفساد، كما قال تعالى: {يخربون بيوتهم بأيديهم} [الحشر: 2] . قوله تعالى: { أولئك } اسم إشارة يعود إلى الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وسعوا في خرابها؛ { ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين } يحتمل ثلاثة معان: الأول: ما كان ينبغي لهؤلاء أن يدخلوها إلا خائفين فضلاً عن أن يمنعوا عباد الله؛ لأنهم كافرون بالله عز وجل؛ فليس لهم حق أن يدخلوا المساجد إلا خائفين. الثاني: أن هذا خبر بمعنى النهي؛ يعني: لا تدعوهم يدخلوها - إذا ظهرتم عليهم - إلا خائفين. الثالث: أنها بشارة من الله عز وجل أن هؤلاء الذين منعوا المساجد - ومنهم المشركون الذين منعوا النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام - ستكون الدولة عليهم، ولا يدخلونها إلا وهم ترجف قلوبهم. قوله تعالى: { لهم في الدنيا خزي } أي ذل، وعار { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } أي عقوبة عظيمة. الفوائد: 1- من فوائد الآية: أن المعاصي تختلف قبحاً؛ لقوله تعالى: { ومن أظلم }؛ و{ أظلم } اسم تفضيل؛ واسم التفضيل يقتضي مفضَّلاً، ومفضَّلاً عليه؛ وكما أن المعاصي تختلف، فكذلك الطاعات تختلف: بعضها أفضل من بعض؛ وإذا كانت الأعمال تختلف فالعامل نتيجة لها يختلف؛ فبعض الناس أقوى إيماناً من بعض؛ وبهذا نعرف أن القول الصحيح قول أهل السنة، والجماعة في أن الإيمان يزيد، وينقص، والناس يتفاوتون تفاوتاً عظيماً لا في الكسب القلبي، ولا في الكسب البدني: فإن الناس يتفاوتون في اليقين؛ ويتفاوتون في الأعمال الظاهرة من قول أو فعل. يتفاوتون في اليقين: فإن الإنسان نفسه تتفاوت أحواله بين حين وآخر؛ في بعض الأحيان يصفو ذهنه وقلبه حتى كأنما يشاهد الآخرة رأي عين؛ وفي بعض الأحيان تستولي عليه الغفلة، فيَقِلُّ يقينه؛ ولهذا قال الله تعالى لإبراهيم: {أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260] ؛ وتفاوت الناس في العلم، واليقين أمر معلوم: فلو أتى رجل، وقال: «قدم فلان» - والرجل ثقة عندي - صار عندي علم بقدومه؛ فإذا جاء آخر، وقال: «قدم فلان» ازداد علمي؛ فإذا جاء الثالث ازداد علمي أكثر؛ فإذا رأيتُه ازداد علمي؛ فالأمور العلمية تتفاوت في إدراك القلوب لها. أيضاً يتفاوت الناس في الأقوال: فالذي يسبِّح الله عشر مرات أزيد إيماناً ممن يسبِّحه خمس مرات؛ وهذه زيادة كمية الإيمان؛ كذلك يتفاوت الناس في الأعمال من حيث جنس العمل: فالمتعبد بالفريضة أزيد إيماناً من المتعبد بالنافلة؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: «ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه» ؛ فبهذا يكون القول الصواب بلا ريب قول أهل السنة، والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص(1). 2 ــــ ومن فوائد الآية: جواز منع دخول المساجد لمصلحة؛ لقوله تعالى: { أن يذكر فيها اسمه}؛ ومنع مساجد الله له أسباب؛ فتارة تمنع المساجد من أن تمتهن فرشها، أو أرضها، أو كتبها، أو مصاحفها؛ فتغلَّق الأبواب حماية لها؛ وتارة تغلق أبوابها خوفاً من الفتنة، كما لو اجتمع فيها قوم لإثارة الفتن، والتشويش على العامة؛ فتغلق منعاً لهؤلاء من الاجتماع؛ وتارة تغلق لترميمها، وإصلاحها؛ وتارة تغلق خوفاً من سرقة ما فيها؛ ففي كل هذه الصور إغلاقها مباح، أو مطلوب. 3 ــــ ومنها: تحريم منع المساجد من أن يذكر فيها اسم الله سواء كان ذكر الله: صلاة، أو قراءة للقرآن، أو تعليماً للعلم، أو غير ذلك. وأخذ بعض العلماء من هذه الآية: تحريم التحجر؛ وهو أن يضع شيئاً في الصف، فيمنع غيره من الصلاة فيه، ويخرج من المسجد؛ قالوا: لأن هذا منع المكان الذي تحجره بالمسجد أن يذكر فيه اسم الله؛ لأن هذا المكان أحق الناس به أسبق الناس إليه؛ وهذا قد منع من هو أحق بالمكان منه أن يذكر فيه اسم الله؛ وهذا مأخذ قوي؛ ولا شك أن التحجر حرام: أن الإنسان يضع شيئاً، ويذهب، ويبيع، ويشتري، ويذهب إلى بيته يستمتع بأولاده، وأهله؛ وأما إذا كان الإنسان في نفس المسجد فلا حرج أن يضع ما يحجز به المكان بشرط ألا يتخطى الرقاب عند الوصول إليه، أو تصل إليه الصفوف؛ فيبقى في مكانه؛ لأنه حينئذ يكون قد شغل مكانين. 4- ومن فوائد الآية: شرف المساجد؛ لإضافتها إلى الله؛ لقوله تعالى: { مساجد الله }؛ والمضاف إلى الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إما أن يكون أوصافاً؛ أو أعياناً؛ أو ما يتعلق بأعيان مخلوقة؛ فإذا كان المضاف إلى الله وصفاً فهو من صفاته غير مخلوق، مثل كلام الله، وعلم الله؛ وإذا كان المضاف إلى الله عيناً قائمة بنفسها فهو مخلوق وليس من صفاته، مثل مساجد الله، وناقة الله، وبيت الله؛ فهذه أعيان قائمة بنفسها إضافتها إلى الله من باب إضافة المخلوق لخالقه على وجه التشريف؛ ولا شيء من المخلوقات يضاف إلى الله عز وجل إلا لسبب خاص به؛ ولولا هذا السبب ما خص بالإضافة؛ وإذا كان المضاف إلى الله ما يتعلق بأعيان مخلوقة فهو أيضاً مخلوق؛ وهذا مثل قوله تعالى: {ونفخت فيه من روحي} [الحجر: 29] ؛ فإن الروح هنا مخلوقة؛ لأنها تتعلق بعين مخلوقة. 5- ومن فوائد الآية: أن المصلَّيات التي تكون في البيوت، أو الدوائر الحكومية لا يثبت لها هذا الحكم؛ لأنها مصلَّيات خاصة؛ فلا يثبت لها شيء من أحكام المساجد. 6- ومنها: أنه لا يجوز أن يوضع في المساجد ما يكون سبباً للشرك؛ لأن { مساجد الله } معناها موضع السجود له؛ فإذا وضع فيها ما يكون سبباً للشرك فقد خرجت عن موضوعها، مثل أن نقبر فيها الموتى؛ فهذا محرم؛ لأن هذا وسيلة إلى الشرك. 7- ومنها: وجوب تطهير المساجد؛ وهذا مأخوذ من إضافتها إلى الله تلك الإضافة القاضية بتشريفها، وتعظيمها؛ ولهذا قال تعالى: { وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والركَّع السجود }. 8- ومنها: أن الناس فيها سواء؛ لأن الله تعالى أضافها إلى نفسه: { مساجد الله }؛ والناس عباد الله - بالنسبة إلى الله في المسجد سواء -؛ فكل من أتى إلى هذه المساجد لعبادة الله فإنه لا فرق بينه وبين الآخرين. وهنا نقول: إن للعالِم الحق أن يتخذ مكاناً يجعله لإلقاء الدرس، وتعليم الناس؛ لكنه إذا أقيمت الصلاة لا يمنع الناس - هو، وغيره سواء -. 9- ومنها: أن ذكر الله لا بد أن يكون باسمه، فتقول: لا إله إلا الله؛ سبحان الله؛ سبحان ربك رب العزة عما يصفون؛ سبحان ربي العظيم؛ فالذكر باللسان لا يكون إلا باسم الله؛ أما ذكر القلب فيكون ذكراً لله، وذكراً لأسمائه؛ فقد يتأمل الإنسان في قلبه أسماء الله، ويتدبر فيها، ويكون ذكراً للاسم؛ وقد يتأمل في أفعال الله عز وجل، ومخلوقاته، وأحكامه الشرعية. أما ذكره بالضمير المفرد فبدعة، وليس بذكر، مثل طريقة الصوفية الذين يقولون: أفضل الذكر أن تقول: «هو»، «هو»؛ «هو»، «هو»؛ قالوا: لأنك لا تشاهد إلا الله ــــ والعياذ بالله؛ فهم يرون أن أكمل حال الإنسان هو الفناء ــــ أي يفنى عن مشاهدة ما سوى الله، بحيث إنه ما شاهد إلا الله؛ ويقولون: ليس بلازم أن تقول: «لا إله إلا الله»: تثبت إلهين: واحد منفي، والثاني مثبت! بل قل: «هو»، «هو»، «هو»؛ فهذا لا شك من البدع؛ وليس ذكراً لله عز وجل؛ بل هو من المنكر. 10 ــــ ومن فوائد الآية: تحريم تخريب المساجد؛ لقوله تعالى: { وسعى في خرابها }؛ ويشمل الخراب الحسي، والمعنوي؛ لأنه قد يتسلط بعض الناس ــــ والعياذ بالله ــــ على هدم المساجد حسًّا بالمعاول، والقنابل؛ وقد يخربها معنًى، بحيث ينشر فيها البدع والخرافات المنافية لوظيفة المساجد. ــــ ومنها: البشارة للمؤمنين بأن العاقبة لهم، وأن هؤلاء الذين منعوهم لن يدخلوها إلا وهم خائفون؛ وهذا على أحد الاحتمالات التي ذكرناها. 12 ــــ ومنها: أن عقوبة من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها، الخزي والعار في الدنيا، والعذاب العظيم في الآخرة. 13 ــــ ومنها: أن الذنب إذا كان فيه تعدٍّ على العباد فإن الله قد يجمع لفاعله بين العقوبتين: عقوبة الدنيا، وعقوبة الآخرة؛ عقوبة الدنيا ليشفي قلب المظلوم المعتدى عليه؛ ولا شك أن الإنسان إذا اعتدى عليك، ثم رأيت عقوبة الله فيه أنك تفرح بأن الله سبحانه وتعالى اقتص لك منه؛ أما إذا كان في حق الله فإن الله تعالى لا يجمع عليه بين عقوبتين؛ لقوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [الشورى: 30] . 14 ــــ ومن فوائد الآية: إثبات يوم القيامة؛ لقوله تعالى: { ولهم في الآخرة عذاب عظيم }. 15 ــــ ومنها: أن عذاب الآخرة أعظم من عذاب الدنيا، كما أن نعيم الآخرة أكمل من نعيم الدنيا؛ ولكن الله سبحانه وتعالى يُري عباده نموذجاً من هذا، ومن هذا؛ لأنه لا يستقيم فهم الوعيد، ولا فهم الوعد، إلا بمشاهدة نموذج من ذلك؛ لو كان الله توعد بالنار، ونحن لا ندري ما هي النار، فلا نخاف إلا خوفاً إجمالياً عاماً؛ وكذلك لو وعد بالنعيم والجنة، ولا نعرف نموذجاً من هذا النعيم، لم يكن الوعد به حافزاً للعمل. القـرآن {)وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:115) التفسير: { 115 } قوله تعالى: { ولله المشرق والمغرب }؛ اللام للاختصاص؛ يعني أن الله سبحانه وتعالى مختص بملك المشرق، والمغرب؛ وأما من سواه فملكه محدود؛ و{ المشرق } مكان الشروق؛ و{ المغرب } مكان الغروب؛ وقد وردت المشرق، والمغرب في القرآن على ثلاثة أوجه: مفردة، ومثناة، وجمع؛ فجاءت مفردة هنا فقال تعالى: { ولله المشرق والمغرب }؛ وجاءت مثناة في قوله تعالى: {رب المشرقين ورب المغربين} [الرحمن: 17] ، وجمعاً في قوله تعالى: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب} [المعارج: 40] ؛ والجمع بين هذه الأوجه الثلاثة أن نقول: أما «المشرق» فلا ينافي «المشارق» ، ولا «المشرقين» ؛ لأنه مفرد محلى بـ «أل» ؛ فهو للجنس الشامل للواحد، والمتعدد؛ وأما { رب المشرقين ورب المغربين }، و{ رب المشارق والمغارب } فالجمع بينهما أن يقال: إن جمع { المشارق }، و{ المغارب } باعتبار الشارق، والغارب؛ لأن الشارق، والغارب كثير: الشمس، والقمر، والنجوم؛ كله له مشرق، ومغرب؛ فمن يحصي النجوم! أو باعتبار مشرق كل يوم، ومغربه؛ لأن كل يوم للشمس مشرق، ومغرب؛ وللقمر مشرق، ومغرب؛ وثنَّى باعتبار مشرق الشتاء، ومشرق الصيف؛ فمشرق الشتاء تكون الشمس في أقصى الجنوب؛ ومشرق الصيف في أقصى الشمال؛ وبينهما مسافات عظيمة لا يعلمها إلا الله؛ وسورة «الرحمن» أكثر ما فيها بصيغة التثنية؛ فلذلك كان من المناسب اللفظي أن يذكر المشرق، والمغرب بصيغة التثنية؛ أما عند العظمة فذكرت بالجمع: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون * على أن نبدل خيراً منهم وما نحن بمسبوقين} [المعارج: 40، 41] ؛ فقوله تعالى: { ولله المشرق والمغرب } أي مشرق كل شارق؛ ومغرب كل غارب؛ ويحتمل أن المراد له كل شيء؛ لأن ذكر المشرق والمغرب يعني الإحاطة والشمول. قوله تعالى: { فأينما تولوا فثم وجه الله }؛ «أين» شرطية؛ و «ما» زائدة للتوكيد؛ و{ تولوا } فعل الشرط مضارع مجزوم بأداة الشرط؛ وعلامة جزمه حذف النون؛ وقوله تعالى: { فثم وجه الله }: الفاء رابطة لجواب الشرط؛ و{ ثم } اسم إشارة يشار به للبعيد؛ وهو ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم؛ { وجه } مبتدأ مؤخر؛ والجملة من المبتدأ، وخبره في محل جزم جواب الشرط. قوله تعالى: { تولوا } أي تتجهوا؛ { فثم } أي فهناك؛ والإشارة إلى الجهة التي تولوا إليها؛ و{ وجه الله }: اختلف فيه المفسرون من السلف، والخلف، فقال بعضهم: المراد به وجه الله الحقيقي؛ وقال بعضهم: المراد به الجهة: { فثم وجه الله } يعني: في المكان الذي اتجهتم إليه جهة الله عز وجل؛ وذلك؛ لأن الله محيط بكل شيء؛ ولكن الراجح أن المراد به الوجه الحقيقي؛ لأن ذلك هو الأصل؛ وليس هناك ما يمنعه؛ وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قِبَل وجه المصلي(1)؛ والمصلُّون حسب مكانهم يتجهون؛ فأهل اليمن يتجهون إلى الشمال؛ وأهل الشام إلى الجنوب؛ وأهل المشرق إلى المغرب؛ وأهل المغرب إلى الشرق؛ وكل يتجه جهة؛ لكن الاتجاه الذي يجمعهم الكعبة؛ وكل يتجه إلى وجه الله؛ وعلى هذا يكون معنى الآية: أنكم مهما توجهتم في صلاتكم فإنكم تتجهون إلى الله سواء إلى المشرق، أو إلى المغرب، أو إلى الشمال، أو إلى الجنوب. قوله تعالى: { إن الله واسع عليم }؛ «الواسع» يعني واسع الإحاطة، وواسع الصفات؛ فهو واسع في علمه، وفي قدرته، وسمعه، وبصره، وغير ذلك من صفاته؛ و{ عليم } أي ذو علم؛ وعلمه محيط بكل شيء. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: انفراد الله بالملك؛ لتقديم الخبر في قوله تعالى: { ولله المشرق والمغرب}. 2 ــــ ومنها: عموم ملك الله؛ لأن المشرق والمغرب يحتويان كل شيء. 3 ــــ ومنها: إحاطة الله تعالى بكل شيء؛ لقوله تعالى: { فأينما تولوا فثم وجه الله }. 4 ــــ ومنها: عموم ملك الله تعالى للمشرق، والمغرب خلقاً وتقديراً؛ وله أن يوجه عباده إلى ما شاء منهما من مشرق ومغرب؛ فله ملك المشرق والمغرب توجيهاً؛ وقد سبق أن قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها...} [البقرة: 106] إلى آيات نسخ القبلة كله تمهيد لتحويل القبلة؛ فكأن الله تعالى يقول: لله المشرق والمغرب فإذا شاء جعل اتجاه القبلة إلى المشرق؛ وإذا شاء جعله إلى المغرب؛ فأينما تولوا فثم وجه الله. 5 ــــ ومنها: إثبات الوجه لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { فثم وجه الله }. 6 ــــ ومنها: أن الله تعالى له مكان لقوله تعالى: { فثم }؛ لأن «ثم» إشارة إلى المكان؛ ولكن مكانه في العلو؛ لا يحيط به شيء من مخلوقاته؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: «أين الله؟ قالت: في السماء»(2) . 7 ــــ ومنها: إبطال بدعتين ضالتين؛ إحداهما بدعة الحلولية القائلين بأن الله تعالى في كل مكان بذاته؛ فإن قول هؤلاء باطل يبطله السمع، والعقل، والفطرة أيضاً؛ الثانية: قول النفاة المعطلة الذين يقولون: إن الله لا داخل العالم، ولا خارجه؛ ولا فوق العالم، ولا تحته؛ ولا يمين العالم، ولا شمال العالم، ولا متصل بالعالم، ولا منفصل عن العالم؛ وهذا القول قال بعض أهل العلم: لو قيل لنا: صفوا لنا العدم ما وجدنا وصفاً أدق من هذا. 8 ــــ ومن فوائد الآية: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما: { واسع }، و{ عليم }. 9ــــ ومنها: إثبات سعة الله، وعلمه؛ ونستفيد صفة ثالثة من جمع السعة والعلم؛ للإشارة إلى أن علم الله واسع بمعنى أنه لا يفوته شيء من كل معلوم لا في الأرض، ولا في السماء. القــــرآن { )وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) (البقرة:116) )بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (البقرة:117) التفسير: { 116 } قوله تعالى: { وقالوا اتخذ الله ولداً } أي قالت النصارى، واليهود، والمشركون، اتخذ الله ولداً؛ اليهود قالت: عُزير ابن الله؛ والنصارى قالت: المسيح ابن الله؛ والمشركون قالوا: الملائكة بنات الله؛ فنزه الله نفسه عن ذلك بقوله تعالى: { سبحانه } أي تنزيهاً له أن يكون له ولد؛ لأنه الغني بذاته عن جميع مخلوقاته؛ وهو سبحانه وتعالى مالك لجميع المخلوقات، كما قال تعالى مبطلاً هذه الدعوى: { بل له ما في السموات والأرض }؛ ومن له ملك السموات والأرض، لا يحتاج إلى ولد؛ ولأنه لو كان له ولد لكان الولد مماثلاً له؛ والله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء. قوله تعالى: { كل له قانتون } أي كل له خاشع ذليل؛ لأنه مملوك؛ والله ــــ تبارك وتعالى ــــ هو المالك؛ وهذا من الاستدلال بالعقل على كذب دعوى هؤلاء أن له سبحانه وتعالى ولداً. { 117 } قوله تعالى: { بديع }: فعيل بمعنى مُفعل؛ أي مبدع؛ ولها نظير في اللغة العربية، مثل قول الشاعر: أم الريحانةَ الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع فـ«السميع» بمعنى المسمِع؛ { بديع السموات والأرض} أي موجدهما على غير مثال سابق. قوله تعالى: { وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } أي إذا أراد أن يقضي أمراً؛ والفعل يأتي بمعنى إرادته المقارنة له، مثل قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98] أي إذا أردت قراءته؛ والدليل على تأويل {قضى } بمعنى «أراد أن يقضي» هو قوله تعالى في آية أخرى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] ؛ على أنه يصلح أن يكون { إذا قضى أمراً... } بمعنى إذا فعل شيئاً فإنما يقول تعالى له عند فعله: { كن فيكون }؛ يعني أن فعله سبحانه وتعالى للشيء يكون بعد قوله عز وجل: { كن } من غير تأخر؛ لأنه ليس أمراً شاقاً عليه؛ و{ أمراً } واحد الأمور؛ يعني الشؤون؛ أي إذا قضى شأناً من شؤونه سبحانه وتعالى فإن ذلك لا يصعب عليه: { فإنما يقول له كن }؛ أي لا يقول له إلا «كن» مرة واحدة بدون تكرار؛ و{ كن } هنا تامة من «كان» بمعنى حدث؛ { فيكون } أي فيحدث كما أمره الله سبحانه وتعالى على ما أراد الله عز وجل. وفي قوله تعالى: { فيكون } قراءتان؛ هما النصب، والرفع؛ فعلى قراءة النصب تكون جواباً للأمر: { كن } أي فبسبب ذلك يكون؛ وتكون الفاء للسببية؛ وعلى قراءة الرفع تكون للاستئناف؛ أي فهو يكون. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآيتين: بيان عتوّ الإنسان وطغيانه، حيث سبَّ الله سبحانه وتعالى هذه السبَّة العظيمة، فقال: إن الله اتخذ ولداً!!! في الحديث الصحيح القدسي: «كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك؛ وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: إنه لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفْئاً أحدٌ»(1) ؛ فهذا من أعظم العدوان؛ وهو يشير كما تقدم في التفسير إلى ثلاث طوائف: اليهود، والنصارى، والمشركين؛ وقد أبطل الله هذه الدعوى الكاذبة من ستة أوجه: الوجه الأول: في قوله تعالى: { سبحانه }؛ فإن تنزهه عن النقص يقتضي أن يكون منزهاً عن اتخاذ الولد؛ لأن اتخاذ الولد يقصد به الإعانة، ودفع الحاجة، أو بقاء العنصر؛ والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك؛ ومنزه أيضاً عن المماثلة؛ ولو كان له ولد لكان مثيلاً له. الوجه الثاني: في قوله تعالى: { بل له ما في السموات والأرض }؛ وعموم ملكه يستلزم استغناءه عن الولد. الوجه الثالث: في قوله تعالى: { بل له ما في السموات والأرض }، والمملوك لا يكون ولداً للمالك؛ حتى إنه شرعاً إذا ملك الإنسان ولده يعتق عليه؛ فالمملوك لا يمكن أن يكون ولداً للمالك؛ فالله خالق؛ وما سواه مخلوق؛ فكيف يكون المخلوق ولداً للخالق! الوجه الرابع: في قوله تعالى: { كل له قانتون }؛ ووجهه أن العباد كلهم خاضعون ذليلون؛ وهذا يقتضي أنهم مربوبون لله عابدون له؛ والعبد لا يكون ولداً لربه. الوجه الخامس: في قوله تعالى: { بديع السموات والأرض }؛ ووجهه أنه سبحانه وتعالى مبدع السموات والأرض؛ فالقادر على خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق إنساناً بلا أب، كما قال تعالى: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} [غافر: 57] . الوجه السادس: في قوله تعالى: { إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون }؛ ومن كان هذه قدرته فلا يستحيل عليه أن يوجد ولداً بدون أب. فبطلت شبهتهم التي يحتجون بها على أن لله ولداً. 2 ــــ ومن فوائد الآيتين: امتناع أن يكون لله ولد؛ لهذه الوجوه الستة. 3ــــ ومنها: عموم ملك الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { بل له ما في السموات والأرض }. 4ــــ ومنها: أن الله لا شريك له في ملكه؛ لتقديم الخبر في قوله تعالى: { له ما في السموات والأرض }؛ وتقديم الخبر يفيد الاختصاص. 5ــــ ومنها: أن كل من في السموات، والأرض قانت لله؛ والمراد القنوت العام ــــ وهو الخضوع للأمر الكوني ــــ؛ والقنوت يطلق على معنيين؛ معنى عام وخاص؛ «المعنى الخاص» هو قنوت العبادة، والطاعة، كما في قوله تعالى: {أمَّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً} [الزمر: 9] ، وكما في قوله تعالى: {وصدَّقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12] ، وكما في قوله تعالى: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} [آل عمران: 43] ؛ و«المعنى العام» هو قنوت الذل العام؛ وهذا شامل لكل من في السموات، والأرض، كما في هذه الآية: { كل له قانتون }؛ حتى الكفار بهذا المعنى قانتون لله سبحانه وتعالى؛ لا يخرجون عن حكمه الكوني. 6 ــــ ومن فوائد الآيتين: عظم قدرة الله عز وجل ببدع السموات، والأرض؛ فإنها مخلوقات عظيمة. 7ــــ ومنها: حكمة الله سبحانه وتعالى بأن هذه السموات، والأرض على نظام بديع عجيب؛ قال تعالى: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} [الملك: 3] ؛ هذا النظام الواسع الكبير العظيم لا يختل، ولا يتغير على مر السنين، والأعوام؛ فتدل على قدرة باهرة بالغة، وحكمة عظيمة بالغة: كل شيء منظم تنظيماً بديعاً متناسباً، فلا يصطدم شيء بشيء فيفسده؛ ولا يغير شيء شيئاً؛ بل كل سائر حسب ما أمره الله به؛ قال الله تعالى: {وأوحى في كل سماء أمرها} [فصلت: 12] ؛ إذاً { بديع السموات والأرض } يستفاد منها القوة، والقدرة، والحكمة. 8ــــ ومن فوائد الآيتين: أن السموات عدد؛ لأن الجمع يدل على العدد؛ وقد بيَّن الله في القرآن، وثبتت السنة، وأجمع المسلمون على أن السماء جرم محسوس؛ وليس كما قال أهل الإلحاد: إن الذي فوقنا فضاء لا نهاية له؛ وأما الأرض فلم تأت في القرآن إلا مفردة؛ لكن أشار الله سبحانه وتعالى إلى أنها سبع في قوله تعالى: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} [الطلاق: 12] ؛ وصرحت السنة بذلك في قوله (ص): «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين»(1) . 9ــــ ومن فوائد الآيتين: أن الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، ولا يمتنع عن أمره شيء؛ لقوله تعالى: { إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون }. 10ــــ ومنها: إثبات القول لله؛ لقوله تعالى: { فإنما يقول له }. 11ــــ ومنها: أن قول الله بصوت مسموع؛ لقوله تعالى: { فإنما يقول له كن فيكون }؛ و{ له } صريحة في توجيه القول للمقول له؛ ولولا أنه يسمعه لما صار في توجيهه له فائدة؛ ولهذا يسمعه الموجه إليه الأمر، فيمتثل، ويكون. 12ــــ ومنها: أن قول الله بحروف؛ لقوله تعالى: { كن }؛ وهي كلمة بحرفين. فإن قال قائل: كيف يمكن أن نتصور هذا ونحن نقول: ليس كمثله شيء؛ وأنتم تقولون: إنه بحروف؟ قلنا: نعم؛ الحروف هي الحروف؛ لكن كيفية الكلام، وحقيقة النطق بها ــــ أو القول ــــ لا يماثل نطق المخلوق، وقوله؛ ومن هنا نعرف أننا لا نكون ممثِّلة إذا قلنا: إنه بحرف، وصوت مسموع؛ لأننا نقول: صوت ليس كأصوات المخلوقين؛ بل هو حسب ما يليق بعظمته، وجلاله. 13ــــ ومن فوائد الآيتين: أن الجماد خاضع لله سبحانه وتعالى؛ وذلك لأن قوله تعالى: { وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } يشمل الأمور المتعلقة بالحيوان، والمتعلقة بالجماد؛ فالجماد إذا قال الله تعالى له: { كن } كان. 14ــــ ومنها: أنه ليس بين أمر الله بالتكوين، وتكونه تراخٍ؛ بل يكون على الفورية؛ وذلك لقوله تعالى: { فيكون }: بالفاء؛ والفاء تدل على الترتيب، والتعقيب. القـــــرآن { )وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (البقرة:118) التفسير: { 118 } قوله تعالى: { وقال الذين لا يعلمون } أي ليسوا من ذوي العلم { لولا يكلمنا الله } أي هلَّا يكلمنا الله بتصديق الرسل { أو تأتينا آية } أي علامة على صدقهم؛ وهذا منهم على سبيل التعنت والعناد؛ فالتعنت قولهم: { لولا يكلمنا الله }؛ والعناد قولهم: { أو تأتينا آية }؛ لأن الرسل أتوا بالآيات التي يؤمن على مثلها البشر؛ وأعظمها القرآن الكريم الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ وقد تحداهم الله أن يأتوا بمثله، فعجزوا. قوله تعالى: { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم }؛ أي مثلَ هذا القول قال الذين من قبلهم؛ وعلى هذا يكون { مثل قولهم } توكيداً لقوله تعالى: { كذلك }؛ أي مثل هذا القول الذي اقترحوه قد اقترحه من قبلهم: قوم موسى قالوا: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [البقرة: 55] ؛ فهذا دأب المكذبين للرسل ينكرون، ويقترحون؛ وقد أُتوا من الآيات بأعظم مما اقترحوه. قوله تعالى: { تشابهت قلوبهم }: الأولون، والآخرون قلوبهم متشابهة في رد الحق، والعناد، والتعنت، والجحود؛ من أول ما بعثت الرسل إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ــــ بل وإلى يوم القيامة ــــ فقلوب أهل الكفر، والعناد متشابهة؛ إنما يختلف الأسلوب؛ قد يقترح هؤلاء شيئاً؛ وهؤلاء شيئاً آخر؛ لكن الكلام على جنس الاقتراح، وعدم قبولهم للحق. قوله تعالى: { قد بينا } أي أظهرنا؛ لأن «بان» بمعنى ظهر؛ و«بيَّن» بمعنى أظهر؛ و{ الآيات } جمع آية؛ وهي العلامة المعيِّنة لمدلولها؛ فكل علامة تعين مدلولها تسمى آية؛ فآيات الله هي العلامات الدالة عليه. قوله تعالى: { لقوم يوقنون } متعلقة بقوله تعالى: { بينا }؛ و «الإيقان» هو العلم الذي لا يخالجه شك. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: أن أهل الباطل يجادلون بالباطل؛ لأن طلبهم الآيات التي يعينونها ما هو إلا تعنت واستكبار؛ ففي الآيات التي جاءت بها الرسل ما يؤمن على مثلها البشر؛ ثم إنهم لو جاءت الآيات على ما اقترحوا لم يؤمنوا إذا حقت عليهم كلمة ربهم؛ لقوله تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يوسف: 96، 97] . 2 ــــ ومنها: وصف من لم يَنقَدْ للحق بالجهل؛ لقوله تعالى: { وقال الذين لا يعلمون }؛ فكل إنسان يكابر الحق، وينابذه فإنه أجهل الناس. 3 ــــ ومنها: أن المشركين يقرون بأن الله يتكلم بحرف، وصوت مسموع؛ لقوله تعالى: { لولا يكلمنا الله فهم خير في هذا ممن يدعون أن كلام الله هو المعنى القائم في نفسه. 4 ــــ ومنها: أنه ما من رسول إلا وله آية؛ لأن قولهم: { أو تأتينا آية } هذا مدَّعى غيرهم؛ إذ إن من لم يأت بآية لا يلام من لم يصدقه؛ مثلاً إذا جاء رجل يقول: «أنا رسول الله؛ آمنوا بي وإلا قتلتكم، واستحللت نساءكم، وأموالكم» فلا نطيعه؛ ولو أننا أنكرناه لكنا غير ملومين؛ لكن الرسل تأتي بالآيات؛ ما من رسول إلا وأعطاه الله تعالى من الآيات ما يؤمن على مثلها البشر؛ فالله تعالى لا يرسل الرسل، ويتركهم بدون تأييد. 5 ــــ ومن فوائد الآية: أن أقوال أهل الباطل تتشابه؛ لقوله تعالى: { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم وقوله تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون} [الذاريات: 52، 53] ؛ وأنت لو تأملت الدعاوى الباطلة التي رد بها المشركون رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم من زمنه إلى اليوم لوجدت أنها متشابهة، كما قال تعالى: {وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون} [المطففين: 32] ؛ واليوم يقولون للمتمسكين بالقرآن، والسنة هؤلاء رجعيون؛ هؤلاء دراويش لا يعرفون شيئاً. 6 ــــ ومن فوائد الآية: أن الأقوال تابعة لما في القلوب؛ لقوله تعالى: { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم }؛ فلتشابه القلوب تشابهت الأقوال؛ ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله؛ وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب»(1). 7ــــ ومنها: تشابه قلوب الكفار؛ لقوله تعالى: { تشابهت قلوبهم }. 8ــــ ومنها: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإنسان المصاب إذا رأى أن غيره أصيب فإنه يتسلى بذلك، وتخف عليه المصيبة، كما قال تعالى: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} [الزخرف: 39] ؛ فالله تعالى يسلي رسوله (صلى الله عليه وسلم) بأن هذا القول الذي قيل له قد قيل لمن قبله. 9 ــــ ومنها: إبطال دعوى قولهم: { أو تأتينا آية } في قوله تعالى: { قد بينا الآيات }. 10 ــــ ومنها: أنه لا ينتفع بالآيات إلا الموقنون؛ لقوله تعالى: { قد بينا الآيات لقوم يوقنون }؛ وأما غير الموقنين فلا تتبين لهم الآيات لما في قلوبهم من الريب والشك. 11 ــــ ومنها: أن الموقن قد يتبين له من الآيات ما لم يتبين لغيره؛ ويؤيده قوله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدًى وآتاهم تقواهم} [محمد: 17] . 12 ــــ ومنها: أن الآيات تنقسم إلى قسمين: آيات شرعية، وآيات كونية؛ فالآيات الشرعية: ما جاءت به الرسل من الوحي؛ والقسم الثاني آيات كونية: وهي مخلوقات الله الدالة عليه، وعلى ما تقتضيه أسماؤه، وصفاته، كالشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، وغيرها: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد 13 ــــ ومنها: زيادة العلم باليقين؛ لأن من آيات الله هذا الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فكلما ازداد يقينك تبين لك من آيات الله ما لم يتبين لغيرك، فيزداد علمك؛ فباليقين يزداد العلم؛ قال تعالى: {ويزداد الذين آمنوا إيماناً} [المدثر: 31] ؛ فكلما كان الإنسان أقوى يقيناً كان أكثر علماً؛ وكلما ازداد علمه ازداد يقينه؛ فهما متلازمان. القــــرآن { )إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) (البقرة:119) التفسير: { 119 } قوله تعالى: { إنا أرسلناك }؛ «إن» للتوكيد؛ اسمها «نا» لكن حذفت النون لتوالي الأمثال؛ مع أن الأصل أنها لا تحذف: «إننا»؛ لكن لا نقول اسمها الألف؛ إذ إن الألف لا تكون ضميراً إلا إذا اتصلت بفعل، مثل: قالا، قاما، وما أشبه ذلك؛ وحذف المرسل إليه لإفادة العموم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل إلى العالمين؛ وغيره من الرسل إلى قومهم خاصة. قوله تعالى: { بالحق }؛ الباء هنا للمصاحبة، أو الملابسة؛ يعني أرسلناك متلبساً بالحق؛ أو أن المعنى: حاملاً الحق في هذه الرسالة؛ والآية تحتمل المعنيين؛ أحدهما: أن إرسالك حق؛ والثاني: أن ما أرسلت به حق؛ والمعنيان كلاهما صحيح؛ فتحمل الآية عليهما؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم رسالته حق؛ وعليه فالباء للملابسة؛ والرسول صلى الله عليه وسلم ما أرسل به فهو حق؛ وعلى هذا فالباء للمصاحبة ــــ يعني أن رسالتك مصحوبة بالحق ــــ؛ لأن ما جئت به حق؛ والحق هو الثابت المستقر؛ وهو ضد الباطل؛ والحق بالنسبة للأخبار الصدق؛ وبالنسبة للأحكام العدل. قوله تعالى: { بشيراً } من البشارة؛ وهي الإخبار بما يسر؛ وقد تقع فيما يسوء، كقوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} [آل عمران: 21] . قوله تعالى: { ونذيراً } من الإنذار؛ وهو الإعلام بالمكروه؛ أي بما يخاف منه. والرسول صلى الله عليه وسلم لا شك أنه مبشر بما يسر ــــ وهو الجنة ــــ؛ ومنذر بما يخاف منه ــــ وهو النار و{ بشيراً } حال من الكاف في { أرسلناك }؛ و{ نذيراً } حال أخرى بواسطة حرف العطف؛ فجمع الله له بين كونه مبشراً، ومنذراً؛ لأن ما جاء به أمر، ونهي؛ والمناسب للأمر: البشارة؛ وللنهي: الإنذار؛ فعليه تكون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم جامعة بين البشرى، وبين الإنذار؛ والأمر، والنهي؛ إذاً فالرسول مبشر للمتقين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً ماكثين فيه أبداً؛ ومنذر للكافرين أن لهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب. قوله تعالى: { ولا تسأل عن أصحاب الجحيم }؛ في { تسأل } قراءتان؛ إحداهما بالرفع على أن { لا} نافية؛ والفعل مبني لما لم يسم فاعله؛ يعني: ولا تُسأل أنت عن أصحاب الجحيم؛ أي لا يسألك الله عنهم؛ لأنك بلَّغت؛ والحساب على الله؛ والقراءة الثانية: بالجزم على أن { لا } ناهية؛ و{ تَسألْ }: فعل مضارع مبني للفاعل مجزوم بها؛ والمعنى: لا تَسأل عن أصحاب الجحيم بما هم عليه من العذاب؛ فإنهم في حال لا يتصورها الإنسان؛ وهذا غاية ما يكون من الإنذار لهؤلاء المكذبين المخالفين الذين هم أصحاب الجحيم؛ فالنهي هنا للتهويل؛ والقراءتان سبعيتان جامعتان للمعنيين؛ و{ أصحاب } جمع صاحب؛ وهو الملازم؛ و{ الجحيم } النار العظيمة؛ وهي لها أسماء كثيرة منها: النار، والسعير، وجهنم، والجحيم؛ كل ذلك لاختلاف أوصافها؛ وإلا فهي واحدة. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: الرد على هؤلاء الذين قالوا: { لولا يكلمنا الله... }؛ لقوله تعالى: { إنا أرسلناك بالحق }. 2ــــ ومنها: ثبوت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: { إنا أرسلناك }. 3ــــ ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول صادق؛ وليس برب؛ لأن الرسول لا يمكن أن يكون له مقام المرسِل. 4 ــــ ومنها: أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم متضمنة لأمر، ونهي، وتبشير، وإنذار؛ لقوله تعالى: { بشيراً ونذيراً }؛ والحكمة من ذلك ظاهرة؛ وذلك لأن الإنسان قد يهون عليه فعل الأوامر، ويشق عليه ترك المنهيات؛ أو بالعكس؛ فلو كانت الشريعة كلها أوامر ما تبين الابتلاء في كفّ الإنسان نفسه عن المحارم، ولو كانت كلها نواهي ما تبين ابتلاء الإنسان بحمل نفسه على الأوامر؛ فكان الابتلاء بالأمر، والنهي غاية الحكمة؛ فالشيخ الكبير يهون عليه ترك الزنى؛ ولذلك كانت عقوبته على الزنى أشد من عقوبة الشاب؛ المهم أن الابتلاء لا يتم إلا بتنويع التكليف؛ فمثلاً الصلاة تكليف بدني؛ والزكاة بذل للمحبوب؛ والصيام ترك محبوب؛ والحج تكليف بدني، ومالي. 5 ــــ ومن فوائد الآية: أن وظيفة الرسل الإبلاغ؛ وليسوا مكلفين بعمل الناس؛ لقوله تعالى: { ولا تُسأل عن أصحاب الجحيم }. وعلى القراءة الثانية نستفيد فائدة ثانية ؛ وهي شدة عذاب أصحاب الجحيم ــــ والعياذ بالله ــــ؛ لقوله تعالى: { ولا تَسأل عن أصحاب الجحيم }. القــــرآن { )وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة:120) التفسير: { 120 } قوله تعالى: { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم }: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يتألف اليهود، والنصارى؛ والذي يحب أن يتألفهم يحب أن يرضوا عنه؛ فبين الله عزّ وجلّ أن هؤلاء اليهود والنصارى قوم ذوو عناد؛ لا يمكن أن يرضوا عنك مهما تألفتهم؛ ومهما ركنت إليهم بالتألف ــــ لا بالمودة ــــ فإنهم لن يرضوا عنك حتى تتبع ملتهم؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يُنهَ عنه؛ ثم بعد ذلك كان يأمر بمخالفتهم؛ و{ لا } هنا للتوكيد؛ وليست مستقلة؛ فإنها لو حذفت، وقيل: «ولن ترضى عنك اليهود والنصارى» لاستقام الكلام؛ لكنها زيدت للتوكيد؛ لأجل ألا يظن الظان أن المراد أن الجميع لا يرضون مجتمعين؛ مع أن الواقع أن كل طائفة لن ترضى؛ ونظير ذلك في زيادة «لا»: قوله تعالى: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة: 7] : فإنها تفيد ما أفادته «لا» في قوله تعالى: { ولا النصارى و{ حتى }: حرف غاية؛ وهي تنصب المضارع بنفسها عند الكوفيين؛ وبـ«أن» المقدرة عند البصريين؛ و{ ملتهم } أي دينهم الذي كانوا عليه؛ فاليهود لن يرضوا عنك حتى تكون يهودياً، والنصارى لن ترضى عنك حتى تكون نصرانياً؛ ولكن الجواب الوحيد لهؤلاء الذين يقولون: «لا نرضى عنك حتى تتبع ملتنا»، قوله تعالى: { قل أي مجيباً لهم في عدم اتباع ملتهم { إن هدى الله هو الهدى } أي ليس الهدى ما أنتم عليه؛ بل إن هدى الله وحده هو الهدى؛ و{ هو } ضمير فصل لا محل له من الإعراب؛ وقوله تعالى: { الهدى } خبر { إن }؛ أما اسمها فهو قوله تعالى: { هدى الله }. قوله تعالى: { ولئن اتبعت أهواءهم }: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم؛ أو لكل من يتأتى خطابه؛ ولكن الأقرب أنه للرسول (ص)؛ و{ لئن اتبعت } جملة فيها شرط، وقسم؛ وإذا اجتمعا ــــ أي الشرط، والقسم فإنه يحذف جواب المؤخر منهما؛ قال ابن مالك في الألفية: واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أخرت فهو ملتزم والقسَم دلت عليه اللام في قوله تعالى: { ولئن اتبعت }؛ إذ إن التقدير: «والله لئن اتبعت»؛ والشرط «إن» . والجواب: { ما لك من الله... }؛ وهو جواب القسم بناءً على القاعدة التي أشار إليها ابن مالك؛ ولأنه لو كان جواب الشرط لوجب اقترانه بالفاء؛ لأنه نُفي بـ{ ما }؛ وجواب الشرط قيل: إنه محذوف دل عليه جواب القسم؛ وقيل: إنه لا يحتاج إليه لتمام الكلام بدونه؛ وهذا القول هو الراجح ــــ أنه لا يحتاج إليه لتمام الكلام بدونه ــــ؛ والدليل على ذلك؛ أنه لم يأت ذكره في أي أسلوب من أساليب اللغة العربية؛ فإذا لم يأت في أي أسلوب من أساليب اللغة العربية دل على أن الكلام مستغن عنه. قوله تعالى: { بعد الذي جاءك من العلم } يشير إلى الوحي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان القرآن، أو السنة؛ فالذي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عِلم. قوله تعالى: { ما لك من الله من ولي ولا نصير }: { ما } نافية؛ و{ لك } جار ومجرور خبر مقدم؛ و{ وليّ } مجرور لفظاً مرفوع محلاً على أنه مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد إعراباً؛ وأصلها: «ما لك من الله وليٌّ»؛ وجملة: { ما لك من الله } لا محل لها من الإعراب؛ لأنها جواب القسم؛ و «الولي» هو الذي يتولى غيره بحفظه، وصيانته؛ فالمعنى: ما أحد يتولى حفظك سوى الله عزّ وجلّ؛ و «النصير» هو الذي يدفع الشر؛ أي: ولا أحد يتولى نصرك، فيدفع عنك الشر سوى الله عزّ وجلّ. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: بيان عناد اليهود، والنصارى، حيث لا يرضون عن أحد إلا إذا اتبع دينهم. 2ــــ ومنها: أن من كان لا يرضى إلا بذلك فسيحاول إدخال غير اليهود، والنصارى في اليهودية، والنصرانية. 3 ــــ ومنها: الحذر من اليهود، والنصارى؛ إذ لا يرضون لأحد حتى يكون يهودياً؛ أو نصرانياً. 4 ــــ ومنها: أن الكفر ملة واحدة؛ لقوله تعالى: { ملتهم }؛ وهو باعتبار مضادة الإسلام ملة واحدة؛ أما باعتبار أنواعه فإنه ملل: اليهودية ملة؛ والنصرانية ملة؛ والبوذية ملة؛ وهكذا بقية الملل؛ ولكن كل هذه الملل باعتبار مضادة الإسلام تعتبر ملة واحدة؛ لأنه يصدق عليها اسم الكفر؛ فتكون جنساً، والملل أنواعاً. 5ــــ ومنها: الرد على أهل الكفر بهذه الكلمة: { هدى الله هو الهدى }؛ والمعنى: إن كان معكم هدى الله فأنتم مهتدون؛ وإلا فأنتم ضالون. 6 ــــ ومنها: أن ما عدا هدى الله ضلال؛ قال الله تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون} [يونس: 32] ؛ فكل ما لا يوافق هدى الله فإنه ضلال؛ وليس ثمة واسطة بين هدى الله، والضلال. 7 ــــ ومنها: أن البدع ضلالة؛ لقوله تعالى: { قل إن هدى الله هو الهدى }؛ وقوله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24] ؛ فليس بعد الهدى إلا الضلال؛ ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة»(1) . 8 ــــ ومنها: تحريم اتباع أهواء اليهود، والنصارى؛ لقوله تعالى: { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من وليّ ولا نصير }. 9 ــــ ومنها: أن ما عليه اليهود والنصارى ليس ديناً؛ بل هو هوى؛ لقوله تعالى: { أهواءهم }؛ ولم يقل ملتهم كما في الأول؛ ففي الأول قال تعالى: { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}؛ لأنهم يعتقدون أنهم على ملة، ودين؛ ولكن بيَّن الله تعالى أن هذا ليس بدين، ولا ملة؛ بل هوى؛ وليسوا على هدًى؛ إذ لو كانوا على هدى لوجب على اليهود أن يؤمنوا بالمسيح عيسى بن مريم؛ ولوجب عليهم جميعاً أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لكن دينهم هوى، وليس هدًى؛ وهكذا كل إنسان يتبع غير ما جاءت به الرسل ــــ عليهم الصلوات والسلام ــــ، ويتعصب له؛ فإن ملته هوى، وليست هدًى. 10ــــ ومن فوائد الآية: أن من اتبع الهوى بعد العلم فهو أشد ضلالة؛ لقوله تعالى: { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم... } الآية. 10ــــ ومنها: أن ما جاء إلى الرسول سواء كان القرآن، أو السنة فهو علم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً ــــ لا يقرأ، ولا يكتب ــــ، كما قال تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} [العنكبوت: 48] ؛ ولكن الله تعالى أنزل عليه هذا الكتاب حتى صار بذلك نبياً جاء بالعلم النافع، والعمل الصالح. 12ــــ ومنها: أن من أراد الله به سوءاً فلا مرد له؛ لقوله تعالى: { ما لك من الله من ولي ولا نصير }. 13ــــ ومنها: أنك إذا اتبعت غير شريعة الله فلا أحد يحفظك من الله؛ ولا أحد ينصرك من دونه ــــ حتى لو كثر الجنود عندك؛ ولو كثرت الشُرَط؛ ولو اشتدت القوة ــــ؛ لأن النصر والولاية تكون بالهداية باتباع هدى الله عزّ وجلّ، كما قال تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام: 82] فالأمن إنما يكون بالإيمان، وعدم الظلم. 14ــــ ومنها: أنه يجب تعلق القلب بالله خوفاً، ورجاءً؛ لأنك متى علمت أنه ليس لك وليّ، ولا نصير فلا تتعلق إلا بالله؛ فلا تعلق قلبك أيها المسلم إلا بربك. القــــــرآن { )الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة:121) التفسير: { 121 } قوله تعالى: { الذين آتيناهم الكتاب } مبتدأ؛ وجملة؛ { يتلونه حق تلاوته } قيل: إنها خبر المبتدأ؛ وعلى هذا فتكون الجملة الثانية: { أولئك يؤمنون به } استئنافية؛ وقيل: إن قوله تعالى: { يتلونه حق تلاوته } جملة حالية، وأن جملة: { أولئك يؤمنون به } خبر المبتدأ؛ والأقرب الإعراب الثاني؛ لأن الكلام هنا عن الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم: لا يؤمنون به إلا من يتلو الكتاب حق تلاوته سواء التوراة، أو الإنجيل، أو القرآن؛ وعلى هذا فقيد الذي آتيناه الكتاب بكونهم يتلونه حق التلاوة أحسن ــــ يعني: أن من أوتي الكتاب، وصار على هذا الوصف ــــ يتلوه حق تلاوته ــــ فهو الذي يؤمن به ــــ. وقوله تعالى: { آتيناهم الكتاب } أي أعطيناهم الكتاب؛ والإيتاء هنا إيتاء شرعي، وكوني؛ لأن الله تعالى قدر أن يعطيهم الكتاب، فأعطاهم إياه؛ وهو أيضاً إيتاء شرعي؛ لأنه فيه الشرائع، والبيان؛ والمراد بمن آتاهم الكتاب: إما هذه الأمة؛ أو هي، وغيرها؛ وهذا هو الأرجح ــــ أنه شامل لكل من آتاه الله الكتاب ــــ؛ و{ الكتاب } المراد به الجنس؛ فيشمل القرآن، والتوراة، والإنجيل، والزبور، وغيرها من كتب الله عزّ وجلّ. قوله تعالى: { يتلونه حق تلاوته }؛ «التلاوة» تطلق على تلاوة اللفظ ــــ وهي القراءة ــــ؛ وعلى تلاوة المعنى وهي التفسير ــــ؛ وعلى تلاوة الحكم ــــ وهي الاتِّباع ــــ؛ هذه المعاني الثلاثة للتلاوة داخلة في قوله تعالى: { يتلونه حق تلاوته }؛ فـ «التلاوة اللفظية» قراءة القرآن باللفظ الذي يجب أن يكون عليه معرباً كما جاء لا يغير؛ و«التلاوة المعنوية» أن يفسره على ما أراد الله؛ ونحن نعلم مراد الله بهذا القرآن؛ لأنه جاء باللغة العربية، كما قال لله تعالى: {بلسان عربي مبين} [الشعراء: 195] ؛ وهذا المعنى في اللغة العربية هو ما يقتضيه هذا اللفظ؛ فنكون بذلك قد علمنا معنى كلام الله عزّ وجلّ؛ و«تلاوة الحكم» امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وتصديق الأخبار. وقوله تعالى: { حق تلاوته } هذا من باب إضافة الوصف إلى موصوفه ــــ يعني: التلاوة الحق ــــ؛ أي التلاوة الجِد، والثبات، وعدم الانحراف يميناً، أو شمالاً؛ وهو من حيث الإعراب: مفعول مطلق؛ لأنه مضاف إلى مصدر، كما قال ابن مالك في الألفية: كجِدَّ كل الجِدِّ قوله تعالى: { ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون }؛ { من } شرطية جازمة؛ { يكفر } مجزوم على أنه فعل الشرط؛ { به } أي بالكتاب؛ وجملة: { فأولئك هم الخاسرون } هي جواب الشرط؛ واقترنت بالفاء؛ لأنها جملة اسمية؛ والجملة الاسمية إذا كانت جواباً للشرط وجب اقترانها بالفاء؛ وأتى بالجملة الاسمية المفيدة للثبوت، والاستمرار؛ وأتى بضمير الفصل { هم } لإفادة الحصر، والتوكيد؛ يعني: فأولئك الذين كفروا به هم الخاسرون لا غيرهم؛ وأصل «الخسران» النقص؛ ولهذا يقال: ربح؛ ويقال في مقابله: خسر؛ فهؤلاء هم الذي حصل عليهم النقص لا غيرهم؛ لأنهم مهما أوتوا من الدنيا فإنها زائلة، وفانية، فلا تنفعهم. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: منة الله عزّ وجلّ على من آتاه الله تعالى الكتاب، فتلاه حق تلاوته. 2ــــ ومنها: أنه ليس مجرد إتيان الكتاب فضيلة للإنسان؛ بل الفضيلة بتلاوته حق تلاوته. 3ــــ ومنها: أن للإيمان علامة؛ وعلامته العمل؛ لقوله تعالى: { أولئك يؤمنون به } بعد قوله عزّ وجلّ: { يتلونه حق تلاوته }. 4ــــ ومنها: أن من خالف القرآن في شيء كان ذلك دليلاً على نقص إيمانه؛ لقوله تعالى: { يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به }؛ فمعنى ذلك: إذا لم يتلوه حق تلاوته فإنهم لم يؤمنوا به؛ بل نقص من إيمانهم بقدر ما نقص من تلاوتهم له. 5ــــ ومنها: أن تلاوة القرآن نوعان؛ تلاوة حق؛ وتلاوة ناقصة ليست تامة؛ فالتلاوة الحق أن يكون الإنسان تالياً للفظه، ولمعناه عاملاً بأحكامه مصدقاً بأخباره؛ فمن استكبر أو جحد فإنه لم يتله حق تلاوته. 6ــــ ومنها: أن الكافر بالقرآن مهما أصاب من الدنيا فهو خاسر؛ لقوله تعالى: { ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون }؛ يكون خاسراً ــــ ولو نال من الدنيا من أموال، وبنين، ومراكب فخمة، وقصور مشيدة ــــ؛ لأن هذه كلها سوف تذهب، وتزول؛ أو هو يزول عنها، ولا تنفعه؛ واذكر قصة قارون، واتل قول الله تعالى: {قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين} [الزمر: 15] ؛ فإذاً يصدق عليهم أنهم هم الخاسرون، كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} [المنافقون: 9] ؛ ولما كان الذي يتلهى بذلك عن ذكر الله يظن أنه يربح قال تعالى: { ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون } [المنافقون: 9] يعني: ولو ربحوا في دنياهم. 7ــــ ومن فوائد الآية: علوّ مرتبة من يتلون الكتاب حق تلاوته؛ للإشارة إليهم بلفظ البعيد: { أولئك يؤمنون به }. القـــــرآن { )يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:122) )وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (البقرة:123) التفسير: { 122 } قوله تعالى: { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي... } الآية؛ سبق الكلام على نظيرها، وفوائدها. {123 } قوله تعالى: { واتقوا يوماً }: سبق الكلام على نظيرها. قوله تعالى: { لا تجزي نفس عن نفس شيئاً } أي لا تغني نفس عن نفس شيئاً؛ فليس تفضيل آبائكم على العالمين بمغنٍ عنكم شيئاً؛ لا تقولوا: لنا آباء مفضلون على العالمين، وسَنَسْلَم بهم من النار، أو من عذاب هذا اليوم؛ و{ شيئاً } نكرة في سياق النفي، فتعم أيّ شيء؛ ولا يرد على هذا الشفاعة الشرعية التي ثبتت بها السُّنة؛ فإن هذه الآية مخصوصة بها. قوله تعالى: { ولا يُقبَل منها } أي من النفس؛ والذي يَقبل، أو يَردّ هو الله سبحانه وتعالى؛ و{ عدل } أي ما يعدل به العذاب عن نفسه ــــ وهو الفداء ــــ؛ فـ «العدل» معناه الشيء المعادِل، كما قال الله ــــ تبارك وتعالى ــــ: {أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً ليذوق وبال أمره} [المائدة: 95] أي ما يعادله من الصيام؛ وهنا: لو أتت بالفداء لا يقبل. قوله تعالى: { ولا تنفعها شفاعة }؛ «الشفاعة» هي التوسط للغير بدفع مضرة، أو جلب منفعة؛ سميت بذلك؛ لأن الشافع إذا انضم إلى المشفوع له، صار شِفعاً بعد أن كان وتراً؛ فالشفاعة لأهل النار أن يخرجوا منها: شفاعة لدفع مضرة؛ والشفاعة لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة؛ شفاعة في جلب منفعة. قوله تعالى: { ولا هم ينصرون }: مع أن السياق يرجع إلى مفرد في قوله تعالى: { نفس عن نفس }، وقوله تعالى: { ولا يقبل منها }، وقوله تعالى: { ولا تنفعها }؛ جاء الكلام هنا بصيغة الجمع باعتبار المعنى؛ لأن قوله تعالى: { لا تجزي نفس عن نفس } للعموم؛ والعموم يدل على الجمع، والكثرة؛ ثم إن هنا مناسبة لفظية؛ وهي مراعاة فواصل الآيات؛ ومراعاة الفواصل أمر ورد به القرآن ــــ حتى إنه من أجل المراعاة يقدم المفضول على الفاضل ــــ، كما في قوله تعالى في سورة طه؛ {قالوا آمنا برب العالمين * رب هارون وموسى} [الشعراء: 47، 48] ؛ لأن سورة طه كلها على فاصلة ألف إلا بعض الآيات القليلة؛ فمراعاة الفواصل إذاً من بلاغة القرآن. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: إثبات يوم القيامة، وأن هذا اليوم شديد يجب اتقاؤه والحذر منه. 2ــــ ومنها: أن ذلك اليوم لا تغني نفس عن نفس شيئاً؛ حتى الوالد لا يجزي عن ولده شيئاً؛ ولا المولود يجزي عن والده شيئاً، كما قال تعالى: { يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً }. 3ــــ ومنها: أن من استحق العذاب ذلك اليوم لا يُقبل منه عدل؛ قال تعالى: { إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم }. 4ــــ ومنها: ثبوت أصل الشفاعة في ذلك اليوم؛ لقوله تعالى: { لا تنفعها شفاعة }؛ وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أهل الموقف أن يُقضى بينهم(1) ، وأنه (ص) يشفع في أهل الكبائر أن لا يدخلوا النار(2) ؛ وفيمن دخل النار أن يخرج منها(3)؛ فعلى هذا يكون العموم في قوله تعالى: { ولا تنفعها شفاعة} مخصوصاً بما ثبتت به السنة من الشفاعة. 5ــــ ومنها: أن الكافرين لا تنفعهم الشفاعة؛ لقوله تعالى في آية أخرى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} [المدثر: 48] . 6ــــ ومنها: أنه لا ينصر أحد أحداً من عذاب الله؛ لقوله تعالى: { ولا هم ينصرون }. القـــــرآن { )وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124) التفسير: { 124 } قوله تعالى: { وإذ ابتلى إبراهيم ربه }؛ { إبراهيم } مفعول مقدم؛ و{ ربه } فاعل مؤخر؛ فالمبتلي هو الله؛ والمبتلى هو إبراهيم؛ والابتلاء هو الاختبار، والامتحان؛ و{ إبراهيم } بكسر الهاء، وياء بعدها؛ وفيها قراءة: { إبراهام } بفتح الهاء، وألف بعدها؛ وهنا أضاف الربوبية إلى إبراهيم: وهي من الربوبية الخاصة؛ فالربوبية بإزاء العبودية؛ فكما أن العبودية نوعان ــــ خاصة، وعامة ــــ فالربوبية أيضاً نوعان: خاصة، وعامة؛ وقد اجتمعا في قول السحرة: {آمنا برب العالمين} [الأعراف: 121] : هذه عامة؛ {رب موسى وهارون} [الشعراء: 48] : هذه خاصة؛ ولا شك أن ربوبية الله سبحانه وتعالى للرسل ــــ ولا سيما أولو العزم منهم؛ وهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام ــــ أخص الربوبيات. قوله تعالى: { بكلمات }؛ هذه الكلمات ــــ التي هي محل الابتلاء، والاختبار ــــ أطلقها الله سبحانه وتعالى؛ فهي كلمات كونية؛ وشرعية؛ أو جامعة بينهما؛ واختلف المفسرون في هذه الكلمات؛ وأصح الأقوال فيها أن كل ما أمره به شرعاً، أو قضاه عليه قدراً، فهو كلمات؛ فمن ذلك أنه ابتُلي بالأمر بذبح ابنه، فامتثل؛ لكن الله سبحانه وتعالى رفع ذلك عنه حين استسلم لربه؛ وهذا من الكلمات الشرعية؛ وهذا امتحان من أعظم الامتحانات؛ ومن ذلك أن الله امتحنه بأن أوقدت له النار، وأُلقي فيها؛ وهذا من الكلمات الكونية؛ وصبر، واحتسب؛ فأنجاه الله منها، وقال تعالى: {يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} [الأنبياء: 69] ؛ وكل ما قدره الله عليه مما يحتاج إلى صبر، ومصابرة، أو أمره به فهو داخل في قوله تعالى: { بكلمات }. قوله تعالى: { إني جاعلك }أي مصيرك؛ وهي تنصب مفعولين؛ لأنها مشتقة من «جعل» التي بمعنى «صيّر»؛ والمفعول الأول: الكاف التي في محل جر بالإضافة؛ والمفعول الثاني: { إماماً }. وقوله تعالى: { للناس إماماً } عامة فيمن أتى بعده: فإنه صار إماماً حتى لخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} [النحل: 123] ؛ و«الإمام» مَن يُقتدى به سواء في الخير، أو في الشر؛ لكن لا ريب أن المراد هنا إمامة الخير. فإذا قال قائل: أرُونا دليلاً على أن الإمامة في الشر تسمى إمامة؟ قلنا: قوله تعالى: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون} [القصص: 41] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»(1) ؛ وهذا لأنه إمام. قوله تعالى: { ومن ذريتي } أي واجعل من ذريتي إماماً؛ وهنا { مِن } يحتمل أنها لبيان الجنس؛ وبناءً على ذلك تصلح { ذريتي } لجميع الذرية؛ يعني: واجعل ذريتي كلهم أئمة؛ ويحتمل أنها للتبعيض؛ وعليه فيكون المقصود: اجعل بعض الذرية إماماً؛ والكلام يحتمل هذا، وهذا؛ ولكن سواء قلنا؛ إنها لبيان الجنس؛ أو للتبعيض؛ فالله تعالى أعطاه ذلك مقيداً، فقال تعالى: { لا ينال } أي لا يصيب { عهدي } أي تعهدي لك بهذا { الظالمين }؛ و{ عهدي } فاعل؛ و{ الظالمين } مفعول به؛ أي أجعل من ذريتك إماماً؛ ولكن الظالم من ذريتك لا يدخل في ذلك. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: أن الله قد يبتلي بعض العباد بتكليفات خاصة؛ لقوله تعالى: { وإذ ابتلى إبراهيم ربه) وكما أنه يبتلي بعض العباد بتكليفات خاصة شرعية، فإنه قد يبتليهم بأحكام كونية، مثل: مرض، مصائب في المال، أو في الأهل؛ وما أشبه ذلك. 2ــــ ومنها: فضيلة إبراهيم (ص)؛ لقوله تعالى: { ربه } حيث أضاف ربوبيته إلى إبراهيم ــــ وهي ربوبية خاصة ــــ؛ ولقوله تعالى: { فأتمهن }؛ ولقوله تعالى: { إني جاعلك للناس إماماً }. 3ــــ ومنها: أن من أتم ما كلفه الله به كان من الأئمة؛ لقوله تعالى: { إني جاعلك للناس إماماً }؛ فإنه لما أتمَّهن جوزي على ذلك بأن جُعل للناس إماماً. 4ــــ ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يدعو لذريته بالإمامة، والصلاح؛ لقوله تعالى: { قال ومن ذريتي }؛ وإبراهيم طلب أن يكون من ذريته أئمة، وطلب أن يكون من ذريته من يقيم الصلاة: {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي} [إبراهيم: 40] . 5ــــ ومنها: أن الظالم لا يستحق أن يكون إماماً؛ والمراد: الظلم الأكبر ــــ الذي هو الكفر ــــ؛ لقوله تعالى: { لا ينال عهدي الظالمين }. 6ــــ ومنها: أن الظلم ينزل بأهله إلى أسفل سافلين؛ لا يجعلهم في قمة؛ بل ينزلهم إما في الدنيا؛ وإما في الآخرة. القـــــرآن { )وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة:125) التفسير: { 125 } قوله تعالى: { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً }؛ { إذ } للظرفية؛ وهي متعلقة بمحذوف تقديره: «اذكر»؛ يعني: اذكر يا محمد للناس هذا الأمر الذي صيرناه للناس؛ و{ جعلنا } أي صيرنا؛ و{ البيت }: «أل» هنا للعهد الذهني؛ والمراد به الكعبة؛ لأنها بيت الله عزّ وجلّ؛ وأتى هنا بـ «أل» للتفخيم والتعظيم؛ يعني: البيت المعهود الذي لا يُجهل، ولا يُنسى جعلناه مثابة...؛ و «المثابة» بمعنى المرجع؛ أي يثوب الناس إليه، ويرجعون إليه من كل أقطار الدنيا سواء ثابوا إليه بأبدانهم، أو بقلوبهم، فالذين يأتون إليه حجاجاً، أو معتمرين يثوبون إليه بأبدانهم؛ والذين يتجهون إليه كل يوم بصلواتهم يثوبون إليه بقلوبهم فإنهم لا يزالون يتذكرون هذا البيت في كل يوم، وليلة؛ بل استقباله من شروط صحة صلاتنا. وقوله تعالى: { أمناً } أي وجعلناه أمناً للناس؛ أي مكان أمن يأمن الناس فيه على دمائهم، وأموالهم ــــ حتى أشجار الحرم، وحشيشه آمن من القطع ــــ. قوله تعالى: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى } أي صيِّروا، واجعلوا؛ وفيها قراءتان؛ إحداهما: بفعل الأمر: { اتخِذوا }؛ والثانية: بفعل الماضي: { اتخَذوا } أي: واتخذ الناس؛ وعلى الأولى: اتخذوا أنتم من مقام إبراهيم مصلًّى؛ و{ مِن } هنا لبيان الجنس؛ ويجوز أن تُضمَّن «في»؛ يعني: واتخذوا في هذا المقام مكاناً للصلاة؛ و «المقام» مكان القيام؛ ويطلق إطلاقين: إطلاقاً عاماً - وهو مكان قيام إبراهيم للعبادة -؛ وإطلاقاً خاصاً ــــ وهو مقامه لبناء الكعبة ــــ؛ فعلى الإطلاق الأول يكون جميع مواقف الحج، ومشاعر الحج من مقام إبراهيم: عرفة؛ مزدلفة؛ الجمرات؛ الصفا، والمروة... إلخ؛ وعلى الإطلاق الثاني الخاص يكون المراد الحجر المعين الذي قام عليه إبراهيم (ص) ليرفع قواعد البيت؛ وهو هذا المقام المشهور المعروف للجميع. وقوله: { مصلًّى } مفعول أول لـ{ اتخذوا } منصوب بالفتحة المقدرة على آخره منع من ظهورها التعذر؛ والتنوين الذي فيه عوض عن الألف المحذوفة؛ والمفعول الثاني: هو الجار والمجرور المقدم؛ و «المصلى» مكان الصلاة؛ وهل المراد بالصلاة الصلاة اللغوية؛ أو الصلاة الشرعية المعروفة؟ يحتمل هذا، وهذا؛ فإن قلنا بالأول شمل جميع مناسك الحج؛ لأنها كلها محل للدعاء؛ وإن قلنا بالثاني اختص بالركعتين بعد الطواف خلف المقام؛ ويؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم حين فرغ من طوافه تقدم إلى مقام إبراهيم، وقرأ: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى }، وصلى ركعتين(1)؛ والقول بالعموم أشمل؛ ويجاب عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم بأنه فسر المعنى ببعض أفراده؛ وهذا لا يقتضي التخصيص عند أهل التحقيق من الأصوليين. قوله تعالى: { وعهدنا إلى إبراهيم }؛ «العهد» الوصية بما هو هام؛ وليست مجرد الوصية؛ بل لا تكون عهداً إلا إذا كان الأمر هاماً؛ ومنه عهْد أبي بكر بالخلافة إلى عمر ؛ ومعلوم أن أهم ما يكون من أمور المسلمين العامة الخلافة. قوله تعالى: { وإسماعيل }: هو ابن إبراهيم؛ وهو أبو العرب؛ وهو الذبيح على القول الصحيح؛ يعني: هو الذي أمر الله إبراهيم أن يذبحه؛ وهو الذي قال لأبيه: {يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين} [الصافات: 102] ؛ وقول من قال: «إنه إسحاق» بعيد؛ وقد قال بعض أهل العلم: إن هذا منقول عن بني إسرائيل: لأن بني إسرائيل يودون أن الذبيح إسحاق؛ لأنه أبوهم دون إسماعيل؛ لأنه أبو العرب عمهم؛ ولكن من تأمل آيات «الصافات» تبين له ضعف هذا القول. قوله تعالى: { أن طهرا بيتي }؛ { أنْ } تفسيرية؛ لأنّ { عهدنا } فيه معنى القول دون حروفه؛ أي أنّ العهد هو قوله تعالى: { طهرا بيتي... }؛ و{ طهرا } فعل أمر؛ و{ بيتي } المراد به الكعبة؛ وأضافها الله سبحانه وتعالى إلى نفسه إضافة تشريف؛ والمراد تطهير البيت من الأرجاس الحسية والمعنوية. قوله تعالى: { للطائفين } أي للذين يطوفون بالبيت؛ فاللام هذه للتعليل ــــ أي لأجلهم ــــ؛ والثاني: { العاكفين } أي الذين يقيمون فيه للعبادة؛ والثالث: { الركع السجود } أي الذين يصلون فيه؛ وعبر عن الصلاة بالركوع، والسجود؛ لأنهما ركنان فيها؛ فإذا أطلق جزء العبادة عليها كان ذلك دليلاً على أن هذا الجزء ركن فيها لا تصح بدونه؛ و{ الركع } جمع راكع؛ و{ السجود } جمع ساجد؛ وهنا بدأ بـ{ الطائفين }؛ لأن عبادتهم خاصة بهذا المسجد؛ ثم بـ{ العاكفين }؛ لأن عبادتهم خاصة بالمساجد؛ لكنها أعم من الطائفين؛ وثلّث بـ{ الركع السجود }؛ لأن ذلك يصح بكل مكان بالأرض؛ لقوله (ص): «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»(2)؛ فإذاً يكون الله سبحانه وتعالى بدأ بالأخص فالأخص. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: فضيلة البيت الحرام من وجهين: أنه مثابة؛ وأمن. 2ــــ ومنها: ظهور رحمة الله؛ فإنه لما جعل هذا البيت مثابة، والناس لابد أن يرجعوا إليه رحمهم بأن جعله أمناً؛ وإنما أحلها الله لرسوله (ص) ساعة من نهار للضرورة؛ وهي ساعة الفتح؛ ثم قال (ص): «وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس» ؛ ثم أورد (ص) سؤالاً قال فيه: «فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم»(1) ؛ والحكم لله العلي الكبير: أذِن للرسول في تلك الساعة؛ ولكنه لم يأذن لأحد بعده كما لم يأذن لأحد قبله؛ ولهذا نُهي عن حمل السلاح في الحرم حتى يبقى كل إنسان آمناً؛ ولما طعن ابن عمر ــــ رضي الله عنهما ــــ وهو على راحلته في منى ــــ طعنه أحد الخوارج بسنان الرمح في أخمص قدمه حتى لزقت قدمه بالركاب جاءه الحجاج يعوده، فقال الحجاج: لو نعلم من أصابك؟! فقال ابن عمر: أنت أصبتني! قال: وكيف؟ قال: «حملت السلاح في يوم لم يكن يحمل فيه، وأدخلت السلاح الحرم ولم يكن السلاح يدخل الحرم»(2) ؛ وبهذا تعرف عظم جرم أولئك الذين يوقعون المخاوف بين المسلمين في مواسم الحج، وأنهم ــــ والعياذ بالله ــــ من أعظم الناس جرماً؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذا البلد آمناً في كل وقت؛ فكيف في وقت أداء مناسك الحج التي ما أُمِّن ــــ والله أعلم ــــ إلا لأجلها. 3ــــ ومن فوائد الآية: أنه ينبغي أن يكون كل مكان مثابة للناس أمناً؛ ولهذا كره أهل العلم أن يحمل السلاح في المساجد؛ قالوا: لأن المساجد محل أمن؛ لكن إذا كان المراد من حمل السلاح حفظ الأمن كان مأموراً به. 4ــــ ومنها: وجوب اتخاذ المصلى من مقام إبراهيم؛ لقوله تعالى: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى }؛ لأن الأصل في الأمر الوجوب؛ فإن قلنا بأن المراد بالمقام جميع مناسك الحج فلا إشكال؛ لأن فيه ما لا يتم الحج إلا به كالوقوف بعرفة، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة؛ ومنه ما يصح الحج بدونه مع وجوبه كالمبيت بمزدلفة، ورمي الجمرات؛ ومنه ما يصح الحج بدونه وليس بواجب، كصلاة الركعتين بعد الطواف على المشهور؛ وإذا قلنا: المراد به الركعتان بعد الطواف صار فيه إشكال: فإن جمهور العلماء على أنهما سنة؛ وذهب الإمام مالك إلى أنهما واجبتان؛ والذي ينبغي للإنسان: أن لا يدعهما؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فسر الآية بهما، حيث تقدم إلى مقام إبراهيم بعد الطواف، فقرأ: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى }. 5 ــــ ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يثيب العامل بأكثر من عمله؛ فإبراهيم (ص) لما أتم الكلمات جعله الله تعالى إماماً للناس، وأمر الناس أن يتخذوا من مقامه مصلًّى؛ وهذا بعض من إمامته. 6ــــ ومنها: وجوب تطهير البيت من الأرجاس الحسية، والمعنوية؛ لقوله تعالى: { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا }؛ والعهد هو الوصية بالأمر الهام؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28] ؛ ولهذا لا يجوز للمشركين وغيرهم من أهل الكفر أن يدخلوا أميال الحرم؛ لأنهم إذا دخلوها قربوا من المسجد الحرام والله تعالى يقول: {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28] . 7ــــ ومن فوائد الآية: اشتراط طهارة مكان الطواف؛ لقوله تعالى: { للطائفين }. 8 ــــ ومنها: اشتراط طهارة لباس الطائفين من باب أولى، وأنه لا يجوز أن يطوف بثوب نجس؛ لأن ملابسة الإنسان للثياب ألصق من ملابسته للمكان. 9ــــ ومنها: أن الطواف لا يكون إلا حول الكعبة؛ لقوله تعالى: { وطهرا بيتي للطائفين }؛ ولهذا قال العلماء: يشترط لصحة الطواف أن يكون في المسجد الحرام، وأنه لو طاف خارج المسجد ما أجزأه؛ فلو أراد الإنسان ــــ مثلاً ــــ أن يطوف حول المسجد الحرام من خارج فإنه لا يجزئ؛ لأنه يكون حينئذ طائفاً بالمسجد لا بالكعبة؛ أما الذين يطوفون في نفس المسجد سواء فوق أو تحت، فهؤلاء يجزئهم الطواف؛ وعلى هذا يجب الحذر من الطواف في المسعى، أو فوقه؛ لأن المسعى ليس من المسجد؛ إذ لو كان من المسجد لكانت المرأة إذا حاضت بعد الطواف لا تسعى؛ لأنه يلزم من سعيها أن تمكث في المسجد. 10ــــ ومن فوائد الآية: فضيلة هذه العبادات الأربع: الطواف، والاعتكاف، والركوع، والسجود؛ وأن الركوع والسجود أفضل هيئة في الصلاة؛ فالركوع أفضل هيئة من القيام؛ والسجود أفضل منه؛ والقيام أفضل من الركوع، والسجود بما يُقرأ فيه؛ ولهذا نُهي المصلي أن يقرأ القرآن راكعاً، أو ساجداً؛ فإنَّ ذِكْر القيام كلام الله؛ وهو أفضل من كل شيء؛ وذكر الركوع والسجود هو التسبيح؛ وهو أقل حرمة من القرآن؛ ولذلك حل الذكر للجنب دون قراءة القرآن، ويجوز مس الورقات التي فيها الذكر بغير وضوء دون مس المصحف؛ فالله سبحانه وتعالى حكيم: جعل لكل ركن من أركان الصلاة ميزة يختص بها؛ فالقيام اختصه بفضل ذكره؛ والركوع والسجود بفضل هيئتهما. تــنــبــيــه: اختلف المؤرخون: هل كان الحجر الذي كان يرفع عليه إبراهيم (ص) بناءَ الكعبة لاصقاً بالكعبة، أو كان منفصلاً عنها في مكانه الآن؛ فأكثر المؤرخين على أنه كان ملصقاً بالكعبة، وأن الذي أخره إلى هذا الموضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ وبناءً على ذلك يكون للخليفة حق النظر في إزاحته عن مكانه إذا رأى في ذلك المصلحة؛ أما إذا قلنا: إن هذا مكانه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فالظاهر أنه لا يجوز أن يغير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره؛ وإذا أقره النبي صلى الله عليه وسلم فليس لنا أن نؤخره عنه؛ وقد كتب أحد طلبة العلم رسالة في هذا الموضوع، وقرَّظها الشيخ عبد العزيز بن باز، ورأى أنه يجوز إزاحته عن مكانه من أجل المصلحة والتوسعة بناءً على المشهور عند المؤرخين أنه كان لاصقاً بالكعبة، ثم أُخِّر؛ وهذا لا شك أنه لو أُخِّر عن مكانه فيه دفع مفسدة ــــ وهي مفسدة هؤلاء الذين يتجمعون عنده في المواسم؛ وفيه نوع مفسدة ــــ وهي أنه يبعد عن الطائفين في غير أيام المواسم؛ فهذه المصالح متعارضة هنا: هل الأولى بقاؤه في مكانه؟ أو الأولى تأخيره عن مكانه؟ فإذا كانت المصالح متكافئة فالأولى أن يبقى ما كان على ما كان، وحذراً من التشويش واختلاف الآراء في هذه المسألة؛ ومسألة تضييق المصلين على الطائفين هذا يمكن زواله بالتوعية إذا أفادت؛ أو بالمنع بالقهر إذا لم تفد؛ وفي ظني أنها قلّت في السنوات الأخيرة بعض الشيء؛ لأن الناس صار عندهم وعي. القـــــــــــرآن )وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (البقرة:126) التفسير: { 126 } قوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم } أي اذكر إذ قال إبراهيم: { رب اجعل } أي صيِّر { هذا } أي مكة { بلداً آمناً }؛ «البلد» اسم لكل مكان مسكون سواء كان ذلك مدينة كبيرة، أو مدينة صغيرة؛ كله يسمى بلداً؛ وقد سمى الله سبحانه وتعالى مكة بلداً، كما في قوله تعالى: {وهذا البلد الأمين} [التين: 3] ؛ وسماها الله تعالى قرية، كما في قوله تعالى: {وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم} [محمد: 13] . وقوله تعالى: { آمناً }: قال بعض المفسرين: أي آمناً مَن فيه؛ لأن البلد نفسه لا يوصف بالأمن، والخوف؛ «البلد» أرض، وبناء؛ وإنما الذي يكون آمناً: أهلُه؛ أما هو فيكون أمْناً؛ والذي ينبغي هو أن يبقى على ظاهره، وأن يكون البلد نفسه آمناً؛ وإذا أمِنَ البلد أمِن مَن فيه ــــ وهو أبلغ ــــ؛ لأنه مثلاً لو جاء أحد، وهدم البناء ما كان البناء آمناً، وصار البناء عرضة لأن يتسلط عليه من يُتلفه؛ فكون البلد آمناً أبلغ من أن نفسره بـ«آمناً أهله»؛ لأنه يشمل البلد، ومن فيه؛ ولهذا قال تعالى: { وارزق أهله }؛ لأن البلد لا يرزق. قوله تعالى: { ارزق } فعل دعاء؛ ومعناه: أعطِ؛ و{ أهله } مفعول أول؛ و{ من الثمرات } مفعول ثانٍ؛ و{ من آمن بالله واليوم الآخر } بدل من قوله: { أهله } ــــ بدل بعض من كل ــــ؛ و«الإيمان» في اللغة: التصديق؛ وفي الشرع: التصديق المستلزم للقبول، والإذعان؛ والإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته؛ و{ اليوم الآخر } هو يوم القيامة؛ وسمي آخراً؛ لأنه لا يوم بعده؛ وسبق بيان ذلك. قوله تعالى: { قال ومن كفر }؛ القائل هو الله سبحانه وتعالى؛ فأجاب الله تعالى دعاءه؛ يعني: وأرزق من كفر أيضاً؛ فهي معطوفة على قوله تعالى: { من آمن }؛ ولكنه تعالى قال في الكافر: { فأمتعه قليلاً.. } إلخ. قوله تعالى: { فأمتعه } فيها قراءتان؛ الأولى بفتح الميم، وتشديد التاء؛ والثانية بإسكان الميم، وتخفيف التاء؛ و «الإمتاع» و «التمتيع» معناهما واحد؛ وهو أن يعطيه ما يتمتع به؛ و«المتعة»: البلغة التي تلائم الإنسان. قوله تعالى: { قليلاً }: القلة هنا تتناول الزمان، وتتناول عين الممتَّع به؛ فالزمن قصير: مهما طال بالإنسان العمر فهو قليل؛ قال الله عزّ وجلّ: {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} [الأحقاف: 35] ؛ كذلك عين الممتع به قليل؛ كل ما يحصل للإنسان من هذه الدنيا من اللذة، والمتاع قليل بالنسبة للآخرة، كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لموضع سوطٍ في الجنة خير من الدنيا وما فيها»(1)؛ ومع قلته فهو مشوب بكدر سابق، ولاحق، كما قال الشاعر: فيوم علينا ويوم لنا ويوم نُساء ويوم نُسَرُّ ويقول الآخر: لا طيب للعيش ما دامت منغصة لذاته بادكار الموت والهرم وإذا شئت أن تعرف حقيقة الأمر فقس ما بقي من حياتك بما مضى؛ الآن كلنا يعرف أننا خلفنا أياماً كثيرة؛ فما خلفنا بالأمس كأنه لا شيء؛ نحن الآن في الوقت الذي نحن فيه؛ وأما ما مضى فكأنه لم يكن؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم واصفاً الدنيا: «إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها»(2) : إنسان اطمأن قليلاً تحت ظل شجرة، ثم ارتحل! هذه الدنيا كلها. قوله تعالى: { ثم أضطره إلى عذاب النار } أي ألجئه إلى عذاب النار؛ وإنما جعل الله ذلك إلجاءً؛ لأن كل إنسان يفر من عذاب النار؛ لكنه لا بد له منه إن كان من أهل النار؛ لأنه هو الذي فعل الأسباب التي توجبه؛ و «العذاب» العقوبة التي يتألم بها المرء؛ و{ النار } اسم معروف. قوله تعالى: { وبئس المصير }؛ { بئس } فعل ماضٍ جامد إنشائي يراد به الذم؛ و{ المصير } فاعل { بئس }؛ والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هي؛ أي: وبئس المصير هي؛ لأنه لو لم تقدر هذا لم تكن الجملة عائدة على ما سبق؛ و{ المصير } بمعنى مكان الصيرورة؛ أي المرجع الذي يصير إليه الإنسان. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: التنويه بفضل إبراهيم؛ لأن قوله تعالى: { وإذ قال } سبق أنها على تقدير: واذكر إذ قال؛ ولولا أن هذا أمر يستحق التنويه، والإعلام ما أمر به. 2ــــ ومنها: أنه لا غنى للإنسان عن دعاء الله مهما كانت مرتبته؛ فلا أحد يستغني عن الدعاء أبداً؛ لقوله تعالى: { رب اجعل... } إلخ. 3ــــ ومنها: أن للدعاء أثراً في حصول المقصود سواء كان دفع مكروه، أو جلب محبوب؛ لأنه لولا أن للدعاء أثراً لكان الدعاء عبثاً؛ وقول من يقول: «لا حاجة للدعاء: إن كان الله كتب هذا فهو حاصل، دعوت أو لم أدعُ؛ وإن كان الله لم يكتبه فلن يحصل، دعوت أو لم أدعُ»، فإن جوابنا عن هذا أن نقول: إن الله قد كتبه بناءً على دعائك؛ فإذا لم تدع لم يحصل، كما أنه لو قال: «لن آكل الطعام؛ فإن أراد الله لي الحياة فسوف أحيا ــــ ولو لم آكل؛ وإن كان يريد أن أموت فسوف أموت ــــ ولو ملأت بطني إلى حلقومي»؛ نقول: لكن الأكل سبب للحياة؛ فإنكار أن يكون الدعاء سبباً إنكار أمور بديهيات؛ لأننا نعلم علم اليقين فيما أُخبرنا به، وفيما شاهدناه، وفيما جرى علينا أن الله سبحانه وتعالى يقدِّر الأشياء بالدعاء؛ فالله تعالى قص علينا في القرآن قصصاً كثيرة فيها إجابة للدعاء؛ كذلك يجري للإنسان نفسه أشياء يدعو الله بها فيشاهدها رأي العين أنها جاءت نتيجة لدعائه؛ فإذاً الشرع، والواقع كلاهما يبطل دعوى من أنكر تأثير الدعاء. 4ــــ ومن فوائد الآية: رأفة إبراهيم (ص) بمن يؤم هذا البيت؛ لأن جعل البيت آمناً يتضمن الإرفاق بمن أمّه من الناس. 5ــــ ومنها: رأفة إبراهيم (ص) أيضاً، حيث سأل الله أن يرزق أهله من الثمرات؛ لقوله تعالى: { وارزق أهله من الثمرات }. 6ــــ ومنها: أدب إبراهيم (ص)، حيث لم يعمم في هذا الدعاء؛ فقال: { وارزق أهله من الثمرات من آمن } خوفاً من أن يقول الله له: «من آمن فأرزقه»، كما قال تعالى حين سأله إبراهيم أن يجعل من ذريته أئمة: {لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة: 124] ؛ فتأدب في طلب الرزق: أن يكون للمؤمنين فقط من أهل هذا البلد؛ لكن المسألة صارت على عكس الأولى: الأولى خصص الله دعاءه؛ وهذا بالعكس: عمم. 7ــــ ومنها: أن رزق الله شامل للمؤمن، والكافر؛ لقوله تعالى: { ومن كفر }؛ فالرزق عام شامل للمؤمن، والكافر؛ بل للإنسان، والحيوان، كما قال تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها} [هود: 6] ؛ وأنت ترى بعض الخشاش في الأرض ما حوله شيء، ولكن ييسر الله له الرزق يُجلب إليه من حيث لا يشعر، ولا يحتسب؛ ويُذكر في هذه الأمور قصص غريبة، ويشاهَد بعض الحيوانات الصغيرة الصماء العمياء يَجلب الله لها رزقاً كلما احتاجت إلى ذلك، فتأكله؛ والله على كل شيء قدير. 8ــــ ومن فوائد الآية: أنه يجب علينا أن نتخذ من هذا الوقت القصير عملاً كثيراً ينفعنا في الآخرة؛ لقوله تعالى: { فأمتعه قليلاً }؛ والعمل اليسير ــــ ولله الحمد ــــ يثمر ثمرات كثيرة في الآخرة يضاعف بعشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. 9ــــ ومنها: إثبات عذاب النار. 10ــــ ومنها: إثبات كلام الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { قال }؛ وأنه بحرف، وصوت مسموع؛ والدليل على أنه بحرف أن قوله تعالى: { ومن كفر } مثلاً مكوَّن من حروف؛ والدليل على أنه بصوت مسموع: المحاورة مع إبراهيم؛ فلولا أن إبراهيم يسمع صوتاً لم تكن محاورة. 11ــــ ومنها: إثبات سمع الله؛ لأنه يسمع إبراهيم وهو يكلمه سبحانه وتعالى. 12 ــــ ومنها: إثبات اليوم الآخر. 13ــــ ومنها: الثناء على النار بهذا الذم، وأنها بئس المصير؛ فكل إنسان يسمع هذا من كلام الله عزّ وجلّ سوف ينفر من هذه النار، ولا يعمل عمل أهلها. القــــــــرآن { )وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:127) التفسير: { 127 } لما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه جعل هذا البيت مثابة للناس بيَّن الله تعالى كيف نشأ هذا البيت، فقال تعالى: { وإذ يرفع... }. قوله تعالى: { وإذ يرفع }؛ { إذ } ظرف عاملها محذوف؛ والتقدير: واذكر إذ يرفع؛ و{ يرفع } فعل مضارع؛ والمضارع للحاضر، أو للمستقبل؛ ورفع البيت ماضٍ؛ لكنه يعبَّر بالمضارع عن الماضي على حكاية الحال كأن إبراهيم يرفع الآن، يعني: ذكِّرهم بهذه الحال التي كأنها الآن مشاهدة أمامهم. قوله تعالى: { إبراهيم } فيها قراءتان؛ إحداهما: بكسر الهاء بعدها ياء؛ والثانية: بفتح الهاء بعدها ألف: { إبراهام قوله تعالى: { القواعد } مفعول { يرفع }؛ جمع قاعدة؛ وقاعدة الشيء أساسه. قوله تعالى: { من البيت } بيان للقواعد؛ وهي في محل نصب على الحال؛ والمراد بـ{ البيت } الكعبة، كما سبق. قوله تعالى: { وإسماعيل } عطفاً على قوله تعالى: { إبراهيم }؛ فهو مشارك لأبيه في رفع القواعد؛ وأخّر ذكر إسماعيل؛ لأن الأصل: إبراهيم؛ وإسماعيل مُعِين؛ هذا الظاهر ــــ والله أعلم ــــ. قوله تعالى: { ربنا تقبل منا }؛ «رب» منادى حذفت منه «يا» النداء؛ وأصله: يا ربنا؛ حذفت «يا» النداء للبداءة بالمدعو المنادى ــــ وهو الله ــــ؛ وجملة: { ربنا تقبل منا } عاملها محذوف تقديره: «يقولان»؛ وجملة: «يقولان» في موضع نصب على الحال؛ ودعَوَا الله سبحانه وتعالى باسم «الرب» ؛ لأن إجابة الدعاء من شأن الربوبية؛ لأنها خلق وإيجاد. قوله تعالى: { ربنا تقبل منا } يعني كل واحد يقول بلسانه: ربنا تقبل منا؛ هذا ظاهر اللفظ؛ و «القبول» أخذ الشيء، والرضا به؛ ومنه ما يذكره الفقهاء في قولهم: ينعقد البيع بالإيجاب، والقبول؛ فتقبُّلُ الله سبحانه وتعالى للعمل أن يتلقاه بالرضا، فيرضى عن فاعله؛ وإذا رضي الله تعالى عن فاعله فلا بد أن يثيبه الثواب الذي وعده إياه. قوله تعالى: { إنك أنت السميع العليم }: هذه الجملة تعليل لطلب القبول؛ يعني: نسألك أن تقْبل لأنك أنت السميع العليم: تسمع أقوالنا، وتعلم أحوالنا؛ وهذه الجملة مؤكدة بمؤكدين؛ أحدهما: «إنّ» ؛ والثاني: { أنت }؛ ومن المعلوم أن ضمير الفصل يفيد التوكيد؛ وضمير الفصل لا محل له من الإعراب؛ و{ السميع } خبر «إن» ؛ وقوله تعالى: { العليم } أي ذو العلم. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: فضل عمارة الكعبة؛ لأن الله تعالى أمر نبيه أن يذكر هذه الحادثة؛ لقوله تعالى: { وإذ يرفع... } إلخ. 2ــــ ومنها: فضل إبراهيم، وإسماعيل، عليهما الصلاة والسلام، حيث قاما برفع هذه القواعد. 3ــــ ومنها: أن من إحكام البناء أن يؤسس على قواعد؛ لقوله تعالى: { وإذ يرفع إبراهيم القواعد }؛ وإذا بني على غير قاعدة فإنه ينهار. 4ــــ ومنها: جواز المعاونة في أفعال الخير. 5ــــ ومنها: أهمية القبول، وأن المدار في الحقيقة عليه؛ وليس على العمل؛ فكم من إنسان عمل أعمالاً كثيرة وليس له من عمله إلا التعب، فلم تنفعه؛ وكم من إنسان عمل أعمالاً قليلة قبلت فنفعه الله بها؛ ولهذا جاء في الحديث: «رب صائم حظه من صيامه الجوع، والظمأ؛ ورب قائم حظه من قيامه السهر»(1) . 6ــــ ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما { السميع }، و{ العليم }؛ وكل اسم من أسماء الله يدل على صفة من صفاته؛ بل على صفتين أحياناً، أو أكثر ــــ ما يلزم من إثبات الصفة التي يدل عليها الاسم ــــ؛ مثال ذلك: «الخالق» دل على صفة الخلق؛ وصفة الخلق تستلزم ثبوت صفة العلم، والقدرة؛ وقد يدل الاسم على الأثر إذا كان ذلك الاسم متعدياً؛ مثاله: { السميع } يدل على صفة السمع، ويدل على أن الله يسمع كل صوت يحدث. 7ــــ ومن فوائد الآية: إثبات السمع لله عزّ وجلّ؛ وينقسم السمع إلى قسمين: سمع بمعنى سماع الأصوات؛ وسمع بمعنى الإجابة؛ فمثال الأول قوله تبارك وتعالى: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى} [الزخرف: 80] ، وقوله تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} [المجادلة: 1] ؛ ومثال الثاني قوله تعالى: {إن ربي لسميع الدعاء} [إبراهيم: 39] أي مستجيب الدعاء؛ وكذلك قول المصلي: «سمع الله لمن حمده» ــــ يعني استجاب لمن حمده ــــ؛ والسمع الذي هو بمعنى سماع الأصوات من صفاته الذاتية؛ والسمع بمعنى الاستجابة من صفاته الفعلية؛ لأن الاستجابة تتعلق بمشيئته: إن شاء استجاب لمن حمده؛ وإن شاء لم يستجب؛ وأما سماع الأصوات فإنه ملازم لذاته ــــ لم يزل، ولا يزال سميعاً ــــ؛ إذ إن خلاف السمع الصمم؛ والصمم نقص؛ والله سبحانه وتعالى منزه عن كل نقص؛ وكلا المعنيين يناسب الدعاء: فهو سبحانه وتعالى يسمع صوت الداعي، ويستجيب دعاءه. والسمع ــــ أعني سماع الأصوات ــــ تارة يفيد تهديداً؛ وتارة يفيد إقراراً، وإحاطة؛ وتارة يفيد تأييداً. يفيد تهديداً ، كما في قوله تعالى: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا...} [آل عمران: 181] الآية، وقوله تعالى: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى} [الزخرف: 80] ويفيد إقراراً، وإحاطة ، كما في قوله تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} [المجادلة: 1] ؛ ويفيد تأييداً ، كما في قوله تعالى لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] . 8ــــ ومن فوائد الآية: إثبات العلم لله ــــ تبارك وتعالى ــــ جملةً، وتفصيلاً؛ موجوداً، أو معدوماً؛ ممكناً، أو واجباً، أو مستحيلاً؛ مثال علمه بالجملة: قوله تعالى: {لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً} [الطلاق: 12] ، وقوله تعالى: {الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً} [طه: 98] ، ومثال علمه بالتفصيل: قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59] ؛ ومثال علمه بالموجود: ما أخبر الله به عن علمه بما كان، مثل قول الله تعالى: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} [البقرة: 187] ؛ ومثال علمه بالمعدوم الذي قد وجِد: ما علمه الله من أحوال الماضين؛ ومثال علمه بالمعدوم الذي لم يوجد بعد: ما علمه الله عزّ وجلّ من أحوال القيامة، ومآل الخلق؛ ومثال علمه بالممكن: ما علمه الله عزّ وجلّ من الحوادث الواقعة من الإنسان؛ ومثال علمه بالواجب: ما علمه الله عزّ وجلّ من كمال صفاته؛ ومثال علمه بالمستحيل: قوله تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} [المؤمنون: 91] ، وقوله تعالى: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [الأنبياء: 22] . واعلم أن من أنكر علم الله فهو كافر سواء أنكره فيما يتعلق بفعله، أو فيما يتعلق بخلقه؛ فلو قال: إن الله تعالى لا يعلم ما يفعله العبد فهو كافر، كما لو قال: إن الله لا يعلم ما يفعله بنفسه؛ ولهذا كفَّر أهل السنة والجماعة غلاة القدرية الذين قالوا: إن الله سبحانه وتعالى لا يعلم أفعال العباد؛ فالذي ينكر علم الله بأفعال العباد لا شك أنه كافر؛ لأن الله تعالى يقول: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ق: 16] ، ويقول سبحانه وتعالى: {أم يحسبون أنا لا نعلم سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون} [الزخرف: 80] ؛ فالذي يقول: إن الله لا يعلم أفعال العباد فإنه كافر بهذه الآيات؛ ولهذا قال الشافعي في القدرية: «ناظروهم بالعلم فإن أقروا به خُصِموا؛ وإن أنكروه كفروا»؛ وإيمانك بهذا يوجب لك مراقبته، والخوف منه، وامتثال أمره، واجتناب نهيه؛ لأنك متى علمت أنه عالم بك فإنك تخشاه؛ تستحيي منه عند المخالفة؛ وترغب فيما عنده عند الموافقة. 9ــــ ومن فوائد الآية: التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته المناسبة لما يدعو به؛ لقوله تعالى: { إنك أنت السميع العليم }. 10ــــ ومنها: أن الدعاء يكون باسم «الرب» ؛ لأن إجابة الدعاء من شأن الربوبية؛ لأنها خَلْق، وإيجاد. القـــــــــــرآن { )رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:128) التفسير: { 128 } قوله تعالى: { ربنا واجعلنا مسلمين }: أتى بالواو عطفاً على قوله تعالى: { ربنا تقبل منا } يعني ربنا واجعلنا مع قبولك مسلمين لك؛ و{ اجعلنا } أي صيِّرنا. قوله تعالى: { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } يعني واجعل من ذريتنا أمة مسلمة لك؛ فأتى بـ{ من } التي للتبعيض؛ والمراد بـ{ ذريتنا } من تفرعوا منهما؛ فذرية الإنسان من تفرعوا منه. قوله تعالى: { أمة مسلمة لك } هذه الأمة هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يصدق على أحد أنه من ذرية إبراهيم، وإسماعيل إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن اليهود، والنصارى ليسوا من بني إسماعيل؛ بل من بني يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. قوله تعالى: { وأرنا مناسكنا } أي بيِّنها لنا حتى نراها؛ و «المناسك» جمع منسك؛ وهو هنا مكان العبادة. قوله تعالى: { وتب علينا } أي وفقنا للتوبة فنتوب؛ والتوبة من العبد: هي الرجوع من المعصية إلى الطاعة؛ ومن الله عزّ وجلّ: هي توفيق العبد للتوبة، ثم قبولها منه. قوله تعالى: { إنك أنت التواب الرحيم }: هذا من باب التوسل بأسماء الله عزّ وجلّ المناسبة للمطلوب؛ و{ التواب } صيغة مبالغة لكثرة من يتوب الله عليهم، وكثرة توبته على العبد نفسه؛ و{ الرحيم } أي الموصوف بالرحمة التي يرحم بها من يشاء من عباده. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: شدة افتقار الإنسان إلى ربه، حيث كرر كلمة: { ربنا }؛ وأنه بحاجة إلى ربوبية الله الخاصة التي تقتضي عناية خاصة. 2ــــ ومنها: أن الإنسان مفتقر إلى تثبيت الله؛ وإلا هلك؛ لقوله تعالى: { واجعلنا مسلمين }؛ فإنهما مسلمان بلا شك: فهما نبيَّان؛ ولكن لا يدوم هذا الإسلام إلا بتوفيق الله؛ قال الله سبحانه وتعالى للرسول (ص): {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلًا * إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} [الإسراء: 74، 75] . 3ــــ ومنها: أهمية الإخلاص؛ لقوله تعالى: { مسلمين لك }: { لك } تدل على إخلاص الإسلام لله عزّ وجلّ، كما قال تعالى في آية أخرى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه} [البقرة: 112] . 4ــــ ومنها: أن الإسلام يشمل كل استسلام لله سبحانه وتعالى، ظاهراً وباطناً. 5ــــ ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يشمل ذريته في الدعاء؛ لأن الذرية الصالحة من آثار الإنسان الصالحة؛ لقوله تعالى: { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك }؛ وقال إبراهيم (ص) في آية أخرى: { واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام }؛ فالذرية صلاحها لها شأن كبير بالنسبة للإنسان. 6ــــ ومنها: أن الأصل في الإنسان الجهل؛ لقوله تعالى: { وأرنا مناسكنا } يعني: أعلمنا بها. 7ــــ ومنها: أن الأصل في العبادات أنها توقيفية ــــ يعني: الإنسان لا يتعبد لله بشيء إلا بما شرع ــــ؛ لقوله تعالى: { وأرنا مناسكنا }. 8ــــ ومنها: تحريم التعبد لله بما لم يشرعه؛ لأنهما دعَوَا الله عزّ وجلّ أن يريهما مناسكهما؛ فلولا أن العبادة تتوقف على ذلك لتَعبدا بدون هذا السؤال. 9ــــ ومنها: افتقار كل إنسان إلى توبة الله؛ لقوله تعالى: { وتب علينا }؛ إذ لا يخلو الإنسان من تقصير. 10ــــ ومنها: إثبات { التواب }، و{ الرحيم } اسمين من أسماء الله سبحانه وتعالى، وما تضمناه من صفة. 11ــــ ومنها: مشروعية التوسل إلى الله عزّ وجلّ بأسمائه، وصفاته؛ لأن قوله تعالى: { إنك أنت التواب الرحيم } تعليل للطلب السابق؛ فهو وسيلة يتوصل بها الداعي إلى حصول مطلوبه. 12ــــ ومنها: أن التوسل بأسماء الله يكون باسم مطابق لما دعا به؛ لقوله تعالى: { وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم }، ولقوله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها }. تــنــبــيــه: إن قال قائل: كيف يستقيم أن يسأل إبراهيم، وإسماعيل ربهما أن يجعلهما مسلمين له مع أنهما كانا كذلك؟ فالجواب: أن المراد بذلك تثبيتهما على الإسلام؛ لأن الإنسان من حيث هو إنسان لا يأمن العاقبة؛ أو يقال: إن المراد تقوية إسلامهما بالإخلاص لله عزّ وجلّ، والانقياد لطاعته؛ أو يقال: إنهما قالا ذلك توطئة لما بعدها في قولهما: { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك }؛ والأول أقوى الاحتمالات. القــــــــــرآن { )رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة:129) التفسير: { 129 } قوله تعالى: { ربنا وابعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياتك }، أي أرسل فيهم رسولاً مرسَلاً من عندك يقرأ عليهم آياتك، ويبينها لهم، كما قال الله ــــ تبارك وتعالى ــــ: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] . قوله تعالى: { ويعلمهم الكتاب } أي القرآن، وما فيه من أخبار صادقة نافعة، وأحكام عادلة؛ { والحكمة قيل: هي السنة؛ لقوله تعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} [النساء: 113] ؛ ويحتمل أن يكون المراد بها معرفة أسرار الشريعة المطهرة، وأنها شريعة كاملة صالحة لكل زمان، ومكان. قوله تعالى: { ويزكيهم } أي ينمي أخلاقهم، ويطهرها من الرذائل. قوله تعالى: { إنك أنت العزيز الحكيم }؛ { أنت }: ضمير فصل لا محل له من الإعراب؛ و{ العزيز} خبر { إن }؛ و{ الحكيم } خبر ثان؛ والكاف اسم { إن }؛ و{ العزيز } أي ذو العزة؛ و «العزة» بمعنى القهر، والغلبة؛ فهو سبحانه وتعالى ذو قوة، وذو غلبة: لا يغلبه شيء، ولا يعجزه شيء؛ و{ الحكيم } أي ذو الحُكم، والحكمة. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: ضرورة الناس إلى بعث الرسل؛ ولذلك دعــا إبراهيمُ وإسماعيلُ الله سبحانه وتعالى أن يبعث فيهم الرسول. 2ــــ ومنها: أن كون الرسول منهم أقرب إلى قبول دعوته؛ لقوله تعالى: { رسولاً منهم }؛ لأنهم يعرفونه، كما قال تعالى: {ما ضل صاحبكم وما غوى} [النجم: 53] ؛ فتأمل قوله تعالى: {ما ضل صاحبكم} [النجم: 53] ، حيث أضافه إليهم؛ يعني: صاحبكم ــــ الذي تعرفونه، وتعرفون رجاحة عقله، وتعرفون أمانته ــــ ما ضل، وما غوى. 3ــــ ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الله سبحانه وتعالى فيه من الخير أنه يتلو الآيات، ويعلم الكتاب، ويعلم الحكمة؛ لقوله تعالى: { يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة }. 4ــــ ومنها: أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم تتضمن ذكر آيات الله الكونية، والشرعية، وتتضمن تعليم الكتاب تلاوةً، ومعنًى، وتتضمن أيضاً الحكمة ــــ وهي معرفة أسرار الشريعة، وتتضمن تزكية الخلق؛ لقوله تعالى: { يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم }. 5ــــ ومنها: أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يزكي الأخلاق، ويطهرها من كل رذيلة، كما قال صلى الله عليه وسلم «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(1) ؛ وهكذا كانت شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم: تنمية للأخلاق الفاضلة، وتطهيراً من كل رذيلة؛ فهو يأمر بالبر، ويأمر بالمعروف، ويأمر بالإحسان، ويأمر بالصلة، ويأمر بالصدق، ويأمر بكل خير؛ كل ما فيه خير للإنسان في دينه ودنياه فإن الإسلام يأمر به ــــ وهذه تزكية ــــ؛ وينهى عن ضد ذلك؛ ينهى عن الإثم، والقطيعة، والعدوان، والعقوق، والكذب، والغش، وغير ذلك من مساوئ الأخلاق ــــ وهذه أيضاً تزكية ــــ. وحال الناس قبل الإسلام بالنسبة للعبادة لا تَسأل! شرك، وكفر؛ وبالنسبة للأحوال الاجتماعية لا تَسأل أيضاً عن حالهم! القوي يأكل الضعيف؛ والغني يأكل الفقير؛ ويأكلون الربا أضعافاً مضاعفة؛ يُغيِر بعضهم على بعض؛ يتعايرون بالأنساب؛ يدعون بدعوى الجاهلية... إلخ. جاء الإسلام، وهدم كل هذا؛ ومن تدبر التاريخ قبل بعثه (ص) وبعده، علم الفرق العظيم بين حال الناس قبل البعثة، وحالهم بعدها؛ وظهر له معنى قوله تعالى: { ويزكيهم }. 6ــــ ومنها: أن هذه الشريعة كاملة؛ لتضمن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المعاني الجليلة مما يدل على كمال شريعته. 7ــــ ومنها: إثبات العزة، والحكمة لله؛ لقوله تعالى: { إنك أنت العزيز الحكيم }. 8ــــ ومنها: إثبات هذين الاسمين لله: { العزيز }، و{ الحكيم }. 9ــــ ومنها: مناسبة العزة، والحكمة لبعث الرسول؛ وهي ظاهرة جداً؛ لأن ما يجيء به الرسول كله حكمة، وفيه العزة: قال الله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون: 80] ؛ للمؤمنين عرباً كانوا، أو عجماً؛ من كان مؤمناً بالله عزّ وجلّ قائماً بأمر الله فإن له العزة؛ ومن لم يكن كذلك فاته من العزة بقدر ما أخل به من الإيمان، والعمل الصالح؛ ولهذا يجب أن تكون رابطة الإيمان أقوى الروابط بين المؤمنين؛ لأنه لا يمكن أن تكون هناك عزة واجتماع على الخير برابطة أقوى من هذه الرابطة. القــــــــــرآن { )وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (البقرة:130) التفسير: { 130 } قوله تعالى: { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه }؛ { مَن } اسم استفهام يراد به النفي؛ وهو مبتدأ؛ وجملة: { يرغب } خبره؛ ولا نقول: { مَن } هنا شرطية؛ نعم، لو كانت الآية: «ومن يرغب عن ملة إبراهيم فقد سفه نفسه» صارت شرطية؛ لكن الأول أبلغ. قوله تعالى: { يرغب عن ملة إبراهيم }: يقال: رغب في كذا؛ ورغب عنه؛ والفرق أن «رغب فيه» يعني طلبه؛ و«رغب عنه» يعني تركه، واجتنبه؛ هنا: { ومن يرغب عن ملة إبراهيم } يعني تركها؛ و «الملة» بمعنى الدين - أي دين إبراهيم -؛ ودين إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) أنه كان حنيفاً مسلماً لله، ولم يكن من المشركين؛ و{ إبراهيم } هو الخليل صلى الله عليه وسلم الذي هو أبو الأنبياء، وأشرفهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وجعله الله إماماً، قال الله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتاً [النحل: 120] ، وجعل ملته هي الملة الحنيفية؛ فإذا كان كذلك فلا أحد يرغب عن الملة الحنيفية القويمة. قوله تعالى: { إلا من سفه نفسه } أي أوقعها في سفه؛ و «السفه» ضد الرشد؛ وقيل: معناه: جهل نفسه أي جهل ما يجب لها، فضيعها؛ ولنا أن نقول: إن التعبير بما يحتمل الوجهين فيه نكتة عظيمة؛ وهي أن يكون التعبير صالحاً للأمرين؛ فكأنه ناب عن جملتين؛ فهو في الحقيقة جاهل إن لم يتعمد المخالفة؛ وسفيه إن تعمد المخالفة. قوله تعالى: { ولقد اصطفيناه في الدنيا }: الجملة هنا مؤكدة بمؤكدات ثلاثة؛ وهي القسم المقدر؛ واللام؛ و «قد» ؛ لأن اللام هنا موطئة للقسم؛ والتقدير: وواللَّهِ لقد. وقوله تعالى: { اصطفيناه } افتعال من الصفوة؛ فأصل هذه المادة من صفا يصفو؛ ومعنى { اصطفيناه في الدنيا اخترناه، وجعلناه صفياً من الخلق: اصطفاه الله سبحانه وتعالى في الدنيا على كل الأنبياء ما عدا محمداً (ص)؛ واتخذه الله سبحانه وتعالى خليلاً. قوله تعالى: { وإنه في الآخرة لمن الصالحين }: { إنه }: «إنّ» واسمها؛ و{ لمن الصالحين }: خبرها؛ وهذه الجملة مؤكدة بـ «إن» واللام فقط؛ و{ في الآخرة }: في موضع نصب على الحال؛ أي إنه في حال كونه في الآخرة؛ لمن الصالحين؛ في الدنيا اصطفاه الله، واختاره؛ وفي الآخرة يكون من الصالحين الذين أدوا ما أوجب الله عليهم لنفسه ولخلقه. وهنا ذكر الله تعالى الاصطفاء في الدنيا، والصلاح في الآخرة؛ فهل هنا نكتة لتغاير الحالين، أو لا؟ الجواب: يبدو لي ــــ والله أعلم ــــ أن هناك نكتة؛ وهي أن الدنيا دار شهوات، وابتلاء؛ فلا يصبر عن هذه الشهوات، ولا على هذا الابتلاء إلا واحد دون الآخر؛ فإذا أخلص الإنسان نفسه لله صار صفوة من عباد الله؛ والآخرة ليست هكذا؛ الآخرة حتى الكفار يؤمنون؛ ولكن الفرق بين من يكون من الصالحين، وغير الصالحين؛ لأنهم إذا عرضوا على النار قيل لهم: {أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا} [الأنعام: 30] ، وقيل لهم: {أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى} [غافر: 50] ؛ وقالوا: {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} [يس: 52] ... وهكذا ما يدل على أنهم مؤمنون؛ لكنهم ليسوا من الصالحين؛ فإن كانت هذه هي النكتة فذلك من فضل الله؛ وإن لم تكن إياها فالعلم عند الله؛ ولا بد أن يكون هناك نكتة جهلناها. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: أن الرشد في اتباع ملة إبراهيم؛ لقوله تعالى: { إلا من سفه نفسه }. 2ــــ ومنها: أن مخالفة هذه الملة سفه؛ مهما كان الإنسان حكيماً في قوله فإنه يعتبر سفيهاً إذا لم يلتزم بشريعة الله. 3ــــ ومنها: فضيلة إبراهيم ــــ عليه الصلاة والسلام ــــ، حيث اصطفاه الله، واختاره على العالمين؛ لقوله تعالى: { ولقد اصطفيناه في الدنيا }. 4ــــ ومنها: إثبات الآخرة؛ لقوله تعالى: { وإنه في الآخرة }. 5ــــ ومنها: أن الصلاح وصف للأنبياء، ومن دونهم؛ فيوصف النبي بأنه صالح، ويوصف متبع الرسول بأنه صالح؛ ولهذا كانت الأنبياء ــــ عليهم الصلاة والسلام ــــ يحيون الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج بقولهم: «مرحباً بالأخ الصالح، والنبي الصالح»(1) ؛ فوصفوه بالصلاح. 6ــــ ومنها: أن المخالفين للرسل سفهاء؛ لقوله تعالى: { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ، وقوله في المنافقين: {ألا إنهم هم السفهاء} [البقرة: 13] ، وقوله تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} [البقرة: 142] ؛ فإنهم ــــ وإن كانوا أذكياء، وعندهم علم بالصناعة، والسياسة ــــ هم في الحقيقة سفهاء؛ لأن العاقل هو الذي يتبع ما جاءت به الرسل فقط. القـــــــــــرآن { )إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة:131) التفسير: { 131 } قوله تعالى: { إذ قال له ربه أسلم }؛ هذا من الثناء على إبراهيم؛ { إذ }: يحتمل أن تكون متعلقة بقوله: { ولقد اصطفيناه } أي: ولقد اصطفيناه إذ قال له ربه؛ ويحتمل أن تكون متعلقة بمحذوف، والتقدير: اذكر إذ قال له ربه؛ فيكون أمراً للرسول (ص) أن ينوه بهذه الحال التي كان إبراهيم (ص) عليها. قوله تعالى: { أسلمت } يشمل إسلام الباطن، والظاهر. قوله تعالى: { لرب العالمين } يتضمن توحيد الربوبية، والأسماء، والصفات؛ وما أكثر الذين أُمروا بالإسلام ولم يسلموا: تسعمائة وتسعة وتسعون من الألف من بني آدم كلهم في النار، وواحد من ألف في الجنة؛ لأنهم أُمروا بالإسلام، ولم يسلموا. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: فضيلة إبراهيم (ص)، حيث لم يتوانَ، ولم يستكبر؛ فبادَر بقوله: { أسلمت لرب العالمين } حين قال له ربه عزّ وجلّ: { أسلم } ولم يستكبر؛ بل أقر؛ لأنه مربوب لرب العالمين. 2ــــ ومنها: إثبات ربوبية الله سبحانه وتعالى العامة لكل أحد؛ لقوله تعالى: { لرب العالمين }. 3ــــ ومنها: الإشارة إلى أن الخلق من آيات الله؛ لأنهم سُمّوا «عالمين»، حيث إنهم عَلَم على خالقهم. 4ــــ ومنها: المناسبة بين قوله تعالى: { أسلمت }، و{ رب }؛ كأن هذا علة لقوله تعالى: { أسلمت }؛ فإن الرب هو الذي يستحق أن يُسْلَم له؛ الرب: الخالق؛ ولهذا أنكر الله سبحانه وتعالى عبادة الأصنام، وبيّن علة ذلك بأنهم لا يخلقون؛ قال تعالى: {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون * أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون} [النحل: 20، 21] ؛ فتبين بهذا مناسبة ذكر الإسلام مقروناً بالربوبية. القـــــــــــــرآن {{ )وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (البقرة:132) التفسير: { 132 } قوله تعالى: { ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب }؛ { وصى } فيها قراءتان؛ إحداهما بهمزة مفتوحة مع تخفيف الصاد: { أَوصَى }، والثانية بحذف الهمزة مع تشديد الصاد: { وصَّى }؛ أما { إبراهيم } ففيها قراءتان؛ إحداهما بكسر الهاء بعدها ياء: { إبراهيم }؛ والثانية بفتح الهاء بعدها ألف: { إبراهام }؛ وقراءة: { أوصى } لا تنطبق عليها الشروط الثلاثة في القراءة، والمجموعة في البيتين، وهما: وكل ما وافق وجه نحو وكان للرسم احتمالاً يحوي وصح نقلاً فهو القُران فهذه الثلاثة الأركان فقوله تعالى: { وصى }، و{ أوصى } لم تتفق في الرسم؛ إذاً الشروط أو الأركان التي ذكرت بناءً على الأغلب. قوله تعالى: { ووصى بها إبراهيم }: الضمير «ها» يعود على هذه الكلمة العظيمة؛ وهي {أسلمت لرب العالمين} [البقرة: 131] ؛ ويجوز أن يكون الضمير يعود على الملة ــــ أي: وصى بهذه الملة ــــ؛ والمعنى واحد؛ لأن {ملة إبراهيم} [البقرة: 130] هي {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} [البقرة: 131] ؛ و «التوصية» العهد المؤكّد في الأمر الهام. قوله تعالى: { بنيه } مفعول { وصى }؛ ولهذا نُصبت بالياء؛ لأنها ملحق بجمع المذكر السالم. قوله تعالى: { ويعقوب } معطوفة على { إبراهيم } فهي مرفوعة؛ يعني: وكذلك وصى بها يعقوب بنيه؛ وسمي يعقوب: قيل: لأنه عقب إسحاق؛ وقيل: إنه اسم غير عربي، ومثله لا يطلب له اشتقاق. قال يعقوب: { يا بني } أي يا أبنائي؛ وإنما ناداهم بوصف البنوة ترفقاً معهم ليكون أدعى إلى القبول. قوله تعالى: { إن الله اصطفى } أي اختار { لكم } أي لأجلكم { الدين } أي العبادة، والعمل؛ ويطلق على الجزاء؛ ففي قوله تعالى: {مالك يوم الدين} [الفاتحة: 4] المراد بـ {الدين} الجزاء؛ وفي قوله تعالى: {ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة: 3] ؛ «الدين» : العبادة؛ فالدين يطلق على هذا، وعلى هذا ــــ على العمل، وعلى الجزاء عليه ــــ؛ ومنه قولهم: كما تدين تدان ــــ يعني كما تعمل تُجازى. قوله تعالى: { فلا تموتن } الفاء للتفريع؛ أي فعلى هذا الاختيار تمسكوا بهذا الدين؛ و «لا» ناهية؛ و{ تموتن } مجزوم بحذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة؛ والنون هنا التي فيها للتوكيد؛ وأصلها: «تموتونَنَّ»: حذفت النون للجزم فصارت «تموتونّ»؛ ثم حذفت الواو لالتقاء الساكنين؛ لأن الحرف المشدد أوله ساكن؛ والواو ساكنة؛ فحذفت الواو؛ قال ابن مالك: إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق وإن يكن ليناً فحذفه استحق قوله تعالى: { إلا وأنتم مسلمون } جملة حالية يراد بها استمرارهم على الإسلام إلى الممات. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: أهمية هذه الوصية؛ لأنه اعتنى بها إبراهيم، ويعقوب؛ فإبراهيم أبو العرب والإسرائيليين؛ ويعقوب أبو الإسرائيليين؛ فهذان الرسولان الكريمان اعتنيا بها، حيث جعلاها مما يوصى به. 2ــــ ومنها: أنه ينبغي العناية بهذه الوصية اقتداءً بإبراهيم، ويعقوب. 3ــــ ومنها: أن الله سبحانه وتعالى اختار لعباده من الدين ما هو أقوم بمصالحهم؛ لقوله تعالى: { اصطفى لكم الدين }؛ فلولا أنه أقوم ما يقوم بمصالح العباد ما اختاره الله سبحانه وتعالى لعباده. 4ــــ ومنها: أنه ينبغي التلطف في الخطاب؛ لقوله تعالى: { يا بنيّ }؛ فإن نداءهم بالبنوة يقتضي قبول ما يلقى إليهم. 5ــــ ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يتعاهد نفسه دائماً حتى لا يأتيه الموت وهو غافل؛ لقوله تعالى: { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون }. 6ــــ ومنها: أن الأعمال بالخواتيم؛ لقوله تعالى: { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون }. القــــــــــــرآن )أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:133) التفسير: { 133 } قوله تعالى: { أم كنتم شهداء }؛ { أم } هنا منقطعة؛ و«المنقطعة» يقول المعربون: إنها بمعنى «بل» وهمزة الاستفهام؛ فمعنى { أم كنتم }: بل أكنتم؛ والضمير في { كنتم } يعود على اليهود الذين ادعوا أنهم على الحق، وأنّ هذه وصية أبيهم يعقوب، فالتزَموا ما هم عليه؛ ويحتمل أن يكون عائداً على جميع المخاطبين، ويكون المقصود بذلك الإعلام بما حصل من يعقوب حين حضره الموت؛ وهذا الاحتمال أولى؛ لأنه لا يوجد هنا دليل على أنه يعود على اليهود؛ بل الآية كلها عامة؛ وهي أيضاً منقطعة عن اليهود بآيات سابقة كثيرة؛ فالمعنى: تقرير ما وصى به يعقوب حين موته؛ و{ شهداء } جمع شهيد، أو شاهد ــــ بمعنى حاضر ــــ. قوله تعالى: { إذ حضر يعقوب الموت }؛ { إذ } ظرف مبنية على السكون في محل نصب ــــ أي وقت حضور يعقوب الموت ــــ؛ و{ يعقوب } منصوبة؛ لأنها مفعول به مقدم؛ و{ الموت } فاعل مؤخر؛ لأن الحاضر الموت؛ والمحضور يعقوب. قوله تعالى: { إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي }؛ { إذ } بدل من { إذ } الأولى: يعني: إذ حضر إذ قال؛ يعني: أم كنتم شهداء إذ قال لبنيه: «ما تعبدون من بعدي» حين حضره الموت؛ وبنو يعقوب هم يوسف، وإخوته: أحد عشر رجلاً؛ حضر يعقوب الموت، فكان أولاده حاضرون، فقال لهم: { ما تعبدون من بعدي } أي من بعد موتي { قالوا نعبد إلهك }: بدؤوا به؛ لأنهم يخاطبونه؛ { وإله آبائك } جمع أب؛ ثم بينوا الآباء بقولهم: { إبراهيم وإسماعيل وإسحاق }؛ { إبراهيم } بالنسبة إلى يعقوب جدّ؛ و{ إسماعيل } بالنسبة إليه عم؛ و{ إسحاق بالنسبة إليه أب مباشر؛ أما إطلاق الأبوة على إبراهيم، وعلى إسحاق فالأمر فيه ظاهر؛ لأن إسحاق أبوه، وإبراهيم جده؛ والجد أب؛ بل قال الله عزّ وجلّ لهذه الأمة: {ملة أبيكم إبراهيم} [الحج: 78] ؛ وهي بينها وبين إبراهيم عالَم؛ لكن الإشكال في عدِّهم إسماعيل من آبائه مع أنه عمهم؛ فيقال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه»(1) ؛ و«الصنو» الغصنان أصلهما واحد؛ فذُكر مع الآباء؛ لأن العم صنو الأب؛ وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الخالة بمنزلة الأم»(2) ؛ كذلك نقول: العم بمنزلة الأب؛ وقيل: إن هذا من باب التغليب، وأن الأب لا يطلق حقيقة على العم إلا مقروناً بالأب الحقيقي؛ وعلى هذا فلا يكون فيها إشكال إطلاقاً؛ لأن التغليب سائغ في اللغة العربية، فيقال: «القمران»؛ والمراد بهما الشمس، والقمر؛ ويقال: «العُمَرانِ»؛ وهما أبو بكر، وعمر. وقوله تعالى: { إبراهيم } بدل من { آبائك }؛ أو عطف بيان؛ وفيها قراءة: { إبراهام } بفتح الهاء بعدها ألف. قوله تعالى: { إلهاً واحداً } أي نعبده؛ و{ إلهاً } هذه حال؛ يسمونها حال موطئة؛ ولكنها بناءً على أن «إله»، و«الله» غير مشتق؛ والصحيح أنه مشتق، وأنه بمعنى مألوه؛ وعليه فتكون حالاً مؤسسة حقيقية؛ وليست موطئة؛ لأن الحال الموطئة التي تكون تمهيداً لمشتق، مثل: {قرآناً عربياً} [يوسف: 2] فإن «قرآن» غير مشتقة؛ والحال ــــ كما تقدم ــــ تكون مشتقة و{ واحداً } حال أخرى مكررة. قوله تعالى: { ونحن له مسلمون }؛ { نحن } مبتدأ؛ و{ مسلمون } خبره؛ و{ له } جار ومجرور متعلقة بـ{ مسلمون } قدمت عليها لإفادة الحصر ــــ من حيث المعنى؛ ولمراعاة فواصل الآيات ــــ من حيث اللفظ؛ و{ نحن له مسلمون } أي منقادون لأمر هذا الإله الواحد سبحانه وتعالى، وشرعه. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: أن التوحيد وصية الأنبياء؛ لقوله تعالى: { ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك. 2ــــ ومنها: أن الموت حق حتى على الأنبياء؛ قال الله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} [آل عمران: 144] . 3ــــ ومنها: جواز الوصية عند حضور الأجل؛ لقوله تعالى: { إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك }؛ وهذا كالوصية لهم؛ ولكنه يشترط أن يكون الموصي يعي ما يقول؛ فإن كان لا يعي ما يقول فإنه لا تصح وصيته. 4ــــ ومنها: رجحان القول الصحيح بأن الجدّ أب في الميراث؛ لقوله تعالى: { آبائك إبراهيم }. 5ــــ ومنها: أنه يجوز إطلاق اسم الأب على العم تغليباً؛ لقوله تعالى: { وإسماعيل }. 6ــــ ومنها: أن أبناء يعقوب كانوا على التوحيد، حيث قالوا: { نعبد إلهك وإله آبائك }؛ وهذا لا شك توحيد منهم. 7ــــ ومنها: أن النفوس مجبولة على اتباع الآباء؛ لكن إن كان على حق فهو حق؛ وإن كان على باطل فهو باطل؛ لقولهم: { وإله آبائك }؛ ولهذا الذين حضروا وفاة أبي طالب قالوا له: أترغب عن ملة عبد المطلب. 8ــــ ومنها: أهمية التوحيد، والعناية به؛ لقوله تعالى: { ما تعبدون من بعدي }. 9ــــ ومنها: أن العبادة والألوهية معناهما واحد؛ لكن العبادة باعتبار العابد؛ والألوهية باعتبار المعبود؛ ولهذا كان أهل العلم يسمون التوحيد توحيد العبادة؛ وبعضهم يقول: توحيد الألوهية. 10ــــ ومنها: إخلاص الإسلام لله، حيث قال تعالى: { ونحن له مسلمون }؛ وجه الإخلاص: تقديم المعمول في { له }؛ لأنه متعلق بـ{ مسلمون }؛ فهو معمول له؛ وقد عُلم أن تقديم المعمول يفيد الحصر. 11ــــ ومنها: إثبات الوحدانية لله سبحانه وتعالى في قوله تعالى: { إلهاً واحداً }. القــــــــرآن { )تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (البقرة:134) التفسير: { 134 } قوله تعالى: { تلك آمة قد خلت }: المشار إليه إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ومن سبق؛ وكان اليهود يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء؛ فبين الله تعالى أن هذه أمة قد مضت { لها ما كسبت ولكم ما كسبتم } فلا تنالون مما كسبوا شيئاً؛ ولا ينالون مما كسبتم شيئاً. و «الأمة» هنا بمعنى طائفة؛ وتطلق في القرآن على عدة معانٍ؛ المعنى الأول: الطائفة، كما هنا؛ المعنى الثاني: الحقبة من الزمن، مثل قوله تعالى: {وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة} [يوسف: 45] يعني: بعد حقبة من الزمن؛ والمعنى الثالث: الإمام، مثل قوله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة} [النحل: 120] ؛ والمعنى الرابع: الطريق، والملة، مثل قوله تعالى: {إنا وجدنا آباءنا على أمة} [الزخرف: 22] . قوله تعالى: { ولا تسألون عما كانوا يعملون } أي لا تُسألون عن أعمال من سبقكم؛ لأن لهم ما كسبوا، ولكم ما كسبتم. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: أن الاعتماد على أعمال الآباء لا يجدي شيئاً؛ لقوله تعالى: { تلك أمة قد خلت... } الآية؛ يعني هم مضوا، وأسلموا لله؛ وأنتم أيها اليهود الموجودون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم عليكم أن تنظروا ماذا كسبتم لأنفسكم. 2ــــ ومنها: الإشارة إلى أنه ينبغي لنا أن نسكت عما جرى بين الصحابة؛ لأنا نقول كما قال الله لهؤلاء: { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم } فنحن معنيون الآن بأنفسنا؛ ويُذكر عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ــــ رحمه الله ــــ أنه سئل عما جرى بين الصحابة، فقال لهم: «هذه دماء طهر الله سيوفنا منها؛ فنحن نطهر ألسنتنا منها» ؛ هذه كلمة عظيمة؛ فعلى هذا النزاع فيما جرى بين معاوية، وعلي بن أبي طالب، وعائشة، وما أشبه ذلك لا محل له؛ لكن الذي يجب أن نعتني به حاضر الأمة؛ هذا الذي يجب أن يبين فيه الحق، ويبطَل فيه الباطل؛ ونقول: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلًا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} [الحشر: 10] . 3ــــ ومن فوائد الآية: أن الإنسان وعملَه؛ لقوله تعالى: { لها ما كسبت ولكم ما كسبتم }؛ فلا أحد يعطى من عمل أحد، ولا يؤخذ منه؛ قال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر: 38] . 4ــــ ومنها: أن الآخِر لا يُسأل عن عمل الأول؛ ولكن الأول قد يُسأل عن عمل الآخر، كما قال تعالى: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} [القصص: 41] ؛ فقد يكون الأول صاحب بدعة، ويُتَّبَع على بدعته؛ فيكون دالاً على ضلالة؛ فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة؛ لكن الآخر لا يسأل عن عمل الأول؛ ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا»(1) ؛ وفي لفظ: «فتؤذوا الأحياء»(2) . 5ــــ ومن فوائد الآية: إثبات عدل الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يؤاخذ أحداً بما لم يعمله؛ لقوله تعالى: { ولا تسألون عما كانوا يعملون }. 6 ــــ ومنها: إثبات السؤال، وأن الإنسان سيُسأل؛ لقوله تعالى: { ولا تسألون عما كانوا يعملون }؛ منطوق الآية: نفي السؤال عن عمل الغير؛ ومفهومها: ثبوت السؤال عن عمل العامل، وأنه مسؤول عن العمل. القـــــــــرآن { )وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (البقرة:135) التفسير: { 135 } قوله تعالى: { وقالوا }: الضمير يعود على اليهود، والنصارى، يخاطبون المسلمين؛ { كونوا هوداً } يعني من اليهود على ملتهم؛ و «هود» جمع هائد، مثل «عود» جمع عائد؛ والذين يقولون: { كونوا هوداً } هم اليهود؛ وقوله تعالى: { أو نصارى } يقوله النصارى؛ أي كونوا نصارى ــــ أي على ملتهم ــــ. قوله تعالى: { تهتدوا } مجزوم على أنه جواب الأمر؛ أي تكونوا مهتدين. قال الله تعالى في جواب من يدعو إلى اليهودية من اليهود، أو النصرانية من النصارى: { قل بل ملة إبراهيم حنيفاً }؛ { بل } هنا للإضراب الإبطالي؛ لأنها تبطل ما سبق؛ يعني: بل لا نتبع، ولا نكون هوداً، ولا نصارى؛ بل ملة إبراهيم؛ وبهذا التقدير يتبين لنا على أيّ وجه نصب { ملة }؛ فهي مفعول لفعل محذوف تقديره: بل نتبع ملة إبراهيم؛ و «الملة» بمعنى الدين كما سبق؛ وملة إبراهيم هي التوحيد؛ يعني نتبع توحيد الله عزّ وجلّ، والإسلام له؛ لأن إبراهيم لما قال له ربه عزّ وجلّ: {أسلم} [البقرة: 131] ؛ قال: {أسلمت لرب العالمين} [البقرة: 131] . وقوله تعالى: { حنيفاً } منصوب على الحال من إبراهيم؛ وهي حال لازمة بدليل قوله تعالى: { وما كان من المشركين }. قوله تعالى: { وما كان من المشركين }: هذا توكيد لقوله تعالى: { حنيفاً }؛ لأن «الحنيف» المائل عما سوى التوحيد؛ مأخوذ من حنف الذئب ــــ أي ميله؛ فهو مائل عن كل ما سوى التوحيد؛ إذاً { وما كان من المشركين } يكون توكيداً لهذه الحال توكيداً معنوياً لا إعرابياً؛ يعني أنه (ص) ما كان فيما مضى من المشركين، ولا فيما يستقبل؛ لأن «كان» لا تدل على الحدث؛ تدل على اتصاف اسمها بخبرها، مثل: {وكان الله غفوراً رحيماً} [النساء: 96] ؛ فقوله تعالى: { وما كان } يعني أن هذا الوصف منتف عنه؛ وقوله تعالى: { من المشركين } يعم انتفاء الشرك الأصغر والأكبر عنه؛ هذه هي الملة التي يتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم، ونتبعها نحن ــــ إن شاء الله سبحانه وتعالى؛ ونرجو الله عزّ وجلّ أن نموت عليها؛ هذه هي الملة الحنيفية الحقيقية التي توصل العبد إلى ربه، كما قال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] . الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: أن أهل الباطل يدْعون إلى ضلالهم، ويدَّعون فيه الخير؛ { كونوا هوداً أو نصارى هذه دعوة إلى ضلال؛ { تهتدوا }: ادعاء أن ذلك خير؛ وهكذا أيضاً قد ورث هؤلاء اليهود من ضل من هذه الأمة، كأهل البدع في العقيدة، والقدر، والإيمان ــــ الذين ادعوا أنهم على حق، وأن من سلك طريقهم فقد اهتدى؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتركبن سَنن من كان قبلكم»(1) . 2ــــ ومن فوائد الآية: أن كل داع إلى ضلال ففيه شبه من اليهود، والنصارى؛ دعاة السفور الآن يقولون: اتركوا المرأة تتحرر؛ اتركوها تبتهج في الحياة؛ لا تقيدوها بالغطاءِ، وتركِ التبرج، ونحو ذلك؛ أعطوها الحرية؛ وهكذا كل داع إلى ضلالة سوف يطلي هذه الضلالة بما يغر البليد فهو شبيه باليهود، والنصارى. 3ــــ ومنها: مقابلة الباطل بالحق؛ لقوله تعالى: { بل ملة إبراهيم حنيفاً }؛ إذ لابد للإنسان من أن يسير على طريق؛ لكن هل هو حق، أو باطل؟! بين الله أن كل ما خالف الحق فهو باطل في قوله تعالى: { بل ملة إبراهيم حنيفاً }. 4ــــ ومنها: الثناء على إبراهيم عليه السلام من وجوه ثلاثة: أولاً: إمامته؛ ووجهها: أننا أمرنا باتباعه؛ والمتبوع هو الإمام. ثانياً: أنه حنيف؛ والحنيف هو المائل عن كل دين سوى الإسلام. ثالثاً: أنه ليس فيه شرك في عمله (ص)؛ لقوله تعالى: { وما كان من المشركين }. 5ــــ ومن فوائد الآية: أن الشرك ممتنع في حق الأنبياء؛ لقوله تعالى: { وما كان من المشركين }. 6ــــ ومنها: أن ملة إبراهيم (ص) أفضل الملل؛ وهي التوحيد، والحنيفية السمحة؛ لقوله تعالى: { بل ملة إبراهيم حنيفاً }. 7ــــ ومنها: أن اليهودية والنصرانية نوع من الشرك؛ لأن قوله تعالى: { وما كان من المشركين } في مقابل دعوتهم إلى اليهودية والنصرانية يدل على أنهما نوع من الشرك؛ كل من كفر بالله ففيه نوع من الشرك؛ لكن إن اتخذ إلهاً فهو شرك حقيقة، وواقعاً؛ وإلا فإنه شرك باعتبار اتباع الهوى. القـــــــــــرآن {)قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:136) التفسير: { 136 } قوله تعالى: { قولوا آمنا بالله }: الخطاب للرسول (ص)، وأمته جميعاً؛ والمراد بالقول هنا القول باللسان، وبالقلب؛ فالقول باللسان: نطقه؛ والقول بالقلب: اعتقاده؛ و «الإيمان» ــــ كما سبق ــــ هو التصديق المستلزم للقبول، والإذعان؛ والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده؛ والإيمان بانفراده بالربوبية؛ والألوهية؛ والأسماء، والصفات. قوله تعالى: { وما أنزل إلينا } يعني وآمنا بما أنزل إلينا؛ فـ{ ما } اسم موصول مبني على السكون في محل جر عطفاً على لفظ الجلالة: { الله }؛ وقوله تعالى: { وما أنزل إلينا } يشمل القرآن ــــ وهو منزل ــــ؛ ويشمل السنة أيضاً؛ لقوله تعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} [النساء: 113] : فإن {الحكمة} [البقرة: 269] هي السنة. قوله تعالى: { وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط }؛ { إبراهيم } منزل إليه؛ لأنه نبي رسول؛ والذي أنزل إليه هي الصحف التي ذكرها الله تعالى في موضعين من القرآن: {صحف إبراهيم وموسى} [الأعلى: 19] ، {أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى} [النجم: 36، 37] ؛ و{ إسماعيل } نبي منزل إليه قطعاً؛ ولم نعلم ما الذي أنزل إليه بالتحديد؛ و{ إسحاق ويعقوب } أيضاً منزل إليهما؛ لكن لم يذكر لنا ما الذي أنزل إليهما؛ و{ الأسباط } جمع سِبْط؛ قيل: إنهم أولاد يعقوب، ومنهم يوسف؛ وقيل: هم الأنبياء الذين بعثوا في أسباط بني إسرائيل الذين لم يذكروا بأسمائهم. قوله تعالى: { وما أوتي موسى وعيسى } يعني: وما أعطوا من الآيات الشرعية، والكونية؛ الشرعية كالتوراة لموسى، والإنجيل لعيسى؛ والكونية كاليد والعصا لموسى؛ وكإخراج الموتى من قبورهم بإذن الله، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله لعيسى؛ ونص على موسى، وعيسى؛ لأنهما أفضل أنبياء بني إسرائيل. هنا قد يسأل سائل: لِمَ عبر الله تعالى بقوله: { وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل }، وفي موسى وعيسى قال تعالى: { وما أوتي موسى وعيسى }؛ فهل هناك حكمة في اختلاف التعبير؟ فالجواب: أن نقول بحسب ما يظهر لنا ــــ والعلم عند الله: إن هناك حكمة لفظية، وحكمة معنوية. الحكمة اللفظية: لئلا تتكرر المعاني بلفظ واحد؛ لو قال: «ما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وما أنزل إلى موسى... وما أنزل إلى النبيين» تكررت أربع مرات؛ ومعلوم أن من أساليب البلاغة الاختصار في تكرار الألفاظ بقدر الإمكان. أما الحكمة المعنوية: فلأن موسى وعيسى دينهما باقٍ إلى زمن الوحي، وكان أتباعهما يفتخرون بما أوتوا من الآيات؛ فالنصارى يقولون: عيسى بن مريم يُحيي الموتى، ويفعل كذا، ويفعل كذا؛ وهؤلاء يقولون: إن موسى فلق الله له البحر، وأنجاه، وأغرق عدوه، وما أشبه ذلك؛ فبين الله سبحانه وتعالى في هذا أن هذه الأمة تؤمن بما أوتوا من وحي وآيات. قوله تعالى: { وما أوتي النبيون من ربهم } من باب عطف العام على الخاص؛ والمراد بما أوتوه: ما أظهره الله على أيديهم من الآيات الكونية، وما أوحاه إليهم من الآيات الشرعية؛ و{ من ربهم }: { من } للابتداء؛ لأن هذا الإيتاء من الله؛ وإضافة الربوبية إليهم على وجه الخصوص؛ وإلا فالله سبحانه وتعالى رب كل شيء؛ لكن هذه ربوبية خاصة. قوله تعالى: { لا نفرق بين أحد منهم } هذه الجملة داخلة في مقول القول؛ يعني: قولوا آمنا على هذا الوجه؛ { لا نفرق بين أحد منهم } أي في الإيمان؛ وليس في الاتّباع؛ والضمير في { منهم } يعود على الأنبياء. قوله تعالى: { ونحن له مسلمون }؛ { له} الضمير يعود على الله سبحانه وتعالى - يعني: ونحن لله ؛ وقدمه على عامله لإفادة الحصر، ومناسبة رؤوس الآي؛ و «الإسلام» هنا هو الاستسلام لله ظاهراً، وباطناً. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: وجوب الإيمان بالله، وما أنزل إلينا... إلى آخر ما ذكر في هذه الآية؛ لقوله تعالى: { قولوا آمنا بالله... } الآية. 2ــــ ومنها: أن الذين يؤمنون بوجود الله لكن يشركون معه غيره في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته لم يكونوا مؤمنين. 3ــــ ومنها: أن الذين يؤمنون بالله، وبربوبيته، وأنه الرب الفعال الخلاق الذي لا يشاركه أحد في هذا، لكنهم يعبدون معه غيره ليسوا بمؤمنين. 4ــــ ومنها: أن الذين يؤمنون بوجود الله، وربوبيته، وألوهيته لكن في الأسماء والصفات لا يؤمنون ــــ إما أن ينكروا الأسماء، والصفات؛ وإما أن ينكروا الأسماء دون الصفات؛ وإما أن ينكروا بعض الصفات ــــ هؤلاء لم يؤمنوا بالله حق الإيمان، وإيمانهم ناقص. 5ــــ ومنها: أن الكتب التي أوتيها الرسل قد نزلت من عند الله؛ لقوله تعالى: { وما أنزل إلينا }، ولقوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} [الحديد: 25] . 6ــــ ومنها: الإشارة إلى البداءة بالأهم ــــ وإن كان متأخراً؛ لقوله تعالى: { وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم } مع أن ما أنزل إلينا متأخر عما سبق. 7ــــ ومنها: الإيمان بما أوتي النبيون من الآيات الكونية، والآيات الشرعية. 8ــــ ومنها: أنه يجب الإيمان بجميع الأنبياء والرسل، على حد سواء في أصل الإيمان؛ وأما الشرائع فلكلٍّ منهم جعل الله شرعة ومنهاجاً، كما قال تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} [المائدة: 48]؛ فنحن مأمورون باتّباع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم التي نسخت جميع الأديان؛ أما في الإيمان بأنهم رسل من عند الله، وأنهم صادقون بما جاءوا به فإنا لا نفرق بين أحد منهم؛ لقوله تعالى: { لا نفرق بين أحد منهم }، وقوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} [البقرة: 285] . 9ــــ ومن فوائد الآية: وجوب الإخلاص لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { ونحن له مسلمون }. 10ــــ ومنها: أن الرسل ليسوا مستقلين بهذه الآيات؛ فلا يملكون أن يأتوا بهذه الآيات، أو بهذا الوحي؛ فهم يتلقون من الله؛ حتى الرسول صلى الله عليه وسلم إذا طُلب منه الآيات لا يستطيع أن يأتي بها؛ ولهذا لما اقترح المكذبون عدة آيات قال تعالى: {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولًا } [الإسراء: 93] ، وقال تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين} [العنكبوت: 50] ، أي فلا أملك أن آتي بالآيات. 11ــــ ومنها: أنه ينبغي للمؤمن أن يشعر أنه هو وإخوانه كنفس واحدة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً»(1) وشبّك بين أصابعه؛ لقوله تعالى: { ونحن له مسلمون }: فأتى بضمير الجمع: { قولوا آمنا بالله... ونحن... }. 12ــــ ومنها: أن الإسلام لا بد أن يكون بالقلب، واللسان، والجوارح؛ لإطلاقه في قوله تعالى: { مسلمون }؛ فيستسلم قلب المرء لله ــــ تبارك وتعالى ــــ محبة، وتعظيماً، وإجلالاً؛ ويستسلم لسانه لما أمره الله سبحانه وتعالى أن يقول؛ وتستسلم جوارحه لما أمره الله تعالى أن يفعل. القـــــــــــرآن {)فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:137) التفسير: { 137 } قوله تعالى: { فإن آمنوا } أي اليهود، والنصارى؛ لأن هذه الآيات كلها متتابعة: { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى... قولوا آمنا بالله... فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به... }. قوله تعالى: { بمثل ما آمنتم به }: اختلف المعربون في الباء، وفي «مثل» أيهما الزائد؟ فقيل: إن «مثل» هي الزائدة، وأن التقدير: فإن آمنوا بما آمنتم به فقد اهتدوا؛ وأن «مثل» زائدة إعراباً لا معنًى؛ وأن المعنى: أنهم إن آمنوا بما آمنتم به إيماناً مماثلاً لإيمانكم؛ فعلى هذا تكون الزيادة في كلمة «مثل» ؛ وقيل: إن الزائد هو الباء - حرف الجر-؛ وأن التقدير: فإن آمنوا مثل ما آمنتم - أي مثل إيمانكم -؛ والباء الثانية أيضاً زائدة؛ فصار قولان: الأول: أن الزائد «مثل» ؛ والثاني أن الزائد الباء؛ والجميع اتفقوا على أن المراد الزيادة الإعرابية؛ وليست الزيادة المعنوية؛ لأنه ليس في القرآن ما هو زائد معنى - أي لا فائدة فيه -؛ والمعروف أن الأسماء لا تزاد؛ وأما الزيادة في الحروف فكثيرة؛ لأن الاسم كلمة جاءت لمعنى في نفسها؛ والحرف كلمة جاءت لمعنى في غيرها؛ ومعلوم أننا لو وزنا بالميزان المستقيم لكان ما يجيء لمعنى في غيره أولى بالزيادة مما يجيء لمعنى في نفسه؛ ولهذا أنكر بعض النحويين زيادة الأسماء، وقالوا: لا يمكن أن تزاد الأسماء؛ لأنها جاءت لمعنى في ذاتها؛ بخلاف الحرف؛ فعلى هذا تكون الزيادة في الباء - أي فإن آمنوا مثل ما آمنتم -؛ أي مثل إيمانكم؛ وعلى كلا الاحتمالين من حيث الإعراب فالمعنى واحد - أي إن آمنوا إيماناً مطابقاً لإيمانكم مماثلاً له من كل الوجوه فقد اهتدوا -. قوله تعالى: { فقد اهتدوا } أي سلكوا سبيل الهداية؛ و «الهداية» هنا هداية العلم، والتوفيق؛ لأنهم آمنوا عن علم فوفِّقوا، واهتدوا؛ والهداية هنا مطلقة كما أن المسلمين الذين آمنوا على الوصف المذكور مهتدون هداية مطلقة. قوله تعالى: { وإن تولوا }: «التولي» الإعراض؛ أي عن الإيمان بمثل ما آمنتم به. قوله تعالى: { فإنما هم في شقاق } جملة اسمية للدلالة على الاستمرار، والثبوت؛ وأتت بـ «إنما» الدالة على الحصر؛ أي فما حالهم إلا الشقاق؛ و{ في } للظرفية ــــ كأن الشقاق محيط بهم من كل جانب منغمسون فيه ــــ؛ و «الشقاق» بمعنى الخلاف؛ وهو في كل معانيه يدور على هذا ــــ حتى في قوله تعالى: { وإن الظالمين لفي شقاق بعيد }: فبعضهم قال: «الشقاق» هنا بمعنى الضلال؛ ولكن الصحيح أن معناه: الخلاف؛ فكلما جاءت في القرآن فمآلها إلى الخلاف؛ ولكنها أشد، حيث تفيد الاختلاف مع طلب المشقة على الخصم؛ ويدل لهذا أن أصل معنى «الشقاق» أن يكون أحد الطرفين في شق، والثاني في شق آخر؛ وبهذا يكون الخلاف. وكأن الإنسان إذا سمع { فإنما هم في شقاق } قد يهاب، ويخاف؛ فطمأن الله تعالى المؤمنين بقوله: { فسيكفيكهم الله }؛ هذه الجملة فيها فعل، وفاعل، ومفعولان؛ الفاعل: لفظ الجلالة؛ والفعل: { يكفي }؛ والمفعول الأول: الكاف؛ والمفعول الثاني: الهاء؛ والسين هنا يقول العلماء: إنها للتنفيس، وتفيد شيئين هما تحقق الوقوع، وقرب الوقوع؛ بخلاف «سوف» فإنها تفيد التحقق؛ ولكن مع مهلة. قوله تعالى: { وهو السميع العليم }؛ { السميع } من أسماء الله؛ و{ العليم } أيضاً من أسمائه - تبارك وتعالى -؛ وسبق تفسيرهما. قد يقول قائل: يبدو لنا أن المناسب أن يقول: «وهو القوي العزيز» لأنه قال: { فسيكفيكهم الله } فما هو الجواب عن ختمها بالسمع، والعلم؟ فالظاهر لي - والله أعلم - أنه لما كان تدبير الكيد للرسول (ص) من هؤلاء قد يكون بالأقوال، وقد يكون بالأفعال؛ والتدبير أمر خفي ليس هو حرباً يعلن حتى نقول: ينبغي أن يقابل بقوة، وعزة؛ قال تعالى: { وهو السميع العليم } أي حتى الأمور التي لا يُدرى عنها، ولا يبرزونها، ولا يظهرون الحرابة للرسول (ص) فإن الله سميع عليم بها؛ هذا ما ظهر لي - والله أعلم -. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: أنه لا بد أن يكون إيمان اليهود، والنصارى مثل إيمان النبي صلى الله عليه وسلم، وأمته حقيقة، ووصفاً. 2ــــ ومنها: أن ما خالف ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم فهو ضلال؛ لأن الله سبحانه وتعالى علق الاهتداء بأن يؤمنوا بمثل ما آمن به الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته. 3ــــ ومنها: أنه لا حجة لمن تولى عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا الشقاق، والمجادلة بالباطل؛ لقوله تعالى: { فإن تولوا فإنما هم في شقاق }. 4ــــ ومنها: وقوع الشقاق بين أهل الكتاب، والمسلمين؛ وعليه فلا يمكن أن يتفق المسلمون وأهل الكتاب؛ فتبطل دعوة أهل الضلال الذين يدْعون إلى توحيد الأديان؛ لقوله تعالى: { فإنما هم في شقاق}؛ فاليهود، والنصارى لما لم يؤمنوا صاروا معنا في شقاق؛ وهذا الشقاق لا بد أن يؤدي إلى عداوة، وبغضاء؛ وبالتالي إلى قتال؛ وهكذا وقع: فالمسلمون قاتلوا اليهود، وقاتلوا النصارى - الروم كلهم نصارى -؛ ومن بعد ذلك قاتلوا النصارى في الحروب الصليبية؛ وسيقاتلونهم أيضاً مرة أخرى حتى يدخل الإسلام عاصمتهم الروم؛ ولا بد من هذا في المستقبل بإذن الله؛ وسنقاتل اليهود حتى يختبئ اليهودي بالحجر، والشجر فينادي: «يا عبد الله، هذا يهودي ورائي فاقتله إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود»(1) فلا يبَلِّغ عنهم. 5ــــ ومن فوائد الآية: الوعيد الشديد لهؤلاء المتولين عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله: { فسيكفيكهم الله }. 6ــــ ومنها: تكفل الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنهم إذا لم يؤمنوا بمثل ما آمن المؤمنون، وتولوا، فإن الله سبحانه وتعالى سيكفيه إياهم عن قرب؛ لقوله تعالى: { فسيكفيكهم الله }؛ والحمد لله أنه صار ذلك عن قرب: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُتوفَّ حتى أجلى اليهود عن المدينة، وفتح حصونهم في خيبر، وأبقاهم فيها عمالاً؛ وفي خلافة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أجلاهم من خيبر؛ فكفى الله المؤمنين شرهم ــــ والحمد لله ــــ. 7ــــ ومن فوائد الآية: الإشارة إلى التوكل على الله ــــ تبارك وتعالى ــــ في الدعوة إليه، وفي سائر الأمور؛ لأنه إذا كان وحده سبحانه وتعالى هو الكافي فيجب أن يكون التوكل والاعتماد عليه وحده؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق: 3] . 8ــــ ومنها: إثبات الاسمين الكريمين { السميع }، و{ العليم }، وما يتضمناه من الصفات والمعاني العظيمة. 9ــــ ومنها: أنه يجب على المرء مراقبة الله سبحانه وتعالى في جميع أقواله؛ لأن الله سبحانه وتعالى سامع لها لا يخفى عليه الصوت مهما خفي؛ بل هو يعلم عزّ وجلّ ما توسوس به نفس الإنسان - وإن لم يتكلم به 10ــــ ومنها: مراقبة الله سبحانه وتعالى في السر، والعلن؛ وذلك؛ لأن مقتضى اسمه الكريم: { العليم } أنه يعلم كل شيء. القـــــــــــــــــرآن {)صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (البقرة:138) التفسير: { 138 } قوله تعالى: { صبغة الله }؛ «الصبغة» معناها اللون؛ وقالوا: المراد بـ{ صبغة الله } دين الله؛ وسمي «الدين» صبغة لظهور أثره على العامل به؛ فإن المتدين يظهر أثر الدين عليه: يظهر على صفحات وجهه، ويظهر على مسلكه، ويظهر على خشوعه، وعلى سمته، وعلى هيئته كلها؛ فهو بمنزلة الصبغ للثوب يظهر أثره عليه؛ وقيل: سمي صبغة للزومه كلزوم الصبغ للثوب؛ ولا يمنع أن نقول: إنه سمي بذلك للوجهين جميعاً: فهو صبغة للزومه؛ وهو صبغة أيضاً لظهور أثره على العامل به. ووجه نصب { صبغة الله }: قيل: إنها مصدر معنوي؛ لقوله تعالى: { آمنا } في قوله تعالى: { قولوا آمنا بالله }؛ فإن { آمنا } معناها الدين، وأن التقدير: تدينا دين الله؛ ولا ريب أن هذا بعيد؛ لأن { آمنا } في آية أخرى قبلها؛ ويبعد أن يكون هذا متعلقاً بها؛ ولأنه فُصِل بينهما بفواصل كثيرة؛ إذاً هو منصوب على الإغراء - يعني: الزموا صبغة الله، ولا يصدنكم هؤلاء عن دينكم -؛ وأضيفت «الصبغة» إلى الله؛ لأنها منه: فإن الشريعة جاءت من الله؛ ولا أحد يشرع للخلق إلا خالقهم. قوله تعالى: { ومن أحسن من الله صبغة }: الاستفهام هنا بمعنى النفي؛ أي لا أحد أحسن من الله صبغة؛ وذلك؛ لأن دين الله عزّ وجلّ مشتمل على المصالح، ودرء المفاسد؛ ولا يوجد دين يشتمل على هذا إلا ما جاء من عند الله، سواء كان الدين الإسلامي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، أو الأديان الأخرى ما دامت قائمة لم تنسخ؛ ومجيء الاستفهام بمعنى النفي أبلغ من النفي المجرد؛ لأنه يتضمن التحدي؛ فإن القائل إذا قال: «ليس مثل زيد بشر» ليس كقوله: «مَنْ مثل زيد مِن البشر؟!»؛ الثاني أبلغ: كأنه يتحدى المخاطَب أن يأتي بأحد مثله. قوله تعالى: { ونحن له عابدون }: الضمير { نحن } يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه؛ وتقديم المعمول في قوله تعالى: { له عابدون } على عامله هنا له فائدتان؛ أولهما: لفظية؛ وهي مراعاة فواصل الآيات؛ والثانية: معنوية؛ وهي الحصر، والاختصاص؛ فهو كقوله تعالى: {إياك نعبد} [الفاتحة: 5] ؛ و «العبادة» التذلل لله عزّ وجلّ بفعل أوامره محبة له، واجتناب نواهيه تعظيماً له مع شعور الإنسان بمنزلته، وأن منزلته أن يكون عبداً لله عزّ وجلّ. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: وجوب الالتزام بدين الله؛ لأن المعنى: الزموا صبغة الله عزّ وجلّ. 2ــــ ومنها: أن هذا الدين حق؛ لأن الله سبحانه وتعالى أضافه إلى نفسه؛ وكل ما يضاف إلى الله عزّ وجلّ فإنه حق. 3ــــ ومنها: أن دين الله سبحانه وتعالى أحسن الأديان، وأكملها، وأشملها، وأقومها بمصالح العباد؛ لقوله تعالى: { ومن أحسن من الله صبغة }. 4ــــ ومنها: وجوب إخلاص العبادة لله؛ لقوله تعالى: { ونحن له عابدون }؛ فقدم المعمول لإفادة الحصر؛ وعبادة الله فخر، وشرف للعبد؛ ولهذا جاء وصف العبودية في المقامات العليا لرسول الله (ص)، فجاءت في مقام الدفاع عنه في قوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} [البقرة: 23] ؛ وفي مقام تكريمه بالإسراء في قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1] ، وفي مقام رسالته، مثل قوله تعالى: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً} [الكهف: 1] ؛ ويقول الشاعر في معشوقته: لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي 5 ــــ ومن فوائد الآية: أن العقل يقضي بالتزام الدين؛ لقوله تعالى: { ومن أحسن من الله صبغة }؛ فإن العقل يهدي إلى التزام الأحسن؛ كل إنسان له عقل سليم فإن عقله يأمره بالتزام الأحسن. القــــــــــــــرآن {)قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) (البقرة:139) التفسير: { 139 } قوله تعالى: { قل أتحاجُّوننا في الله }: الخطاب في قوله تعالى: { قل } موجه إلى رسول الله (ص)؛ و{ أتحاجوننا في الله } موجه للذين يحاجون الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود، والنصارى؛ و «المحاجة» هي أن يدلي كل خصم بحجته لينقض حجة الخصم الآخر. قوله تعالى: { ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم } أي أننا لا نسأل عنكم، ولا تُسألون عنا؛ كل له عمله؛ وسيجازيه الله به يوم القيامة. قوله تعالى: { ونحن له مخلصون } أي لله عزّ وجلّ مخلصون؛ و «الإخلاص» تنقية الشيء من كل الشوائب التي قد تَعْلَق به؛ فالمعنى: أننا مخلصون لله الدينَ لا نشرك به شيئاً. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: الإنكار على اليهود والنصارى الذين يحاجون المسلمين في الله مع إقرارهم بأنه ربهم؛ لقوله تعالى: { قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم }. 2ــــ ومنها: وجوب البراءة من أعمال الكفار؛ لقوله تعالى: { ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم }؛ فإن المراد بذلك البراءة مما هم عليه. 3ــــ ومنها: أنه ينبغي للمرء أن يفتخر بما هو عليه من الحق؛ لقوله تعالى: { ولنا أعمالنا } أي فنحن مفتخرون بها بريئون من أعمالكم. 4ــــ ومنها: أنه لا يجوز التشبه بأعداء الله؛ لأن المشابهة موافقة في العمل؛ لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم»(1)؛ وهنا قال تعالى: { ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم }: فنحن متميزون عنكم، وأنتم متميزون عنا. 5ــــ ومنها: وجوب الإخلاص لله؛ لتقديم المعمول في قوله تعالى: { ونحن له مخلصون }. القـــــــــــــرآن {)أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:140) )تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (البقرة:141) التفسير: { 140 } قوله تعالى: { أم تقولون إن إبراهيم... }؛ { أم } هنا للإضراب؛ والمعنى: بل أتقولون؛ وهو إضراب انتقال؛ وليس إضراب إبطال؛ والمعنى أنه انتقل من توبيخ هؤلاء الذين يحاجون في الله إلى توبيخ آخر؛ وهو دعواهم أن هؤلاء الرسل الكرام كانوا هوداً، أو نصارى؛ وهذه دعوى كاذبة؛ فليس هؤلاء هوداً، ولا نصارى؛ بل إن الله سبحانه وتعالى قال موبخاً لهؤلاء مبيناً ضلالهم ــــ الذين ادعوا أن إبراهيم كان يهودياً، أو نصرانياً {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين} [آل عمران: 67] ، وقال تعالى: {وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون} [آل عمران: 65] ؛ فكيف يكون يهودياً أو نصرانياً وكتاب اليهود والنصارى لم ينزل إلا من بعد إبراهيم؟!!! قوله تعالى: { وإسماعيل }: هو أكبر أولاد إبراهيم؛ وهو الذي أمر الله أباه أن يذبحه؛ والقصة مبسوطة في سورة الصافات. قوله تعالى: { وإسحاق }: هو أخو إسماعيل؛ وهو الولد الثاني لإبراهيم (ص)؛ { ويعقوب }: هو ابن إسحاق؛ وهو الذي ينتمي إليه بنو إسرائيل؛ { والأسباط } سبق الكلام على بيانهم(2). قوله تعالى: { كانوا هوداً أو نصارى } يعني كانوا على ملة اليهودية، والنصرانية؛ وهذا من سفه هؤلاء اليهود الذين يدعون ذلك؛ لأن أصل اليهودية، والنصرانية حدثت بعد هؤلاء؛ فكيف يكون هؤلاء هوداً، أو نصارى؟!!! ثم أبطل الله تعالى دعواهم بطريق آخر فقال: { قل أأنتم أعلم أم الله }؛ ومن المعلوم أنه لا أحد أعلم من الله عزّ وجلّ؛ ولكن الله سبحانه وتعالى قال ذلك إلزاماً للخصم حتى يتبين بطلان ما ادعاه؛ وهو كقوله تعالى: { آلله خير أم ما يشركون }؛ ومن المعلوم أن الله خير مما يشركون؛ لكن من أجل إفحام الخصم، وإلزامه بما هو ظاهر لا إشكال فيه. قوله تعالى: { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } يعني لا أحد أظلم في كتمان الشهادة ممن كتم شهادة عنده من الله؛ وهؤلاء اليهود والنصارى كتموا الشهادة عندهم من الله؛ لأن الله - تبارك وتعالى - أخبر عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر أوصافه في التوراة، والإنجيل، كما قال الله - تبارك وتعالى - في سورة الأعراف: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف: 157] ؛ فهذه أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل معلومة لبني إسرائيل؛ ولكنهم يكتمون هذه الشهادة؛ ولا أحد أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله تعالى في كتمان الشهادة؛ وإن كان المشرك أظلم الظالمين؛ لكن اسم التفضيل يختص بالشيء المعين الذي يشترك فيه المفضل، والمفضل عليه. قوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون } يعني أن الله عزّ وجلّ لا يغفل عما يعمل هؤلاء؛ بل هو جل وعلا عالم به، وسوف يحاسبهم عليه. { 141 } قوله تعالى: { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت... } الآية: قد سبق الكلام على نظيرها، وفوائدها. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: إبطال دعوى هؤلاء اليهود، والنصارى أن إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، كانوا هوداً أو نصارى؛ فهذه الدعوى باطلة؛ بل وصفُ هؤلاء الإسلام؛ فإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط ليسوا هوداً، ولا نصارى؛ بل هم مسلمون لله سبحانه وتعالى. 2ــــ ومنها: رد علم هذه الأشياء إلى الله؛ لقوله تعالى: { أأنتم أعلم أم الله }. 3ــــ ومنها: الرد على أهل التحريف في أسماء الله، وصفاته الذين يقولون: «إن هذا جائز عقلاً على الله؛ فنقر به؛ وهذا يمتنع عقلاً على الله؛ فلا نقر به» كالمعتزلة، والأشاعرة، ونحوهم؛ نقول لهم كلهم في الجواب: { أأنتم أعلم أم الله }: أأنتم أعلم بما يجوز على الله، ويمتنع عليه، ويجب له، أم الله أعلم بما يمتنع عليه، ويجب له، ويجوز له؟!!! وهذه في الحقيقة حجة ملزمة مفحمة مقحمة لهؤلاء الذين يتحكمون في صفات الله تعالى بعقولهم، فيقولون: «يجب لله كذا؛ يمتنع عليه كذا»؛ نقول: { أأنتم أعلم أم الله }. 4ــــ ومن فوائد الآية: عظم كتم العلم؛ لقوله تعالى: { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله }؛ فإن العالم بشريعة الله عنده شهادة من الله بهذه الشريعة، كما قال الله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم} [آل عمران: 18] ؛ فكل إنسان يكتم علماً فقد كتم شهادة عنده من الله؛ ثم إن في هذا عظم إثمه؛ لقوله تعالى: { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله }. 5ــــ ومنها: كمال علم الله، ومراقبته لعباده؛ لقوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون }. 6ــــ ومنها: ثبوت الصفات المنفية؛ وهي ما نفاه الله سبحانه وتعالى عن نفسه؛ لقوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون }؛ فإن هذه صفة منفية، وليست ثبوتية؛ والصفات المنفية متضمنة لإثبات كمال ضدها؛ فلكمال مراقبته، وعلمه سبحانه وتعالى ليس بغافل عما نعمل. 7ــــ ومنها: تخويف الإنسان، وإنذاره من المخالفة؛ لقوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون}؛ فإياك والمخالفة؛ مثلما تهدد إنساناً بشيء تقول: لست بغافل عنك. 8ــــ ومنها: إضافة العمل إلى العامل؛ ففيه رد على الجبرية الذين يقولون: «إن الإنسان مجبر على عمله»؛ لقوله تعالى: { عما تعملون }. القــــــــرآن { )سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة:142) التفسير: { 142 } قوله تعالى: { سيقول السفهاء من الناس }؛ { سيقول }: السين للتنفيس؛ وإذا دخلت على المضارع أخلصته للمستقبل؛ المضارع إذا دخلت عليه «لم» أخلصته للماضي؛ وإذا دخلت عليه السين أخلصته للمستقبل؛ وإذا كان مجرداً فهو صالح للحاضر، والمستقبل؛ و{ سيقول } تفيد أيضاً مع الاستقبال تحقيق وقوع هذا الشيء، وتفيد أيضاً قرب هذا الشيء؛ بخلاف «سوف» فإنها تدل على المستقبل البعيد؛ و{ السفهاء } جمع سفيه؛ وهو الذي لا يحسن التصرف لنفسه؛ وكل من خالف الحكمة في تصرفه فهو سفيه؛ فهؤلاء السفهاء سفهاء في دينهم؛ وقد يكونون في المال جيدين؛ وسفه الدين بينه الله سبحانه وتعالى بقوله تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} [البقرة: 130] . وقوله تعالى: { من الناس } بيان للسفهاء؛ وهي في موضع نصب على الحال - يعني حال كونهم من الناس قوله تعالى: { ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } في موضع نصب على أنها مقول القول؛ و{ ما } اسم استفهام؛ يعني: أيّ شيء صرفهم { عن قبلتهم } أي ما يستقبلون؛ فقبلة الإنسان ما يستقبله؛ والمراد بها بيت المقدس؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة صار متجهاً إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً؛ أو سبعة عشر شهراً(1) - يعني إما سنة وأربعة أشهر؛ أو سنة وخمسة أشهر؛ إذا كان مستقبلاً لبيت المقدس تكون الكعبة خلفه تماماً؛ لهذا يقول ابن عمر: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشأم»(2). قوله تعالى: { التي كانوا عليها } أي قبل أن يتجهوا إلى الكعبة؛ فأخبر الله عزّ وجلّ بما سيقول هؤلاء السفهاء، وأعلمه بالرد عليهم. قوله تعالى: { قل لله المشرق والمغرب }؛ { لله }: خبر مقدم؛ و{ المشرق } مبتدأ مؤخر؛ وتقديم الخبر وهو حقه التأخير ــــ يفيد الحصر؛ يعني: لله وحده المشرق، والمغرب؛ فهو الذي يوجه إن شاء إلى المشرق؛ وإن شاء إلى المغرب؛ وإن شاء إلى الشمال؛ وإن شاء إلى الجنوب؛ وخص المشرق، والمغرب؛ لأن منهما تطلع الشمس، وتغرب؛ و{ المشرق }: مكان شروق الشمس، والقمر، والنجوم؛ و{ المغرب } محل غروبها. قوله تعالى: { يهدي من يشاء } أي يدِلّ، ويوفق؛ و{ من يشاء } مفعول { يهدي }؛ وهي عامة؛ ولكن كل شيء قيد بمشيئة الله فهو مقرون بالحكمة: يهدي من يشاء ممن هو أهل للهداية؛ و «المشيئة» هي الإرادة الكونية: فما شاء الله كان؛ وما لم يشأ لم يكن. قوله تعالى: { إلى صراط مستقيم }؛ «الصراط» الطريق الواسع الذي يسهل سلوكه؛ والمراد به هنا شريعة الله التي شرعها لعباده، و «المستقيم» الذي لا اعوجاج فيه. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: علم الله تعالى بما سيكون؛ لقوله تعالى: { سيقول السفهاء }. 2ــــ ومنها: تحقق وقوع خبر الله عزّ وجلّ؛ لأنهم قالوا ذلك. 3ــــ ومنها: من اعترض على حكم الله فهو سفيه. 4ــــ ومنها: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، حيث أخبر الله تعالى أنه لا يعترض عليه في ذلك إلا سفيه. 5ــــ ومنها: إعلام المرء بما يتوقع أن يكون ليستعد له؛ ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قوماً أهل كتاب» ؛ ليكون مستعداً(3). 6ــــ ومنها: جواز تعليل الأحكام الشرعية بمقتضى الربوبية لإسكات الناس حتى لا يحصل منازعة؛ إذا قال أحد: لماذا كذا؟ قلت: الله ربك يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد؛ «لماذا أحل كذا، وحرم كذا؟» تقول: لأنه ربك؛ «لماذا توجه الناس من المشرق إلى المغرب؛ من المغرب إلى المشرق؛ من بيت المقدس إلى الكعبة؟» قلت: لأن ذلك بمقتضى ربوبية الله: { لله المشرق والمغرب }. 7ــــ من فوائد الآية: أن العدو يحتج على عدوه بما يثير نعرته، ويلزمه؛ لقوله تعالى: { عن قبلتهم }؛ لم يقولوا: عن القبلة؛ كأنهم يقولون: كنتم تتولون ذلك فما الذي صرفكم عنه؟!! وهكذا قد يثير شعور الإنسان حتى يبقى على ما هو عليه، وكأنهم قالوا: بالأمس تختارونها، واليوم تنكرونها، وتنبذونها؛ فالخصم دائماً يُهيج خصمه بما يثير نعرته؛ ليوافقه فيما ذهب إليه. 8ــــ من فوائد الآية: عموم ملك الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { لله المشرق والمغرب }؛ فهو المالك سبحانه وتعالى للجهات يُصرِّف إليها العباد كيف يشاء؛ ونحن ليس علينا إلا السمع، والطاعة؛ أينما وجهنا توجهنا؛ هذا المهم؛ لا أن تتجه إلى كذا، أو إلى كذا؛ فالسجود لغير الله شرك؛ وكان بالنسبة للملائكة حين أمرهم الله بالسجود لآدم طاعة، وعبادة؛ وقتل النفس بغير حق ــــ ولا سيما قتل الولد ــــ من أكبر الكبائر؛ وحين أمر الله تعالى إبراهيم أن يذبح ابنه كان قربة، وعبادة؛ فالاعتبار بطاعة الله سبحانه وتعالى. 9ــــ من فوائد الآية: إثبات مشيئة الله؛ لقوله تعالى: { يهدي من يشاء }. فإن قال قائل: هل في ذلك حجة للجبرية في قولهم: إن العبد مجبر على عمله؟ فالجواب: أنه لا حجة لهم في ذلك؛ لأن الاحتجاج ببعض القرآن دون بعض كفر به؛ فالقرآن من متكلم واحد؛ فمطلقه في موضع يقيد في موضع آخر؛ بل إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تقيد القرآن، وتبينه، وتخصصه؛ فإذاً لا دليل في هذه الآية للجبرية إلا من نظر بعين أعور؛ لأن الأعور ينظر من جانب العين الصحيحة؛ لكن من جانب العين العوراء لا يرى؛ والواجب أن ينظر الإنسان إلى النصوص بعينين ثاقبتين؛ وليس بعين واحدة؛ وقد دلت النصوص من الكتاب، والسنة على أن الإنسان له إرادة، واختيار، وقدرة، وأضافت أعماله إليه؛ وحينئذ لا يمكن أن يكون مجبراً. 10ــــ من فوائد الآية: أن الهداية بيد الله؛ لقوله تعالى: { يهدي من يشاء }، ومنها: أنْ هدَى هذه الأمة إلى القبلة التي يرضاها الرسول صلى الله عليه وسلم. 11ــــ ومنها: الثناء على هذه الأمة؛ لأنها التي على صراط مستقيم؛ لأن أول من يدخل في قوله تعالى: { يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } هؤلاء الذين تولوا عن بيت المقدس إلى الكعبة. 12ــــ ومنها: أن معارضة الشرع كما أنه سفه، فهو أيضاً ضلال؛ لأن الشرع هو الصراط المستقيم ــــ وهو الهداية؛ وما سواه ضلال، واعوجاج. 13ــــ ومنها: فضيلة هذه الأمة، حيث هداها الله إلى استقبال بيته الذي هو أول بيت وضع الناس. القـــــــــــــرآن {)وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (البقرة:143) التفسير: { 143 } قوله تعالى: { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً }؛ الكاف هنا اسم بمعنى «مثل» في محل نصب على المفعولية المطلقة ــــ أي: مثلَ ذلك؛ والمشار إليه ما سبق؛ وهو جعل القبلة إلى الكعبة؛ أي: مثلَ هذا الجعل الذي جعلنا لكم ــــ وهو اتجاهكم إلى القبلة ــــ جعلناكم أمة وسطاً. وقوله تعالى: { جعلناكم } أي صيرناكم؛ والكاف مفعوله الأول؛ و{ أمة } مفعوله الثاني؛ و{ أمة } هنا بمعنى جماعة؛ وتطلق في القرآن على أربعة معانٍ، وسبق بيانها(1)؛ و{ وسطاً } أي عدلاً خياراً. قوله تعالى: { لتكونوا شهداء على الناس }؛ اللام في قوله: { لتكونوا } للتعليل؛ وليست للعاقبة؛ والفرق بين لام العاقبة، ولام التعليل: أن لام العاقبة تدخل على أمر غير مراد؛ لكن النتيجة آلت إليه؛ ولام التعليل تدخل على أمر مراد ليكون علة للحكم؛ و{ شهداء } جمع شهيد؛ أي تشهدون على الناس بأن الرسل قد بلغتهم؛ فمنهم من آمن، ومنهم من كفر. قوله تعالى: { ويكون الرسول عليكم شهيداً }: النبي صلى الله عليه وسلم يشهد على أمته بأنه بلغ البلاغ المبين. قوله تعالى: { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } وهي استقبال بيت المقدس { إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه }: المراد علم ظهور، أو علم يترتب عليه الجزاء؛ لأن علم الله الكائن في الأزل لا يترتب عليه الجزاء حتى يُمتحن العبد، ويُنظر؛ أو علم ظهور ــــ أي علم بأن الشيء حصل، فيعلمه أنه حاصل؛ وأما العلم به قبل وقوعه فهو علم بأنه سيحصل؛ وفرق بين العلم بالشيء أنه سيحصل، والعلم بأنه قد حصل؛ وقد قال بعض أهل المعاني: إن { لنعلم } هنا بمعنى الماضي ــــ أي إلا لعلمنا؛ والمعنى: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لعلمنا من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه؛ وهذا ــــ وإن كان له وجه من حيث اللفظ؛ وهو أن يعبر بالمضارع عن الماضي أحياناً ــــ لكنه ضعيف هنا من حيث المعنى؛ إذ لا حكمة من ذلك؛ لأنه يكون معنى الآية: وما جعلنا هذا إلا لأننا قد علمنا من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه؛ وحينئذ يقال: إذاً ما الفائدة؟! لأنه لا يناسب أن الله ما جعل هذه القبلة إلا لأنه قد علم من يبقى على دينه، ومن لا يبقى؛ فالصواب الوجهان الأولان؛ وأحسنهما أن يكون المراد بالعلم هنا الذي يترتب عليه الجزاء؛ لأنه الواضح وليس فيه تكلف. وذكر بعض المعربين أن «نعلم» هنا ضمن معنى «نميز» بدليل قوله تعالى: { ممن ينقلب }؛ مثل: {ليميز الله الخبيث من الطيب} [الأنفال: 37] ؛ فقالوا: إن مثل هذا التقييد يدل على أن هذا الفعل للتمييز ــــ أي لنميز من يتبع ممن ينقلب على عقبيه؛ وليس هذا ببعيد أن يكون الفعل ضمن معنى «نميز» مع أنه دال على العلم؛ إذ لا تمييز إلا بعد العلم؛ والفعل إذا ضمن معنى فعل آخر فإنه يدل على معناه الأصلي، وعلى معناه المضمن. وقوله تعالى: { وما جعلنا }: { ما } نافية؛ و{ جعلنا } يحتمل أن تكون بمعنى «صيرنا»؛ أو بمعنى «شرعنا»؛ فعلى الاحتمال الأول تحتاج إلى مفعولين؛ وعلى الثاني لا تحتاج إلى مفعولين؛ و«الجعل» يأتي بمعنى الشرع في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} [المائدة: 103] أي ما شرع؛ وعلى هذا المعنى لا يبقى في الآية أيّ إشكال؛ يعني: ما شرعنا القبلة التي كنت عليها ــــ وهي اتجاهك إلى بيت المقدس ــــ إلا لنعلم من يتبع الرسول إذا صرفناك عنها ممن ينقلب على عقبيه؛ أما على احتمال أن تكون بمعنى «صيرنا» فإنها تحتاج إلى مفعولين؛ الأول: { القبلة }؛ والتقدير: وما صيرنا القبلة التي كنت عليها قبلةً. وقوله تعالى: { إلا لنعلم من يتبع الرسول }؛ { إلا } أداة حصر؛ وهذا الاستثناء من أعم الأحوال؛ إذا كان الاستثناء مفرغاً يقولون: إنه استثناء من أعم الأحوال ــــ يعني: ما جعلنا بأي حال من الأحوال هذه القبلة إلا لهذه الحال فقط لنعلم من يتبع؛ والمراد بـ{ الرسول } محمد صلى الله عليه وسلم؛ وأظهر وصفه في موضع الإضمار تنويهاً بصدقه، وحثاً على اتباعه؛ إذ مقتضى السياق ــــ لولا ذلك ــــ أن يقال: إلا لنعلم من يتبعه. والأصل في «الاتباع» المشي خلف الإنسان؛ وهو يختلف باختلاف السياق: إن تعلق بأمور حسية فمعناه: أنك تمشي خلفه في الشارع، وما أشبه ذلك؛ وإن تعلق بأمور معنوية يكون المراد به التأسي بأفعاله، وأقواله؛ وهنا علق بأمور معنوية؛ فيكون المراد به التأسي بأقواله وأفعاله. وقوله تعالى: { ممن ينقلب على عقبيه } أشد مما لو قال: ممن لم يتبع الرسول؛ لأن الانقلاب على العقب أشد نفوراً، واستنكاراً ممن وقف. قوله تعالى: { وإن كانت لكبيرة }؛ الضمير يعود على الواقعة؛ يعني: وإن كانت هذه الواقعة ــــ وهي تحويل القبلة ــــ لكبيرة؛ و{ إن } هنا مخففة من الثقيلة؛ واسمها ضمير الشأن؛ والتقدير: وإنها كانت لكبيرة؛ واللام هنا للتوكيد؛ ويجوز أن نقول: إنها للفصل بين «إنْ» النافية، و«إنْ» المخففة؛ و{ كبيرة } أي عظيمة شاقة؛ فالكبَر يراد به الشيء الشاق العظيم؛ ومنه قوله (ص) في صاحبَي القبرين: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير»(1)، أي في أمر شاق عليهما. قوله تعالى: { إلا على الذين هدى الله }؛ { الذين } اسم موصول؛ والعائد ضمير منصوب محذوف؛ والتقدير: إلا على الذين هداهم الله؛ والمراد بالهداية هنا هداية العلم، وهداية التوفيق؛ أما كونها هداية العلم فلأن الذين يخشون الله هم العلماء، كما قال الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28] أي العلماء به، وبأسمائه، وصفاته، وبأحكامه؛ هذه هي هداية العلم؛ لأنهم إذا علموا خشوا الله سبحانه وتعالى، ولم يكرهوا شريعته، ولم يكبر ذلك عليهم، ولم يشق؛ كذلك هداية التوفيق ــــ وهي المهمة: إذا وفق العبد للانقياد لله سبحانه وتعالى سهل عليه دينه، وصار أيسر عليه من كل شيء، كما قال تعالى: {فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى} [الليل: 5 ــــ 7] . قوله تعالى: { هدى الله }: أضاف الفعل إلى نفسه؛ لأن كل شيء بقضاء الله، وقدره. قوله تعالى: { وما كان الله ليضيع إيمانكم }؛ اللام في قوله تعالى: { ليضيع } يسمونها لام الجحود؛ و«الجحود» يعني النفي؛ وهذه اللام لها ضابط؛ وهو أن تقع بعد «كون» منفي؛ فاللام التي تأتي بعد «كون» منفي تسمى لام الجحود؛ هذا من جهة الإعراب؛ أما من جهة المعنى فكلما جاءت «ما كان الله...» في القرآن فهي الأمر الممتنع غاية الامتناع؛ مثل: «لا ينبغي»، أو «ما ينبغي» فالمراد أنه ممتنع مستحيل، كقوله تعالى: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر} [يس: 40] ، وقوله تعالى: {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً} [مريم: 92] أي ممتنع مستحيل؛ وقوله (ص): «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام»(1)، المعنى: أنه مستحيل. قوله تعالى: { ليضيع إيمانكم }؛ «يضيع» بمعنى يتركه سدًى بدون مجازاة عليه؛ والمراد بـ{ إيمانكم} صلاتهم إلى بيت المقدس؛ وهذا عام للذين ماتوا قبل تحويل القبلة، ومن بقوا حتى حولت؛ وقد ذكر بعض المفسرين أن سبب نزول هذه الآية أن اليهود صاروا يقولون للمسلمين: الذين صلوا منكم قبل تحويل القبلة ضاعت صلاتهم، وليس لهم فيها ثواب؛ فأنزل الله تعالى: { وما كان الله ليضيع إيمانكم }. قوله تعالى: { إن الله بالناس لرؤوف رحيم }؛ { لرؤوف } فيها قراءتان: { لرؤف } بحذف الواو بعد الهمزة؛ و{ لرؤوف } بإثبات الواو بعد الهمزة؛ وكلتاهما قراءتان سبعيتان؛ هذه الجملة مؤكدة بمؤكدين؛ أحدهما: { إنّ }؛ والثاني: اللام، و{ لرؤوف } قال العلماء: إن الرأفة أشد الرحمة؛ فهي رحمة خاصة؛ و{ رحيم } أي متصف بالرحمة؛ وقالوا: إنه قدمت { لرؤوف } على { رحيم } ــــ مع أن «الرؤوف» أبلغ ــــ من أجل مراعاة الفواصل؛ وقال تعالى: { رحيم } لأن هذا يتعلق بفعله ــــ أي برحمته الخلق. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: فضيلة هذه الأمة حيث هداها الله إلى استقبال بيته الذي هو أول بيت وضع للناس؛ وروى الإمام أحمد في مسنده أن مما يحسدنا عليه اليهود القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها؛ فهم يحسدوننا على هذه الخصلة؛ وكذلك على يوم الجمعة، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين(2)؛ المهم أن استقبال القبلة مما حسدونا عليه؛ لأن الكعبة أول بيت وضع للناس، وأعظم بيت في الأرض؛ ولا يوجد بيت قصده ركن من أركان الإسلام للحج إلا الكعبة؛ ولذلك حسدنا اليهود عليها، وأثاروا ضجة عظيمة على التولي عن قبلتهم إلى الكعبة، وصاروا مع من يناصرهم من المشركين؛ أحدثوا أمراً عظيماً حتى إن بعض المسلمين ارتد ــــ والعياذ بالله ــــ عن الإسلام لما سمع من زخرف القول من هؤلاء اليهود، وغيرهم. 2ــــ ومن فوائد الآية: فضل هذه الأمة على جميع الأمم؛ لقوله تعالى: { وسطاً }. 3ــــ ومنها: عدالة هذه الأمة؛ لقوله تعالى: { لتكونوا شهداء على الناس }؛ والشهيد قوله مقبول؛ والمراد بـ «الأمة» هنا أمة الإجابة؛ ومن هنا نعرف حذق أهل الفقه، حيث قالوا: إن «العدل» من استقام على دين الله؛ يعني: هذه الأمة أمة وسط إذا كانت على دين الرسول صلى الله عليه وسلم فتكون شهيداً، وتقبل شهادتها إذا استقامت على دين الله، وكانت أمة حقيقية؛ فعلية يؤخذ من هذا حدّ «العدل»: أن العدل من استقام على دين الله. 4ــــ من فوائد الآية: أن هذه الأمة تشهد على الأمم يوم القيامة؛ لقوله تعالى: { لتكونوا شهداء على الناس }؛ والشهادة تكون في الدنيا، والآخرة؛ فإذا حشر الناس، وسئل الرسل: هل بلغتم؟ فيقولون: نعم؛ ثم تسأل الأمم: هل بُلِّغتم؟ فيقولون: ما جاءنا من بشير، ولا نذير؛ ما جاءنا من أحد؛ فيقال للرسول: من يشهد لك؟ فيقول: «محمد، وأمته»؛ يُستشهدون يوم القيامة، ويَشهدون؛ فيكونون شهداء على الناس. فإذا قال قائل: كيف تشهد وهي لم تر؟ نقول: لكنها سمعت عمن خبره أصدق من المعاينة ــــ صلوات الله وسلامه عليه. 5ــــ من فوائد الآية: أن نبينا (ص) يكون شهيداً علينا يوم القيامة ــــ شهيداً علينا بالعدالة؛ وقيل: شهيداً علينا بأنه بلغ البلاغ المبين؛ وقد ثبت عنه (ص) أنه قال يوم عرفة في أعظم مجمع حصل له مع الصحابة: «ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم؛ قال: اللهم اشهد؛ ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم؛ قال: اللهم اشهد؛ ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم؛ قال: اللهم اشهد»(1) ؛ فأشهد النبي صلى الله عليه وسلم ربه على إقرار أمته بالبلاغ؛ نعم؛ لقد بلغ البلاغ المبين (ص)، فترك أمته على المحجة البيضاء؛ وما مات حتى أكمل الله به الدين؛ وما بقي شيء يحتاج الناس إليه في دينهم صغيراً كان، أو كبيراً إلا بينه (ص) بياناً واضحاً - والحمد لله - فالرسول صلى الله عليه وسلم شهيد على هذه الأمة؛ قال الله تعالى في سورة النساء: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} [النساء: 41] ، يعني: كيف تكون الحال في ذلك اليوم عظيم؛ ولهذا لما قرأ ابن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم، ووصل إلى هذه الآية قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «حسبك» يعني: قف؛ قال: «فإذا عيناه (ص) تذرفان»(2)؛ لأن الأمر العظيم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم شهيد علينا؛ يشهد بأننا بُلِّغنا، وأقيمت علينا الحجة، وما بقي لنا عذر بأيّ وجه من الوجوه؛ ولهذا لا عذر لأحد بعد أن يتبين له الهدى أن يشاق الله ورسوله، كما قال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً} [النساء: 115] . 6ــــ ومن فوائد الآية: إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: { ويكون الرسول عليكم شهيداً }. 7ــــ ومنها: أنه لا رسول بعده؛ لأن «أل» هنا للعهد، وهو يخاطب هذه الأمة؛ فالرسول المعهود فيها واحد؛ وهو محمد صلى الله عليه وسلم؛ ويلزم من ذلك أن لا يكون بعده رسول. 8ــــ ومنها: أن الله سبحانه وتعالى قد يمتحن العباد بالأحكام الشرعية إيجاباً، أو تحريماً، أو نسخاً؛ لقوله تعالى: { ما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه }؛ فلينتبه الإنسان لهذا؛ فإن الله قد يبتليه بالمال بأن يعطيه مالاً ليبلوه أيقوم بواجبه، أم لا؛ وهذه محنة؛ لأن غالب من ابتلي بالمال طغى من وجه، وشح من وجه آخر؛ ثم اعتدى في تمول المال؛ فضَلَّ في تموله، والتصرف فيه، وتصريفه؛ وقد يبتليه بالعلم؛ فيرزقه علماً ليبلوه أيعمل به، أم لا؛ ثم هل يعلمه الناس، أم لا؛ ثم هل يدعو به إلى سبيل الله، أم لا؛ فليحذر من آتاه الله علماً أن يخل بواحد من هذه الأمور. وكذلك قد يمتحن العباد بالأحكام الكونية ؛ ومنها ما يجري على العبد من المصائب. ومن امتحانه بهما أن الله حرم الصيد على المحرِم، ثم أرسله على الصحابة وهم محرِمون حتى تناله أيديهم، ورماحهم. 9ــــ ومن فوائد الآية: وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: { لنعلم من يتبع الرسول فالله امتحن العباد ليعلم هل يتبعون الرسول؛ والصحابة رضي الله عنهم اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك أشد الاتباع: جاءهم رجل وهم يصلون الفجر في قباء وهم ركوع، فقال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أُنزل عليه الليلة القرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشأم؛ فاستداروا إلى الكعبة»(3)؛ هذا هو الاتباع العظيم؛ وكذلك فعل بنو سلمة في مسجد القبلتين(4)؛ إذاً فاتباع الرسول واجب؛ وإلا لما احتيج إلى محنة الناس عليه. 10ــــ ومن فوائد الآية: إثبات علم الله؛ لقوله تعالى: { لنعلم }؛ وعلم الله سبحانه وتعالى محيط بكل شيء، كما قال تعالى: {لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً} [الطلاق: 12] . 11ــــ ومنها: أن الردة عن الإسلام انقلاب؛ لقوله تعالى: { ممن ينقلب على عقبيه }؛ فإن بعض الذين أسلموا ارتدوا حينما تحولت القبلة إلى الكعبة؛ وقالوا: «إن محمداً ليس على يقين من أمره: بالأمس له قبلة؛ واليوم له قبلة»؛ وما علموا أن ذلك مما يؤيد رسالته؛ لأن الإنسان الكذاب يحرص على أن لا يتراجع؛ لأن التراجع وصمة فيه؛ لكن الإنسان الصدوق لا يهتم أن يقول ما أوحي إليه، سواء وافق ما كان عليه أولاً، أو خالف. 12 ــــ ومنها: أن التقدم حقيقة إنما يكون بالإسلام، وأن الرجعية حقيقة إنما تكون بمخالفة الإسلام؛ لقوله تعالى: { ممن ينقلب على عقبيه }؛ فإن هذا حقيقة الرجوع على غير هدًى؛ لأن الذي ينقلب على عقبيه لا يبصر ما وراءه؛ فمن قال للمتمسكين بكتاب الله وسنة رسوله رجعيون، قلنا له: بل أنت الرجعي حقيقة؛ لأن الله سمى مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم انقلاباً على العقب؛ ولا أبلغ من هذا الرجوع أن الإنسان يرجع على عقبيه رجوعاً أعمى ــــ والعياذ بالله ــــ لا يدري ما وراءه. 13ــــ ومن فوائد الآية: أن تغيير القبلة شاق إلا على طائفة معينة من الناس؛ لقوله تعالى: { وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله }؛ وهذا يقع كثيراً للإنسان: تشق عليه بعض الأوامر الشرعية، واجتناب بعض النواهي الشرعية؛ لكن بتمام الإيمان تزول هذه المشقة، وتكون سهلة؛ والعلماء اختلفوا: أيهما أفضل رجل يفعل العبادة بمشقة، ويترك المعصية بمشقة؛ وآخر يفعل العبادة بيسر، ويترك المعصية بيسر؛ قال بعض العلماء: الأول أفضل؛ لأنه مجاهد يجاهد نفسه، فيتعب؛ وقال آخرون: بل الثاني أفضل؛ لأن العبادة كأنها امتزجت بدمه ولحمه، حتى صارت سجية له، ويسيرة عليه لا ينشرح صدره إلا بها؛ والصحيح أن يقال: أما الذي يفعلها بسهولة، ويسر، وانقياد فهذا أكمل حالاً بلا شك؛ لأنه مطمئن بالإيمان فرح بالطاعة؛ أما الثاني فحاله أدنى؛ ولكنه يؤجر على مجاهدة نفسه على الطاعة؛ وعلى ترك المعصية؛ على أن هذا الثاني الذي قلنا: إنه مفضول، وله أجر المشقة ربما يمن الله عزّ وجلّ عليه ــــ وهو أكرم الأكرمين ــــ حتى تكون العبادة في نفسه سهلة، ويفعلها بارتياح؛ وهذا هو معنى قول بعض أهل العلم: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله؛ فالإنسان قد يفعل العبادة في البداية بمشقة، ويكون عنده نوع من التعب في تنفيذها؛ لكن إذا علم الله من نيته صدق القصد والطلب، يسر الله له الطاعة حتى كانت سجية له. 14ــــ ومن فوائد الآية: إظهار منة الله عزّ وجلّ على من هداه الله؛ لأنه نسب الهداية إليه؛ لقوله تعالى: { إلا على الذين هدى الله }؛ وهذه أعظم منة منَّ الله بها عليه أن هداه للإسلام؛ فيجب أن يشعر بها الإنسان؛ لا يمنّ بدينه على ربه؛ بل يعتقد أن المنة لله عليه، كما قال تعالى: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} [الحجرات: 17] ؛ فكم من أناس ضلوا عن الحق مع بيانه، ووضوحه؛ وهم كثيرون؛ بل هم الأكثر، كما قال تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} [الأنعام: 116] ؛ وانظر إلى الفضل، والكرم: هو الذي منّ علينا بالهداية، ثم يقول في سورة الرحمن: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60] ؛ فكأننا نحن الذين أحسنا؛ فأحسن إلينا بالجزاء مع أن له الإحسان أولاً، وآخراً؛ هو الذي أحسن إلينا أولاً، وأحسن إلينا آخراً؛ ولكن هذه مِن منَّته سبحانه وتعالى، ومِن شكره لسعي عبده، كما قال تعالى: {إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً} [الإنسان: 22] . 15ــــ ومن فوائد الآية: أن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر عمل عامل إذا كان مبنياً على الإيمان؛ لقوله تعالى: { وما كان الله ليضيع إيمانكم }؛ كل عمل تعمله صادر عن إيمانه فإنه لن يضيع؛ ستجده مسجلاً ــــ قولاً كان، أو فعلاً، أو همّاً بالقلب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة»(1). 16ــــ ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما: «الرؤوف» و «الرحيم» ، وما تضمناه من الصفة؛ وهي الرأفة، والرحمة. 17ــــ ومنها: إثبات عموم الرحمة لكل الناس؛ لقوله تعالى: { إن الله بالناس لرؤوف رحيم }؛ وهذه هي الرحمة العامة التي بها يعيش الناس في دنياهم برزق الله من طعام، وشراب، وكسوة، وغيرها؛ وأما الرحمة الخاصة فهي للمؤمنين خاصة؛ وبها يحصل سعادة الدنيا، والآخرة، كالعلم والإيمان المثمرَين لطاعة الله، ورسوله. 18ــــ ومنها: أن العمل من الإيمان، لقوله تعالى: { وما كان الله ليضيع إيمانكم }؛ فإنها فسرت بالصلاة إلى بيت المقدس؛ وهذا مذهب أهل السنة والجماعة: أن العمل داخل في الإيمان؛ وهذا أحد أدلتهم؛ ومن الدليل على ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم): «الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ فأفضلها قول: لا إله إلا الله؛ وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق؛ والحياء شعبة من الإيمان»(1)؛ فقول: «لا إله إلا الله» من أعمال اللسان؛ و «إماطة الأذى عن الطريق» من أعمال الجوارح؛ وقوله (صلى الله عليه وسلم): «الحياء شعبة من الإيمان» من أعمال القلوب؛ كما أن الإيمان أيضاً يطلق على الاعتقاد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم): «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله»(2)؛ فقوله (ص): «أن تؤمن بالله» هذا اعتقاد القلب؛ فالإيمان عند أهل السنة والجماعة يشمل: اعتقاد القلب، وقول اللسان، وعمل القلب، وعمل الجوارح؛ ووجه كون الأعمال من الإيمان أنها صادرة عن إيمان؛ الإيمان هو الذي حمل عليها، ولهذا لا يعد عمل المنافق من الإيمان؛ عمل المنافق ــــ صلاته، وذكره لله؛ ونفقاته ــــ لا يُعَدّ من الإيمان؛ لأنه صادر عن غير إيمان. القــــــــــرآن { )قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (البقرة:144) التفسير: { 144 } قوله تعالى: { قد نرى تقلب وجهك في السماء }؛ { قد } هنا للتحقيق؛ و{ نرى } فعل مضارع عبر به عن الماضي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكرر تقلب وجهه في السماء؛ فأتى بالفعل المضارع للدلالة على استمرار رؤية الله له كما استمر تقلب وجه النبي صلى الله عليه وسلم في السماء ترقباً لنزول جبريل بتحويل القبلة إلى الكعبة؛ وقيل: إنه فعل مضارع على بابه، فيكون إخباراً بأن الله سيرى تقلب وجهه، ثم يحوله إلى القبلة التي يرضاها؛ وهذا أقرب إلى ظاهر اللفظ. قوله تعالى: { فلنولينك } الفاء للتفريع؛ لأن ما بعدها مفرع على ما قبلها؛ واللام موطئة للقسم؛ فالجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات؛ وهي القسم المقدر، واللام، والنون؛ وقوله: { فلنولينك } أي فلنوجهنَّك؛ وقيل: فلنحولنَّك إلى {قبلة ترضاها }؛ ونكِّرت { قبلة } للتعظيم؛ و{ ترضاها } أي تطمئن إليها، وتحبها، وتقبلها؛ والرسول صلى الله عليه وسلم قَبِل القبلة الأولى، ورضيها قبل أن يحول إلى الكعبة؛ لكنه يحب أن يحول إلى الكعبة. قوله تعالى: { فول وجهك } أي استقبل بوجهك؛ و «وجه» مفعول أول؛ و{ شطر } مفعول ثان؛ والمراد بـ «الشطر» هنا الجهة؛ يعني: جهة المسجد الحرام؛ والمراد بـ «الوجه» جميع البدن؛ لأن البدن بهيئته وطبيعته إذا استقبل الوجه جهة صار جميع البدن مستقبلاً لها. قوله تعالى: { المسجد الحرام }؛ «المسجد» في الأصل مكان السجود؛ وقيل: إن «المسجَد» بفتح الجيم: مكان السجود؛ و«المسجِد» بكسر الجيم: المكان المعد للسجود؛ فيكون بينهما فرق: هو أن المكان المبني المعَدّ للسجود يسمى مسجِداً ــــ بالكسر ــــ وأما المكان الذي سجدت فيه بالفعل فيسمى مسجَداً ــــ بالفتح. وقوله تعالى: { الحرام } صفة مشبهة من الحُرم؛ وهو المنع؛ وسمي «حراماً»؛ لأنه يمنع فيه من أشياء لا تمنع في غيره، ولأنه محترم معظم؛ والمراد به الكعبة، وما حولها من البناء المعروف. قوله تعالى: { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره }؛ عدل عن الخطاب للنبي (ص) إلى الخطاب لأمته؛ لأن الخطاب الموجه للنبي (ص) خطاب له، وللأمة؛ إذ إنه الإمام؛ والخطاب إذا وجه للإمام فهو خطاب له، ولمن اتبعه؛ ونظير ذلك أن الوزير مثلاً يقول للقائد: اتجه إلى كذا؛ المعنى: اتجه، ومن يتبعك من الجنود؛ فهكذا الخطاب الموجه للرسول (ص) يكون له، وللأمة؛ ونظير هذا قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} [الطلاق: 1] ؛ فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم أولاً، ثم قال تعالى: {إذا طلقتم}؛ لأن الحكم له، ولأمته. قوله تعالى: { حيث } ظرف مكان لكنها شرطية زيدت عليها { ما } لفظاً لا معنًى للتوكيد؛ و{ كنتم } فعل الشرط؛ وجواب الشرط قوله تعالى: { فولوا وجوهكم }. قوله تعالى: { وإن الذين أوتوا الكتاب }؛ المراد بـ{ الكتاب } الجنس؛ وهو التوراة، والإنجيل؛ والذين أوتوه هم اليهود، والنصارى. قوله تعالى: { ليعلمون أنه الحق من ربهم }؛ اللام للتوكيد؛ فالجملة إذاً مؤكدة بـ{ إن }، واللام؛ و«العِلم» إدراك الشيء إدراكاً جازماً مطابقاً للواقع. وقوله تعالى: { أنه الحق } أي استقبالك المسجد الحرام الحق؛ و{ الحق } معناه الشيء الثابت؛ فإن أضيف إلى الخبر فهو الصدق؛ وإن أضيف إلى الحكم فهو العدل؛ قال الله تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلًا} [الأنعام: 115] . قوله تعالى: { من ربهم }؛ «الرب» الخالق المالك الكامل السلطان المدبر لجميع الأمور. قوله تعالى: { وما الله بغافل عما يعملون }؛ { ما } هنا حجازية؛ لأن القرآن بلغة قريش؛ والدليل على هذا قوله تعالى في سورة يوسف: {ما هذا بشراً} [يوسف: 31] ؛ ولم يقل: «بشر» ؛ فالقرآن بلغة قريش؛ وقريش حجازيون؛ و{ ما } عندهم تعمل عمل «ليس». وقوله تعالى: { بغافل }: الباء زائدة إعراباً مفيدة معنًى ــــ وهو التوكيد؛ و{ غافل } خبر { ما } منصوب بها؛ وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد؛ و «الغفلة» اللهو والسهو عن الشيء. وقوله تعالى: { عما يعملون }: «ما» اسم موصول تفيد العموم؛ يعني: عن أيّ عمل يعملونه سواء كان يتعلق بالجوارح، أو يتعلق بالقلوب؛ فيشمل الاعتقاد، ويشمل القول، والفعل. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: إثبات رؤية الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { قد نرى تقلب وجهك في السماء}. 2ــــ ومنها: أن النظر إلى السماء ليس سوء أدب مع الله؛ لقوله تعالى: { قد نرى تقلب وجهك في السماء لكن في الصلاة لا يرفع بصره إلى السماء؛ لورود الوعيد الشديد به. 3ــــ ومنها: إثبات علو الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في السماء؛ لأن الوحي يأتيه من السماء. 4ــــ ومنها: كمال عبودية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه، حيث كان يحب أن يتوجه إلى الكعبة؛ لكنه لم يفعل حتى أُمر بذلك. 5ــــ ومنها: إثبات عظمة الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { فلنولينك قبلة }؛ فإن ضمير الجمع للتعظيم. 6ــــ ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يتوجه إلى الكعبة؛ لقوله تعالى: { ترضاها } مع قوله تعالى: { قد نرى تقلب وجهك }. 7ــــ ومنها: وجوب الاتجاه نحو المسجد الحرام؛ لقوله تعالى: { فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام }. 8ــــ ومنها: أن الوجه أشرف الأعضاء حيث عبر به عن سائر الجسم. 9ــــ ومنها: ما استدل به المالكية على أنه ينبغي للمصلي أن ينظر تلقاء وجهه؛ لقوله تعالى: { فول وجهك شطر المسجد الحرام }؛ فإذا ولّى الإنسان وجهه شطر المسجد الحرام فسيكون نظره تلقاء وجهه غالباً؛ وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم: ماذا ينظر إليه المصلي حال القيام؟ فالمشهور عن المالكية أن المصلي ينظر تلقاء وجهه؛ وعند الإمام أحمد أنه ينظر إلى موضع سجوده(1) - وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة؛ واستدلوا لذلك بأثر مرسل عن محمد بن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطأطئ رأسه، وينظر إلى موضع سجوده ؛ ولأنه أظهر في الخشوع؛ وقال بعض العلماء: إن الإمام والمنفرد ينظران إلى موضع السجود؛ وأما المأموم فينظر إلى إمامه - بكسر الهمزة؛ واستدلوا لذلك بأحاديث في البخاري؛ وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما صلى صلاة الكسوف، وأخبر أصحابه بأنه عرضت عليه الجنة والنار قال لهم: «وذلك حين رأيتموني تقدمت وتأخرت»(2)؛ وهذا دليل على أنهم ينظرون إليه؛ ومنها أنه لما صنع له المنبر قام يصلي عليه، فكان يقوم، ويركع؛ فإدا أراد السجود نزل، وسجد على الأرض؛ وقال: «إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلَّموا صلاتي»(3)؛ وهذا دليل على أنهم ينظرون إليه؛ ومنها أيضاً أنهم لما أخبروا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة السر؛ قيل لهم: بم تعرفون ذلك؟ قالوا: «باضطراب لحيته»(4)؛ وهذه كلها في الصحيح؛ فهذا دليل على أن المأموم ينظر إلى إمامه؛ ولأنه أبلغ في الائتمام به؛ لأن الإمام قد يقوم، وقد يجلس ساهياً مثلاً؛ فإذا كان المأموم ينظر إلى الإمام كان ذلك أبلغ في الاقتداء به؛ أما الإمام، والمنفرد فإنهما ينظران إلى موضع السجود؛ وهذا القول أقرب؛ ولا سيما إذا كان المأموم محتاجاً إلى ذلك، كما لو كان لا يسمع، فيريد أن ينظر إلى الإمام ليقتدي به، أو نحو ذلك. لكن يستثنى من ذلك إذا كان جالساً؛ فإنه ينظر إلى موضع إشارته؛ لقول عبد الله بن الزبير: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يجاوز بصره إشارته»(5)؛ ومما يستثنى من ذلك عند بعضهم: إذا كنت في المسجد الحرام ويمكنك مشاهدة الكعبة؛ فإنك تنظر إلى الكعبة؛ ومنها إذا كنت في خوف وحولك العدو؛ فإنك تنظر إلى جهة العدو؛ فهذه المسائل الثلاث تستثنى؛ والراجح في مسألة الكعبة أن المصلي لا ينظر إليها حال صلاته؛ لعدم الدليل على ذلك؛ ولأنه ربما ينشغل به عن صلاته، لا سيما إذا كان الناس يطوفون حولها؛ وأما استثناء الصلاة حال الخوف فصحيح؛ لدخوله في عموم قوله تعالى: { وخذوا حذركم }؛ وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث طليعة؛ فكان يصلي وهو يلتفت إلى الشعب هل جاء الطليعة أم لا(6). 10ــــ ومن فوائد الآية: عظمة هذا المسجد لوصفه بالحرام - أي ذي الحرمة والتعظيم - ولهذا كان من يدخله آمناً، ولا يدخله أحد إلا بإحرام وجوباً إن كان لم يؤد الفرض؛ أو استحباباً إن كان قد أداه - بخلاف غيره؛ فكل شيء فيه حياة فهو آمن داخل الحرم - حتى الجماد: فالشجر آمن لا يجوز قطعه في الحرم؛ والصيد آمن لا يقتل في الحرم؛ بل ولا ينفر من مكانه. 11ــــ ومنها: وجوب الاتجاه إلى القبلة في أيّ مكان كان الإنسان: من بر، أو بحر، أو جو؛ لقوله تعالى: { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره }؛ ويشمل من كان في مكة، ومن كان بعيداً عنها، ومن كان في جوف الكعبة؛ لعموم قوله تعالى: { وحيث ما كنتم }؛ إذاً إذا كان في جوف الكعبة يستقبل أمام وجهه من أيّ الجهات كان؛ إلا أن بعض أهل العلم يقول: لا يستقبل الباب إذا كان مفتوحاً ما لم يكن له عتبة؛ لأنه لابد من شاخص يكون بين يديه حتى يصح أن يقال: إنه ولّى وجهه شطره؛ وإذا كنا خارج الكعبة ــــ ولكن في المسجد ــــ فإنا ندور حوله؛ لأننا لو استقمنا في صف مستقيم لم نوَلّ وجوهنا شطره؛ ويكون من خرج عن مسامتته ولّى وجهه جهة غيره؛ لأنه محصور الآن؛ وإذا ابتعدنا فإن بعض العلماء يقول: إن كنت في مكة فاستقبل المسجد؛ وإن كنت خارج مكة فاستقبل مكة؛ لكن هذا تقريبي؛ إنما الصواب في هذه المسألة أن من أمكنه مشاهدة عين الكعبة وجب عليه استقبال العين ــــ لا يخرج عن مسامتتها؛ ومن لا يمكن مشاهدتها لبعد، أو حيلولة شيء دونها استكفى بالجهة؛ لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286] . ويسقط استقبال القبلة في مواضع؛ منها: أ ــــ عند صلاة النفل في سفر؛ فيصلي حيث كان وجهه. ب ــــ عند الخوف الشديد إذا كان لا يمكن استقبال القبلة. ج ــــ إذا كان عاجزاً عن استقبال القبلة لمرض ــــ أو صلب ــــ يعني: لو صلب إلى غير القبلة، أو نحو ذلك. أما إذا اشتبهت عليه القبلة فعليه أن يجتهد إن كان بمكان يصح فيه الاجتهاد؛ فإن أصاب فذاك؛ وإن أخطأ فهو معذور؛ إذاً فالاشتباه لا يُستثنى؛ لأن حقيقة الأمر أنه لا يجوز أن يصلي إلا وهو يعتقد أنه إلى القبلة؛ بخلاف الذي ذكرنا؛ فالعاجز يعرف أن القبلة خلفه، فيصلي إلى غير القبلة؛ وكذلك في شدة الخوف؛ وكذلك المتنفل في السفر. 12- المسلمين على وجهة واحدة؛ لأنه تعالى قال: { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره }؛ فالمسلمون في أقطار الدنيا كلها يتجهون إلى قبلة واحدة؛ هذا توحيد؛ ولا سيما أنهم يتجهون هذا الاتجاه، ويتحدون هذا الاتحاد في أعظم مشعر عملي، أو في أعظم فريضة عملية ــــ وهي الصلاة؛ فيدل هذا على أن الشرع يراعي مراعاة تامة توحيد المسلمين في دينهم، وتوحيدهم في الاتجاه البدني، وكذلك في الاتجاه القلبي الفكري. 13- والنصارى؛ لقوله تعالى: { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم }؛ ولكن مع ذلك شنعوا على النبي صلى الله عليه وسلم تشنيعاً عظيماً حين توجه إلى الكعبة بأمر ربه. 14ــــ ومنها: أن ما كان من عند الله فهو حق؛ لقوله تعالى: { أنه الحق } مضافاً إلى الله: { من ربهم }. 15ــــ ومنها: أن هؤلاء المعاندين من أهل الكتاب يعاندون مع علمهم التام، ومع إقرارهم بربوبية الله سبحانه وتعالى؛ فهم يعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيستقبل الكعبة؛ وهم علموا ذلك مما جاء في كتبهم من وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأن هذا النبي الأمي سوف يتجه إلى الكعبة؛ وكان عليهم حيث أقروا بربوبية الله لهم، وعلموا الحق أن ينقادوا له، وأن يكونوا أولى الناس باتباعه؛ لأن من أقر بربوبية الله سبحانه وتعالى لزم أن يقر بأحكامه، ويلتزم بها؛ لأن الرب له الملك المطلق يتصرف كيف يشاء؛ ولهذا أضاف الربوبية هنا إليهم: { من ربهم }؛ لإقامة الحجة عليهم حيث يعترفون بربوبيته. 16ــــ ومن فوائد الآية: انتفاء غفلة الله عزّ وجلّ عن أعمالهم المتضمن لكمال علمه، وإحاطته بهم؛ ولا يكفي أن نقول: انتفاء الغفلة فقط؛ بل نقول: المتضمن لكمال العلم، والإحاطة؛ لقوله تعالى: { وما الله بغافل عما يعملون }. 17ــــ ومنها: صحة تقسيم الصفات إلى ثبوتية، ومنفية؛ لأن التي في الآية هنا منفية ــــ وهي قوله تعالى: { وما الله بغافل عما يعملون } فالصفات المنفية: كل صفة صُدِّرت بما يدل على النفي بأيّ أداة كانت، مثل قوله تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255] ، وقوله تعالى: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58] ، وقوله تعالى: {وما مسنا من لغوب} [ق: 38] ، وقوله تعالى: {ولم يعيَ بخلقهن} [الأحقاف: 33] ؛ واعلم أن الصفات المنفية لا يراد بها مجرد النفي؛ وإنما يراد بها مع النفي: ضدها؛ فإذا قال الله تعالى عن نفسه: {وما مسنا من لغوب} [ق: 38] فالمراد: نفي اللغوب، وإثبات كمال قوته، وقدرته. 18ــــ ومن فوائد الآية: تهديد هؤلاء المعاندين الذين أوتوا الكتاب، وعلموا الحق، ولم يتبعوه؛ لقوله تعالى: { وما الله بغافل عما يعملون }؛ ويشبه هؤلاء من بعض الوجوه من يتعصب لمذهبه ــــ ولو علم أن الحق في خلافه ــــ إحساناً للظن بمن قلدهم؛ ولو أتيتهم بكلام من كلام مشايخهم قالوا: على العين والرأس! ولهذا أكثر شيخ الإسلام ــــ رحمه الله ــــ في «الفتوى الحموية» النقول عن العلماء من الأشاعرة، وغيرهم؛ وقال: «إنه ليس كل من نقلنا قوله فإننا نقول به؛ ولكن لما كان بعض الطوائف منتحلاً إلى إمام أو مذهب، صار لو أُتي بكل آية ما تبꗬ‹Ёደ¿ Ѐ 橢橢쿽쿽Ё瘮 ꖟꖟ⽇ 䥂???lΐΐΐ˂ْǜ࠮࠮࠮ ࡂʴ͌ࡂ号ƌ僺 [1]僼僼僼僼僼僼$喃Ƞ垣İ儠ʑ࠮儠نيفة كلهم ينكرون تقليدهم مع مخالفة الكتاب، والسنة، ويقولون: «اضربوا بأقوالنا عُرض الحائط إذا خالفت الكتاب، والسنة»؛ ولهم عبارات في هذا المعنى كثيرة؛ وإذا كانوا يقولون هكذا فإن الذين يتعصبون لهم مع مخالفة الدليل لم يقلدوهم حقيقة؛ ولو قلدوهم حقيقة لكانوا إذا بين لهم الدليل أخذوا به كما أمر به هؤلاء الأئمة؛ لكنهم لم يقلدوهم حقيقة؛ بل تعصبوا تعصباً لا يحمدون عليه ما دام قام الدليل على خلافه؛ أما إذا لم يقم الدليل عند الإنسان ــــ سواء كان ممن يطلب الدليل، ويستطيع أن يعرف الحكم بالأدلة؛ أو لم يكن كذلك ــــ فهذا على كل حال يعذر إذا قلد من يرى أنه أقرب إلى الحق؛ أما مع وضوح الدليل، وبيانه فإن التقليد حرام؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن التقليد بمنزلة أكل الميتة يحل للضرورة، أما مع وجود لحم مذكّى فلا تأكل الميتة؛ فمع وجود الدليل من الكتاب، والسنة، وتبينه للإنسان فإنه لا يحل له أن يقلد؛ ولهذا لم يأمر الله بسؤال أهل العلم إلا عند عدم العلم فقال تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون * بالبينات والزبر} [النحل: 43، 44] ؛ أما إذا كنا نعلم بالبينات، والزبر فلا نسألهم؛ ونأخذ من البينات، والزبر. القــــــــــرآن { )وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:145) التفسير: { 145 } في قوله تعالى: { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } أمران متنازعان: قسَم، وشرط؛ قَسَم مدلول عليه باللام؛ لأن اللام واقعة في جواب القسم المقدر ــــ أي: والله لئن؛ والثاني المنازع للقسَم: «إن» الشرطية؛ وكل من القسم، والشرط يحتاج إلى جواب؛ فجواب القسم: { ما تبعوا قبلتك}؛ والمحذوف جواب الشرط؛ لأن الشرط مؤخر؛ فاستغنى عن جوابه بجواب القسم؛ يقول ابن مالك: واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أخرت فهو ملتزم وقوله تعالى: { أتيت } بمعنى جئت؛ و{ الذين أوتوا الكتاب } يعني اليهود، والنصارى؛ و{ بكل آية } الباء للمصاحبة؛ والمعنى: مصطحباً كل آية؛ ويحتمل أن تكون الباء للتقوية ــــ أي: تعدية الفعل؛ و «الآية» العلامة على صدق ما أتيت به إليهم؛ يعني: إن أتيتهم بكل آية تدل على صدق ما أتيت به { ما تبعوا قبلتك } أي الكعبة؛ لعنادهم، واستكبارهم. قوله تعالى: { وما أنت بتابع قبلتهم }: الواو هنا استئنافية؛ لأننا لو جعلناها عاطفة على قوله تعالى: {ما تبعوا قبلتك } لصار المعنى: وما أنت بتابع قبلتهم في حال إتيانك بالآيات التي تدل على صدق ما جئت به؛ ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتبع قبلتهم مطلقاً؛ وهذا هو السر في التعبير - والله أعلم بالجملة الاسمية في قوله تعالى: { وما أنت بتابع }، وفي الكلام عنهم أتى بالجملة الفعلية في قوله تعالى: { ما تبعوا قبلتك }. قوله تعالى: { وما بعضهم } أي الذين أوتوا الكتاب { بتابع قبلة بعض }: فاليهود لا تتبع قبلة النصارى؛ والنصارى لا تتبع قبلة اليهود؛ لأن النصارى يقولون: إن اليهود كفار؛ واليهود يقولون: إن النصارى كفار ليسوا على حق؛ ولهذا يكذبون عيسى (ص). قوله تعالى: { ولئن اتبعت أهواءهم }: نقول فيها مثلما قلنا في قوله تعالى: { ولئن أتيت }؛ ففيها قَسَم، وشرط؛ والجواب للقسم ــــ وهو قوله تعالى: { إنك إذاً... }؛ والخطاب للنبي (ص)؛ و «إن» الشرطية لا تستلزم وقوع شرطها؛ وإنما قلنا ذلك لئلا يقول قائل: هل من الممكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتبع أهواءهم من بعد ما جاءه من العلم؟ الجواب: لا يمكن؛ و«إن» الشرطية لا تستلزم وقوع جواب شرطها: ألم يقل الله سبحانه وتعالى: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65] ؛ وإشراك النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أبداً وقوعه؛ وكذلك قوله تعالى: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} [الزخرف: 81] ؛ ووجود الولد لله لا يمكن. وقوله تعالى: { أهواءهم } جمع هوى، وهو الميل؛ ومنه يقال للنجم: «هوى» إذا مال، وسقط؛ ويطلق «الهوى» في الغالب على الميل عن الحق؛ ويقابله «الهدى»؛ فيقال: اتبعَ الهوى بعد الهدى؛ وإن صح الحديث وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به»(1) - فهو دليل على أن الهوى يكون في الخير كما يكون في الشر. قوله تعالى: { من بعد ما جاءك من العلم } متعلق بـ{ اتبعت }؛ يعني: إذا وقع هذا الاتباع بعد العلم فإنه يكون الظالم؛ وقوله تعالى: { من بعد ما جاءك } وردت في القرآن على ثلاثة أوجه؛ هذا أحدها؛ والثاني { بعد ما جاءك من العلم }؛ والثالث: { بعد الذي جاءك من العلم }، أما { بعدما جاءك من العلم }، و{ بعد الذي... } فلا فرق بينهما إلا أنه عبر بـ{ ما } عن { الذي }؛ وأما { من بعد ما جاءك } فهي أبلغ من قوله تعالى: { بعد الذي جاءك }؛ لأن { مِن } تدل على أنه جاءه العلم، وتمهل، وحصل هذا الأمر بعد مجيء العلم؛ نظير ذلك قوله تعالى: {ومن بيننا وبينك حجاب} [فصلت: 5] ؛ فهو أشد مما لو قالوا: «بيننا وبينك حجاب»؛ لأن { مِن } تدل على مسافة قبل الحجاب، ثم حجاب، والمراد بـ «العلم» الوحي الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: { إنك إذاً لمن الظالمين }: أكدت بـ{ إن } واللام؛ وهذه الجملة جواب القسم؛ و{ إذاً } ظرف؛ وهنا أدوات ثلاث: إذ، وإذا، وإذاً؛ وهذه الأدوات الثلاثة تنازعت الأزمنة: «إذ» للماضي؛ و «إذا» للمستقبل؛ و «إذاً» للحاضر؛ فمعنى { إنك إذاً } أي إنك في حال اتباعك أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم { لمن الظالمين } أي المعتدين الذين نقصوا الواجب عليهم من اتباع الحق دون الأهواء. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على هداية الخلق؛ لأن قوله تعالى: { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية } دليل على أنه (ص) كان يعرض الآيات، ويبين الحقائق؛ ولكن لا ينتفعون بها. 2ــــ ومنها: شدة عناد هؤلاء الذين أوتوا الكتاب؛ وأنهم مهما أوتوا من الآيات فإنهم لن ينصاعوا لها، ولن يتبعوها. 3ــــ ومنها: أن الذين أوتوا الكتاب لن يتبعوا قبلة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وإذا كان كذلك فلن يتبعوا دينه؛ لأن القبلة بعض الدين؛ فمتى كفروا بها فهو كفر بالدين كله. 4ــــ ومنها: أن الكعبة قبلة للمسلمين خاصة؛ لأنه تعالى أضاف استقبالها إليهم؛ ولكن الظاهر ــــ والله أعلم ــــ أن الكعبة قبلة لكل الأنبياء؛ لقوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً} [آل عمران: 96وهكذا قال شيخ الإسلام: إن المسجد الحرام قبلة لكل الأنبياء؛ لكن أتباعهم من اليهود، والنصارى هم الذين بدلوا هذه القبلة. 5ــــ ومنها: وجوب الانقياد للحق إذا ظهرت آياته؛ لأن هذه الآية سيقت مساق الذم؛ فدل هذا على وجوب اتباع الحق إذا تبينت الآيات. 6ــــ ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم مستحيل أن يكون تابعاً لقبلتهم؛ لأن قبلتهم التي يدعونها لم تثبت شرعاً؛ ثم لو فرض أنها جاءت في شرائعهم فإنها نُسِخت بقبلة الإسلام. 7ــــ ومنها: أنه يستحيل شرعاً أن يتبع المسلم طريقة اليهود، والنصارى؛ لقوله تعالى: { وما أنت بتابع قبلتهم }؛ وجه الاستحالة: أن الجملة جاءت بالاسمية المؤكدة بحرف الجر في سياق النفي؛ فالمؤمن حقيقة لا يمكن أن يتابع أعداء الله، ولا أن يأخذ بآرائهم، وأفكارهم، واتجاهاتهم؛ وقد حمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك غاية الحماية، حيث قال: «من تشبه بقوم فهو منهم»(2)، حتى نحذر ونبعد عن التشبه بأعداء الله، والتقليد لهم سواء في أمور العبادة، أو في أمور العادة؛ فإن التشبه بأعداء الله حرام: وقد يؤدي إلى الكفر، والشرك ــــ والعياذ بالله. 8ــــ ومن فوائد الآية: أن اليهود والنصارى لا يتبع بعضهم بعضاً؛ بل يضلل بعضهم بعضاً؛ فاليهود يرون النصارى ليسوا على شيء من الدين؛ والنصارى يرون اليهود ليسوا على شيء من الدين أيضاً؛ كل منهم يضلل الآخر فيما بينهم؛ كل واحد منهم يرى أن الآخر ليس على ملة صحيحة؛ ولهذا قال تعالى: {وما بعضهم بتابع قبلة بعض} [البقرة: 145] ؛ فقبلة اليهود إلى بيت المقدس ــــ إلى الصخرة؛ وقبلة النصارى إلى المشرق يتجهون نحو الشمس؛ لكنهم على الإسلام يد واحدة بعضهم لبعض وليّ، كما قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} [المائدة: 51] ؛ لأنهم كلهم أعداء للإسلام. 9ــــ ومن فوائد الآية: أن اتباع اليهود والنصارى اتباع للهوى لا للهدى؛ لقوله تعالى: { ولئن اتبعت أهواءهم }. 10ــــ ومنها: أن اليهود والنصارى ليسوا على هدى، حيث جعل الله سبحانه وتعالى ما هم عليه هوى، وليس بهدى. 11ــــ ومنها: أن الإنسان لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد قيام الحجة؛ لقوله تعالى: { من بعد ما جاءك من العلم }؛ فالإنسان قد يتابع غيره جهلاً؛ فلا يؤاخذ به ــــ وإن كان يسمى ضالاً؛ لكنه ليس بظالم؛ لأنه لم يتعمد المخالفة؛ لا يتحقق الظلم إلا لمن عرف الحق وخالفه. 12ــــ ومنها: التلطف في الخطاب للرسول (ص)؛ لقوله تعالى: { لمن الظالمين }؛ لأنك لو قلت لرجل: «أنت رجل ظالم» لكان أشد وقعاً من قولك له: أنت من الظالمين؛ ونظيره قوله تعالى: {عبس وتولى} [عبس: 1عندما تقرؤها تظن أن العابس والمتولي غير الرسول صلى الله عليه وسلم؛ تظن أنه رجل آخر؛ ولكن المراد به الرسول صلى الله عليه وسلم. 13ــــ ومنها: بيان أن العلم حقيقة هو علم الشريعة؛ لقوله تعالى: { من بعد ما جاءك من العلم }: أتى بــ «أل» المفيدة للكمال؛ ولا شك أن العلم الكامل الذي هو محل الحمد والثناء هو العلم بالشريعة؛ ولذلك نقول: إن عصر النبوة هو عصر العلم؛ وليس عصرنا الآن هو عصر العلم الذي يمدح على الإطلاق؛ لكن ما كان منه نافعاً في الدين فإنه يمدح عليه لهذا. 14ــــ ومنها: أن الظلم، والعدل، وغير ذلك مقرون بالأعمال؛ لا بالأشخاص؛ بمعنى أنه ليس بين الله تعالى وأحد من الخلق شيء يحابيه، ويراعيه به؛ كل من خالفه فهو ظالم؛ فلا نقول مثلاً: هذا قريب من الرسول صلى الله عليه وسلم تكفر سيئاته لقربه من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ أو نقول: هذا إنسان من قريش من سلالة الأشراف ــــ من سلالة بني هاشم ــــ تكفّر عنه سيئاته؛ فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول الله سبحانه وتعالى له: { ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين }؛ فما بالك بمن دون الرسول صلى الله عليه وسلم!!! فلا أحد يحابى من قِبل الله عزّ وجلّ من أجل نسبه، أو حسبه، أو جاهه بين الناس: قال الله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13] . 15ــــ ومن فوائد الآية: قد يرد التعليق على شرط لا يمكن تحققه؛ لقوله تعالى: { ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين }؛ فهذا الشرط لا يمكن أن يقع من رسول الله (ص). 16ــــ ومنها: تحذير الأمة من اتباع أهواء غير المؤمنين؛ وجه ذلك أنه إذا كان هذا الوصف يكون للرسول (ص) لو اتبع أهواءهم فالذي دونه من باب أولى؛ فعلينا أن نحذر غاية الحذر من اتباع أهواء أعداء الله؛ فالواجب على علماء الأمة أن يحذِّروها مما وقعت فيها الآن من اتباع أهواء أعداء الله، ويبينوا لهم أن اتباع أهوائهم هو الظلم؛ والظلم ظلمات يوم القيامة؛ والظلم مرتع مبتغيه وخيم. القـــــــــرآن { )الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة:146) التفسير: { 146 } قوله تعالى: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم }؛ { الذين } مبتدأ؛ والخبر جملة: { يعرفونه }؛ والضمير الهاء المفعول يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ و{ كما }؛ الكاف للتشبيه؛ و «ما» مصدرية ــــ أي كمعرفة أبنائهم. قوله تعالى: { آتيناهم } أي أعطيناهم؛ والمراد بـ{ الكتاب } التوراة، والإنجيل؛ والذين أوتوهما اليهود، والنصارى؛ وإنما كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم؛ لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، إلى آخر ما ذكر من أوصافه التي عرفوه بها كما يعرفون أبناءهم؛ وعبَّر بقوله تعالى: { يعرفونه } بالفعل المضارع؛ لأن معرفتهم به تتجدد كلما تأملوا آياته، وصفاته؛ وعبر بقوله تعالى: { يعرفونه }؛ لأن الغالب أن «العلم» يعبر به عن الأمور المعقولة التي تدرك بالحس الباطن، و«المعرفة» يعبر بها عن الأمور المحسوسة المدركة بالحس الظاهر؛ فأنا أقول لك: «أعرفت فلاناً»؛ ولا أقول لك: «أعلمت فلاناً»؛ لكن أقول: «أعرفت فلاناً فعلمت ما فعل»؛ فهنا جعلنا العلم في الفعل؛ و{ أبناءهم } جمع ابن؛ وخصه دون البنت؛ لأن تعلق الإنسان بالذّكَر أقوى من تعلقه بالأنثى؛ فهو به أعرف. قوله تعالى: { وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } يعني طائفة منهم تكتم الحق ــــ أي يخفونه، فلا يبينونه؛ ولهذا ذكر الله في سورة آل عمران أن بعضهم يقول لبعض: كيف تبينون الهدى لمحمد، وأصحابه؟! إذا بينتموه يحاجوكم به عند الله أفلا تعقلون! فهم يتواصون بالكتمان ــــ والعياذ بالله. وقوله تعالى: { وهم يعلمون } في موضع نصب على الحال من فاعل يكتمون ــــ وهو الواو؛ يعني: يكتمون والحال أنهم يعلمون أنه الحق؛ وهذا أبلغ في الذم، وأقبح في الفعل أن يكونوا كاتمين للحق وهم يعلمون. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم معروف عند أهل الكتاب معرفة تامة؛ وذلك كما جاء في كتبهم، كما قال الله ــــ تبارك وتعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف: 157] . 2ــــ ومنها: أنه لا عذر ولا حجة لأهل الكتاب في إنكارهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أوتوا من وصفه ما يعرفونه به كما يعرفون أبناءهم. 3ــــ ومنها: بيان أن تعلق الإنسان بالابن أقوى من تعلقه بالبنت؛ لقوله تعالى: { كما يعرفون أبناءهم }؛ فهو يعرف الابن أكثر مما يعرف البنت لقوة تعلقه به. 4 ــــ ومنها: الاحتراس في القرآن الكريم، حيث قال تعالى: { وإن فريقاً منهم }؛ لأن كتمان الحق لم يكن من جميعهم؛ بل من فريق منهم؛ وطائفة أخرى لا تكتم الحق؛ فإن من النصارى من آمن، كالنجاشي؛ ومن اليهود ــــ كعبد الله بن سلام ــــ مَن آمن، ولم يكتم الحق. 5ــــ ومنها: شدة اللوم، والذم لهؤلاء الذين يكتمون الحق؛ لأنهم يكتمونه مع العلم به؛ فهم عامدون ظالمون؛ وهذا أشد قبحاً من كتمان الإنسان ما يكون متردداً فيه. القــــــــرآن { )الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (البقرة:147) التفسير: { 147 } قوله تعالى: { الحق من ربك }؛ { الحق } مبتدأ؛ و{ من ربك } خبره؛ وهنا الجملة لتقرير ما سبق؛ يعنى أن الحق ثابت، وحاصل من ربك؛ وقيل: إن { الحق } خبر لمبتدأ محذوف؛ والتقدير: هذا الحق من ربك. وهنا الربوية خاصة؛ لأن الله سبحانه وتعالى رب العالمين؛ لكن أضافها إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن المقام يقتضيه، حيث هو مقام التثبيت، والنصرة؛ فلولا أن الله سبحانه وتعالى ثبَّت الرسول صلى الله عليه وسلم لكان كما قال الله تعالى: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً * إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً} [الإسراء: 74، 75] ؛ و «الرب» هو الخالق المالك المدَبِّر: هو الذي خلق الخلق كله؛ وهو مالك الخلق كله؛ وهو سبحانه وتعالى المدبر للخلق كله. قوله تعالى: { فلا تكونن من الممترين }؛ { لا } ناهية؛ والفعل بعدها مبني على الفتح في محل جزم؛ وإنما بني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد؛ لأن الفعل المضارع إذا اتصل بنون التوكيد صار مبنياً على الفتح دائماً؛ والخطاب هنا للرسول (ص)؛ وهذا النهي يراد به التثبيت؛ إذ لا يمكن وقوع الامتراء من النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما أن أمر المؤمن بالإيمان يراد به الثبوت، والاستمرار عليه، كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل} [النساء: 136] ، كما أن الشرط قد يعلق بما لا يمكن وقوعه كما سبق في قوله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين} [البقرة: 145] . قوله تعالى: { من الممترين }: معنى «الامتراء»: الشك. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: أن ما جاء من عند الله فهو حق؛ لقوله تعالى: { الحق من ربك }. 2ــــ ومنها: أنه ما دام الحق من الله فإنه يجب أن يؤمن الإنسان به، وأن لا يلحقه في ذلك شك، ولا مرية. 3ــــ ومنها: أن كل شيء خالف ما جاء عن الله فهو باطل؛ لقوله تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون} [يونس: 32] . 4ــــ ومنها: تقوية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه من الحق ــــ وإن كتمه أهل الكتاب ــــ لأن الإنسان بشر؛ لما أنكر هؤلاء الذين أوتوا الكتاب الحق قد يعتري الإنسان شيء من الشبهة ــــ وإن كان بعيداً؛ فبين الله سبحانه وتعالى أن ما جاء به هو الحق؛ لقوله تعالى: { الحق من ربك }. 5ــــ ومنها: عناية الله سبحانه وتعالى بالنبي بذكره بالربوبية الخاصة؛ لقوله تعالى: { من ربك}. 6- ومنها: أن الشك ينافي الإيمان؛ لقوله تعالى: { فلا تكونن من الممترين }. 7- ومنها: أنه قد ينهى عن الشيء مع استحالة وقوعه؛ لقوله تعالى: { فلا تكونن من الممترين }؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون من الممترين. 8- ومنها: عناية الله سبحانه وتعالى بالرسول صلى الله عليه وسلم بالتثبيت؛ لأن قوله تعالى له: { الحق من ربك } يقتضي ثباته عليه؛ وقوله تعالى: { فلا تكونن من الممترين } يقتضي استمراره على هذا الثبات؛ ولا شك أن في هذا من تأييد الرسول صلى الله عليه وسلم، وتثبيته ما هو ظاهر. القــــــــرآن { )وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة:148) التفسير: { 148 } قوله تعالى: { ولكل وجهة هو موليها }؛ الوجهة، والجهة، والوجه، معناها متقارب؛ أي: لكل واحد من الناس جهة يتولاها؛ وهذا شامل للجهة الحسية، والمعنوية؛ مثال الحسية: اختلاف الناس إلى أين يتجهون في صلاتهم: فمنهم من يتجه نحو المشرق؛ ومنهم من يتجه نحو بيت المقدس؛ ومنهم من يتجه إلى الكعبة؛ واختلاف الناس كذلك في اتجاههم في العمل: فمنهم من يتجه للتجارة؛ ومنهم من يتجه للحدادة؛ ومنهم من يتجه للنجارة... وهكذا؛ ومثال المعنوية: اختلاف الناس في الملل، والنحل، وما أشبه ذلك. وقوله تعالى: { هو موليها } فيها قراءتان؛ الأولى: بكسر اللام، وياء ساكنة بعدها - { مولِّيها} - على أنها اسم فاعل؛ والقراءة الثانية: بفتح اللام، وألف بعدها - { مولَّاها } - على أنها اسم مفعول؛ فالمعنى على القراءة الأولى: هو متجه إليها؛ والمعنى على القراءة الثانية: هو موجَّه إليها إما شرعاً؛ وإما قدراً؛ وإما شرعاً وقدراً؛ وجملة: { هو موليها }، أو { هو مولاها } في محل رفع صفة لـ{ وجهة }؛ وليس المراد بهذه الجملة إقرار أهل الكفر على كفرهم؛ وإنما المراد - والله أعلم - تسلية المؤمنين، وتثبيتهم على ما هم عليه من الحق؛ لأن لكل أحد وجهة ولَّاه الله إياها حسب ما تقتضيه حكمته. قوله تعالى: { فاستبقوا الخيرات } أمر من الاستباق؛ والمراد به التسابق إلى الخيرات؛ وتعدّى بنفسه دون حرف الجر كأنه ضُمِّن معنى افعلوا على وجه المسابقة؛ وفائدة تضمين الفعل فعلاً آخر لأجل أن يدل التضمين على المعنيين، كقوله تعالى: {عيناً يشرب بها عباد الله} [الإنسان: 6] . قوله تعالى: { أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً }؛ «أين» شرطية؛ و «ما» زائدة للتوكيد؛ و{ تكونوا } فعل الشرط مجزوم بحذف النون؛ والواو فاعل؛ لأن «كان» هنا تامة؛ وليست ناقصة؛ يعني: أينما توجدوا يأت بكم الله؛ و{ يأت } جواب الشرط مجزوم بحذف الياء؛ والكسرة قبلها دليل عليها. وقوله تعالى: { أينما تكونوا } في برّ، أو بحر، أو جوّ فإن الله يأتي بكم جميعاً، وذلك يوم القيامة، حيث يحشر الله الأولين، والآخرين في مقام واحد. قوله تعالى: { إن الله على كل شيء قدير }: هذه جملة خبرية مؤكدة بـ{ إن }؛ عامة في كل شيء من موجود، أو معدوم؛ و «القدرة» صفة تقوم بالقادر بحيث يفعل الفعل بلا عجز. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: أن الأمم قد تختلف مناهجها ــــ وإن اتفقت على أصل واحد؛ وهو الإسلام؛ ونعني بـ«الإسلام» المعنى العام؛ وهو الاستسلام لله بشرائعه القائمة التي لم تُنسَخ. 2ــــ ومنها: أن الإنسان يجب عليه أن يتبع الحق أينما كان؛ ولا ينظر إلى كثرة المخالف؛ لا يقل: الناس على كذا فكيف أشذ عنهم! بل يجب عليه أن يتبع الحق؛ لأن قوله تعالى: { ولكل وجهة } يشمل الوجهة الشرعية، والوجهة القدرية؛ يعني ما وجه الله العباد إليه شرعاً، وما وجههم إليه قدراً؛ الوجهة القدرية معروفة: فمن الناس من يهديه الله تعالى فيكون اتجاهه إلى الحق؛ ومن الناس من يُخذَل فيَضل، ويكون اتجاهه إلى الباطل؛ فالوجهة التي يتبعها المشركون، واليهود، والنصارى، وما أشبه ذلك هذه وجهة قدرية؛ أما شرعية فلا؛ لأن الله ما شرع الكفر أبداً؛ ولا شرع شيئاً من خصال الكفر؛ والوجهة الشرعية: اختلاف الشرائع بين الناس؛ فلا تظن أن اختلاف الشريعة الإسلامية عن غيرها معناه أنها ليست حقاً؛ فإنها الحق من الله. 3ــــ ومن فوائد الآية: وجوب المسابقة إلى الخير؛ لقوله تعالى: { فاستبقوا الخيرات }. 4ــــ ومنها: أن الأمر يقتضي الفورية؛ لأن الاستباق إلى الخير لا يكون إلا بالمبادرة إلى فعله؛ فهذه الآية مما يستدل به على أن الأمر المطلق للفورية. 5ــــ ومنها: البلاغة التامة في قوله تعالى: { فاستبقوا الخيرات } دون «استبقوا إلى الخيرات» - وإن كان بعض الناس يقولون: إنها نُزِع منها حرف الجر؛ وليس بصحيح؛ لأن { فاستبقوا الخيرات } يشمل الاستباق إليها، والاستباق فيها؛ فليس معناه: إذا وصلت إلى الخير فإنك تقف؛ بل حتى في نفس فعلك الخير كن مسابقاً؛ وهذا يشبهه قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] ؛ فالمطلوب أن يصل الإنسان إلى الصراط، ويستمر فيه؛ ولهذا قال تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] . 6ــــ ومن فوائد الآية: إحاطة الله تعالى بالخلق أينما كانوا؛ لقوله تعالى: { أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً }. 7ــــ ومنها: الإشارة إلى البعث؛ لأن الإتيان بالجميع يكون يوم القيامة. 8ــــ ومنها: إثبات عموم قدرة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { إن الله على كل شيء قدير }؛ وقد قال الله تعالى: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً} [فاطر: 4]. وهناك كلمة يقولها بعض الناس فيقول: «إن الله على ما يشاء قدير»؛ وهذا لا ينبغي: أولاً: لأنه خلاف إطلاق النص؛ فالنص مطلق. ثانياً: لأنه قد يفهم منه تخصيص القدرة بما يشاء الله دون ما لم يشأ؛ والله قادر على ما يشاء، وعلى ما لا يشاء. ثالثاً: أنه قد يفهم منه مذهب المعتزلة القدرية الذين قالوا: «إن الله عزّ وجلّ لا يشاء أفعال العبد؛ فهو غير قادر عليها». ولهذا ينبغي أن نطلق ما أطلقه الله لنفسه، فنقول: إن الله على كل شيء قدير؛ أما إذا جاءت القدرة مضافة إلى فعل معين فلا بأس أن تقيد بالمشيئة، كما في قوله تعالى: {وهو على جمعهم إذا يشاء قدير} [الشورى: 29] ؛ فإن {إذا يشاء} عائدة على «الجمع» ؛ لا على «القدرة» ؛ فهو قدير على الشيء شاءه، أم لم يشأه؛ لكن جمعه لا يقع إلا بالمشيئة؛ ومنه الحديث في قصة الرجل الذي أكرمه الله سبحانه وتعالى، فقال: «ولكني على ما أشاء قادر»(1)؛ لأنه يتكلم عن فعل معين؛ ولهذا قال: «قادر» : أتى باسم الفاعل الدال على وقوع الفعل دون الصفة المشبهة ــــ «قدير» ــــ الدالة على الاتصاف بالقدرة. القــــــــرآن { )وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:149) التفسير: { 149 } قوله تعالى: { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام }؛ ما أعظم هذا الحدث؛ ولهذا أكده الله عدة مرات؛ { من } حرف جر؛ و{ حيث } مبنية على الضم؛ قال ابن مالك في عدّ المبنيات: كأينَ أمسِ حيثُ والساكن كمْ و{ خرجت }: الخطاب هنا إما أن يكون للرسول (ص)؛ وإما أن يكون لكل من يتأتى خطابه؛ أي من حيث خرجت أيها الإنسان { فول وجهك شطر المسجد الحرام } أي مستقبلاً له؛ وذلك عند الصلاة؛ و{ شطر المسجد } أي جهة المسجد؛ و{ المسجد الحرام } هو المسجد الذي فيه الكعبة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام...»(2)؛ بل لقوله تعالى: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله} [الفتح: 25] ؛ ووصِف بالحرام لاحترامه، وتعظيمه. قوله تعالى: { وإنه } أي توليك شطر المسجد الحرام { للحق } اللام هنا للتوكيد؛ فالجملة هنا مؤكدة بمؤكدين؛ أحدهما: «إن» ؛ والثاني: اللام؛ و «الحق» هو الشيء الثابت؛ لأنه محقوق ــــ أي مثبت؛ ومنه قوله تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون} [يونس: 96] : {حقت} بمعنى ثبتت، ووجبت. قوله تعالى: { من ربك } تقدم الكلام عليها، وأنها ربوبية خاصة. قوله تعالى: { وما الله بغافل }: الباء حرف جر زائد للتوكيد؛ والأولى أن نقول: «الباء للتوكيد» فقط؛ ولا نقول: «زائد»؛ لئلا يفهم السامع أن في القرآن ما ليس له معنى؛ و{ غافل } خبر { ما } منصوب بفتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر؛ و «الغفلة» الذهول. قوله تعالى: { عما تعملون } بالتاء: خطاب للمسلمين؛ وفي قراءة: { عما يعملون } بالياء: خطاب لهؤلاء الذين اعترضوا على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله تعالى ليس بغافل عنهم؛ بل سوف يجازيهم بما يستحقون. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: وجوب التوجه إلى المسجد الحرام أينما كان الإنسان؛ لقوله تعالى: { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام }؛ وسبق ذكر ما يستثنى من ذلك عند قوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء...} [البقرة: 144] الآية(1). 2ــــ ومنها: تكرار الأمر الهام لتثبيته، والثبات عليه، ودفع المعارضة فيه؛ لأنه كلما كرر كان مقتضاه أن الأمر ثابت محكم يجب الثبوت عليه؛ وكون المسلمين ينقلون من وجهة إلى وجهة في القبلة أمر هام له شأن عظيم؛ ولهذا ارتد من ارتد من الناس حين حوِّلت القبلة. 3ــــ ومنها: إثبات حرمة المسجد الحرام، وتعظيمه؛ لقوله تعالى: { المسجد الحرام }؛ فالمسجد محترم معظم؛ حتى ما حوله صار محترماً معظماً؛ فالبلد كله آمن حتى الأشجار التي لا إحساس لها آمنة في هذا المكان؛ ولهذا حرم النبي صلى الله عليه وسلم أن يختلى خلاها، أو يعضد شوكها(2)، أو يقطع شجرها(3)، كل هذا لاحترام هذا المكان، وتعظيمه. 4ــــ ومنها: أن التوجه إلى الكعبة هو الحق؛ لقوله تعالى: { وإنه للحق من ربك } فأثبت فيه الحقية مؤكداً بـ{ إن }، واللام. 5ــــ ومنها: كمال علم الله سبحانه وتعالى، ومراقبته لخلقه؛ لقوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون }. 6ــــ ومنها: إضافة العمل إلى الإنسان، فيكون فيه رد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { عما تعملون}؛ ولا شك أن الإنسان يضاف إليه عمله؛ وعمله: كسبه - إن كان في الخير - واكتسابه - إن كان في الشر - كما قال تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286] . والناس في هذه المسألة ــــ أعني مسألة أعمال العباد ــــ ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: من يرون أن الإنسان مجبر على العمل؛ لا يفعل شيئاً باختيار أبداً؛ وما فعله الاختياري إلا كفِعله الاضطراري: فمن نزل من السطح على الدرج درجة درجة هو كمن سقط بدون علمه من أعلى السطح؛ وهذا مذهب الجبرية من الجهمية؛ وهو مذهب باطل ترده الأدلة السمعية، والعقلية. القسم الثاني: من يرون أن الإنسان مستقل بعمله، وأن الله سبحانه وتعالى لا يصرِّف العبد إطلاقاً؛ فالعبد له الحرية الكاملة في عمله، ولا تعلق لمشيئة الله به، ولا تعلق لتقدير الله، وخلقه بعمل الإنسان، وهذا مذهب المعتزلة القدرية؛ وهو مذهب باطل للأدلة السمعية، والعقلية. وكلا القسمين مع بطلانهما يلزم عليهما لوازم باطلة . القسم الثالث: يرون أن فعل العبد باختياره؛ وله تعلق بمشيئة الله؛ فمتى فعل العبد الفعل علمنا أن الله تعالى قد شاءه، وقدره؛ وأنه لا يمكن أن يقع في ملك الله ما لا يريد؛ بل كل ما وقع فهو مراد لله مخلوق له؛ ووجه كون فعل العبد مخلوقاً لله: أن الإنسان مخلوق لله؛ وفعله كائن بأمرين: بعزيمة صادقة؛ وقدرة؛ والله عزّ وجلّ هو الذي خلق العزيمة الصادقة، والقدرة؛ فالإنسان بصفاته، وأجزائه، وجميع ما فيه كله مخلوق لله عزّ وجلّ. هذا القول الوسط هو الذي تجتمع فيه الأدلة جميعاً؛ لأن الذين قالوا: «إن الإنسان مجبر» أخذوا بدليل واحد، وأطلقوا من أيديهم الدليل الآخر؛ والذين قالوا: «إنه مستقل» أخذوا بدليل واحد، وأطلقوا الدليل الثاني من أيديهم؛ لكن أهل السنة، والجماعة ــــ والحمد لله ــــ أخذوا بأيديهم بالدليلين؛ وقالوا: الإنسان يفعل باختياره؛ ولكن تصرفه تحت مشيئة الله عزّ وجلّ؛ ولهذا إذا وقع الأمر بغير اختياره رُفع عنه حكمه: فالنائم لا حكم لفعله، ولا لقوله؛ والمكره على الشيء لا حكم لفعله، ولا لقوله؛ بل أبلغ من ذلك: الجاهل بالشيء لا حكم لفعله مع أنه قد قصد الفعل؛ لكنه لجهله يعفى عنه؛ كل ذلك يدل على أن الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده. الـقـــــــــرآن { )وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (البقرة:150) التفسير: { 150 } قوله تعالى: { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام } هذه الجملة تقدم الكلام عليها؛ وكررت للتوكيد، وبيان الأهمية، والتوطئة لما بعدها؛ وهو قوله تعالى: { لئلا يكون للناس عليكم حجة }؛ { لئلا اللام هنا للتعليل اقترنت بها «أن» المصدرية، و «لا» النافية؛ و{ يكون } فعل مضارع منصوب بـ «أن» المصدرية؛ ولا يضر الحيلولة بين الناصب والمنصوب بــ «لا» النافية؛ و{ حجة } اسم { يكون } إن كانت ناقصة؛ أو فاعل إن كانت تامة؛ والمراد بـ «الناس» كل من احتج على المسلمين بتحولهم من بيت المقدس إلى الكعبة؛ وقد احتج على المسلمين في هذه المسألة اليهود، والمشركون، والمنافقون؛ فالحجة التي احتج بها اليهود لها جهتان: الأولى: أنهم قالوا: إن الرجل ترك ملتنا إلى ملة آبائه. والجهة الثانية: أنه لو بقي على استقبال بيت المقدس لقالوا: ليس هذا النبي هو الذي جاء وصفه في التوراة. وأما حجة المشركين فقالوا: إنه متبع هواه؛ فقد داهن اليهود أول أمره، ثم عاد، واستقبل الكعبة؛ وقالوا: «هذا الرجل خالفنا في عقيدتنا وخالفنا في ملتنا حين هاجر إلى المدينة، ثم رجع إلى قبلتنا؛ فسيرجع إلى ديننا». وأما حجة المنافقين فقالوا: إن هذا الرجل لا يثبت على دينه؛ ولو كان نبياً حقاً لثبت على دينه. وهذه عادة أهل الباطل يموِّهون، ويقلبون الحق باطلاً؛ لأنهم يريدون غرضاً سيئاً؛ بل إن تحوله إلى استقبال الكعبة مع هذه الاعتراضات، والمضايقات دليل على أنه رسول الله حقاً فاعل ما يؤمر به. وقوله تعالى: { عليكم }: الضمير يعود على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ لأن كل حجة يُحتج به على الرسول للتلبيس وإبطال الدعوة، فهي في الحقيقة حجة على جميع أتباعه؛ لأن أتباعه إنما تبعوه لأنه على الحق؛ فإذا جاء من يُلَبِّس صار ذلك تلبيساً على جميعهم ــــ التابع، والمتبوع. وقوله تعالى: { حجة } أي حجة باطلة؛ ولا يلزم من الاحتجاج قبوله، كما قال تعالى: {والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم} [الشورى: 16] أي باطلة. قوله تعالى: { إلا الذين ظلموا منهم }؛ المراد بهم المعاندون المكابرون الذين لا يَرْعَوون للحق مهما تبين؛ واختلف في الاستثناء أهو متصل، أم منقطع؟ فمنهم من قال: إنه متصل؛ ومنهم من قال: إنه منقطع، و{ إلا بمعنى «لكن»؛ يعني: لئلا يكون للناس عليكم حجة؛ لكن الذين ظلموا منهم لن تنجوا من محاجتهم، ومخاصمتهم؛ ومن قال: «إنه متصل» قال: يكون { الذين ظلموا } مستثنى من «الناس» ؛ لأن الناس منهم ظالم؛ ومنهم من ليس بظالم؛ والأقرب عندي ــــ والله أعلم ــــ أن الاستثناء منقطع؛ لأن قوله تعالى: { لئلا يكون للناس عليكم حجة } هذا عام شامل؛ لكن من ظلَم من اليهود، أو المشركين، فإنه لن يرعوي بهذه الحكمة التي أبانها الله عزّ وجلّ. قوله تعالى: { فلا تخشوهم واخشوني } يعني مهما قال الذين ظلموا من كلام، ومهما قالوا من زخارف القول، ومهما ضايقوا من المضايقات فلا تخشوهم؛ و«الخشية»، و«الخوف» متقاربان؛ إلا أن أهل العلم يقولون: إن الفرق أن «الخشية» لا تكون إلا عن علم؛ لقوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28] بخلاف «الخوف»: فقد يخاف الإنسان من المخوف وهو لا يعلم عن حاله؛ والفرق الثاني: أن «الخشية» تكون لعظم المخشيّ؛ و«الخوف» لضعف الخائف ــــ وإن كان المخوف ليس بعظيم، كما تقول مثلاً: الجبان يخاف من الجبان ــــ يخاف أن يكون شجاعاً؛ وعلى كل حال إن صح هذا الفرق فهو ظاهر؛ لكن الفرق الأول واضح؛ وهو أن «الخشية» إنما تكون عن علم. وأتى بالأمر { واخشوني } بعد النهي؛ لأنه كما يقال: التخلية قبل التحلية؛ أزِلْ الموانع أولاً، ثم أثبت؛ فأولاً فرِّغ قلبك من كل خشية لغير الله، ثم مكن خشية الله من قلبك؛ فأنت أزل الشوائب حتى يكون المحل قابلاً؛ فإذا كان المحل قابلاً فحينئذٍ يكون الوارد عليه وارداً على شيء لا ممانعة فيه؛ والأمر هنا للوجوب بلا شك؛ الواجب على المرء أن يخشى الله وحده. قوله تعالى: { ولأتم نعمتي عليكم } معطوفة على قوله تعالى: { لئلا يكون }؛ وإتمام الشيء: بلوغ غايته؛ والغالب أنه يكون في الكمال؛ و «النعمة» هي ما ينعَم به الإنسان؛ ويقال: «نِعمة» بكسر النون؛ ويقال: «نَعمة» بالفتح؛ لكن الغالب في نعمة الخير أن تكون بالكسر؛ و«النَّعمة» بالفتح: التنعم من غير شكر، كما قال تعالى: {ونعمة كانوا فيها فاكهين} [الدخان: 27] ، وقال تعالى: {وذرني والمكذبين أولي النَّعمة} [المزمل: 1ونزلت هذه الآية في أول الهجرة عند تحويل القبلة ــــ يعني في السنة الثانية ــــ ولا يعارضها قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} [المائدة: 3] ؛ وقد نزلت في يوم عرفة في حجة الوداع؛ لأن المراد في آية المائدة: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} الإتمام العام في كل الشريعة؛ أما هنا: {ولأتم نعمتي عليكم} [البقرة: 150] : في هذه الشريعة الخاصة ــــ وهي استقبال الكعبة بدلاً عن بيت المقدس؛ لأنه سبق أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقلب وجهه في السماء ينتظر متى يؤمر بالتوجه إلى الكعبة؛ فلا شك أنه من نعمة الله عزّ وجلّ أن أنعم على المسلمين بأن يتجهوا إلى هذا البيت الذي هو أول بيت وضع للناس، والذي ــــ كما قال بعض أهل العلم ــــ هو قبلة جميع الأنبياء، كما ذكره شيخ الإسلام ــــ رحمه الله ــــ ويحتمل وجهاً آخر في الجمع بين الآيتين: بأن هذه الآية جاءت بصيغة المضارع الدال على الاستمرار؛ وآية المائدة بصيغة الماضي الدال على الانتهاء. وأضاف الله سبحانه وتعالى النعمة إليه؛ لأنه عزّ وجلّ صاحبها: هو الذي يسديها، ويولِيها على عباده؛ ولولا نعم الله العظيمة ما بقي الناس طرفة عين؛ وانظر إلى قوله تعالى: {إهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم} [الفاتحة] ؛ في النعمة قال: {أنعمت عليهم}؛ لأن النعمة من الله وحده، كما قال تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله} [النحل: 53] ؛ وأما الغضب على المخالف في دين الله فيكون من الله، ومن أولياء الله من الرسل، وأتباعهم. وقوله تعالى: { ولعلكم تهتدون }؛ «لعل» هنا للتعليل؛ أي: تكتسبون علماً، وعملاً؛ وهذه هي العلة الثانية؛ العلة الأولى: { لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم }؛ والعلة الثانية: { ولأتم نعمتي عليكم والثالثة: { ولعلكم تهتدون }؛ وسيأتي بيان أنواع الهداية. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: تكرير الأمر الهام؛ وذلك لتثبيته، وتَسِرَّ به النفوس، وبيان أهميته. 2ــــ ومنها: وجوب استقبال الكعبة أينما كان الإنسان؛ قال أهل العلم: من أمكنه مشاهدة الكعبة فالواجب إصابة عينها؛ ومن لم تمكنه كفى استقبال جهتها؛ لقوله تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم }؛ وسبق ذكر ما يستثنى من ذلك عند قوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} [البقرة: 144] الآية. 3ــــ ومنها: دفع ملامة اللائمين ما أمكن؛ تعالى: { لئلا يكون للناس عليكم حجة }. 4ــــ ومنها: أن الظالم لا يدفع ملامته شيء؛ بمعنى أنه سيلوم وإن لم يكن محل لوم؛ لقوله تعالى: { إلا الذين ظلموا منهم }. 5ــــ ومنها: أن أهل الباطل يحاجون في الحق لإبطاله؛ ولكن حججهم باطلة. ويتفرع على هذه الفائدة: أنه ينبغي للإنسان أن يعرف شبه المخالفين التي يدعونها حججاً لِيَنْقَضَّ عليهم منها، فيبطلها؛ قال الله تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون} [الأنبياء: 18] . 6ــــ ومن فوائد الآية: وجوب تنفيذ شريعة الله عزّ وجلّ، وألا يخشى الإنسان لومة لائم. 7ــــ ومنها: وجوب خشية الله تعالى؛ لأنه هو الذي بيده النفع، والضرر. 8ــــ ومنها: نعمة الله ــــ تبارك وتعالى ــــ على هذه الأمة، وفضله، وإحسانه؛ لقوله تعالى: { ولأتم نعمتي عليكم }. 9ــــ ومنها: إثبات حكمة الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { ولأتم... ولعلكم تهتدون }. 10ــــ ومنها: أن تنفيذ أوامر الله، وخشيته سبب للهداية؛ والهداية نوعان: هداية علمية؛ وهداية عملية؛ ويقال: هداية الإرشاد؛ وهداية التوفيق. فـ«الهداية العلمية» معناها أن الله يفتح على الإنسان من العلم ما يحتاج إليه لأمور دينه ودنياه. و«الهداية العملية» أن يوفق للعمل بهذا العلم. الأولى: وسيلة، والثانية: غاية؛ ولهذا لا خير في علم بدون عمل؛ بل إن العلم بدون عمل يكون وبالاً على صاحبه؛ والهداية هنا شاملة للعلمية، والعملية؛ ووجه كونها شاملة: أنهم لم يعلموا أن مرضاة الله بالتوجه إلى الكعبة إلا بما علمهم الله؛ ثم إن الله وفقهم للعمل به؛ فلم يمانعوا أبداً؛ بل إن أهل قباء أتاهم الخبر وهم يصلون صلاة الفجر وكانوا متجهين إلى بيت المقدس، فاستداروا إلى الكعبة؛ فصار الإمام نحو الجنوب، والمأمومون نحو الشمال؛ هذه هداية عملية عظيمة؛ لأن انتقال الإنسان إلى ما أمره الله به بهذه السهولة مع توقع المعارضات، والمضايقات يدل على قوة إيمانهم، وثقتهم بربهم سبحانه وتعالى؛ وهكذا يجب على كل مؤمن إذا جاء أمر الله أن يمتثل الأمر؛ وسيجعل الله له من أمره يسراً؛ لأن تقوى الله فيها تيسير الأمور؛ لقوله تعالى: { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً }. 11ــــ ومنها: إثبات الحكمة في أفعال الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { ولعلكم تهتدون }. القـــــــرآن { )كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة:151) التفسير: { 151 } قوله تعالى: { كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم }؛ هذه أيضاً منّة رابعة وجهت إلى المؤمنين؛ والثلاث قبلها هي: قوله تعالى: {لئلا يكون للناس عليكم حجة} [البقرة: 150] ، وقوله تعالى: {ولأتم نعمتي عليكم} [البقرة: 150] ، وقوله تعالى: {ولعلكم تهتدون} [البقرة: 150] ؛ يعني أن نعمة الله عزّ وجلّ علينا بالتوجه إلى الكعبة بدلاً عن بيت المقدس عظيمة، كما أن نعمته علينا بالرسول صلى الله عليه وسلم عظيمة؛ و «الإرسال» بمعنى البعث؛ يعني أنه مرسل من الله سبحانه وتعالى. قوله تعالى: { يتلو عليكم آياتنا } يعني: يقرأ عليكم آياتنا؛ فيأتي بها كما سمع. قوله تعالى: { ويزكيكم } أي ويطهركم، وينمي أخلاقكم، ودينكم. قوله تعالى: { ويعلمكم الكتاب } أي القرآن؛ وكان العرب أُميين لا يقرؤون، ولا يكتبون إلا النادر منهم. قوله تعالى: { والحكمة }: هي أسرار الشريعة، وحسن التصرف بوضع كل شيء في موضعه اللائق به - بعد أن كانوا في الجاهلية يتصرفون تصرفاً أهوج من عبادة الأصنام، وقتل الأولاد، والبغي على العباد... قوله تعالى: { ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } أي من أمور الدين، والدنيا؛ وهذه الجملة لتقرير ما سبق من تعليمهم الكتاب، والحكمة. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: بيان نعمة الله تعالى علينا بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: { كما أرسلنا فيكم رسولاً }؛ لأن هذه الآية متعلقة بقوله تعالى: {ولأتم نعمتي عليكم} [البقرة: 150] ؛ فإن هذا من تمام النعمة؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليُعبَد بما شرع؛ ولا يمكن أن نعرف أن هذا مما يرضاه الله أن نتعبده به، وهذا مما لا يرضاه إلا بواسطة الرسل؛ ولو أن الإنسان وكِل إلى عقله في العبادة ما عرف كيف يعبد الله؛ ولو وكِل إلى عقله في العبادة ما اجتمع الناس على عبادة الله: لكان كل واحد يقول: هذا هو الصواب؛ ولو أن الإنسان وكل إلى عقله في العبادة ما كانت أمتنا أمة واحدة؛ فعلى كل حال لا يمكن لنا بمجرد عقولنا أن ندرك كيف نعبد الله؛ ومَثَل يسير يبين ذلك: لو أُمرنا بالتطهر للصلاة ــــ ولم يبين لنا الكيفية ــــ لتنازع الناس في ذلك؛ وأخذ كلٌّ برأيه؛ فافترقت الأمة؛ فلولا أن الله أبان لنا كيف نعبده ما عرفنا كيف نعبده، فهذا من نعمة الله علينا من إرسال هذا الرسول محمداً (صلى الله عليه وسلم) الذي بين لنا كل شيء؛ ولهذا قال أبو ذر رضي الله عنه: «تركنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا عندنا منه علم»(1)؛ حتى الطيور في السماء علمنا عنها الرسول صلى الله عليه وسلم. 2ــــ ومن فوائد الآية: أن كون الرسول مِنّا يقتضي أن تكون قريش أول من يصدق به؛ لأنهم يعرفونه، ويعرفون نسبه، ويعرفون أمانته؛ ولهذا وبخهم الله تعالى على الكفر به، ووصْفِه بالضلال، والجنون، فقال جل وعلا: {ما ضل صاحبكم وما غوى} [النجم: 2] ، وقال جل وعلا: {وما صاحبكم بمجنون} [التكوير: 22] . 3ــــ ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ جميع ما أوحي إليه على وجه الكمال؛ لقوله تعالى: { يتلو عليكم آياتنا }؛ فإن هذا يدل على أن جميع الآيات التي أوحاها الله إليه قد تلاها؛ ولهذا القرآن ــــ والحمد لله ــــ مبين لفظه، ومعناه؛ ليس فيه شيء يشتبه على الناس إلا اشتباهاً نسبياً بحيث يشتبه على شخص دون الآخر، أو في حال دون الأخرى؛ قال الله تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه} [القيامة: 17 ــــ 19] . 4ــــ ومنها: أن من فوائد رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حصول العلم؛ لأن هذه الآيات كلها علم؛ لقوله تعالى: { يتلو عليكم آياتنا }. 5ــــ ومنها: أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو من آيات الله الدالة على كمال ربوبيته، وسلطانه، ورحمته، وحكمته سواء كان من الآيات الكونية، أو الشرعية؛ لكن منها ما هو بيِّن ظاهر؛ ومنها ما يخفى على كثير من الناس إلا الراسخين في العلم؛ ومنها ما هو بيْن ذلك. 6ــــ ومنها: أن الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم كلها تزكية للأمة، وتنمية لأخلاقها، ودعوة إلى الأخلاق الفاضلة؛ ولهذا كان من القواعد المقررة في الشريعة أنها تأتي بالمصالح الخالصة، أو الراجحة، وتنهى عن المفاسد الخالصة، أو الراجحة؛ فالخمر فيه مصالح، ومفاسد؛ لكن مفاسده راجحة؛ ولهذا حرم؛ الحجر على السفيه فيه مصالح، وفيه مفاسد؛ لكن مصالحه راجحة؛ فلذلك قدمت المصالح؛ أو مصالح خالصة ــــ فليس فيها مفاسد، كعبادة الله مثلاً؛ هذه قاعدة الشريعة؛ ولهذا قال تعالى: { ويزكيكم }. 7ــــ ومن فوائد الآية: أن كل ما فيه تزكية للنفوس فإن الشريعة قد جاءت به؛ لقوله تعالى: { ويزكيكم 8ــــ ومنها: أن وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومهمته التي جاء بها أنه يعلمنا الكتاب والحكمة. 9ــــ ومنها: الرد على أهل التأويل، وأهل التجهيل؛ لقوله تعالى: { يعلمكم الكتاب } ــــ أهل التأويل الذين يؤولون آيات الصفات ــــ لأنه لو كان هذا التأويل من العلم لعلمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما لم يعلمنا إياه علمنا أنه ليس من العلم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وأهل التجهيل ــــ وهم طائفة يقولون: «إن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، والأمة كلها لا تعلم معاني آيات الصفات، وأحاديثها؛ فلا يدرون ما معناها؛ حتى النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بالحديث من صفات الله ولا يدري معناها»!!! 10ــــ ومن فوائد الآية: أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم الأمة لفظ القرآن، ومعناه؛ ولهذا إذا استشكل الصحابة شيئاً من المعنى سألوه، فعلمهم؛ ولكن الغالب أنهم لا يستشكلون؛ لأنه نزل بلغتهم، وفي عصرهم، يعرفون معناه، ومغزاه، وأسبابه. 11ــــ ومنها: اشتمال الشريعة على الحكمة؛ لقوله تعالى: { ويعلمكم الكتاب والحكمة }؛ فالشريعة متضمنة للحكمة تضمناً كاملاً؛ فما من شيء من مأموراتها، ولا منهياتها، إلا وهو مشتمل على الحكمة؛ لكن هنا حكمة لازمة لكل حكم؛ وهو طاعة الله ورسوله؛ فإن هذه أعظم حكمة؛ وهي ثابتة فيما نعقل حكمته، وفيما لا نعقلها؛ ولهذا لما قالت المرأة لعائشة رضي الله عنها: «ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة»(1)؛ فبينت الحكمة من ذلك؛ وهو طاعة الله، ورسوله؛ وهذه حكمة لازمة في كل حكم سواء عقل معناه، أو لم يُعقَل. 12ــــ ومن فوائد الآية: أن الأصل في الإنسان الجهل؛ لقوله تعالى: { ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون }؛ وهو مما يدل على نقص الإنسان، حيث كان الأصل فيه الجهل؛ قال تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً} [النحل: 78] ؛ ثم قال عزّ وجلّ: {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} [النحل: 78] ؛ فبين طرق العلم: {السمع والبصر}؛ وبهما الإدراك؛ و {الأفئدة} ؛ وبها الوعي، والحفظ. 13ــــ ومنها: فضل الله عزّ وجلّ، حيث علمنا ما لم نكن نعلم؛ لقوله تعالى: { ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون }؛ وهذا عام في كل ما نحتاج إلى العلم به من أمور الدنيا، والآخرة. إذا قال قائل: «اضربوا لنا مثلاً» فماذا نقول؟ فالجواب: أن كل الشريعة مثال؛ فإننا لا نعرف كيف نصلي إلا بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولا كيف نتوضأ، ولا مقدار الواجب في الأموال من الزكاة، ولا مَن تُصرف إليهم الزكاة، ولا غير ذلك من أمور الشريعة إلا بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهناك أحكام قدرية لا نعرفها أيضاً علمنا الله سبحانه وتعالى إياها، كابتداء الكون، ونهايته: كخلق السموات، والأرض؛ واليوم الآخر؛ إذاً فعلومنا الشرعية، والقدرية متلقاة من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وليس لنا علم بها قبل تعليم النبي صلى الله عليه وسلم. القـــــرآن { )فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (البقرة:152) التفسير: { 152 } قوله تعالى: { فاذكروني أذكركم }؛ «اذكروني» فعل أمر؛ فيه نون الوقاية؛ والياء مفعول به؛ والواو فاعل؛ وجواب فعل الأمر: { أذكركم }. فقوله تعالى: { فاذكروني أذكركم } عمل، وجزاء؛ العمل: ما أفاده قوله تعالى: { اذكروني }؛ والجزاء: ما أفاده قوله تعالى: { أذكركم }؛ وذِكر الله يكون بالقلب، واللسان، والجوارح. وقوله تعالى: { فاذكروني } فيها قراءة بفتح الياء؛ وقراءة بإسكانها؛ لأن ياء المتكلم من حيث اللغة العربية يجوز إسكانها، وفتحها، وحذفها تخفيفاً؛ لكنها في القرآن تتوقف على السماع. قوله تعالى: { واشكروا لي }؛ { اشكروا } فعل أمر من «شكر»؛ أي قوموا بالشكر؛ واللام للاختصاص؛ و «الشكر» هو القيام بطاعة المنعم؛ وقد اختلف علماء العربية هل: { واشكروا لي } بمعنى «اشكروني»؛ أي أن الفعل يتعدى بنفسه تارة، وباللام أخرى؛ أو أن بينهما فرقاً؟ فقال بعضهم: هي بمعناها، فيقال: شكره؛ ويقال: شكر له؛ وقال بعضهم: إنها ليست بمعناها؛ وأن «شكر» تتعدى بنفسها دائماً، وأن المفعول هنا في نحو { واشكروا لي } محذوف؛ يعني: اشكروا لي ما أنعمت عليكم، أو نعمتي، أو ما أشبه ذلك؛ والخلاف في هذا قريب؛ لأن الجميع متفقون على أن المراد شكر الله عزّ وجلّ على نعمته. قوله تعالى: { ولا تكفرون }؛ { لا } ناهية؛ والنون هنا نون الوقاية، وليست نون الإعراب؛ ومثله قوله تعالى: {فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون} [الذاريات: 59] ؛ ولهذا كانت مكسورة فيهما؛ و{ لا تكفرون } أي لا تجحدوني، أو تجحدوا نعمتي؛ بل قوموا بشكرها، وإعلانها، وإظهارها. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: وجوب ذكر الله؛ للأمر به؛ مطلق الذكر واجب: يجب على كل إنسان أن يذكر ربه؛ بل كل مجلس يجلسه الإنسان ولا يذكر الله فيه، ولا يصلي على النبي إلا كان عليه ترة ــــ أي خسارة، وحسرة يوم القيامة؛ فالعبد مأمور بذكر الله؛ لكن ذكر الله ينقسم إلى فريضة من فرائض الإسلام؛ وإلى واجب من واجباته؛ وإلى سنة من سننه ــــ بحسب ما تقتضيه الأدلة؛ إنما مطلق الذكر حكمه أن واجب. 2ــــ ومنها: أن مَنْ ذَكر الله ذكره الله؛ لقوله تعالى: { أذكركم }؛ وكون الله يذكرك أعظم من كونك تذكره؛ ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي؛ ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه»(1)؛ وذكر الله يكون بالقلب، وباللسان، وبالجوارح؛ فالأصل ذكر القلب كما قال (ص): «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله؛ وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب»(2) فالمدار على ذكر القلب؛ لقوله تعالى: { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه} [الكهف: 28؛ وذكر الله باللسان، أو بالجوارح بدون ذكر القلب قاصر جداً، كجسد بلا روح؛ وصفة الذكر بالقلب التفكر في آيات الله، ومحبته، وتعظيمه، والإنابة إليه، والخوف منه، والتوكل عليه، وما إلى ذلك من أعمال القلوب؛ وأما ذكر الله باللسان فهو النطق بكل قول يقرب إلى الله؛ وأعلاه قول: «لا إله إلا الله»؛ وأما ذكر الله بالجوارح فبكل فعل يقرب إلى الله: القيام في الصلاة، والركوع، والسجود، والجهاد، والزكاة، كلها ذكر لله؛ لأنك عندما تفعلها تكون طائعاً لله؛ وحينئذٍ تكون ذاكراً لله بهذا الفعل؛ ولهذا قال الله تعالى: {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} [العنكبوت: 45] ؛ قال بعض العلماء: أي لما تضمنته من ذكر الله أكبر؛ وهذا أحد القولين في هذه الآية. 3ــــ ومن فوائد الآية: فضيلة الذكر؛ لأن به يحصل ذكر الله للعبد؛ وذكر الله للعبد أمر له شأن كبير عظيم؛ فليس الشأن بأن تذكر الله، أو أن تحب الله؛ ولكن الشأن أن يذكرك الله عزّ وجلّ، وأن يحبك الله عزّ وجلّ؛ ولهذا قال الله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31] ؛ فقال تعالى: {يحببكم الله} لأن هذا هو الغاية المطلوبة. 4ــــ ومنها: وجوب الشكر؛ لقوله تعالى: { واشكروا لي }؛ و«الشكر» يكون بالقلب، وباللسان، وبالجوارح؛ ولا يكون إلا في مقابلة نعمة؛ فسببه أخص من سبب «الحمد»؛ ومتعلَّقه أعم من متعلق «الحمد»؛ فيختلفان إذاً من حيث السبب؛ ويختلفان من حيث المتعلق؛ سبب «الحمد» كمال المحمود، وإنعام المحمود؛ فإذا كان سببه إنعام المحمود كان «الحمد» من «الشكر»؛ أما «الشكر» فسببه واحد؛ وهو نعمة المشكور؛ وأما متعلق «الحمد» فيكون باللسان فقط؛ وأما متعلق «الشكر» فثلاثة: يكون باللسان، والقلب، والجوارح؛ وعليه قول الشاعر: أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا فـ«يدي» هذا الشكر بالجوارح؛ و«لساني» هذا الشكر باللسان ــــ يعني القول؛ و«الضمير المحجبا» يعني القلب. والشكر بالقلب أن يعتقد الإنسان بقلبه أن هذه النعمة من الله عزّ وجلّ وحده؛ فيحب الله سبحانه وتعالى لهذا الإنعام؛ ولهذا ورد في الحديث: «أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه»(3)؛ فإن الإنسان إذا شعر بأن هذه النعمة من الله أحب الله سبحانه وتعالى؛ لأن النفوس مجبولة على محبة من يحسن إليها. وأما الشكر باللسان فأن يتحدث الإنسان بنعمه لا افتخاراً؛ بل شكراً؛ قال الله تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدث} [الضحى: 11] ؛ وقال رسول الله (ص): «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر»(1). وأما الشكر بالجوارح فأن يقوم الإنسان بطاعة الله، ويصرف هذه النعمة لما جعلت له؛ فإن هذا من شكر النعمة. 5ــــ ومن فوائد الآية: وجوب ملاحظة الإخلاص؛ لقوله تعالى: { واشكروا لي } يعني مخلصين لله عزّ وجلّ؛ لأن الشكر طاعة؛ والطاعة لا بد فيها من الإخلاص، كما قال تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} [الكهف: 110] . 6ــــ ومنها: تحريم كفر النعمة؛ لقوله تعالى: { ولا تكفرون } ولهذا إذا أنعم الله على عبده نعمة فإنه يحب أن يرى أثر نعمته عليه؛ فإذا أنعم الله عليه بعلم فإن الله يحب من هذا العالم أن يظهر أثر هذه النعمة عليه: أولاً: على سلوكه هو بنفسه بحيث يكون معروفاً بعلمه، وعمله به. ثانياً: بنشر علمه ما استطاع، سواء كان ذلك على وجه العموم، أو الخصوص. ثالثاً: أن يدعو إلى الله على بصيرة بحيث إنه في كل مجال يمكنه أن يتكلم في الدعوة إلى الله بقدر ما يستطيع حتى في المجالس الخاصة فيما إذا دعي إلى وليمة مثلاً، ورأى من المصلحة أن يتكلم فليتكلم؛ وبعض أهل العلم يكون معه كتاب، فيقرأ الكتاب على الحاضرين، فيستفيد، ويفيد؛ وهذا طيب إذا علم من الناس قبول هذا الشيء بأن يكون قد عوَّدهم على هذا، فصاروا يرقبونه منه؛ أما إذا لم يعوِّدهم فإنه قد يثقل عليهم بهذا، ولكن من الممكن أن يفتح المجال بإيراد يورده ــــ سؤالاً مثلاً ــــ حتى ينفتح المجال للناس، ويسألون، وينتفعون؛ لأن بعض طلبة العلم تذهب مجالسهم كمجالس العامة لا ينتفع الناس بها؛ وهذا لا شك أنه حرمان ــــ وإن كانوا لا يأثمون إذا لم يأتوا بما يوجب الإثم؛ فالذي ينبغي لطالب العلم ــــ حتى وإن لم يُسأل ــــ أن يورد هو سؤالاً لأجل أن يفتح الباب للحاضرين، فيسألوا؛ وقد جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، والساعة، وأماراتها؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم»(2)؛ مع أن الذي يجيب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولكن جعله معلماً وهو يسأل؛ لأنه هو السبب في هذا التعليم. القــــــــرآن { )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153) التفسير: { 153 } قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }؛ سبق أن الكلام إذا صدَّر بالنداء فهو دليل على الاهتمام به؛ لأن النداء يوجب التفات المخاطب إلى مناديه؛ وسبق بيان فوائد تصدير الخطاب بوصف الإيمان(3). قوله تعالى: { استعينوا بالصبر والصلاة } أي اجعلوا الصبر عوناً لكم؛ وكذلك استعينوا بالصلاة؛ وسبق الكلام على نظير هذه الجملة(4). قوله تعالى: { إن الله مع الصابرين }: هذه بشرى عظيمة لمن صبر؛ وقال تعالى: { مع الصابرين } لوجوه ثلاثة: الوجه الأول: أن الصلاة من الصبر؛ لأنها صبر على طاعة الله. الوجه الثاني: أن الاستعانة بالصبر أشق من الصلاة؛ لأن الصبر مُرّ: الصبر مثل اسمه مُرٌّ مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل فهو مرٌّ يكابده الإنسان، ويعاني، ويصابر، ويتغير دمه حتى من يراه يقول: هذا مريض. الوجه الثالث: أنه إذا كان مع الصابرين فهو مع المصلين من باب أولى بدليل أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان المصلي يناجي ربه، وأن الله قِبل وجهه(1) - وهو على عرشه سبحانه وتعالى. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآية: فضيلة الإيمان، وأنه من أشرف أوصاف الإنسان؛ لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا... }. 2ــــ ومنها: الإرشاد إلى الاستعانة بالصلاة؛ لقوله تعالى: { استعينوا بالصبر والصلاة }. 3ــــ ومنها: بيان الآثار الحميدة للصلاة، وأن من آثارها الحميدة أنها تعين العبد في أموره. 4ــــ ومنها: جواز الاستعانة بغير الله فيما يمكن أن يعين فيه؛ لقوله تعالى: { واستعينوا بالصبر والصلاة وجاء في الحديث: «وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة»(2). 5ــــ ومنها: أن الاستعانة بالصلاة من مقتضيات الإيمان؛ لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا استعينوا... } إلخ. 6ــــ ومنها: فضيلة الصبر؛ لأنه يعين على الأمور؛ والصبر ثقيل جداً على النفس؛ لأن الإنسان إذا أصابه ضيق، أو بلاء ثقل عليه تحمله، فاحتاج إلى الصبر؛ ولهذا قال الله تعالى للنبي (ص): { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين } [هود: 49] ؛ فقال تعالى: { فاصبر } إشارة إلى أن هذا الوحي الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى صبر، وتحمل؛ لأنه سيجد من ينازع، ويضاد؛ ونظيره قوله تعالى: { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً * فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } [الإنسان: 23، 24] ؛ إذاً الصبر شاق على النفوس؛ لكن يجب على الإنسان أن يصبر؛ ولهذا من لم يوفق للصبر فاته خير كثير؛ والذي يصبر أيضاً غالباً ينتظر الفرج لا سيما إذا صبر بإخلاص، وحسن نية؛ وانتظار الفرج عبادة، وباب للفرج؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «واعلم أن النصر مع الصبر؛ وأن الفرج مع الكرب؛ وأن مع العسر يسراً»(3)؛ لأنه إذا كان منتظراً للفرج هان عليه الصبر؛ لأنه يؤمل أن الأمور ستزول، وأن دوام الحال من المحال؛ فإذا كان يؤمل الأجر في الآخرة، ويؤمل الفرج في الدنيا هان عليه الصبر كثيراً؛ وهذه لا شك من الخصال الحميدة التي جاء بها الإسلام، ودليل على أن الأمور تسهل بالصبر؛ مهما بلغتك الأمور اصبر، فتهون؛ ولهذا جعل الله الصبر عوناً. 7ــــ ومن فوائد الآية: أن في الصبر تنشيطاً على الأعمال، والثبات عليها؛ لقوله تعالى: { إن الله مع الصابرين }؛ فإذا آمن الإنسان بأن الله معه ازداد نشاطاً، وثباتاً؛ وكون الله سبحانه وتعالى مع الإنسان مسدداً له، ومؤيداً له، ومصبِّراً له، لا شك أن هذه درجة عالية كل يريدها؛ ولهذا لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم يتناضلون قال: «ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً وأنا مع بني فلان؛ قال الآخرون: يا رسول الله، إذا كنت معهم فلا نناضل؛ فقال: ارموا وأنا معكم كلكم»(4). 8ــــ ومن فوائد الآية: إثبات معية الله سبحانه وتعالى؛ ومعيته تعالى نوعان: النوع الأول: عامة لجميع الخلق، ومقتضاها الإحاطة بهم علماً، وقدرة، وسلطاناً، وسمعاً، وبصراً، وغير ذلك من معاني ربوبيته؛ لقوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا} [المجادلة: 7] . والنوع الثاني: خاصة؛ ومقتضاها مع الإحاطة: النصر، والتأييد؛ وهي نوعان: مقيدة بوصف ، كقوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128] ؛ و مقيدة بشخص ، كقوله تعالى لموسى، وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] ، وقوله عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40] . القــــــرآن { )وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) (البقرة:154) التفسير: { 154 } قوله تعالى: { ولا تقولوا }؛ { لا } ناهية؛ ولهذا جزمت الفعل؛ وعلامة جزمه حذف النون. قوله تعالى: { لمن يقتل في سبيل الله } أي فيمن يقتل في سبيل الله؛ وهو الذي قاتل لتكون كلمة الله هي العليا. قوله تعالى: { أموات } خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هم أموات. فإن قال قائل: كيف لا نقول أموات وقد ماتوا؟ فالجواب: أن المراد هنا: لا تقولوا: أموات موتاً مطلقاً - دون الموت الذي هو مفارقة الروح للجسد؛ فهذا موجود؛ ولولا أن أرواحهم فارقت أجسادهم لما دفناهم، ولكانوا باقين يأكلون، ويشربون؛ ولكن الموت المطلق لم يقع منهم بدليل الإضراب الإبطالي في قوله تعالى: { بل أحياء } يعني: بل هم أحياء؛ فـ{ أحياء } خبر لمبتدأ محذوف؛ وهي جمع «حي»؛ والمراد: أحياء عند ربهم، كما في أية آل عمران؛ وهي حياة برزخية لا نعلم كيفيتها؛ ولا تحتاج إلى أكل، وشرب، وهواء، يقوم به الجسد؛ ولهذا قال تعالى: { ولكن لا تشعرون } أي لا تشعرون بحياتهم؛ لأنها حياة برزخية غيبية؛ ولولا أن الله عزّ وجلّ أخبرنا بها ما كنا نعلم بها. الفوائد: 1- من فوائد الآية: النهي عن القول بأن الذين قتلوا في سبيل الله أموات؛ وهو يشمل القول بالقلب - وهو الاعتقاد، والقول باللسان - وهو النطق. 2- ومنها: التنبيه على الإخلاص في القتال؛ لقوله تعالى: { في سبيل الله }؛ وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياءً أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال (ص): «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»(1)؛ وهذه مسألة مهمة؛ لأن كثيراً من الناس قد يقصد أن هذا جهاد، فيخرج؛ لأنه جهاد وقتال لأعداء الله؛ لكن كونه يشعر بأن هذا في سبيل الله - أي في الطريق الموصل إلى الله أبلغ. 3- ومن فوائد الآية: إثبات حياة الشهداء؛ لكنها حياة برزخية لا تماثل حياة الدنيا؛ بل هي أجلّ، وأعظم، ولا تعلم كيفيتها. 4- ومنها: أن ثواب الله سبحانه وتعالى للعامل أجلُّ، وأعلى؛ وذلك؛ لأن الشهيد عرض نفسه للموت ابتغاء ثواب الله؛ فأثابه الله، حيث جعله حياً بعد موته حياة برزخية أكمل من حياة الدنيا؛ لقوله تعالى: {عند ربهم يرزقون} [آل عمران: 169] . 5- ومنها: إثبات الحياة البرزخية؛ لقوله تعالى: { بل أحياء }؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا دفن الإنسان رد الله عليه روحه، وجاءه ملكان يسألانه عن ربه، ودينه، ونبيه(2). 6ــــ ومنها: إثبات نعيم القبر؛ لقوله تعالى: { بل إحياء }. 7ــــ ومنها: أن أحوال البرزخ، وعالم الغيب غير معلومة لنا، ولا نشعر بها إلا ما علمنا الله ورسوله. القــــرآن { )وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة:155) التفسير: { 155 } قوله تعالى: { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع... } هذه مصائب خمس؛ والجملة هنا مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم، واللام، والنون؛ والتقدير: واللَّهِ لنبلونكم؛ والفعل هنا مع نون التوكيد مبني على الفتح؛ و «نبلو» بمعنى نختبر. وقوله تعالى: { بشيء }: التنكير هنا للتقليل؛ ويحتمل أن يكون للتكثير. وقوله تعالى: { من الخوف } أي الذُّعْر؛ وهو شامل للخوف العام، والخوف الخاص؛ الخوف العام: كأن تكون البلاد مهددة بعدو؛ والخوف الخاص: كأن يكون الإنسان يبتلى بنفسه بمن يخيفه ويروعه. وقوله تعالى: { والجوع }: هو خلو البطن من الطعام مع شدة اشتهائه؛ وهو ضد «الشِّبع»؛ وله أسباب؛ السبب الأول: قلة الطعام؛ و السبب الثاني: قلة المال الذي يحصل به الطعام؛ والسبب الثالث: أن يصاب الإنسان بمرض يمنعه من الطعام إما لقلة الشهية؛ وإما للعجز عن استساغه لسدَدٍ في الحلق، أو قروح في المعدة، أو غير ذلك؛ والجوع لا يدرك أثره إلا من جربه؛ بل كل المصائب لا يدرك أثرها إلا من جربها؛ أما من لم يجرب فإنه لا يشعر بآثار المصائب؛ ولهذا قيل: وبضدها تتبين الأشياء. قوله تعالى: { ونقص من الأموال }؛ { الأموال } جمع «مال»؛ وهو كل ما يتموله الإنسان من نقود، ومتاع، وحيوان. قوله تعالى: { والأنفس } جمع «نفس»؛ والمراد: الأرواح، كالأمراض الفتاكة التي تهلك بها أمم، مثل الطاعون، وغيره. قوله تعالى: { والثمرات } جمع «ثمرة»؛ وهي ما ينتج من أشجار النخيل، والأعناب، وغيرهما، بأن تأتي كوارث تنقص بها هذه الثمار، أو تتلف. قوله تعالى: { وبشر الصابرين } أي أخبرهم بما يسرهم؛ وسبق معنى الصبر، وأقسامه(1). { 156 } قوله تعالى: { الذين إذا أصابتهم مصيبة }، أي من هذه المصائب التي ذكرها في الآية الأولى. قوله تعالى: { قالوا } أي بقلوبهم، وألسنتهم { إنا لله }: اللام للملك؛ يعني إنا ملك لله يفعل بنا ما يشاء. قوله تعالى: { وإنا إليه راجعون } أي صائرون في جميع أمورنا دنيا، وأخرى؛ فنرجو الذي أصابنا بهذه المصيبة عند رجوعنا إليه أن يجزينا بأفضل منها؛ فهم جمعوا هنا بين الإقرار بالربوبية في قولهم: { إنا لله}، وبين الإقرار، والإيمان بالجزاء الذي يستلزم العمل الصالح؛ لأنهم يقولون: { وإنا إليه راجعون }؛ فنحن نرجو ثوابه مع أنه فعل بنا ما هو ملكه، وبيده؛ وتقديم المتعلق يفيد الحصرَ ــــ أي راجعون إليه لا إلى غيره، ومناسبةَ رؤوس الآي. الفوائد: 1ــــ من فوائد الآيتين: ابتلاء العباد بما ذكر الله من الخوف، والجوع، ونقص الأموال، والأنفس، والثمرات، وهو لمن وقع به ظاهر؛ ولغيرهم يكون الابتلاء بالاعتبار، والخوف أن يقع بهم مثل ما وقع بالذين ابتلوا. 2ــــ ومنها: أن الناس ينقسمون عند المصائب إلى قسمين: صابر، وساخط؛ وقد جاء في الحديث: «من رضي فله الرضا؛ ومن سخط فله السخط»(2)؛ فالصبر على المصائب واجب؛ وقد ذكر العلماء أن للإنسان عند المصيبة أربعة مقامات: المقام الأول: الصبر ــــ وهو واجب. المقام الثاني: الرضا ــــ وهو سنة على القول الراجح؛ والفرق بينه، والصبر، أن الصابر يتجرع مرارة الصبر، ويشق عليه ما وقع؛ ولكنه يحبس نفسه عن السخط؛ وأما الراضي: فإن المصيبة باردة على قلبه لم يتجرع مرارة الصبر عليه؛ فهو أكمل حالاً من الصابر. المقام الثالث: الشكر: بأن يشكر الله على المصيبة. فإن قيل: كيف يشكره على المصيبة؟ فالجواب: أن ذلك من وجوه: منها: أن ينسبها إلى ما هو أعظم منها؛ فينسب مصيبة الدنيا إلى مصيبة الدين؛ فتكون أهون؛ فيشكر الله أن لم يجعل المصيبة في الأشد. ومنها: احتساب الأجر على المصيبة بأنه كلما عظم المصاب كثر الثواب؛ ولهذا ذكروا عن بعض العابدات أنها أصيبت بمصيبة، ولم يظهر عليها أثر الجزع؛ فقيل لها في ذلك، فقالت: إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها. المقام الرابع: السخط - وهو محرم - بل من كبائر الذنوب؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية»(1). 3- ومن فوائد الآيتين: البشرى للصابرين. 4- ومنها: أن من سمة الصابرين تفويض أمرهم إلى الله بقلوبهم، وألسنتهم إذا أصابتهم المصائب؛ لقوله تعالى: { وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون }. 5- ومنها: مشروعية هذا القول؛ وقد جاءت السنة بزيادة: «اللهم أْجُرني في مصيبتي» - أي أثبني عليها - «وأخلف لي» بقطع الهمزة - أي اجعل لي خلفاً «خيراً منها»(2) والدليل على هذا قصة أم سلمة رضي الله عنها: كانت تحب زوجها ابن عمها أبا سلمة محبة شديدة؛ ولما مات - وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد حدثها بهذا الحديث - قالت: «اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها»؛ فكانت تفكر في نفسها، وتقول: من يصير خيراً من أبي سلمة!!!وهي مؤمنة في نفسها أن ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حق؛ لكن لا تدري من هو؛ وما كان يجول في فكرها أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون هو الخلف؛ فأخلف الله لها خيراً من زوجها؛ فإذا قالها الإنسان مؤمناً محتسباً أجرَه الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها. القـــــــرآن )أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة:157) التفسير: { 157 } قوله تعالى: { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة }؛ الإشارة إلى {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله...} [البقرة: 156] إلخ؛ وجاءت بلفظ الإشارة للبعيد للدلالة على علو مرتبتهم، ومنزلتهم، ومقامهم؛ و{ عليهم } خبر مقدم؛ و{ صلوات } مبتدأ مؤخر؛ ولكنه مبتدأ ثانٍ؛ والجملة من المبتدأ الثاني، وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الأول: { أولئك }. وقوله تعالى: { صلوات } اختلف العلماء في معناها؛ ولكن أصح الأقوال فيها أن المراد بها الثناء عليهم في الملأ الأعلى؛ والمعنى أن الله يثني على هؤلاء في الملأ الأعلى رفعاً لذكرهم، وإعلاءً لشأنهم. وقوله تعالى: { ورحمة } عطفها على { الصلوات } من باب عطف العام على الخاص؛ لأن الثناء عليهم في الملأ الأعلى من الرحمة. قوله تعالى: { وأولئك هم المهتدون }، «أولاء» اسم إشارة تعود إلى {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة: 156] ؛ وهي مفيدة للحصر؛ وطريقه: ضمير الفصل؛ و{ المهتدون } أي الذين اهتدوا إلى طريق الحق؛ فإن هذا الكلام الذي يقولونه مع الصبر هو الهداية. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: بيان حكمة الله عزّ وجلّ فيما يبتلي به العباد. 2 ــــ ومنها: عظم ثواب الصبر؛ لقوله تعالى: { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة }. 3 ــــ ومنها: إثبات رحمة الله عزّ وجلّ؛ وهي صفة حقيقية ثابتة لله؛ بها يرحم من يشاء من عباده؛ ومن آثارها حصول النعم، واندفاع النقم. 4 ــــ ومنها: الثناء على الصابرين بأنهم هم المهتدون الذين اهتدوا إلى ما فيه رضا الله وثوابه. القــــــرآن { )إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة:158) التفسير: { 158 } قوله تعالى: { إن الصفا والمروة }: جبلان معروفان؛ يقال للصفا: جبل أبي قبيس؛ وللمروة: قُعَيقعان؛ وهما شرقي الكعبة؛ وقد كانت أم إسماعيل رضي الله عنها تصعد عليهما لتتحسس هل حولها أحد؛ وذلك بعد أن نفد منها التمر، والماء، وتقلص لبنها، وجاع ابنها؛ والقصة مطولة في صحيح البخاري. قوله تعالى: { من شعائر الله }، { من } للتبعيض ــــ يعني بعض شعائر الله؛ و «الشعائر» جمع شعيرة؛ وهي التي تكون عَلَماً في الدين؛ يعني: من معالم الدين الظاهرة؛ لأن العبادات منها خفية: بَيْنَ الإنسان وربه؛ ومنها أشياء عَلَم ظاهر بيِّن ــــ وهي الشعائر. وقوله تعالى: { من شعائر الله } ليس المراد أن نفس الجبل من الشعائر؛ بل المراد الطواف بهما من الشعائر؛ ولهذا قال تعالى: { فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما }؛ وأضيفت الـ{ شعائر} إلى { الله }؛ لأنه هو الذي شرعها، وأثبتها، وجعلها طريقاً موصلاً إليه. قوله تعالى: { فمن حج البيت }؛ «حج» في اللغة بمعنى قصد؛ إذاً { حج البيت } أي قصده لأداء مناسك الحج؛ و{ البيت } هو بيت الله؛ أي الكعبة. قوله تعالى: { أو اعتمر }؛ { أو } للتنويع؛ لأن قاصد البيت إما أن يكون حاجاً؛ وإما أن يكون معتمراً؛ و«العمرة» في اللغة: الزيارة؛ والمراد بها زيارة البيت لأداء مناسك العمرة. قوله تعالى: { فلا جناح عليه }: «لا» نافية للجنس؛ و{ جناح } اسمها؛ وخبرها { أنْ } وما دخلت عليه؛ أي لا جناح عليه في التطوف بهما؛ والـ{ جناح } هو الإثم؛ يعني فلا إثم عليه في أن يتطوف بهما؛ وإنما نفى الإثم؛ لأنهم كانوا يتحرجون من الطواف بهما. قوله تعالى: { أن يطوَّف بهما }: { يطوَّف }أصلها يتطوف؛ ولكن قلبت التاء طاءً لعلة تصريفية؛ فصار { يطوّف }؛ و{ بهما } المراد: بينهما، كما تفسره سنة النبي صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: { ومن تطوع خيراً } أي ازداد خيراً في الطاعة؛ ويشمل الواجب، والمستحب؛ وتخصيص التطوع بالمستحب اصطلاح فقهي؛ أما في الشرع فإنه يشمل الواجب، والمستحب؛ و{ من } شرطية؛ و{ تطوع } فعل الشرط؛ وجواب الشرط جملة: { فإن الله شاكر عليم }؛ و{ خيراً } يجوز في إعرابها وجهان؛ الوجه الأول: أن تكون منصوبة بنزع الخافض؛ والتقدير: ومن تطوع بخير فإن الله شاكر عليم؛ والوجه الثاني: أن تكون مفعولاً لأجله ــــ أي ومن تطوع لأجل الخير، وطلبه فإن الله شاكر عليم. قوله تعالى: { فإن الله شاكر } أي فالله يشكر؛ وهو سبحانه وتعالى شاكر، وشكور؛ وشكره تعالى أنه يثيب العامل أكثر من عمله؛ فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. قوله تعالى: { عليم } أي ذو علم؛ وعلمه تعالى محيط بكل شيء؛ لقوله تعالى: { وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً } [الطلاق: 12] ؛ وقرن العلم بالشكر لاطمئنان العبد إلى أن عمله لن يضيع فإنه معلوم عند الله، ولا يمكن أن يضيع منه شيء؛ يعني: إذا عَلم العامل أن الله تعالى شاكر، وأنه عليم، فإنه سيطمئن غاية الطمأنينة إلى أن الله سبحانه وتعالى سيجزيه على عمله بما وعده به، ويعطيه أكثر من عمله. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: مشروعية الطواف بين الصفا، والمروة؛ ويؤخذ ذلك من كونه من شعائر الله؛ وهل هو ركن، أو واجب، أو سنة؟ اختلف في ذلك أهل العلم على أقوال ثلاثة؛ فقال بعضهم: إنه ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به؛ وقال بعضهم: إنه واجب من واجبات الحج يجبر بدم، ويصح الحج بدونه؛ وقال آخرون: إنه سنة، وليس بواجب. والقول بأنه سنة ضعيف جداً؛ لأن قوله تعالى: { من شعائر الله } يدل على أنه أمر مهم؛ لأن الشعيرة ليست هي السنة فقط؛ الشعيرة هي طاعة عظيمة لها شأن كبير في الدين. بقي أن يكون متردداً بين الركن، والواجب؛ والأظهر أنه ركن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي»(1)؛ وقالت عائشة: «والله! ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة»(2). فالأقرب أنه ركن؛ وليس بواجب؛ وإن كان الموفق ــــ رحمه الله ــــ وهو من مشائخ مذهب الإمام أحمد ــــ اختار أنه واجب يجبر بدم. 2ــــ من فوائد الآية: دفع ما توهمه بعض الصحابة من الإثم بالطواف بالصفا، والمروة؛ لقوله تعالى: { فلا جناح عليه أن يطوف بهما }؛ وعلى هذا فلا ينافي أن يكون الطواف بينهما ركناً من أركان الحج، أو واجباً من واجباته، أو مشروعاً من مشروعاته؛ وذلك أن أناساً من الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية المذكورة في القرآن؛ وهي في المشلّل ــــ مكان قرب مكة ــــ فكانوا يتحرجون من الطواف بالصفا والمروة وقد أهلوا لمناة؛ فلما جاء الإسلام سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية: { فلا جناح عليه أن يطوف بهما }؛ فعلى هذا يكون النفي هنا لدفع ما وقع في نفوسهم من التحرج؛ لأنها من شعائر الله؛ وليس لبيان أصل الحكم. وفيه سبب آخر لتحرج الناس من الطواف بهما: وهو أنهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، فكانوا يطوفون بهما كما كانوا يطوفون بالبيت أيضاً، فذكر الله عزّ وجلّ الطواف بالبيت، ولم يذكر الطواف بالصفا، والمروة؛ فقالوا: لو كان ذلك جائزاً لذكره الله عزّ وجلّ، فهذا دليل على أنه ليس بمشروع؛ لأنه من أعمال الجاهلية؛ فلا نطوف؛ فأنزل الله هذه الآية. وفيه أيضاً سبب ثالث؛ وهو أنه يقال: إنه كان فيهما صنمان: إساف، ونائلة؛ وقيل: إنهما كانا رجلاً وامرأة زنيا في جوف الكعبة؛ فمسخهما الله سبحانه وتعالى حجارة؛ فكان من جهل العرب أن قالوا: «هذان مسخا حجارة؛ إذاً لا بد أن هناك سراً، وسبباً، فاخرجوا بهما عن الكعبة، واجعلوهما على الجبلين ــــ الصفا، والمروة نطوف بهما، ونتمسح بهما»؛ وقد كان؛ وعلى هذا يقول أبو طالب: وحيث يُنيخ الأشعرون ركابهم بمفضى السيول من إسافٍ ونائل و«مفضى السيول» مجرى الوادي المعروف الذي بين الصفا، والمروة؛ فالحاصل أن هذه ثلاثة أسباب في نزول الآية؛ وأظهرها السبب الأول؛ على أنه لا مانع من تعدد الأسباب. 3ــــ ومن فوائد الآية: أن الطواف بالصفا والمروة من طاعة الله؛ لقوله تعالى: { ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم }. 4ــــ ومنها: أن الطاعة خير؛ لقوله تعالى: { ومن تطوع خيراً }؛ ولا ريب أن طاعة الله سبحانه وتعالى خير للإنسان في حاله ومآله. 5ــــ ومنها: إثبات اسم «الشاكر» لله؛ لقوله تعالى: { شاكر }. 6ــــ ومنها: إثبات «العليم» اسماً لله؛ لقوله تعالى: { شاكر عليم }. 7ــــ ومنها: إثبات صفة الشكر، والعلم؛ لقوله تعالى: { شاكر عليم }؛ لأنهما اسمان دالان على الصفة؛ وعلى الحكم إن كان متعدياً، فقوله تعالى: { عليم } يدل على العلم ــــ وهذه هي الصفة؛ ويدل على الحكم بأنه يعلم كل شيء. القـــرآن { )إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (البقرة:159) التفسير: { 159 } قوله تعالى: { إن الذين يكتمون } أي يخفون؛ لكنه لا يكون كتماً إلا حيث دعت الحاجة إلى البيان إما بلسان الحال؛ وإما بلسان المقال. قوله تعالى: { ما أنزلنا من البينات }؛ { البينات } جمع بينة؛ وهي صفة لموصوف محذوف؛ والتقدير: من الآيات البينات. قوله تعالى: { والهدى }: أي العلم النافع الذي يهتدي به الخلق إلى الله عزّ وجلّ. قوله تعالى: { من بعد ما بيناه } أي أظهرناه؛ { للناس } أي للناس عموماً ــــ المؤمن، والكافر؛ فإن الله تعالى بين الحق لعموم الناس، كما قال تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [فصلت: 17] ؛ فكل الناس قد بين الله لهم الحق؛ لكن منهم من اهتدى؛ ومنهم من بقي على ضلاله. قوله تعالى: { في الكتاب }: المراد به جميع الكتب؛ فهو للجنس؛ فما من نبي أرسله الله إلا ومعه كتاب، كما قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} [الحديد: 25] ، وكما قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213] . قوله تعالى: { أولئك يلعنهم الله }؛ { أولئك } مبتدأ؛ وجملة { يلعنهم الله } خبره؛ والمبتدأ الثاني، وخبره خبر «إن» ؛ و{ يلعنهم الله } أي يطردهم، ويبعدهم عن رحمته؛ لأن «اللعن» في اللغة: الطرد، والإبعاد. قوله تعالى: { ويلعنهم اللاعنون } أي يسألون لهم اللعنة؛ وهم أيضاً بأنفسهم يبغضونهم، ويعادونهم، ويبتعدون عنهم. الفوائد: 1- من فوائد الآية: أن كتم العلم من كبائر الذنوب؛ يؤخذ من ترتيب اللعنة على فاعله؛ والذي يرتب عليه اللعنة لا شك أنه من كبائر الذنوب. 2- ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { يكتمون }؛ والكاتم مريد للكتم. 3- ومنها: أن ما أنزل الله من الوحي فهو بيِّن لا غموض فيه؛ وهدًى لا ضلالة فيه؛ لقوله تعالى: { من البينات والهدى من بعد ما بيَّنَّاه للناس في الكتاب }؛ والبيان ينقسم إلى قسمين: بيان مفصل؛ وبيان مجمل؛ فالمجمل هي القواعد العامة في الشريعة؛ والمفصل هو أن يبين الله سبحانه وتعالى قضية معينة مفصلة مثل آيات الفرائض في الأحكام؛ فإنها مفصلة مبيّنة لا يشذ عنها إلا مسائل قليلة؛ وهناك آيات مجملة عامة مثل: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] : فهو بيان عام؛ وكذلك بعض القصص يذكرها الله سبحانه وتعالى مفصلة، وأحياناً مجملة؛ وكل هذا يعتبر بياناً. 4ــــ ومن فوائد الآية: الرد على أهل التحريف الذين يسمون أنفسهم بأهل التأويل؛ لأن لازم طريقهم ألا يكون القرآن بياناً للناس؛ لأن الله أثبت لنفسه في القرآن صفات ذاتية، وفعلية؛ فإذا صرفت عن ظاهرها صار القرآن غير بيان؛ يكون الله سبحانه وتعالى ذكر شيئاً لا يريده؛ وهذا تعمية لا بيان؛ فيستفاد من هذه الآية الرد على أهل التأويل؛ والحقيقة أنهم ــــ كما قال شيخ الإسلام ــــ أهل التحريف لا أهل التأويل؛ لأن التأويل منه حق، ومنه باطل؛ لكن طريقهم باطل لا حق فيه. 5ــــ ومن فوائد الآية: الرد على أهل التفويض الذين يقولون: إن آيات الصفات وأحاديثها لا يعلم الخلق معناها؛ وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن قولهم من شر أقوال أهل البدع والإلحاد. 6ــــ ومنها: بيان فضل الله عزّ وجلّ على عباده بما أنزله من البينات، والهدى؛ لأن الناس محتاجون إلى هذا؛ ولولا بيان الله سبحانه وتعالى وهدايته ما عرف الناس كيف يتوضؤون، ولا كيف يصلون، ولا كيف يصومون، ولا كيف يحجون؛ ولكن من فضل الله أن الله سبحانه وتعالى بيّن ذلك. 7ــــ ومنها: إثبات علو الله؛ لقوله تعالى: { ما أنزلنا }؛ والنزول إنما يكون من أعلى؛ وعلو الله بذاته ثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة. 8ــــ ومنها: قبح هذ الكتمان الذي سلكه هؤلاء؛ لأنه كتمان بعد بيان؛ ليس لهم أن يقولوا: «ما تكلمنا؛ لأنّ الأمر مشتبه علينا»؛ فالإنسان الذي لا يتكلم بالشيء لاشتباه الأمر عليه قد يعذر؛ لكن الذي لا يتكلم مع أن الله بينه للناس يكون هذا أعظم قبحاً ــــ والعياذ بالله. 9ــــ ومنها: وجوب نشر العلم عند الحاجة إليه سواء ظهرت الحاجة بلسان الحال، أو بلسان المقال، ولسان الحال: أن ترى إنساناً يعمل عملاً ليس على الوجه المرضي؛ فهذا لسان حاله يدعو إلى أن تبين له الحق؛ ولسان المقال: أن يسألك سائل عن علم وأن تتعلمه؛ فيجب عليك أن تبلغه ما دمت تعلم؛ أما إذا كنت لا تعلم فإنه يجب أن تقول: «لا أدري»، أو «لا أعلم»؛ كذلك لو رأيت الناس عمّ فيهم الجهل في مسألة من أمور الدين؛ فهنا الحاجة داعية إلى البيان؛ فيجب أن تبين. 10ــــ ومن فوائد الآية: أن الكتب السماوية كلها بيان للناس، لأن قوله تعالى: { في الكتاب } المراد به الجنس لا العهد؛ فالله تعالى بين الحق في كل كتاب أنزله؛ لم يترك الحق غامضاً؛ بل بينه لأجل أن تقوم الحجة على الخلق؛ لأنه لو كان الأمر غامضاً لكان للناس حجة في أن يقولوا: ما تبين لنا الأمر. 11ــــ ومنها: أن الرجوع في بيان الحق إلى الكتب المنزلة. 12ــــ ومنها: أن هؤلاء الكاتمين ملعونون؛ يلعنهم الله، ويلعنهم اللاعنون؛ لقوله تعالى: { أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون }. 13ــــ ومنها: إثبات الأفعال الاختيارية لله عزّ وجلّ؛ وهي كل فعل يتعلق بمشيئته، مثل النزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين عباده؛ والاستواء على العرش؛ والضحك؛ والكلام؛ والتعجب؛ وما إلى ذلك؛ كل فعل يتعلق بمشيئة الله عزّ وجلّ فإنه من الأفعال الاختيارية؛ و«اللعن» منها؛ ويدل على أنه منها أن له سبباً؛ وما كان له سبب فإنه يوجَد بالسبب، ويعدم بعدمه؛ إذاً فاللعن من الأفعال الاختيارية. 14ــــ ومنها: جواز الدعاء باللعنة على كاتم العلم؛ لقوله تعالى: { يلعنهم اللاعنون }؛ لأن من معنى { يلعنهم اللاعنون } الدعاء عليهم باللعنة؛ تقول: اللهم العنهم؛ ولا يلعن الشخص المعين؛ بل على سبيل التعميم؛ لأن الصحيح أن لعن المعين لا يجوز - ولو كان من المستحقين للعنة؛ لأنه لا يُدرى ماذا يموت عليه؛ قد يهديه الله، كما قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم} [آل عمران: 128] ؛ وأما لعنه بعد موته أيجوز، أم لا يجوز؟ فقد يقال: إنه لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا»(1)؛ وهذا عام؛ ثم إنه قد يثير ضغائن، وأحقاد من أقاربه، وأصحابه، وأصدقائه؛ فيكون في ذلك مفسدة؛ ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت»(2)؛ وأيّ خير في كونك تلعن واحداً كافراً قد مات؛ وأما طريقته فالواجب التنفير عنها، والقدح فيها، وذمها؛ أما هو شخصياً فإنه لا يظهر لنا جواز لعنه - وإن كان المعروف عند جمهور أهل العلم أنه يجوز لعنه إذا مات على الكفر. 15ــــ ومن فوائد الآية: عظم كتم العلم، حيث كان من الكبائر؛ وكتم العلم يتحقق عند الحاجة إلى بيانه إما بلسان الحال؛ وإما بلسان المقال؛ فإن من سُئل عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار إلا أن يكون السائل متعنتاً، أو يريد الإيقاع بالمسؤول، أو ضرب آراء العلماء بعضها ببعض، أو يترتب على إجابته مفسدة، فلا يجاب حينئذ؛ وليس هذا من كتم العلم؛ بل هو من مراعاة المصالح، ودرء المفاسد. مـســــألــــة: دفع الفتوى ــــ وهو أن يحوِّل المستفتي إلى غيره، فيقول: اسأل فلاناً، أو اسأل العلماء - اختلف فيها أهل العلم: هل يجوز، أو لا يجوز؟ والصحيح أنه لا يجوز؛ إلا عند الاشتباه فيجب؛ أما إذا كان الأمر واضحاً فإنه لا يجوز؛ لأنه يضيع الناس لا سيما إذا كان الإنسان يرى أنه إذا دفعها استُفتي أناس جهال يضلون الناس؛ فإنه هنا تتعين عليه الفتوى؛ ويستعين الله عزّ وجلّ، ويسأل الله الصواب والتوفيق. 16ــــ ومن فوائد الآية: استحقاق الكاتمين للعنة الله، ولعنة اللاعنين. قد يقول قائل: هذا تحصيل حاصل، لأنه كقول القائل: قام القائمون، أو يقوم القائمون، ويدخل الداخلون. فالجواب: لا، لأنه ليس كل من نسب إليه الوصف يكون قائماً به على الوجه الأكمل؛ قد تقول: «قام القائمون» بمعنى أنهم أتوا بالقيام على وجهه؛ فمعنى { يلعنهم اللاعنون } أي الذين يعرفون من يستحق اللعنة، ويوجهونها إلى أهلها؛ فهم ذوو علم بالمستحِق، وذوي حكمة في توجيه اللعنة إليه؛ ونظير ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله...} [النساء: 136] الآية؛ فناداهم باسم الإيمان، وأمرهم به؛ أي بتحقيقه، والثبات عليه. إذاً هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات، والهدى مع ظهوره، وبيانه يستحقون - والعياذ بالله - هذا الجزاء الوخيم من الله، ومن عباد الله؛ وعكس ذلك الذين يبينون الحق - نسأل الله أن يجعلنا منهم؛ فهؤلاء يكون لهم المودة، والمحبة من الله، ومن أولياء الله؛ وقد ورد في حديث أبي الدرداء الطويل أن العالم يستغفر له أهل السموات والأرض حتى الحيتان في الماء(1)؛ لأن الذي يبين شريعة الله يُلقي الله سبحانه وتعالى في قلوب عباده مودته، ومحبته، والقبول له حتى في السماء؛ ونحن نعلم ذلك - وإن لم يرد به نص خاص - عن طريق القياس الجلي: فإذا كان الله سبحانه وتعالى يعاقب الكاتمين بهذه العقوبة الواقعة منه، ومن عباده؛ وهو الذي سبقت رحمته غضبه، فالذين يبينون البينات، والهدى يستحقون أن يثني الله سبحانه وتعالى عليهم بدلاً من اللعنة، ويقربهم بدلاً من البعد. 17ــــ ومن فوائد الآية: أنه يجب على من قال قولاً باطلاً، ثم تبين له بطلانه أن يبينه للناس إلا إذا كان اختلاف اجتهاد فلا يلزمه أن يبين بطلان ما سبق؛ لأنه لا يدري أيّ الاجتهادين هو الصواب. القـــــــــرآن { )إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:160) التفسير: { 160 } قوله تعالى: { إلا الذين تابوا }: الاستثناء هنا متصل؛ لأنه استثناء من الكاتمين؛ يعني إلا إذا تابوا؛ و«التوبة» في اللغة الرجوع؛ وفي الشرع: الرجوع من معصية الله إلى طاعته؛ والمراد بالتوبة هنا الرجوع عن كتمان ما أنزل الله إلى بيانه، ونشره. قوله تعالى: { وأصلحوا } أي أصلحوا عملهم { وبينوا } أي وضحوا للناس ما كتموا من العلم ببيانه، وبيان معانيه؛ لأنه لا يتم البيان إلا ببيان المعنى؛ { فأولئك } يعني الذين تابوا، وأصلحوا، وبينوا { أتوب عليهم } أي أقبل منهم التوبة؛ لأن توبة الله على العبد لها معنيان؛ أحدهما: توفيق العبد للتوبة؛ الثاني: قبول هذه التوبة، كما قال الله تعالى: { ثم تاب عليهم ليتوبوا }. قوله تعالى: { وأنا التواب } صيغة مبالغة، ونسبة؛ لأن «فعال» تأتي للمبالغة، وتأتي للنسبة: فإن قيدت بمعمول فهي للمبالغة؛ وإن أطلقت فهي للنسبة؛ أو نقول: هي للمبالغة، والنسبة بكل حال إلا أن يمنع من ذلك مانع، كقوله تعالى: { وما ربك بظلام للعبيد } فإن هذه للنسبة؛ ولا تصح للمبالغة لفساد المعنى بذلك؛ لأنها لو كانت للمبالغة لكان المنفي عن الله كثرة الظلم مع أنه جل وعلا {لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} [النساء: 40] ؛ وقوله تعالى: { التواب } تصلح للأمرين جميعاً؛ فهو سبحانه وتعالى موصوف بالتواب؛ وهو ذو توبة على جميع العباد؛ وكذلك موصوف بكثرة توبته سبحانه وتعالى، وكثرة من يتوب عليهم: كم يفعل الإنسان من ذنب، ويتوب، فيتوب الله عليه! وكم من أناس أذنبوا، فتابوا، فتاب الله عليهم! فلهذا جاء بلفظ: { التواب }. وقوله تعالى: { الرحيم } سبق الكلام عليه؛ وجمع بين التوبة والرحمة؛ لأن بالرحمة يكون الإحسان؛ وبالتوبة يكون زوال العقوبة؛ فجمع الله بينهما؛ فهو يتوب؛ وإذا تاب سبحانه وتعالى رحم التائب، ويسَّره لليسرى، وسهل له أمور الخير؛ فحصل على الخير العظيم. وفي هذه الآية التفات من التكلم إلى الغيبة في قوله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى...} [البقرة: 159] ، وقوله تعالى: {أولئك يلعنهم الله} [البقرة: 159] ؛ ولم يقل: «نلعنهم»؛ وللالتفات فائدتان: الأولى: تنبيه المخاطب؛ لأنه إذا تغير نسق الكلام أوجب أن ينتبه المخاطب لما حصل من التغيير. والفائدة الثانية: تكون بحسب السياق: ففي هذه الآية: {أولئك يلعنهم الله} الفائدة: التعظيم؛ لأن قوله: {يلعنهم الله} أبلغ في التعظيم من «أولئك نلعنهم»؛ لأن المتكلم إذا تحدث عن نفسه بصيغة الغائب صار أشد هيبة، مثل قول الملك: إن الملك يأمركم بكذا، وكذا؛ وأمر الملك بكذا، وكذا ــــ ويعني نفسه. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: أن توبة الكاتمين للعلم لا تكون إلا بالبيان، والإصلاح؛ لقوله تعالى: { إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا }: ثلاثة شروط: الأول: التوبة؛ وهي الرجوع عما حصل من الكتمان. الثاني: الإصلاح لما فسد بكتمانهم؛ لأن كتمانهم الحق حصل به فساد. الثالث: بيان الحق غاية البيان. وبهذا تبدل سيئاتهم حسنات. 2 ــــ ومن فوائد الآية: أن كل ذنب ــــ وإن عظم ــــ إذا تاب الإنسان منه فإن الله سبحانه وتعالى يتوب عليه. 3 ــــ ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله سبحانه وتعالى، وهما { التواب }، و{ الرحيم }؛ { التواب } على من أذنب؛ { الرحيم } على من أخلص، وعمل؛ فالرحمة تجلب الخير؛ والتوبة تدفع الشر. 4 ــــ ومنها: إثبات صفتين من صفات الله؛ وهما التوبة، والرحمة. 5 ــــ ومنها: إثبات حكمين من هذين الاسمين: أن الله يتوب، ويرحم؛ ولهذا قال تعالى: { فأولئك أتوب عليهم }. 6 ــــ ومنها: توكيد الحكم بما يوجبه؛ لقوله تعالى: { وأنا التواب الرحيم }. 7 ــــ ومنها: كثرة توبة الله، وكثرة من يتوب عليهم؛ لقوله تعالى: { التواب }. والتوبة هي الرجوع إلى الله من معصيته إلى طاعته؛ فيرجع من الشرك إلى التوحيد؛ ومن الزنى إلى العفاف؛ ومن الاستكبار إلى الذل، والخضوع؛ ومن كل معصية إلى ما يقابلها من الطاعة؛ وشروطها خمسة: الإخلاص لله سبحانه وتعالى؛ والندم على الذنب؛ والإقلاع عنه في الحال؛ والعزم على أن لا يعود؛ وأن تكون التوبة في وقت تقبل فيه. الشرط الأول: الإخلاص لله بأن يكون قصده بالتوبة رضا الله، وثواب الآخرة، وألا يحمله على التوبة خوف مخلوق، أو رجاء مخلوق، أو علو مرتبة، أو ما أشبه ذلك. الشرط الثاني: الندم على ما جرى منه من الذنب؛ ومعنى «الندم» أن يتحسر الإنسان أن وقع منه هذا الذنب. الشرط الثالث: الإقلاع عن المعصية؛ وهذا يدخل فيه أداء حقوق العباد إليهم؛ لأن من لم يؤد الحق إلى العباد فإنه لم يقلع؛ فهو ليس شرطاً مستقلاً ــــ كما قاله بعض العلماء؛ ولكنه شرط داخل في الإقلاع؛ إذ إن من لم يؤد الحق إلى أهله لم يقلع عن المعصية. الشرط الرابع: أن يعزم ألا يعود؛ فإن لم يعزم فلا توبة، وليس من الشرط ألا يعود فإذا صحت التوبة، ثم عاد إلى الذنب لم تبطل توبته الأولى؛ لكنه يحتاج إلى تجديد التوبة. الشرط الخامس: أن تقع التوبة في الوقت الذي تقبل فيه؛ يعني أن تكون في وقت قبول التوبة؛ وذلك بأن تكون قبل حضور الموت، وقبل طلوع الشمس من مغربها؛ فإذا كان بعد حضور الموت لم تقبل؛ لقوله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} [النساء: 18] ؛ وإذا كانت بعد طلوع الشمس من مغربها لم تقبل؛ لقوله تعالى: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً} [الأنعام: 158] ؛ وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة؛ ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها»(1). وهل تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره؟ للعلماء في هذا ثلاثة أقوال؛ الأول: أنها تصح؛ و الثاني: أنها تصح إن كان الذنب من غير الجنس؛ و الثالث: لا تصح؛ والصحيح أنها تصح من ذنب مع الإصرار على غيره؛ لكن لا يستحق اسم التائبين على سبيل الإطلاق؛ فلا يستحق وصف التائب، ولا يدخل في مدح التائبين؛ لأن توبته مقيدة من هذا الذنب المعين؛ ومثال ذلك: إذا تاب رجل من الزنى لكنه يتتبع النساء بالنظر المحرم فإن توبته من الزنى تصح على القول الراجح؛ لكن لا يستحق وصف التائب على سبيل الإطلاق؛ وعلى القول بأنها تصح إذا كانت من غير الجنس: فإنها لا تصح؛ وإذا تاب من الزنى مع الإصرار على الربا فإنها تصح؛ لأن الربا ليس من جنسه؛ إلا على القول الثالث الذي يقول لا تصح إلا مع الإقلاع عن جميع الذنوب. 8 ــــ ومن فوائد الآية: عظم الكتمان؛ لأن الله ذكر لنجاتهم من هذه اللعنة ثلاثة شروط: التوبة، والإصلاح، والبيان؛ لأن كتمهم لِما أنزل الله يتضمن إفساداً في الأرض، وإضلالاً للخلق؛ فتوبتهم منه لا تكفي حتى يصلحوا ما فسد بسبب كتمانهم، مثال ذلك: قوم كتموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: «ليس هو بالرسول الذي سيبعث»؛ فسيضل من الناس بناءً على قولهم عالَم؛ فلا يكفي أن يتوبوا، ويندموا، ويقلعوا، ويُسْلِموا، حتى يصلحوا ما أفسدوا من الآثار التي ترتبت على كتمانهم الحق؛ وإلا لم تصح التوبة. 9 ــــ ومن فوائد الآية: عظم العلم، وأنه حمل ثقيل، وعبء عظيم على من حمَّله الله سبحانه وتعالى إياه، وأن الإنسان على خطر إذا لم يقم بواجبه من البيان؛ وسبق أن البيان حين يحتاج الناس إليه ويسألون، إما بلسان الحال؛ وإما بلسان المقال. القــــرآن { )إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (البقرة:161) )خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (البقرة:162) التفسير: الآيتان قبلها في العلماء الذين كتموا الحق؛ وهذه في الكفار الذين استكبروا عن الحق. {161 } قوله تعالى: { إن الذين كفروا }: «الكَفْر» في اللغة بمعنى الستر؛ ومنها كُفُرَّى النخل ــــ أي وعاء طلعه ــــ لستره الطلع؛ والمراد بالكُفر في القرآن والسنة: جحد ما يجب لله سبحانه وتعالى من الطاعة، والانقياد؛ وهو نوعان: إما تكذيب؛ وإما استكبار. قوله تعالى: { وماتوا وهم كفار } معطوفة على { كفروا } فلا محل لها من الإعراب؛ لأنها معطوفة على صلة الموصول التي لا محل لها من الإعراب؛ وجملة { وهم كفار } حالية من الفاعل في { ماتوا }؛ يعني أنهم ــــ والعياذ بالله ــــ استمروا على كفرهم إلى الموت، فلم يزالوا على الكفر، ولم يتوبوا، ولم يرجعوا؛ وخبر { إن } جملة { أولئك عليهم لعنة الله }: { أولئك } مبتدأ ثانٍ؛ و{ عليهم } جار ومجرور خبر مقدم لـ{ لعنة }؛ و{ لعنة } مبتدأ ثالث؛ والجملة من المبتدأ الثالث، وخبره خبر المبتدأ الثاني: { أولئك}؛ والجملة من المبتدأ الثاني، وخبره خبر { إن }. وقوله تعالى: { لعنة الله } أي طرده، وإبعاده عن رحمته؛ { والملائكة } أي ولعنة الملائكة؛ والملائكة عالم غيبي خُلِقوا من نور؛ وهم محجوبون عن الإنس؛ وربما يرونهم إما على الصورة التي خلقوا عليها، كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته التي خلِق عليها له ستمائة جناح(1) قد سد الأفق(2)؛ وإما على صورة أخرى، كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على صورة دحية الكلبي(3)؛ وهم عباد لله عزّ وجلّ لا يستكبرون عن عبادته، ولا يستحسرون؛ يسبحون الليل والنهار لا يفترون؛ لا يأكلون، ولا يشربون؛ صُمْدٌ - أي لا أجواف لهم؛ والملائكة عليهم السلام لهم وظائف، وأعمال خصهم الله سبحانه وتعالى بها؛ فإسرافيل، وميكائيل، وجبريل موكلون بما فيه الحياة؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح صلاة الليل بقوله: «اللهم رب جَبرائيل وميكائيل وإسرافيل...»(4) الحديث؛ لأن هؤلاء الثلاثة موكلون بما فيه الحياة؛ والبعث من النوم حياة؛ ولهذا ناسب أن يكون هذا الاستفتاح في أول عمل يعمله الإنسان بعد أن توفاه الله عزّ وجلّ بالنوم؛ وهؤلاء الثلاثة أحدهم مكلف بما فيه حياة القلوب - وهو جبريل - والثاني بما فيه حياة الأبدان - وهو إسرافيل - والثالث بما فيه حياة النبات - وهو ميكائيل - وأفضلهم جبريل - ولهذا امتدحه الله عزّ وجلّ بقوله تعالى: {إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين} [التكوير: 19، 20] ، وبقوله تعالى: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً} [مريم: 17] ؛ فجبريل أفضل الملائكة على الإطلاق. قوله تعالى: { والناس أجمعين } أي عليهم لعنة الناس أجمعين؛ يلعنهم الناس ــــ والعياذ بالله، ويمقتونهم ولا سيما في يوم القيامة؛ فإن هؤلاء يكونون مبغضين عند جميع الخلق؛ فهم أعداء الله سبحانه وتعالى. { 162 } قوله تعالى: { خالدين فيها } أي في هذه اللعنة ــــ والعياذ بالله؛ والمراد فيما يترتب عليها؛ فإنهم خالدون في النار التي تكون بسبب اللعنة. قوله تعالى: { لا يخفف عنهم العذاب }؛ أي لا يخففه الله سبحانه وتعالى؛ وحذف الفاعل للعلم به. قوله تعالى: { ولا هم ينظرون } أي لا يمهلون؛ بل يؤخذون بالعقاب؛ من حين ما يموتون وهم في العذاب؛ ويحتمل أن المراد لا ينظرون بالعين؛ فلا ينظرون نظر رحمة، وعناية بهم؛ وهذا قد يؤيَّد بقوله تعالى: {قال اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108] ؛ فإن هذا من احتقارهم، وازدرائهم أنهم يوبخون بهذا القول. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآيتين: أن الكافر مستحق للعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين. 2 ــــ ومنها: أنه تشترط لثبوت هذا أن يموت على الكفر؛ لقوله تعالى: { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار }؛ فلو رجعوا عن الكفر إلى الإسلام ارتفعت عنهم هذه العقوبة. 3 ــــ ومنها: إثبات الملائكة. 4 ــــ ومنها: أن الكافر يلعنه الكافر؛ لقوله تعالى: { والناس أجمعين }؛ وقد أخبر الله تعالى عن أهل النار أنه كلما دخلت أمة لعنت أختها، وقال تعالى: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب} [البقرة: 166] إلخ؛ فالكافر ــــ والعياذ بالله ــــ ملعون حتى ممن شاركه في كفره. 5 ــــ ومنها: أن الذين يموتون وهم كفار مخلدون في لعنة الله، وطرده، وإبعاده عن رحمته. 6 ــــ ومنها: أن العذاب لا يخفف عنهم، ولا يوماً واحداً؛ ولهذا يقول الله عزّ وجلّ: {وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب} [غافر: 49] ؛ لم يسألوا أن يرفع العذاب؛ ولم يسألوا أن يخفف دائماً؛ بل يخفف ولو يوماً واحداً من أبد الآبدين؛ يتمنون هذا؛ يتوسلون بالملائكة إلى الله عزّ وجلّ أن يخفف عنهم يوماً واحداً من العذاب؛ ولكن يوبخون إذا سألوا هذا: {قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى} [غافر: 50] ؛ فما يستطيع أحد أن يتصور كيف تكون حسرتهم حينئذٍ؛ يقولون: ليتنا فعلنا؛ ليتنا صدقنا؛ ليتنا اتبعنا الرسول؛ ولهذا يقولون: {بلى} ؛ لا يستطيعون أن ينكروا أبداً؛ {قالوا فادعوا} [غافر: 50] أي أنتم؛ ولكن دعاء لا يقبل، كما قال تعالى: {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} [غافر: 50] أي في ضياع ــــ والعياذ بالله؛ والمقصود أنه لا يخفف عنهم العذاب. 7 ــــ من فوائد الآيتين: أنهم لا ينظرون؛ إما أنه من النظر؛ أو من الإنظار؛ فهم لا يمهلون ولا ساعة واحدة؛ ولهذا قال تعالى: {حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها} [الزمر: 71] ؛ فمن يوم يجيئونها تفتح؛ أما أهل الجنة فإذا جاءوها لم تفتح فور مجيئهم، كما قال تعالى: {حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها} [الزمر: 71] ؛ لأنهم لا يدخلونها إلا بالشفاعة، وبعد أن يقتص من بعضهم لبعض؛ فإذا جاءوها هذبوا، ونقوا، ثم شفع النبي صلى الله عليه وسلم في دخول الجنة؛ وحينئذ تفتح أبوابها. القـــــــــرآن {)وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (البقرة:163) التفسير: { 163 } قوله تعالى: { وإلهكم } الخطاب للبشر كلهم؛ أي أيها الناس معبودكم الحق الذي تكون عبادته حقاً؛ و{ إله } بمعنى مألوه؛ فهي بمعنى اسم المفعول؛ و«المألوه» معناه المعبود حباً، وتعظيماً ــــ وهو إله واحد؛ و{ إلهكم } مبتدأ؛ و{ إله } خبر؛ و{ واحد } صفة لـ{ إله }؛ وجملة { إلهكم إله واحد } طرفها الأول معرفة؛ والثاني نكرة موصوفة، ومؤكد بالوحدانية يعني أن إله الخلق إله واحد؛ ووحدانيته بالألوهية متضمنة لوحدانيته بالربوبية؛ إذ لا يُعبد إلا من يُعلم أنه رب. ثم أكد هذه الجملة الاسمية بجملة تفيد الحصر، فقال: { لا إله إلا هو }؛ وهذه الجملة توكيد لما قبلها في المعنى؛ فإنه لما أثبت أنه إله واحد نفى أن يكون معه إله. وقوله تعالى: { لا إله إلا هو } أي لا معبود حق إلا هو؛ وعلى هذا تكون { لا } نافية للجنس؛ وخبرها محذوف؛ والتقدير: لا إله حق إلا هو؛ وإنما قدرنا «حق»؛ لقوله تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} [الحج: 62] ؛ ولهذا قال الله تعالى عن هذه الآلهة: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} [النجم: 23] ؛ وقد زعم بعضهم أن تقدير الخبر «موجود»؛ وهذا غلط واضح؛ لأنه يختل به المعنى اختلالاً كبيراً من وجهين: الوجه الأول: أن هناك آلهة موجودة سوى الله؛ لكنها باطلة، كما قال تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} [الحج: 62] ، وكما قال تعالى: {فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك} [هود: 101] ، وكما قال تعالى: {فلا تدع مع الله إلهاً آخر} [الشعراء: 213] . الوجه الثاني: أنه يقتضي أن الآلهة المعبودة من دون الله هي الله، ولا يخفى فساد هذا؛ وعليه فيتعين أن يكون التقدير: «لا إله حق»، كما فسرناه. قوله تعالى: { الرحمن الرحيم } خبر ثالث، ورابع لقوله تعالى: { إلهكم }؛ ويجوز أن يكونا خبرين لمبتدأ محذوف؛ والتقدير: هو الرحمن الرحيم؛ فألوهيته مبنية على الرحمة؛ وهذه الآية تشبه قوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 2، 3] ؛ فإن ذكر هذين الاسمين بعد الربوبية يدل على أن ربوبيته مبنية على الرحمة. وقوله تعالى: { الرحمن الرحيم } اسمان من أسماء الله؛ أحدهما يدل على سعة رحمته ــــ وهو { الرحمن }؛ والثاني يدل على إيصال الرحمة ــــ وهو { الرحيم }؛ وأسماء الله سبحانه وتعالى لها ثلاث دلالات: دلالة مطابقة؛ ودلالة تضمن؛ ودلالة التزام؛ فدلالة الاسم على الذات، والصفة دلالة مطابقة؛ ودلالته على الذات وحدها، أو الصفة وحدها دلالة تضمن؛ ودلالته على ما يستلزمه من الصفات الأخرى دلالة التزام؛ مثال ذلك «الخالق»: فهو دال على ذات متصفة بالخلق؛ وعلى صفة الخلق؛ فدلالتها على الأمرين دلالة مطابقة؛ وعلى أحدهما دلالة تضمن؛ وهي تدل على صفة العلم، والقدرة دلالة التزام؛ إذ لا خلق إلا بعلم وقدرة. و«الرحمة» تنقسم إلى عامة، وخاصة؛ فالعامة هي التي تشمل جميع الخلق؛ والخاصة تختص بالمؤمنين. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: أن إله الخلق إله واحد ــــ وهو الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { وإلهكم إله واحد }. 2 ــــ ومنها: إثبات اسم «الإله» ، و «الواحد» لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { وإلهكم إله واحد }؛ وقد جاء في قوله تعالى: {لله الواحد القهار} [إبراهيم: 48] : فأثبت اسم «الواحد» سبحانه وتعالى. 3 ــــ ومنها: اختصاص الألوهية بالله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { لا إله إلا هو }. فإن قال قائل: إن هؤلاء المشركين قد يفتنون بهذه الآلهة، فيدعونها، ثم يأتيهم ما دعوا به؛ فما هو الجواب؟ فالجواب: عن هذا أن هذه الأصنام لم توجِد ما دعوا به قطعاً؛ لقوله تعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم من دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرين} [الأحقاف: 5، 6] ، ولقوله تعالى: {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} [فاطر: 14] ؛ فيكون حصول ما دعوا به من باب الفتنة التي يضل بها كثير من الناس؛ والذي أوجدها هو الله عزّ وجلّ؛ لكن قد يُمتحَن الإنسان بتيسير أسباب المعصية ابتلاءً من الله عزّ وجلّ؛ فيكون هذا الشيء حصل عند دعاء هذه الأصنام لا به. 4 ــــ ومنها: كفر النصارى القائلين بتعدد الآلهة؛ لأن قولهم تكذيب للقرآن؛ بل وللتوراة، والإنجيل؛ بل ولجميع الرسل؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار»(1). 5 ــــ ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما { الرحمن الرحيم }. 6 ــــ ومنها: إثبات ما تضمنه هذان الاسمان من الصفة ــــ وهو الرحمة ــــ والحكم: أنه يرحم بهذه الرحمة. 7 ــــ ومنها: أنه قد يكون للاسم من أسماء الله معنًى إذا انفرد؛ ومعنًى إذا انضم إلى غيره؛ لأن { الرحمن } لو انفرد لدل على الصفة، والحكم؛ وإذا جمع مع { الرحيم } جُعل { الرحمن } للوصف؛ و{ الرحيم} للفعل. القـــــرآن {)إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة:164) التفسير: { 164 } قوله تعالى: { إن في خلق السموات والأرض }؛ { السموات } جمع سماء، وتقدم أنها سبع؛ و{ الأرض } مفرد يراد به الجنس؛ فيشمل السبع؛ و{ خلق السموات والأرض } أي إيجادهما من عدم؛ ويشمل ذلك بقاءهما، وكيفيتهما، وكل ما يتعلق بهما من الشيء الدال على علم الله سبحانه وتعالى، وقدرته، وحكمته، ورحمته. وقوله تعالى: { والأرض } يشمل ما أودع الله فيها من المنافع، حيث جعلها متضمنة، ومشتملة على جميع ما يحتاج الخلق إليه في حياتهم، وبعد مماتهم، كما قال تعالى: {ألم نجعل الأرض كفاتاً * أحياءً وأمواتاً} [المرسلات: 25، 26] إلى آخر الآيات؛ ما ظنك لو جعل الله هذه الأرض شفافة كالزجاج، فدفن فيها الأموات ينظر الأحياء إلى الأموات ــــ فلا تكون كفاتاً لهم! وما ظنك لو جعل الله هذه الأرض صلبة كالحديد، أو أشد فلا يسهل علينا أن تكون كفاتاً لأمواتنا، ولا لنا أيضاً في حياتنا! ثم هذه الأرض أودع الله فيها من المصالح، والمعادن شيئاً لم نستطع الوصول إليه حتى الآن. قوله تعالى: { واختلاف الليل والنهار } يعني في الإضاءة، والظلمة؛ في الحر، والبرد؛ في النصر، والخذلان؛ في كل شيء يتعلق بالليل، والنهار؛ هذه الليالي، والأيام التي تدور على العالم كم فَنِي فيها من حي! كم فيها من حي! كم عز فيها من ذليل! كم ذل فيها من عزيز! كم حصل فيها من حوادث لا يعلمها إلا الله! هذا الاختلاف كله آيات تدل على تمام سلطان الله عزّ وجلّ، وعلى تفرده بالوحدانية سبحانه وتعالى. واختلاف الليل، والنهار أيضاً في الطول، والقصر، كما قال تعالى: {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل} [الحج: 61] على وجه خفي لا يشعر الناس به: يزداد شيئاً فشيئاً، وينقص شيئاً فشيئاً ــــ ليست الشمس تطلع فجأة من مدار السرطان، وفي اليوم التالي مباشرة من مدار الجدي! ولكنها تنتقل بينهما شيئاً فشيئاً حتى يحصل الالتئام، والتوازن، وعدم الكوارث؛ فلو انتقلت فجأة من مدار السرطان إلى مدار الجدي لهلك الناس من حر شديد إلى برد شديد؛ والعكس بالعكس؛ ولكن الله ــــ جل وعلا ــــ بحكمته، ورحمته جعلها تنتقل حتى يختلف الليل والنهار على حسب ما تقتضيه حكمته ورحمته. قوله تعالى: { والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس }؛ { الفلك } هي السفينة؛ وتطلق على المفرد، كما في هذه الآية؛ وعلى الجمع، كما في قوله تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} [يونس: 22] و{ تجري } أي تسير؛ { في البحر } أي في جوف البحر: فالغواصات تجري في البحر بما ينفع الناس وهي في جوفه؛ لأنه يقاتل بها الأعداء، وتحمى بها البلاد؛ وهذا مما ينفع الناس؛ ويجوز أن تكون { في } بمعنى «على» أي على سطح البحر، كقوله تعالى: {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام} [الشورى: 32] ؛ وهذه أيضاً من آيات الله؛ سفن محملة بالآدميين، والأمتعة، والأرزاق، تجري على سطح الماء بدون تقلب، أو إزعاج غالباً! هذا من آيات الله؛ وقد حدث في عصرنا هذا ما هو أعظم آية، وأكبر منه؛ وهو الفلك الذي يجري في الهواء؛ فإذا أشار الله سبحانه وتعالى إلى شيء من آياته في أمر فما هو أعظم منه يكون أقوى دلالة على ذلك؛ وها هو الطير مسخراً في جو السماء لا يمسكه إلا الله من آيات الله، كما قال تعالى: {ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} [النحل: 79] ؛ هذه الطيور لا تحمل إلا نفسها، فجعلها الله سبحانه وتعالى آية؛ فكيف بهذه الطائرات! تكون أعظم، وأعظم. وقوله تعالى: { بما ينفع الناس }: الباء هنا للمصاحبة ــــ أي مصحوبة بما ينفع الناس من الأرزاق، والبضائع، والأنفس، والذخائر، وغيرها؛ لأن { ما } اسم موصول يفيد العموم؛ فالفلك آية من آيات الله عزّ وجلّ الدالة على كمال قدرته، وكمال رحمته، وتسخيره، كما قال تعالى في أخرى: {وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار} [إبراهيم: 32] . ومن حكمة الله عزّ وجلّ أنه قدر في الأرض أقواتها ــــ يعني جعل قدْراً هنا، وقدْراً هنا، وقدْراً هنا؛ لأجل أن ينتفع الناس؛ فهناك ناس لا تكثر عندهم البقول، والخضروات، وما أشبه ذلك؛ يأتيهم من أرض أخرى؛ وهناك ناس يكثر عندهم نوع من النخيل لا يوجد في مكان آخر، فينقل إلى المكان الآخر، فيتبادل الناس الأرزاق، وينتفع الناس، ويتحركون ــــ كل فيما قدر له. قوله تعالى: { وما أنزل الله من السماء من ماء } يعني: وفيما أنزل الله سبحانه وتعالى من السماء من ماء آيات لقوم يعقلون؛ والمراد بـ{ السماء } هنا العلو؛ لأن المطر ينزل من السحاب المسخر بين السماء، والأرض؛ وليس من السماء نفسها. وقوله تعالى: { من ماء } بيان لـ{ ما } في قوله تعالى: { وما أنزل الله }؛ والمراد به المطر الذي أنزله الله من السماء؛ وفيه آيات عظيمة؛ منها كونه ينزل من السماء؛ فإن الذي حمله إلى السماء هو الله عزّ وجلّ؛ كذلك كونه ينزل رذاذاً هذا من آيات الله الدالة على رحمته؛ لأنه لو كان ينزل صباً لأهلك العالم؛ وكونه ينزل من السماء لا يجري من الأرض هذا أيضاً من آيات الله؛ لأجل أن ينتفع به سهول الأرض، وجبالها؛ ولو كان يجري من الأرض لغرق الأسفل قبل أن يصل إلى الأعلى؛ كذلك من آيات الله كونه ينزل لا حاراً، ولا بارداً؛ البردَ ذكره الله تعالى في سياق يدل على أنه نوع من الانتقام، فقال تعالى: {وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار} [النور: 43] ؛ وإن كان الله قد يجعله رحمة؛ لكن الغالب أنه انتقام. قوله تعالى: { فأحيا به الأرض }: الذي يحيى هو النبات الذي فيها ــــ وليس الأرض؛ و{ بعد موتها } أي بعد أن كانت يابسة هامدة لا نبات فيها؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في آية أخرى: {فتصبح الأرض مخضرة} [الحج: 63] ؛ وفي إحياء النبات آيات كثيرة: آيات دالة على الرحمة؛ وآيات دالة على الحكمة؛ وآيات دالة على القدرة. آيات دالة على الرحمة: لما في هذا الإحياء من المنافع العظيمة؛ لقوله تعالى: {أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها * متاعاً لكم ولأنعامكم} [النازعات: 31، 33] ، وقوله تعالى: {فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صباً...} [عبس: 24] إلى قوله تعالى: { متاعاً لكم ولأنعامكم} ؛ فكم من نعم كثيرة في هذه الزروع التي أحياها الله سبحانه وتعالى بالمطر لنا، ولأنعامنا قوتاً، ودواءً، وغير ذلك. وآيات دالة على الحكمة: وهو أن حياة الأرض جاءت بسبب - وهو الماء الذي نزل؛ فمنه نأخذ أن الله - جل وعلا - يخلق بحكمة، ويقدّر بحكمة؛ الله - جل وعلا - قادر على أن يقول للأرض: «أنبتي الزرع» فتنبت بدون ماء؛ لكن كل شيء مقرون بسبب؛ فكونه جلا وعلا ربط إحياء الأرض بنزول الماء يدل على الحكمة، وأن كل شيء له نظام خاص لا يتعداه منذ خُلق إلى أن يأذن الله تعالى بخراب العالم. وآيات دالة على القدرة: وهي أنك ترى الأرض خاشعة هامدة سوداء شهباء ما فيها شيء؛ فإذا أنزل الله عليها المطر؛ تأتي إليها بعد نحو شهر تجدها تهتز أزهاراً، وأوراقاً، وأشجاراً: قال تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير} [فصلت: 39] ؛ وهذه قدرة عظيمة؛ واللَّهِ! لو أن البشر من أولهم إلى آخرهم اجتمعوا على أن يخرجوا ورقة واحدة من حبة لما استطاعوا؛ وحبة تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة؛ أليس هذا دليلاً على القدرة العظيمة!!! قوله تعالى: { وبث فيها } أي نشر، وفرق؛ وهي معطوفة على قوله تعالى: { أنزل } أي: وفيما بث في الأرض من كل دابة آيات لقوم يعقلون؛ و{ من كل دابة } أي من كل ما يدب على الأرض من صغير، وكبير، وعاقل، وبهيم؛ وأتى بـ{ كل } لإفادة العموم الشامل لجميع الأجناس، والأنواع، والأفراد؛ ففي الأرض دواب لا يَعلَم بأنواعها، ولا أجناسها - فضلاً عن أفرادها - إلا الذي خلقها سبحانه وتعالى يعلم هذه الأجناس، وأنواعها، وأفرادها، وأحوالها، وكل ما يصلحها؛ ففيها من آيات الله الدالة على كمال قدرته، ورحمته، وعلمه، وحكمته ما يبهر العقول؛ تجد هذه الدواب المختلفة المتنوعة، والحشرات الصغيرة كيف هداها الله لما خلقت له؛ قال تعالى: {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50] حتى إنك لترى الماء يدخل في جحر النمل، فترى النملة تخرج من هذا الجحر حاملة أولادها! ماذا ترجو من هذه الأولاد؟! لكن رحمة أرحم الراحمين أن جعل في قلب هذه النملة رحمة لتحمل أولادها عن الغرق؛ كذلك أيضاً السباع الضارية التي تأكل ما دون أولادها من الحيوان: تجدها تحنو على ولدها، وتربيه؛ حتى إذا استقل بنفسه صار عدواً لها، أو صارت عدوة له؛ فالهرة تربي أولادها؛ فإذا استغنوا عنها طردتهم، وصارت عدوة لأولادها؛ فهذا من آيات الله عزّ وجلّ؛ ترى بعض الدواب تدب على الأرض؛ ولكن لا تكاد تدرك جسمها صغراً فضلاً عن أعضائها، وعما في جوفها؛ ومع ذلك فهي عايشة، وتعرف مصالحها، وتعرف جحرها تأوي إليه؛ فهذه من آيات الله عزّ وجلّ؛ ومن درس في علم الأحياء وجد من هذا ما يبهر العقول؛ فما بث الله سبحانه وتعالى في الأرض من الدواب من أجناسها، وأنواعها، وأفرادها فيه من آيات الله ما لا يحصى؛ لأن في كل شيء منه آية؛ وهو لا يحصى أنواعاً، أو أجناساً فضلاً عن أفرادٍ؛ وهذه الدواب تنقسم باعتبار مصالح الخلق إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما فيه مصلحة خالصة، أو راجحة. الثاني: ما فيه مضرة خالصة، أو راجحة؛ لكن مضرتها لها حِكَم كثيرة ليس هذا موضع ذكرها. الثالث: ما لا مضرة فيه، ولا مصلحة؛ ولكن فيه دلالة على كمال الله سبحانه وتعالى. قوله تعالى: { وتصريف الرياح } أي تنويعها في اتجاهها، وشدتها، ومنافعها؛ و{ الرياح } جمع ريح؛ وهي الهواء؛ وفي قراءة: { الريح } بالإفراد؛ والمراد به الجنس؛ والتصريف يشمل تصريفها من حيث الاتجاه؛ تصريفها من حيث الشدة، وعدمها؛ تصريفها من حيث المنافع، وعدمها؛ فمن حيث الاتجاه جعلها الله سبحانه وتعالى متجهة جنوباً، وشمالاً، وغرباً، وشرقاً؛ وهذه هي أصول الجهات؛ وهناك جهات أخرى تكون بينها؛ وتسمى النكبة؛ لأنها ليست في الاستقامة في الشرق، أو الغرب، أو الشمال، أو الجنوب؛ فهي نكباء - ناكبة عن الاتجاه الأصلي. وفي تصريف هذه الرياح آيات: لو بقيت الريح في اتجاه واحد لأضرت بالعالم؛ لكنها تتقابل، فيكسر بعضها حدةَ بعض، ويذهب بعضها بما جاء به البعض الآخر من الأذى، والجراثيم، وغيرها؛ كذلك أيضاً في تصريفها آيات بالنسبة للسحاب فبعضها يجمع السحاب؛ وبعضها يفرقه؛ وبعضها يلقحه؛ وبعضه يدره، فيمطر، كما قال تعالى: {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء} [الروم: 48] ، وقال تعالى: {وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين} [الحجر: 22] ؛ قال المفسرون: تلقح في السحاب؛ وفي تصريف الرياح أيضاً آيات للسفن الشراعية؛ وفيه أيضاً آيات في إهلاك الناس، وإنجاء آخرين: أهلك الله به عاداً، وطرد به الأحزاب عن رسول الله (ص)؛ وأنجى الله رسول الله (ص) بهذه الريح من شر الأحزاب؛ ومن تدبر هذا عرف ما فيها من قدرة الله، ورحمته، وعزته، وحكمته؛ لو أن جميع مكائن الدنيا كلها اجتمعت، وصارت على أقوى ما يكون من نَفْث هواء لا يمكن أن تحرك ساكناً إلا فيما حولها فقط؛ لكن أن تصل من أقصى الشمال إلى الجنوب، أو بالعكس فلا؛ والله - جل وعلا - يقول للشيء إذا أراده: {كن فيكون} [البقرة: 117] ؛ فتجد الرياح شديدة شمالية؛ وفي لحظة تنعكس، وتكون جنوبية شديدة؛ هذه تمام القدرة العظيمة، حيث يدبر الله هذه الرياح بأمر لا يستطيعه البشر؛ ولهذا صار تصريف الرياح آية من آيات الله العظيمة الدالة على قدرته؛ ثم إن في تصريفها أيضاً مصالح للسفن الجوية؛ لأن لها تأثيراً على الطائرات - كما يقولون؛ وكذلك بالنسبة للسيارات لها تأثير. قوله تعالى: { والسحاب المسخر بين السماء والأرض } أي وفي السحاب المسخر بين السماء والأرض آيات لقوم يعقلون؛ و{ السحاب } هو هذا الغمام، والمزن؛ وسمي سحاباً؛ لأنه ينسحب انسحاباً في الجو بإذن الله؛ و{ المسخر } أي المذلل بأمر الله لمصالح الخلق؛ ومن الآيات فيه أنه دال على القدرة، والرحمة، والحكمة: أما دلالته على القدرة: فلأنه لا يستطيع أحد أن يفرقه إلا الله؛ ولا يستطيع أحد أن يوجهه إلى أي جهة إلا الله؛ ثم من يستطيع أن يجعل هذا السحاب أحياناً متراكماً حتى يكون مثل الجبال السود يوحش من يراه؛ وأحياناً يكون خفيفاً؛ وأحياناً يكون سريعاً؛ وأحياناً يكون بطيئاً؛ وأحياناً لا يتحرك؛ لأنه يسير بأمر الله. وأما دلالته على الحكمة: فلأنه يأتي من فوق الرؤوس حتى يكون شاملاً لما ارتفع من الأرض، وما انهبط منها؛ ويأتي قطرات حتى لا ينهدم البنيان، ولا تشقق الأرض. وأما دلالته على الرحمة: فلما يحصل من آثاره من نبات الأرض المختلف الذي يعيش عليه الإنسان، والبهائم. وقوله تعالى: { بين السماء والأرض }؛ المراد بـ{ السماء } السقف المرفوع؛ و{ الأرض }: أرضنا هذه؛ وهذه البينية لا تقتضي الملاصقة، ولا المماسة - كما هو ظاهر؛ وبهذا يعرف الرد على الذين أنكروا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن»(1)، وقالوا: «لو كان هذا حقيقة للزم أن تكون أصابع الرحمن داخل أجوافنا؛ وهذا مستحيل؛ فيكون ظاهر الخبر مستحيلاً، ويصرف إلى معنى أن الله يقلب القلوب دون أن تكون بين أصابعه»؛ ولا شك أن هذا تحريف للكلم عن مواضعه؛ وقد تبين بهذه الآية الكريمة أن البينية لا تستلزم الملاصقة، والمماسة؛ وعليه فلا يكون من لازم كون القلوب بين أصابع الرحمن أن تكون أصابعه داخل أجوافنا؛ ويقال أيضاً: بدر بين مكة والمدينة - هذا في المكان، وبينهما مسافة واضحة. قوله تعالى: { لآيات } اللام للتوكيد؛ و «آيات» اسم { إنّ } مؤخر منصوب بها؛ و «آيات» جمع آية؛ وهي العلامة المعيِّنة لمعلومها؛ وصارت تلك آيات؛ لأنها دالة على كمال علم الله، وقدرته، ورحمته، وحكمته، وسلطانه، وغير ذلك من مقتضى ربوبيته. قوله تعالى: { لقوم يعقلون } أي لهم عقول؛ والمراد هنا عقل الرشد الحامل لمن اتصف به على الانتفاع بالعقل؛ فالإنسان العاقل حقاً إذا تأمل هذه الأشياء وجد أن فيها آيات تدل على خالقها - جل وعلا -، وموجدها، وعلى ما تضمنته من صفات كماله؛ أما الإنسان المعرض - وإن كان ذكاؤه قوياً - فإنه لا ينتفع بها - ولهذا وصف الله سبحانه وتعالى الكفار بأنهم لا يعقلون مع أنهم في العقل الإدراكي - يدركون به ما ينفعهم، وما يضرهم - عقلاء؛ لكن نفاه الله عنهم لعدم انتفاعهم به، وعدم عقلهم الرشدي الذي يرشدهم إلى ما فيه مصلحتهم. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: عظم خلق السموات، والأرض؛ لقوله تعالى: { لآيات }؛ فلولا أنه عظيم ما كان آيات. 2 ــــ ومنها: أن السموات متعددة؛ لقوله تعالى: { إن في خلق السموات }. 3 ــــ ومنها: أن السموات مخلوقة؛ فهي إذاً كانت معدومة من قبل؛ فليست أزلية. ويتفرع على هذه الفائدة الرد على الفلاسفة الذين يقولون بقدم الأفلاك ــــ يعنون أنها غير مخلوقة، وأنها أزلية أبدية؛ ولهذا أنكروا انشقاق القمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن الأفلاك العلوية لا تقبل التغيير، ولا العدم؛ وفسروا قوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} [القمر: 1] بأن المراد ظهور العلم، والنور برسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولا شك أن هذا تحريف باطل مخالف للأحاديث المتواترة الصحيحة في انشقاق القمر انشقاقاً حسياً. 4 ــــ ومن فوائد الآية: أنه ينبغي للإنسان أن يتأمل في هذه السموات والأرض ليصل إلى الآيات التي فيها؛ فيكون من الموقنين. 5 ــــ ومنها: أن الآيات في خلق السموات، والأرض متنوعة بحسب ما تدل عليه من القدرة، والحكمة، والرحمة، وما إلى ذلك. 6 ــــ ومنها: ما في اختلاف الليل، والنهار من الآيات، والعبر التي سبق بيان شيء منها؛ لقوله تعالى: { واختلاف الليل والنهار }. 7 ــــ ومنها: أن اختلاف الليل، والنهار من رحمة الله، وحكمته. 8 ــــ ومنها: ما في الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس من آيات الله، ونعمه؛ وسبق تفصيل ذلك. 9 ــــ ومنها: ما تضمنه إنزال المطر من السماء؛ ففيه آيات عظيمة سبقت الإشارة إليها. 10 ــــ ومنها: ما تضمنه قوله تعالى: { فأحيا به الأرض بعد موتها } من الآيات؛ وسبق الكلام عليها؛ وهي آيات عظيمة دالة على كمال القدرة، والرحمة، والعظمة، وعلى إحياء الله سبحانه وتعالى الموتى. 11 ــــ ومنها: ما تضمنه قوله تعالى: { وبث فيها من كل دابة } من الآيات التي سبق بيان شيء منها. 12 ــــ ومنها: ما في تصريف الرياح من الآيات التي سبق ذكر شيء منها. 13 ــــ ومنها: ما في السحاب المسخر بين السماء، والأرض من الآيات العظيمة؛ وسبق ذكر شيء منها. 14 ــــ ومنها: مدح العقل، وأنه به يستظهر الإنسان الآيات التي تزيده إيماناً، ويقيناً؛ لقوله تعالى: { لقوم يعقلون 15 ــــ ومنها: أن الناس ينقسمون في هذه الآيات إلى قسمين: قسم يعقل ما فيها من الآيات، ويستدل به على ما لله سبحانه وتعالى فيها من كمال الصفات؛ وقسم لا يعقلون ذلك، وقد وصفهم الله تعالى بقوله: { إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلًا } [الفرقان: 44] . القرآن {)وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) (البقرة:165) التفسير: لما ذكر الله سبحانه وتعالى: { وإلهكم إله واحد... }، واستدل على ألوهيته بما في خلق السموات، والأرض، وما ذكر من الآيات، بيّن بعد ذلك أن من الناس ــــ مع هذه الآيات الواضحة ــــ من يتخذ من دون الله أنداداً. { 165 } قوله تعالى: { ومن الناس }؛ { مِن } بمعنى بعض؛ { مَن يتخذ }؛ { مَن }: اسم موصول مبتدأ مؤخر؛ وعند بعض النحويين أن { مِن } مبتدأ؛ وأن { مَن } خبره؛ لكن المشهور ما قلناه أولاً. وقوله تعالى: { من يتخذ من دون الله أنداداً } أي من يجعل من دون الله آلهة أنداداً؛ و{ أنداداً } جمع ندّ؛ وهو الشبيه النظير؛ لأنه من: نادّه ينادّه إذا كان نظيراً له مكافئاً له. قوله تعالى: { يحبونهم كحب الله } أي يحبون تلك الأنداد؛ وجاء الضمير جمعاً للعاقل دون أن يأتي بضمير المؤنث - مع أن الأكثر من هذه الأنداد أنها لا تعقل؛ وغير العاقل يكون ضميره مؤنثاً - باعتبار عقيدة عابديها؛ لأنهم يعتقدون أنها تنفع وتضر. وجملة: { يحبونهم } صفة لأنداد؛ ويحتمل أن تكون استئنافية لبيان معنى اتخاذهم أنداداً. وقوله تعالى: { كحب الله } أي كحبهم لله؛ أو كحب المؤمنين لله؛ والأول أظهر؛ ولهذا جعلوهم أنداداً - أي هؤلاء جعلوا هذه الأصنام مساوية لله في المحبة فيحبونهم كحب الله -؛ فهم يحبون هذه الأصنام، ويعتقدون أنها تنفع، وتضر؛ ولا فرق في ذلك بين من يتخذ محبوباً إلى الله عز وجل، أو غير محبوب إليه؛ فمن اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم نداً لله في المحبة، والتعظيم، كمن اتخذ صنماً من شجر، أو حجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الصنم كلاهما لا يستحق أن يكون نداً لله عز وجل؛ ولهذا لما نزلت: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} [الأنبياء: 98] ، وكان ظاهر الآية يشمل الأنبياء الذين عُبدوا من دون الله، استثناهم الله سبحانه وتعالى في قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} [الأنبياء: 101] - ولو عُبِدوا من دون الله -؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل قال له: «ما شاء الله وشئت»: «أجعلتني لله نداً!!! بل ما شاء الله وحده»(1)؛ فأنكر عليه أن يجعله نداً لله. قوله تعالى: { والذين آمنوا أشد حباً لله }؛ { الذين }: مبتدأ؛ و{ أشد }: خبره؛ و{ حباً }: تمييز؛ لأنها بعد أفعل تفضيل؛ و{ أشد } اسم تفضيل يقتضي مفضلاً، ومفضلاً عليه؛ فالمفضل: حب الذين آمنوا لله؛ والمفضل عليه: إما حب هؤلاء لأصنامهم؛ فيكون المعنى: أن الذين آمنوا أشد حباً لله من هؤلاء لأصنامهم؛ وإما أن المفضل عليه حب هؤلاء لله؛ فيكون المعنى: أن الذين آمنوا أشد حباً لله من هؤلاء لله؛ وكلا الاحتمالين صحيح؛ أما الأول فلأن حب المؤمنين لله يكون في السراء، والضراء؛ وحب هؤلاء لأصنامهم في السراء فقط؛ وعند الضراء يلجؤون إلى الله عز وجل؛ فإذاً ليس حبهم الأصنام كحب المؤمنين لله عز وجل؛ ثم إن بعضهم يصرح، فيقول: «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى»؛ وأما الاحتمال الثاني في الآية فوجه التفضيل ظاهر؛ لأن حب المؤمنين لله خالص لا يشوبه شيء؛ وحب هؤلاء لله مشترك: يحبون الله، ويجعلون معه الأصنام نداً. قوله تعالى: { ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب } فيها قراءات؛ أولاً: { ولو يرى الذين ظلموا إذ يَرون العذاب } بياء الغيبة في { يرى }، وبفتح الياء في { يَرون }؛ ثانياً: { ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب } بتاء الخطاب في { ترى }، وبفتح الياء في { يَرون }؛ وبضمها: { يُرون }؛ فالقراءات إذاً ثلاث. قوله تعالى: { الذين ظلموا }؛ الظلم في الأصل هو النقص؛ ومنه قوله تعالى: {كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً} [الكهف: 33] أي لم تنقص؛ ولكنه يختلف بحسب السياق؛ فقوله تعالى: { الذين ظلموا } هنا: أي الذين نقصوا الله حقه، حيث جعلوا له أنداداً؛ وهم أيضاً ظلموا أنفسهم - أي نقصوها حقها -؛ لأن النفس أمانة عندك يجب أن ترعاها حق رعايتها؛ ولهذا قال تعالى: {قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها} [الشمس: 9، 10] ؛ فالنفس أمانة عندك؛ فإذا عصيت ربك فإنك ظالم لنفسك. قوله تعالى: { إذ يرون العذاب }؛ { إذ } ظرف بمعنى «حين»؛ أي حين يرون العذاب؛ وقال بعض المعربين: { إذ } هنا بمعنى «إذا»؛ وتأتي «إذ» بمعنى «إذا»؛ لأنها إذا تعلقت بمضارع لا تكون للماضي؛ إذ إن الماضي للماضي؛ والمضارع للمستقبل؛ فهنا الآية للمستقبل؛ فتكون «إذ» بمعنى «إذا»؛ ونظيرها قوله تعالى: {إذ الأغلال في أعناقهم} [غافر: 71] أي إذا الأغلال في أعناقهم؛ فكلمة { إذ } إذا كان العامل فيها فعلاً مضارعاً فهي للمستقبل بمعنى «إذا»؛ والحكمة في كونها جاءت للماضي - وهي في الحقيقة للمستقبل - بيان تحقق وقوعه؛ فصار المستقبل كأنه أمر ماض؛ ونظيره في «الفعل» قوله تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} [النحل: 1] ؛ {أتى} بمعنى المستقبل؛ لأنه قال: {فلا تستعجلوه} ؛ ولو كان قد أتى لم يصح أن يقال: {فلا تستعجلوه} . قوله تعالى: { إذ يرون العذاب }؛ على قراءة { يَرون } بفتح الياء الرؤية هنا بصرية؛ ولهذا لم تنصب إلا مفعولاً واحداً؛ وكذلك على قراءة { يُرون } بضم الياء هي بصرية؛ لكنها تعدت إلى مفعولين بالهمزة؛ فهي رباعية؛ لأنها من: أراه يريه؛ فـ{ يُرون } أي يُجعلون يَرون؛ وأصل «أراه»: «أرآه» لكن حذفت الهمزة تخفيفاً؛ والحاصل أن { يُرون } هي رؤية بصرية - أي يريهم الله عز وجل العذاب -؛ و{ العذاب } معناه العقوبة - والعياذ بالله - التي تحصل لهم على أفعالهم. قوله تعالى: { أن القوة لله جميعاً }؛ اللام هنا للاختصاص - يعني أن المختص بالقوة الكاملة من جميع الوجوه هو الله -؛ و{ جميعاً } حال من { القوة }؛ أي حال كونها جميعاً؛ فلا يشذ منها شيء؛ فكل القوة لله سبحانه وتعالى. قوله تعالى: { وأن الله شديد العذاب } معطوفة على قوله تعالى: { أن القوة لله جميعاً }؛ و{ شديد العذاب } أي قوي العقوبة. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: أن بعض الناس يجعل لله نداً في المحبة يحبه كحب الله؛ لقوله تعالى: { يحبونهم كحب الله 2 ــــ ومنها: أن محبة الله من العبادة؛ لأن الله جعل من سوّى غيره فيها مشركاً متخذاً لله نداً؛ فالمحبة من العبادة؛ بل هي أساس العبادة؛ لأن أساس العبادة مبني على الحب، والتعظيم؛ فبالحب يفعل المأمور؛ وبالتعظيم يجتنب المحظور؛ هذا إذا اجتمعا؛ وإن انفرد أحدهما استلزم الآخر. 3 ــــ ومنها: أن من جعل لله نداً في المحبة فهو ظالم؛ لقوله تعالى: { ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب }. 4 ــــ ومنها: إثبات الجزاء؛ لقوله تعالى: { إذ يرون العذاب }. 5 ــــ ومنها: إثبات القوة لله؛ لقوله تعالى: { أن القوة لله جميعاً }؛ فإن قيل: كيف يتفق قوله تعالى: { جميعاً } مع أن للمخلوق قوة؟ فالجواب: أن قوة المخلوق ليست بشيء عند قوة الخالق؛ وهذا كقوله تعالى: {فإن العزة لله جميعاً} [النساء: 139 مع أن الله أثبت للمخلوق عزة؛ وهكذا نقول في بقية الصفات التي يشترك فيها الخالق والمخلوق في أصل الصفة. 6 ــــ ومنها: أن المؤمن محب لله عز وجل أكثر من محبة هؤلاء لأصنامهم؛ لقوله تعالى: { والذين آمنوا أشد حباً }. 7 ــــ ومنها: أنه كلما ازداد إيمان العبد ازدادت محبته لله؛ وجه ذلك أن الله سبحانه وتعالى رتب شدة المحبة على الإيمان؛ وقد عُلم أن الحكم إذا عُلِّق على وصف فإنه يقوى بقوة ذلك الوصف، وينقص بنقصه؛ فكلما ازداد الإنسان إيماناً بالله عز وجل ازداد حباً له. 8 ــــ ومنها: شدة عذاب الله عز وجل لهؤلاء الظالمين؛ لقوله تعالى: { وأن الله شديد العذاب }؛ فإن قيل: كيف يكون الله عز وجل شديد العذاب مع أنه أرحم من الوالدة بولدها؟ فالجواب: أن هذا من كمال عزه، وسلطانه، وعدله، وحكمته؛ لأنه أنذر مستحق العذاب، وأعذر منهم بإرسال الرسل؛ فلم يبق لهم حجة توجب تخفيف العذاب عنهم؛ فلو رحم هؤلاء الكافرين به لكان لا فرق بينهم والمؤمنين به. وشدة عذاب الله لهؤلاء مذكور في القرآن، والسنة: قال الله تعالى: {وإن يستغيثوا} [الكهف: 29] أي أهل النار {يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه} [الكهف: 29] ؛ فما بالك لو وصلت إلى الأمعاء؟!!؛ ولهذا قال تعالى في آية أخرى: {وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم} [محمد: 15] ؛ ومع ذلك تتقطع، وتلتئم بسرعة كما قال تعالى في جلودهم: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها} [النساء: 56] ؛ و {كلما} تفيد التكرار؛ وجوابها يفيد الفورية؛ والحكمة: {ليذوقوا العذاب} [النساء: 56] ؛ وقال تعالى: {إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون * كغلي الحميم * خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم * ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم} [الدخان: 43 ــــ 48] ؛ ويقال له أيضاً: تبكيتاً، وتوبيخاً، وتنديماً، وتلويماً، { ذق }؛ ويذكّر أيضاً بحاله في الدنيا فيقال له: { إنك أنت العزيز الكريم }؛ فحينئذ يتقطع ألماً، وحسرة؛ ولا شك أن المؤمنين يسرون بعذاب أعداء الله؛ فعذابهم رحمة للمؤمنين، كما قال تعالى: { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون * على الأرائك ينظرون }. القرآن { )إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) (البقرة:166) التفسير: { 166 } قوله تعالى: { إذ تبرأ الذين اتبعوا }؛ { إذ } ظرف عامله محذوف؛ والتقدير: اذكر إذ تبرأ؛ والمراد بالذكر هنا: الذكر للغير، والتذكر أيضاً؛ فالله سبحانه وتعالى يُذكِّرنا، ويأمرنا أيضاً أن نذكر لغيرنا؛ و{ تبرأ } أي تخلى، وبعُد { الذين اتُّبِعوا }: وهم الرؤساء، والسادة يتبرءون من { الذين اتَّبعوا }: وهم الأتباع، والضعفاء، وما أشبههم؛ فمن ذلك مثلاً: رؤساء الكفر يدعون الناس إلى الكفر، مثل فرعون: فقد دعا إلى الكفر؛ فهو متَّبَع؛ وقومه متَّبِعون؛ وكذلك غيره من رؤساء الكفر، والضلال، فإنهم أيضاً متَّبَعون؛ ومن تبعهم فهو متّبِع، فهؤلاء يتبرأ بعضهم من بعض؛ وقد ذكر الله سبحانه وتعالى مناقشة بعضهم لبعض، ومحاجة بعضهم بعضاً في عدة آيات. ولا يشمل قوله تعالى: { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } من اتبع أئمة الهدى؛ فالمتبعون للرسل لا يتبرأ منهم الرسل؛ والمتبعون لأئمة الهدى لا يتبرأ منهم أئمة الهدى؛ لقوله تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} [الزخرف: 67] ؛ فالأخلاء، والأحبة يوم القيامة يتبرأ بعضهم من بعض إلا المتقين. قوله تعالى: { ورأوا العذاب }؛ أمامنا الآن فعل ماض في { تبرأ }، وفعل ماض في { رأوا } ــــ مع أن هذا الأمر مستقبل ــــ؛ لكن لتحقق وقوعه عبر عنه بالماضي؛ وهذا كثير في القرآن. وقوله تعالى: { ورأوا العذاب } أي رأوه بأعينهم، كما قال تعالى: {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً} [الكهف: 53] ؛ و{ العذاب } هو العقوبة التي يعاقب الله بها من يستحقها. قوله تعالى: { وتقطعت بهم الأسباب }؛ الباء هنا إما أن تكون بمعنى «عن»؛ أو تكون صلة بمعنى أنهم متشبثون بها الآن، ثم تنقطع بهم كما ينقطع الحبل بمن تمسك به للنجاة من الغرق؛ و{ الأسباب } جمع سبب؛ وهو ما يتوصل به إلى غيره؛ والمراد بها هنا كل سبب يؤملون به الانتفاع من هؤلاء المتبوعين، مثل قولهم: {اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} [العنكبوت: 12] ، وقول فرعون لقومه: {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} [غافر: 29] ؛ فهذه الأسباب التي سلكها المتبعون ظناً منهم أنها تنقذهم من العذاب إذا كان يوم القيامة تقطعت بهم؛ ولا يجدون سبيلاً إلى الوصول إلى غاياتهم؛ وفسر ابن عباس رضي الله عنهما { الأسباب } هنا بالمودة؛ أي تقطعت بهم المودة؛ وهذا التفسير على سبيل التمثيل؛ والآية أعم من ذلك؛ ووجه تفسير ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية في سياق محبة هؤلاء المشركين لأصنامهم. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: أن المتبوعين بالباطل لا ينفعون أتباعهم؛ لقوله تعالى: { إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا }؛ ولو كانوا ينفعونهم لم يتبرؤوا منهم. 2 ــــ ومنها: أن الأمر لا يقتصر على عدم النفع؛ بل يتعداه إلى البراءة منهم، والتباعد عنهم؛ وهذا يكون أشد حسرة على الأتباع مما لو كان موقفهم سلبياً. 3 ــــ ومنها: ثبوت العقاب؛ لقوله تعالى: { ورأوا العذاب }. ويتفرع عليه ثبوت البعث. 4 ــــ ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يجمع يوم القيامة بين الأتباع والمتبوعين توبيخاً، وتنديماً لهم؛ ويتبرأ بعضهم من بعض؛ لأن هذا ــــ لا شك ــــ أعظم حسرة إذا صار متبوعه الذي كان يعظمه في الدنيا يتبرأ منه وجهاً لوجه. 5 ــــ ومنها: أن جميع الأسباب الباطلة التي لا تُرضي الله ورسوله، تتقطع بأصحابها يوم القيامة، وتزول، ولا تنفعهم. 6 ــــ ومنها: أن من استغاث بالرسل، أو غيرهم من المخلوقات فيما لا يقدر عليه إلا الله، فقد ضل في دينه، وسفه في عقله، وأتى الشرك الأكبر. القرآن {)وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (البقرة:167) التفسير: { 167 } قوله تعالى: { وقال الذين اتبعوا }: هم الأتباع. قوله تعالى: { لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم }؛ { لو } هنا ليست شرطية؛ ولكنها للتمني؛ يعني: ليت لنا كرة فنتبرأ؛ والدليل على أنها للتمني أن الفعل نصب بعدها؛ وهو منصوب بـ«أنْ» المضمرة بعد الفاء السببية؛ و«لو» تأتي في اللغة العربية على ثلاثة أوجه: تكون شرطية؛ وتكون للتمني؛ وتكون مصدرية؛ فـ{ لو } في قوله تعالى: {وودوا لو تكفرون} [الممتحنة: 2] مصدرية؛ و{ لو } في قوله تعالى: {ولو شاء الله ما اقتتلوا} [البقرة: 253] شرطية؛ { لو } في قوله تعالى: { لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم } للتمني؛ ومثلها قوله تعالى: {فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين} [الشعراء: 102] . و«الكرة» الرجوع إلى الشيء؛ والمراد هنا: الرجوع إلى الدنيا؛ فنتبرأ منهم في الدنيا إذا رجعنا كما تبرءوا منا هنا في الآخرة؛ فنجازيهم بما جازونا به؛ لكن أنى لهم ذلك!!! فهذا التمني لا ينفعهم؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: { كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار }؛ و{ كذلك }: الكاف: اسم بمعنى «مثل»؛ وهي مفعول مطلق عامله الفعل بعده؛ وهذا كثيراً ما يأتي في القرآن، كقوله تعالى: {وكذلك يفعلون} [النمل: 3] ، وقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} [البقرة: 143] . وقوله تعالى: { يريهم } من: أرى يُري؛ فزيادة الهمزة جعلتها تنصب ثلاثة مفاعيل؛ الأول: الضمير، والثاني: { أعمالهم }؛ والثالث: { حسرات }؛ و{ حسرات } جمع حسرة؛ وهي الندم مع الانكماش، والحزن؛ فهؤلاء الأتباع شعورهم بالندم، والخيبة، والخسران لا يتصور؛ فالأعمال التي عملوها لهؤلاء المتبوعين صارت - والعياذ بالله - خسارة عليهم، وندماً؛ ضاعت بها دنياهم، وآخرتهم؛ وهذا أعظم ما يكون من الحسرة. قوله تعالى: { وما هم بخارجين من النار }، أي أنهم خالدون فيها. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: أن هؤلاء الأتباع يتمنون أن يرجعوا إلى الدنيا ليتبرءوا من متبوعيهم كما تبرأ هؤلاء منهم في الآخرة؛ وهو غير ممكن؛ وما يزيدهم هذا إلا حسرة؛ ولهذا قال الله تعالى: { كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم }. 2 ــــ ومنها: تحسر هؤلاء، وأمثالهم الذين فاتهم في هذه الدنيا العمل الصالح؛ فإنهم يتحسرون في الآخرة تحسراً لا نظير له لا يدور في خيالهم اليوم، ولا في خيال غيرهم؛ لأنه ندم لا يمكن العتبى منه. 3 ــــ ومنها: إثبات نكال الله بهم؛ لقوله تعالى: { كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم }. 4 ــــ ومنها: أن المشركين مخلدون في النار لا يخرجون منها؛ لقوله تعالى: { وما هم بخارجين من النار }؛ وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الخلود الأبدي في النار في ثلاثة مواضع من القرآن: في سورة النساء؛ وفي سورة الأحزاب؛ وفي سورة الجن؛ وبه يبطل قول من ادعى أن النار تفنى؛ لأن خلود الماكث الأبدي يدل على خلود مكانه. 5 ــــ ومنها: إثبات النار، وأنها حق. القرآن {)يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:168) التفسير: { 168 } هذه الآية جاءت في سورة البقرة؛ وسورة البقرة مدنية؛ وقد سبق أنه جاء أيضاً مثلها: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم} [البقرة: 21] ؛ وقد ذكر كثير من المؤلفين في أصول التفسير أن الغالب في السور المدنية أن يكون الخطاب فيها بـ {يا أيها الذين آمنوا} [البقرة: 104] ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة صارت المدينة بلاد إسلام؛ وهي أول بلد إسلامي يحكمه المسلمون في هذه الرسالة؛ فصار التوجه إليها بالخطاب بـ{ يا أيها الذين آمنوا }؛ لكنها ليست قاعدة؛ ولكنها ضابط يخرج منه بعض المسائل؛ لأن من السور المدنية فيها { يا أيها الناس }، كسورة النساء، وسورة الحجرات. قوله تعالى: { يا أيها الناس }؛ { الناس } أصلها: الأناس؛ وحذفت الهمزة منها تخفيفاً؛ والمراد بـ{ الناس } بنو آدم. قوله تعالى: { كلوا مما في الأرض }؛ «مِن» يحتمل أن تكون لبيان الجنس؛ ويحتمل أن تكون للتبعيض؛ لكن كونها لبيان الجنس أولى؛ ويرجحه قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة: 29] ؛ أي كلوا من هذا ما شئتم؛ ويشمل كل ما في الأرض من أشجار، وزروع، وبقول، وغيرها؛ ومن حيوان أيضاً؛ لأنه في الأرض. قوله تعالى: { حلالًا }: منصوبة على الحال من «ما» ؛ أي كلوه حال كونه حلالاً - أي محللاً -؛ فهي بمعنى اسم المفعول؛ و{ طيباً } حال أخرى - يعني: حال كون طيباً - مؤكد لقوله تعالى: { حلالًا }؛ ويحتمل أن يكون المراد بـ «الحلال» ما كان حلالاً في كسبه؛ وبـ «الطيب» ما كان طيباً في ذاته؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة: 275] ، وقوله تعالى في الميتة، ولحم الخنزير: {فإنه رجس} [الأنعام: 145] ؛ وهذا أولى؛ لأن حمل الكلام على التأسيس أولى من حمله على التوكيد. قوله تعالى: { ولا تتبعوا خطوات الشيطان }؛ { لا } ناهية؛ و «اتباع الخطوات» معناه: أن يتابع الإنسان غيره في عمله، كمتبع الأثر الذي يتبع أثر البعير، وأثر الدابة، وما أشبهها؛ و{ خطوات الشيطان } أي أعماله التي يعملها، ويخطو إليها؛ وهو شامل للشرك فما دونه؛ فإن الشيطان يأمر بالفحشاء، والمنكر؛ قال تعالى: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على ما لا تعلمون} [البقرة: 169] ، وقال تعالى: {ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر} [النور: 21] ؛ فكل شيء حرمه الله فهو من خطوات الشيطان سواء كان عن استكبار، أو تكذيب، أو استهزاء، أو غير ذلك؛ لأنه يأمر به، وينادي به، ويدعو إليه؛ و{ الشيطان } من: شطن؛ فالنون أصلية؛ وليس من «شاط»؛ لأنه مصروف في القرآن؛ قال تعالى: {وما هو بقول شيطانٍ رجيمٍ} [التكوير: 25] ؛ ولو كان من «شاط» لكانت النون زائدة، والألف زائدة؛ فيكون ممنوعاً من الصرف؛ إلا أنه قد يقال: لا يمنع من الصرف؛ لأن مؤنثه: شيطانة؛ والذي يمنع من الصرف إذا كان مؤنثه «فعلى»، كـ«سكران»، و«سكرى»؛ ومعنى «شطن» بعُد؛ فسمي الشيطان بذلك لبعده عن رحمة الله عز وجل. قوله تعالى: { إنه لكم عدو مبين }؛ محل هذه الجملة استئنافية تعليل لما قبلها؛ والعدو ضد الصديق؛ وإن شئت فقل: ضد الولي؛ لقوله تعالى: { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء }؛ وقد حده الفقهاء - رحمهم الله - بقولهم: من سره مساءة شخص؛ أو غمه فرحه فهو عدو؛ فالعدو من يحزن لفرحك، ويُسَرّ لحزنك. وقوله تعالى: { مبين } أي ظاهر العداوة؛ وقد كان عدواً لأبينا آدم (ص)؛ فما زالت عداوته إلى قيام الساعة؛ وقال تعالى عنه: {لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً * ولأضلنَّهم ولأمنينَّهم ولآمرنَّهم فليبتكنَّ آذان الأنعام ولآمرنَّهم فليغيرنَّ خلق الله} [النساء: 118، 119] ، ثم قال تعالى: {ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً} [النساء: 119] . الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: إظهار منة الله على عباده، حيث أباح لهم جميع ما في الأرض من حلال طيب؛ لقوله تعالى: { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً }. 2 ــــ ومنها: أن الأصل فيما في الأرض الحل والطيب حتى يتبين أنه حرام. 3 ــــ ومنها: أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؛ لقوله تعالى: { يا أيها الناس }؛ وهم داخلون في هذا الخطاب؛ ومخاطبتهم بفروع الشريعة هو القول الصحيح؛ ولكن ليس معنى خطابهم بها أنهم ملزمون بها في حال الكفر؛ لأننا ندعوهم أولاً إلى الإسلام، ثم نلزمهم بأحكامه؛ وليس معنى كونهم مخاطبين بها أنهم يؤمرون بقضائها؛ والدليل على الأول قوله تعالى: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} [التوبة: 54] ؛ فكيف نلزمهم بأمر لا ينفعهم؛ هذا عبث، وظلم؛ وأما الدليل على الثاني فقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38] ؛ ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحداً ممن أسلم بقضاء ما فاته من الواجبات حال كفره؛ والفائدة من قولنا: إنهم مخاطبون بها – كما قال أهل العلم – زيادة عقوبتهم في الآخرة؛ وهذا يدل عليه قوله تعالى: (إلا أصحاب اليمين* في جنات يتساءلون* عن المجرمين* ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين* ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين* وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين} [المدثر: 39 ــــ 47] . 4 ــــ ومن فوائد الآية: تحريم اتباع خطوات الشيطان؛ لقوله تعالى: { ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين }؛ ومن ذلك الأكل بالشمال، والشرب بالشمال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يأكل أحدكم بشماله، ولا يشرب بشماله؛ فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله»(1)؛ ومن اتباع خطوات الشيطان القياس الفاسد؛ لأن أول من قاس قياساً فاسداً هو إبليس؛ لأن الله لما أمره بالسجود لآدم عارض هذا الأمر بقياس فاسد: قال: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} [ص~: 38] ؛ يعني: فكان الأولى هو الذي يسجد؛ فهذا قياس في مقابلة النص؛ فاسد الاعتبار؛ ومن اتباع خطوات الشيطان أيضاً الحسد؛ لأن الشيطان إنما قال ذلك حسداً لآدم؛ وهو أيضاً دأب اليهود، كما قال تعالى: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم} [البقرة: 109] ؛ وكل خُلق ذميم، أو عمل سوء، فإنه من خطوات الشيطان. 5 ــــ ومن فوائد الآية: تأكيد عداوة الشيطان لبني آدم؛ لقوله تعالى: { إنه لكم عدو مبين }؛ فإن الجملة مؤكدة بـ «إن» . 6 ــــ ومنها: ظهور بلاغة القرآن؛ وذلك لقرن الحُكم بعلته؛ فإن قرن الحكم بعلته له فوائد؛ منها معرفة الحكمة؛ ومنها زيادة طمأنينة المخاطب؛ ومنها تقوية الحكم؛ ومنها عموم الحكم بعموم العلة ــــ يعني القياس ــــ؛ مثاله قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام: 145] ؛ فإن مقتضى هذا التعليل أن كل ما كان نجساً فهو محرم. 7 ــــ ومنها: التحذير الشديد من اتباع خطوات الشيطان؛ لقوله تعالى: { إنه لكم عدو مبين }؛ وما أظن أحداً عاقلاً يؤمن بعداوة أحد ويتبعه أبداً. القرآن { )إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:169) التفسير: { 169 } قوله تعالى: { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء }؛ { إنما } أداة حصر؛ و«الحصر» إثبات الحكم في المذكور، ونفيه عما سواه، كما لو قلت: «إنما القائم زيد»؛ أثبتَّ القيام لزيد، ونفيته عمن سواه؛ يعني ما يأمركم إلا بالسوء والفحشاء... إلخ. وقوله تعالى: { يأمركم } أي الشيطان؛ والخطاب للناس جميعاً؛ لأن الآيات كلها سياقها للناس. وقوله تعالى: { بالسوء } أي كل ما يسوء من المعاصي الصغيرة؛ أي السيئات؛ و{ الفحشاء } أي المعاصي الكبيرة، كالزنا؛ فهو يأمر بهذا، وبهذا؛ مع أن المعاصي الصغار تقع مكفّرة بالأعمال الصالحة إذا اجتنبت الكبائر؛ لكنه يأمر بها؛ لأنه إذا فعلها الإنسان مرة بعد أخرى فإنه يفسق، ويقسو قلبه؛ ثم لا ندري أتقوى هذه الأعمال الصالحة على تكفير السيئات، أم يكون فيها خلل، ونقص يمنع من تكفيرها السيئات. قوله تعالى: { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } معطوف على قوله تعالى: { بالسوء } يعني أن الشيطان يأمركم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون ــــ أي تنسبوا إليه القول من غير علم ــــ؛ وعطْف { أن تقولوا على الله ما لا تعلمون } على { السوء والفحشاء } من باب عطف الخاص على العام؛ فإنه داخل إما في السوء، أو الفحشاء؛ وهو أيضاً إلى الفحشاء أقرب. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: أن للشيطان إرادة، وأمراً؛ لقوله تعالى: { إنما يأمركم }. 2 ــــ ومنها: أن الشيطان لا يأمر بالخير؛ لقوله تعالى: { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء }؛ وهذا حصر بـ{ إنما }؛ وهو يوازن: ما يأمركم إلا بالسوء والفحشاء. 3 ــــ ومنها: أن الإنسان إذا وقع في قلبه همّ بالسيئة أو الفاحشة فليعلم أنها من أوامر الشيطان، فليستعذ بالله منه؛ لقوله تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} [الأعراف: 200] . 4 ــــ ومنها: أن القول على الله بلا علم من أوامر الشيطان؛ لقوله تعالى: { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }؛ والقول على الله سبحانه وتعالى ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يقول على الله ما يعلم أن الله قاله؛ هذا جائز؛ ويصل إلى حد الوجوب إذا دعت الحاجة إليه. القسم الثاني: أن يقول على الله ما يعلم أن الله قال خلافه؛ فهذا حرام؛ وهذا أشد الأقسام لما فيه من محادة الله. القسم الثالث: أن يقول على الله ما لا يعلم أن الله قاله؛ وهذا حرام أيضاً. فصار القول على الله حراماً في حالين؛ إحداهما: أن يقول على الله ما لا يعلم أن الله قاله، أم لم يقله؛ والثانية: أن يقول على الله ما يعلم أن الله قال خلافه. وقوله تعالى: { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } يشمل القول على الله في ذاته ، كالقائلين أنه سبحانه وتعالى ليس بداخل العالم، ولا خارجه، ولا متصل، ولا منفصل، ولا فوق العالم، ولا تحت؛ هؤلاء قالوا على الله بلا علم؛ بل بما يُعلم أن الأمر بخلافه. ويشمل القول على الله في أسمائه ، مثل أن يقول: إن أسماء الله سبحانه وتعالى أعلام مجردة لا تحمل معاني، ولا صفات: فهو سميع بلا سمع؛ وبصير بلا بصر؛ وعليم بلا علم؛ فهو عليم بذاته ــــ لا بعلم هو وصفه ويشمل أيضاً من قال في صفات الله ما لا يعلم، مثل أن يثبتوا بعض الصفات دون بعض، فيقولون فيما نفوه: أراد به كذا، ولم يرد به كذا؛ فقالوا على الله بلا علم من وجهين: الوجه الأول: أنهم نفوا ما أراد الله بلا علم. والثاني: أثبتوا ما لم يعلموا أن الله أراده؛ فقالوا مثلاً: { استوى على العرش } [الأعراف: 54] بمعنى استولى عليه؛ قالوا على الله بلا علم من وجهين؛ الوجه الأول: نفيهم حقيقة الاستواء بلا علم؛ والثاني: إثباتهم أنها بمعنى الاستيلاء بلا علم. كذلك يشمل القول على الله بلا علم في أفعاله ، مثل أن يثبتوا أسباباً لم يجعلها الله أسباباً، كمثل المنجمين، والخرَّاصين، وشبههم؛ هؤلاء قالوا على الله بلا علم في أفعاله، ومخلوقاته؛ فيقولون: سبب وجود هذا وهذا كذا؛ وهو لا يُعلم أنه سبب له كوناً، ولا شرعاً. ويشمل أيضاً القول على الله بلا علم في أحكامه ؛ مثل أن يقول: «هذا حرام» وهو لا يعلم أن الله حرمه؛ أو «واجب» وهو لا يعلم أن الله أوجبه؛ وهم كثيرون جداً؛ ومنهم العامة، ومنهم أدعياء العلم الذي يظنون أنهم علماء وليس عندهم علم؛ ومن الأشياء التي مرت عليّ قريباً، وهي غريبة: أن رجلاً ذهب إلى إمام مسجد ليكتب له الطلاق؛ فقال له: «طلق امرأتك طلقتين؛ أنا لا أكتب طلقة واحدة؛ لأن الله يقول: {الطلاق مرتان} [البقرة: 229] »؛ فقال له الرجل: «اكتب أني طلقت امرأتي مرتين»؛ وهذا جهل مركب منافٍ لمعنى الآية؛ لأن معناها أن الطلاق الذي يملك فيه الرجعة هو الطلقة الأولى، والطلقة الثانية؛ فإن طلقها الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره. فالقول على الله بلا علم في ذاته، أو أسمائه، أو صفاته، أو أفعاله، أو أحكامه، كل ذلك من أوامر الشيطان؛ والغالب أنه لا يحمل على ذلك إلا محبة الشرف، والسيادة، والجاه؛ وإلا لو كان عند الإنسان تقوى لالتزم الأدب مع الله عز وجل، ولم يتقدم بين يدي الله ورسوله، وصار لا يقول على الله إلا ما يعلم. فإذا قال قائل: ألستم تبيحون الفتوى بالظن عند تعذر اليقين؟ فالجواب: بلى؛ بشرط أن يكون لهذا الظن أساس شرعي ــــ من اجتهاد، أو تقليد لمن هو أهل لذلك ــــ يبنى عليه؛ فإذا أفتينا بالظن لتعذر اليقين فقد أفتينا بما أذن الله لنا فيه؛ لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] ، وقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286] ؛ ومعلوم أن القول بغلبة الظن خير من التوقف؛ وكثير من مسائل الفقه التي تكلم فيها الفقهاء، واختلفوا فيها من هذا الباب؛ لأنها لو كانت يقينية لم يحصل فيها اختلاف؛ ثم إن الشيء قد يكون يقيناً عند شخص لإيمانه، وكثرة علمه، وقوة فهمه؛ ومظنوناً عند آخر لنقصه في ذلك. 5 ــــ ومنها: تحريم الفتوى بلا علم؛ فإن المفتي يقول على الله، ويعبر عن شرع الله؛ وقد جاء ذلك صريحاً في قوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33] . 6 ــــ ومنها: ضلال أهل التأويل في أسماء الله، وصفاته؛ لأنهم قالوا على الله بلا علم. 7 ــــ ومنها: وجوب تعظيم الله عز وجل؛ لأنه تعالى حرم القول عليه بلا علم تعظيماً له، وتأدباً معه؛ وقد قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم} [الحجرات: 1] . القرآن {)وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة:170) التفسير: { 170 } قوله تعالى: { وإذا قيل لهم }؛ { قيل } مبني أصلها «قُوِل»؛ لكن صار فيها إعلال؛ وهي أن الواو مكسورة فقلبت ياءً، فكُسر ما قبلها للمناسبة؛ و{ لهم } أي للكفار. قوله تعالى: { اتبعوا ما أنزل الله } عقيدةً، وقولاً، وفعلاً؛ و{ ما } اسم موصول يفيد العموم فتشمل جميع ما أنزل الله على رسوله (ص) من الكتاب، والحكمة؛ وقد قال كثير من أهل العلم: «الحكمة» هي السنة؛ فإذا قيل لهم هذا القول لا يلينون، ولا يُقبلون؛ بل يكابرون. قوله تعالى: { قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا }؛ { بل } هذه للإضراب الإبطالي؛ يعني: قالوا مبطلين هذا القول الذي قيل لهم: { بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا }؛ { ما } اسم موصول؛ { ألفينا } أي وجدنا، كما قال تعالى في آية أخرى: {بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا} [لقمان: 21] ؛ والقرآن يفسر بعضه بعضاً. وقوله تعالى: { ما ألفينا عليه آباءنا } يعني ما وجدناهم عليه من العقيدة والعمل، حقاً كان أو باطلاً؛ و{ آباءنا} يشمل الأدنى منهم، والأبعد؛ وجوابهم هذا باطل خطأ؛ ولهذا أبطله الله تعالى في قوله: { أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون }؛ والمعنى: أيتبعون آباءهم ولو كان آباؤهم في هذه الحال التي لا يستحقون أن يُتَّبعوا فيها لا يعقلون شيئاً؛ والمراد بالعقل هنا عقل الرشد؛ لا عقل الإدراك؛ فآباؤهم أذكياء، ويدركون ما ينفعهم، وما يضرهم؛ لكن ليس عندهم عقل رشد - وهو حسن تصرف -. وقوله تعالى: { شيئاً } نكرة في سياق النفي؛ والنكرة في سياق النفي للعموم؛ فإذا قال قائل: إذا كانت للعموم فمعنى ذلك أنهم لا يعقلون شيئاً حتى من أمور الدنيا مع أنهم في أمور الدنيا يحسنون التصرف: فهم يبيعون، ويشترون، ويتحرون الأفضل، والأحسن لهم؟ فيقال: هذا ليس بشيء بالنسبة إلى ما يتعلق بأمور الآخرة؛ أو يقال: إن المراد بهذا العموم الخصوص؛ أي لا يعقلون شيئاً من أمور دينهم لأن المقام هنا مقام منهاج، وعمل، وليس مقام دنيا، وبيع، وشراء؛ فيكون المراد بقوله تعالى: { شيئاً } شيئاً من أمور الآخرة؛ وكلا الاحتمالين يرجع إلى معنى واحد. قوله تعالى: { ولا يهتدون } أي لا يعملون عمل العالم المهتدي؛ وبهذا انتفى عنهم الرشد في العمل؛ والعلم في طريق لا يستحقون أن يتبعوا؛ ولهذا جاءت همزة الإنكار في قوله تعالى(أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون)؛ وأقرب شبه لهؤلاء الآية التي بعدها. الفوائد: 1- من فوائد الآية: ذم التعصب بغير هدى؛ لقوله تعالى: { بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا }؛ مع أن آباءهم لا عقل عندهم، ولا هدى. 2 ــــ ومنها: أن من تعصب لمذهب مع مخالفة الدليل ففيه شبه من هؤلاء؛ والواجب أن الإنسان إذا قيل له: «اتبع ما أنزل الله» أن يقول: «سمعنا، وأطعنا». 3 ــــ ومنها: أنه لا يجب الانقياد إلا لما أنزل الله ــــ وهو الكتاب، والحكمة ــــ. 4 ــــ ومنها: بيان عناد هؤلاء المستكبرين الذين إذا قيل لهم: { اتبعوا ما أنزل الله } قالوا: { بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } دون أن يقيموا برهاناً على صحته. 5 ــــ ومنها: أن كل من خالف الحق، وما أنزل الله فليس بعاقل، وليس عنده هدًى؛ لقوله تعالى: { لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون }. القرآن {)وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (البقرة:171) التفسير: { 171 } قوله تعالى: { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق } يعني كمثل الراعي الذي ينادي. قوله تعالى: { بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً } وهم البهائم؛ فهؤلاء مثلهم كمثل إنسان يدعو بهائم لا تفهم إلا الصوت دعاءً، ونداءً؛ و «الدعاء» إذا كان يدعو شيئاً معيناً باسمه؛ و «النداء» يكون للعموم؛ هناك بهائم يسميها الإنسان باسمها بحيث إذا ناداها بهذا الاسم أقبلت إليه؛ والنداء العام لجميع البهائم هذا لا يختص به واحدة دون أخرى؛ فتقبل الإبل جميعاً؛ لكن مع ذلك لا تقبل على أساس أنها تعقل، وتفهم، وتهتدي؛ ربما يناديها لأجل أن ينحرها؛ هؤلاء الكفار مثلهم ــــ في كونهم يتبعون آباءهم بدون أن يفهموا هذه الحال التي عليها آباؤهم ــــ كمثل هذا الناعق بالماشية التي لا تسمع إلا دعاءً، ونداءً. قوله تعالى: { صم } جمع أصم؛ وهو الذي لا يسمع؛ وهي خبر مبتدأ محذوف؛ والتقدير: هم صم؛ و{ بكم } جمع أبكم؛ وهو الذي لا ينطق؛ و{ عمي } جمع أعمى؛ وهو الذي لا يبصر؛ أي فهم صم عن سماع الحق؛ ولكن سماع غيره لا فائدة منه؛ فهو كالعدم؛ وهم بُكم لا ينطقون بالحق؛ ونطقهم بغير الحق كالعدم؛ لعدم نفعه؛ وهم كذلك عُمي لا يبصرون الحق؛ وإبصارهم غير الحق لا ينتفعون به. قوله تعالى: { فهم لا يعقلون } أي لكونهم صماً بكماً عمياً فهم لا يعقلون عقل رشد ــــ وإن كان عندهم عقل إدراك ــــ؛ فلعدم انتفاعهم بعقولهم نفى الله عنهم العقل؛ ورتب الله انتفاء العقل عنهم على كونهم صماً بكماً عمياً؛ لأن هذه الحواس وسيلة العقل والإدراك. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: أن هؤلاء في اتباع آبائهم مثل البهائم التي تستجيب للناعق وهي لا تسمع إلا صوتاً دعاءً، ونداءً؛ لا تسمع شيئاً تعقله، وتعرف فائدته، ومضرة مخالفته. 2 ــــ ومنها: أن هؤلاء قد طبع الله على قلوبهم فلا يسمعون ما يدعون إليه من حق، ولا يقولون به؛ فهُمْ: { صم بكم عمي فهم لا يعقلون }. 3 ــــ ومنها: أن لهؤلاء أمثالاً يدعون بدعوى الجاهلية، كأولئك الذين يدعون إلى القومية: فإن مثلهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً، ونداءً؛ وهذه الدعوى لا يفكر الدعاة لها فيما يترتب عليها من تفريق المسلمين، وتمزيق وحدتهم، وكونهم يجعلون الرابطة هي اللغة، أو القومية، فيدخل فيها غير المسلم ممن تشملهم القومية، ويخرج بها مسلمون كثيرون ممن لا تشملهم القومية؛ لكن الرابطة الدينية التي قال الله سبحانه وتعالى فيها: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات: 10] ؛ هذه تدخل جميع المؤمنين ــــ ولو من غير العرب ــــ؛ وتخرج من ليس بمؤمن ــــ ولو كان عربياً ــــ؛ فهذا إبراهيم عليه السلام قال الله عز وجل عنه: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم} [التوبة: 114] ؛ وقد حثنا الله عز وجل على التأسي بإبراهيم عليه السلام، حيث قال سبحانه وتعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده} [الممتحنة: 4] ، ولما قال نوح عليه السلام: {رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق} [هود: 45] قال الله عز وجل له: {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} [هود: 45] ؛ فكون الناس انجرفوا في هذه الدعوى الباطلة ــــ دعوى القومية ــــ هو داخل في هذه الآية: أنهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً. القرآن {)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة:172) التفسير: { 172 } قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا } سبق الكلام على ذكر فوائد تصدير الخطاب بالنداء، وبوصف الإيمان للمنادى؛ وتصدير الحكم بالنداء يدل على الاهتمام به؛ لأن النداء يستلزم انتباه المنادى. قوله تعالى: { كلوا من طيبات ما رزقناكم }: الأمر هنا للامتنان، والإباحة؛ و{ مِن } هنا الظاهر أنها لبيان الجنس؛ لا للتبعيض؛ والمراد بـ «الطيب» : الحلال في عينه، وكسبه؛ وقيل: المراد بـ «الطيب» : المستلذ، والمستطاب. قوله تعالى: { واشكروا لله }؛ «الشكر» في اللغة: الثناء؛ وفي الشرع: القيام بطاعة المنعم؛ وإنما فسرناها بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً}، وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله }»(1)؛ فالشكر الذي أُمر به المؤمنون بإزاء العمل الصالح الذي أُمر به المرسلون؛ والقرآن يفسر بعضه بعضاً. قوله تعالى: { إن كنتم إياه تعبدون }؛ { إن } شرطية؛ وفعل الشرط: { كنتم }؛ و{ إياه } مفعول لـ{ تعبدون } مقدم؛ وجملة: { تعبدون } خبر كان؛ وجواب الشرط: قيل: إنه لا يحتاج في مثل هذا التعبير إلى جواب؛ وهو الصحيح؛ وقيل: إن جوابها محذوف يفسره ما قبله؛ والتقدير: إن كنتم إياه تعبدون فاشكروا له؛ و «العبادة» هي التذلل لله عز وجل بالطاعة؛ وذلك بفعل أوامره، واجتناب نواهيه؛ مأخوذة من قولهم: طريق معبَّد ــــ يعني مذللاً للسالكين ــــ؛ يعني: إن كنتم تعبدونه حقاً فكلوا من رزقه، واشكروا له. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: فضيلة الإيمان، حيث وجَّه الله الخطاب إلى المؤمنين، فهم أهل لتوجيه الخطاب إليهم؛ لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }. 2 ــــ ومنها: الأمر بالأكل من طيبات ما رزق الله؛ لقوله تعالى: { كلوا من طيبات ما رزقناكم }؛ وهو للوجوب إن كان الهلاك، أو الضرر بترك الأكل. 3 ــــ ومنها: أن الخبائث لا يؤكل منها؛ لقوله تعالى: { من طيبات ما رزقناكم }؛ والخبائث محرمة؛ لقوله تعالى: { ويحرم عليهم الخبائث }. 4 ــــ ومنها: أن ما يحصل عليه المرء من مأكول فإنه من رزق الله؛ وليس للإنسان فيه إلا السبب فقط؛ لقوله تعالى: {ما رزقناكم} [البقرة: 57] . 5 ــــ ومنها: توجيه المرء إلى طلب الرزق من الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { ما رزقناكم }؛ فإذا كان هذا الرزق من الله سبحانه وتعالى فلنطلبه منه مع فعل الأسباب التي أمرنا بها. 6 ــــ ومنها: وجوب الشكر لله؛ لقوله تعالى: { واشكروا لله }. 7 ــــ ومنها: وجوب الإخلاص لله في ذلك؛ يؤخذ ذلك من اللام في قوله تعالى: { لله }. 8 ــــ ومنها: أن الشكر من تحقيق العبادة؛ لقوله تعالى: { إن كنتم إياه تعبدون }. 9 ــــ ومنها: وجوب الإخلاص لله في العبادة؛ يؤخذ ذلك من تقديم المعمول في قوله تعالى: { إياه تعبدون }. 10 ــــ ومنها: إثبات رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده من وجهين: أولاً: من أمره إياهم بالأكل من الطيبات؛ لأن بذلك حفظاً لصحتهم. ثانياً: من قوله تعالى: { ما رزقناكم }؛ فإن الرزق بلا شك من رحمة الله. 11 ــــ ومنها: الرد على الجبرية من قوله تعالى: { كلوا }، و{ اشكروا }، و{ تعبدون }؛ كل هذه أضيفت إلى فعل العبد؛ فدل على أن للعبد فعلاً يوجه إليه الخطاب بإيجاده؛ ولو كان ليس للعبد فعل لكان توجيه الخطاب إليه بإيجاده من تكليف ما لا يطاق. 12 ــــ ومنها: التنديد بمن حرموا الطيبات، كأهل الجاهلية الذين حرموا السائبة، والوصيلة، والحام. القرآن { )إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:173) التفسير: مناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة؛ لأنه لما أمر بالأكل من الطيبات بين ما حرم علينا من الخبائث. { 173 } قوله تعالى: { إنما حرم عليكم الميتة }؛ { إنما } أداة حصر؛ و«الحصر» إثبات الحكم في المذكور، ونفيه عما سواه؛ فالتحريم محصور في هذه الأشياء؛ والمعنى: ما حرم عليكم إلا الميتة...؛ و «التحريم» بمعنى المنع؛ ومعنى { حرم عليكم } أي منعكم ــــ أي حرم عليكم أكلها ــــ؛ والدليل أنه حرم أكلها الآية التي قبلها: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة: 172] ؛ ثم قال تعالى: { إنما حرم عليكم الميتة }؛ فكأنه قال: «كلوا» ثم استثنى فقال: { إنما حرم عليكم الميتة... } أي فلا تأكلوها؛ و{ الميتة } في اللغة ما مات حتف أنفه ــــ يعني بغير فعل من الإنسان ــــ؛ أما في الشرع: فهي ما مات بغير ذكاة شرعية، كالذي مات حتف أنفه؛ أو ذبح على غير اسم الله؛ أو ذبح ولم ينهر الدم؛ أو ذكاه من لا تحل تذكيته، كالمجوسي، والمرتد. قوله تعالى: { والدم } يعني: وحرم عليكم الدم؛ و «الدم» معروف؛ والمراد به هنا الدم المسفوح دون الذي يبقى في اللحم، والعروق، ودم الكبد، والقلب؛ لقوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام: 145] . قوله تعالى: { ولحم الخنزير } أي: وحرم عليكم لحم الخنزير؛ و «الخنزير» حيوان معروف قذر؛ قيل: إنه يأكل العذرات. قوله تعالى: { وما أهلَّ به لغير الله } يعني: وحرم عليكم ما أهلَّ به لغير الله؛ و«الإهلال» هو رفع الصوت؛ ومنه الحديث: «إذا استهل المولود ورث»(1)؛ والمراد به هنا ما ذكر عليه اسم غير الله عند ذبحه مثل أن يقول: «باسم المسيح»، أو «باسم محمد»، أو «باسم جبريل»، أو «باسم اللات»، ونحو ذلك. قوله تعالى: { فمن اضطر }: فيها قراءتان: بكسر النون؛ وضمها؛ فأما الكسر فعلى القاعدة من أنه إذا التقى ساكنان كسر الأول منهما؛ وأما الضم فمن أجل الإتباع لضمة الطاء؛ و{ مَن } هنا شرطية؛ و{ اضطر } فعل ماضٍ مبني لما لم يسم فاعله؛ أي ألجأته الضرورة للأكل؛ والضرورة فوق الحاجة؛ فالحاجة كمال؛ والضرورة ضرورية يكون الضرر منها. قوله تعالى: { غير باغٍ ولا عادٍ } بنصب { غير } على الحال من نائب الفاعل في { اضطر }؛ و «الباغي» الطالب لأكل الميتة من غير ضرورة؛ و «العادي» المتجاوز لقدر الضرورة؛ هذا هو الراجح في تفسيرهما؛ ويؤيده قوله تعالى: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} [المائدة: 3]؛ والله سبحانه وتعالى أباح لنا الميتة بثلاثة شروط: 1- الضرورة. 2- أن لا يكون مبتغياً – أي طاباً لها -. 3- أن لا يكون متجاوزاً للحد الذي تندفع به الضرورة. وبناءً على هذا ليس له أن يأكل حتى يشبع إلا إذا كان يغلب على ظنه أنه لا يجد سواها عن قرب؛ وهذا هو الصحيح؛ ولو قيل: بأنه في هذه الحال يأكل ما يسد رمقه، ويأخذ شيئاً منها يحمله معه ــــ إن اضطر إليه أكل، وإلا تركه ــــ لكان قولاً جيداً. قوله تعالى: { فلا إثم عليه }: هذا جواب { مَن }؛ وقرن بالفاء؛ لأن الجملة اسمية؛ وإذا كان جواب الشرط جملة اسمية وجب قرنها بالفاء؛ وقوله تعالى: { فلا إثم عليه } أي فلا عقوبة عليه، أو فلا جناح. قوله تعالى: { إن الله غفور رحيم }؛ هذا تعليل للحكم؛ فالحكم انتفاء الإثم؛ والعلة: { إن الله غفور رحيم }؛ { غفور } يحتمل أن تكون صيغة مبالغة - وقد ورد أن من صيغ المبالغة «فعول» - لكثرة مغفرته سبحانه وتعالى، وكثرة من يغفر لهم؛ فالكثرة هنا واقعة في الفعل، وفي المحل؛ في الفعل: كثرة غفرانه لذنوب عباده؛ وفي المحل: كثرة المغفور لهم؛ ويحتمل أن تكون صفة مشبهة؛ و «الغفور» مأخوذ من الغَفْر؛ وهو الستر مع الوقاية؛ وليس الستر فقط؛ ومنه سمي «المغفر» الذي يغطى به الرأس عند الحرب؛ لأنه يتضمن الستر، والوقاية؛ ويدل لذلك قوله تعالى إذا خلا بعبده المؤمن يوم القيامة، وحاسبه: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»(1). وقوله تعالى: «الرحيم » صيغة مبالغة، أو صفة مشبهة من الرحمة؛ والرحمة صفة من صفات الله سبحانه وتعالى الذاتية الفعلية؛ فهي باعتبار أصل ثبوتها لله صفة ذاتية؛ وباعتبار تجدد من يرحمه الله صفة فعلية؛ ولهذا علقها الله سبحانه وتعالى بالمشيئة في قوله تعالى: { يعذب من يشاء ويرحم من يشاء } [العنكبوت: 21] فهي صفة حقيقية ثابتة لله عز وجل؛ وأهل التأويل ــــ والأصح أن نسميهم أهل التحريف ــــ يقولون: إن الرحمة غير حقيقية؛ وأن المراد برحمة الله إحسانه؛ أو إرادة الإحسان؛ فيفسرونها إما بالإرادة؛ وإما بالفعل؛ وهذا لا شك أنه خطأ؛ وحجتهم: أنهم يقولون: إن الرحمة رقة، ولين؛ والرقة، واللين لا تناسبان عظمة الخالق سبحانه وتعالى؛ فنقول لهم: إن هذه الرحمة رحمة المخلوق؛ أما رحمة الخالق فإنها تليق به سبحانه وتعالى؛ ولا تتضمن نقصاً؛ فهو ذو رحمة بالغة، وسلطان تام؛ فلا يرد بأسه عن القوم المجرمين. وهنا مسائل تتعلق بالآية: 1 ــــ نجاسةُ الميتة حسيةٌ. 2 ــــ الذي يعيش في البر والبحر يعطى حكم البر تغليباً لجانب الحظر. 3 ــــ بالنسبة لميتة الآدمي ــــ إذا اضطر إليها الإنسان ــــ اختلف فيها أهل العلم ــــ؛ فالمشهور عند الحنابلة أنه لا يجوز أن يأكلها ــــ ولو اضطر ــــ؛ وقالت الشافعية: «إنه يجوز أكلها عند الضرورة» ــــ وهو الصحيح ــــ. 4 ــــ كل المحرمات إذا اضطر إليها، وزالت بها الضرورة كانت مباحة؛ قلنا: «وزالت بها الضرورة» احترازاً مما لا تزول به الضرورة، كما إذا ما اضطر الإنسان إلى أكل سمّ ــــ فلا يجوز أن يأكل ــــ؛ لأنه لا تزول بها ضرورته؛ بل يموت به؛ ولو اضطر إلى شرب خمر لعطش لم يحل له؛ لأنه لا تزول به ضرورته؛ ولذلك لو احتاج إلى شربه لدفع لقمة غص بها حلّ له؛ لأنه تزول به ضرورته. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: تحريم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير لله. 2 ــــ ومنها: أن التحريم والتحليل إلى الله؛ لقوله تعالى: { إنما حرم عليكم }. 3 ــــ ومنها: حصر المحرمات في هذه الأشياء الأربعة: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله؛ لقوله تعالى: { إنما }؛ لأنها أداة حصر؛ لكن هذا الحصر قد بُين أنه غير مقصود؛ لأن الله حرم في آية أخرى غير هذه الأشياء: حرم ما ذبح على النصب - وليس من هذه الأشياء -؛ وحرم النبي صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب من السباع(1)، وكل ذي مخلب من الطير(2) - وليس داخلاً في هذه الأشياء -؛ وحرم النبي صلى الله عليه وسلم الحمر الأهلية(3) - وليس داخلاً في هذه الأشياء -؛ فيكون هذا الحصر غير مقصود بدلالة القرآن، والسنة. 4 ــــ ومن فوائد الآية: تحريم جميع الميتات؛ لقوله تعالى: { والميتة }؛ و «أل» هذه للعموم إلا أنه يستثنى من ذلك السمك، والجراد ــــ يعني ميتة البحر، والجراد ــــ؛ للأحاديث الواردة في ذلك؛ والمحرم هنا هو الأكل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الميتة: «إنما حرم أكلها»(4)؛ ويؤيده أن الله سبحانه وتعالى قال هنا: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة: 57] ، ثم قال تعالى: { إنما حرم عليكم الميتة }؛ لأن السياق في الأكل؛ ويدخل في تحريم أكل الميتة جميع أجزائها. 5 ــــ ومن فوائد الآية: تحريم الدم المسفوح؛ لقوله تعالى: { والدم }. 6 ــــ ومنها: تحريم لحم الخنزير؛ لقوله تعالى: { ولحم الخنزير }؛ وهو شامل لشحمه، وجميع أجزائه؛ لأن اللحم المضاف للحيوان يشمل جميع أجزائه؛ لا يختص به جزء دون جزء؛ اللهم إلا إذا قُرن بغيره، مثل أن يقال: «اللحم، والكبد»، أو «اللحم، والأمعاء»، فيخرج منه ما خصص. 7 ــــ ومنها: تحريم ما ذكر اسم غير الله عليه؛ لقوله تعالى: { وما أهل به لغير الله }. 8 ــــ ومنها: تحريم ما ذبح لغير الله ــــ ولو ذكر اسم الله عليه ــــ، مثل أن يقول: «بسم الله والله أكبر؛ اللهم هذا للصنم الفلاني»؛ لأنه أهل به لغير الله. 9 ــــ ومنها: أن الشرك قد يؤثر الخبثَ في الأعيان ــــ وإن كانت نجاسته معنوية ــــ؛ هذه البهيمة التي أَهل لغير الله بها نجسة خبيثة محرمة؛ والتي ذكر اسم الله عليها طيبة حلال؛ تأمل خطر الشرك، وأنه يتعدى من المعاني إلى المحسوسات؛ وهو جدير بأن يكون كذلك؛ لهذا قال الله عز وجل: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28] مع أن بدن المشرك ليس بنجس؛ لكن لقوة خبثه المعنوي، وفساد عقيدته وطويته صار مؤثراً حتى في الأمور المحسوسة. 10 ــــ ومن فوائد الآية: فضيلة الإخلاص لله. 11 ــــ ومنها: أن الضرورة تبيح المحظور؛ لقوله تعالى: { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه}؛ ولكن هذه الضرورة تبيح المحرم بشرطين: الشرط الأول: صدق الضرورة بحيث لا يندفع الضرر إلا بتناول المحرم. الشرط الثاني: زوال الضرورة به حيث يندفع الضرر. فإن كان يمكن دفع الضرورة بغيره لم يكن حلالاً، كما لو كان عنده ميتة ومذكاة، فإن الميتة لا تحل حينئذ؛ لأن الضرورة تزول بأكل المذكاة؛ ولو كان عطشان، وعنده كأس من خمر لم يحل له شربها؛ لأن ضرورته لا تزول بذلك؛ إذا لا يزيده شرب الخمر إلا عطشاً؛ ولهذا لو غص بلقمة، وليس عنده ما يدفعها به إلا كأس خمر كان شربها لدفع اللقمة حلالاً. 12 ــــ ومن فوائد الآية: إثبات رحمة الله عز وجل؛ لأن من رحمة الله أن أباح المحَرَّمَ للعبد لدفع ضرورته. 13 ــــ ومنها: أن الأعيان الخبيثة تنقلب طيبة حين يحكم الشرع بإباحتها على أحد الاحتمالين؛ فإن حل الميتة للمضطر يحتمل حالين: الأولى: أن نقول: إن الله على كل شيء قدير؛ فالذي جعلها خبيثة بالموت بعد أن كانت طيبة حال الحياة قادر على أن يجعلها عند الضرورة إليها طيبة، مثل ما كانت الحمير طيبة تؤكل حال حلها، ثم أصبحت بعد تحريمها خبيثة لا تؤكل؛ فالله سبحانه وتعالى هو خالق الأشياء، وخالق صفاتها، ومغيرها كيف يشاء؛ فهو قادر على أن يجعلها إذا اضطر عبده إليها طيبة. الحال الثانية: أنها ما زالت على كونها خبيثة؛ لكنه عند الضرورة إليها يباح هذا الخبيث للضرورة؛ وتكون الضرورة واقية من مضرتها؛ فتناولها للضرورة مباح؛ وضررها المتوقع تكون الضرورة واقية منه. والحالان بينهما فرق؛ لأنه على الحال الأولى انقلبت من الرجس إلى الطهارة؛ وعلى الحال الثانية هي على رجسيتها لكن هناك ما يقي مضرتها - وهو الضرورة -؛ وهذه الحال أقرب؛ لأنه لو كان عند الضرورة يزول خبثها لكانت طيبة تحل للمضطر، وغيره؛ ويؤيده الحس: فإن النفس كلما كانت أشد طلباً للشيء كان هضمه سريعاً، بحيث لا يتضرر به الجسم؛ وانظر إلى نفسك إذا أكلت طعاماً على طعام يتأخر هضم الأول، والثاني - مع ما يحصل فيه من الضرر -؛ لكن إذا أكلت طعاماً وأنت جائع فإنه ينهضم بسرعة؛ ويشهد لهذا ما يروى عن صهيب الرومي أنه كان في عينيه رمد؛ فجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر وهو حاضر؛ فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد صهيب أن يأكل منه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «تأكل تمراً وبك رمد» ـ لأن المعروف أن التمر يزيد في وجع العين - فقال: «إني أمضَغ من ناحية أخرى»(1) أي إذا كانت اليمنى هي المريضة بالرمد أمضغه على الجانب الأيسر؛ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ومكنه من أكله؛ قال ابن القيم - رحمه الله -: «إن الحكمة في أن الرسول مكنه - مع أن العادة أن هذا ضرر -؛ لأن قوة طلب نفسه له يزول بها الضرر: ينهضم سريعاً، ويتفاعل مع الجسم، ويذهب ضرره». 14 ــــ ومن فوائد الآية: أن من تناول المحرم بدون عذر فهو آثم؛ لقوله تعالى: { فلا إثم عليه }؛ فعُلم منها أن من كان غير مضطر فعليه إثم. 15 ــــ ومن فوائد الآية عند بعض أهل العلم: أن العاصي بسفره لا يترخص؛ لقوله تعالى: { غير باغ ولا عاد فإنهم قالوا: إن المراد بـ«الباغي» الخارج عن الإمام؛ و«العادي» العاصي بسفره؛ وقالوا: إن العاصي بسفره؛ أو الباغي على الإمام لا يترخص بأي رخصة من رخص السفر: فلا يقصر الصلاة، ولا يمسح الخف ثلاثة أيام، ولا يأكل الميتة، ولا يفطر في رمضان؛ وهذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم تفصيله في كتب الفقه. تــنــبــيــه: قد يقال إنه يستفاد من إباحة المحرم عند الضرورة: وجوب تناوله؛ لأن المحرم لا ينتهك إلا بواجب؛ وهذه قاعدة ذهب إليها بعض أهل العلم: قال: إن المحرم إذا انتهك فهو دليل على الوجوب، مثلما قالوا في وجوب الختان: فقد أخذ بعض العلماء الوجوب من هذه القاعدة، قالوا: إن الأصل أن قطع الإنسان شيئاً من بدنه حرام؛ والختان قطع شيء من بدنه؛ ولا ينتهك المحرم إلا لشيء واجب؛ فقرروا وجوب الختان من هذه القاعدة؛ ولكنها غير مطردة؛ ولهذا يجوز للمسافر أن يفطر في رمضان؛ والفطر انتهاك محرم مع أن الفطر ليس بواجب. 17 ــــ ومن فوائد الآية: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما «الغفور» و «الرحيم» ، وما تضمناه من صفة. 18 ــــ ومنها: إثبات ما ذكره أهل السنة والجماعة من أن أسماء الله سبحانه وتعالى المتعدية يستفاد منها ثبوت تلك الأحكام المأخوذة منها؛ فالأسماء المتعدية تتضمن الاسم، والصفة، والأثر - الذي هو الحكم المترتب عليه -؛ والعلماء يأخذون من مثل هذه الآية ثبوت الأثر - وهو الحكم -؛ لأنه لكونه غفوراً رحيماً غفر لمن تناول هذه الميتة لضرورته، ورحمه بحلها؛ فيكون في هذا دليل واضح على أن أسماء الله عز وجل تدل على «الذات» الذي هو المسمى؛ و«الصفة»؛ و«الحكم»، كما قال بذلك أهل العلم - رحمهم الله -. تــنــبــيــه: ما أهل به لغير الله أنواع: النوع الأول: أن يهل بها لغير الله فقط، مثل أن يقول: باسم جبريل، أو محمد، أو غيرهما؛ فالذبيحة حرام بنص القرآن ــــ ولو ذبحها لله ــــ. النوع الثاني: أن يهل بها لله، ولغيره، مثل أن يقول: «باسم الله واسم محمد»؛ فالذبيحة حرام أيضاً؛ لأنه اجتمع مبيح، وحاظر؛ فغلب جانب الحظر. النوع الثالث: أن يهل بها باسم الله، وينوي به التقرب، والتعظيم لغيره؛ فالذبيحة حرام أيضاً؛ لأنه شرك. وهل يكون ذبح الذبيحة للضيف إهلالاً بها لغير الله؟ الجواب: إن قصد بها إكرام الضيف فلا يدخل بلا شك، كما لو ذبح الذبيحة لأولاده ليأكلوها، وإن قصد بذلك التقرب إليه، وتعظيمه تعظيم عبادة فإنه شرك، كالمذبوح على النصب تماماً، فلا يحل أكلها؛ وقد كان بعض الناس ــــ والعياذ بالله ــــ إذا قدم رئيسهم أو كبيرهم يذبحون بين يديه القرابين تعظيماً له ــــ لا ليأكلها، ثم تترك للناس ــــ؛ وهذا يكون قد ذبح على النصب؛ فلا يحل أكله ــــ ولو ذكر اسم الله عليه ــــ. النوع الرابع: أن لا يهل لأحد ــــ أي لم يذكر عليها اسم الله، ولا غيره؛ فالذبيحة حرام أيضاً؛ لقوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 121] ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا»(1). القرآن {)إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة:174) التفسير: { 174 } قوله تعالى: { إن الذين يكتمون... }: جملة مكونة من { إن } الدالة على التوكيد؛ و{ الذين } اسمها؛ و{ أولئك }: «أولاء» مبتدأ ثانٍ؛ وجملة: { ما يأكلون } خبر المبتدأ الثاني؛ والجملة من المبتدأ، والخبر خبر { إن }. وقوله تعالى: { يكتمون ما أنزل الله } أي يخفون؛ { من الكتاب }: «أل» إما أن تكون للعهد؛ أو للجنس؛ فإن قلنا: «للعهد» فالمراد بها التوراة؛ ويكون المراد بـ{ الذين يكتمون } اليهود؛ لأنهم كتموا ما علموه من صفات النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإن قلنا: إن «أل» للجنس، شمل جميع الكتب: التوراة، والإنجيل، وغيرها؛ ويكون { الذين يكتمون } يشمل اليهود، والنصارى، وغيرهما؛ وهذا أرجح لعمومه. وقوله تعالى: { ما أنزل الله من الكتاب } أي على رسله؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب} [الحديد: 25] ؛ فكل رسول فإن معه كتاباً من الله عز وجل يهدي به الناس. قوله تعالى: { ويشترون به } يعني يأخذون بما أنزل الله؛ ويجوز أن يكون الضمير عائداً على الكتم؛ يعني يأخذون بهذا الكتم. قوله تعالى: { ثمناً قليلاً }: هذا الثمن إما المال؛ وإما الجاه، والرياسة؛ وكلاهما قليل بالنسبة لما في الآخرة. قوله تعالى: { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار }: الاستثناء هنا مفرغ؛ والإشارة للبعيد لبعد مرتبتهم، وانحطاطها، والتنفير منها. قوله تعالى: { ولا يكلمهم الله يوم القيامة } يعني لا يكلمهم تكليم رضا؛ فالنفي هنا ليس نفياً لمطلق الكلام؛ ولكنه للكلام المطلق ــــ الذي هو كلام الرضا؛ { ولا يزكيهم } أي لا يثني عليهم بخير. قوله تعالى: { ولهم عذاب أليم }؛ «فعيل» هنا بمعنى مفعِل؛ و«مؤلم» أي موجع؛ والعذاب هو النكال، والعقوبة. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: وجوب نشر العلم؛ لقوله تعالى: { إن الذين يكتمون }؛ ويتأكد وجوب نشره إذا دعت الحاجة إليه بالسؤال عنه؛ إما بلسان الحال؛ وإما بلسان المقال. 2 ــــ ومنها: أن الكتب منزلة من عند الله؛ لقوله تعالى: { ما أنزل الله من الكتاب }. 3 ــــ ومنها: علو الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { ما أنزل الله }؛ فإن لازم النزول من عنده أن يكون سبحانه وتعالى عالياً. 4 ــــ ومنها: أن هذا الوعيد على من جمع بين الأمرين: { يكتمون }، و{ يشترون }؛ فأما من كتم بدون اشتراء؛ أو اشترى بدون كتم فإن الحكم فيه يختلف؛ إذا كتم بدون اشتراء فقد قال الله سبحانه وتعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} [البقرة: 159] ؛ وهذا يدل على أن كتمان ما أنزل الله من كبائر الذنوب؛ ولكن لا يستحق ما ذُكر في الآية التي نحن بصدد تفسيرها؛ وأما الذين يشترون بما أنزل الله من الكتاب ثمناً قليلاً بدون كتمان فقد قال الله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} [هود: 15، 16] . فالناس في كتمان ما أنزل الله ثلاثة أقسام: القسم الأول: من يكتم العلم بخلاً به، ومنعاً لانتفاع الناس به. والقسم الثاني: من يكتم العلم، ولا يبينه إلا لغرض دنيوي من مال، أو جاه، أو رئاسة، أو غير ذلك. والقسم الثالث: من يكتم العلم بخلاً به، ولا يبينه إلا لغرض دنيوي؛ فيجمع بين الأمرين؛ وهذا شر الأقسام؛ وهو المذكور في الآية التي نحن بصدد تفسيرها؛ وقد تبين عقوبة كل واحد من هذه الأقسام فيما سبق. أما من أظهر العلم لله، وتعلم لله، فهذا هو خير الأقسام؛ وهو القسم الرابع الذي يبين بلسانه، وحاله، وقلمه، ما أنزل الله عز وجل؛ والذي يكتم خوفاً إذا كان سيبين في موضع آخر فلا بأس؛ أما الذي يكتم مطلقاً فهذا لا يجوز؛ فيجب أن يبين ولو قُتل ــــ إذا كان يتوقف بيان الحق على ذلك ــــ، كما جرى لبعض أهل السنة الذين صبروا على القتل في بيانها لتعينه عليهم. 5 ــــ ومن فوائد الآية: أن متاع الدنيا قليل ــــ ولو كثر ــــ؛ لقوله تعالى: { ويشترون به ثمناً قليلاً }. 6 ــــ ومنها: إطلاق المسبَّب على السبب؛ لقوله تعالى: { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } هم لا يأكلون النار؛ ولكن يأكلون المال؛ لكنه مال سبب للنار. 7 ــــ ومنها: إقامة العدل في الجزاء؛ لقوله تعالى: { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار }؛ فجعل عقوبتهم من النار بقدر ما أكلوه من الدنيا الذي أخذوه عوضاً عن العلم. 8 ــــ ومنها: إثبات كلام الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { ولا يكلمهم الله }؛ لأنه لو كان لا يتكلم لا معهم، ولا مع غيرهم، لم يكن في نفي تكليمه إياهم فائدة؛ فنفيه لتكليمه هؤلاء يدل على أنه يكلم غيرهم؛ وقد استدل الشافعي ــــ رحمه الله ــــ بقوله تعالى: {كلا إنهم} [المطففين: 15] أي الفجار {عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففين: 15] برؤية الأبرار له؛ لأنه ما حجب هؤلاء في حال السخط إلا لرؤية الأبرار في حال الرضا؛ إذ لو كان لا يُرى مطلقاً لم يكن لذكر حجب الفجار فائدة؛ وكلام الله عز وجل هو الحرف، والمعنى؛ فالله سبحانه وتعالى يتكلم بكلام بحروف، وصوت؛ وأدلة هذا، وتفصيله مذكور في كتب العقائد. 9 ــــ ومن فوائد الآية: أن الكلام من صفات الله الفعلية المتعلقة بمشيئته؛ لقوله تعالى: { ولا يكلمهم الله يوم القيامة }؛ لأن تخصيصه بيوم القيامة يدل على أنه يتعلق بمشيئته؛ وهذه هي الصفات الفعلية؛ لكن أصل الكلام صفة ذاتية؛ لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال متكلماً. 10 ــــ ومنها: إثبات يوم القيامة. 11 ــــ ومنها: أن يوم القيامة يُزَكى فيه الإنسان؛ وذلك بالثناء القولي، والفعلي؛ فإن الله يقول لعبده المؤمن حين يقرره بذنوبه: «سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»(1)؛ وأما الفعلي فإن علامة الثناء أنه يعطى كتابه بيمينه، ويَشهد الناسُ كلهم على أنه من المؤمنين؛ وهذه تزكية بلا شك. 12 ــــ ومنها: غلظ عقوبة هؤلاء بأن الله تعالى لا يكلمهم يوم القيامة، ولا يزكيهم؛ والمراد كلام الرضا؛ وأما كلام الغضب فإن الله تعالى يكلم أهل النار، كما قال تعالى: { اخسئوا فيها ولا تكلمون }. 13 ــــ ومنها: إثبات الجزاء؛ لقوله تعالى: { ولهم عذاب أليم }. 14 ــــ ومنها: أن عذاب هؤلاء الكافرين عذاب مؤلم ألماً نفسياً، وألماً جسمانياً؛ فأما الألم النفسي فدليله قوله تعالى: { قال اخسئوا فيها ولا تكلمون }؛ فهذا من أبلغ ما يكون من الإذلال الذي به الألم النفسي؛ وأما الألم البدني فدليله قول الله تعالى: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً} [النساء: 56] ، وقوله تعالى: {وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم} [محمد: 15] ، وقوله تعالى: {يصب من فوق رؤوسهم الحميم * يصهر به ما في بطونهم والجلود * ولهم مقامع من حديد * كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق} [الحجر: 21، 22] . القرآن { )أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) (البقرة:175) التفسير: { 175 } قوله تعالى: { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى }: المشار إليهم: {الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً} [البقرة: 174] ؛ و{ اشتروا } بمعنى اختاروا؛ ولكنه عبر بهذا؛ لأن المشتري طالب راغب في السلعة؛ فكأن هؤلاء ــــ والعياذ بالله ــــ طالبون راغبون في الضلالة بمنزلة المشتري؛ و{ الضلالة } هنا كتمان العلم؛ فإنه ضلال؛ وأما «الهدى» فهو بيان العلم ونشره. وقوله تعالى: { بالهدى }: الباء هنا للعوض؛ ويقول الفقهاء: إن ما دخلت عليه الباء هو الثمن؛ سواء كان نقداً، أم عيناً غير نقد؛ فإذا قلت: اشتريت منك ديناراً بثوب، فالثمن الثوب؛ وقال بعض الفقهاء: الثمن هو النقد مطلقاً؛ والصحيح الأول؛ والثمن الذي دفعه هؤلاء هو الهدى؛ فهم دفعوا الهدى - والعياذ بالله - لأخذ الضلالة. قوله تعالى: { والعذاب بالمغفرة }؛ فهم أيضاً اشتروا العذاب بالمغفرة؛ ولو أنهم بينوا، وأظهروا العلم لَجُوزوا بالمغفرة؛ ولكنهم كتموا، فجُوزوا بالعذاب. قوله تعالى: { فما أصبرهم على النار }؛ «ما» تعجبية مبتدأ؛ وجملة { أصبرهم } خبرها؛ والمعنى: شيء عظيم أصبرهم؛ أو ما أعظم صبرهم على النار؛ وهذا التعجب يتوجه عليه سؤالان: السؤال الأول: أهو تعجب من الله أم تعجيب منه؛ بمعنى: أيرشدنا إلى أن نتعجب ــــ وليس هو موصوفاً بالعجب؛ أو أنه من الله ــــ؟ السؤال الثاني: أن قوله: { فما أصبرهم } يقتضي أنهم يصبرون، ويتحملون مع أنهم لا يتحملون، ولا يطيقون؛ ولهذا يقولون لخزنة جهنم: {ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب} [غافر: 49] ؛ وينادون: {يا مالك ليقض علينا ربك} [الزخرف: 77] أي ليهلكنا؛ ومن قال هكذا فليس بصابر؟ والجواب عن السؤال الأول: ــــ وهو أهو تعجب، أو تعجيب ــــ: فقد اختلف فيه المفسرون؛ فمنهم من رأى أنه تعجب من الله عز وجل؛ لأنه المتكلم به هو الله؛ والكلام ينسب إلى من تكلم به؛ ولا مانع من ذلك لا عقلاً، ولا سمعاً ــــ أي لا مانع يمنع من أن الله سبحانه وتعالى يعجب؛ وقد ثبت لله العجب بالكتاب، والسنة؛ فقال الله تعالى في القرآن: {بل عجبتُ ويسخرون} [الصافات: 12] بضم التاء؛ وهذه القراءة سبعية ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ والتاء فاعل يعود على الله سبحانه وتعالى المتكلم؛ وأما السنة ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَرِه»(2)؛ وعلى هذا فالعجب لله ثابت بالكتاب، والسنة؛ فلا مانع من أن الله يعجب من صبرهم؛ فإذا قال قائل: العجب يدل على أن المتعجب مباغَت بما تعجب منه؛ وهذا يستلزم أن لا يكون عالماً بالأمر من قبل ــــ وهو محال على الله ــــ؟ فالجواب: أن سبب العجب لا يختص بما ذكر؛ بل ربما يكون سببه الإنكار على الفاعل، حيث خرج عن نظائره، كما تقول: «عجبت من قوم جحدوا بآيات الله مع بيانها، وظهورها»؛ وهو بهذا المعنى قريب من معنى التوبيخ، واللوم؛ ومن المفسرين من قال: إن المراد بالعجب: التعجيب؛ كأنه قال: اعجب أيها المخاطب من صبرهم على النار؛ وهذا وإن كان له وجه لكنه خلاف ظاهر الآية. وأما الجواب عن السؤال الثاني:- وهو كيف يتعجب من صبرهم مع أنهم لم يصبروا على النار – فقال أهل العلم: إنهم لما صبروا على ما كان سبباً لها من كتمان العلم صاروا كأنهم صبروا عليها، مثلما يقال للرجل الذي يفعل أشياء ينتقد فيها: ما أصبرك على لوم الناس لك مع أنه ربما لم يلوموه أصلاً؛ لكن فعل ما يقتضي اللوم؛ يصير معنى: { ما أصبرهم على النار } أنهم لما كانوا يفعلون هذه الأفعال الموجبة للنار صاروا كأنهم يصبرون على النار؛ لأن الجزاء من جنس العمل، كما تفيده الآيات الكثيرة، فيعبر بالعمل عن الجزاء؛ لأنه سببه المترتب عليه؛ و{ النار } هي الدار التي أعدها الله سبحانه وتعالى للكافرين والظالمين؛ لكن الظلم إن كان ظلم الكفر فهم مخلدون فيها؛ وإن كان ظلماً دون الكفر فإنهم مستحقون للعذاب بحسب حالهم. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: أن سبب ضلال هؤلاء وكتمانهم الحق أنهم لم يريدوا الهدى؛ وإنما أرادوا الضلال والفساد ــــ والعياذ بالله ــــ؛ لقوله تعالى: { أولئك الذين اشتروا... } إلخ. 2 ــــ ومنها: الرد على الجبرية؛ لإضافة الفعل إلى الفاعل. 3 ــــ ومنها: أن كتمان العلم أو بيانه لغرض من الدنيا من الضلال؛ وذلك؛ لأنه جاهل بما يجب على العالم في علمه من النشر، والتبليغ، ولأنه جهل على نفسه، حيث منعها هذا الخير العظيم في نشر العلم؛ لأن من أفضل الأعمال نشر العلم؛ فإنه ــــ أعني العلم ــــ ليس كالمال؛ المال يفنى؛ والعلم يبقى؛ أرأيت الآن في الصحابة رضي الله عنهم أناس أغنياء أكثر غنًى من أبي هريرة رضي الله عنه وذِكر أبي هريرة بين الخاص والعام الآن أكثر، والثواب الذي يأتيه مما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث أكثر وأعظم؛ ثم أرأيت منزلة الإمام أحمد بن حنبل، ونحوه من الأئمة مع من في عهدهم من الخلفاء، والوزراء، والأغنياء، هل بقي ذكرهم، كما بقي ذكر هؤلاء الأئمة؟!! فكتمان العلم لا شك أنه ضلالة في الإنسان، وجهالة. 4 ــــ ومن فوائد الآية: أن عقوبة الله لهم ليست ظلماً منه؛ بل هم الذين تسببوا لها، حيث اشتروا الضلالة بالهدى؛ والله عز وجل ليس بظلام للعبيد. 5 ــــ ومنها: أن نشر العلم، وإظهاره، وبيانه من أسباب المغفرة؛ لأنه جعل لهم العذاب في مقابلة الكتمان، واختيارهم العذاب على المغفرة، والضلالة على الهدى؛ فدل ذلك على أن نشر العلم من أسباب مغفرة الذنوب؛ كما أن الذنوب أيضاً تحول بين الإنسان، والعلم، فكذلك كتم العلم يحول بين الإنسان، والمغفرة؛ وقد استدل بعض العلماء بأن الذنوب تحول بين الإنسان، والعلم بقوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً * واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً} [النساء: 105، 106] ؛ فقال تعالى: {لتحكم} ، ثم قال تعالى: {واستغفر الله} ؛ فدل هذا على أن الاستغفار من أسباب فتح العلم ــــ وهو ظاهر ــــ؛ وبقوله تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به} [المائدة: 13] ؛ لأن الذنوب ــــ والعياذ بالله ــــ رين على القلوب، كما قال تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 14] ؛ فإذا كانت ريناً عليها فإن الاستغفار يمحو هذا الرين، وتبقى القلوب نيرة مدركة واعية. 6 ــــ ومن فوائد الآية: إثبات العجب لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { فما أصبرهم على النار } ــــ على أحد الاحتمالين ــــ؛ وهو من الصفات الفعلية؛ لأنه يتعلق بمشيئته؛ وكل صفة من صفات الله تتعلق بمشيئته فهي من الصفات الفعلية. فإذا قال قائل: ما دليلكم على أن العجب يتعلق بمشيئته؟ فالجواب: أن له سبباً؛ وكل ما له سبب فإنه متعلق بالمشيئة؛ لأن وقوع السبب بمشيئة الله؛ فيكون ما يتفرع عنه كذلك بمشيئة الله. 7 ــــ ومنها: توبيخ هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله؛ لقوله تعالى: { فما أصبرهم على النار }؛ وكان الأجدر بهم أن يتخذوا وقاية من النار لا وسيلة إليها. 8 ــــ ومنها: الإشارة إلى شدة عذابهم، كما يقال في شخص أصيب بمرض عظيم: «ما أصبره على هذا المرض»، أي أنه مرض عظيم يؤدي إلى التعجب من صبر المريض عليه. القرآن {)ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) (البقرة:176) التفسير: { 176 } قوله تعالى: { ذلك بأن الله نزل الكتاب }: المشار إليه ما ذكر من جزائهم؛ أي ذلك الجزاء الذي يجازون به؛ { بأن }: الباء هنا للسببية؛ والرابط هنا بين السبب، والمسبَّب واضح جداً؛ لأنه ما دام الكتاب نازلاً بالحق فمن اللائق بهذا الكتاب المنزل بالحق أن لا يُكتم؛ الحق يجب أن يبين؛ فلما أخفاه هؤلاء استحقوا هذا العذاب؛ ومعنى: { نزل الكتاب بالحق } أن ما نزل به حق، وأنه نازل من عند الله حقاً؛ و{ الكتاب } المراد به الجنس: القرآن، والتوراة، والإنجيل، وغيرها من الكتب التي أنزلها الله. قوله تعالى: { وإن الذين اختلفوا في الكتاب } بكسر همزة { إن } لوقوع اللام في خبرها؛ أي اختلفوا في الكتاب الذي نزله الله عز وجل بحق؛ وهذا الاختلاف يشمل الاختلاف في أصله: فمنهم من آمن؛ ومنهم من كفر، والاختلافَ فيما بينهم أي فيما بين أحد الطرفين: فمنهم من استقام في تأويله؛ ومنهم من حرف في تأويله على غير مراد الله سبحانه وتعالى. قوله تعالى: { لفي شقاق بعيد } أي: لفي جانب بعيد عن الحق؛ وهذا البعد يختلف: فمنهم من يكون بعيداً جداً؛ ومنهم من يكون دون ذلك. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: إثبات العلل، والأسباب؛ لقوله تعالى: { ذلك بأن }؛ والباء للسببية؛ وقد ذكر بعض أهل العلم أن في القرآن أكثر من مائة موضع كلها تفيد إثبات العلة؛ خلافاً للجبرية ــــ الذين يقولون: «إن فعل الله عز وجل ليس لحكمة؛ بل لمجرد المشيئة». 2 ــــ ومنها: الثناء على كتب الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { بأن الله نزَّل الكتاب بالحق }. 3 ــــ ومنها: ثبوت العلو لله عزّ وجل ؛ لقوله تعالى: { بأن الله نزَّل الكتاب }. 4 ــــ ومنها: أن المختلفين في كتب الله لا يزالون في شقاق بعيد لا تتقارب أقوالهم ــــ وإن تقاربت أبدانهم. 5 ــــ ومنها: أن الاختلاف ليس رحمة؛ بل إنه شقاق، وبلاء؛ وبه نعرف أن ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اختلاف أمتي رحمة»(1) لا صحة له؛ وليس الاختلاف برحمة؛ بل قال الله سبحانه وتعالى: { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك } [هود: 118] أي فإنهم ليسوا مختلفين؛ نعم؛ الاختلاف رحمة بمعنى: أن من خالف الحق لاجتهاد فإنه مرحوم بعفو الله عنه؛ فالمجتهد من هذه الأمة إن أصاب فله أجران؛ وإن أخطأ فله أجر واحد؛ والخطأ معفو عنه؛ وأما أن يقال هكذا على الإطلاق: «إن الاختلاف رحمة» فهذا مقتضاه أن نسعى إلى الاختلاف؛ لأنه هو سبب الرحمة على مقتضى زعم هذا المروي!!! فالصواب أن الاختلاف شر. القرآن )لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة:177) التفسير: { 177 } قوله تعالى: { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب }: في هذه الآية قراءتان: { ليس البِرَّ }بفتح الراء؛ و{ ليس البِرُّ } بضم الراء؛ فأما على قراءة الرفع فإن { البرُّ } تكون اسم { ليس }، و{ أن تولوا } خبرها؛ وأما على قراءة النصب فتكون { البرَّ } خبر { ليس }، و{ أن تولوا } اسمها مؤخراً؛ يعني تقدير الكلام على الأول: ليس البرُّ توليتَكم وجوهكم؛ والتقدير على الثاني: ليس البرَّ توليتُكم ــــ بالرفع. و «البر» في الأصل الخير الكثير؛ ومنه سمي «البَرّ» لسعته، واتساعه؛ ومنه «البَرّ» اسم من أسماء الله، كما قال تعالى: { إنّا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم } [الطور: 28] ؛ ومعنى الآية: ليس الخير، أو كثرة الخير، والبركة أن يولي الإنسان وجهه قبل المشرق ــــ أي جهة المشرق؛ أي جهة المغرب. وهذه الآية نزلت توطئة لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؛ فبين الله عز وجل أنه ليس البر أن يتوجه الإنسان إلى هذا، أو هذا؛ ليس هذا هو الشأن؛ الشأن إنما هو في الإيمان بالله... إلخ؛ أما الاتجاه فإنه لا يكون خيراً إلا إذا كان بأمر الله؛ ولا يكون شراً إلا إذا كان مخالفاً لأمر الله؛ فأيّ جهة توجهتم إليها بأمر الله فهو البر؛ وجاءت الآية بذكر المشرق، والمغرب؛ لأن أظهر، وأبين الجهات هي جهة المشرق، والمغرب. قوله تعالى: { ولكن البر }: فيها قراءاتان؛ الأولى: { ولكنِ البرُّ } بالرفع؛ وعلى هذا تكون { لكن } مهملة غير عاملة؛ والقراءة الثانية التي في المصحف: { ولكنَّ البرَّ } بتشديد نون { لكنَّ }، فتكون عاملة. قوله تعالى: { ولكن البر من آمن بالله... }: { البر } عمل؛ و{ من آمن } عامل؛ فكيف يصح أن يكون العامل خبراً عن العمل؟ في هذا أوجه: الوجه الأول: أن الآية على تقدير مضاف؛ والتقدير: ولكن البر بر من آمن بالله... إلخ. الوجه الثاني: أن الآية على سبيل المبالغة؛ وليس فيها تقدير مضاف، كأنه جعل المؤمن هو نفس البر، مثلما يقال: «رجل عدل» بمعنى أنه عادل. الوجه الثالث: أن نجعل { البر } بمعنى البارّ؛ فيكون مصدراً بمعنى اسم الفاعل؛ أي: ولكن البارَّ حقيقة القائمَ بالبر من آمن بالله... وقوله تعالى: { من آمن بالله }؛ تقدم أن «الإيمان» في اللغة بمعنى التصديق؛ لكنه إذا قرن بالباء صار تصديقاً متضمناً للطمأنية، والثبات، والقرار؛ فليس مجرد تصديق؛ ولو كان تصديقاً مطلقاً لكان يقال: آمنه - أي صدقه؛ لكن «آمن به» مضمنة معنى الطمأنينة، والاستقرار لهذا الشيء؛ وإذا عديت باللام - مثل: {فآمن له لوط} [العنكبوت: 26] - فمعناه أنها تضمنت معنى الاستسلام والانقياد. قوله تعالى: { واليوم الآخر }: هو يوم القيامة؛ وسمي آخراً؛ لأنه ليس بعده يوم. قوله تعالى: { والملائكة } جمع ملَك؛ وهم عالَم غيبي خلقهم الله سبحانه وتعالى من نور، وذللهم لعبادته، وهم لا يستكبرون عن عبادته، ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وهم أجسام ذوو عقول؛ لقوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة} [البقرة: 30] ؛ ولقوله تعالى في وصف جبريل: {إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين} [التكوير: 19 ــــ 21] . قوله تعالى: { والكتاب }؛ المراد به الجنس؛ فيشمل كل كتاب أنزله الله عز وجل على كل رسول. قوله تعالى: { والنبيين } يدخل فيهم الرسل؛ لأن كل رسول فهو نبي، ولا عكس: قال الله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163] . قوله تعالى: { وآتى } بالمد؛ بمعنى أعطى؛ إذاً هي تنصب مفعولين؛ المفعول الأول: { المال }؛ والمفعول الثاني: قوله تعالى: { ذوي القربى }، وما عطف عليه؛ و(المال): كل عين مباحة النفع سواء كان هذا المال نقداً، أو ثياباً، و طعاماً، أو عقاراً، أو أي شيء. قوله تعالى: (على حبه) حال من فاعل (آتى)، يعني حال كونه محباً له لحاجته إليه، كالجائع؛ أو لتعلق نفسه به، مثلأن يعجبه جماله، أو قوته، أو ما أشبه ذلك. قوله تعالى: { ذوي القربى } أي أصحاب القرابة؛ والمراد قرابة المعطي؛ وبدأ بهم قبل كل الأصناف؛ لأن حقهم آكد؛ وقد ذكروا أن القرابة ما جمع بينك وبينهم الجد الرابع. قوله تعالى: { واليتامى } جمع يتيم؛ وهو من مات أبوه قبل بلوغه من ذكر، أو أنثى؛ فأما من ماتت أمه فليس بيتيم؛ ومن بلغ فليس بيتيم؛ وسمي يتيماً من اليتم؛ وهو الانفراد؛ ولهذا إذا صارت القصيدة جميلة، أو قوية يقولون: هذه الدرة اليتيمة - يعني أنها منفردة ليس لها نظير. قوله تعالى: { والمساكين } جمع مسكين؛ وهو الفقير؛ سمي بذلك لأن الفقر أسكنه، وأذله؛ والفقر - أعاذنا الله منه - لا يجعل الإنسان يتكلم بطلاقة؛ هذا في الغالب؛ لأنه يرى نفسه أنه ليس على المستوى الذي يمكنه من التكلم؛ ويرى نفسه أنه لا كلمة له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره»(1). واعلم أن الفقير بمعنى المسكين؛ والمسكين بمعنى الفقير؛ إلا إذا اجتمعا صار لكل واحد منهما معنى غير الآخر؛ فالفقير أشد حاجة، كما في آية الصدقة: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين...} [التوبة: 60] ؛ لأن الله بدأ به؛ ويُبدأ بالأحق فالأحق، والأحوج فالأحوج في مقام الإعطاء؛ ويجمعهما - أعني الفقير، والمسكين - أن كلاً منهما ليس عنده ما يكفيه وعائلته من مطعم، ومشرب، وملبس، ومسكن، ومنكح، ومركوب. قوله تعالى: { وابن السبيل }؛ «السبيل» بمعنى الطريق؛ والمراد بـ { ابن السبيل } الملازم للطريق؛ وهو المسافر؛ والمسافر يكون في حاجة غالباً، فيحتاج إلى من يعطيه المال؛ ولهذا جعل الله له حظاً من الزكاة؛ فابن السبيل هو المسافر؛ وزاد العلماء قيداً؛ قالوا: المسافر المنقطع به السفر ــــ أي انقطع به السفر؛ فليس معه ما يوصله إلى بلده؛ لأنه إذا كان معه ما يوصله إلى بلده فليس بحاجة؛ فهو والمقيم على حدٍّ سواء؛ فلا تتحقق حاجته إلا إذا انقطع به السفر. قوله تعالى: { والسائلين } جمع سائل؛ وهو المستجدي الذي يطلب أن تعطيه مالاً؛ وإنما كان إعطاؤه من البر؛ لأن معطيه يتصف بصفة الكرماء؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يُسأل على الإسلام شيئاً إلا أعطاه؛ والسائل نوعان؛ سائل بلسان المقال: وهو الذي يقول للمسؤول: أعطني كذا؛ وسائل بلسان الحال: وهو الذي يُعَرِّض بالسؤال، ولا يصرح به، مثل أن يأتي على حال تستدعي إعطاءه. قوله تعالى: { وفي الرقاب } أي في إعتاق الرقاب، أو فكاكها من الأسر. قوله تعالى: { وأقام الصلاة } هذه معطوفة على { آمن } التي هي صلة الموصول؛ فيكون التقدير: ومن أقام الصلاة؛ و{ الصلاة } المراد بها الفرض، والنفل؛ وإقامتها الإتيان بها مستقيمة؛ لأن أقام الشيء يعني جعله قائماً مستقيماً؛ وليس المراد بإقامة الصلاة الإعلام بالقيام إليها؛ واعلم أن «الصلاة» من الكلمات التي نقلها الشارع عن معناها اللغوي إلى معنى شرعي؛ فمعناها في اللغة: الدعاء، كما قال تعالى: {وصلّ عليهم} [التوبة: 103] أي ادْعُ لهم بالصلاة، فقل: صلى الله عليكم؛ ولكنها في الشرع: عبادة ذات أقوال وأفعال معلومة، مفتتحة بالتكبير، ومختتمة بالتسليم. قوله تعالى: { وآتى الزكاة } أي أعطى الزكاة مستحقها؛ و«الزكاة» أيضاً من الكلمات التي نقلها الشرع عن معناها اللغوي إلى معنى شرعي؛ فالزكاة في اللغة من زكا يزكو - أي نما، وزاد؛ وبمعنى الصلاح؛ ومنه قوله تعالى: {قد أفلح من زكاها} [الشمس: 9] أي أصلحها، وقومها؛ لكن في الشرع «الزكاة» هي التعبد ببذل مال واجب في مال مخصوص لطائفة مخصوصة؛ وسميت زكاة؛ لأنها تنمي الخُلق وتنمي المال، وتنمي الثواب؛ تنمي الخُلُق بأن يكون الإنسان بها كريماً من أهل البذل، والجود، والإحسان؛ وهذا لا شك من أفضل الأخلاق شرعاً، وعادة؛ وتنمي المال بالبركة، والحماية، والحفظ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال»(1)؛ وتزكي الثواب ، كما قال تعالى: { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم } [البقرة: 261] ؛ وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب؛ فإن الله تعالى يأخذها بيمنيه، فيربيها، كما يربي الإنسان فلوه حتى تكون مثل الجبل»(2). قوله تعالى: { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا }؛ { إذا } هنا مجردة من الشرطية؛ فهي ظرفية محضة - يعني: الموفون بعهدهم وقت العهد؛ أي في الحال التي يعاهدون فيها؛ فإذا عاهدوا وفوا. قوله تعالى: { والصابرين }: فيه إشكال من حيث الإعراب؛ لأن الذي قبله مرفوع؛ وهو غير مرفوع؛ يقول بعض العلماء؛ إنه منصوب بفعل محذوف، والتقدير: وأخص الصابرين؛ والبلاغة من هذا أنه إذا تغير أسلوب الكلام كان ذلك أدعى للانتباه؛ فإن الإنسان إذا قرأ الكلام على نسق واحد لم يحصل له انتباه، كما يحصل عند تغير السياق. و «الصبر» ليس بذل شيء؛ ولكنه تحمل شيء؛ وما سبق كله بذل شيء؛ فهو مختلف من حيث النوع: { من آمن... وأقام... وآتى... } كل هذه أفعال؛ لكن { الصابرين } ليس فعلاً؛ ولكنه تحمُّل. و«الصبر» في اللغة الحبس؛ ومنه قولهم: فلان قُتل صبراً ــــ أي حبساً؛ وأما في الشرع فإنه حبس النفس على طاعة الله، أو عن معصيته، أو على أقداره المؤلمة. قوله تعالى: { في البأساء والضراء وحين البأس }: { البأساء } شدة الفقر؛ ومنه «البؤس» يعني الفقر؛ و{الضراء }: المرض؛ و{ حين البأس }: شدة القتل؛ فهم صابرون في أمور لهم فيها طاقة، وأمور لا طاقة لهم بها؛ { في البأساء } يعني: في حال الفقر؛ لا يحملهم فقرهم على الطمع في أموال الناس، ولا يشكون أمرهم لغير الله؛ بل يصبرون عن المعصية: لا يسرقون، ولا يخونون، ولا يكذبون، ولا يغشون؛ ولا تحملهم الضراء - المرض، وما يضر أبدانهم - على أن يتسخطوا من قضاء الله وقدره؛ بل هم دائماً يقولون بألسنتهم وقلوبهم: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً؛ كذلك حين البأس يصبرون، ولا يولون الأدبار - وهذا صبر على الطاعة؛ فتضمنت هذه الآية: { الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس } الصبر بأنواعه الثلاثة: الصبر عن المعصية؛ وعلى الأقدار المؤلمة؛ وعلى الطاعة؛ والترتيب فيها للانتقال من الأسهل إلى الأشد. قوله تعالى: { أولئك الذين صدقوا }؛ هذه شهادة من الله عز وجل؛ وهي أعلى شهادة؛ لأنها شهادة من أعظم شاهد سبحانه وتعالى؛ والمشار إليهم كل من اتصف بهذه الصفات؛ والإشارة بالبعيد لما هو قريب لأجل علو مرتبتهم. وقوله تعالى: { الذين صدقوا } أي صدقوا الله، وصدقوا عباده بوفائهم بالعهد، وإيتاء الزكاة، وغير ذلك؛ والصدق هو مطابقة الشيء للواقع؛ فالمخبر بشيء إذا كان خبره موافقاً للواقع صار صادقاً؛ والعامل الذي يعمل بالطاعة إذا كانت صادرة عن إخلاص، واتباع صار عمله صادقاً؛ لأنه ينبئ عما في قلبه إنباءً صادقاً. قوله تعالى: { وأولئك هم المتقون } أي القائمون بالتقوى؛ و «التقوى» هي اتخاذ الوقاية من عذاب الله عز وجل بفعل أوامره، واجتناب نواهيه؛ وهذا أجمع ما قيل في تعريف التقوى؛ وتأمل كيف جاءت هذه الجملة بالجملة الاسمية المؤكدة؛ الجملة اسمية لدلالتها على الثبوت، والاستمرار؛ لأن الجملة الاسمية تدل على أنها صفة ملازمة للمتصف بها؛ وهذه الجملة مؤكدة بضمير الفصل: { هم }؛ لأن ضمير الفصل له ثلاث فوائد سبق ذكرها(1). وقوله تعالى: { وأولئك هم المتقون }: هؤلاء جمعوا بين البر والتقوى؛ البر: بالصدق؛ والتقوى: بهذا الوصف: { أولئك هم المتقون }؛ وإنما قلنا: إن الصدق بر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر؛ وإن البر يهدي إلى الجنة»(1)؛ فجمعوا بين البر والتقوى؛ فهذا ما أمر الله به في قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2] ؛ وكرر الإشارة مرة ثانية من باب التأكيد، والمدح، والثناء كأن كل جملة من هاتين الجملتين مستقلة. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: أن البر حقيقة هو الإيمان بالله... إلخ؛ والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده؛ والإيمان بربوبيته؛ والإيمان بألوهيته؛ والإيمان بأسمائه، وصفاته: أما الإيمان بوجوده: فإنه دل عليه الشرع، والحس، والعقل، والفطرة: أ ــــ دلالة الشرع على وجوده سبحانه وتعالى واضحة من إرسال الرسل، وإنزال الكتب. ب ــــ دلالة الحس: فإن الله سبحانه وتعالى يدعى، ويجيب؛ وهذا دليل حسي على وجوده ــــ تبارك وتعالى، كما في سورة الأنبياء، وغيرها من إجابة دعوة الرسل فور دعائهم، كقوله تعالى: {ونوحاً إذا نادى من قبل فاستجبنا له} [الأنبياء: 76] ، وقوله تعالى: {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له} [الأنبياء: 83، 84] . ج ــــ دلالة العقل: أنّ ما من حادث إلا وله محدث، كما قال عز وجل: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} [الطور: 35] ؛ هذا الكون العظيم بما فيه من النظام، والتغيرات، والأحداث لا بد أن يكون له موجِد مُحدِث يحدث هذه الأشياء ــــ وهو الله عز وجل؛ إذ لا يمكن أن تَحدث بنفسها؛ لأنها قبل الوجود عدم؛ والعدم ــــ كاسمه لا وجود له؛ ولا يمكن أن يحدثها مخلوق لِما فيها من العظم والعبر. د ــــ دلالة الفطرة: فإن الإنسان لو ترك وفطرته لكان مؤمناً بالله؛ والدليل على هذا قوله تعالى: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44] ؛ حتى غير الإنسان مفطور على معرفة الرب عز وجل. وأما الإيمان بربوبيته: فهو الإيمان بأنه وحده الخالق لهذا الكون المالك له المدبر له؛ وقد دل عليه ما سبق من الأدلة على وجوده؛ وقد أقر بذلك المشركون، كما في قوله تعالى: { قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله }؛ إلى غيرها من الآيات الكثيرة. وأما الإيمان بألوهيته: فهو الإيمان بأنه لا إله في الوجود حق إلا الله عز وجل وكل ما سواه من الآلهة باطلة، كما قال تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير} [الحج: 62] ، فالله سبحانه وتعالى هو الإله الحق. وأما الإيمان بأسمائه، وصفاته: فهو الإيمان بما أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه، أو أثبتته له رسله من الأسماء والصفات إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل على حد قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] ؛ ودليل ذلك قوله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } [الأعراف: 180] ؛ وقوله تعالى: { ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم } [النحل: 60] ووجه الدلالة: تقديم الخبر في الآيتين؛ لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر. 2 ــــ ومن فوائد الآية: أن طاعة الله عز وجل من البر. 3 ــــ ومنها: أن الإيمان باليوم الآخر من البر؛ ويشمل كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، كفتنة القبر، ونعيمه، وعذابه، وقيام الساعة، والبعث، والحساب، والصراط، والميزان، والكتب باليمين، أو الشمال، والجنة، وما ذُكر من نعيمها، والنار، وما ذكر من عذابها، وغير ذلك مما جاء في الكتاب، والسنة عن هذه الأمور مفصلاً أحياناً، ومجملاً أحياناً. والإيمان باليوم الآخر يستلزم الاستعداد له بالعمل الصالح، ولهذا يقرن الله سبحانه وتعالى الإيمان أن يقوم العبد بطاعته سبحانه وتعالى؛ فالذي يقول: إنه مؤمن باليوم الآخرة، ولكن لا يستعد له فدعواه ناقصة؛ ومقدار نقصها بمقدار ما خالف في الاستعداد؛ كما أنه لو قيل مثلاً لإنسان عنده حَبٌّ: إنه سينزل اليوم مطر، فظلَّل الحَبّ؛ معلوم أن الذي لا يؤمن بهذا الكلام لن يغطيه؛ كذلك لو قيل: سيأتي اليوم عدو، فشدد في الحراسة؛ إذا آمن بأنه سيأتي عدو شدَّد في الحراسة بجميع ما يمكن؛ فإذا لم يشدد في الحراسة علمنا أنه لم يؤمن به. 4 ــــ ومن فوائد الآية: أن الإيمان بالملائكة من البر؛ ويشمل الإيمان بذواتهم، وصفاتهم، وأعمالهم إجمالاً فيما علمناه إجمالاً، وتفصيلاً فيما علمناه تفصيلاً؛ واعلم أن الملائكة - عليهم الصلاة السلام - منهم من عُين لنا، وعرفناه باسمه؛ ومنهم من لم يعين؛ فمن عين لنا وجب علينا أن نؤمن باسمه كما عين، مثل «جبريل» عليه السلام؛ وإسرافيل؛ ومالك - خازن النار -؛ ومنكر ونكير إن صح الحديث بهذا اللفظ(1) - ففيه نظر -؛ وميكائيل؛ وملك الموت - ولكننا لا نعرف اسمه؛ بعض الناس يقولون: عزرائيل؛ ولكن لم يصح هذا؛ وهاروت، وماروت؛ ثم كذلك أعمالهم منهم من علمنا أعماله؛ ومنهم من لم نعلم؛ لكن علينا أن نؤمن على سبيل الإطلاق بأنهم عباد مكرمون، وممتثلون لأمر الله عز وجل، لهم نصيب من تدبير الخلق بإذن الله؛ منهم الموكل بالقطر، والبنات؛ والموكل بالنفخ في الصور؛ وفيهم ملائكة موكلة بالأجنة؛ وملائكة موكلة بكتابة أعمال بني آدم؛ وملائكة موكلة بحفظ بني آدم؛ كما قال تعالى: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد: 11] ؛ لكن كل هذا بأمر الله عز وجل وبإذنه؛ وليس لهم منازعة لله عز وجل، ولا معاونة في أي شيء من الكون؛ قال الله تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} [سبأ: 22، 23فنفى جميع ما يتعلق به المشركون: {لا يملكون مثقال ذرة} [سبأ: 22] انفراداً؛ {وما لهم فيهما من شرك} [سبأ: 22] مشاركة؛ {وما له منهم من ظهير} [سبأ: 22] معاونة؛ {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} [سبأ: 23] : فنفى الشفاعة، والوساطة إلا بإذنه، ثم قال تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم} [سبأ: 23] : وهم الملائكة إذا سمعوا الوحي صعقوا؛ فليس لهم أي شيء في التصرف في الكون؛ لكنهم يمتثلون أمر الله عز وجل. 5 ــــ ومن فوائد الآية: أن الإيمان بالكتب من البر؛ وكيفيته أن نؤمن بأن كل كتاب أنزله الله على أحد من رسله فهو حق: صدق في الأخبار، وعدل في الأحكام؛ ولكننا لا نكلف بالعمل بما فيها فيما جاءت شريعتنا بخلافه؛ واعلم أنه ما من رسول إلا معه كتاب؛ ودليل ذلك قوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} [الحديد: 25] أي مع هؤلاء الرسل، وقوله تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213] ؛ فما من رسول إلا معه كتاب؛ والكتب المعروفة لدينا هي التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، وصحف موسى، والقرآن الكريم؛ وصحف موسى اختلف العلماء أهي التوراة أو غيرها، فمنهم من قال: إنها غيرها؛ ومنهم من قال: إنها هي؛ وأما ما لم نعلم به فنؤمن به إجمالاً؛ فتقول بقلبك، ولسانك: آمنت بكل كتاب أنزله الله على كل رسول؛ ثم إن المراد أن نؤمن بأن الله أنزل على موسى كتاباً يسمى التوراة؛ وعلى عيسى كتاباً يسمى الإنجيل؛ وعلى داود كتاباً يسمى الزبور؛ أما أن تؤمن بالموجود منها الآن فليس بواجب عليك؛ لأنه محرف، ومغير، ومبدل؛ لكن تؤمن بأن له أصلاً نزل على هؤلاء الرسل. 6 ــــ ومن فوائد الآية: أن الإيمان بالنبيين من البر؛ فنؤمن بكل نبي أوحى الله إليه؛ فمن علمنا منهم نؤمن به بعينه؛ والباقي إجمالاً؛ وقد ورد في حديث صححه ابن حبان أن عدة الرسل ثلاثمائة وبضعة عشر رسولاً؛ وأن عدة الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفاً(2)؛ فإن صح الحديث فهو خبر معصوم يجب علينا الإيمان به؛ وإن لم يصح فإن الله تعالى يقول: { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } [غافر: 78] ؛ ونحن لا نكلف الإيمان إلا بما بلغنا؛ فالذين علمناهم من الرسل يجب علينا أن نؤمن بهم بأعيانهم؛ والذين لم نعلمهم نؤمن بهم إجمالاً، كما قال تعالى: { كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله } [البقرة: 285] ؛ وقد ذكر في القرآن أربعة وعشرون رسولاً؛ قال تعالى: {ووهبنا له} [الأنعام: 84] أي إبراهيم: {إسحاق ويعقوب كلًّا هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلًّا فضلنا على العالمين} [الأنعام: 84 ــــ 86]؛ فهؤلاء ثمانية عشر؛ ويبقى شعيب، وصالح، وهود، وإدريس، وذو الكفل، ومحمد صلى الله عليه وسلم. 7 ــــ ومن فوائد الآية: أن إعطاء المال على حبه من البر؛ وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به وقال: إن الله يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] ؛ وعندما سمع أبو طلحة هذه الآية تصدق ببستانه الذي هو أحب شيء إليه من ماله؛ لا لأنه بستانه فقط؛ ولكن لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأتي إليه، ويشرب فيه من ماء طيب، وكان قريباً من مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولما نزلت الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: «يا رسول الله، إن الله أنزل هذه الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}؛ وإن أحب مالي إليّ «بيرُحاء»؛ وإني أضعها صدقة إلى الله ورسوله؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بخ! بخ! ذاك مال رابح! ذاك مال رابح! أرى أن تجعله في الأقربين»(1). 8 ــــ ومن فوائد الآية: أن إعطاء ذوي القربى أولى من إعطاء اليتامى، والمساكين؛ لأن الله بدأ بهم، فقال تعالى: { وآتى المال على حبه ذوي القربى }؛ فلو سأل سائل: هل الأفضل أن أعطي القرابة، أو اليتامى؟ لقلنا: أعطِ القرابة؛ اللهم إلا إن يكون هناك ضرورة في اليتامى ترجح إعطاءهم؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تقديم صلة الرحم على العتق(2)؛ واعلم أن الحكم إذا علق بوصف تختلف أفراده فيه قوة وضعفاً، فإنه يزداد قوة بقوة ذلك الوصف؛ فإذا كان معلقاً بالقرابة فكل من كان أقرب فهو أولى؛ وأقرب الناس إليك، وأحقهم بالبر: أمك، وأبوك. 9 ــــ ومن فوائد الآية: أن لليتامى حقاً؛ لأن الله امتدح من آتاهم المال؛ لقوله تعالى: { واليتامى } سواء كانوا فقراء، أم أغنياء. 10 ــــ ومنها: إثبات رحمة الله عز وجل، حيث ندب إلى إتيان المال لليتامى، والمساكين؛ لأن هذا لا شك من الرحمة بهم. 11 ــــ ومنها: أن لابن السبيل حقاً - ولو كان غنياً في بلده. 12 ــــ ومنها: أن إعطاء السائل من البر - وإن كان غنياً؛ لعموم قوله تعالى: { والسائلين }. فإذا قال قائل: إذا كان مؤتي المال للسائلين من أهل البر فكيف يتفق، والتحذير من سؤال الناس؟ فالجواب: أنه لا معارضة؛ لأن الجهة منفكة؛ فالممدوح: المعطي؛ والمحذَّر: السائل المعطى؛ فإذا انفكت الجهة فلا تعارض؛ فلو رأيت مبتلى بهذه المهنة - وهي مهنة سؤال الناس - فأعطه إذا سألك، ثم انصحه، وحذره؛ لتكون مؤتياً للمال، وناصحاً للسائل؛ لأن بعض الناس - والعياذ بالله - نعلم علم اليقين - أو يغلب على الظن المؤكد - أنه غني؛ وإنما سأل الناس تكثراً؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن: «من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً؛ فليستقل، أو ليستكثر»(1)؛ وأن «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وما في وجهه مزعة لحم»(2). 13 ــــ ومن فوائد الآية: أن إعتاق الرقاب من البر؛ لقوله تعالى: { وفي الرقاب }؛ والمال المبذول في الرقاب لا يعطى الرقبة؛ وإنما يعطى مالك الرقبة؛ فلهذا أتى بـ { في } الدالة على الظرفية؛ والرقاب ذكر أهل العلم أنها ثلاثة أنواع: أ ــــ عبد مملوك تشتريه، وتعتقه. ب ــــ مكاتب اشترى نفسه من سيده، فأعنته في كتابته. ج ــــ أسير مسلم عند الكفار، فافتديته؛ وكذلك لو أسر عند غير الكفار، مثل الذين يختطفون الآن ــــ والعياذ بالله؛ إذا طلب المختطفون فدية فإنه يفك من الزكاة؛ لأن فيها فك رقبة من القتل. 14 ــــ ومنها: أن إقامة الصلاة من البر؛ لقوله تعالى: { وأقام الصلاة }. 15 ــــ ومنها: أن إيتاء الزكاة للمستحقين لها من البر. 16 ــــ ومنها: الثناء على الموفين بالعهد، وأن الوفاء به في البر؛ والعهد عهدان: عهد مع الله عز وجل؛ وعهد مع الخلق. فالعهد الذي مع الله بينه بقوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} [الأعراف: 172] ، وقوله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار} [المائدة: 12] ، وقوله تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} [البقرة: 40] ؛ فالعهد الذي عهد الله به إلينا أن نؤمن به رباً، فنرضى بشريعته؛ بل بأحكامه الكونية، والشرعية؛ هذا العهد الذي بيننا، وبين ربنا. أما العهد الذي بيننا، وبين الناس فأنواعه كثيرة جداً غير محصورة؛ منها العقود، مثل عقد البيع، وعقد الإجارة، وعقد الرهن، وعقد النكاح، وغير ذلك؛ لأنك إذا عقدت مع إنسان التزمت بما يقتضيه ذلك العقد؛ إذاً فكل عقد فهو عهد؛ ولهذا قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] ، وقال تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً} [الإسراء: 34] ؛ ومن العهود بين الخلق؛ ما يجري بين المسلمين وبين الكفار؛ وهو ثلاثة أنواع: مؤبد؛ ومقيد؛ ومطلق؛ فأما المؤبد فلا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى إبطال الجهاد؛ وأما المقيد فبحسب الحاجة ــــ وإن طالت المدة على القول الراجح ــــ لأنه عهد دعت إليه الحاجة؛ فيتقيد بقدرها؛ وقيل: لا تجوز الزيادة فيه على عشرة سنوات؛ لأن الأصل وجوب قتال الكفار، وأبيح العهد في عشر سنوات تأسياً برسول الله (ص) في صلح الحديبية؛ والصحيح الأول؛ ويجاب عن عهد الحديبية بأن الحادثة لا تقتضي الزيادة؛ وأما المطلق فهو الذي لم يؤبد، ولم يحدد؛ وهو جائز على القول الراجح عند الحاجة إليه؛ فمتى وجد المسلمون الحاجة إليه عقدوه؛ وإذا زالت الحاجة عاملوا الكفار بما تقتضيه الحال؛ ولا حجة للكفار فيه؛ لأنه مطلق. والمعاهدون من الكفار لهم ثلاث حالات؛ الحال الأولى: أن يستقيموا لنا؛ الحالة الثانية: أن يخونوا؛ الحال الثالثة: أن نخاف منهم الخيانة؛ فإن استقاموا لنا وجب علينا أن نستقيم لهم؛ ولا يمكن أن نخون أبداً؛ لقوله تعالى (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين) [التوبة: 7]؛ وإن خانوا انقض عهدهم، ووجب قتالهم؛ لقوله تعالى: (وإن نكثوا إيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم) [التوبة: 12]؛ وإن خفنا منهم الخيانة وجب أن ننبذ إليهم عهدهم على سواء؛ لقوله تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} [الأنفال: 58] : نخبرهم أن لا عهد بيننا ليكونوا على بصيرة؛ ومن العهد أيضاً ما يقع بين الإنسان وبين غيره من الالتزامات غير العقود، مثل الوعد؛ فإن الوعد من العهد؛ ولهذا اختلف أهل العلم هل يجب الوفاء بالوعد، أو لا يجب؛ والصحيح الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يجب الوفاء بالوعد؛ لأنه داخل في العهد، ولأن إخلاف الوعد من علامات النفاق؛ وإذا كان كذلك فلا يجوز للمؤمن أن يتحلى بأخلاق المنافقين. 17 ــــ ومن فوائد الآية: أن الصبر من البر؛ وهو ثلاثة أنواع: الأول: الصبر على طاعة الله ، بأن يتحمل الصبر على الطاعة من غير ضجر، ولا كراهة. الثاني: الصبر عن معصية الله ، بأن يحمل نفسه على الكف عن معصية الله إذا دعته نفسه إليها. الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة التي لا تلائم الطبيعة بأن لا يتسخط من المقدور، ولا يتضجر؛ بل يحبس نفسه عن ذلك: قال الله تعالى: {وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمه وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 155 ــــ 157] . وأعلى هذه الأنواع: الصبر على طاعة الله؛ لأن فيه تحملاً، ونوعاً من التعب بفعل الطاعة؛ ثم الصبر عن المعصية؛ لأن فيه تحملاً، وكفاً عن المعصية؛ والكف أهون من الفعل؛ ثم الصبر على أقدار الله المؤلمة، لأنه على شيء لا اختيار للعبد فيه، ولهذا قيل: «إمّا أن تصبر صبر الكرام، وإمّا أن تسلوَ سلوّ البهائم». 18 ــــ ومن فوائد الآية: أن ما ذُكر هو حقيقة الصدق مع الله، ومع الخلق؛ لقوله تعالى: { أولئك الذين صدقوا }؛ فصدقهم مع الله، حيث قاموا بهذه الاعتقادات النافعة: الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين؛ وأنهم أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وبذلوا المحبوب في هذه الجهات؛ وأما صدقهم مع الخلق يدخل في قوله تعالى: { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا }؛ وهذا من علامات الصدق؛ ولهذا قال تعالى: { أولئك الذين صدقوا }؛ فصدقوا في اعتقاداتهم، وفي معاملاتهم مع الله، ومع الخلق. 19 ــــ ومن فوائد الآية أن ما ذكر من تقوى الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { وأولئك هم المتقون }؛ وسبق أنها إذا جمعت مع البر صارت التقوى ترك المحرمات، وصار البر فعل المأمورات؛ وإذا افترقا دخل أحدهما في الآخر؛ وفي هذه الآية قال تعالى: { وأولئك هم المتقون } مع أنهم قائمون بالبر؛ فدل هذا على أن القيام بالبر من التقوى؛ لأن حقيقة الأمر أن القائم بالبر يرجو ثواب الله، ويخشى عقاب الله. 20 ــــ ومنها: أن هؤلاء فقط هم المتقون؛ ونفهم ذلك من الحصر وطريقه هنا أمران: أ ــــ تعريف طرفي الجملة. ب ــــ ضمير الفصل. تــنــبــيــه: ظاهر الآية الكريمة العموم في إتيان المال لهؤلاء المذكورين في الآية: القرابة، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، والسائلين، وفي الرقاب؛ فظاهر الآية العموم للمسلمين، والكافرين؛ لكنه غير مراد؛ بل هي خاصة بالمسلم؛ وأما الكافر فلا بأس من بره، والإحسان إليه بشرط أن يكون ممن لا يقاتلوننا في ديننا، ولم يخرجونا من ديارنا؛ لقوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة: 8] ؛ وعلى هذا فإذا كان الكافر يقاتلنا بنفسه بأن يكون هذا الرجل المعين مقاتلاً، أو يقاتلنا حكماً، مثل أن يكون من دولة تقاتل المسلمين فإنه لا يجوز بره، ولا إعطاؤه المال؛ لأنه مستعد حكماً للقتال: إذا أمرته دولته بقتال فإنه يلبي؛ وما دام حرباً للمسلمين فإنه يريد إعدام المسلمين، وليس أهلاً للإحسان إليه. القرآن {)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة:178) التفسير: { 178 } قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا } سبق الكلام على ذكر فوائد تصدير الخطاب بالنداء بوصف الإيمان للمنادى. قوله تعالى: { كتب عليكم }؛ أي فُرض، كقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام }؛ وسمي الفرض مكتوباً؛ لأن الكتابة تثَبِّت الشيء، وتوثقه؛ قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة: 282]. قوله تعالى: { القصاص } هذه نائب فاعل؛ والقصاص يشمل إزهاق النفس، وما دونها؛ قال الله تعالى في سورة المائدة: {والجروح قصاص} [المائدة: 45] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في كسر الربيع سن جارية من الأنصار: «كتاب الله القصاص»(1)؛ ولكنه تعالى هنا قال: { في القتلى }؛ وفي سورة المائدة: في القتل، وفيما دونه: {أن النفس بالنفس والعين بالعين...} [المائدة: 45] إلخ. و «قتلى» جمع قتيل، مثل «جرحى» جمع جريح؛ و«أسرى» جمع أسير؛ وقوله تعالى: { في القتلى } أي في شأن القتلى؛ وليس في القتلى أنفسهم؛ لأن القتيل مقتول؛ فلا قصاص؛ لكن في شأنهم؛ والذي يُقتص منه هو القاتل. وبعد العموم في قوله تعالى: { القصاص في القتلى } بدأ بالتفصيل فقال تعالى: { الحر بالحر }؛ { الحر مبتدأ؛ و{ بالحر } خبر؛ يعني الحر يقتل بالحر؛ والباء هنا إما للبدلية؛ وإما للعوض؛ يعني الحر بدل الحر؛ أو الحر عوض الحر؛ و{ الحر } هو الذي ليس بمملوك. قوله تعالى: { والعبد بالعبد } أي العبد يقتل بالعبد؛ و{ العبد } هو المملوك. قوله تعالى: { والأنثى بالأنثى } أي الأنثى تقتل بالأنثى. قوله تعالى: { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف }؛ «مَن» هذه شرطية؛ والفاء عاطفة ومفرِّعة أيضاً، تفيد أن ما بعدها مفرَّع على ما قبلها. وقوله تعالى: { فمن عفي له }: المعفو عنه القاتل؛ و{ من أخيه } المراد به المقتول ــــ أي من دم أخيه فأيّ قاتل عفي له من دم أخيه شيء سقط القصاص؛ وحينئذ على العافي اتباع بالمعروف عند قبض الدية، بحيث لا يتبع عفوه منًّا، ولا أذًى؛ و{ شيء } نكرة في سياق الشرط؛ فتعم كل شيء قليلاً كان، أو كثيراً. وقوله تعالى: { فاتباع } خبر مبتدأ محذوف؛ والتقدير: فالواجب اتباع بالمعروف؛ والاتباع بالمعروف يكون على ورثة المقتول؛ يعني إذا عفوا فعليهم أن يَتَّبعوا القاتل بالمعروف. قوله تعالى: { وأداء إليه } أي على القاتل إيصال إلى العافي عن القصاص؛ وهي معطوفة على «اتباع» ؛ والضمير في { إليه } يعود إلى العافي بإحسان؛ والمؤدَّى: ما وقع الاتفاق عليه. قوله تعالى: { بإحسان } أي يكون الأداء بإحسان وافياً بدون مماطلة؛ والباء للمصاحبة - يعني أداءً مصحوباً بالإحسان - وإنما نص على «الإحسان» هنا؛ و «المعروف» هناك؛ لأن القاتل المعتدي لا يكفّر عنه إلا الإحسان ليكون في مقابلة إساءته؛ أما أولئك العافون فإنهم لم يجنوا؛ بل أحسنوا حين عدلوا عن القتل إلى الدية. قوله تعالى: [ ذلك تخفيف من ربكم ورحمة }: المشار إليه كل ما سبق من وجوب القصاص، ومن جواز العفو؛ تخفيف من الله في مقابل وجوب القصاص؛ وقد ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن بني إسرائيل فرض الله عليهم القصاص فرضاً؛ وهذه الأمة خفف عنها؛ فلم يجب عليها القصاص؛ لأن الإنسان قد يكون لديه رحمة بالقاتل؛ وقد يكون القاتل من أقاربه؛ وقد يكون اعتبارات أخرى فلا يتمكن من تنفيذ القصاص في حقه؛ فخفف على هذه الأمة - ولله الحمد. وقوله تعالى: { من ربكم }: «الرب» معناه الخالق المالك المدبر لخلقه كما يشاء على ما تقتضيه حكمته. وقوله تعالى: [ ورحمة } أي بالجميع: بالقاتل - حيث سقط عنه القتل، وبأولياء المقتول - حيث أبيح لهم أن يأخذوا العوض؛ لأن من الجائز أن يكون الواجب إما القصاص؛ أو العفو مجاناً؛ لكن من رحمة الله أنه أباح هذا، وهذا؛ فهو رحمة بالجميع. قوله تعالى: { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم }: { من } اسم شرط؛ وفعل الشرط: { اعتدى }؛ وجوابه: { فله عذاب أليم }؛ المشار إليه في قوله تعالى: { بعد ذلك }: التنازل عن القصاص بأخذ الدية، أو قبولها؛ و{ عذاب } بمعنى عقوبة؛ و{ أليم } بمعنى مؤلم - يعني: موجع؛ والمعنى: أن من اعتدى من أولياء المقتول بعد العفو فله عذاب أليم - ويحتمل أن يكون المراد: من اعتدى من أولياء المقتول، ومن القاتل. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: أهمية القصاص؛ لأن الله وجه الخطاب به إلى المؤمنين؛ وصدره بالنداء المستلزم للتنبيه؛ وتصدير الخطاب بالنداء فائدته التنبيه، وأهمية الأمر. 2 ــــ ومنها: أن تنفيذ القصاص من مقتضى الإيمان؛ لأن الخطاب موجه للمؤمنين. 3 ــــ ومنها: أن ترك تنفيذه نقص في الإيمان؛ فما كان من مقتضى الإيمان تنفيذه فإنه يقتضي نقص الإيمان بتركه. 4 ــــ ومنها: وجوب التمكين من القصاص؛ لقوله تعالى: { كتب عليكم القصاص }. 5 ــــ ومنها: مراعاة التماثل بين القاتل، والمقتول؛ لقوله تعالى: { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى }. 6 ــــ ومنها: أن الحر يقتل بالحر - ولو اختلفت صفاتهما، كرجل عالم عاقل غني جواد شجاع قتل رجلاً فقيراً أعمى أصم أبكم زمِناً جباناً جاهلاً فإنه يقتل به؛ لعموم قوله تعالى: { الحر بالحر }. 7 ــــ ومنها: أن العبد يقتل بالحر؛ لأنه إذا قُتل الحر بالحر فمن باب أولى أن يقتل العبد بالحر. 8 ــــ ومنها: أن العبد يقتل بالعبد - ولو اختلفت قيمتهما؛ لعموم قوله تعالى: { والعبد بالعبد }؛ فلو قتل عبد يساوي مائة ألف عبداً لا يساوي إلا عشرة دراهم فإنه يقتل به؛ لعموم قوله تعالى: { والعبد بالعبد }. 9 ــــ ومنها: أن العبد إذا قتل وكان قاتله حراً فإنه لا يقتل به؛ لمفهوم قوله تعالى: { الحر بالحر }؛ وهذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم؛ فمنهم من قال: إن الحر يقتل بالعبد؛ لعموم قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة: 45] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس...»(1)؛ وهذا القول هو الصواب؛ والقول الثاني: أن الحر يقتل بالعبد إذا كان مالكاً له؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه»(2) ؛ وفي الاستدلال بهذا الحديث نظر: «أولاً» : للاختلاف فيه؛ و «ثانياً» : أن يقال: إذا كان السيد يقتل بعبده وهو مالكه فمن باب أولى أن يقتل به من ليس بسيد له؛ وأما حديث: «لا يقتل حر بعبد»(3) فضعيف. 10 ــــ ومنها: أن الأنثى تقتل بالأنثى - ولو اختلفت صفاتهما - لعموم قوله تعالى: {والأنثى بالأنثى }. 11 ــــ ومنها: أن الأنثى تقتل بالرجل؛ لأنها إذا قتلت بالأنثى فإنها من باب أولى تقتل بالرجل؛ ودلالة الآية عليه من باب مفهوم الأولوية. 12 ــــ ومنها: أن الرجل لا يقتل بالمرأة؛ لأنه أعلى منها؛ هذا مفهوم الآية؛ والصواب أنه يقتل بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يهودياً كان قتل جارية على أوضاح لها – رض رأسها بين حجرين(1)؛ فرض النبي صلى الله عليه وسلم رأسه بين حجرين؛ وهذا يدل أن قتله كان قصاصاً؛ لا لنقض العهد – كما قيل به. 13- ومنها: جواز العفو عن القصاص إلى الدية؛ لقوله تعالى: (فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف...) إلخ؛ وهل له أن يعفو مجاناً؟ الجواب: نعم؛ له ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى ندب إلى العفو فقال: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} [البقرة: 237] ، وقال تعالى: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} [التغابن: 14] ، وقال في وصف أهل الجنة: {الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس} [آل عمران: 134] ؛ لكن العفو المندوب إليه ما كان فيه إصلاح؛ لقوله تعالى: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى: 40] ؛ فإذا كان في العفو إصلاح، مثل أن يكون القاتل معروفاً بالصلاح؛ ولكن بدرت منه هذه البادرة النادرة؛ ونعلم، أو يغلب على ظننا أنا إذا عفونا عنه استقام، وصلحت حاله، فالعفو أفضل لا سيما إن كان له ذرية ضعفاء، ونحو ذلك؛ وإذا علمنا أن القاتل معروف بالشر، والفساد، وإن عفونا عنه لا يزيده إلا فساداً، وإفساداً فترك العفو عنه أولى؛ بل قد يجب ترك العفو عنه. 14 ــــ ومن فوائد الآية: أنه إذا عفا بعض الأولياء عن القصاص سقط القصاص في حق الجميع؛ لقوله تعالى: { فمن عفي له من أخيه شيء }؛ وهي نكرة تعم القليل، والكثير؛ لأنها في سياق الشرط؛ وعلى هذا فلو كان لأحد ورثة المقتول جزء من ألف جزء من التركة، ثم عفا عن القصاص انسحب العفو على الجميع؛ لأن الجزء الذي عفا عنه لا قصاص فيه؛ والقصاص لا يتبعض؛ إذ لا يمكن قتل القاتل إلا جزءاً من ألف جزء منه. 15 ــــ ومنها: أن دية العمد على القاتل؛ لقوله تعالى: { فمن عفي له من أخيه شيء }؛ ولا شك أن المعفو عنه هو القاتل؛ وقد أمر بالأداء. 16 ــــ ومنها: أن فاعل الكبيرة لا يخرج من الإيمان؛ لقوله تعالى: { فمن عفي له من أخيه شيء }؛ فجعل الله المقتول أخاً للقاتل؛ ولو خرج من الإيمان لم يكن أخاً له. 17 ــــ ومنها: الرد على طائفتين مبتدعتين؛ وهما الخوارج، والمعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن فاعل الكبيرة خارج من الإيمان؛ لكن الخوارج يصرحون بكفره؛ والمعتزلة يقولون: إنه في منزلة بين المنزلتين: الإيمان، والكفر ــــ فلا هو كافر؛ ولا هو بمؤمن؛ لكن اتفق الجميع على أنه مخلد في النار. 18 ــــ ومنها: أنه يجب الاتباع بالمعروف ــــ يعني يجب على أولياء المقتول إذا عفوا إلى الدية ألا يتسلطوا على القاتل؛ بل يتبعونه بالمعروف بدون أذية، وبدون منة؛ لقوله تعالى: { فاتباع بالمعروف }؛ والخطاب لأولياء المقتول. 19 ــــ ومنها: وجوب الأداء على القاتل بالإحسان، لقوله تعالى: { وأداء إليه بإحسان }. 20 ــــ ومنها: أن الله خفف عن هذه الأمة بجواز العفو، ورحمهم بجواز أخذ العوض؛ لقوله تعالى: { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة }: تخفيف على القاتل؛ ورحمة بأولياء المقتول، حيث أذن لهم أن يأخذوا عوضاً؛ وإلا لقيل لهم: إما أن تعفوا مجاناً؛ وإما أن تأخذوا بالقصاص. 21 ــــ ومنها: إثبات الرحمة لله؛ وهي رحمة حقيقية تستلزم حصول النعم، واندفاع النقم؛ وأهل التعطيل يفسرونها بـ «الإنعام» الذي هو مفعول الرب؛ أو بـ «إرادة الإنعام»؛ وينكرون حقيقة الرحمة؛ وقد ضلوا في ذلك: فإن الإنعام، أو إرادته من آثار الرحمة، وليسا إياها. 22 ــــ ومنها: أن المعتدي بعد انتهاء القصاص، أو أخذ الدية متوعد بالعذاب الأليم سواء كان من أولياء المقتول، أو من القاتل؛ لقوله تعالى: { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم }. القرآن {)وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:179) التفسير: { 179 } قوله تعالى: { ولكم في القصاص حياة }؛ { لكم } خبر مقدم؛ و{ حياة } مبتدأ مؤخر؛ و{ القصاص هو قتل القاتل بمن قتله؛ فـ «أل» فيه للعهد؛ و{ حياة } نكرة للتعظيم؛ والمعنى: حياة كبرى، أو عظمى. قوله تعالى: { يا أولي الألباب } أي يا أصحاب العقول؛ وإنما خاطبهم بذلك؛ لأن الحكم يحتاج إلى تعقل، وتدبر حتى يتبين مطابقته للعقل. قوله تعالى: { لعلكم تتقون }؛ «لعل» للتعليل؛ والمعلَّل ثبوت القصاص؛ يعني: أوجبنا القصاص، وكتبناه عليكم من أجل أن تتقوا العدوان بالقتل؛ فإن الإنسان إذا علم أنه مقتول بالقتل سيتقي القتل بلا شك. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: الحكمة العظمى في القصاص؛ وهي الحياة الكاملة؛ لقوله تعالى: { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب }. فإن قيل: كيف يكون لنا في القصاص حياة مع أننا قتلنا القاتل؛ فزدنا إزهاق نفس أخرى؟. فالجواب: نعم؛ يكون لنا في القصاص حياة بأن القتلة إذا علموا أنه سيقتص منهم امتنعوا عن القتل؛ فكان في ذلك تقليل للقتل، وحياة للأمة؛ ولهذا جاءت منكرة للدلالة على عظم هذه الحياة؛ فالتنكير هنا للتعظيم ــــ يعني حياة عظيمة شاملة للمجتمع كله؛ أما بالنسبة للقاتل فيقتل؛ لكن قتل القاتل حياة للجميع. 2 ــــ ومن فوائد الآية: أن يُفعل بالجاني كما فَعل؛ لأن بذلك يتم القصاص؛ فإذا قتل بسكين قُتل بمثلها؛ أو بحجر قُتل بمثله؛ أو بسمّ قُتل بمثله؛ وهكذا. 3 ــــ ومنها: أن كون القصاص حياة يحتاج إلى تأمل وعقل، لقوله تعالى: { يا أولي الألباب }. 4 ــــ ومنها: أنه يجب على الإنسان أن يؤمن بأحكام الشريعة دون تردد؛ وإذا رأى ما يستبعده في بادئ الأمر فليتأمل وليتعقل حتى يتبين له أنه عين الحكمة، والمصلحة؛ ولهذا قال تعالى: { يا أولي الألباب }؛ فأتى بالنداء المقتضي للانتباه. 5 ــــ ومنها: أن من فوائد القصاص أن يتقي الجناة القتل؛ لقوله تعالى: {لعلكم تتقون} [البقرة: 21] ؛ واتقاؤهم للقتل من تقوى الله. تــنــبــيــه: اعلم بأن للقصاص شروطاً لثبوته؛ وشروطاً لاستيفائه مذكورة على التفصيل في كتب الفقه؛ فليرجع إليها. القرآن {)كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة:180) التفسير: { 180 } قوله تعالى: { كتب } أي فُرض؛ فهو فعل مبني لما لم يسم فاعله؛ وفاعله معلوم ــــ وهو الله عز وجل؛ ونائب الفاعل قوله تعالى: { الوصية }؛ إنما لم يؤنث الفعل لكون نائب الفاعل مؤنثاً تأنيثاً مجازياً؛ وللفصل بينه وبين عامله. قوله تعالى: { إذا حضر أحدكم الموت } يريد بذلك - والله أعلم - إذا مُرض الإنسان مرض الموت؛ أما إذا حضره بمعنى أنه كان في سياق الموت فإن في ذلك تفصيلاً يأتي - إن شاء الله - في الفوائد. قوله تعالى: { إن ترك خيراً }: قال العلماء: أي مالاً كثيراً؛ و{ الوصية } هي العهد إلى غيره بشيء هام؛ {للوالدين } يعني بذلك الأم، والأب؛ و{ الأقربين }: من سواهما من القرابة؛ والمراد بهم الأدنون، كالإخوة، والأعمام، ونحوهم؛ { بالمعروف } أي بما عرفه الشرع، وأقره؛ وهو الثلث فأقل؛ { حقاً } أي مؤكداً؛ وهو مصدر حذف عامله؛ والتقدير: أحق ذلك حقاً؛ { على المتقين } أي المتصفين بالتقوى؛ و «التقوى» هي اتخاذ ما يقي من عذاب الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: وجوب الوصية للوالدين والأقربين لمن ترك مالاً كثيراً؛ لقوله تعالى: { كتب عليكم }؛ واختلف العلماء ــــ رحمهم الله ــــ هل هذا منسوخ بآيات المواريث؛ أم هو محكم، وآيات المواريث خصصت؟ على قولين؛ فأكثر العلماء على أنه منسوخ؛ ولكن القول الراجح أنه ليس بمنسوخ؛ لإمكان التخصيص؛ فيقال: إن قوله تعالى: { للوالدين والأقربين } مخصوص بما إذا كانوا وارثين؛ بمعنى أنهم إذا كانوا وارثين فلا وصية لهم اكتفاءً لما فرضه الله لهم من المواريث؛ وتبقى الآية على عمومها فيمن سوى الوارث. 2 ــــ ومن فوائد الآية: جواز الوصية للصحيح، والمريض، ومن حضره الموت؛ ولكن النصوص تدل على أن من حضره الموت ينقسم إلى قسمين: الأول: من بقي معه عقله ووعيه، فوصيته نافذة حسب الشروط الشرعية. الثاني: من فقد وعيه وعقله، فلا تصح وصيته. 3 ــــ ومنها: جواز الوصية بما شاء من المال؛ لكن هذا مقيد بحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال للنبي (ص): «أتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا؛ قال: فالشطر؟ قال: لا؛ قال: فالثلث؟ قال: الثلث؛ والثلث كثير»(1)؛ وعلى هذا فلا يزاد في الوصية على ثلث المال؛ فتكون الآية مقيدة بالحديث. 4 ــــ ومنها: أن الوصية الواجبة إنما تكون فيمن خلّف مالاً كثيراً؛ لقوله تعالى: { إن ترك خيراً }؛ فأما من ترك مالاً قليلاً فالأفضل أن لا يوصي إذا كان له ورثة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس»(2). 5 ــــ ومنها: أن الوصية ليست مقيدة بجزء معين من المال؛ بل هي بالمعروف. 6 ــــ ومنها: أهمية صلة الرحم، حيث أوجب الله الوصية للوالدين والأقربين بعد الموت؛ لأن صلة الرحم من أفضل الأعمال المقربة إلى الله؛ فهذه إحدى أمهات المؤمنين أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم: أنها أعتقت جارية لها؛ فقال: «أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك»(3)؛ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم صلة الرحم أعظم أجراً من العتق. 7 ــــ ومنها: تأكيد وجوب الوصية على من ترك مالاً كثيراً لمن ذُكر؛ وجه التوكيد قوله تعالى: { حقاً على المتقين }. 8 ــــ ومنها: أن المتقين هم الذين يراعون فرائض الله؛ ولذلك وجه الخطاب إليهم؛ لقوله تعالى: { حقاً على المتقين }. مـســــألــــة: إذا قال قائل: كيف يكون الوالدان غير وارثين؟. فالجواب: أن ذلك ممكن، مثل أن يكون الأب، أو الأم مخالفة في الدين؛ فإنه لا يرث فتوصي له. كذلك بالنسبة للأقربين فإنهم قد لا يرثون لحجبهم بمن هو أولى منهم. مـســــألــــة ثانية: فإن قال قائل: إن الله فرض للأب السدس مثلاً؛ وللأم السدس؛ وللزوجة الربع؛ وللزوج النصف؛ وما أشبه ذلك؛ وهذا يقتضي أن يكون لهم فرضهم كاملاً؛ ومع تنفيذ الوصية ينقص من فرضهم بقدر الوصية؟. فالجواب: أن الله بين أن حق الورثة من بعد وصية يوصى بها، أو دين؛ وعلى هذا فلا إشكال في الآية في تقدير أنصباء الورثة؛ وهذا القول هو الذي تجتمع به الأدلة. القرآن {)فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:181) التفسير: { 181 } قوله تعالى: { فمن بدله }؛ الفاء عاطفة؛ و «مَن» شرطية؛ و «بدل» فعل ماضٍ مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط؛ وجملة: { فإنما إثمه } جواب الشرط؛ واقترنت بالفاء؛ لأنها جملة اسمية. قوله تعالى: { فمن بدله } أي بدّل «الإيصاء» المفهوم من { الوصية }؛ أي غيّره بنقص، أو زيادة، أو منعٍ؛ إن نقص فالضرر على الموصى له؛ وإن زاد فعلى الورثة؛ وإن منع فعلى الموصى له؛ كل هذه الصور الثلاث تدخل في قوله تعالى: { فمن بدله }. قوله تعالى: { بعد ما سمعه }: قال أهل العلم: عبر بالسمع عن العلم؛ لأن السمع من الحواس الظاهرة؛ والعلم من الإدراكات الباطنة - أي فمن بدله بعد أن يعلمه علم اليقين، كما لو سمعه بنفسه؛ ومعلوم أن العلم بالوصية لا يتوقف على السماع؛ قد يكون بالكتابة؛ وقد يكون بالمشافهة، والسماع؛ وقد يكون بشهادة الشهود؛ وما إلى ذلك. قوله تعالى: { فإنما إثمه } الضمير يعود على التبديل. قوله تعالى: { على الذين يبدلونه } أي يغيرونه؛ يعني: فهذا الإثم يعود على المبدل؛ لا على الموصي؛ والموصى إليه من المخالفة؛ وقد سبق الكلام على هذين الاسمين الكريمين، وما تضمناه من الصفات. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: أن من فعل الخير، ثم غُيِّر بعده كُتب له ما أراد؛ لقوله تعالى: { فإنما إثمه على الذين يبدلونه }. 2 ــــ ومنها: أن من بدل الوصية جهلاً فلا إثم عليه؛ لقوله تعالى: { بعد ما سمعه }؛ ويؤخذ من هذا ــــ بل من باب أولى ــــ أنه لو تصرف في الوصية تصرفاً خطأً وهو معتقد أنه على صواب فإنه لا ضمان عليه؛ لأنه مُوَلَّى على التصرف فيها؛ فإذا أخطأ فلا ضمان إذا لم يكن هناك تفريط، أو تعدٍّ. 3 ــــ ومنها: تحريم تغيير الوصية؛ لقوله تعالى: { فإنما إثمه على الذين يبدلونه }؛ فيجب العمل بوصية الموصي على حسب ما أوصى إلا أن يكون جنفاً أو إثماً. 4 ــــ ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما «السميع» و «العليم» ؛ وما تضمناه من الصفة؛ والحكم الذي هو الأثر؛ فالسميع اسم؛ والسمع صفة؛ وكونه يسمع هو الأثر ــــ أو الحكم؛ والعليم كذلك. 5 ــــ ومنها: إحاطة الله عز وجل بكل أعمال الخلق؛ لأن قوله تعالى: { سميع عليم } ذكر عقب التهديد في قوله تعالى: { فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه }؛ وهذا يدل على أن الله يسمع، ويعلم ما يبدله الوصي. 6 ــــ ومنها: الرد على الجبرية، وعلى القدرية؛ فالجبرية يقولون: إن الإنسان مجبر على عمله، ولا قدرة له، ولا اختيار؛ فأنكروا حكمة الله تعالى؛ لأنه إذا قيل بهذا القول الباطل انتفت حكمة الأمر، والنهي، والثواب، والعقاب؛ وصار من فعل ما أمر به، أو ترك ما نُهي عنه ليس أهلاً للمدح؛ لأنه كالآلة ليس عنده قدرة، ولا اختيار؛ وكذلك أبطلوا حكمة الله في الجزاء؛ لأنه ــــ على أصلهم ــــ يجزي المحسن وهو غير محسن؛ ويعاقب العاصي وهو غير عاصٍ؛ والرد عليهم في قوله تعالى: { فمن بدله }؛ فأضاف التبديل إلى الإنسان. وأما القدرية فيقولون: «إن الإنسان مستقل بعمله، ولا تتعلق به إرادة الله، ولا قدرته، ولا خلقه»؛ وغلاتهم ينكرون العلم والكتابة، يقولون: «إن أفعال العبادة غير معلومة لله، ولا مكتوبة عنده»؛ وقالوا: «إن الأمر أُنُف أي مستأنف ــــ لم يكن الله يعلم شيئاً مما نفعله؛ إلا إذا وقع علمه بعد رؤيته، أو سمعه»؛ وجه الرد عليهم إثبات العلم لله. قال الشافعي، وغيره من السلف: ناظروا القدرية بالعلم؛ فإن أقروا به خُصموا؛ وإن أنكروه كفروا؛ فإما إذا قالوا: إن الله لا يعلم فكفرهم واضح لتكذيبهم القرآن؛ وأما إذا قالوا: إنه يعلم لكن لا يقدرها، ولا يخلقها، قيل لهم: هل وقعت على وفق معلومه، أو على خلاف معلومه؟ سيقولون: «على وفق معلومه»؛ وإذا كان على وفق معلومه لزم أن تكون مرادةً له؛ وإلا لما وقعت. فالحاصل أن في الآية رداً على القدرية، والجبرية؛ وكل منهم غلا في جانب من جوانب القدر؛ فالجبرية غلو في إثبات القدر، وفرطوا في أفعال العباد؛ والقدرية غلو في إثبات فعل العبد، وفرطوا في علم الله، وإرادته؛ والوسط هو الخير؛ فأهل السنة، والجماعة يثبتون لله العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق؛ كما يثبتون للإنسان إرادة، وقدرة ــــ لكن ذلك تابع لإرادة الله؛ وخلقه ــــ؛ وتفاصيل ذلك مبسوط في علم العقائد. القرآن { )فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:182) التفسير: { 182 } قوله تعالى: { فمن خاف }: { من } شرطية؛ و{ خاف } فعل الشرط؛ وقوله تعالى: { فلا إثم عليه } جواب الشرط. وقوله تعالى: { فمن خاف من موصٍ } أي من توقع، أو اطلع. قوله تعالى: { جنفاً أو إثماً }: «الجنف» الميل عن غير قصد؛ و «الإثم» الميل عن قصد. قوله تعالى: { فأصلح بينهم } أي فعَل صالحاً؛ أي حول الأمر إلى شيء صالح؛ وليس المعنى: أصلح الشقاق؛ لأنه قد لا يكون هناك شقاق؛ هذا القول وإن كان له وجهة نظر؛ لكن كلمة: { بينهم } تدل على أن المراد إصلاح الشقاق؛ إذ إن البينية لا تكون إلا بين شيئين؛ فعلى الوجه الأول يكون المراد بالإصلاح إزالة الفساد؛ وعلى الوجه الثاني يكون الإصلاح فيها إزالة الشقاق؛ لأن الغالب إذا أراد الوصي أن يغير الوصية بعد موت الموصي أن يحصل شقاق بينه، وبين الورثة؛ أو بينه، وبين الموصى له. قوله تعالى: { فلا إثم عليه } أي فلا عقوبة؛ وهذا كالمستثنى من قوله تعالى: { فمن بدله بعد ما سمعه و{ لا } نافية للجنس تعم القليل، والكثير. قوله تعالى: { إن الله غفور رحيم } جملة تعليلية للحكم؛ وقد سبق الكلام على هذين الاسمين الكريمين. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: أن من خاف جوراً أو معصية من موصٍ فإنه يصلح؛ وهذا يشمل ما إذا كان قبل موت الموصي، أو بعده؛ مثاله قبل موت الموصي: أن يستشهد الموصي، أو يستكتب شخصاً لوصيته، فيجد فيها جوراً، أو معصية، فيصلح ذلك؛ ومثاله بعد موته: أن يُطَّلع على وصية له تتضمن ما ذُكر فتُصْلح؛ مثال ذلك أن يوصي لوارث، فيُطَّلع على ذلك بعد موته، فتُصْلح الوصية إما باستحلال الوارث الرشيد؛ وإما بإلغائها إذا لم يمكن. 2 ــــ ومن فوائد الآية: رفع الإثم عن الوصي إذا أصلح لخوفه جنفاً، أو إثماً. 3 ــــ ومنها: فضيلة الإصلاح؛ لقوله تعالى: { فأصلح بينهم }؛ فإن في الإصلاح درء الإثم عن الموصي، وإزالة العداوة، والشحناء بين الموصى إليهم والورثة. 4 ــــ ومنها: أنه قد يعبر بنفي الإثم، أو نفي الجناح دفعاً عن توهمه؛ وعليه فلا ينافي المشروعية، كما في قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوَّف بهما} [البقرة: 158ولما كان تبديل الوصية إثماً نفى الله الإثم عمن أصلح؛ ثم تعود المسألة إلى القواعد العامة التي مقتضاها وجوب الإصلاح، ورفع الجنف، والإثم. 5 ــــ ومنها: أن تغيير الوصية لدفع الإثم جائز؛ بل هو واجب بدليل آخر؛ وأما تغيير الوصية لما هو أفضل ففيه خلاف بين أهل العلم؛ فمنهم من قال: إنه لا يجوز؛ لعموم قوله تعالى: {فمن بدله بعد ما سمعه} [البقرة: 181] ؛ ولم يستثن إلا ما وقع في إثم فيبقى الأمر على ما هو عليه لا يغير؛ ومنهم من قال: بل يجوز تغييرها إلى ما هو أفضل؛ لأن الغرض من الوصية التقرب إلى الله عز وجل، ونفع الموصى له، فكلما كان أقرب إلى الله، وأنفع للموصى له كان أولى أيضاً؛ والموصي بشر قد يخفى عليه ما هو الأفضل؛ وقد يكون الأفضل في وقت ما غير الأفضل في وقت آخر؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز تحويل النذر إلى ما هو أفضل مع وجوب الوفاء به؛ فالرجل الذي جاء إليه، وقال: إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس؛ فقال (ص): «صلِّ ها هنا» فأعاد عليه فقال: « صل ها هنا » فأعاد الثالثة فقال (ص): «شأنك إذاً»(1)؛ والذي أرى في هذه المسألة أنه إذا كانت الوصية لمعين فإنه لا يجوز تغييرها، كما لو كانت الوصية لزيد فقط؛ أو وقف وقفاً على زيد فإنه لا يجوز أن يغير لتعلق حق الغير المعين به؛ أما إذا كانت لغير معين - كما لو كانت لمساجد، أو لفقراء - فلا حرج أن يصرفها لما هو أفضل. 6 ــــ ومن فوائد الآية: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما «الغفور» و «الرحيم» ؛ وما تضمناه من وصف، وحكم. القرآن { )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183) التفسير: { 183 } قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا } سبق الكلام عليها. قوله تعالى: { كتب عليكم الصيام } أي فُرض؛ والذي فَرضه هو الله سبحانه وتعالى؛ و{ الصيام } نائب فاعل مرفوع؛ وهو في اللغة الإمساك؛ ومنه قوله تعالى: {إني نذرت للرحمن صوماً} [مريم: 26] يعني إمساكاً عن الكلام بدليل قولها: {فلن أكلم اليوم إنسياً} [مريم: 26] ؛ وأما في الشرع فإنه التعبد لله بترك المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. قوله تعالى: { كما كتب }؛ «ما» مصدرية؛ والكاف حرف جر؛ وتفيد التشبيه؛ وهو تشبيه للكتابة بالكتابة، وليس المكتوب بالمكتوب؛ والتشبيه بالفعل دون المفعول أمر مطرد، كما في قوله (ص): «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر»(2): التشبيه هنا للرؤية بالرؤية؛ لا للمرئي بالمرئي؛ لأن الكاف دخلت على الفعل الذي يؤول إلى مصدر. قوله تعالى: { على الذين من قبلكم } ــــ أي من الأمم السابقة ــــ يعم اليهود، والنصارى، ومن قبلهم؛ كلهم كتب عليهم الصيام؛ ولكنه لا يلزم أن يكون كصيامنا في الوقت، والمدة. وهذا التشبيه فيه فائدتان: الفائدة الأولى: التسلية لهذه الأمة حتى لا يقال: كلفنا بهذا العمل الشاق دون غيرنا؛ لقوله تعالى: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} [الزخرف: 39] يعني لن يخفف عنكم العذابَ اشتراكُكم فيه - كما هي الحال في الدنيا: فإن الإنسان إذا شاركه غيره في أمر شاق هان عليه؛ ولهذا قالت الخنساء ترثي أخاها صخراً: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أسلي النفس عنه بالتأسي الفائدة الثانية: استكمال هذه الأمة للفضائل التي سبقت إليها الأمم السابقة؛ ولا ريب أن الصيام من أعظم الفضائل؛ فالإنسان يصبر عن طعامه، وشرابه، وشهوته لله عز وجل؛ ومن أجل هذا اختصه الله لنفسه، فقال تعالى: «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي»(3). قوله تعالى: { لعلكم تتقون }؛ «لعل» للتعليل؛ ففيها بيان الحكمة من فرض الصوم؛ أي تتقون الله عز وجل؛ هذه هي الحكمة الشرعية التعبدية للصوم؛ وما جاء سوى ذلك من مصالح بدنية، أو مصالح اجتماعية، فإنها تبع. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: أهمية الصيام؛ لأن الله تعالى صدره بالنداء؛ وأنه من مقتضيات الإيمان؛ لأنه وجه الخطاب إلى المؤمنين؛ وأنّ تركه مخل بالإيمان. 2 ــــ ومنها: فرضية الصيام؛ لقوله تعالى: { كتب }. 3 ــــ ومنها: فرض الصيام على من قبلنا من الأمم؛ لقوله تعالى: { كما كتب على الذين من قبلكم }. 4 ــــ ومنها: تسلية الإنسان بما ألزم به غيره ليهون عليه القيام به؛ لقوله تعالى: { كما كتب على الذين من قبلكم 5 ــــ ومنها: استكمال هذه الأمة لفضائل من سبقها، حيث كتب الله عليها ما كتب على من قبلها لتترقى إلى درجة الكمال كما ترقى إليها من سبقها. 6 ــــ ومنها: الحكمة في إيجاب الصيام؛ وهي تقوى الله؛ لقوله تعالى: { لعلكم تتقون }. 7 ــــ ومنها: فضل التقوى، وأنه ينبغي سلوك الأسباب الموصلة إليها؛ لأن الله أوجب الصيام لهذه الغاية؛ إذاً هذه الغاية غاية عظيمة؛ ويدل على عظمها أنها وصية الله للأولين، والآخرين؛ لقوله تعالى: {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} [النساء: 131] . ويتفرع على هذه الفائدة اعتبار الذرائع؛ يعني ما كان ذريعة إلى الشيء فإن له حكم ذلك الشيء؛ فلما كانت التقوى واجبة كانت وسائلها واجبة؛ ولهذا يجب على الإنسان أن يبتعد عن مواطن الفتن: لا ينظر إلى المرأة الأجنبية؛ ولا يكلمها كلاماً يتمتع به معها؛ لأنه يؤدي إلى الفتنة، ويكون ذريعة إلى الفاحشة؛ فيجب اتقاء ذلك؛ حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر من سمع بالدجال أن يبتعد عنه حتى لا يقع في فتنته(1). 8- ومن فوائد الآية: حكمة الله سبحانه وتعالى بتنويع العبادات؛ لأننا إذا تدبرنا العبادات وجدنا أن العبادات متنوعة؛ منها ما هو مالي محض؛ ومنها ما هو بدني محض؛ ومنها ما هو مركب منهما: بدني، ومالي؛ ومنها ما هو كفّ ــــ ليتم اختبار المكلف؛ لأن من الناس من يهون عليه العمل البدني دون بذل المال؛ ومنهم من يكون بالعكس؛ ومن الناس من يهون عليه بذل المحبوب؛ ويشق عليه الكف عن المحبوب ومنهم من يكون بالعكس؛ فمن ثَم نوَّع الله سبحانه وتعالى بحكمته العبادات؛ فالصوم كف عن المحبوب قد يكون عند بعض الناس أشق من بذل المحبوب؛ ومن العجائب في زمننا هذا أن من الناس من يصبر على الصيام، ويعظمه؛ ولكن لا يصبر على الصلاة، ولا يكون في قلبه من تعظيم الصلاة ما في قلبه من تعظيم الصيام؛ تجده يصوم رمضان لكن الصلاة لا يصلي إلا من رمضان إلى رمضان ــــ إن صلى في رمضان؛ وهذا لا شك خطأ في التفكير؛ لكن الصلاة حيث إنها تتكرر كل يوم صار هيناً على هذا الإنسان تركها؛ والصوم يكون عنده تركه صعباً؛ ولهذا إذا أرادوا ذم إنسان قالوا: إنه لا يصوم، ولا يصلي ــــ يبدؤون بالصوم. القرآن {)أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:184) التفسير: { 184 } قوله تعالى: { أياماً } مفعول لقوله تعالى: {الصيام} [البقرة: 183] ؛ لأن الصيام مصدر يعمل عمل فعله ــــ أي كتب عليكم أن تصوموا أياماً معدودات؛ و{ أياماً }: نكرة؛ والنكرة تفيد القلة، وتفيد الكثرة، وتفيد العظمة، وتفيد الهون ــــ بحسب السياق؛ لما قرنت هنا بقوله تعالى: { معدودات } أفادت القلة؛ يعني: هذا الصيام ليس أشهراً؛ ليس سنوات؛ ليس أسابيع؛ ولكنه أيام معدودات قليلة؛ و{ معدودات } من صيغ جمع القلة؛ لأن جمع المذكر السالم، وجمع المؤنث السالم من صيغ جمع القلة؛ يعني: فهي أيام قليلة. قوله تعالى: { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } كالاستثناء من قوله تعالى: {كتب عليكم} [البقرة: 183] ؛ لأن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم} [البقرة: 183] يشمل المريض، والمسافر، والقادر، والعاجز. و{ من } شرطية؛ و{ كان } فعل الشرط؛ وجملة: { فعدة من أيام أخر } جواب الشرط؛ و «عدة» مبتدأ، والخبر محذوف؛ والتقدير: فعليه عدة؛ ويجوز أن تكون «عدة» خبراً، والمبتدأ محذوف؛ والتقدير: فالواجب عدة؛ أو فالمكتوب عدة. وقوله تعالى: { فمن كان منكم مريضاً } يعني مرضاً يشق به الصوم؛ أو يتأخر به البرء؛ أو يفوت به العلاج، كما لو قال له الطبيب: خذ حبوباً كل أربع ساعات، وما أشبه ذلك؛ ودليل التخصيص بمرض يشق به الصوم ما يُفهم من العلة. وقوله تعالى: { أو على سفر } أي السفر المبيح للفطر؛ والحكمة في التعبير بقوله: { على سفر } - والله أعلم أن المسافر قد يقيم في بلد أثناء سفره عدة أيام، ويباح له الفطر؛ لأنه على سفر، وليست نيته الإقامة، كما حصل للرسول (ص) في غزوة الفتح فإنه أقام في مكة تسعة عشر يوماً وهو يقصر الصلاة(1)، وأفطر حتى انسلخ الشهر(2). وقوله تعالى: { فعدة من أيام أخر } أي أيام مغايرة. قوله تعالى: { وعلى الذين يطيقونه } أي يستطيعونه، وقال بعض أهل العلم: { يطيقونه } أي يطوَّقونه؛ أي يتكلفونه، ويبلغ الطاقة منهم حتى يصبح شاقاً عليهم؛ وقال آخرون: إن في الآية حذفاً؛ والتقدير: وعلى الذين لا يطيقونه فدية؛ وكلاهما ضعيف؛ والثاني أضعف؛ لأن هذا القول يقتضي تفسير المثبت بالمنفي؛ وتفسير الشيء بضده لا يستقيم؛ وأما القول الأول منهما فله وجه؛ لكن ما ثبت في الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع يدل على ضعفه: «أنه أول ما كتب الصيام كان الإنسان مخيراً بين أن يصوم؛ أو يفطر، ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن...}»(3)؛ وكذلك ظاهر الآية يدل على ضعفه؛ لأن قوله بآخرها: { وأن تصوموا خير لكم } يدل على أنهم يستطيعون الصيام، وأنه خوطب به من يستطيع فيكون ظاهر الآية مطابقاً لحديث سلمة؛ وهذا هو القول الراجح أن معنى { يطيقونه}: يستطيعونه. قوله تعالى: { فدية } مبتدأ مؤخر خبره: { على الذين يطيقونه }؛ و{ فدية } أي فداء يفتدي به عن الصوم؛ والأصل أن الصوم لازم لك، وأنك مكلف به، فتفدي نفسك من هذا التكليف والإلزام بإطعام مسكين. قوله تعالى: { طعام مسكين } عطف بيان لقوله تعالى: { فدية } أي عليهم لكل يوم طعام مسكين؛ وليس المعنى طعام مسكين لكل شهر؛ بل لكل يوم؛ ويدل لذلك القراءة الثانية في الآية: { طعام مساكين } بالجمع؛ فكما أن الأيام التي عليه جمع، فكذلك المساكين الذين يطعَمون لا بد أن يكونوا جمعاً. وفي قوله تعالى: { فدية طعام مساكين } ثلاث قراءات؛ الأولى: { فديةُ طعامِ مساكينَ } بحذف التنوين في {فديةُ }؛ وبجر الميم في { طعام }؛ و{ مساكينَ } بالجمع، وفتح النون بلا تنوين؛ الثانية: { فديةٌ طعامُ مسكينٍ}؛ بتنوين { فديةٌ } مع الرفع؛ و{ طعامُ } بالرفع؛ و{ مسكينٍ } بالإفراد، وكسر النون المنونة؛ الثالثة: { فديةٌ طعامُ مساكينَ }؛ بتنوين { فديةٌ } مع الرفع؛ و{ طعامُ } بالرفع؛ و{ مساكينَ } بالجمع، وفتح النون بلا تنوين. وقوله تعالى: { طعام مسكين }؛ المراد بالمسكين من لا يجد شيئاً يكفيه لمدة سنة؛ فيدخل في هذا التعريف الفقير؛ فإذا مر بك المسكين فهو شامل للفقير؛ وإذا مر بك الفقير فإنه شامل للمسكين؛ أما إذا جمعا فقد قال أهل العلم: إن بينهما فرقاً: فالفقير أشد حاجة من المسكين؛ الفقير هو الذي لا يجد نصف كفاية سنة؛ وأما المسكين فيجد النصف فأكثر دون الكفاية لمدة سنة. وقوله تعالى: { فمن تطوع خيراً }؛ { تطوع } فعل الشرط؛ وجوابه جملة: { فهو خير له }؛ وقوله تعالى: { خيراً } منصوب على أنه مفعول مطلق؛ والتقدير: فمن تطوع تطوعاً خيراً؛ أي فمن فعل الطاعة على وجه خير فهو خير له؛ ويحتمل أن تكون { خيراً } مفعولاً لأجله؛ والمعنى: فمن تطوع يريد خيراً؛ والمراد على كلا التقديرين واحد؛ يعني: فمن فعل الطاعة يقصد بها الخير فهو خير له؛ ومعلوم أن الفعل لا يكون طاعة إلا إذا كان موافقاً لمرضاة الله عز وجل بأن يكون خالصاً لوجهه موافقاً لشريعته؛ فإن لم يكن خالصاً لم يكن طاعة، ولا يقبل؛ وإن كان خالصاً على غير الشريعة لم يكن طاعة، ولا يقبل؛ لأن الأول شرك؛ والثاني بدعة. قوله تعالى: { فهو خير له }: اختلف في { خير } هل نقول: هي للتفضيل؛ أي خير له من سواه؛ أو نقول: إن { خير } اسم دال على مجرد الخيرية بدون مفضل، ومفضل عليه - وهذا هو الأقرب - ويكون المراد أن من تطوع بالفدية فهو خير له؛ ومطابقة هذا المعنى لظاهر الآية واضح. قوله تعالى: { وأن تصوموا خير لكم }: المراد بالخير هنا التفضيل؛ يعني أن تصوموا خير لكم من الفدية؛ وهذا يمثل به النحويون للمبتدأ المؤول: فإن قوله تعالى: { أن تصوموا } فعل مضارع مسبوك مع { أن المصدرية بمصدر؛ والتقدير: صومكم خير لكم - يعني من الفدية. قوله تعالى: { إن كنتم تعلمون }؛ هذه جملة مستأنفة؛ والمعنى: إن كنتم من ذوي العلم فافهموا؛ و{ إن} ليست شرطية فيما قبلها - يعني ليست وصلية - كما يقولون؛ لأنه ليس المعنى: خيراً لنا إن علمنا؛ فإن لم نعلم فليس خيراً لنا؛ بل هو مستأنف؛ ولهذا ينبغي أن نقف على قوله تعالى: { خير لكم }. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: أن الصوم أيامه قليلة؛ لقوله تعالى: { أياماً معدودات ]. 2 ــــ ومنها: التعبير بكلمات يكون بها تهوين الأمر على المخاطب؛ لقوله تعالى: { أياماً معدودات }. 3 ــــ ومنها: رحمة الله عز وجل بعباده؛ لقلة الأيام التي فرض عليهم صيامها. 4 ــــ ومنها: أن المشقة تجلب التيسير؛ لقوله تعالى: { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر }؛ لأن المرض، والسفر مظنة المشقة. 5 ــــ ومنها: جواز الفطر للمرض؛ ولكن هل المراد مطلق المرض - وإن لم يكن في الصوم مشقة عليه؛ أو المراد المرض الذي يشق معه الصوم، أو يتأخر معه البرء؟ الظاهر الثاني؛ وهو مذهب الجمهور؛ لأنه لا وجه لإباحة الفطر بمرض لا يشق معه الصوم، أو لا يتأخر معه البرء؛ هذا وللمريض حالات: الأولى: أن لا يضره الصوم، ولا يشق عليه؛ فلا رخصة له في الفطر. الثانية: أن يشق عليه، ولا يضره؛ فالصوم في حقه مكروه؛ لأنه لا ينبغي العدول عن رخصة الله. الثالثة: أن يضره الصوم؛ فالصوم في حقه محرم؛ لقوله تعالى: { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً } [النساء: 29] . 6 ــــ ومن فوائد الآية: جواز الفطر في السفر؛ لقوله تعالى: { أو على سفر فعدة من أيام أخر }؛ وللمسافر باعتبار صومه في سفره حالات ثلاث: الأولى: أن لا يكون فيه مشقة إطلاقاً؛ يعني: ليس فيه مشقة تزيد على صوم الحضر؛ ففي هذه الحال الصوم أفضل؛ وإن أفطر فلا حرج؛ ودليله أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم في السفر، كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «خرجنا مع رسول الله (ص) في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحرّ؛ وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة»(1)؛ ولأن الصوم في السفر أسرع في إبراء ذمته؛ ولأنه أسهل عليه غالباً لكون الناس مشاركين له، وثقلِ القضاء غالباً؛ ولأنه يصادف شهر الصوم - وهو رمضان. الحال الثانية: أن يشق عليه الصوم مشقة غير شديدة؛ فهنا الأفضل الفطر؛ والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر، فرأى زحاماً، ورجلاً قد ظُلل عليه، فسأل عنه، فقالوا: صائم؛ فقال (ص): «ليس من البر الصيام في السفر»(1)؛ فنفى النبي صلى الله عليه وسلم البر عن الصوم في السفر. فإن قيل: إن من المتقرر في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ وهذا يقتضي نفي البر عن الصوم في السفر مطلقاً؟. فالجواب: أن معنى قولنا: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» يعني أن الحكم لا يختص بعين الذي ورد من أجله؛ وإنما يعم من كان مثل حاله؛ وقد نص على هذه القاعدة ابن دقيق العيد في شرح الحديث في العمدة؛ وهو واضح. الحال الثالثة: أن يشق الصوم على المسافر مشقة شديدة؛ فهنا يتعين الفطر؛ ودليله: ما ثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في سفر، فشُكي إليه أن الناس قد شق عليهم الصيام وإنهم ينتظرون ما يفعل؛ فدعا بماء بعد العصر، فشربه، والناس ينظرون؛ ثم جيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل له: إن بعض الناس قد صام فقال (ص): «أولئك العصاة! أولئك العصاة!»(2)؛ والمعصية لا تكون إلا في فعل محرم؛ أو ترك واجب. 7 ــــ ومن فوائد الآية: أن السفر الذي يباح فيه الفطر غير مقيد بزمن، ولا مسافة؛ لإطلاق السفر في الآية؛ وعلى هذا يرجع فيه إلى العرف: فما عده الناس سفراً فهو سفر؛ وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن تحديده بزمن، أو مسافة يحتاج إلى دليل. 8 ــــ ومنها: أن المتهيئ للسفر كالخارج فيه ــــ وإن كان في بلده؛ فإنه يجوز أن يفطر؛ وكان أنس بن مالك يفعل ذلك، ويقول: «السنة»(3)؛ لكن هذا الحديث فيه مقال؛ على ذلك. 9 ــــ ومن فوائد الآية: أن الظاهرية استدلوا بها على أن من صام في السفر لم يجزئه؛ لقوله تعالى: { فعدة من أيام أخر }، فأوجب الله سبحانه وتعالى على المريض، والمسافر عدة من أيام أخر؛ فمن صام وهو مريض، أو مسافر صار كمن صام قبل دخول رمضان، وقالوا: «إن الآية ليست فيها شيء محذوف»؛ وهذا القول لولا أن السنة بينت جواز الصوم لكان له وجه قوي؛ لأن الأصل عدم الحذف؛ لكن أجاب الجمهور عن هذا بأن الحذف متعين، وتقدير الكلام: فمن كان مريضاً، أو على سفر فأفطر فعليه عدة من أيام أخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام في رمضان في السفر والصحابة معه منهم الصائم، ومنهم المفطر، ولم يعب أحد على أحد(4)؛ ولو كان الصوم حراماً ما صامه النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنكر المفطر على الصائم. 10 ــــ ومن فوائد الآية: أنه لو صام عن أيام الصيف أيام الشتاء فإنه يجزئ؛ لقوله تعالى: { فعدة من أيام أخر وجهه: أن { أيام } نكرة. 11 ــــ ومنها: حكمة الله سبحانه وتعالى في التدرج بالتشريع، حيث كان الصيام أول الأمر يخير فيه الإنسان بين أن يصوم، ويطعم؛ ثم تعين الصيام كما يدل على ذلك حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه. 12 ــــ ومنها: أن من عجز عن الصيام عجزاً لا يرجى زواله فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً؛ ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى جعل الإطعام عديلاً للصيام حين التخيير بينهما؛ فإذا تعذر الصيام وجب عديله؛ ولهذا ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية في الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة لا يطيقان الصيام، فيطعمان عن كل يوم مسكيناً(1). 13 ــــ ومنها: أنه يرجع في الإطعام في كيفيته ونوعه إلى العرف؛ لأن الله تعالى أطلق ذلك؛ والحكم المطلق إذا لم يكن له حقيقة شرعية يرجع فيه إلى العرف. 14 ــــ ومنها: أنه لا فرق بين أن يملّك الفقير ما يطعمه، أو يجعله غداءً، أو عشاءً؛ لأن الكل إطعام؛ وكان أنس بن مالك حين كبر يطعم أدُماً، وخبزاً(2). 15 ــــ ومنها: أن ظاهر الآية لا يشترط تمليك الفقير ما يطعم؛ وهو القول الراجح؛ وقال بعض أهل العلم: إنه يشترط تمليكه؛ فيعطى مداً من البر؛ أو نصف صاع من غيره؛ وقيل: يعطى نصف صاع من البر، وغيره؛ واستدل القائلون بالفرق بين البر وغيره بما قاله معاوية في زكاة الفطر: «أرى المد من هذه - يعني البر - يعدل مدين من الشعير»(3) فعدل به الناس، وجعلوا الفطرة من البر نصف صاع(4)؛ واستدل القائلون بوجوب نصف صاع من البر، وغيره بحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه حين أذن له النبي صلى الله عليه وسلم بحلق رأسه وهو محرم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له مبيناً المجمل في قوله تعالى: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة: 196] ، فقال في الصدقة: «أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع»(5)؛ ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين طعام وآخر. 16 ــــ ومن فوائد الآية: أن طاعة الله ــــ تبارك وتعالى ــــ كلها خير؛ لقوله تعالى: { فمن تطوع خيراً فهو خير له }. 17 ــــ ومنها: ثبوت تفاضل الأعمال؛ لقوله تعالى: { وأن تصوموا خير لكم }؛ وتفاضل الأعمال يستلزم تفاضل العامل؛ فينبني على ذلك أن الناس يتفاضلون في الأعمال؛ وهو ما دل عليه الكتاب، والسنة، وإجماع السلف، والواقع؛ قال الله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلًّا وعد الله الحسنى} [الحديد: 10] ، وقال تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضَّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلًّا وعد الله الحسنى وفضَّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً * درجات منه ومغفرة ورحمة} [النساء: 95، 96] ؛ والنصوص في هذا كثيرة. 18 ــــ ومن فوائد الآية: التنبيه على فضل العلم؛ لقوله تعالى: { إن كنتم تعلمون }. القرآن {)شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة:185) التفسير: { 185 } قوله تعالى: { شهر رمضان }؛ الشهر هو مدة ما بين الهلالين؛ وسمي بذلك لاشتهاره؛ ولهذا اختلف العلماء هل الهلال ما هلّ في الأفق - وإن لم يُرَ؛ أم الهلال ما رئي واشتهر؛ والصواب الثاني، وأن مجرد طلوعه في الأفق لا يترتب عليه حكم شرعي - حتى يرى، ويتبين، ويُشهد إلا أن يكون هناك مانع من غيم، أو نحوه؛ و{ شهر } مضاف؛ و{ رمضان } مضاف إليه ممنوع من الصرف بسبب العلمية وزيادة الألف، والنون؛ مأخوذ من الرَّمْض؛ واختلف لماذا سمي برمضان؛ فقيل: لأنه يرمض الذنوب - أي يحرقها؛ وقيل: لأنه أول ما سميت الشهور بأسمائها صادف أنه في وقت الحر والرمضاء؛ فسمي شهر رمضان؛ وهذا أقرب؛ لأن هذه التسمية كانت قبل الإسلام. وقوله تعالى: { شهر رمضان } خبر لمبتدأ محذوف؛ والتقدير: هي - أي الأيام المعدودات - شهر رمضان. قوله تعالى: { الذي أنزل فيه القرآن }؛ { الذي } صفة لـ{ شهر }؛ فمحلها الرفع؛ و{ أُنزل فيه القرآن } أي أنزله الله سبحانه وتعالى فيه؛ ومعروف أن النزول يكون من فوق؛ لأن القرآن كلام الله عز وجل؛ والله سبحانه وتعالى فوق السموات على العرش؛ و{ القرآن } مصدر مثل الغفران، والشكران؛ كلها مصادر؛ ولكن هل هو بمعنى اسم الفاعل؛ أو بمعنى اسم المفعول؟ قيل: إنه بمعنى اسم المفعول - أي المقروء؛ وقيل: بمعنى اسم الفاعل - أي القارئ؛ فالمعنى على الأول واضح؛ والمعنى على الثاني: أنه جامع لمعاني الكتب السابقة؛ أو جامع لخيري الدنيا، والآخرة؛ ولا يمتنع أن نقول: إنه بمعنى اسم الفاعل، واسم المفعول؛ وهل المراد بـ{ القرآن الجنس، فيشمل بعضه؛ أو المراد به العموم، فيشمل كله؟ قال بعض أهل العلم: إن «أل» للعموم فيشمل كل القرآن؛ وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين المتأخرين؛ وعلى هذا القول يشكل الواقع؛ لأن الواقع أن القرآن نزل في رمضان، وفي شوال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة... في جميع الشهور؛ ولكن أجابوا عن ذلك بأنه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في رمضان، وصار جبريل يأخذه من هذا البيت، فينزل به على رسول الله (ص)(1)؛ لكن هذا الأثر ضعيف؛ ولهذا الصحيح أن «أل» هنا للجنس؛ وليست للعموم؛ وأن معنى: { أنزل فيه القرآن } أي ابتدئ فيه إنزاله، كقوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} [الدخان: 3] ، وقوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر: 1] أي ابتدأنا إنزاله. قوله تعالى: { هدًى للناس }؛ { هدًى }: مفعول من أجله؛ أو حال من { القرآن }؛ فإذا كانت مفعولاً من أجله فالمعنى: أنزل لهداية الناس؛ وإذا كانت حالاً فالمعنى: أنزل هادياً للناس ــــ وهذا أقرب؛ و{ هدًى } من الهداية؛ وهي الدلالة؛ فالقرآن دلالة للناس يستدلون به على ما ينفعهم في دينهم، ودنياهم؛ و{ للناس } أصلها الأناس؛ ومنه قول الشاعر: وكل أناس سوف تدخل بينهم دويهية تصفر منها الأنامل لكن لكثرة استعمالها حذفت الهمزة تخفيفاً، كما حذفت من «خير» و«شر» اسمي تفضيل؛ والمراد بهم البشر؛ لأن بعضهم يأنس ببعض، ويستعين به؛ فقوله تعالى: { هدًى للناس } أي كل الناس يهتدون به ــــ المؤمن، والكافر ــــ الهداية العلمية؛ أما الهداية العملية فإنه هدًى للمتقين، كما في أول السورة؛ فهو للمتقين هداية علمية، وعملية؛ وللناس عموماً فهو هداية علمية. قوله تعالى: { وبينات } صفة لموصوف محذوف؛ والتقدير: وآيات بينات، كما قال تعالى: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} [العنكبوت: 49] ؛ والمعنى: أن القرآن اشتمل على الآيات البينات - أي الواضحات؛ فهو جامع بين الهداية، والبراهين الدالة على صدق ما جاء فيه من الأخبار، وعلى عدل ما جاء فيه من الأحكام. قوله تعالى: { من الهدى } صفة لـ{ بينات } يعني أنها بينات من الدلالة والإرشاد. قوله تعالى: { والفرقان }: مصدر، أو اسم مصدر؛ والمراد أنه يفرق بين الحق، والباطل؛ وبين الخير، والشر؛ وبين النافع، والضار؛ وبين حزب الله، وحرب الله؛ فرقان في كل شيء؛ ولهذا من وفق لهداية القرآن يجد الفرق العظيم في الأمور المشتبهة؛ وأما من في قلبه زيغ فتشتبه عليه الأمور؛ فلا يفرق بين الأشياء المفترقة الواضحة. قوله تعالى: { فمن شهد منكم الشهر }؛ { شهد } بمعنى شاهد؛ وقيل: بمعنى حضر؛ فعلى القول الأول يرد إشكال في قوله تعالى: { الشهر }؛ لأن الشهر مدة ما بين الهلالين؛ والمدة لا تشاهد؛ والجواب أن في الآية محذوفاً؛ والتقدير: فمن شهد منكم هلال الشهر فليصمه؛ والقول الثاني أصح: أن المراد بـ{ شهد } حضر؛ ويرجح هذا قوله تعالى: { ومن كان مريضاً أو على سفر }؛ لأن قوله تعالى: { على سفر } يقابل الحضر. قوله تعالى: { فليصمه } أي فليصم نهاره. قوله تعالى: { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر }؛ هذه الجملة سبقت؛ لكن لما ذكر سبحانه وتعالى: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه }، وكانت هذه الآية ناسخة لما قبلها قد يظن الظان أنه نسخ حتى فطر المريض والمسافر؛ فأعادها سبحانه وتعالى تأكيداً لبيان الرخصة، وأن الرخصة ــــ حتى بعد أن تعين الصيام ــــ باقية؛ وهذا من بلاغة القرآن؛ وعليه فليست هذه الجملة من الآية تكراراً محضاً؛ بل تكرار لفائدة؛ لأنه تعالى لو قال: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ولم يقل: { ومن كان.... } إلخ، لكان ناسخاً عاماً. وقوله تعالى: { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } تقدم الكلام عليها إعراباً، ومعنًى. قوله تعالى: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } تعليل لقوله تعالى: { ومن كان مريضاً أو على سفر} إلخ؛ و{ يريد } أي يحب؛ فالإرادة شرعية؛ والمعنى: يحب لكم اليسر؛ وليست الإرادة الكونية؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو أراد بنا اليسر كوناً ما تعسرت الأمور على أحد أبداً؛ فتعين أن يكون المراد بالإرادة هنا الشرعية؛ ولهذا لا تجد - والحمد لله - في هذه الشريعة عسراً أبداً. قوله تعالى: { ولتكملوا العدة }؛ الواو عاطفة؛ واللام لام التعليل؛ لأنها مكسورة؛ ويكون العطف على قوله تعالى: { اليسر }؛ يعني يريد الله سبحانه وتعالى بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر؛ ويريد لتكملوا العدة؛ و«أراد» إذا تعدت باللام فإن اللام تكون زائدة من حيث المعنى؛ لكن لها فائدة؛ وذلك؛ لأن الفعل «أراد» يتعدى بنفسه، كقوله تعالى: {والله يريد أن يتوب عليكم} [النساء: 27] ؛ وهنا: { لتكملوا العدة } يعني: وأن تكملوا العدة؛ أي: ويريد الله منا شرعاً أن نكمل العدة. وقوله تعالى: { لتكملوا } فيها قراءتان؛ بتخفيف الميم؛ وتشديدها؛ وهما بمعنى واحد. قوله تعالى: { ولتكبروا الله }؛ الواو للعطف؛ و{ لتكبروا } معطوفة على { لتكملوا } بإعادة حرف الجر؛ أي: ولتقولوا: الله أكبر؛ والتكبير يتضمن: الكِبَرَ بالعظمة،والكبرياءِ، والأمورِ المعنوية؛ والكِبَر في الأمور الذاتية؛ فإن السموات السبع، والأرض في كف الرحمن كحبة خردل في كف أحدنا؛ والله أكبر من كل شيء. قوله تعالى: { على ما هداكم }؛ { على }: قيل: إنها للتعليل؛ وليست للاستعلاء؛ أي تكبروه لهدايتكم؛ وعبر بـ{ على } دون اللام إشارة - والله أعلم - إلى أن التكبير يكون في آخر الشهر؛ لأن أعلى كل شيء آخره؛ و{ ما هنا مصدرية تسبك هي، وما بعدها بمصدر؛ فيكون التقدير: على هدايتكم؛ وهذه الهداية تشمل: هداية العلم؛ وهداية العمل؛ وهي التي يعبر عنها أحياناً بهداية الإرشاد، وهداية التوفيق؛ فالإنسان إذا صام رمضان وأكمله، فقد منّ الله عليه بهدايتين: هداية العلم، وهداية العمل. قوله تعالى: { ولعلكم تشكرون } أي تقومون بشكر الله عز وجل؛ و «لعل» هنا للتعليل؛ و{ تشكرون } على أمور أربعة؛ إرادة الله بنا اليسر؛ عدم إرادته العسر؛ إكمال العدة؛ التكبير على ما هدانا؛ هذه الأمور كلها نِعَم تحتاج منا أن نشكر الله عز وجل عليها؛ ولهذا قال تعالى: { ولعلكم تشكرون }؛ و «الشكر» هو القيام بطاعة المنعم بفعل أوامره، واجتناب نواهيه. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: بيان الأيام المعدودات التي أبهمها الله عز وجل في الآيات السابقة؛ بأنها شهر رمضان. 2 ــــ ومنها: فضيلة هذا الشهر، حيث إن الله سبحانه وتعالى فرض على عباده صومه. 3 ــــ ومنها: أن الله تعالى أنزل القرآن في هذا الشهر؛ وقد سبق في التفسير هل هو ابتداء إنزاله؛ أو أنه نزل كاملاً؛ والظاهر أن المراد ابتداء إنزاله؛ لأن الله ــــ تبارك وتعالى ــــ يتكلم بالقرآن حين إنزاله؛ وقد أنزله جل وعلا مفرقاً؛ فيلزم من ذلك أن لا يكون القرآن كله نزل في هذا الشهر. 4 ــــ ومنها: أن القرآن كلام الله عز وجل؛ لأن الذي أنزله هو الله، كما في آيات كثيرة أضاف الله سبحانه وتعالى إنزال القرآن إلى نفسه؛ والقرآن كلام لا يمكن أن يكون إلا بمتكلم؛ وعليه يكون القرآن كلام الله عز وجل؛ وهو كلامه سبحانه وتعالى لفظه، ومعناه. 5 ــــ ومنها: ما تضمنه القرآن من الهداية لجميع الناس؛ لقوله تعالى: { هدًى للناس }. 6 ــــ ومنها: أن القرآن الكريم متضمن لآيات بينات واضحة لا تخفى على أحد إلا على من طمس الله قلبه فلا فائدة في الآيات، كما قال عز وجل: { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } [يونس: 101] . 7 ــــ ومنها: أن القرآن الكريم فرقان يفرق بين الحق، والباطل؛ وبين النافع، والضار؛ وبين أولياء الله، وأعداء الله؛ وغير ذلك من الفرقان فيما تقتضي حكمته التفريق فيه. 8 ــــ ومنها: وجوب الصوم متى ثبت دخول شهر رمضان؛ وشهر رمضان يثبت دخوله إما بإكمال شعبان ثلاثين يوماً، أو برؤية هلاله؛ وقد جاءت السنة بثبوت دخوله إذا رآه واحد يوثق بقوله(1). 9 ــــ ومنها: لا يجب الصوم قبل ثبوت دخول رمضان. ويتفرع على هذا أنه لو كان في ليلة الثلاثين من شعبان غيم، أو قتر يمنع من رؤية الهلال فإنه لا يصام ذلك اليوم؛ لأنه لم يثبت دخول شهر رمضان؛ وهذا هو القول الراجح من أقوال أهل العلم؛ بل ظاهر حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما أن من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم (ص)(2): أي أن صيامه إثم. 10 ــــ ومن فوائد الآية: التعبير بـ { شهر رمضان }؛ قال أهل العلم: «وهذا أولى»؛ ويجوز التعبير بـ «رمضان» - بإسقاط «شهر» ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً... ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً»(3)، وقوله (ص): «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة»(4)؛ ولا عبرة بقول من كره ذلك. 11 ــــ ومن فوائد الآية: تيسير الله - تبارك وتعالى - على عباده، حيث رخص للمريض الذي يشق عليه الصوم، وللمسافر مطلقاً أن يفطرا، ويقضيا أياماً أخر. 12 ــــ ومنها: إثبات الإرادة لله عز وجل؛ وإرادة الله تعالى تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية: وهي التي بمعنى المشيئة؛ ويلزم منها وقوع المراد سواء كان مما يحبه الله، أو مما لا يحبه الله؛ ومنها قوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء} [الأنعام: 125] ؛ وهذه الآية، كقوله تعالى: {من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} [الأنعام: 39] . وإرادة شرعية: بمعنى المحبة؛ ولا يلزم منها وقوع المراد؛ ولا تتعلق إلا فيما يحبه الله عز وجل؛ ومنها قول الله تبارك وتعالى: {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً} [النساء: 27، 28] . 13 ــــ ومن فوائد الآية: أن شريعة الله سبحانه وتعالى مبنية على اليسر، والسهولة؛ لأن ذلك مراد الله عز وجل في قوله تعالى: { يريد الله بكم اليسر }؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه»(1)؛ وكان (ص) يبعث البعوث، ويقول: «يسروا ولا تعسروا؛ وبشروا ولا تنفروا»(2)؛ «فإنما بعثتم ميسرين؛ ولم تبعثوا معسرين»(3). 14 ــــ ومنها: انتفاء الحرج والمشقة والعسر في الشريعة؛ لقوله عز وجل: { ولا يريد بكم العسر }. 15 ــــ ومنها: أنه إذا دار الأمر بين التحليل، والتحريم فيما ليس الأصل فيه التحريم فإنه يغلب جانب التحليل؛ لأنه الأيسر، والأحب إلى الله. 16 ــــ ومنها: الأمر بإكمال العدة؛ أي بالإتيان بعدة أيام الصيام كاملاً. 17 ــــ ومنها: مشروعية التكبير عند تكميل العدة؛ لقوله الله تعالى: { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم }؛ والمشروع في هذا التكبير أن يقول الإنسان: «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد» ؛ وإن شاء أوتر فقال: «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد» ؛ وإن شاء أوتر باعتبار الجميع فقال: «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد» ؛ فالأمر في هذا واسع - ولله الحمد. 18 ــــ من فوائد الآية: أن الله يشرع الشرائع لحكمة، وغاية حميدة؛ لقوله تعالى: { لعلكم تشكرون }. 19 ــــ ومنها: الإشارة إلى أن القيام بطاعة الله من الشكر؛ ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله} ؛ وقال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً}»(4)؛ وهذا يدل على أن الشكر هو العمل الصالح. 20 ــــ ومنها: أن من عصى الله عز وجل فإنه لم يقم بالشكر، ثم قد يكون الإخلال كبيراً؛ وقد يكون الإخلال صغيراً - حسب المعصية التي قام بها العبد. تــنــبــيــه: استنبط بعض الناس أن من كانوا في الأماكن التي ليس عندهم فيها شهور، مثل الذين في الدوائر القطبية، يصومون في وقت رمضان عند غيرهم عدة شهر؛ لأن الشهر غير موجود؛ وقال: إن هذا من آيات القرآن؛ فقد جاء التعبير صالحاً حتى لهذه الحال التي لم تكن معلومة عند الناس حين نزول القرآن؛ لقوله تعالى: { ولتكملوا العدة }. القـــــــرآن { )وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة:186) التفسير: { 186 } قوله تعالى: { وإذا سألك }؛ الخطاب للنبي (ص)؛ والمراد بقوله تعالى: { عبادي }: المؤمنون؛ وقوله تعالى: { عني } أي عن قربي، وإجابتي بدليل الجواب: وهو قوله تعالى: { فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان }. قوله تعالى: { فإني قريب }: بعضهم قال: إنه على تقدير «قل» أي إذا سألك عبادي عني فقل: إني قريب؛ فيكون جواب { إذا } محذوفاً؛ و{ إني قريب } مقول القول المحذوف؛ ويحتمل أن يكون الجواب جملة: { فإني قريب } لوضوح المعنى بدون تقدير؛ والضمير في قوله تعالى: { فإني قريب } يعود إلى الله. قوله تعالى: { فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان }؛ { قريب } خبر «إن» ؛ و{ أجيب } خبر ثان لـ «إن» ؛ فيكون خبرها الأول مفرداً؛ وخبرها الثاني جملة؛ و «الدعاء» بمعنى الطلب؛ و{ الداعِ } أصلها «الداعي» بالياء، كـ«القاضي» و«الهادي»؛ لكن حذفت الياء للتخفيف نظيرها قوله تعالى: {الكبير المتعال} ؛ وأصلها: «المتعالي» ؛ فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: { إذا دعان } بعد قوله تعالى: { الداع } - لأنه لا يوصف بأنه داع إلا إذا دعا؟ فالجواب أن المراد بقوله تعالى: { إذا دعان } أي إذا صدق في دعائه إياي بأن شُعر بأنه في حاجة إلى الله، وأن الله قادر على إجابته، وأخلص الدعاء لله بحيث لا يتعلق قلبه بغيره. وقوله تعالى: { دعان } أصلها دعاني - بالياء، فحذفت الياء تخفيفاً. قوله تعالى: {فليستجيبوا لي} أي فليجيبوا لي؛ لأن «استجاب» بمعنى أجاب، كما قال الله تعالى: {فاستجاب لهم ربهم} [آل عمران: 195] أي أجاب، وكما قال الله تعالى: {والذين استجابوا لربهم} [الشورى: 38]. وقوله تعالى: { فليستجيبوا } عدَّاها باللام؛ لأنه ضمن معنى الانقياد - أي فلينقادوا لي؛ وإلا لكانت «أجاب» تتعدى بنفسها؛ نظيرها قوله (ص) في حديث معاذ رضي الله عنه: «فإن هم أجابوا لك بذلك»(1)؛ فضَمَّن الإجابة معنى الانقياد. قوله تعالى: { وليؤمنوا بي } أي وليؤمنوا بأني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان؛ واللام في الفعلين: { فليستجيبوا }؛ و{ ليؤمنوا } لام الأمر؛ ولهذا سكنت بعد حرف العطف. قوله تعالى: { لعلهم يرشدون }؛ «لعل» للتعليل؛ وكلما جاءت «لعل» في كتاب الله فإنها للتعليل؛ إذ إن الترجي لا يكون إلا فيمن احتاج، ويؤمل كشف ما نزل به عن قرب؛ أما الرب عز وجل فإنه يستحيل في حقه هذا. و «الرشد» يطلق على معانٍ؛ منها: حُسن التصرف، كما في قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء: 6] ؛ ولا شك أن من آمن بالله، واستجاب له فإنه أحسن الناس تصرفاً، ويوفّق، ويُهدى، وتُيسر له الأمور، كما قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً} [الطلاق: 4] ، وقال تعالى: {فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى} [الليل: 5 ــــ 7] . الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: أن الصيام مظنة إجابة الدعاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر هذه الآية في أثناء آيات الصيام؛ ولا سيما أنه ذكرها في آخر الكلام على آيات الصيام. وقال بعض أهل العلم: يستفاد منها فائدة أخرى: أنه ينبغي الدعاء في آخر يوم الصيام ــــ أي عند الإفطار. 2 ــــ ومنها: رأفة الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { وإذا سألك عبادي }، حيث أضافهم إلى نفسه تشريفاً، وتعطفاً عليهم. 3 ــــ ومنها: إثبات قرب الله سبحانه وتعالى؛ والمراد قرب نفسه؛ لأن الضمائر في هذه الآية كلها ترجع إلى الله؛ وعليه فلا يصح أن يحمل القرب فيها على قرب رحمته، أو ملائكته؛ لأنه خلاف ظاهر اللفظ، ويقتضي تشتيت الضمائر بدون دليل؛ ثم قرب الله عز وجل هل هو خاص بمن يعبده، أو يدعوه؛ أو هو عام؟ على قولين؛ والراجح أنه خاص بمن يعبده، أو يدعوه؛ لأنه لم يَرد وصف الله به على وجه مطلق؛ وليس كالمعية التي تنقسم إلى عامة، وخاصة. فإن قال قائل: ما الجواب عن قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد * إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد} [ق~: 16، 17] ــــ وهذا عام؟ فالجواب أن المراد بالقرب في هذا الآية قرب ملائكته بدليل قوله تعالى: {إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد} [ق~: 17] ، ومثلها قوله تعالى: {فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون} [الواقعة: 83 ــــ 85] : فإن المراد بها قرب الملائكة الذين يقبضون الروح. فإن قال قائل: كيف الجمع بين قربه جل وعلا وعلوه؟ فالجواب: أن الله أثبت ذلك لنفسه ــــ أعني القرب، والعلو؛ ولا يمكن أن يجمع الله لنفسه بين صفتين متناقضتين؛ ولأن الله ليس كمثله شيء في جميع صفاته؛ فهو قريب في علوه عليٌّ في دنوه. 4 - ومن فوائد الآية: إثبات سمع الله؛ لقوله تعالى: { أجيب }؛ لأنه لا يجاب إلا بعد أن يُسمعَ ما دعا به. 5 - ومنها: إثبات قدرة الله؛ لأن إجابة الداعي تحتاج إلى قدرة. 6 - ومنها: إثبات كرم الله؛ لقوله تعالى: { أجيب دعوة الداع إذا دعان }. 7 - ومنها: أن من شرط إجابة الدعاء أن يكون الداعي صادق الدعوة في دعوة الله عز وجل، بحيث يكون مخلصاً مشعراً نفسه بالافتقار إلى ربه، ومشعراً نفسه بكرم الله، وجوده؛ لقوله تعالى: { إذا دعان }. 8 - ومنها: أن الله تعالى يجيب دعوة الداع إذا دعاه؛ ولا يلزم من ذلك أن يجيب مسألته؛ لأنه تعالى قد يؤخر إجابة المسألة ليزداد الداعي تضرعاً إلى الله، وإلحاحاً في الدعاء؛ فيقوى بذلك إيمانه، ويزداد ثوابه؛ أو يدخره له يوم القيامة؛ أو يدفع عنه من السوء ما هو أعظم فائدة للداعي؛ وهذا هو السر - والله أعلم - في قوله تعالى: { أجيب دعوة الداع }. 9 - ومنها: أن الإنابة إلى الله عز وجل، والقيام بطاعته سبب للرشد؛ لقوله تعالى: { فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون }. 10- ومنها: أن الاستجابة لا بد أن يصحبها إيمان؛ لأن الله قرن بينهما؛ فمن تعبد لله سبحانه وتعالى وهو ضعيف الإيمان بأن يكون عنده تردد - والعياذ بالله - أو شك فإنه لا ينفعه؛ أو يكون عنده إنكار، كما يفعل المنافقون: فإنهم يتعبدون إلى الله عز وجل ظاهراً؛ لكنهم ليس عندهم إيمان؛ فلا ينفعهم. 11 ــــ ومنها: إثبات الأسباب، والعلل؛ ففيه رد على الجهمية، وعلى الأشاعرة؛ لأنهم لا يثبتون الأسباب إلا إثباتاً صورياً، حيث يقولون: إن الأسباب لا تؤثر بنفسها لكن يكون الفعل عندها. القرآن {)أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (البقرة:187) التفسير: { 187 } قوله تعالى: { أحل لكم } أي أحل الله لكم؛ ونائب الفاعل فيه: { الرفث إلى نسائكم }؛ و{ الرفث } هو الجماع، والإفضاء؛ والمراد بـ{ ليلة الصيام } جميع ليالي رمضان؛ { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن }: الجملة استئنافية للتعليل ــــ أي تعليل حل الرفث إلى النساء ليلة الصيام ــــ لأن الزوج لا يستغني عن زوجه فهو لها بمنزلة اللباس؛ وكذلك هي له بمنزلة اللباس؛ وعبر سبحانه باللباس لما فيه من ستر العورة، والحماية، والصيانة؛ وإلى هذا يشير قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج»(1). ثم بيَّن الله عز وجل حكمة أخرى موجبة لهذا الحل؛ وهي قوله تعالى: { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } أي تخادعونها بإتيانهن، بحيث لا تصبرون؛ والظاهر ــــ والله أعلم ــــ أن هذا الاختيان بكون الإنسان يفتي نفسه بأن هذا الأمر هين؛ أو بأنه صار في حال لا تحرم عليه زوجته؛ وما أشبه ذلك؛ وأصل هذا أنهم كانوا في أول الأمر إذا صلى أحدهم العشاء الآخرة، أو إذا نام قبل العشاء الآخرة فإنه يحرم عليه الاستمتاع بالمرأة والأكل والشرب إلى غروب الشمس من اليوم التالي؛ فشق عليهم ذلك مشقة عظيمة حتى إن بعضهم لم يصبر؛ فبين الله عز وجل حكمته، ورحمته بنا، حيث أحل لنا هذا الأمر؛ ولهذا قال تعالى: { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم }. قوله تعالى: { فتاب عليكم }: أي تاب عليكم بنسخ الحكم الأول الذي فيه مشقة؛ والنسخ إلى الأسهل توبة كما في قوله تعالى في سورة المزمل: {علم أن لن تحصوه فتاب عليكم} [المزمل: 20] ؛ فيعبر الله عز وجل عن النسخ بالتوبة إشارة إلى أنه لولا النسخ لكان الإنسان آثماً إما بفعل محرم؛ أو بترك واجب. قوله تعالى: { وعفا عنكم } أي تجاوز عما وقع منكم من مخالفة. قوله تعالى: {فالآن باشروهن}: الفاء حرف عطف تقتضي الترتيب - يعني فالآن بعد التحريم، وبعد تحقيق التوبة، والعفو باشروهن؛ وكلمة «الآن» اسم إشارة إلى الزمن الحاضر؛ وهي مبنية على الفتح في محل نصب؛ والمراد بالمباشرة الجماع؛ وسمي كذلك لالتقاء البشرتين فيه - بشرة المرأة، وبشرة الرجل -. قوله تعالى: { وابتغوا ما كتب الله لكم } أي اطلبوا ما قدر الله لكم من الولد؛ وذلك بالجماع الذي يحصل به الإنزال. قوله تعالى: { وكلوا واشربوا } معطوفة على قوله تعالى: { باشروهن } أي لكم الأكل، والشرب. قوله تعالى: { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } أي حتى يظهر ظهوراً جلياً يتميز به { الخيط الأبيض } وهو بياض النهار { من الخيط الأسود } وهو سواد الليل. قوله تعالى { من الفجر } بيان لمعنى { الخيط الأبيض }؛ ولم يذكر في الخيط الأسود «من الليل» اكتفاءً بالأول، كما في قوله تعالى: {وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر} [النحل: 81] يعني: والبرد؛ فهذا من باب الاكتفاء بذكر أحد المتقابلين عن المقابل الآخر. قوله تعالى: { ثم أتموا الصيام } أي أكملوا الصيام على وجه التمام؛ { إلى الليل } أي إلى دخول الليل؛ وذلك بغروب الشمس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبل الليل من هاهنا - وأدبر النهار من هاهنا - وغربت الشمس فقد أفطر الصائم»(1)؛ وبمجرد غروب الشمس - أي غروب قرصها - يكون الإفطار؛ وليس بشرط أن تزول الحمرة، كما يظن بعض العوام؛ إذاً الصوم محدود: من، وإلى؛ فلا يزاد فيه، ولا ينقص؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى - في الفوائد حكم الوصال. قوله تعالى: { ولا تباشروهن } أي ولا تجامعوهن؛ وذكرها عقب قوله تعالى: { فالآن باشروهن } لئلا يظن أن المباشرة المأذون فيها شاملة حال الاعتكاف؛ والضمير «هن» يعود على النساء؛ وجملة: { وأنتم عاكفون في المساجد } حال من الواو في قوله تعالى: { لا تباشروهن }؛ و{ عاكفون } اسم فاعل من عكف يعكف؛ والعكوف على الشيء ملازمته، والمداومة عليه؛ ومنه قول إبراهيم عليه السلام لقومه: { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } [الأنبياء: 52] أي مديمون ملازمون؛ والاعتكاف في الشرع هو التعبد لله سبحانه وتعالى بلزوم المساجد لطاعة الله. قوله تعالى: { تلك حدود الله }؛ «تي» اسم إشارة؛ واللام للبعد؛ والكاف حرف خطاب؛ والمشار إليه ما ذُكر من أحكام الأكل، والشرب، والجماع في ليالي رمضان؛ و{ حدود } جمع حد؛ و«الحد» في اللغة المنع؛ ومنه حدود الدار؛ لأنها تمنع من دخول غيرها فيها؛ فمعنى { حدود الله } أي موانعه؛ واعلم أن حدود الله نوعان: 1 ــــ حدود تمنع من كان خارجها من الدخول فيها؛ وهذه هي المحرمات؛ ويقال فيها: { فلا تقربوها }. 2 ــــ وحدود تمنع من كان فيها من الخروج منها؛ وهذه هي الواجبات؛ ويقال فيها: { فلا تعتدوها }. قوله تعالى: { فلا تقربوها } الفاء للتفريع؛ و «لا» ناهية؛ وإنما نهى عن قربانها حتى نبعد عن المحرم، وعن وسائل المحرم؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد؛ وكم من إنسان حام حول الحمى فوقع فيه؛ ولهذا قال تعالى: { فلا تقربوها }؛ فالمحرمات ينبغي البعد عنها، وعدم قربها. قوله تعالى: { كذلك يبين الله }: هذه الجملة ترد في القرآن كثيراً؛ وإعرابها أن الكاف اسم بمعنى «مثل»؛ وهي في محل نصب على المفعولية المطلقة؛ أي مثلَ ذلك البيان يبين الله؛ وعاملها ما بعدها. وقوله تعالى: { كذلك } المشار إليه ما سبق من البيان؛ والبيان في هذه الآية كثير؛ فبين الله سبحانه وتعالى حكم الأكل، والشرب في الليل، وحكم المباشرة للنساء، وحكم الاعتكاف، وموضعه، وما يحرم فيه.. إلخ، المهم عدة أحكام بينها الله. قوله تعالى: { آياته للناس }؛ «آيات» جمع آية؛ وهي في اللغة العلامة؛ والمراد بها في الشرع: العلامة المعينة لمدلولها. قوله تعالى: { لعلهم يتقون }؛ «لعل» للتعليل؛ أي يتقون الله عز وجل وتقوى الله سبحانه وتعالى هي اتخاذ وقاية من عذابه بفعل أوامره، واجتناب نواهيه؛ وهذا أجمع ما قيل في «التقوى». الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: رحمة الله تعالى بعباده؛ لنسخ الحكم الأول إلى التخفيف، حيث كانوا قبل ذلك إذا ناموا، أو صلّوا العشاء في ليالي رمضان حرمت عليهم النساء، والطعام، والشراب إلى غروب الشمس من اليوم التالي؛ ثم خفف عنهم بإباحة ذلك إلى الفجر. 2 ــــ ومنها: جواز الكلام بين الزوج وزوجته فيما يستحيا منه؛ لقوله تعالى: { الرفث إلى نسائكم }؛ لأنه مُضَمن معنى الإفضاء. 3 ــــ ومنها: جواز استمتاع الرجل بزوجته من حين العقد؛ لقوله تعالى: { إلى نسائكم } ما لم يخالف شرطاً بين الزوجين؛ وقد ظن بعض الناس أنه لا يجوز أن يستمتع بشيء من زوجته حتى يعلن النكاح ــــ وليس بصحيح لكن هنا شيء يخشى منه؛ وهو الجماع؛ فإنه ربما يحصل حمل؛ وإذا حصل حمل مع تأخر الدخول ربما يحصل في ذلك ريبة؛ فإذا خشي الإنسان هذا الأمر فليمنع نفسه لئلا يحصل ريبة عند العامة. 4 ــــ ومن فوائد الآية: أن الزوجة ستر للزوج؛ وهو ستر لها؛ وأن بينهما من القرب كما بين الثياب، ولابسيها؛ ومن التحصين للفروج ما هو ظاهر؛ لقوله تعالى: { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن }. 5 ــــ ومنها: إثبات العلة في الأحكام؛ لقوله تعالى: { هن لباس لكم }؛ لأن هذه الجملة لتعليل التحليل. 6 ــــ ومنها: ثبوت علم الله بما في النفوس؛ لقوله تعالى: { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم }. 7 ــــ ومنها: أن الإنسان كما يخون غيره قد يخون نفسه؛ وذلك إذا أوقعها في معاصي الله، فإن هذا خيانة؛ وعلى هذا فنفس الإنسان أمانة عنده؛ لقوله تعالى: { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم }. 8 ــــ ومن فوائد الآية: إثبات التوبة لله؛ لقوله تعالى: { فتاب عليكم }؛ وهذه من الصفات الفعلية. 9 ــــ ومنها: إثبات عفو الله؛ لقوله تعالى: { وعفا عنكم }. 10 ــــ ومنها: ثبوت النسخ خلافاً لمن أنكره؛ وهو في هذه الآية صريح؛ لقوله تعالى: { فالآن باشروهن } يعني: وقبل الآن لم يكن حلالاً. 11 ــــ ومنها: أن النسخ إلى الأخف نوع من التوبة إلا أن يراد بقوله تعالى: { تاب عليكم وعفا عنكم } ما حصل من اختيانهم أنفسهم. 12 ــــ ومنها: جواز مباشرة الزوجة على الإطلاق بدون تقييد؛ ويستثنى من ذلك الوطء في الدبر، والوطء حال الحيض، أو النفاس. 13 ــــ ومنها: أنه ينبغي أن يكون الإنسان قاصداً بوطئه طلب الولد؛ لقوله تعالى: { وابتغوا ما كتب الله لكم }؛ وذكروا عن عمر رضي الله عنه أنه لا يجامع إلا إذا اشتهى الولد؛ ولكن مع ذلك لا يمنع الإنسان أن يفعل لمجرد الشهوة؛ فهذا ليس فيه منع؛ بل فيه أجر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: نعم؛ أرأيتم لو وضعها في حرام أيكون عليه وزر؟ قالوا: نعم؛ قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»(1). 14 ــــ من فوائد الآية: جواز الأكل، والشرب، والجماع في ليالي الصيام حتى يتبين الفجر؛ لقوله تعالى: { وكلوا واشربوا حتى يتبين }. أخذ بعض أهل العلم من هذا استحباب السُّحور، وتأخيره؛ وهذا الاستنباط له غور؛ لأنه يقول: إنما أبيح الأكل والشرب ليلة الصيام رفقاً بالمكلف؛ وكلما تأخر إلى قرب طلوع الفجر كان أرفق به؛ فما دام نسخ التحريم من أجل الرفق بالمكلف فإنه يقتضي أن يكون عند طلوع الفجر أفضل منه قبل ذلك؛ لأنه أرفق؛ وهذا استنباط جيد تعضده الأحاديث - مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «تسحروا فإن في السَّحور بركة» -؛ ففيه بركة لكونه معيناً على طاعة الله؛ وفيه بركة لأنه امتثال لأمر رسول الله (ص)؛ وفيه بركة لأنه اقتداء برسول الله (ص)؛ وفيه بركة لأنه يغني عن عدة أكلات، وشرابات في النهار؛ وفيه بركة لأنه فصل بين صيامنا وصيام أهل الكتاب؛ فهذه خمسة أوجه من بركته. 15 ــــ ومن فوائد الآية: أن الإنسان لو طلع عليه الفجر وهو يجامع، ثم نزع في الحال فلا قضاء عليه، ولا كفارة؛ لأن ابتداء جماعه كان مأذوناً فيه؛ ولكن استدامته بعد أن تبين الفجر حرام، وعلى فاعله القضاء والكفارة، إلا أن يكون جاهلاً؛ وقد قيل: إنه إذا نزع في هذه الحال فعليه كفارة؛ لأن النزع جماع؛ لكنه قول ضعيف؛ إذ كيف نلزمه بالقضاء والكفارة مع قيامه بما يجب عليه ــــ وهو النزع ــــ. 16 ــــ ومنها: جواز أن يصبح الصائم جنباً، لأن الله أباح الجماع حتى يتبين الفجر، ولازم هذا أنه إذا أخر الجماع لم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر؛ وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يصبح جنباً من جماع أهله، ثم يصوم(1). 17 ــــ ومنها: جواز الأكل، والشرب، والجماع مع الشك في طلوع الفجر؛ لقوله تعالى: { حتى يتبين }؛ فإن تبين أن أكله، وشربه، وجماعه، كان بعد طلوع الفجر فلا شيء عليه. 18 ــــ ومنها: رد قول من قال: إنه يجوز أن يأكل الصائم، ويشرب إلى طلوع الشمس؛ لقوله تعالى: { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر }؛ وكذلك رد قول من قال: إنه يجوز أن يأكل ويشرب إلى الغلس. 19 ــــ ومن فوائد الآية: بيان خطأ بعض جهال المؤذنين الذين يؤذنون قبل الفجر احتياطاً - على زعمهم -؛ لأن الله تعالى أباح الأكل، والشرب، والجماع، حتى يتبين الفجر؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم؛ فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر»(2)؛ وهو أيضاً مخالف للاحتياط؛ لأنه يستلزم أن يمتنع الناس مما أحل الله لهم من الأكل، والشرب، والجماع، وأن يقدِّم الناس صلاة الفجر قبل طلوع الفجر؛ وأيضاً فإنه يفتح باباً للمتهاون، حيث يعلم أنه أذن قبل الفجر فلا يزال يأكل إلى أمد مجهول، فيؤدي إلى الأكل بعد طلوع الفجر من حيث لا يشعر؛ ثم اعلم أن الاحتياط الحقيقي إنما هو في اتباع ما جاء في الكتاب، والسنة - لا في التزام التضييق والتشديد -. 20 ــــ ومن فوائد الآية: أنه لو أكل الإنسان يظن أن الفجر لم يطلع، ثم تبين أنه طلع فصيامه صحيح؛ لأنه قد أذن له بذلك حتى يتبين له الفجر؛ وما كان مأذوناً فيه فإنه لا يرتب عليه إثم، ولا ضمان، ولا شيء؛ ومن القواعد الفقهية المعروفة: «ما ترتب على المأذون فهو غير مضمون»؛ وهذا هو ما تؤيده العمومات، مثل قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286] ؛ وقوله تعالى: {ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب: 5] ؛ وتؤيده أيضاً نصوص خاصة في هذه المسألة نفسها ــــ وهو فعل عدي بن حاتم رضي الله عنه، حيث كان يضع عقالين تحت وسادته أحدهما أبيض، والآخر أسود ــــ؛ فيأكل وهو يتسحر حتى يتبين له العقال الأبيض من العقال الأسود، ثم يمسك؛ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وبين له النبي صلى الله عليه وسلم المراد في الآية، ولم يأمره بالقضاء(3). 21 ــــ ومن فوائد الآية: الإيماء إلى كراهة الوصال؛ لقوله تعالى: { كلوا واشربوا حتى يتبين }؛ والوصال معناه أن يقرن الإنسان صوم يومين جميعاً لا يأكل بينهما؛ وقد كان الوصال مباحاً، ثم نهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، وقال: «أيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر»(4)؛ ورغب (ص) في تعجيل الفطر، فقال: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر»(5)؛ وهذا من باب أن الشيء قد يكون مأذوناً فيه، وليس بمشروع؛ فالوصال إلى السَّحَر مأذون فيه، ولكن ليس بمشروع؛ ومثال آخر: الصدقة عن الميت: فهذا أمر مأذون فيه، وليس بمشروع. 22 ــــ ومن فوائد الآية: أن الاعتبار بالفجر الصادق الذي يكون كالخيط ممتداً في الأفق؛ وذكر أهل العلم أن بين الفجر الصادق والفجر الكاذب ثلاثة فروق: الفرق الأول: أن الصادق مستطير معترض من الجنوب إلى الشمال؛ والكاذب مستطيل ممتد من الشرق إلى الغرب. والفرق الثاني: أن الصادق متصل بالأفق؛ وذاك بينه، وبين الأفق ظلمة. والفرق الثالث: أن الصادق يمتد نوره، ويزداد؛ والكاذب يزول نوره ويظلم. 23 ــــ ومن فوائد الآية: أن بياض النهار، وسواد الليل يتعاقبان، فلا يجتمعان؛ لقوله تعالى: { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود }. 24 ــــ ومنها: أن الأفضل المبادرة بالفطر؛ لقوله تعالى: { إلى الليل }؛ وقد جاءت السنة بذلك صريحاً، كما في قوله (ص): «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» . 25 ــــ ومنها: أن الصيام الشرعي من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ لقوله تعالى: { ثم أتموا الصيام إلى الليل }. 26 ــــ ومنها: أن الصيام الشرعي ينتهي بالليل؛ لقوله تعالى: { إلى الليل }؛ وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله (ص): «إذا أقبل الليل من هاهنا ــــ، وأدبر النهار من هاهنا ــــ وغربت الشمس فقد أفطر الصائم»(1). 27 ــــ ومنها: الإشارة إلى مشروعية الاعتكاف؛ لأن الله أقره، ورتب عليه أحكاماً، وقوله تعالى: { في المساجد } بيان للواقع؛ لأن الاعتكاف المشروع لا يكون إلا في المساجد. 28 ــــ ومنها: أن الاعتكاف مشروع في كل مسجد؛ لعموم قوله تعالى: { في المساجد }؛ فلا يختص بالمساجد الثلاثة - كما قيل به -؛ وأما حديث حذيفة: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة»(2) - يعني المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى - فإن صح فالمراد به الاعتكاف الكامل. 29 ــــ ومنها: أن ظاهر الآية أن الاعتكاف يصح في كل مسجد - وإن لم يكن مسجد جماعة -؛ وهذا الظاهر غير مراد لوجهين: الوجه الأول: أن «أل» في { المساجد } للعهد الذهني؛ فتكون دالة على أن المراد بـ{ المساجد } المساجد المعهودة التي تقام فيها الجماعة. الوجه الثاني: أنه لو جاز الاعتكاف في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة للزم من ذلك أحد أمرين: إما ترك صلاة الجماعة - وهي واجبة -؛ وإما كثرة الخروج إليها - وهذا ينافي الاعتكاف، أو كماله -. 30 ــــ ومن فوائد الآية: النهي عن مباشرة النساء حال الاعتكاف. 31 ــــ ومنها: أن الجماع مبطل للاعتكاف؛ وجه كونه مبطلاً أنه نهي عنه بخصوصه؛ والشيء إذا نهي عنه بخصوصه في العبادة كان من مبطلاتها. 32 ــــ ومنها: ما استنبطه بعض أهل العلم أن الاعتكاف يكون في رمضان، وفي آخر الشهر؛ لأن الله ذكر حكمه عقب آية الصيام؛ وهذا هو الذي جاءت به السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتكف إلا في العشر الأواخر من رمضان حين قيل له: «إن ليلة القدر في العشر الأواخر» ؛ وكان اعتكافه في العشر الأول، والأوسط يتحرى ليلة القدر؛ فلما قيل له: «إنها في العشر الأواخر» ترك الاعتكاف في العشر الأول، والأوسط . 33 ــــ ومنها: أن أوامر الله حدود له؛ وكذلك نواهيه؛ لقوله تعالى: { تلك حدود الله }. 34 ــــ ومنها: أنه ينبغي البعد عن المحارم؛ لقوله تعالى: { فلا تقربوها }؛ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه، وعرضه؛ ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه؛ ألا وإن لكل ملِك حمى؛ ألا وإن حمى الله محارمه»(1). 35 ــــ ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يبين للناس الآيات الكونية، والشرعية؛ لقوله تعالى: { كذلك يبين الله آياته للناس }؛ والآيات الكونية هي المخلوقات؛ فكل المخلوقات ذواتها، وصفاتها، وأحوالها من الآيات الكونية، كما قال تعالى: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر} [فصلت: 37] ، وقال تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً} [الروم: 21] ، وقال تعالى: {ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} [الروم: 20] ... إلخ؛ وكانت المخلوقات آية لله؛ لأنه لا أحد من المخلوق يصنع مثلها. والآيات الشرعية: هي ما أنزله الله تعالى على رسله، وأنبيائه من الوحي؛ فإنها آيات شرعية تدل على كمال منزلها سبحانه وتعالى في العلم، والرحمة، والحكمة، وغير ذلك مما تقتضيه أحكامها، وأخبارها؛ وجه ذلك أنك إذا تأملت أخبارها وجدتها في غاية الصدق، والبيان، والمصلحة، كما قال تعالى: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن} [يوسف: 3] ؛ فأحسن الأخبار أخبار الوحي: القرآن، وغيره؛ وأصلحها للخلق قصصها، كما قال تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} [يوسف: 111] ؛ وإذا تأملت أحكامها وجدتها أحسن الأحكام، وأصلحها للعباد في معاشهم، ومعادهم، كما قال تعالى: {ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} [المائدة: 50] ؛ ولو اجتمع الخلق على أن يأتوا بمثل الأحكام التي أنزلها الله على رسوله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً؛ بهذا تكون آية على ما تقتضيه من صفات الله سبحانه وتعالى. 36 ــــ ومن فوائد الآية: الرد على أهل التعطيل، وغيرهم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه في أسماء الله، وصفاته؛ وجه ذلك أنهم لما قالوا: المراد بـ«اليد» النعمة، أو القوة؛ والمراد بـ«الاستواء» الاستيلاء؛ والمراد بكذا كذا - وهو خلاف ظاهر اللفظ، ولا دليل عليه - صار القرآن غير بيان للناس؛ لأنه ما دام أن البيان خلاف ما ظهر فلا بيان. 37 ــــ ومنها: أن العلم سبب للتقوى؛ لقوله تعالى: { لعلهم يتقون }؛ ووجهه أنه ذكره عقب قوله تعالى: { كذلك يبين الله آياته للناس }؛ فدل هذا أنه كلما تبينت الآيات حصلت التقوى؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28] ؛ فكلما ازداد الإنسان علماً بآيات الله ازداد تقًى؛ ولهذا يقال: من كان بالله أعرف كان منه أخوف. 38 ــــ ومنها: علو مرتبة التقوى؛ لكون الآيات تبين للناس من أجل الوصول إليها. مـســــألــــة: لو أذن المؤذن للفجر وفي يد الصائم الإناء يشرب منه فهل يجب عليه أن ينزل الإناء، أو له أن يقضي نهمته منه؟ على مذهب الإمام أحمد يجب أن ينزل الإناء؛ بل يجب لو كان في فمه ماء لفْظه؛ وكذلك الطعام؛ وهذا هو ظاهر القرآن؛ لكن ورد في مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة بإسناد صححه أحمد شاكر بأنه لو أذن المؤذن والإناء في يدك فلا تضعه حتى تقضي حاجتك منه(2)؛ فإن كان هذا الحديث صحيحاً فإنه يحمل على أن المؤذن قد احتاط فيؤذن قبل الفجر - أي لا يؤخر الأذان إلى أن يطلع الفجر -؛ لأنه قد يؤذن وهو لم يتبين له كثيراً فسُمح للإنسان أن يقضي نهمته من الإناء الذي في يده؛ وإنما حملناه على ذلك لظاهر الآية، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا، واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم؛ فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر»(1)، وقد يقال: الحديث على ظاهره؛ ووجهه: أن هذا الشارب شرع في شربه في وقت يسمح له فيه، فكان آخر شربه تبعاً لأوله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» ؛ ويكون هذا مما سامح به الشارع. القرآن {)وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:188) التفسير: مناسبة هذه الآية لما سبق مناسبة واضحة؛ لأن ما سبق في آيات الصيام تحريم لأشياء خاصة في زمان خاص؛ وهذه الآية تحريم عام في زمانه، وفي مكانه؛ هذا وجه المناسبة: أنه لما ذكر التحريم الخاص الذي يحصل في الصيام بيَّن التحريم العام الذي يحصل في الصيام، وفي غير الصيام. { 188 } قوله تعالى: { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل }؛ المراد بالأكل ما هو أعم منه، فيشمل الانتفاع بغير الأكل من الملبوسات، والمفروشات، والمسكونات، والمركوبات؛ لكنه خَص الأكل؛ لأنه أقوى وجوه الانتفاع؛ الإنسان ينتفع في المال ببناء مسكن له - وهو منفصل عنه -؛ ويفترش الفراش فينتفع به - وهو منفصل عنه إلا أنه ألصق به من البيت؛ ويلبس ثوباً فينتفع به - وهو منفصل عنه -؛ إلا أنه ألصق به من الفراش؛ والإنسان يأكل الأكل فينتفع - وهو متصل ممازج لعروقه -؛ فكان أخص أنواع الانتفاع، وألصقها بالمنتفع؛ ولهذا ذكر بعض أهل العلم - رحمهم الله - أن الإنسان إذا كان عنده مال مشتبه ينبغي أن يصرفه في الوقود؛ لا يصرفه في الأكل والشرب يتغذى بهما البدن وهما أخص انتفاع بالمال؛ فإذا كان الله تعالى يقول: { لا تأكلوا أموالكم } وهو أخص الانتفاع، والذي قد يكون الإنسان في ضرورة إليه: لو لم يفعل لهلك - لو لم يأكل لمات فكيف بغيره!!! وقوله تعالى: { أموالكم }: عندنا آكل، ومأكول عنه؛ فإذا كنت أنت أيها الآكل لا ترضى أن يؤكل مالك فكيف ترضى أن تأكل مال غيرك؛ فاعتبر مال غيرك بمنزلة مالك في أنك لا ترضى أن يأكله أحد؛ وبهذا تتبين الحكمة في إضافة الأموال المأكولة للغير إلى آكلها؛ و{ بينكم } أي في العقود من إجارات، وبيوع، ورهون، وغيرها؛ لأن هذه تقع بين اثنين؛ فتصدق البينية فيها. وقوله تعالى: { بالباطل }؛ الباء للتعدية؛ أي تتوصلون إليه بالباطل؛ و «الباطل» كل ما أخذ بغير حق. قوله تعالى: { وتدلوا بها إلى الحكام }؛ الضمير المجرور يعود إما على الأموال؛ وإما على المحاكمة؛ والإدلاء أصلها مأخوذ من: أدلى دلوه؛ ومعلوم أن الذي يدلي دلوه يريد التوصل إلى الماء؛ فمعنى: { تدلوا بها إلى الحكام } أي تتوصلوا بها إلى الحكام لتجعلوا الحكام وسيلة لأكلها بأن تجحد الحق الذي عليك وليس به بينة؛ ثم تخاصمه عند القاضي، فيقول القاضي للمدعي عليك: «هاتِ بينة»؛ وإذا لم يكن للمدعي بينة توجهت عليك اليمين؛ فإذا حلفت برئت؛ فهنا توصلت إلى جحد مال غيرك بالمحاكمة؛ هذا أحد القولين في الآية؛ والقول الثاني: أن معنى: { تدلوا بها إلى الحكام } أي توصلوها إليهم بالرشوة ليحكموا لكم؛ وكلا القولين صحيح. قوله تعالى: { لتأكلوا }؛ قد يقول قائل: إن فيها إشكالاً؛ لأنه تعالى قال: { ولا تأكلوا }، ثم قال تعالى: { لتأكلوا } كيف يعلل الحكم بنفس الحكم؟ فنقول: إن اللام هنا ليست للتعليل؛ اللام هنا للعاقبة ــــ يعني أنكم إذا فعلتم ذلك وقعتم في الأكل ــــ أكل فريق من أموال الناس ــــ؛ وتأتي اللام للعاقبة، كما في قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} [القصص: 8] : فآل فرعون لم يلتقطوه لهذا الغرض؛ ولكن كانت هذه العاقبة. قوله تعالى: { فريقاً من أموال الناس }؛ الفريق بمعنى الطائفة؛ وسمي فريقاً؛ لأنه يُفْرَق عن غيره؛ فهذا فريق من الناس ــــ يعني طائفة منهم افترقت، وانفصلت ــــ؛ لو قال قائل: قد يأكل كل مال المدعى عليه لا فريقاً منه؟ فالجواب من وجهين: الأول: أنه لو أكل جميع مال المدعى عليه لم يأكل جميع أموال الناس؛ لأن مال المدعى عليه فريق من أموال الناس. الثاني: أنه إذا كان النهي عن أكل فريق من أموال المدعى عليه فهو تنبيه بالأدنى على الأعلى. قوله تعالى: { بالإثم }؛ الباء للمصاحبة؛ يعني أكلاً مصحوباً بالإثم ــــ وهو الذنب ــــ؛ وذلك لأنه باطل. قوله تعالى: { وأنتم تعلمون }: الجملة حالية؛ وهي قيد للحكم على أعلى أنواع بشاعته؛ لأن من أكل أموال الناس بالباطل عالماً أبشع مما لو أكله جاهلاً. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: تحريم أكل المال بالباطل؛ و«الباطل» كل شيء ليس لك به حق شرعاً. 2 ــــ ومنها: حرص الشارع على حفظ الأموال؛ لقوله تعالى: { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل }؛ ولأن الأموال تقوم بها أمور الدين، وأمور الدنيا، كما قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً} [النساء: 5] . 3 ــــ ومنها: تحريم الرشوة؛ لقوله تعالى: { وتدلوا بها إلى الحكام } على أحد التفسيرين، كما سبق. 4 ــــ ومنها: أن الحاكم يحكم بما ظهر له ــــ يعني يقضي بما سمع ــــ؛ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع»(1)؛ لقوله تعالى: { وتدلوا بها إلى الحكام }؛ وهذه فيمن يدعي ما ليس له، ويخاصم، ويقيم بينة كذباً؛ أو يجحد ما عليه، ويخاصم، ويحلف كاذباً؛ كل هذا من الإدلاء بها إلى الحكام؛ لكن إن علم الحاكم أن الحق بخلاف ما سمع فالواجب عليه التوقف في الحكم، وإحالة القضية إلى حاكم آخر ليكون هو شاهداً بما علم. 5 ــــ ومن فوائد الآية: تيسير الله سبحانه وتعالى على الحكام بين الناس، حيث لا يعاقبهم على الأمور الباطنة؛ وإلا لكان الحكام في حرج، ومشقة؛ وجه ذلك من الآية أن الحاكم إذا حكم بما ظهر له ــــ وإن كان خلاف الواقع - فلا إثم عليه. 6 ــــ ومنها: أن من حُكم له بما يعتقد أنه حق فلا إثم عليه؛ لكن لو تبين له بعد الحكم أنه لا حق له وجب عليه الرجوع إلى الحق؛ مثاله: لو فرض أن غريمه أوفاه؛ لكنه ناسٍ، وحلف أنه لم يوفه، وحُكم له فلا إثم عليه؛ لكن متى ذكر أنه قد أوفي وجب عليه رد المال إلى صاحبه. القرآن {)يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (البقرة:)189 التفسير: { 189 } قوله تعالى: { يسألونك عن الأهلة }؛ { الأهلة } جمع هلال؛ وهو القمر أول ما يكون شهراً؛ وسمي هلالاً لظهوره؛ ومنه: الاستهلال؛ والإهلال هو رفع الصوت، كما في حديث خلاد بن السائب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال» يعني بالتلبية؛ ومنه قولهم: «استهل المولود» إذا صرخ بعد وضعه. وقوله تعالى: { يسألونك عن الأهلة } يعني: الحكمة فيها بدليل الجواب: { قل هي مواقيت للناس والحج وأما ما ذكره أهل البلاغة من أنهم سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن السبب في كون الهلال يبدو صغيراً، ثم يكبر؛ فأجاب الله سبحانه وتعالى ببيان الحكمة؛ وقالوا: إن هذا من أسلوب الحكيم أن يجاب السائل بغير ما يتوقع إشارة إلى أنه كان ينبغي أن يُسأل عن هذا؛ فالصواب أنهم لم يسألوا الرسول عن هذا؛ ولكن سألوه عن الحكمة من الأهلة، وأن الله سبحانه وتعالى خلقها على هذا الوجه؛ والدليل: الجواب؛ لأن الأصل أن الجواب مطابق للسؤال إلا أن يثبت ذلك بنص صحيح. قوله تعالى: { قل هي } أي الأهلة { مواقيت للناس } جمع ميقات ــــ من الوقت ــــ؛ أي يوقتون بها أعمالهم التي تحتاج إلى توقيت بالأشهر، كعدة الوفاة أربعة أشهر وعشر، وعدة المطلقة بعد الدخول إذا كانت لا تحيض ثلاثة أشهر، وآجال ديونهم، وإجاراتهم، وغير ذلك. قوله تعالى: { والحج } يعني مواقيت للحج؛ لأن الحج أشهر معلومات تبتدئ بدخول شوال، وتنتهي بانتهاء ذي الحجة؛ ثلاثة أشهر؛ وكذلك هي مواقيت للصيام، كما قال تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185] ؛ لكن سياق الآيات توطئة لبيان أشهر الحج؛ فلهذا قال تعالى: { مواقيت للناس والحج }؛ ولم يذكر الصيام؛ لأنه سبق. قوله تعالى: { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها }؛ { البر } هو الخير الكثير؛ وسمي الخير براً لما فيه من السعة؛ ومنه في الاشتقاق «البَرّ» ــــ الذي هو الخلاء: وهو ما سوى البنيان ــــ لسعته. وقوله تعالى: { بأن تأتوا }: الباء حرف جر زائد للتوكيد؛ يعني: وليس البر بإتيانكم البيوت من ظهورها؛ و{ البُيوت } بضم الباء؛ وفي قراءة بكسر الباء. وقوله تعالى: { من ظهورها }؛ { من } بيانية؛ أي تأتوها من الخلف؛ وكانوا في الجاهلية من سفههم يأتون البيوت من ظهورها إذا أحرموا بحج، أو بعمرة إلا قريشاً؛ فإنهم يأتونها من أبوابها؛ أما غيرهم فيقولون: نحن أحرمنا؛ لا يمكن أن ندخل بيوتنا من أبوابها؛ هذا يبطل الإحرام؛ لا بد أن نأتي من الظهور لئلا يسترنا سقف البيت؛ فكانوا يتسلقون البيوت مع الجدران من الخلف، ويعتقدون أن ذلك بِرّ وقربة إلى الله عز وجل؛ فنفى الله هذا، وأبطله بقوله تعالى: { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها }؛ لما فيه من التعسير، ولما فيه من السفه ومخالفة الحكمة، فهو خلاف البر؛ ولهذا قال تعالى: { ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها }. قوله تعالى: { ولكن البر من اتقى }؛ وفي قراءة: { ولكنِ البرُّ } بتخفيف النون في { لكنِ }؛ ورفع { البرُّ }؛ على أن تكون { لكن }مخففة من الثقيلة مهملة؛ و{ البر } مبتدأ؛ أما على قراءة التشديد فهي عاملة؛ و{ البر } اسمها؛ وقوله تعالى: { البر من اتقى }: { البر } اسم معنى؛ و{ من اتقى } اسم جثة؛ كيف يخبر بالجثة عن اسم المعنى؟ فالجواب أنه يخرج على واحد من أوجه ثلاثة: الوجه الأول: أن يكون المصدر هنا بمعنى اسم الفاعل؛ أي: ولكن البار. الوجه الثاني: أن يكون المصدر على تقدير محذوف؛ أي: ولكن البر بر من اتقى. الوجه الثالث: أن هذا على سبيل المبالغة أن يجعل { من اتقى } نفس البر، كما يصفون المصدر فيقولون: فلان عدل، ورضا. وقوله تعالى: { من اتقى } أي اتقى الله عز وجل؛ لأن الاتقاء في مقام العبادة إنما يراد به اتقاء الله عز وجل؛ البر هو التقوى؛ هذا هو حقيقة البر؛ لا أن تتقي دخول البيت من بابه؛ ولهذا قال تعالى: { وأتوا البيوت من أبوابها } أي من جهة الباب فإن هذا هو الخير. قوله تعالى: { واتقوا الله } أي اجعلوا لكم وقاية من عذابه بفعل أوامره، واجتناب نواهيه. قوله تعالى: { لعلكم تفلحون }؛ «لعل» للتعليل؛ أي لأجل أن تنالوا الفلاح؛ و «الفلاح» هو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: حرص الصحابة رضي الله عنهم على العلم، وأنهم يسألون عن أمور الدين، وأمور الدنيا؛ لأن هذا مما يتعلق بالدنيا. 2 ــــ ومنها: عناية الله سبحانه وتعالى برسوله (ص)، حيث يجيب عن الأسئلة الموجهة إليه؛ وهذا من معونة الله للرسول (ص)، وعنايته به. 3 ــــ ومنها: بيان علم الله، وسمعه، ورحمته؛ لقوله تعالى: { يسألونك }؛ علم الله بسؤالهم، وسمعه، ورحمهم بالإجابة. 4 ــــ ومنها: أن الحكمة من الأهلة أنها مواقيت للناس في شؤون دينهم، ودنياهم؛ لقوله تعالى: { مواقيت للناس 5 ــــ ومنها: أن ميقات الأمم كلها الميقات الذي وضعه الله لهم ــــ وهو الأهلة ــــ؛ فهو الميقات العالمي؛ لقوله تعالى: { مواقيت للناس }؛ وأما ما حدث أخيراً من التوقيت بالأشهر الإفرنجية فلا أصل له من محسوس، ولا معقول، ولا مشروع؛ ولهذا تجد بعض الشهور ثمانية وعشرين يوماً، وبعضها ثلاثين يوماً، وبعضها واحداً وثلاثين يوماً من غير أن يكون سبب معلوم أوجب هذا الفرق؛ ثم إنه ليس لهذه الأشهر علامة حسية يرجع الناس إليها في تحديد أوقاتهم ــــ بخلاف الأشهر الهلالية فإن لها علامة حسية يعرفها كل أحد ــــ. 6 ــــ ومنها: أن الحج مقيد بالأشهر؛ لقوله تعالى: { والحج }. 7 ــــ ومنها: أن البر يكون بالتزام ما شرعه الله، والحذر من معصيته؛ لقوله تعالى: { ولكن البر من اتقى }. 8 ــــ ومنها: أن العادات لا تجعل غير المشروع مشروعاً؛ لقوله تعالى: { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } مع أنهم اعتادوه، واعتقدوه من البر؛ فمن اعتاد شيئاً يعتقده براً عُرِض على شريعة الله. 9 ــــ ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يأتي الأمور من أبوابها؛ لقوله تعالى: { وأتوا البيوت من أبوابها }؛ فإن هذه الآية كما تناولت البيوت الحسية كذلك أيضاً تناولت الأمور المعنوية؛ فإذا أردت أن تخاطب مثلاً شخصاً كبير المنزلة فلا تخاطبه بما تخاطب سائر الناس؛ ولكن ائت من الأبواب؛ لا تتجشم الأمر تجشماً؛ لأنك قد لا تحصل المقصود؛ بل تأتي من بابه بالحكمة، والموعظة الحسنة حتى تتم لك الأمور. 10 ــــ ومن فوائد الآية: أن الله سبحانه وتعالى إذا نهى عن شيء فتح لعباده من المأذون ما يقوم مقامه؛ فإنه لما نفى أن يكون إتيان البيوت من ظهورها من البر بيّن ما يقوم مقامه، فقال تعالى: { وأتوا البيوت من أبوابها }؛ وله نظائر منها قوله تعالى: {لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا} [البقرة: 104] ؛ ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له: «ما شاء الله وشئت»: «أجعلتني لله نداً؛ بل ما شاء الله وحده»(1)؛ والأمثلة في هذا كثيرة. 11 ــــ ومنها: وجوب تقوى الله؛ لقوله تعالى: { واتقوا الله }. 12 ــــ ومنها: أن التقوى تسمى براً. 13 ــــ ومنها: أن التقوى سبب للفلاح؛ لقوله تعالى: { لعلكم تفلحون }. القرآن { )وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة:190) التفسير: { 190 } قوله تعالى: { قاتلوا } فعل أمر؛ والمقاتلة مفاعلة من الجانبين؛ يعني اقتلوهم بمقاتلتهم إياكم؛ ولكن قال: { في سبيل الله } أي في دينه، وشرعه، ولأجله؛ فسبيل الله سبحانه وتعالى يتناول الدين، وأن يكون القتال في حدود الدين، وعلى الوجه المشروع، ولله وحده؛ فهو يتضمن الإخلاص، والمتابعة؛ ولهذا قدم المقاتَل من أجله قبل المقاتَل إشارة إلى أنه ينبغي الإخلاص في هذا القتال؛ لأنه ليس بالأمر الهين؛ فإن المقاتِل يَعرض رقبته لسيوف الأعداء؛ فإذا لم يكن مخلصاً لله خسر الدنيا والآخرة: قتل، ولم تحصل له الشهادة؛ فنبه بتقديم المراد { في سبيل الله } ليكون قتاله مبنياً على الإخلاص. قوله تعالى: { الذين يقاتلونكم } أي ليصدوكم عن دينكم؛ وهذا القيد للإغراء؛ لأن الإنسان إذا قيل له: «قاتل من يقاتلك» اشتدت عزيمته، وقويت شكيمته؛ وعلى هذا فلا مفهوم لهذا القيد. قوله تعالى: { ولا تعتدوا } أي في المقاتلة؛ والاعتداء في المقاتلة يشمل الاعتداء في حق الله، والاعتداء في حق المقاتَلين؛ أما الاعتداء في حق الله فمثل أن نقاتلهم في وقت لا يحل القتال فيه، مثل أن نقاتلهم في الأشهر الحرم على القول بأن تحريم القتال فيها غير منسوخ ــــ؛ وأما في حق المقاتَلين فمثل أن نُمَثِّل بهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة(1). قوله تعالى: { إن الله لا يحب المعتدين }: الجملة هنا تعليل للحكم؛ والحكم: النهي عن الاعتداء. وقوله تعالى: { المعتدين } أي في القتال، وغيره؛ و «الاعتداء» تجاوز ما يحل له. الفوائد: 1- من فوائد الآية: وجوب القتال؛ لقوله تعالى: { وقاتلوا }؛ ووجوب أن يكون في سبيل الله - أي في شرعه، ودينه، ومن أجله -؛ لقوله تعالى: { في سبيل الله }؛ وقد دل الكتاب والسنة على أنه إذا كان العدو من أهل الكتاب - اليهود، والنصارى - فإنهم يدعون إلى الإسلام؛ فإن أبوا أخذت منهم الجزية؛ فإن أبوا قوتلوا؛ واختلف العلماء فيمن سواهم من الكفار: هل يعاملون معاملتهم؛ أو يقاتلون إلى أن يسلموا؛ والقول الراجح أنهم يعاملون معاملتهم، كما يدل عليه حديث بريدة(2) الثابت في صحيح مسلم؛ وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر(3) - وهو يدل على أن أخذ الجزية ليس خاصاً بأهل الكتاب -. 2- ومنها: أنه ينبغي للمتكلم أن يذْكر للمخاطب ما يهيجه على الامتثال؛ لقوله تعالى: { الذين يقاتلونكم }؛ هذا إذا قلنا: إنها قيد للتهييج، والإغراء؛ فإن قلنا: «إنها قيد معنوي يراد به إخراج من لا يقاتلوننا»، اختلف الحكم. 3- ومنها: تحريم الاعتداء حتى على الكفار؛ لقوله تعالى: { ولا تعتدوا }؛ وعلى المسلمين من باب أولى؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لمن يبعثهم، كالسرايا والجيوش: «لا تمثلوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليداً»(4)؛ لأن هذا من العدوان. 4- ومنها: إثبات محبة الله - أي أن الله يحب -؛ لقوله تعالى: { إن الله لا يحب المعتدين }؛ وجه الدلالة: أنه لو كان لا يحب أبداً ما صح أن ينفي محبته عن المعتدين فقط؛ فما انتفت محبته عن هؤلاء إلا وهي ثابتة في حق غيرهم. 5- ومنها: حسن تعليم الله عز وجل، حيث يقرن الحكم بالحكمة؛ لقوله تعالى: { ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين }؛ وقد سبق ذكر فوائد قرن الحكم بالعلة. القرآن {)وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين َ) (البقرة:191) التفسير: { 191 } قوله تعالى: { واقتلوهم }: الضمير الهاء يعود على الكفار الذين يقاتلوننا؛ لقوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} [البقرة: 190] . قوله تعالى: { حيث }: ظرف مكان مبني على الضم في محل نصب - أي اقتلوهم في أي مكان { ثقفتموهم } أي ظفرتم بهم -؛ أولاً قال تعالى: {قاتلوا} [آل عمران: 167] ، ثم قال تعالى: { واقتلوا }؛ والقتل أشد؛ يعني متى وجدنا هذا المحارب الذي يقاتلنا حقيقة أو حكماً، فإننا نقتله في أي مكان؛ لكنه يستثنى من ذلك المسجد الحرام؛ لقوله تعالى: { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه }. قوله تعالى: { أخرجوهم من حيث أخرجوكم }؛ الإخراج يكون من شيء إلى شيء؛ أما القتال فيكون في شيء؛ القتال يكون في مكان؛ والإخراج يكون من المكان؛ ولهذا قال تعالى: { أخرجوهم من حيث أخرجوكم} أي من المكان الذي أخرجوكم منه، فمثلاً إذا قدر أن الكفار غلبوا على هذه البلاد، وأخرجوا المسلمين منها فإن المسلمين يجب عليهم أن يقاتلوهم؛ فإذا قاتلوهم يخرجونهم من البلاد من حيث أخرجوهم؛ فهم الذين اعتدوا علينا، واحتلوا بلادنا؛ فنخرجهم من حيث أخرجونا. قوله تعالى: { والفتنة أشد من القتل }؛ «الفتنة» هي صدّ الناس عن دينهم، كما قال تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم} [البروج: 10] ؛ فصد الناس عن دينهم فتنة أشد من قتلهم؛ لأن قتلهم غاية ما فيه أن نقطعهم من ملذات الدنيا؛ لكن الفتنة تقطعهم من الدنيا، والآخرة، كما قال تعالى: {وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة} [الحج: 11] . قوله تعالى: { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } أي في مكة؛ لأن { المسجد الحرام } هو المسجد نفسه؛ وما «عنده» فهو البلد ــــ أي لا تقاتلوهم في مكة { حتى يقاتلوكم فيه } ــــ؛ و «في» هنا الظاهر أنها للظرفية. قوله تعالى: { فإن قاتلوكم فاقتلوهم } أي إن قاتلوكم عند المسجد الحرام فاقتلوهم؛ وتأمل كيف قال تعالى: { فاقتلوهم }؛ لأن مقاتلتهم إياكم عند المسجد الحرام توجب قتلهم على كل حال. قوله تعالى: { كذلك جزاء الكافرين } أي مثلَ هذا الجزاء - وهو قتل من قاتل عند المسجد الحرام - جزاء الكافرين؛ أي عقوبتهم التي يكافَؤون بها. وقوله تعالى: { ولا تقاتلوهم... }؛ { حتى يقاتلوكم... }؛ { فإن قاتلوكم }؛ { فاقتلوهم }: الجمل هنا الأربع كلها بصيغة المفاعلة إلا واحدة ــــ وهي الأخيرة ــــ؛ وهناك قراءة أخرى؛ وهي: { ولا تقتلوهم }؛ { حتى يقتلوكم }؛ { فإن قتلوكم }؛ { فاقتلوهم }؛ وعلى هذا فتكون الأربع كلها بغير صيغة المفاعلة. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: وجوب قتال الكفار أينما وجِدوا؛ لقوله تعالى: { واقتلوهم حيث ثقفتموهم }؛ ووجوب قتالهم أينما وجدوا يستلزم وجوب قتالهم في أي زمان؛ لأن عموم المكان يستلزم عموم الزمان؛ ويستثنى من ذلك القتال في الأشهر الحرم: فإنه لا قتال فيها؛ لقوله تعالى: { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير }؛ وقال بعض أهل العلم: لا استثناء، وأن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ؛ لكن لوجوب قتالهم شروط؛ من أهمها القدرة على ذلك. 2 ــــ ومنها: أن نخرج هؤلاء الكفار، كما أخرجونا؛ المعاملة بالمثل؛ لقوله تعالى: { وأخرجوهم من حيث أخرجوكم }؛ ولهذا قال العلماء: إذا مثّلوا بنا مثّلنا بهم؛ وإذا قطعوا نخيلنا قطعنا نخيلهم مثلاً بمثل سواءً بسواء. 3 ــــ ومنها: الإشارة إلى أن المسلمين أحق الناس بأرض الله؛ لقوله تعالى: { وأخرجوهم من حيث أخرجوكم }، وقال تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون * إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين} [الأنبياء: 105، 106] ، وقال موسى لقومه: {استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} [الأعراف: 128] . 4 ــــ ومنها: أن الفتنة بالكفر، والصد عن سبيل الله أعظم من القتل. فيتفرع على هذه الفائدة: أن استعمار الأفكار أعظم من استعمار الديار؛ لأن استعمار الأفكار فتنة؛ واستعمار الديار أقصى ما فيها إما القتل، أو سلب الخيرات، أو الاقتصاد، أو ما أشبه ذلك؛ فالفتنة أشد؛ لأنها هي القتل الحقيقي الذي به خسارة الدين، والدنيا، والآخرة. 5 ــــ ومنها: تعظيم حرمة المسجد الحرام؛ لقوله تعالى: { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه }. 6 ــــ ومنها: جواز القتال عند المسجد الحرام إذا بدأَنا بذلك أهله؛ لقوله تعالى: { حتى يقاتلوكم فيه }؛ ولا يعارض هذا قول رسول الله (ص): «فإن أحد ترخص بقتال رسول الله (ص) فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم»(1)؛ الممنوع هو ابتداء القتال لندخل مكة؛ فهذا حرام، ولا يجوز مهما كان الأمر؛ وأما إذا قاتلونا في مكة فإننا نقاتلهم من باب المدافعة. 7 ــــ ومن فوائد الآية: المبالغة في قتال الأعداء إذا قاتلونا في المسجد الحرام؛ لقوله تعالى: { فإن قاتلوكم فاقتلوهم }. 8 ــــ ومنها: وجوب مقاتلة الكفار حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله؛ وقتال الكفار في الأصل فرض كفاية؛ وقد يكون مستحباً؛ وقد يكون فرض عين ــــ وذلك في أربعة مواضع ــــ: الموضع الأول: إذا حضر صف القتال فإنه يكون فرض عين؛ ولا يجوز أن ينصرف؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار * ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} [الأنفال: 15، 16] . الموضع الثاني: إذا حصر بلده العدو فإنه يتعين القتال من أجل فكّ الحصار عن البلد؛ ولأنه يشبه من حضر صف القتال. الموضع الثالث: إذا احتيج إليه؛ إذا كان هذا الرجل يحتاج الناس إليه إمّا لرأيه، أو لقوته، أو لأيّ عمل يكون؛ فإنه يتعين عليه. الموضع الرابع: إذا استنفر الإمام الناس وجب عليهم أن يخرجوا، ولا يتخلف أحد؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة...} [التوبة: 38 إلى قوله تعالى: {إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم...} [التوبة: 39] الآية. وما سوى هذه المواضع فهو فرض كفاية؛ واعلم أن الفرض سواء قلنا فرض عين، أو فرض كفاية لا يكون فرضاً إلا إذا كان هناك قدرة؛ أما مع عدم القدرة فلا فرض ؛ لعموم الأدلة الدالة على أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولقوله تعالى: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله} [التوبة: 91] ؛ فإذا كنا لا نستطيع أن نقاتل هؤلاء لم يجب علينا؛ وإلا لأثَّمْنا جميع الناس مع عدم القدرة؛ ولكنه مع ذلك يجب أن يكون عندنا العزم على أننا إذا قدرنا فسنقاتل؛ ولهذا قيدها الله عز وجل بقوله تعالى: {إذا نصحوا لله ورسوله} [التوبة: 91] ؛ ليس على هؤلاء الثلاثة حرج بشرط أن ينصحوا لله ورسوله؛ فأما مع عدم النصح لله ورسوله، فعليهم الحرج ــــ حتى وإن وجدت الأعذار في حقهم ــــ. فالحاصل أننا نقول إن القتال فرض كفاية؛ ويتعين في مواضع؛ وهذا الفرض ــــ كغيره من المفروضات ــــ من شرطه القدرة ؛ أما مع العجز فلا يجب؛ لكن يجب أن يكون العزم معقوداً على أنه إذا حصلت القوة جاهدنا في سبيل الله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من النفاق»(2). 9 ــــ ومن فوائد الآية: إثبات العدل لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { كذلك جزاء الكافرين }؛ والجزاء من جنس العمل. القرآن {)فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:192) التفسير: { 192 } قوله تعالى: { فإن انتهوا } أي كفوا عن قتالكم؛ ويحتمل أن يكون المراد: كفوا عن قتالكم، وعن كفرهم؛ فعلى الأول يكون المراد بقوله تعالى: { فإن الله غفور رحيم } طلب مغفرة المسلمين لهم بالكف عنهم؛ وعلى الثاني يكون المراد أن الله غفر لهم؛ لقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38] . الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: تمام عدل الله سبحانه وتعالى، حيث جعل أحكامه، وعقوبته مبنية على عدوان من يستحق هذه العقوبة فقال تعالى: { فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم }. 2 ــــ ومنها: وجوب الكف عن الكفار إذا انتهوا عما هم عليه من الكفر؛ فلا يؤاخذون بما حصل منهم حال كفرهم؛ ويؤيد هذا قوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38] . 3 ــــ ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله، وما تضمناه من صفة، أو حكم؛ وهما «الغفور» ، و «الرحيم» . 4 ــــ ومنها: أخذ الأحكام الشرعية مما تقتضيه الأسماء الحسنى؛ ولها نظائر؛ منها قوله تعالى في المحاربين: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} [المائدة: 34] . القرآن { )وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة:193) التفسير: { 193 } قوله تعالى: { وقاتلوهم } أي قاتلوا الكفار { حتى لا تكون فتنة } أي صد عن سبيل الله بأن يكفوا عن المسلمين، ويدخلوا في الإسلام، أو يبذلوا الجزية؛ { ويكون الدين لله } أي يكون الدين الظاهر الغالب لله تعالى أي دين الله ــــ. قوله تعالى: { فإن انتهوا } أي عن قتالكم، وعن كفرهم، ورجعوا { فلا عدوان إلا على الظالمين }؛ وهم قد انتفى عنهم الظلم؛ وحينئذ لا يكون عليهم عدوان. وقوله هنا: { فلا عدوان }: قيل: إن معناه فلا سبيل، كما في قوله تعالى في قصة موسى: {أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل} [القصص: 28] أي لا سبيل عليّ؛ وقيل: { فلا عدوان } أي لا مقاتلة؛ لأنه تعالى قال: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه} [البقرة: 194] ؛ وهي من باب مقابلة الشيء بمثله لفظاً؛ لأنه سببه؛ وليس معناه: أن فعلكم هذا عدوان؛ لكن لما صار سببه العدوان صح أن يعبر عنه بلفظه. وقوله تعالى: { فلا عدوان إلا على الظالمين }: خبر «لا» يجوز أن يكون الجار والمجرور في قوله تعالى: { على الظالمين }؛ ويجوز أن يكون خبر «لا» محذوفاً؛ والتقدير: فلا عدوان حاصل ــــ أو كائن ــــ إلا على الظالمين. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: أن الأمر بقتالهم مقيد بغايتين؛ غاية عدمية: { حتى لا تكون فتنة } أي حتى لا توجد فتنة؛ و «الفتنة» هي الشرك، والصد عن سبيل الله؛ والغاية الثانية إيجابية: { ويكون الدين لله } بمعنى: أن يكون الدين غالباً ظاهراً لا يعلو إلا الإسلام فقط؛ وما دونه فهو دين معلو عليه يؤخذ على أصحابه الجزية عن يد وهم صاغرون. 2 ــــ ومنها: أنه إذا زالت الفتنة، وقيام أهلها ضد الدعوة الإسلامية ــــ وذلك ببذل الجزية ــــ فإنهم لا يقاتلون. 3 ــــ ومنها: أنهم إذا انتهوا ــــ إما عن الشرك: بالإسلام؛ وإما عن الفتنة: بالاستسلام ــــ فإنه لا يعتدى عليهم؛ لقوله تعالى: { فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين }. 4 ــــ ومنها: أن الظالم يجازى بمثل عدوانه؛ لقوله تعالى: { فلا عدوان إلا على الظالمين }؛ وقد قلنا فيما سبق: إن مثل هذا التعبير يراد به المماثلة بالفعل ــــ يعني: أن تسمية المجازاة اعتداءً من باب المشاكلة حتى يكون الجزاء من جنس العمل. القرآن {)الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة:194) التفسير: { 194 } قوله تعالى: { الشهر الحرام بالشهر الحرام }: الجملة مبتدأ، وخبر؛ ومعناها: إذا قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم فيه؛ وهذا في انتهاك الزمن؛ وقوله تعالى فيما سبق: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم} [البقرة: 191] في انتهاك المكان. قوله تعالى: { والحرمات قصاص }؛ { الحرمات } جمع حُرُم؛ والمراد بـ«الحرم» كل ما يحترم من زمان، أو مكان، أو منافع، أو أعيان؛ لأن «حُرُم» جمع حرام؛ و«حرمات» جمع حُرُم؛ فالمعنى: أن المحترم يقتص منه بمحترم آخر؛ ومعنى ذلك أن من انتهك حرمة شيء فإنه تنتهك حرمته: فمن انتهك حرمة الشهر انتهكت حرمته في هذا الشهر؛ ومن انتهك عِرض مؤمن انتهك عِرض مثله؛ ومن انتهك نفس مؤمن فقتله انتهكت حرمة نفسه بقتله؛ وهكذا. وكل هذا التأكيد من الله عز وجل في هذه الآيات من أجل تسلية المؤمنين؛ لأن المؤمنين لا شك أنهم يحترمون الأشهر الحرم والقتال فيها؛ ولكن الله تعالى سلاهم بذلك بأن الحرمات قصاص؛ فكما أنهم انتهكوا ما يجب احترامه بالنسبة لكم فإن لكم أن تنتهكوا ما يجب احترامه بالنسبة إليهم؛ ولهذا قال تعالى مفرعاً على ذلك: { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }. قوله تعالى: { فمن اعتدى عليكم } أي من تجاوز الحد في معاملتكم سواء كان ذلك بأخذ المال، أو بقتل النفس، أو بالعرض، أو بما دون ذلك، أو أكثر فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم. وقوله تعالى هنا: { فاعتدوا عليه }: ليس أخذنا بالقصاص اعتداء؛ ولكنه سمي اعتداءً؛ لأنه مسبَّب عن الاعتداء؛ فكأنه يقول: أنتم إذا اعتدى عليكم أحد فخذوا حقكم منه؛ ثم فيه نكتة أخرى أن العادي يرى نفسه في مقام أعز من المعتدى عليه، وأرفع منه؛ ولو كان يرى نفسه في مكان دونه لم يعتدِ؛ فكأنه يقول: إن قصاصكم يعتبر أيضاً عزاً لكم؛ كما أنه هو طغى واعتدى، فأنتم الآن يعتبر قصاصكم بمنزلة المرتبة العليا بالنسبة إليهم؛ وإن شئت فقل: أطلق على المجازاة اعتداءً من باب المشاكلة اللفظية. قوله تعالى: { بمثل ما اعتدى عليكم }: ادعى بعضهم أن الباء هنا زائدة، وقال: إن التقدير: فاعتدوا عليه مثل ما اعتدى عليكم؛ على أن تكون «مثل» هنا مفعولاً مطلقاً ــــ أي عدواناً، أو اعتداءً مثل اعتدائه ــــ؛ ولكن الصواب أنها ليست زائدة، وأنّها أصلية؛ وأن المعنى: اعتدوا عليه بمثله؛ فالباء للبدل؛ بحيث يكون المثل مطابقاً لما اعتدى عليكم به في هيئته، وفي كيفيته، وفي زمنه، وفي مكانه؛ فإذا اعتدى عليكم أحد بقتال في الحرم فاقتلوه؛ وإذا اعتدى عليكم أحد بقتال في الأشهر الحرم فقاتلوه؛ فتكون الباء هنا دالة على المقابلة، والعوض. قوله تعالى: [ واتقوا الله } أي اتخذوا وقاية من عذابه بفعل أوامره، واجتناب نواهيه؛ وفي هذا المقام اتقوا الله فلا تتعدَّوا ما يجب لكم من القصاص؛ لأن الإنسان إذا ظُلِم فإنه قد يتجاوز، ويتعدى عند القصاص. قوله تعالى: { واعلموا أن الله مع المتقين }؛ أمر بالعلم بأن الله مع المتقين؛ وهو أوكد من مجرد الخبر؛ والمراد به العلم مع الاعتقاد. وقوله تعالى: { مع المتقين } أي المتخذين وقاية من عذاب الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: تسلية الله عز وجل للمسلمين بأنهم إذا فاتهم قضاء عمرتهم في الشهر الحرام فيمكنهم أن يقضوها في الشهر الحرام من السنة الثانية، كما حصل في الحديبية. 2 ــــ ومنها: أن الحرمات قصاص؛ يعني أن من انتهك حرمتك لك أن تنتهك حرمته مثلاً بمثل؛ ولهذا فرع عليها قوله تعالى: { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }. 3 ــــ ومنها: أن المعتدي لا يجازى بأكثر من عدوانه؛ لقوله تعالى: { بمثل ما اعتدى عليكم }؛ فلا يقول الإنسان: أنا أريد أن أعتدي بأكثر للتشفي؛ ومن ثم قال العلماء: «إنه لا يقتص من الجاني إلا بحضرة السلطان، أو نائبه» خوفاً من الاعتداء؛ لأن الإنسان يريد أن يتشفى لنفسه، فربما يعتدي بأكثر. 4 ــــ ومنها: وجوب تقوى الله عز وجل في معاملة الآخرين؛ بل في كل حال؛ لقوله تعالى: { واتقوا الله}. 5 ــــ ومنها: إثبات أن الله مع المتقين؛ لقوله تعالى: { واعلموا أن الله مع المتقين }؛ والمعية تنقسم إلى قسمين: عامة، وخاصة؛ فالعامة هي الشاملة للخلق كلهم، وتقتضي الإحاطة بهم علماً، وقدرة، وسلطاناً، وسمعاً، وبصراً، وغير ذلك من معاني الربوبية؛ لقوله تعالى: {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا} [المجادلة: 7] ؛ وأما الخاصة فهي المقيدة بوصف، أو بشخص؛ مثال المقيدة بوصف قوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128] ؛ ومثال المقيدة بشخص قوله تعالى لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] ، وقوله تعالى فيما ذكره عن نبيه (ص): {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40] . تــنــبــيــه: اعلم أن ما أثبته الله لنفسه من المعية لا ينافي ما ذَكر عن نفسه من العلو لأنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، ولا يقاس بخلقه؛ فمعيته ثابتة مع علوه تبارك وتعالى؛ وإذا كان العلو، والمعية لا يتناقضان في حق المخلوق ــــ فإنهم يقولون: «ما زلنا نسير والقمر معنا»، ولا يعدون ذلك تناقضاً مع أن القمر في السماء ــــ فثبوت ذلك في حق الخالق من باب أولى ــــ؛ وبهذا يبطل قول من زعم أن معية الله تستلزم أن يكون في الأرض مختلطاً بالخلق؛ فإن هذا قول باطل باتفاق السلف المستنِد على الكتاب، والسنة في إثبات علو الله فوق خلقه؛ وتفصيل القول في هذا مدوَّن في كتب العقائد. 6 ــــ ومن فوائد الآية: تأكيد هذه المعية؛ ولهذا قال تعالى: { واعلموا }؛ ولم يقتصر على مجرد أن يخبر بها؛ بل أمرنا أن نعلم بذلك؛ وهذا أمر فوق مجرد الإخبار. 7 ــــ ومنها: بيان إحاطة الله عز وجل بالخلق، وتأييده بالمتقين الذين يقومون بتقواه؛ ووجه ذلك: أنه من المعلوم بالكتاب، والسنة، والعقل، والفطرة أن الله فوق جميع الخلق؛ ومع ذلك أثبت أنه مع الخلق. 8 ــــ ومنها: فضيلة التقوى، حيث ينال العبد بها معية الله؛ فإنه من المعلوم إذا كان الله معك ينصرك، ويؤيدك، ويثبتك فهذا يدل على فضيلة السبب الذي هو التقوى؛ لقوله تعالى: { واعلموا أن الله مع المتقين }. القرآن {)وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:195) التفسير: (195)} قوله تعالى: { وأنفقوا في سبيل الله } أي ابذلوا الأموال في الجهاد في سبيل الله؛ ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعم من الجهاد ليشمل كل ما يقرب إلى الله عز وجل، ويوصل إليه. قوله تعالى: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } بعضهم يقول: إن الباء هنا زائدة؛ أي لا تلقوا أيديكم إلى التهلكة؛ والصواب أنها أصلية، وليست بزائدة؛ ولكن ضمنت معنى الفعل «الإفضاء» أي لا تفضوا بأيديكم إلى التهلكة؛ و{ التهلكة }: من الهلاك؛ والمعنى لا تلقوها إلى ما يهلككم، ويشمل الهلاك الحسي والمعنوي، فالمعنوي مثل أن يدع الجهاد في سبيل الله، أو الإنفاق فيه؛ والحسي أن يعرض نفسه للمخاطر، مثل أن يلقي نفسه في نار، أو في ماء يغرقه، أو ينام تحت جدار مائل للسقوط، أو ما أشبه ذلك. قوله تعالى: { وأحسنوا } أي افعلوا الإحسان في عبادة الخالق؛ وفي معاملة المخلوق؛ أما الإحسان في عبادة الخالق فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»(1)؛ وأما الإحسان في معاملة الخلق: فأن تعاملهم بما تحب أن يعاملوك به من بذل المعروف، وكفّ الأذى. قوله تعالى: { إن الله يحب المحسنين } تعليل للأمر بالإحسان؛ ولو لم يكن من الإحسان إلا هذا لكان كافياً للمؤمن أن يقوم بالإحسان. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: الأمر بالإنفاق في سبيل الله؛ والزكاة تدخل في هذا الإنفاق؛ بل هي أول ما يدخل؛ لأنها أوجب ما يجب من الإنفاق في سبيل الله؛ وهي أوجب من الإنفاق في الجهاد، وفي صلة الرحم، وفي بر الوالدين؛ لأنها أحد أركان الإسلام. 2 ــــ ومنها: الإشارة إلى الإخلاص في العمل؛ لقوله تعالى: { في سبيل الله }؛ ويدخل في هذا: القصد، والتنفيذ ــــ أن يكون القصد لله ــــ، وأن يكون التنفيذ على حسب شريعة الله، كما قال تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} [الفرقان: 67] . 3 ــــ ومنها: تحريم الإلقاء باليد إلى التهلكة؛ لقوله تعالى: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة }؛ والإلقاء باليد إلى التهلكة يشمل التفريط في الواجب، وفعل المحرم؛ أو بعبارة أعم: يتناول كل ما فيه هلاك الإنسان، وخطر في دينه، أو دنياه. 4 ــــ ومنها: أن ما كان سبباً للضرر فإنه منهي عنه؛ ومن أجل هذه القاعدة عرفنا أن الدخان حرام؛ لأنه يضر باتفاق الأطباء، كما أن فيه ضياعاً للمال أيضاً؛ وقد نهى (ص) عن إضاعة المال(2). 5 ــــ ومنها: الأمر بالإحسان؛ لقوله تعالى: { وأحسنوا }؛ وهل الأمر للوجوب، أو للاستحباب؟ الجواب: أما الإحسان الذي به تمام الواجب فالأمر فيه للوجوب؛ وأمّا الإحسان الذي به كمال العمل فالأمر فيه للاستحباب. 6 ــــ ومنها: فضيلة الإحسان، والحث عليه؛ لقوله تعالى: { إن الله يحب المحسنين }. 7 ــــ ومنها: إثبات المحبة لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { إن الله يحب المحسنين }؛ وهي محبة حقيقية على ظاهرها؛ وليس المراد بها الثواب؛ ولا إرادة الثواب خلافاً للأشاعرة، وغيرهم من أهل التحريف الذين يحرفون هذا المعنى العظيم إلى معنًى لا يكون بمثابته؛ فإن مجرد الإرادة ليست بشيء بالنسبة للمحبة؛ وشبهتهم أن المحبة إنما تكون بين شيئين متناسبين؛ وهذا التعليل باطل، ومخالف للنص، ولإجماع السلف، ومنقوض بما ثبت بالسمع والحس من أن المحبة قد تكون بين شيئين غير متناسبين؛ فقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم أن أُحُداً - وهو حصى - جبل يحبنا ونحبه(3)؛ والإنسان يجد أن دابته تحبه، وهو يحبها؛ فالبعير إذا سمعت صوت صاحبها حنت إليه، وأتت إليه؛ وكذلك غيره من المواشي؛ والإنسان يجد أنه يحب نوعاً من ماله أكثر من النوع الآخر. القرآن {)وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (البقرة:196) التفسير: { 196 } قوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله } أي ائتوا بهما تامتين؛ وهذا يشمل كمال الأفعال في الزمن المحدد، وكذلك صفة الحج، والعمرة - أن تكون موافقة تمام الموافقة لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم به واللام في قوله تعالى: { لله } تفيد الإخلاص - يعني مخلصين لله عز وجل ممتثلين لأمره -. قوله تعالى: { فإن أحصرتم } أي منعتم عن إتمامها { فما استيسر } أي فعليكم ما تيسر من الهدي؛ وزيادة الهمزة، والسين للمبالغة في تيسر الأمر؛ و{ من الهدي } أي الهدي الشرعي؛ فـ«أل» فيه للعهد الذهني؛ والهدي الشرعي هو ما كان ثنياً مما سوى الضأن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تذبحوا إلا مسنَّة إلا إن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن»(1)؛ وهذا النهي يشمل كل ما ذبح تقرباً إلى الله عز وجل من هدي، أو أضحية، أو عقيقة. قوله تعالى: { ولا تحلقوا رؤوسكم } أي لا تزيلوها بالموسى { حتى يبلغ الهدي محله }: «محل» يحتمل أن تكون اسم زمان؛ والمعنى: حتى يصل إلى يوم حلوله - وهو يوم العيد -؛ وثبتت السنة بأن من قدّم الحلق على النحر فلا حرج عليه(2)؛ ويحتمل أن المعنى: حتى يذبح الهدي؛ وتكون الآية فيمن ساق الهدي؛ ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما بال الناس حلوا ولم تحل؟ فقال (ص): «إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر»(3). قوله تعالى: { فمن كان منكم مريضاً } أي واحتاج إلى حلق الرأس؛ { أو به أذًى من رأسه } وهو صحيح، كما لو كان الرأس محلاً للأذى، والقمل، وما أشبه ذلك؛ { ففدية } أي فعليه فدية يفدي بها نفسه من العذاب { من صيام أو صدقة أو نسك }؛ { أو } هنا للتخيير؛ وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن «الصيام» ثلاثة أيام(4)، وأن «الصدقة» إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع(3)؛ وأما «النسك» فهو ذبح شاة()؛ وهذه الجملة قد حذف منها ما يدل عليه السياق؛ والتقدير: فمن كان منكم مريضاً، أو به أذًى من رأسه، فحلق رأسه فعليه فدية. { فإذا أمنتم } أي من العدو ــــ يعني فأتموا الحج والعمرة ــــ. ثم فصّل الله عز وجل المناسك فقال: { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } أي فمن أتى بالعمرة متمتعاً بحله منها بما أحل الله له من محظورات الإحرام { إلى الحج } أي إلى ابتداء زمن الحج؛ وهو اليوم الثامن من ذي الحجة { فما استيسر من الهدي } أي فعليه ما استيسر من الهدي شكراً لله على نعمة التحلل؛ ويقال في هذه الجملة ما قيل في الجملة التي سبقت في الإحصار. قوله تعالى: { فمن لم يجد } أي فمن لم يجد الهدي، أو ثمنه { فصيام ثلاثة أيام } أي فعليه صيام ثلاثة أيام { في الحج } أي في أثناء الحج، وفي أشهره. قوله تعالى: { وسبعة إذا رجعتم } أي إذا رجعتم من الحج بإكمال نسكه، أو إذا رجعتم إلى أهليكم. قوله تعالى: { تلك عشرة كاملة } للتأكيد على أن هذه الأيام العشرة وإن كانت مفرقة فهي في حكم المتتابعة. قوله تعالى: { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام }، أي ذلك التمتع الموجب للهدي. وقوله تعالى: { أهله }: قيل: المراد به نفسه ــــ أي لمن لم يكن حاضراً المسجد الحرام ــــ؛ وقيل: المراد بـ «الأهل» سكنه الذي يسكن إليه من زوجة، وأب، وأم، وأولاد، وما أشبه ذلك؛ فيكون المعنى: ذلك لمن لم يكن سكنه حاضري المسجد الحرام؛ وهذا أصح؛ لأن التعبير بـ «الأهل» عن النفس بعيد؛ ولكن { أهله } أي الذين يسكن إليهم من زوجة، وأب، وأم، وأولاد هذا هو الواقع. وقوله تعالى: { حاضري المسجد الحرام } المراد به مسجد مكة؛ و{ الحرام } صفة مشبهة بمعنى ذي الحرمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس»(1)؛ وحرمة المسجد الحرام معروفة من وجوه كثيرة ليس هذا موضع ذكرها. واختلف في المراد بـ{ حاضري المسجد الحرام } فقيل: هم أهل الحرم ــــ يعني: من كانوا داخل حدود الحرم ــــ؛ فمن كان خارج حدود الحرم فليسوا من حاضري المسجد الحرام؛ وروي هذا عن ابن عباس، وجماعة من السلف، والخلف؛ وقيل: حاضرو المسجد الحرام أهل المواقيت، ومن دونهم؛ وعلى هذا فأهل بدر من حاضري المسجد الحرام؛ لأنهم دون المواقيت؛ وأهل جدة من حاضري المسجد الحرام؛ لأنهم دون المواقيت؛ وقيل: حاضرو المسجد الحرام أهل مكة، ومن بينهم وبين مكة دون مسافة القصر؛ وهي يومان؛ وعلى هذا فأهل جدة، وأهل بدر ليسوا من حاضري المسجد الحرام؛ وأهل بحرة - وهي بلدة دون جدة - على هذا القول يكون أهلها من حاضري المسجد الحرام؛ لأنهم داخل المسافة؛ وأهل الشرائع من حاضري المسجد الحرام؛ والأقرب القول الأول أن حاضري المسجد الحرام هم أهل الحرم؛ وأما من كان من غير أهل الحرم فليسوا من حاضريه؛ بل هم من محل آخر؛ وهذا هو الذي ينضبط. قوله تعالى: { واتقوا الله } أي الزموا تقوى الله عز وجل؛ وذلك بفعل أوامره، واجتناب نواهيه. قوله تعالى: { واعلموا أن الله شديد العقاب } أي شديد المؤاخذة، والعقوبة لمن لم يتقه تبارك وتعالى؛ وسميت المؤاخذة عقاباً؛ لأنها تأتي عقب الذنب. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: وجوب إتمام الحج، والعمرة؛ وظاهر الآية أنه لا فرق بين الواجب منهما، وغير الواجب؛ ووجه هذا الظاهر: العموم في قوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة }؛ فيكون شاملاً للفريضة، والنافلة؛ ويؤيده أن هذه الآية نزلت قبل فرض الحج؛ لأن الحج إنما فرض في السنة التاسعة في قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} [آل عمران: 97] ؛ السنة التي يسميها العلماء سنة الوفود. 2 ــــ ومن فوائد الآية: أن العمرة، والحج سواء في وجوب إتمامهما؛ لقوله تعالى: { الحج والعمرة }. 3 ــــ ومنها: أنه لا تجوز الاستنابة في شيء من أفعال الحج، والعمرة؛ فلو أن أحداً استناب شخصاً في أن يطوف عنه، أو أن يسعى عنه، أو أن يقف عنه بعرفة، أو أن يقف عنه بمزدلفة، أو أن يرمي عنه الجمار، أو أن يبيت عنه في منى فإنه حرام؛ لأن الأمر بالإتمام للوجوب؛ فيكون في ذلك رد لقول من قال من أهل العلم: إنه تجوز الاستنابة في نفل الحج، وفي بعضه: أما الاستنابة في نفل الحج ــــ كل النسك ــــ فهذا له موضع آخر؛ وأما في بعضه فالآية تدل على أنها لا تصح. 4 ــــ ومن فوائد الآية: الحذر مما يفعله بعض الناس الآن من التساهل في رمي الجمرات، حيث إنهم يوكلون من يرمي عنهم بدون عذر مخالفة لقوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله }؛ وعليه فلا يصح رمي الوكيل حينئذ؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم): «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»(2) أي مردود عليه؛ أما إذا كان لعذر كالمريض، والخائف على نفسه من شدة الزحام إذا لم يكن وقت آخر للرمي يخف فيه الزحام فلا بأس أن يستنيب من يرمي عنه؛ ولولا ورود ذلك عن الصحابة لقلنا: إن العاجز عن الرمي بنفسه يسقط عنه الرمي كسائر الواجبات، حيث تسقط بالعجز؛ ويدل لعدم التهاون بالتوكيل في الرمي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لسودة بنت زمعة أن توكل؛ بل أمرها أن تخرج من مزدلفة، وترمي قبل حطمة الناس(3)؛ ولو كان التوكيل جائزاً لمشقة الزحام لكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبقيها معه حتى تدرك بقية ليلة المزدلفة، وتدرك صلاة الفجر فيها، وتدرك القيام للدعاء بعد الصلاة؛ ولا تُحْرَم من هذه الأفعال؛ فلما أذن لها في أن تدفع بليل عُلم بأن الاستنابة في الرمي في هذا الأمر لا يجوز؛ وكذلك لو كان جائزاً لأذن للرعاة أن يوكلوا، ولم يأذن لهم بأن يرموا يوماً، ويدعوا يوماً. 5- ومن فوائد الآية: وجوب الإخلاص لله؛ لقوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله } يعني أتموها لله لا لغيره؛ لا تراعوا في ذلك جاهاً، ولا رتبة، ولا ثناءً من الناس. 6- ومنها: أن الحج، والعمرة يخالفان غيرهما في وجوب إتمام نفلهما؛ لقوله تعالى: { وأتموا }؛ والأمر للوجوب؛ ويدل على أنه للوجوب قوله تعالى: { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي }، حيث أوجب الهدي عند الإحصار؛ أما غيرهما من العبادات فإن النفل لا يجب إتمامه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أهله ذات يوم فقال: «هل عندكم شيء؟ قالوا: نعم، حيس؛ قال: أرينيه؛ فلقد أصبحت صائماً؛ فأكل»(1)؛ لكن يكره قطع النفل إلا لغرض صحيح - كحاجة إلى قطعه، أو انتقال لما هو أفضل منه -. 7- ومن فوائد الآية: أنه إذا أحصر الإنسان عن إتمام الحج والعمرة فله أن يتحلل؛ ولكن عليه الهدي؛ لقوله تعالى: { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى }. 8- ومنها: أن الله تعالى أطلق الإحصار، ولم يقيده؛ لقوله تعالى: { فإن أحصرتم }؛ لأن الفعل لو بُني للفاعل، وذُكر الفاعل اختص الحكم به؛ فإذا قلت مثلاً: «أقام زيد عمراً» صار المقيم زيداً؛ وإذا قلت: «أقيم عمرٌو» صار عاماً؛ فظاهر الآية شمول الإحصار لكل مانع من إتمام النسك؛ فكل ما يمنع من إتمام النسك فإنه يجوز التحلل به، وعليه الهدي؛ أما الإحصار بالعدو فأظنه محل إجماع فيتحلل بالنص، والإجماع؛ النص: تحلل الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديبية(2)؛ والإجماع: لا نعلم في هذا مخالفاً؛ وأما الحصر بغير عدو، كمرض، أو كسر، أو ضياع نفقة، أو ما أشبه ذلك مما لا يستطيع معه إتمام الحج، والعمرة؛ فإن العلماء اختلفوا في ذلك؛ فمنهم من قال: إنه لا يتحلل، ويبقى محرماً حتى يزول المانع؛ ومنهم من قال: إنه يتحلل، كالحصر بالعدو؛ حجة الأولين: أن الله تعالى قال: { فإن أحصرتم }؛ والآية نزلت في شأن قضية الحديبية؛ وهم قد أحصروا بعدو؛ فيكون الحصر هنا خاصاً بالعدو؛ ودليل آخر: يقولون: ضباعة بنت الزبير لما جاءت تشتكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنها مريضة، وأنها تريد الحج قال لها: «حجي واشترطي»(3)؛ فلو كان الإحصار بالمرض مبيحاً للتحلل ما احتيج إلى اشتراط؛ فكانت تدخل في النسك، وإذا عجزت تحللت؛ وأجاب القائلون بأن الحصر عام بحصر العدو وغيره بأن الآية مطلقة: { فإن أحصرتم }؛ لم تقيد بحصر العدو؛ والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لأن العلة في جواز التحلل بحصر العدو عدم القدرة على إتمام النسك؛ وهذا حاصل بالحصر بغير العدو؛ والشرع لا يفرق بين متماثلين؛ وأجابوا عن حديث ضباعة بأن يقال: إن الفائدة من حديث ضباعة أنه إذا حصل مرض يمنع من إتمام النسك فإنها تتحلل بلا شيء؛ وأما إذا لم تشترط فإنها لا تتحلل إلا بدم؛ وحينئذ تظهر فائدة اشتراط من خاف أن يعوقه مرض، أو نحوه عن إتمام النسك؛ والفائدة هي أنه لا يجب عليه الهدي لو تحلل بهذا الحصر؛ والصواب القول الثاني: أن الإحصار يكون بالعدو، وبغيره. فإن قال قائل: إن قوله تعالى في سياق الآية: { فإذا أمنتم } يشير إلى أن الإحصار المذكور بعدو؟ فالجواب: أن ذكر بعض أفراد العام بحكم يوافق العام لا يقتضي التخصيص، كما هو قول المحققين من أهل أصول الفقه، وغيرهم؛ ونظير ذلك حديث جابر رضي الله عنه: «قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم؛ فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة»(4)؛ فإن قوله: «فإذا وقعت الحدود...» الخ لا يستلزم اختصاص الشفعة بما له حدود، وطرق؛ بل الشفعة ثابتة في كل مشترك على القول الراجح. 9- ومن فوائد الآية: وجوب الهدي على من أحصر؛ لقوله تعالى: { فما استيسر من الهدي }. 10- ومنها: أن من تعذر، أو تعسر عليه الهدي فلا شيء عليه؛ لقوله تعالى: { فما استيسر من الهدي}؛ ولم يذكر الله بديلاً عند العجز؛ وقال بعض أهل العلم: إنه إذا لم يجد هدياً صام عشرة أيام، ثم حلّ - قياساً على هدي التمتع -؛ ولكن هذا القياس ليس بصحيح من وجهين: الوجه الأول: أنه مخالف لظاهر الآية؛ لأن الله لم يذكر بديلاً للهدي. الوجه الثاني: أن تحلل المتمتع تحلل اختياري؛ وأما المحصر فتحلله اضطراري. 11 ــــ ومن فوائد الآية: أنه لا يجب على المحصر الحلق عند التحلل؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يذكره؛ وهو أحد القولين في المسألة؛ والقول الثاني: وجوب الحلق؛ لثبوته بالسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، وغضب على الصحابة حين تأخروا في تنفيذه(1)؛ ولا يغضب النبي صلى الله عليه وسلم لترك مستحب؛ لا يغضب إلا لترك واجب. 12 ــــ ومنها: أن المحصر لا يجب عليه القضاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يذكره؛ ولو كان القضاء واجباً لذكره الله عز وجل؛ وهذا يشمل من حصر في فريضة؛ ومن حصر في نافلة؛ لكن الفريضة إذا حصر عن إتمامها يلزمه فعلها بالخطاب الأول؛ لا على أنه بدل عن هذه التي أحصر عنها؛ فمثلاً رجلاً شرع في حج الفريضة، ثم أحصر عن إتمامها، فذبح الهدي، وتحلل؛ فيجب الحج عليه بعد ذلك؛ لكن ليس على أنه قضاء؛ لكن على أنه مخاطب به في الأصل؛ وتسمية العمرة التي وقعت بعد صلح الحديبية عمرة القضاء ليست لأنها قضاء عما فات؛ ولكنها من «المقاضاة» ــــ وهي المصالحة ــــ؛ ولذلك لم يأت بها كل من تحلل من عمرة الحديبية. 13 ــــ ومن فوائد الآية: أنه لا بد أن يكون هذا الهدي مما يصح أن يهدَى: بأن يكون بالغاً للسن المعتبر سالماً من العيوب المانعة من الإجزاء؛ لقوله تعالى: { من الهدي }؛ و «أل» هنا للعهد الذهني المعلوم للمخاطب؛ وهو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تذبحوا إلا مسنة إلا إن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن»(2). فإن قال قائل: هل يؤكل من هذا الهدي أم لا؟ فالجواب: يؤكل؛ كل شيء فيه: { فما استيسر } فهو يؤكل؛ وأما ما فيه: «فعليه» فإنه لا يؤكل؛ فجزاء الصيد لا يؤكل منه؛ وفدية الأذى لا يؤكل منها؛ لأن الله جعلها كفارة؛ أما ما استيسر من الهدي هنا، وفي التمتع فإنه يؤكل منه. 14 ــــ ومن فوائد الآية: تحريم حلق الرأس على المحرم؛ لقوله تعالى: { ولا تحلقوا رؤوسكم }؛ والنهي عام لكل الرأس، ولبعضه؛ إذاً لو حلق بعضه وقع في الإثم؛ لأن النهي يتناول جميع أجزاء المنهي عنه؛ فإذا قلت لك: «لا تأكل هذه الخبزة» وأكلت منها فإنك لم تمتثل. 15 ــــ ومنها: أنه لا يحرم حلق شعر غير الرأس؛ لأن الله خص النهي بحلق الرأس فقط؛ وأما الشارب، والإبط، والعانة، والساق، والذراع، فلا يدخل في الآية الكريمة؛ لأنه ليس من الرأس؛ والأصل الحل؛ وهذا ما ذهب إليه أهل الظاهر؛ قالوا: لا يحرم على المحرم حلق شيء من الشعر المباح حلقه سوى الرأس؛ لأن الله سبحانه وتعالى خصه فقال: { ولا تحلقوا رؤوسكم }؛ ولأن حلقه يفوت به نسك بخلاف غيره من الشعور؛ ولكن أكثر أهل العلم ألحقوا به شعر بقية البدن؛ وقالوا: إنه يحرم على المحرم أن يحلق أيّ شعر من بدنه حتى العانة -قياساً على شعر الرأس؛ لأن العلة في تحريم حلق شعر الرأس الترفه، وإزالة الأذى؛ وهذا حاصل في حلق غيره من الشعور؛ وهذا القياس غير صحيح لوجهين: الوجه الأول: أنه مخالف لظاهر النص، أو صريحه. الوجه الثاني: أن بين شعر الرأس وغيره فرقاً كثيراً: فإن حلق شعر الرأس يتعلق به التحلل من النسك؛ فهو عنوان التحلل؛ بخلاف غيره من الشعور. وأما التعليل بأنه للترفه، ودفع الأذى ففيه نظر؛ ثم لو سلمنا ذلك فأين دفع الأذى في حلق شعر العانة، وشعر الساق، ونحو ذلك؟! وأين الدليل على منع المحرم من الترفه مع أنه يجوز له التنظف، والاغتسال، والتظلل من الشمس، واستعمال المكيفات؟! وهل تلحق الأظافر بشعر الرأس؟ الجواب: لا تلحق؛ فالأظافر ليست شعراً؛ وليست في الرأس أيضاً؛ فهي أبعد من إلحاق شعر بقية البدن بشعر الرأس؛ ووجه البعد أنها ليست من نوع الشعر؛ صحيح أنها تشبه الشعر من حيث إنها جزء منفصل؛ لكنها ليست من نوع الشعر؛ ولذلك من لم ير تحريم حلق شعر بقية البدن فإنه لا يرى تحريم قص الأظافر من باب أولى؛ ولكن جمهور أهل العلم على أن تقليم الأظافر محرم على المحرِم قياساً على تحريم حلق شعر الرأس؛ والعلة: ما في ذلك من الترفه، والتنعم؛ ولكن هذه العلة غير مسلمة: أولاً: لأن العرب في زمنهم لا يترفهون بحلق الرأس؛ بل الرفاهية عندهم إنما هي في إبقاء الرأس، وترجيله، وتسريحه، ودهنه، والعناية به؛ فليست العلة إذاً في حلق شعر الرأس: الترفه. ثانياً: أن العلة لا بد أن تطَّرد في جميع معلولاتها؛ وإلا كانت باطلة؛ وهذه العلة لا تطرد بدليل أن المحرم لو ترفه، فتنظف، وتغسل، وأزال الوسخ عنه، ولبس إحراماً جديداً غير الذي أحرم به لم يحرم عليه ذلك. وأقرب شيء للتعليل أن في حلق الرأس حال الإحرام إسقاطاً للنسك الذي هو حلْقُه عند التحلل؛ وهذا لا يساويه حلق بقية الشعر، أو تقليم الأظافر؛ ولكن نظراً لأن جمهور أهل العلم ألحقوا ذلك بشعر الرأس فالاحتياط تجنب ذلك مراعاة لقول الجمهور. 16 ــــ ومن فوائد الآية: أن المحرَّم ما يسمى حلقاً؛ فأما أخذ شعرة، أو شعرتين، أو ثلاث شعرات من رأسه فلا يقال: إنه حلق؛ وهذه المسألة مما تنازع فيها أهل العلم؛ فقال بعضهم: إذا أخذ شعرة واحدة من رأسه فقد حلق؛ فعليه فدية إطعام مسكين؛ وإن أخذ شعرتين فإطعام مسكينين؛ وإذا أخذ ثلاث شعرات فدم؛ أو إطعام ستة مساكين: لكل مسكين نصف صاع؛ أو صيام ثلاثة أيام؛ وقال بعض العلماء: إن الحكم يتعلق بربع الرأس؛ فإن حلق دون الربع فلا شيء عليه؛ وهذا لا شك أنه تحكم لا دليل عليه؛ فلا يكن صحيحاً؛ بل هو ضعيف؛ وقال آخرون: تتعلق الفدية بما يماط به الأذى؛ ومعنى يماط: يزال؛ أي بما يحصل به إزالة الأذى؛ وهذا لا يكون إلا بجزء كبير من الرأس؛ قالوا: لأن الله تعالى قال: { فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ففدية... }؛ فدل هذا على أن المحرَّم الذي تتعلق به الفدية هو ما يماط به الأذى؛ وهذا مذهب مالك؛ وهو صحيح من حيث أنَّ الفدية لا تجب إلا بما يماط به الأذى فقط؛ لكنه غير صحيح من كون التحريم يتعلق بما يماط به الأذى فقط؛ فالتحريم يتعلق بما يسمى حلقاً؛ والفدية تتعلق بما يماط به الأذى. فإن قال قائل: ما هو دليلكم على هذا التقسيم؛ فالعلماء لم يقولوا هذا الكلام؟ فالجواب: أن نقول: دليلنا على هذا التقسيم الآية الكريمة، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقوله تعالى: { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله }؛ هذا عام لكل حلق؛ فكل ما يسمى حلقاً فإنه منهي عنه لهذه الآية؛ ثم قال تعالى: { فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ففدية }؛ فأوجب الفدية فيما إذا حلق حلقاً يزول به الأذى؛ لقوله تعالى: { أو به أذًى }؛ فلو قدرنا محرِماً رأسه تؤذيه الهوام، فحلق منه شيئاً يسيراً لا يزول به الأذى فلا فدية عليه؛ لأن الله تعالى إنما أوجب الفدية بحلق ما يزول به الأذى؛ ويدل لذلك فعل الرسول صلى الله عليه وسلم: فقد احتجم وهو محرم في يافوخه في أعلى رأسه(1)؛ ومعلوم أن الحجامة تحتاج إلى حلق الشعر الذي يكون في موضع الحجامة؛ ولم ينقل أن الرسول صلى الله عليه وسلم افتدى؛ فدل ذلك على أن ما تتعلق به الفدية هو ما يماط به الأذى دون الشيء اليسير. 17 ــــ ومن فوائد الآية: أنه لا يجوز الحلق إلا بعد النحر؛ لقوله تعالى: { حتى يبلغ الهدي محله }؛ وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم مستدلين بقوله (ص): «إني لبدت رأسي وقلدت هديي؛ فلا أحل حتى أنحر»(2)؛ وهؤلاء الذين قالوا به عندهم ظاهر الآية الكريمة؛ وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: «فلا أحل حتى أنحر» ؛ لكن قد وردت الأحاديث بجواز التقديم، والتأخير تيسيراً على الأمة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل في يوم العيد عن التقديم، والتأخير؛ فما سئل عن شيء قدِّم ولا أخِّر إلا قال (ص): «افعل ولا حرج»(1). 18 ــــ ومن فوائد الآية: جواز حلق الرأس للمرض، والأذى؛ لقوله تعالى: { فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه... } إلخ. 19 ــــ ومنها: وجوب الفدية على المحرم إذا حلق رأسه؛ وهي إما صيام ثلاثة أيام؛ وإما إطعام ستة مساكين: لكل مسكين نصف صاع؛ وإما ذبح شاة تفرق على الفقراء ــــ كما بينت ذلك السنة ــــ؛ والسنة تبين القرآن، كما قال الله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] ؛ والتبيين يشمل تبيين اللفظ، وتبيين المعنى. 20 ــــ ومن فوائد الآية: أن هذه الفدية على التخيير؛ لأن هذا هو الأصل في معاني «أو». 21 ــــ ومنها: التيسير على العباد؛ وذلك بوقوع الفدية على التخيير. 22 ــــ ومنها: أن محل الإطعام والنسك في مكان فعل المحظور؛ لأن الفورية تقتضي ذلك؛ أما الصيام فالظاهر ما قاله العلماء ــــ رحمهم الله ــــ من كونه يصح في كل مكان؛ لكن الفورية فيه أفضل. 23 ــــ ومنها: أن كفارات المعاصي فدًى للإنسان من العقوبة؛ لقوله تعالى: { ففدية من صيام أو صدقة... }. 24 ــــ ومنها: أن محظورات الإحرام لا تفسده؛ لأن الله لم يوجب في حلق الرأس ــــ مع أنه من محظورات الإحرام ــــ إلا الفدية؛ ومقتضى ذلك أن النسك صحيح؛ وهذا مما يخالف الحجُّ، والعمرةُ فيه غيرَهما من العبادات؛ فإن المحظورات في العبادات تبطلها؛ وألحق العلماء بفدية حلق الرأس فدية جميع محظورات الإحرام ما عدا شيئين؛ وهما الجماع في الحج قبل التحلل الأول، وجزاء الصيد؛ فالجماع في الحج قبل التحلل الأول يجب فيه بدنة؛ وجزاء الصيد يجب فيه مثله؛ أو إطعام مساكين؛ أو عدل ذلك صياماً؛ وما عدا ذلك من المحظورات ففديتها كفدية حلق الرأس عند الفقهاء، أو كثير منهم. 25 ــــ ومن فوائد الآية: جواز التمتع بالعمرة إلى الحج؛ أي أن يأتي الإنسان بالعمرة في أشهر الحج، ويتحلل منها؛ ويبقى حلاً إلى أن يأتي وقت الحج؛ وكانوا في الجاهلية يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور؛ ويقولون: «إذا انسلخ صفر، وبرأ الدَّبَر، وعفا الأثر، حلت العمرة لمن اعتمر»؛ لكن الله سبحانه وتعالى يسَّر وبيَّن أنه يجوز للإنسان القادم في أشهر الحج أن يتحلل بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج. 26 ــــ ومنها: أنه إذا حل من عمرته حل الحل كله؛ لقوله تعالى: { فمن تمتع }؛ لأن إطلاق التمتع لا يكون إلا كذلك. 27 ــــ ومنها: أن من لم يحل من عمرته لا يسمى متمتعاً؛ لقوله تعالى: { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج}؛ وعلى هذا فالقارن ليس بمتمتع؛ وهو كذلك عند الفقهاء أن القارن غير متمتع؛ لكن ذكر كثير من أهل العلم أن القارن يسمى متمتعاً في لسان الصحابة؛ وذلك؛ لأن بعض الصحابة عبر عن حج النبي صلى الله عليه وسلم بالتمتع، فقالوا: تمتع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج(2)؛ ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحل من إحرامه؛ ولهذا قال الإمام أحمد: «لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارناً؛ والمتعة أحب إليّ»؛ ولهذا كان وجوب الهدي على المتمتع بالإجماع؛ ووجوب الهدي على القارن فيه خلاف؛ وجمهور أهل العلم على وجوب الهدي عليه؛ وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في العلة: هل هي حصول النسكين في سفر واحد؛ فيكون قد ترفه بسقوط أحد السفرين؛ أو العلة التمتع بالتحلل بين العمرة، والحج؛ فمن قال بالأول أوجب الهدي على القارن؛ ومن قال بالثاني لم يوجبه؛ لأنه لم يحصل للقارن تحلل بين النسكين. 28 ــــ ومن فوائد الآية: أنه لا يجب على الإنسان أن يقترض للهدي إذا لم يكن معه ما يشتري به الهدي ــــ ولو كان غنياً - لقوله تعالى: { فما استيسر من الهدي }. 29 ــــ ومنها: تيسير الله على العباد؛ لقوله تعالى: { فما استيسر من الهدي }؛ والدين كله من أوله إلى آخره مبني على اليسر. 30 ــــ ومنها: بلاغة القرآن؛ لقوله تعالى: { فمن لم يجد }؛ فحُذف المفعول للعموم ليشمل من لم يجد الهدي، أو ثمنه؛ فاستفيد زيادة المعنى مع اختصار اللفظ. 31 ــــ ومنها: أن من لم يجد الهدي، أو ثمنه، فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج: أولها من حين الإحرام بالعمرة؛ وآخرها آخر أيام التشريق؛ لكن لا يصوم يوم العيد؛ لتحريم صومه؛ ولا ينبغي أن يصوم يوم عرفة؛ ليتفرغ للدعاء والذكر وهو نشيط؛ وعلى هذا فيجوز لمن كان عادماً للهدي من متمتع أو قارن أن يصوم من حين إحرامه بالعمرة. فإن قال قائل: هذا ظاهر في القارن؛ لأنه إذا صام من حين إحرامه فقد صام في الحج؛ لكنه في المتمتع فيه إشكال؛ لأن المتمتع يحل بين العمرة والحج؟ والجواب: عن هذا الإشكال أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دخلت العمرة في الحج»(1)؛ ولأن المتمتع من حين إحرامه بالعمرة فقد نوى أن يحج. 32 ــــ ومن فوائد الآية: أن صيام السبعة لا يجوز في أيام الحج؛ لقوله تعالى: { وسبعة إذا رجعتم }. 33 ــــ ومنها: أنه يجوز التتابع، والتفريق بين الأيام الثلاثة، والأيام السبعة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أطلق، ولم يشترط التتابع؛ ولو كان التتابع واجباً لذكره الله، كما ذكر وجوب التتابع في صيام كفارة القتل، وصيام كفارة الظهار. 34 ــــ ومنها: تيسير الله ــــ تبارك وتعالى ــــ على عباده، حيث جعل الأكثر من الصيام بعد رجوعه؛ لقوله تعالى: { وسبعة إذا رجعتم }. 35 ــــ ومنها: أن الهدي، أو بدله من الصيام لا يجب على من كان حاضر المسجد الحرام؛ لقوله تعالى: { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام }؛ وقد سبق أن الصحيح أنهم من كانوا داخل حدود الحرم؛ وعلى هذا إذا تمتع أهل جدة، أو الطائف، أو أهل الشرائع فعليهم الهدي؛ ولكن هل لحاضر المسجد الحرام التمتع؟ الجواب: نعم؛ لأن حاضر المسجد الحرام قد تدخل عليه أشهر الحج وهو خارج مكة، ثم يرجع إلى أهله في مكة في أشهر الحج، فيحرم بعمرة يتمتع بها إلى الحج. فإن كان شخص في مكة للدراسة، لكن وطنه الرياض، أو المدينة، وتمتع فعليه الهدي؛ لأن أهله ليسوا من حاضري المسجد الحرام؛ وإقامته في مكة ليست إقامة استيطان؛ والمراد أن يكون مستوطناً في مكة. وإذا كان له مَقَرَّان ــــ في الطائف، وفي مكة ــــ؛ يعني من أهل مكة والطائف، فهنا نقول: إن نظرنا إلى مقره في الطائف قلنا: ليس من حاضري المسجد الحرام؛ وإن نظرنا إلى مقره في مكة قلنا: هو من حاضري المسجد الحرام؛ فنعتبر الأكثر: إذا كان أكثر إقامته في الطائف فليس من أهل المسجد الحرام؛ وإذا كان أكثر إقامته في مكة فهو من حاضري المسجد الحرام. 36 ــــ ومن فوائد الآية: فضيلة المسجد الحرام؛ لوصف الله سبحانه وتعالى له بأنه حرام ــــ أي ذو حرمة ــــ؛ ومن حرمته تحريم القتال فيه، وتحريم صيده، وشجره، وحشيشه، وأن من أراد الإلحاد فيه بظلم أذاقه الله من عذاب أليم؛ وبسط ذلك في المطولات. 37 ــــ ومنها: وجوب تقوى الله عز وجل، وتهديد من خالف ذلك؛ لقوله تعالى: { واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب }. 38 ــــ ومنها: أن العلم بشدة عقوبة الله من أهم العلوم؛ ولهذا أمر الله سبحانه وتعالى به بخصوصه؛ لأنه يورث الخوف من الله، والهرب من معصيته. 39 ــــ ومنها: أن العقوبة على الذنب لا تنافي الرحمة؛ إذ من المعلوم أن رحمة الله سبقت غضبه؛ لكن إذا عاقب من يستحق العقاب فإن ذلك من رحمة المعاقب؛ لأن هذه العقوبة إن كانت في الدنيا فهي كفارة له؛ وإن كانت في الآخرة فما دون الشرك أمره إلى الله: إن شاء عذب؛ وإن شاء غفر. 40 ــــ ومنها: أن شدة العقاب من كمال المعاقِب، وبسط قوته، وسلطانه؛ ولا يوصف الله سبحانه وتعالى إلا بالكمال؛ بل أمَرَنا أن نعلم ذلك في قوله تعالى: {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم} [المائدة: 98] ؛ إذاً فإذا عاقبت ولدك بما يستحق، وكانت الجناية كبيرة، فأكبرت العقوبة فإنك تُحمَد، ولا تذم؛ ولهذا قال (ص): «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر»(1)؛ لأنه إذا بلغ عشراً صار تركه إياها، والإخلال بها أعظم. تــنــبــيــه: كثير من الناس كلما رأوا مخالفة من شخص في الإحرام قالوا: «عليك دم»؛ لو قال: حككت رأسي فسقطت منه شعرة بدون اختيار ولا قصد قالوا: «عليك دم»؛ وهذا غلط: أولاً: لأنه خلاف ما أمر الله به؛ والله أوجب واحدة من ثلاث: صيام؛ أو صدقة؛ أو نسك؛ فإلزامهم بواحدة معينة فيها تضييق عليهم، وإلزام لهم بما لا يلزمهم. ثانياً: أن الدم في أوقات النحر في أيام منى غالبه يضيع هدراً؛ لا ينتفع به. ثالثاً: أن فيه إخفاءً لحكم الله عز وجل؛ لأن الناس إذا كانوا لا يفدون إلا بالدم، كأنه ليس فيه فدية إلا هذا؛ وليس فيه إطعام، أو صيام! فالواجب على طالب العلم أن يختار واحداً من أمرين: * إما أن يرى الأسهل، ويفتي بالأسهل. * وإما أن يقول: عليك هذا، أو هذا، أو هذا؛ واختر لنفسك. أما أن يذكر الأشد فقط، ويسكت فهذا خلاف ما ينبغي للمفتين. القرآن { )الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة:197) التفسير: { 197 } قوله تعالى: { الحج أشهر معلومات } يعني أن الحج يكون في أشهر معلومات؛ وهي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة؛ وقيل: العشر الأول من ذي الحجة؛ والأول أصح؛ وقد استُشكل كون الخبر { أشهر }؛ ووجه الإشكال: أن الحج عمل، والأشهر زمن؛ فكيف يصح أن يكون الزمن خبراً عن العمل؟ وأجيب بأن هذا على حذف مضاف؛ والتقدير: الحج ذو أشهر معلومات؛ فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه؛ وقيل: التقدير: الحج وقته أشهر معلومات؛ والتقدير الأول أقرب. قوله تعالى: { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث }؛ «مَن» اسم شرط؛ و{ فرض } فعل الشرط؛ { فيهن} الضمير يعود إلى أشهر الحج؛ وقد أجمع العلماء على أن الضمير في { فيهن } يرجع إلى بعضهن؛ لأنه لا يمكن أن يفرض الحج بعد طلوع الفجر يوم النحر؛ ويفرض الحج من أول ليلة من شوال إلى ما قبل طلوع الفجر يوم النحر بزمن يتمكن فيه من الوقوف بعرفة. قوله تعالى: { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } جواب الشرط؛ وفيها قراءتان؛ إحداهما البناء على الفتح في { رفثَ }، و{ فسوقَ }؛ والثانية: التنوين فيهما؛ أما { جدالَ } فإنها بالبناء على الفتح على القراءتين. قوله تعالى: { فلا رفث } نفي بمعنى النهي؛ و «الرفث» الجماع، ومقدماته. قوله تعالى: { ولا فسوق } أي لا خروج عن طاعة الله بمعاصيه لا سيما ما يختص بالنسك، كمحظورات الإحرام. قوله تعالى: { ولا جدال في الحج } يشمل الجدال فيه، وفي أحكامه، والمنازعات بين الناس في معاملاتهم؛ مثال الجدال فيه: أن يقال: «ما هو الحج؟»، فيحصل النزاع؛ أو «متى فُرض؟»، فيحصل النزاع فيه؛ ومثاله في أحكامه: النزاع في أركانه، وواجباته، ومحظوراته؛ ومثال النزاع بين الناس في معاملاتهم: أن يتنازع اثنان في العقود، فيقول أحدهما: «بعتك»، والثاني يقول: «لم تبعني»؛ أو يقول: «بعتك بكذا»، ويقول الثاني: «بل بكذا»؛ أو يتنازع اثنان عند أنابيب الماء في الشرب، أو الاستسقاء، أو عند الخباز. قوله تعالى: { وما تفعلوا من خير يعلمه الله }: لما نهى عن هذه الشرور انتقل إلى الأمر بالخير؛ وهذه الجملة شرطية: { ما } أداة الشرط؛ وفعل الشرط: { تفعلوا }؛ وجواب الشرط: { يعلمه الله }؛ ولهذا جزمت؛ و{ مِن } بيانية تبين المبهم من اللفظ؛ لأن { ما } شرطية مبهمة كالموصول؛ و{ خير } نكرة في سياق الشرط، فيشمل كل خير سواء كان قليلاً، أو كثيراً. وقوله تعالى: { يعلمه الله }: أي يحيط به علماً. قوله تعالى: { وتزودوا } أي اتخذوا زاداً لغذاء أجسامكم، وغذاء قلوبكم -وهذا أفضل النوعين - لقوله تعالى: { فإن خير الزاد التقوى } و«التقوى» اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه؛ هذا أجمع ما قيل في التقوى. لما رغب الله سبحانه وتعالى في التقوى أمر بها طلباً لخيرها فقال تعالى: { واتقون يا أولي الألباب }؛ و{اتقونِ } فعل أمر؛ والنون للوقاية؛ والياء المحذوفة للتخفيف مفعول به؛ و{ يا أولي الألباب } جمع لب؛ أي يا أصحاب العقول؛ ووجه الله تعالى الأمر إلى أصحاب العقول؛ لأنهم هم الذين يدركون فائدة التقوى، وثمرتها؛ أما السفهاء فلا يدركونها. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: تعظيم شأن الحج، حيث جعل الله له أشهراً مع أنه أيام ــــ ستة أيام ــــ؛ وقد جعل الله له أشهراً ثلاثة حتى يأمن الناس، ويتأهبوا لهذا الحج؛ ولهذا ما بعد الحج أقصر مما قبله؛ الذي قبله: شهران وسبعة أيام؛ والذي بعده: سبعة عشر يوماً فقط؛ لأنه إذا حج انتهى غرضه؛ فطُلب منه العودة؛ بخلاف ما إذا كان قبله. 2 ــــ ومن فوائد الآية: أن أشهر الحج ثلاثة؛ لقوله تعالى: { أشهر }؛ وهي جمع قلة؛ والأصل في الجمع أن يكون ثلاثة فأكثر؛ هذا المعروف في اللغة العربية؛ ولا يطلق الجمع على اثنين، أو اثنين وبعض الثالث إلا بقرينة؛ وهنا لا قرينة تدل على ذلك؛ لأنهم إن جعلوا أعمال الحج في الشهرين وعشرة الأيام يرد عليه أن الحج لا يبدأ فعلاً إلا في اليوم الثامن من ذي الحجة؛ وينتهي في الثالث عشر؛ وليس العاشر؛ فلذلك كان القول الراجح أنه ثلاثة أشهر كاملة؛ وهو مذهب مالك؛ وهو الصحيح؛ لأنه موافق للجمع؛ وفائدته أنه لا يجوز تأخير أعمال الحج إلى ما بعد شهر ذي الحجة إلا لعذر؛ لو أخرت طواف الإفاضة مثلاً إلى شهر المحرم قلنا: هذا لا يجوز؛ لأنه ليس في أشهر الحج والله تعالى يقول: { الحج أشهر }؛ فلا بد أن يقع في أشهر الحج؛ ولو أخرت الحلق إلى المحرم فهذا لا يجوز؛ لأنه تعدى أشهر الحج. وهل هذه الأشهر من الأشهر الحرم؟ الجواب: أن اثنين منها من أشهر الحرم، وهما ذو القعدة، وذو الحجة؛ وواحد ليس منها -وهو شوال كما أن «المحرم» من الأشهر الحرم، وليس من أشهر الحج؛ فرمضان شهر صيام؛ وشوال شهر حج؛ وذو القعدة شهر حج، ومن الحرم؛ وذو الحجة شهر حج، ومن الحرم؛ والمحرم من الحرم، وليس شهر حج. 3 ــــ ومن فوائد الآية: الإحالة على المعلوم بشرط أن يكون معلوماً؛ لقوله تعالى: { معلومات }؛ وهذا يستعمله الفقهاء كثيراً يقولون: هذا معلوم بالضرورة من الدين؛ وأمر هذا معلوم؛ وما أشبه ذلك؛ فلا يقال: إنه لم يبين؛ لأنه ما دام الشيء مشهوراً بين الناس معروفاً بينهم يصح أن يعَرِّفه بأنه معلوم؛ ومن ذلك ما يفعله بعض الكتاب في الوثائق: يقول: «باع فلان على فلان كذا، وكذا» -وهو معلوم بين الطرفين -يجوز وإن لم تفصل ما دام معلوماً؛ فإضافة الشيء إلى العلم وهو معلوم يعتبر من البيان. 4 ــــ ومنها: أن من تلبس بالحج، أو العمرة وجب عليه إتمامه، وصار فرضاً عليه؛ لقوله تعالى: { فمن فرض فيهن الحج }؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم} [الحج: 29] ؛ فسمى الله تعالى أفعال الحج نذوراً؛ ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] ؛ فلم يبح الله تعالى الخروج من النسك إلا بالإحصار. 5 ــــ ومنها: وجوب إتمام النفل في الحج؛ لقوله تعالى: { فمن فرض }؛ والفرض لا بد من إتمامه. 6 ــــ ومنها: أن الإحرام بالحج قبل أشهره لا ينعقد؛ لقوله تعالى: { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث }؛ فلم يرتب الله أحكام الإحرام إلا لمن فرضه في أشهر الحج؛ ومعلوم أنه إذا انتفت أحكام العمل فمعناه أنه لم يصح العمل، وهذا مذهب الشافعي -رحمه الله -أنه إذا أحرم بالحج قبل دخول أشهر الحج لم ينعقد إحرامه؛ ولكن هل يلغو، أو ينقلب عمرة؟ في هذا قولان عندهم؛ أما عندنا مذهب الحنابلة؛ فيقولون: إن الإحرام بالحج قبل أشهره ينعقد؛ ولكنه مكروه -يكره أن يحرم بالحج قبل أشهره - ومذهب الشافعي أقرب إلى ظاهر الآية الكريمة: أنه إذا أحرم بالحج قبل أشهره لا ينعقد حجاً؛ والظاهر أيضاً أنه لا ينعقد، ولا ينقلب عمرة؛ لأن العبادة لم تنعقد؛ وهو إنما دخل على أنها حج؛ فلا ينعقد لا حجاً، ولا عمرة. 7 ــــ ومن فوائد الآية: أن المحظورات تحرم بمجرد عقد الإحرام - وإن لم يخلع ثيابه من قميص، وسراويل، وغيرها؛ لقوله تعالى: { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث }؛ لأنه جواب الشرط؛ وجواب الشرط يكون تالياً لفعله؛ فبمجرد أن يفرض فريضة الحج تحرم عليه المحظورات. 8 ــــ ومنها: أن الإحرام ينعقد بمجرد النية - أي نية الدخول إلى النسك؛ وتثبت بها الأحكام - وإن لم يلبّ؛ لقوله تعالى: { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث }. 9 ــــ ومنها: تحريم الجماع، ومقدماته بعد عقد الإحرام؛ لقوله تعالى: { فلا رفث }؛ وجواب الشرط يكون عقب الشرط؛ فبمجرده يحرم الرفث. 10 ــــ ومنها: تحريم الفسوق؛ لقوله تعالى: { فلا فسوق }. فإن قال قائل: الفسوق محرم في الإحرام، وغيره. فالجواب: أنه يتأكد في الإحرام أكثر من غيره. 11 ــــ ومنها: تحريم الجدال؛ لقوله تعالى: { ولا جدال في الحج }؛ والجدال إن كان لإثبات الحق، أو لإبطال الباطل فإنه واجب، وعلى هذا فيكون مستثنًى من هذا العموم؛ لقوله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125] ؛ وأما الجدال لغير هذا الغرض فإنه محرم حال الإحرام؛ فإن قلت: أليس محرماً في هذا، وفي غيره لما يترتب عليه من العداوة، والبغضاء، وتشويش الفكر؟ فالجواب: أنه في حال الإحرام أوكد. 12 ــــ ومنها: البعد حال الإحرام عن كل ما يشوش الفكر، ويشغل النفس؛ لقوله تعالى: { ولا جدال في الحج }؛ ومن ثم يتبين خطأ أولئك الذين يزاحمون على الحجر عند الطواف؛ لأنه يشوش الفكر، ويشغل النفس عما هو أهم من ذلك. 13 ــــ ومنها: الحث على فعل الخير؛ لأن قوله تعالى: { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } يدل على أنه سيجازي على ذلك، ولا يضيعه؛ قال تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً} [طه: 112] . 14 ــــ ومنها: أن الخير سواء قلّ، أو كثر، فإنه معلوم عند الله؛ لقوله تعالى: { من خير }؛ وهي نكرة في سياق الشرط؛ والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم. 15 ــــ ومنها: عموم علم الله تعالى بكل شيء؛ لقوله تعالى: { وما تفعلوا من خير يعلمه الله }. 16 ــــ ومنها: الحث على التزود من الخير؛ لقوله تعالى: { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى }. 17 ــــ ومنها: أنه ينبغي للحاج أن يأخذ معه الزاد الحسيّ من طعام، وشراب، ونفقة، لئلا يحتاج في حجه، فيتكفف الناس؛ لقوله تعالى: { وتزودوا }. 18 ــــ ومنها: أن التقوى خير زاد، كما أن لباسها خير لباس؛ فهي خير لباس؛ لقوله تعالى: {ولباس التقوى ذلك خير} [الأعراف: 26] ؛ وهي خير زاد؛ لقوله تعالى: { فإن خير الزاد التقوى }. 19 ــــ ومنها: وجوب تقوى الله؛ لقوله تعالى: { واتقون }. 20 ــــ ومنها: أن أصحاب العقول هم أهل التقوى؛ لقوله تعالى: { واتقون يا أولي الألباب }. 21 ــــ ومنها: أنه كلما نقص الإنسان من تقوى الله كان ذلك دليلاً على نقص عقله - عقل الرشد؛ بخلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت من ناقصات عقل، ودين»(1)؛ فإن المراد بنقص العقل هنا عقل الإدراك؛ فإن مناط التكليف عقل الإدراك؛ ومناط المدح عقل الرشد؛ ولهذا نقول: إن هؤلاء الكفار الأذكياء الذين هم في التصرف من أحسن ما يكون؟ نقول: هم عقلاء عقول إدراك؛ لكنهم ليسوا عقلاء عقول رشد؛ ولهذا دائماً ينعى الله عليهم عدم عقلهم؛ والمراد عقل الرشد الذي به يرشدون. القرآن { )لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) (البقرة:198) التفسير: { 198 } لما أمر الله بالتزود، وبيَّن أن خير الزاد التقوى، وأمر بالتقوى، قد يقول قائل: إذا اتجرت أثناء حجي صار عليّ في ذلك إثم؛ ولهذا تحرج الصحابة من الاتجار في الحج؛ فبين الله عزّ وجلّ أن ذلك لا يؤثر، وأنه ليس فيه إثم؛ فقال تعالى: { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } أي أن تبتغوا الرزق، وتطلبوه بالتجارة؛ كقوله تعالى: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} [المزمل: 20] . قوله تعالى: { فإذا أفضتم من عرفات }؛ أصل الإفاضة الاندفاع؛ ومنه إفاضة الماء؛ ومنه الإفاضة في الكلام، والاستمرار فيه؛ ومعنى { أفضتم }: دفعتم؛ والتعبير بـ{ أفضتم } يصور لك هذا المشهد كأن الناس أودية تندفع؛ و{ عرفات } على صيغ الجمع؛ وهي اسم لمكان واحد؛ وهو معروف؛ وسمي عرفات لعدة مناسبات: قيل: لأن الناس يعترفون هناك بذنوبهم، ويسألون الله أن يغفرها لهم. وقيل: لأن الناس يتعارفون بينهم؛ إذ إنه مكان واحد يجتمعون فيه في النهار؛ فيعرف بعضهم بعضاً. وقيل: لأن جبريل لما علَّم آدم المناسك، ووصل إلى هذا قال: عرفت. وقيل: لأن آدم لما أهبط إلى الأرض هو وزوجته تعارفا في هذا المكان. وقيل: لأنها مرتفعة على غيرها؛ والشيء المرتفع يسمى عُرْفاً؛ ومنه: أهل الأعراف، كما قال تعالى: {ونادى أصحاب الأعراف رجالاً} [الأعراف: 48] ؛ ومنه: عُرْف الديك؛ لأنه مرتفع؛ وكل شيء مرتفع يسمى بهذا الاسم. وعندي - والله أعلم - أن هذا القول الأخير أقرب الأقوال؛ وكذلك الأول: أنه سمي عرفات؛ لأن الناس يعترفون فيه لله تعالى بالذنوب؛ ولأنه أعرف الأماكن التي حوله. و{ عرفات } مشعر حلال خارج الحرم؛ ومع ذلك فهو الحج، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة»(2)؛ والحكمة من الوقوف فيها أن يجمع الحاج في نسكه بين الحل والحرم؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تحرم بالعمرة من التنعيم(3)؛ لتجمع فيها بين الحل والحرم. قوله تعالى: { فاذكروا الله عند المشعر الحرام } الفاء هنا واقعة في جواب الشرط؛ وأداة الشرط: «إذا» ؛ وقوله تعالى: { فاذكروا الله } أي باللسان، والقلب، والجوارح؛ فيشمل كل ما فعل عند المشعر من عبادة؛ ومن ذلك صلاة المغرب، والعشاء، والفجر؛ و{ المشعر } مكان الشعيرة؛ فهي «مَفْعَل» اسم مكان؛ وهو المكان الذي تؤدى فيه شعيرة من شعائر الله عزّ وجلّ؛ و{ الحرام } أي ذي الحرمة؛ لأنه داخل حدود الحرم؛ وقال العلماء: إن هذا الوصف وصف قيدي؛ ليخرج المشعر الحلال ــــ وهو عرفة ــــ؛ وقالوا: إن المشعر مشعران: حلال ــــ وهو عرفة ــــ؛ وحرام ــــ وهو مزدلفة ــــ. قوله تعالى: ( واذكروه كما هداكم }؛ أمر بالذكر مرة أخرى؛ لكن لأجل التعليل الذي بعده ــــ وهو الهداية ــــ؛ لهذا الكاف هنا للتعليل؛ و «ما» مصدرية تسبك، وما بعدها بمصدر؛ فيكون التقدير: واذكروه لهدايتكم؛ والكاف تأتي للتعليل، كما قال ابن مالك في الألفية: شبه بكاف وبها التعليل قد يعنى وزائداً لتوكيد ورد ومن ذلك قوله تعالى: {كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا...} [البقرة: 151] الآية؛ وكما في التشهد في قوله: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم...» ، أي لأنك صليت على إبراهيم فصل على محمد؛ فهو توسل إلى الله تعالى بفعل سبق منه نظير ما سألته. ويحتمل أن تكون الكاف للتشبيه؛ وعليه فيكون الأمر بذكره ثانية عائداً على الوصف ــــ أي اذكروه على الصفة التي هداكم إليها ــــ أي على حسب ما شرع؛ وعليه فلا تكرار؛ لأن الأمر بالذكر أولاً أمر بمطلق الذكر، والأمر به ثانية أمر بكونه على الصفة التي هدانا إليها. وقوله تعالى: { هداكم } أي دلكم، ووفقكم. قوله تعالى: { وإن كنتم من قبله لمن الضالين }؛ { إن } مخففة من الثقيلة؛ فهي للتوكيد بدليل وجود اللام الفارقة؛ والتقدير: وإنكم كنتم من قبله لمن الضالين؛ واسم { إن } ضمير الشأن محذوف؛ وهو مناسب للسياق؛ وبعض النحويين يقدر ضمير الشأن دائماً بضمير مفرد مذكر غائب فيكون التقدير: وإنه ــــ أي الشأن والصواب القول الأول أنه يقدر بما يقتضيه السياق - يعني: وإنكم كنتم من قبله لمن الضالين -؛ وجملة: { كنتم من قبله لمن الضالين } خبر { إن } المخففة؛ والضمير في قوله تعالى: { من قبله } يعود على القرآن؛ أو يعود على الرسول؛ أو يعود على الهدى؛ كل ذلك محتمل؛ وكل ذلك متلازم؛ فالهدى جاء من القرآن، ومن النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: { لمن الضالين }: يشمل الضال عن جهل؛ والضال عن علم؛ فالضال عن جهل: الذي لم يعلم بالحق أصلاً؛ والضال عن علم: الذي ترك الطريق الذي ينبغي أن يسلكه - وهو الرشد -؛ والعرب من قبل هذا الدين ضالون؛ منهم من كان ضالاً عن جهل؛ ومنهم من كان ضالاً عن علم؛ فمثلاً قريش لا تفيض من عرفة؛ وإنما تقف يوم عرفة في مزدلفة؛ قالوا: لأننا نحن أهل الحرم؛ فلا نخرج عنه؛ فكانوا يقفون في يوم عرفة في مزدلفة، ولا يفيضون من حيث أفاض الناس؛ وإذا جاء الناس وباتوا فيها خرجوا جميعاً إلى منى؛ وهذا من جهلهم، أو عنادهم. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: جواز الاتجار أثناء الحج بالبيع، والشراء، والتأجير ــــ كالذي يؤجر سيارته التي يحج عليها في الحج؛ لقوله تعالى: { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم }. 2 ــــ ومنها: أنه ينبغي للإنسان في حال بيعه، وشرائه أن يكون مترقباً لفضل الله لا معتمداً على قوته، وكسبه؛ لقوله تعالى: { أن تبتغوا فضلاً من ربكم }. 3 ــــ ومنها: ظهور منة الله على عباده بما أباح لهم من المكاسب؛ وأن ذلك من مقتضى ربوبيته سبحانه وتعالى، حيث قال تعالى: { فضلاً من ربكم }. 4 ــــ ومنها: مشروعية الوقوف بعرفة؛ لقوله تعالى: { فإذا أفضتم من عرفات }؛ وهو ركن من أركان الحج؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة»(1)؛ لو قال قائل: إن قوله تعالى: { فإذا أفضتم من عرفات } ليس أمراً بالوقوف بها. فالجواب: أنه لم يكن أمراً بها؛ لأنها قضية مسلمة؛ ولهذا قال تعالى: { فإذا أفضتم من عرفات }. 5 ــــ ومنها: أنه يشترط للوقوف بمزدلفة أن يكون بعد الوقوف بعرفة؛ لقوله تعالى: { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام }؛ فلو أن أحداً مر بمزدلفة في الليل، ووقف بها يدعو، ثم وقف بعرفة يدعو بها، ثم رجع إلى منى لم يجزئه الوقوف بمزدلفة؛ لأنه في غير محله الآن؛ لأن الله ذكره بعد الوقوف بعرفة. 6 ــــ ومنها: أن الصلاة من ذكر الله؛ لقوله تعالى: { فاذكروا الله عند المشعر الحرام }؛ والنبي صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ: بالصلاة(1)؛ ولا شك أن الصلاة ذكر لله؛ بل هي روضة من رياض الذكر: فيها قراءة، وتكبير، وتسبيح، وقيام، وركوع، وسجود، وقعود؛ كل ذلك من ذكر الله: ذكر بالقلب، وباللسان، وبالجوارح؛ ثم من خاصية الصلاة أن كل عضو من أعضاء البدن له ذكر خاص به، وعبادة تتعلق به. 7 ــــ ومنها: بيان أن مزدلفة من الحرم؛ لقوله تعالى: { عند المشعر الحرام }. 8 ــــ ومنها: جواز المبيت في مزدلفة في جميع نواحيها؛ لقوله تعالى: { عند المشعر الحرام }. 9 ــــ ومنها: أن عرفة مشعر حلال؛ لأنها من الحل؛ ولهذا يجوز للمحرم أن يقطع الأشجار بعرفة. 10 ــــ ومنها: أن مزدلفة مشعر من المشاعر؛ فيكون فيه رد على من قال: إن الوقوف بها سنة؛ والقول الثاني: أنه ركن لا يصح الحج إلا به كالوقوف بعرفة؛ والقول الثالث: أنه واجب يصح الحج بدونه؛ ولكن يجبر بدم؛ وأنا أتوقف بين كونها ركناً، وواجباً؛ أما أنها سنة فهو ضعيف؛ لا يصح. 11 ــــ ومنها: أن الإنسان يجب عليه أن يذكر الله تعالى لما أنعم عليه به من الهداية؛ لقوله تعالى: { واذكروه كما هداكم } إذا جعلنا الكاف للتعليل؛ وإن جعلناها للتشبيه فالمعنى: اذكروه على الوجه الذي هداكم له؛ فيستفاد منها أن الإنسان يجب أن يكون ذكره لله على حسب ما ورد عن الله عزّ وجلّ. 12 ــــ ومنها: أن الذكر المشروع ما وافق الشرع؛ لقوله تعالى: { واذكروه كما هداكم }؛ والهداية نوعان: هداية دلالة: وهذه عامة لكل أحد؛ فكل أحد قد بين الله له شريعته سواء وفِّق لاتباعها، أم لا؛ ودليلها قوله تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [فصلت: 17] ، وقوله تعالى: {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً} [الإنسان: 3] ؛ والثاني: هداية توفيق بأن يوفق الله العبد لاتباع الهدى؛ ومنها قوله تعالى حين ذكر من ذكر من الأنبياء: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90] ، وقوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت} [القصص: 56] أي لا توفق للهدى من أحببته، أو من أحببت هدايته. 13 ــــ ومن فوائد الآية: تذكير الإنسان بحاله قبل كماله؛ ليعرف بذلك قدر نعمة الله عليه؛ لقوله تعالى: { وإن كنتم من قبله لمن الضالين }؛ ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: «ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي»(2)؛ ومنه قول الملَك للأبرص والأقرع: «ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيراً فأغناك الله»(3) الحديث؛ فالتذكير بالنعم بذكر الحال، وبذكر الكمال بعد النقص مما يوجب للإنسان أن يزداد من شكر نعمة الله عليه. القرآن { )ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:199) التفسير: { 199 } قوله تعالى: { ثم أفيضوا } أي من عرفات. قوله تعالى: { من حيث أفاض الناس } أي من المكان الذي يفيض الناس منه؛ وكانت قريش في الجاهلية لا يقفون مع الناس في عرفة - يقولون: نحن أهل الحرم فلا نقف خارج الحرم -؛ فأُمر المسلمون أن يفيضوا من حيث أفاض الناس - أي من عرفة -؛ هذا هو ظاهر الآية الكريمة؛ ولكنه مشكل حيث إنه ذُكر بعد قوله: { فإذا أفضتم من عرفات }؛ وأجيب عن هذا الإشكال أن الترتيب ذكري - لا ترتيب حكمي ؛ بمعنى أن الله تعالى لما ذكر إفاضتهم من عرفات أكد هذا بقوله تعالى: { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } دون أن يكون المراد الترتيب الحكمي؛ ويحتمل أن يكون قوله تعالى: { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } أي أفيضوا من المشعر الحرام من حيث أفاض الناس؛ فيكون المراد بالإفاضة هنا الإفاضة من مزدلفة؛ وعلى هذا الاحتمال لا يبقى في الآية إشكال. قوله تعالى: { واستغفروا الله } أي اطلبوا المغفرة منه؛ والمغفرة ستر الذنب، والتجاوز عنه؛ لأنها مأخوذة من المغفر الذي يوضع على الرأس عند القتال لتوقي السهام؛ وليست المغفرة مجرد الستر؛ بل هي ستر، ووقاية. قوله تعالى: { إن الله غفور رحيم }؛ هذه الجملة تعليل للأمر؛ أي استغفروا الله؛ لأنه أهل لأن يُستغفَر؛ فإنه سبحانه وتعالى غفور رحيم. وإعراب { رحيم }: خبر ثانٍ لـ{ إن }؛ والخبر الأول: { غفور }. وقوله تعالى: { غفور } صيغة مبالغة؛ وذلك لكثرة غفرانه تبارك وتعالى، وكثرة من يغفر لهم؛ و «الغفور» أي ذو المغفرة، كما قال تعالى: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} [الرعد: 6] . وقوله تعالى: { رحيم } إما صفة مشبهة؛ وإما صيغة مبالغة؛ و «الرحيم» أي ذو الرحمة؛ وهي صفة تقتضي جلب النعم، ودفع النقم، كما قال تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} [النحل: 53] . الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: وجوب المبيت بمزدلفة؛ لقوله تعالى: { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } على أحد التفسيرين، كما سبق؛ ومتى أفاض الإنسان من حيث أفاض الناس فإنه يلزم من ذلك أن يكون قد بات بمزدلفة. 2 ــــ ومنها: أن هذا النسك كان أمراً معلوماً يسير الناس عليه من قديم الزمان؛ لقوله تعالى: { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس }. 3 ــــ ومنها: أن الناس في أحكام الله تعالى سواء؛ فلا يخص أحد بحكم من الأحكام إلا لمعنًى يقتضي ذلك؛ والمعنى المخصِّص يكون من قِبَل الشرع - لا من قبل الهوى، والعادة -؛ لقوله تعالى: { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس }؛ ولا يشكل على قولنا هذا ما ورد في قصة أبي بردة بن نيار أنه ذبح في عيد الأضحى أضحية قبل الصلاة؛ ولما خطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «إن من ذبح قبل الصلاة فلا نسك له، وأن شاته شاة لحم» قام أبو بردة فقال: «يا رسول الله، إن عندي عناقاً هي أحب إلي من شاتين أفتجزي عني؟ قال: نعم؛ ولن تجزئ عن أحد بعدك»(1)؛ لأن المراد بقوله (ص): «لن تجزئ عن أحد بعدك» أي بعد حالك؛ بمعنى: أن من جرى له مثله فإنها تجزي عنه؛ هكذا قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - وهو ظاهر -؛ وكذلك لا يشكل على هذا قصة سالم مولى أبي حذيفة الذي كان قد تبناه؛ فلما أبطل الله التبني جاءت زوجة أبي حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه في سالم أنه كان يدخل عليها؛ يعني: وكأنه أحد أبنائها؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه تحرمي عليه»(2)؛ فإنه ليس خاصاً به؛ بل لو جرى لأحد مثل ما جرى لسالم لحكمنا له بمثل ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم لسالم؛ لكن هذا لا يمكن بعد نسخ التبني؛ إذ لا يمكن أحداً أن يتبنى؛ وعلى هذا فالصورة التي تلحق بقصة سالم ممتنعة. 4 ــــ ومنها: أنه يشرع أن يستغفر الله عزّ وجلّ في آخر العبادات؛ لقوله تعالى: { واستغفروا الله }. 5 ــــ ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما: «الغفور» ، و «الرحيم» ؛ وإثبات ما تضمناه من الصفة؛ وهي المغفرة، والرحمة؛ وإثبات ما تضمناه من الحكم بمقتضاهما؛ وهو أنه يغفر ويرحم كما قال تعالى: {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء} [العنكبوت: 21] ، وقال تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} [آل عمران: 135] . 6 ــــ ومنها: قرن الحكم بالعلة؛ لقوله تعالى: { واستغفروا الله إن الله غفور رحيم }؛ وقرن الحكم بالعلة في مثل هذا يفيد الإقدام، والنشاط على استغفار الله عزّ وجلّ. القرآن {)فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (البقرة:200)وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة:201) التفسير: { 200 } قوله تعالى: { فإذا قضيتم مناسككم } أي أنهيتم مناسككم؛ وذلك بالتحلل من النسك. قوله تعالى: { فاذكروا الله } أمر تعالى بذكره بعد فراغ النسك؛ لأن الإنسان إذا فرغ من العبادة قد يغفل عن ذكر الله. وقوله تعالى: { مناسككم } جمع منسك؛ وهو فيما يظهر اسم مصدر - يعني مصدراً ميمياً -؛ أي قضيتم نسككم؛ و «النسك» بمعنى العبادة؛ وهو كل ما يتعبد به الإنسان لله؛ ولكن كثر استعماله في الحج؛ وفي الذبح؛ ومنه قوله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} [الأنعام: 162] . قوله تعالى: { كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً }؛ «ذكر» هنا مصدر مضاف لفاعله؛ و «آباء» مفعول به؛ أي كما تذكرون آباءكم، أو أشد ذكراً؛ و{ أشد } يشمل الشدة في الهيئة، وحضور القلب، والإخلاص؛ والشدةَ في الكثرة أيضاً؛ فيذكر الله ذكراً كثيراً، ويذكره ذكراً قوياً مع حضور القلب. وقوله تعالى: { كذكركم آباءكم }؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يذكرون أمجاد آبائهم إذا انتهوا من المناسك؛ وكل يفخر بنسبه، وحسبه؛ فأمر الله تعالى أن نذكره سبحانه وتعالى كذكرهم آباءهم، أو أشد ذكراً. وقوله تعالى: { أو أشد ذكراً }: قال كثير من النحويين: إن { أو } بمعنى: بل؛ أي بل أشد؛ وهو هنا متوجِّه؛ ويشبهها من بعض الوجوه قوله تعالى: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} [الصافات: 147] ؛ وقد ذكر ابن القيم في قوله تعالى: {أو يزيدون} أن {أو} هنا ليست بمعنى «بل»؛ ولكنها لتحقيق ما سبق - يعني: إن لم يزيدوا فلن ينقصوا -؛ وبناءً على هذا نقول مثله في هذه الآية: أي كذكركم آباءكم - إن لم يزد فلا ينقص -؛ إلا أنّه هنا إذا جعلناها بمعنى «بل» تكون أبلغ؛ لأن ذكر الله يجب أن يكون أشد من ذكر الآباء. قوله تعالى: { فمن الناس }؛ «من» للتبعيض؛ والمعنى: بعض الناس؛ بدليل أنها قوبلت بقوله تعالى: { ومنهم }؛ فيكون المعنى: بعضهم كذا؛ وبعضهم كذا؛ وهذا من باب التقسيم؛ يعني: ينقسم الناس في أداء العبادة لا سيما الحج إلى قسمين. قوله تعالى: { من يقول ربنا آتنا في الدنيا } أي أعطنا في الدنيا؛ والمفعول محذوف؛ والتقدير: آتنا نصيبنا في الدنيا، بحيث لا يسأل إلا ما يكون في ترف دنياه فقط؛ ولا يسأل ما يتعلق بالدين؛ وربما يكون قوله تعالى: { ربنا آتنا في الدنيا } شاملاً للقول باللسان، والقول بالحال ــــ أي قد يقول صراحة -: ربنا آتنا في الدنيا مثلاً سكناً جميلاً؛ سيارة جميلة؛ وما أشبه ذلك؛ وربما يقوله بلسان الحال لا بلسان المقال؛ لأنه إذا دعا في أمور الدنيا أحضر قلبه، وأظهر فقره؛ وإذا دعا بأمور الآخرة لم يكن على هذه الحال. قوله تعالى: { وما له في الآخرة من خلاق }؛ { ما } نافية؛ و{ مِن خلاق } مبتدأ؛ وخبره الجار والمجرور: {له}؛ ودخلت { مِن } على المبتدأ من أجل توكيد العموم؛ لأن { خلاق } نكرة في سياق النفي تفيد العموم؛ فإذا دخلت عليها { مِن } كان ذلك تأكيداً للعموم؛ و «الخلاق» بمعنى النصيب؛ يعني ما له في الآخرة من نصيب؛ لأنه لا يريد إلا الدنيا؛ فلا نصيب له في الآخرة مما دعا به؛ وقد يكون له نصيب من أعمال أخرى. { 201 } قوله تعالى: { ومنهم } أي ومن الناس. قوله تعالى: { من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة }؛ { حسنة }: مفعول «آتِ» الثاني؛ وأما { حسنة } الثانية فهي معطوفة على الأولى؛ يعني من الناس من تكون همته عليا يريد الخير في الدنيا، والآخرة؛ يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة؛ وحسنة الدنيا كل ما يستحسنه الإنسان منها، مثل الصحة، وسعة الرزق، كثرة البنين، والزوجات، والقصور، والمراكب الفخمة، والأموال؛ وأما حسنة الآخرة فقيل: إنها الجنة؛ لقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26] ؛ ولا شك أن الحسنة العظمى في الآخرة هي الجنة؛ لكن في الآخرة حسنات يستحسن المرء وقوعها غير الجنة، مثل أن يبيض وجهه، وأن تثقل موازينه، وأن يعطى كتابه بيمينه؛ فإنه إذا أعطي الكتاب بيمينه يقول: هاؤم اقرؤوا كتابيه فرحاً مسروراً. قوله تعالى: { وقنا عذاب النار } أي اجعل لنا وقاية من عذاب النار؛ وهذا يشمل شيئين: الأول: العصمة من الأعمال الموجبة لدخول النار. الثاني: المغفرة للذنوب التي توجب دخول النار. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآيتين: أن الإنسان ينبغي له إذا قضى من العبادة أن لا يغفل بعدها عن ذكر الله؛ لقوله تعالى: { فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله }؛ وهذا كقوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون} [الجمعة: 10] . 2 ــــ ومنها: تقديم ذكر الله تعالى على ذكر الوالدين؛ لقوله تعالى: { أو أشد ذكراً }. 3 ــــ ومنها: أن الأجداد داخلون في مسمّى الآباء؛ لأن العرب كانوا يفتخرون بأمجاد آبائهم، وأجدادهم، وقبائلهم. 4 ــــ ومنها: بيان انقسام الناس فيما يطلبون من الله، وأن منهم ذوي الغايات الحميدة، والهمم العالية الذين يقولون: { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار }؛ ومنهم ذوو الغايات الذميمة، والهمم النازلة الذين يقولون: { ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق }. 5 ــــ ومن فوائد الآيتين: أن الإنسان لا يذم إذا طلب حسنة الدنيا مع حسنة الآخرة؛ لقوله تعالى: { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة }. 6 ــــ ومنها: أن الإنسان محتاج إلى حسنات الدنيا، والآخرة. 7 ــــ ومنها: إثبات الآخرة. 8 ــــ ومنها: إثبات النار، وعذابها. 9 ــــ ومنها: إثبات علم الله، وسمعه، وقدرته؛ إذ لا يدعى إلا من اتصف بذلك. القرآن { )أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (البقرة:202) التفسير: { 202 } قوله تعالى: { أولئك لهم نصيب مما كسبوا }: «أولاء» اسم إشارة؛ والمشار إليه فيه خلاف؛ فقال بعض العلماء: إن الإشارة تعود إلى مورد التقسيم كله؛ يعني: أولئك المذكورون الذين يقولون: {ربنا آتنا في الدنيا} [البقرة: 201] ؛ والذين يقولون: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة} [البقرة: 201] ؛ ويكون كل له نصيب مما كسب، كقوله تعالى: {ولكل درجات مما عملوا} [الأنعام: 132] ؛ ولأنه تعالى قال: { والله سريع الحساب }؛ وهذا يقتضي أن يكون المشار إليه كلا القسمين؛ وقال آخرون: بل إن الإشارة تعود إلى التقسيم الثاني الذين يقولون: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} [البقرة: 201] ؛ فهؤلاء لهم نصيب مما كسبوا؛ لقوله تعالى: {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها} [النساء: 85] ؛ الآية إذاً محتملة للمعنيين؛ والثاني منهما أظهر؛ لأن الإشارة تعود إلى أقرب مذكور. قوله تعالى: { والله سريع الحساب } أي محاسبة الله سبحانه وتعالى الخلائق؛ والسرعة هنا قد تكون سرعة الزمن؛ بمعنى: أن حساب الله قريب، كما في قوله تعالى: {وما يدريك لعل الساعة قريب} [الشورى: 17وقوله تعالى: { وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً } [الأحزاب: 63] ؛ وقد يكون المراد سرعة محاسبة الله للخلق ــــ أي أن نفس حسابه سريع ــــ؛ والثاني أبلغ؛ فإن الله عزّ وجلّ يحاسب الخلائق كلها في يوم واحد، ويعطي كل إنسان ما يستحقه من ذلك الحساب؛ ومحاسبة الله للخلائق على نوعين؛ النوع الأول للمؤمنين؛ والنوع الثاني للكافرين؛ أما حساب المؤمنين فإن الله سبحانه وتعالى يخلو بعبده المؤمن، ويقرره بذنوبه، ويقول له: «عملت كذا في يوم كذا» حتى يقر ويعترف، فيقول الله عزّ وجلّ له: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»(1)؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب عذب؛ فقالت عائشة: يا رسول الله، أليس الله يقول: {فسوف يحاسب حساباً يسيراً} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذلك العرض»(2)؛ أي تعرض الأعمال على الشخص حتى يقر؛ فإذا أقر بها قال الله تعالى له: «سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم» ؛ وأما غير المؤمنين فإنهم لا يحاسبون كذلك؛ وإنما الأمر كما قال شيخ الإسلام: لا يحاسبون حساب من توزن حسناته، وسيئاته؛ لأنهم لا حسنات لهم؛ ولكن تحصى أعمالهم، وتحفظ، فيوقفون عليها، ويقررون بها، ويخزون بها؛ يعني: وينادى عليهم على رؤوس الخلائق: {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} [هود: 18 الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: أن الثواب يكون بالعدل؛ لقوله تعالى: { أولئك لهم نصيب مما كسبوا }؛ لكنه بالعدل في العقوبة؛ وبالفضل في المثوبة. 2 ــــ ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { مما كسبوا }. 3 ــــ ومنها: إثبات الحساب؛ لقوله تعالى: { والله سريع الحساب }. 4 ــــ ومنها: تمام قدرة الله تعالى؛ لقوله تعالى: { والله سريع الحساب }. 5 ــــ ومنها: إثبات علم الله؛ لأن المحاسِب لا بد أن يكون لديه علم يقابل به من يحاسبه. القرآن {)وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (البقرة:203) التفسير: { 203 } قوله تعالى: { واذكروا الله في أيام معدودات }؛ لما ذكر الله - تبارك وتعالى - أفعال الحج ذكر ما بعد انتهاء أفعال الحج؛ وهو ذكر الله تعالى في أيام معدودات؛ وهي أيام التشريق الثلاثة: الحادي عشر؛ والثاني عشر؛ والثالث عشر من شهر ذي الحجة؛ والذكر هنا يشمل كل ما يتقرب به إلى الله عزّ وجلّ من قول أو فعل في هذه الأيام؛ فيشمل التكبير في تلك الأيام مطلقاً، ومقيداً؛ والنحر من الضحايا، والهدايا؛ ورمي الجمار؛ والطواف، والسعي إذا وقعا في هذه الأيام؛ بل والصلاة المفروضة، والتطوع؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الطواف بالبيت، وبالصفا، والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله»(3)، وقال (ص): «أيام التشريق أيام أكل، وشرب، وذكر لله عزّ وجلّ»(4). قوله تعالى: { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } أي من تعجل قبل تمام الأيام الثلاثة، وأنهى حجه فلا إثم عليه. قوله تعالى: { ومن تأخر فلا إثم عليه }، أي من تأخر إلى اليوم الثالث في منى لرمي الجمرات فلا إثم عليه. قوله تعالى: { لمن اتقى }: الظاهر أنها قيد للأمرين جميعاً للتعجل والتأخر، بحيث يحمل الإنسان تقوى الله عزّ وجلّ على التعجل أو التأخر. قوله تعالى: { واتقوا الله }: ما أكثر ما يأمر الله سبحانه وتعالى بالتقوى في كتابه العزيز؛ لأن التقوى اتخاذ وقاية من عذاب الله عزّ وجلّ بفعل أوامره، واجتناب نواهيه على علم وبصيرة. قوله تعالى: { واعلموا أنكم إليه تحشرون } أي تجمعون إلى الله - تبارك وتعالى؛ وذلك يوم القيامة؛ وصدر هذا بقوله تعالى: { واعلموا } للتنبيه على أنه لا بد من الإيمان بهذا الحشر، والاستعداد له. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: مزية الذكر في هذه الأيام المعدودات؛ لقوله تعالى: { واذكروا الله في أيام معدودات }؛ لأن ذكر الله على سبيل العموم في كل الوقت؛ لكن هذا على سبيل الخصوص. 2 ــــ ومنها: أنه يجوز في هذه الأيام الثلاثة التعجل، والتأخر؛ لقوله تعالى: { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه }. 3 ــــ ومنها: سعة فضل الله عزّ وجلّ، وتيسيره في أحكامه، حيث جعل الإنسان مخيراً أن يبقى ثلاثة أيام، أو يتعجل في اليومين. 4 ــــ ومنها: أنّه لا بد أن يكون خروجه من منى قبل أن تغرب الشمس؛ لأن { في } للظرفية؛ والظرف يحيط بالمظروف؛ فلا بد أن يكون التعجل في خلال اليومين بعد الرمي الواقع بعد الزوال. 5 ــــ ومنها: أنه لا يجوز التعجل في اليوم الحادي عشر؛ لأنه لو تعجل في اليوم الحادي عشر لكان تعجل في يوم لا في يومين؛ فكثير من العامة يظنون أن المراد باليومين: يوم العيد، واليوم الحادي عشر؛ وهذا ليس بصحيح؛ لأن الله تعالى قال: { واذكروا الله في أيام معدودات }؛ وهي أيام التشريق؛ وأيام التشريق إنما تبتدئ من الحادي عشر. 6 ــــ ومنها: أن الأعمال المخير فيها إنما ينتفي الإثم عنها إذا فعلها الإنسان على سبيل التقوى لله عزّ وجلّ دون التهاون بأوامره؛ لقوله تعالى: { لمن اتقى }؛ فمن فعل ما يخير فيه على سبيل التقوى لله عزّ وجلّ والأخذ بتيسيره فهذا لا إثم عليه؛ وأما من فعلها على سبيل التهاون، وعدم المبالاة فإن عليه الإثم بترك التقوى، وتهاونه بأوامر الله. تــنــبــيــه: لا يستفاد من الآية جواز التأخر إلى اليوم الرابع عشر، والخامس عشر مع أن الله تعالى أطلق: { ... ومن تأخر }؛ لأن أصل الذكر في أيام معدودات؛ وهي ثلاثة أيام؛ فيكون المعنى؛ من تأخر في هذه الأيام المعدودات؛ وهي الأيام الثلاثة. 7 ــــ ومنها: وجوب التقوى؛ لقوله تعالى: { واتقوا الله }. 8 ــــ ومنها: إثبات البعث؛ لقوله تعالى: { واعلموا أنكم إليه تحشرون }. 9 ــــ ومنها: قرن المواعظ بالتخويف؛ لقوله تعالى: { واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون }؛ لأن الإنسان إذا علم أنه سيحشر إلى الله عزّ وجلّ، وأنه سيجازيه فإنه سوف يتقي الله، ويقوم بما أوجب الله، ويترك ما نهى الله عنه؛ وبهذا عرفنا الحكمة من كون الله عزّ وجلّ يقرن الإيمان باليوم الآخر في كثير من الآيات بالإيمان بالله دون بقية الأركان التي يؤمن بها؛ وذلك؛ لأن الإيمان باليوم الآخر يستلزم العمل لذلك اليوم؛ وهو القيام بطاعة الله ورسوله. القرآن { )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) (البقرة:204) التفسير: { 204 } فيما سبق من الآيات قسم الناس في الحج إلى قسمين؛ منهم من يقول: {ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق} [البقرة: 200] ؛ ومنهم من يقول: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة} [البقرة: 201] ؛ وهؤلاء لهم نصيب مما كسبوا؛ هنا قسم الناس أيضاً إلى قسمين: إلى مؤمن؛ وإلى منافق؛ فقال تعالى في المنافق: { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا }؛ { من } هنا للتبعيض؛ وهي بمعنى بعض الناس؛ ولهذا أعربها بعض النحويين على أنها مبتدأ؛ قال: لأنها حرف بمعنى الاسم؛ إذ إنها بمعنى بعض الناس؛ فيكون { من } مبتدأ، و{ من يعجبك } خبره؛ لكن المشهور أن { مِنْ } حرف جر؛ و{ من الناس} جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم؛ و{ من يعجبك } مبتدأ مؤخر؛ يعني: ومن الناس الذي يعجبك قوله، والخطاب في قوله تعالى: { يعجبك } إما للرسول (ص)؛ وإما لكل من يتأتى خطابه؛ والأولى الثاني. وقوله تعالى: { من يعجبك قوله } ذكر بعض النحويين أنه إذا قيل: «أعجبني كذا» فهو لما يستحسن؛ وإذا قلت: «عجبت من كذا» فهو لما ينكر؛ فتقول مثلاً: «أعجبني قول فلان» إذا كان قولاً حسناً؛ و«عجبت من قوله» إذا كان قولاً سيئاً منكراً؛ فقوله تعالى: { من يعجبك قوله } أي من تستحسن قوله. قوله تعالى: { في الحياة الدنيا } أي إذا تكلم فيما يتعلق بأمور الدنيا كأن يتكلم بشيء، ويتوصل به إلى نجاته من القتل، والسبي؛ لأن هذه الآية في المنافقين؛ ودليل ذلك قوله تعالى: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم} [المنافقون: 4] من حسنه، وفصاحته؛ ولكنهم أهل غرور، وخداع، وكذب؛ فإن آية المنافق ثلاث؛ منها: إذا حدث كذب. وقوله تعالى: { في الحياة الدنيا } متعلق بمحذوف حالاً من { قوله }؛ والتقدير: قوله حال كونه فيما يتعلق بالدنيا؛ لأنه لا يتكلم في أمور الدين؛ ويحتمل أن المعنى: القول الذي يعجب حتى في الدين؛ لكن لا ينتفع به في الآخرة؛ إنما ينتفع به في الدنيا فقط. قوله تعالى: { ويشهد الله على ما في قلبه }؛ اختلف المفسرون في معناها على قولين: الأول: أن المعنى استمراره في النفاق؛ لأن الله - تبارك وتعالى - يعلم ما في قلبه من هذا النفاق؛ فاستمراره عليه إشهاد لله تعالى على ما في قلبه. والقول الثاني: أن المعنى: أن يُقسم، ويحلف بالله أنه مؤمن مصدق، وأن الذي في قلبه هو هذا؛ فيشهد الله على ما في قلبه من محبة الإيمان، والتمسك به وهو كاذب في ذلك؛ ويدل لذلك قوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} [المنافقون: 1] ، أي لكاذبون في دعواهم أنهم يشهدون بذلك؛ وعندي أن المعنيين لا يتنافيان؛ كلاهما حق؛ فهو منطوٍ على الكفر والنفاق؛ وهو أيضاً يُعلم الناس، ويُشهد الله على أنه مؤمن؛ أما حقيقته قال الله تعالى فيه: { وهو ألد الخصام } يعني: أعوجهم، وأكذبهم؛ و{ الخصام } يحتمل أن يكون مصدراً؛ ويحتمل أن يكون جمعاً؛ إن كان مصدراً ففعله: خاصم يخاصم، مثل: جادل يجادل؛ وقاتل يقاتل؛ وعلى هذا: { ألد الخصام } تكون الإضافة لفظية؛ لأنها صفة مشبهة مضافة إلى موصوفها - أي وخصامه ألد الخصام؛ وإن كان جمعاً فمفرده: خَصِم؛ فيكون المعنى أنه ألد الخصوم - أي أعوجهم، وأشدهم كذباً؛ ويكون أيضاً من باب إضافة الصفة إلى موصوفها؛ لأنَّ المعنى؛ وهو من الخصوم الأشداء الأقوياء في خصومتهم؛ وهذا الرجل صار ألد الخصام؛ لأن قوله جيد، وبيِّن يعجبك قوله، فتجده لاعتماده على فصاحته، وبيانه ألد الخصام. الفوائد: 1- من فوائد الآية: أنه لا ينبغي للإنسان أن يغتر بظواهر الأحوال؛ لقوله تعالى: { ومن الناس من يعجبك قوله }؛ وكذلك من الناس من يعجبك فعله؛ ولكنه منطوٍ على الكفر - والعياذ بالله؛ ولكن لا شك أنه بالنسبة إلينا ليس لنا أن نحكم إلا بما يقتضيه الظاهر؛ لأن ما في القلوب لا نعلمه؛ ولا يمكن أن نحاسب الناس على ما في القلوب؛ وإنما نحاسبهم على حسب الظاهر. 2- ومنها: أن هذا الصنف من الناس يُشهد الله على ما في قلبه إما مما أظهره؛ وإما مما أبطنه - حسب ما سبق. 3- ومنها: الإشارة إلى ذم الجدل، والخصام؛ لقوله تعالى: { وهو ألد الخصام }؛ لأن الخصومات في الغالب لا يكون فيها بركة؛ وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم»(1) أي الإنسان المخاصم المجادل بالباطل ليدحض به الحق؛ وما من إنسان في الغالب أعطي الجدل إلا حرم بركة العلم؛ لأن غالب من أوتي الجدل يريد بذلك نصرة قوله فقط؛ وبذلك يحرم بركة العلم؛ أما من أراد الحق فإن الحق سهل قريب لا يحتاج إلى مجادلات كبيرة؛ لأنه واضح؛ ولذلك تجد أهل البدع الذين يخاصمون في بدعهم علومهم ناقصة البركة لا خير فيها؛ وتجد أنهم يخاصمون، ويجادلون، وينتهون إلى لا شيء؛ لا ينتهون إلى الحق؛ لأنهم لم يقصدوا إلا أن ينصروا ما هم عليه؛ فكل إنسان جادل من أجل أن ينتصر قوله فإن الغالب أنه لا يوفق، ولا يجد بركة العلم؛ وأما من جادل ليصل إلى العلم، ولإثبات الحق، وإبطال الباطل فإن هذا مأمور به؛ لقوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125] . 4- ومنها: إثبات علم الله عزّ وجلّ بما في الصدور؛ لقوله تعالى: { ويشهد الله على ما في قلبه }؛ لأن ما في القلب لا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ. القرآن { )وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة:205) التفسير: {205 } قوله تعالى: { وإذا تولى } أي عنك، وذهب { سعى في الأرض }: المراد بالسعي هنا مطلق الحركة؛ وليس المراد بالسعي الركض بالرِّجل؛ { ليفسد فيها } أي بالمعاصي، والكفر، والفتنة. قوله تعالى: { ويهلك الحرث والنسل } أي يكون سبباً لإهلاكهما؛ لأن المعاصي سبب لذلك؛ لقوله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم: 41] ، ولقوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} [الأعراف: 96] ؛ والمراد بـ{ الحرث } المحروث؛ وهو الزروع، كما يقال: «الغرس» يعني المغروس؛ والمراد بـ{ النسل } مثلها أيضاً ــــ يعني: المنسول؛ وهو الأولاد؛ يعني: يكون سعيه سبباً لفساد الحرث، والحيوانات. قوله تعالى: { والله لا يحب الفساد } بيان أن عمله هذا مكروه إلى الله؛ لأن الله لا يحب الفساد؛ وإذا كان لا يحب هذا الفعل فإنه لا يحب من اتصف به؛ ولهذا جاء في آية أخرى؛ {والله لا يحب المفسدين} [المائدة: 64] ؛ فالله لا يحب الفساد، ولا يحب المفسدين؛ فالفساد نفسه مكروه إلى الله؛ والمفسدون أيضاً مَكروهون إليه لا يحبهم. الفوائد: 1 ــــ من فوائد الآية: أن المعاصي سبب لهلاك الحرث، والنسل؛ لقوله تعالى: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل} [البقرة: 205] ؛ وهذا كقوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} [الأعراف: 96] . 2 ــــ ومنها: إثبات محبة الله عزّ وجلّ للصلاح؛ لقوله تعالى { والله لا يحب الفساد }؛ فإن قيل: هذا نفي، وليس بإثبات؛ قلنا: إن نفيه محبة الفساد دليل على ثبوت أصل المحبة؛ ولو كان لا يحب أبداً لم يكن هناك فرق بين الفساد، والصلاح؛ فلما نفى المحبة عن الفساد علم أنه يحب الصلاح. 3 ــــ ومنها: التحذير من الفساد في الأرض؛ لقوله تعالى: { والله لا يحب الفساد }؛ ومعلوم أن كل إنسان يجب أن يكون حذراً من التعرض لأمر لا يحبه الله. القرآن {)وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) (البقرة:206) التفسير: { 206 } قوله تعالى: { وإذا قيل له اتق الله } أي إذا قال له أهل العلم، والإيمان اتق الله ــــ أي اتخذ وقاية من عذاب الله بترك الكفر، والفساد؛ و{ أخذته العزة بالإثم } أي حملته على الإثم؛ و{ العزة } بمعنى الأنفة، والحمية، والترفع؛ والعزة قد تكون وصفاً محموداً؛ وقد تكون وصفاً مذموماً، فالمعتز بدينه محمود، كما قال تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون: 8] ؛ والمعتز بحسبه ونسبه حتى يكون عنده أنفة إذا أُمر بالدين والإصلاح مذموم. والمراد بـ {الإثم} الذنب الموجب للعقوبة؛ فكل ذنب موجب للعقوبة فهو إثم. قوله تعالى: { فحسبه جهنم } أي كافيه؛ وهو وعيد له بها - والعياذ بالله؛ و «الحسْب» بمعنى الكافي، كما قال الله تعالى: {فقل حسبي الله} [التوبة: 129] أي كافيني؛ وقال تعالى: {وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} [آل عمران: 173] أي كافينا؛ فقوله تعالى؛ { فحسبه جهنم } أي كافيته؛ والمعنى: أنه يكون من أهلها - والعياذ بالله و{ جهنم } اسم من أسماء النار؛ قيل: إنها كلمة معربة، وأنها ليست من العربية الفصحى؛ وقيل: بل هي من اللغة الفصحى، وأن أصلها من الجهمة؛ وهي الظلمة؛ ولكن زيدت فيها النون للمبالغة؛ وعلى كلٍّ فإن { جهنم } اسم للنار التي أعدها الله سبحانه وتعالى للكافرين؛ وسميت بذلك لبعد قعرها، وظلمتها - والعياذ بالله -. قوله تعالى: { ولبئس المهاد }: اللام هنا للابتداء؛ أو موطئة للقسم - أي: وواللَّهِ لبئس المهاد - وهذا أقرب؛ و «بئس» فعل جامد لإنشاء الذم؛ وفاعلها { المهاد }؛ وهي من الأفعال التي تحتاج إلى مخصوص بالذم؛ والمخصوص محذوف؛ أي: ولبئس المهاد مهاده، حيث كانت جهنم. الفوائد: 1- من فوائد الآية: أن هذا الرجل الموصوف بهذه الصفات يأنف أن يؤمر بتقوى الله؛ لقوله تعالى: { أخذته العزة بالإثم } فهو يأنف، كأنه يقول في نفسه: أنا أرفع من أن تأمرني بتقوى الله عزّ وجلّ؛ وكأن هذا الجاهل تعامى عن قول الله تعالى لأتقى البشر: {يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1] ؛ وقال تعالى في قصة زينب: {واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} [الأحزاب: 37] . 2- ومنها: البلاغة التامة في حذف الفاعل في قوله تعالى: { وإذا قيل له اتق الله }؛ ليشمل كل من يقول له ذلك؛ فيكون رده لكراهة الحق. 3- ومنها: التحذير من رد الناصحين؛ لأن الله تعالى جعل هذا من أوصاف هؤلاء المنافقين؛ فمن رد آمراً بتقوى الله ففيه شبه من المنافقين؛ والواجب على المرء إذا قيل له: «اتق الله» أن يقول: «سمعنا، وأطعنا» تعظيماً لتقوى الله. 4- ومنها: أن الأنفة قد تحمل صاحبها على الإثم؛ لقوله تعالى: { أخذته العزة بالإثم }. 5- ومنها: أن هذا العمل موجب لدخول النار؛ لقوله تعالى: { فحسبه جهنم }. 6- ومنها: القدح في النار، والذم لها؛ لقوله تعالى: { ولبئس المهاد }؛ ولا شك أن جهنم بئس المهاد. القرآن { )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة:207) التفسير: لما ذكر الله حال المنافقين الذين يعجبك قولهم في الحياة الدنيا وهم ألد الخصام؛ والذين إذا تولوا سعوا في الأرض فساداً ليهلكوا الحرث، والنسل - والله لا يحب الفساد - ذكر حال قوم على ضدهم؛ وهكذا القرآن مثاني تثَنَّى فيه الأمور؛ فيؤتى بذكر الجنة مع النار؛ وبذكر المتقين مع الفجار... لأجل أن يبقى الإنسان في روضة متنوعة؛ ثم ليبقى الإنسان بين الخوف، والرجاء - لا يغلب عليه الخوف فيقنط من رحمة الله -؛ ولا الرجاء فيأمن مكر الله؛ فإذا سمع ذكر النار، ووعيدها، وعقوبتها أوجب له ذلك الخوف؛ وإذا سمع ذكر الجنة، ونعيمها، وثوابها أوجب له ذلك الرجاء؛ فترتيب القرآن من لدن حكيم خبير سبحانه وتعالى؛ وهو الموافق لإصلاح القلوب؛ ولهذا نرى من الخطأ الفادح أن يؤلف أحد القرآن مرتباً على الأبواب والمسائل كما صنعه بعض الناس؛ فإن هذا مخالف لنظم القرآن، والبلاغة، وعمل السلف؛ فالقرآن ليس كتاب فقه؛ ولكنه كتاب تربية، وتهذيب للأخلاق؛ فلا ترتيب أحسن من ترتيب الله؛ ولهذا كان ترتيب الآيات توقيفياً لا مجال للاجتهاد فيه؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت الآية قال: «ضعوا هذه الآية في مكان كذا من سورة كذا»(1). { 207 } قوله تعالى: { ومن الناس من يشري نفسه }؛ هذا هو القسيم لقوله تعالى: {ومن الناس من يعجبك...} [البقرة: 204] ؛ وعلى هذا تكون { مِن } للتبعيض؛ والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم؛ و{ من يشري } مبتدأ مؤخر. وقوله تعالى: { من الناس }: قال بعض المفسرين: إنها تعني شخصاً معيناً؛ وهو صهيب الرومي لما أراد أن يهاجر من مكة منعه كفارها، وقالوا: لا يمكنك أن تهاجر أبداً إلا أن تدع لنا جميع ما تملك؛ فوافق على ذلك، وأنقذ نفسه بالهجرة ابتغاء مرضاة الله؛ وقال بعض العلماء - وهم أكثر المفسرين -: بل هي عامة لكل المؤمنين المجاهدين في سبيل الله؛ قالوا: ودليل ذلك قوله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون} [التوبة: 111] ؛ وهذا القول أصح؛ وهو أنها للعموم حتى لو صح أن سبب نزولها قصة صهيب؛ فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقوله تعالى: { من يشري نفسه } أي يبيعها؛ لأن «شرى» بمعنى باع، كقوله تعالى: {وشروه بثمن بخس} [يوسف: 20] أي باعوه بثمن بخس؛ أما «اشترى» فهي بمعنى ابتاع؛ فإذا جاءت التاء فهي للمشتري الآخذ؛ وإذا حذفت التاء فهي للبائع المعطي؛ و{ نفسه } يعني ذاته. قوله تعالى: { ابتغاء مرضات الله } أي طلباً لمرضات الله؛ فهي مفعول لأجله؛ و{ مرضات الله } أي رضوانه أي يبيع نفسه في طلب رضا الله عزّ وجلّ -؛ فيكون قد باع نفسه مخلصاً لله في هذا البيع. قوله تعالى: { والله رؤوف } أي ذو رأفة؛ و«الرأفة» قال العلماء: هي أرق الرحمة، وألطفها؛ و{ بالعباد } أي جميعهم. وفي قوله تعالى: { رؤوف } قراءتان؛ إحداهما: مد الهمزة على وزن فعول؛ والثانية قصرها على وزن فعُل. الفوائد: 1- من فوائد الآية: تقسيم الناس إلى قسمين؛ القسم الأول: {ومن الناس من يعجبك قوله} [البقرة: 204] ؛ والقسم الثاني: { ومن الناس من يشري نفسه }. 2- ومنها: بلاغة هذا القرآن حيث يجعل الأمور مثاني؛ إذا جاء الكلام عن شيء جاء الكلام عن ضده. 3- ومنها: فضل من باع نفسه لله؛ لقوله تعالى: { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله }. 4- ومنها: الإشارة إلى إخلاص النية؛ لقوله تعالى: { ابتغاء مرضات الله }. 5- ومنها: إثبات الرضا لله؛ لقوله تعالى: { مرضات الله }؛ ورضا الله صفة حقيقية لله عزّ وجلّ متعلقة بمشيئته؛ وينكرها الأشاعرة وأشباههم من أهل التعطيل؛ ويحرفون المعنى إلى أن المراد برضا الله إما إثابته؛ أو إرادة الثواب. 6- ومنها: استحباب تقديم مرضاة الله على النفس؛ لأن الله ذكر ذلك في مقام المدح، والثناء. 7- ومنها: إثبات الرأفة لله؛ لقوله تعالى: { والله رؤوف بالعباد }. 8- ومنها: عموم رأفة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { بالعباد }؛ هذا إذا كان { العباد } بالمعنى العام؛ أما إذا قلنا بالمعنى الخاص فلا يستفاد ذلك؛ واعلم أن العبودية لها معنيان: خاص؛ وعام؛ والخاص له أخص؛ وهو خاص الخاص؛ فمن العام قوله تعالى: {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} [مريم: 93]؛ وأما الخاص فمثل قوله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً} [الفرقان: 63] ؛ المراد بهم عباد الرحمن المتصفون بهذه الصفات؛ فيخرج من لم يتصف بها؛ وأما الأخص مثل قوله تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1] ؛ هذه عبودية الأخص - عبودية الرسالة -. * * * انتهى المجلد الثاني من التفسير بحمد الله تعالى، ويليه المجلد الثالث بإذن الله تعالى وبدايته تفسير الآية 208 من سورة البقرة