المقدمة إنَّ الحمدَ لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( ). يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا( ). يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا( ). أما بعد: فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد.. فإن أحمد بن محمد الرومي الحنفي شرح مائة حديث من «المصابيح» للبغوي سماه: «مجالس الأبرار ومسالك الأخيار». وهو مطبوع طبعة حجرية قديمة مع ترجمتها إلى الأوردية للشيخ سبحان بخش الهندي، وسمَّى ترجمتَه بـ «خزينة الأسرار». وقد ترجمه إلى الأوردية– أيضًا– الشيخ محمد إبراهيم الرانديري السورتي الهندي، وسمى ترجمته بـ «نفائس الأزهار». ولقد اعتنى العلماء من الحنفية بهذا الكتاب، وأثنوا عليه وعلى مؤلَّفه؛ كالشاه عبد العزيز الدَّهلويّ، والمفتي كفاية الله الحنفي وغيرهما ( ). ولثناء علماء الحنفية على هذا الكتاب انتخبت أربعة مجالس منه رأيت فيها فائدة كبيرة للمسلمين ومنفعة لهم، وهم في أمسِّ الحاجة إلى معرفة ما ورد فيها؛ خصوصًا بعد انتشار القبوريَّة في مناطق كثيرة من بلدان العالم الإسلامي: 1- اتَّخَذتُ الطبعة الحجرية أصلاً لعدم وقوفي على أصل المخطوط. 2- ترجمة موجزة للمؤلف. 3- عزو الآيات القرآنية إلى مواضعها. 4- تخريج الأحاديث النبوية مع بيان درجتها ما أمكن. 5- وضع فهرس للموضوعات، وآخر للأحاديث النبوية مرتبة أبجديًّا. 6- وضع عناوين جانبية توضح ما في الكتاب. والله أسأل القبول، وهو من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل. كتبه: محمد بن عبد الرحمن الخميس   التعريف بالمؤلف هو أحمد بن محمد الأقحصاري الحنفي، ويعرف بالرومي، من علماء الدولة العثمانية، وله تصانيف واشتغال بعلوم الشريعة تدريسًا وإفتاءً وتصنيفًا. ومن تصانيفه: 1- حاشية على تفسير أبي السعود. 2- دقائق الحقائق. 3- شرح الدر اليتيم في التجويد. 4- مجالس الأبرار ومسالك الأخيار في شرح مائة حديث من المصابيح. توفي رحمه الله تعالى سنة 1043هـ ( ).   المجلس الأول وهو السابع عشر في الأصل في بيان عدم جواز الصَّلاة عند القبور والاستمداد من أهلها واتخاذ السروج والشموع عليها. قال رسول الله : «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»( ). هذا الحديث من صحاح المصابيح روته أم المؤمنين عائشة، وسبب دعائه عليه الصلاة والسلام على اليهود والنصارى باللعنة أنهم كانوا يصلون في المواضع التي دفن فيها أنبياؤهم؛ إمَّا نظرًا منهم بأنَّ السُّجودَ لقبورهم تعظيمٌ لهم؛ وهذا شرك جليّ، ولهذا قال النبي : «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد»( ). أو ظنًّا منهم بأنَّ التَّوجُّهَ إلى قبورهم بالصلاة أعظم وقعًا عند الله تعالى؛ لاشتماله على أمرين: عبادة الله تعالى وتعظيم أنبيائه؛ وهذا شرك خفي، ولهذا نهى النبيُّ  أمَّتَه عن الصَّلاة في المقابر؛ احترازًا عن مشابهتهم بهم، وإن كان القصدان مختلفين. وقال: «ألا إنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون القبورَ مساجد؛ ألا فلا تتخذوا القبورَ مساجد؛ إنِّي أنهاكم عن ذلك»( ). قال بعض المحقِّقين: والصَّلاةُ في المواضع المتبركة من مقابر الصالحين داخلة في هذا النهي؛ لاسيما إذا كان الباعث عليها تعظيم هؤلاء؛ لما في ذلك من الشِّرك الخفيّ؛ فإنَّ مبتدأَ عبادة الأصنام كان في قوم نوح النَّبيّ  من جهة عكوفهم على القبور، كما أخبر الله تعالى في كتابه بقوله: قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا( ). قال ابن عباس وغيره من السَّلَف: كان هؤلاء من القوم الصالحين في قوم نوح النَّبيِّ ؛ لما ماتوا عكف الناس على قبورهم، ثم صوَّروا تماثيلَهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم( )؛ هذا هو مبتَدَأُ عبادة الأصنام، وقال ابن القيِّم في إغاثته نقلاً عن شيخه: إنَّ هذه العلَّة التي لأجلها نهى الشَّارع عن اتِّخاذ القبور مساجد هي التي أوقعت كثيرًا من الناس؛ إمَّا في الشِّرك الأكبر، أو فيما دونه من الشِّرك؛ فإنَّ الشِّركَ بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النُّفوس من الشِّرك بشجر أو حجر؛ ولهذا تجد كثيرًا من الناس عند القبور يتضرَّعون ويخشعون ويخضعون ويعبدون بقلوبهم عبادةً لا يفعلون مثلَها في بيوت الله تعالى، ولا في وقت السحر، ويرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء لديها ما لا يرجون في المساجد؛ فلحسم مادة هذه المفسدة نهى( ) النَّبيُّ- عليه الصلاة والسلام- عن الصلاة في المقبرة مطلقًا، وإن لم يقصد المصلى بصلاته فيها بركة البقعة؛ كما نهى عن الصَّلاة وقتَ طلوع الشَّمس، ووقت غروبها، ووقت استوائها؛ لأنَّها أوقاتٌ يقصد المشركون الصَّلاةَ للشَّمس فيها؛ فنهى أمَّتَه عن الصَّلاة فيها، وإن لم يقصدوا ما قصده المشركون. وإذا قصد الرجل الصلاةَ عند المقبرة تبرُّكًا بالصَّلاة في تلك البقعة فهذا عينُ المحادَّة لله- تعالى- ولرسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى؛ فإنَّ العبادات مبناها على الاستنان والاتباع؛ لا على الهواء والابتداع؛ فإنَّ المسلمين أجمعوا على ما علموه من دين نبيهم؛ أنَّ الصلاةَ عند المقبرة منهيٌّ عنها؛ لأنَّ فتنةَ الشِّرك بالصَّلاة فيها ومشابهة عبادة الأصنام أعظم كثيرًا من مفسدة الصلاة حين طلوع الشمس، وحين غروبها، وحين استوائها؛ فإنه عليه الصلاة والسلام لمَّا نهى عن تلك المفسدة سدًّا لذريعة التَّشَبُّه التي لا تكاد تخطر ببال المصلِّي، فكيف بهذه الذريعة التي كثيرًا ما تدعو صاحبَها إلى الشِّرك بدعاء الأولياء وطلب الحوائج منهم واعتقاد أنَّ الصَّلاةَ عند قبورهم أفضل من الصَّلاة في المساجد، وغير ذلك ممَّا هو محادَّةٌ ظاهرةٌ لله تعالى ولرسوله. قال ابن القيم في إغاثته: «من جمع بين سنة رسول الله  في القبور، وما أمر به، وما نهى عنه، وما كان عليه الصَّحابة والتَّابعون، وبين ما كان عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضادًّا للآخر ومناقضًا له، بحيث لا يجتمعان أبدًا؛ فإنَّه  نهى عن الصَّلاة عندها، وهم يخالفون ويصلُّون عندها، ونهى عن اتِّخاذ المساجد عليها، وهم يخالفونه ويبنون عليها مساجد ويسمُّونها مَشاهد، ونهى عن إيقاد السُّرُج عليها، وهم يخالفون ويوقدون عليها القناديل والشُّموع؛ بل يقفون ذلك أوقافًا. ونهى عن تجصيصها والبناء عليها، وهم يخالفونه ويجصِّصونها، ويعقدون عليها القباب، ونهى عن الكتابة عليها، وهم يخالفونه، ويتَّخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره، ونهى عن الزِّيادة عليها غير ترابها، وهم يخالفونه ويريدون عليها سوى التراب الآجر والأحجار والجصّ، ونهى عن اتِّخاذها عيدًا، وهم يخالفونه، ويتخذونها عيدًا، ويجتمعون لها كما يجتمعون للعيد أو أكثر، والحاصل أنَّهم مناقضون لما أمر به النَّبيُّ ، ونهى عنه، ومحادُّون لما جاء به، وقد آل الأمرُ بهؤلاء الضَّالين المضلِّين إلى أن شرَّعوا للقبور حجًّا، ووضعوا له مناسك؛ حتى صنَّف بعض غلاتهم في ذلك كتابًا وسماه: «مناسك حج المشاهد»؛ تشبيهًا منه للقبور بالبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقةٌ لدين الإسلام، ودخول في دين عبَّاد الأصنام! فانظر إلى ما بين ما شرَّعه النَّبيُّ  في القبور من النَّهي عما تقدَّم ذكرُه، وبين ما شرَّعه هؤلاء وما قصدوه من التباين العظيم! ولا ريبَ أنَّ في ذلك من الفساد ما يعجز الإنسان عن حصره؛ منها تعظيمُها الموقع في الافتتان بها، ومنها تفضيلها على المساجد التي هي خير البقاع وأحبُّها إلى الله؛ فإنَّهم إذا قصدوا القبورَ يقصدونها مع التَّعظيم والاحترام، والخضوع والخشوع، ورقة القلب، وغير ذلك مما يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم فيها نظيرُه ولا مثله. ومنها اتِّخاذُ المساجد والسّرج عليها، ومنها العكوف عندها وتعليقُ السُّتور عليها واتِّخاذُ السّدنة لها؛ حتى إن عبَّادَها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام؛ يرون سدنتَها أفضلَ من خدمة المساجد! ومنها النذر لها ولسدنتها! ومنها زيارتها لأجل الصلاة عندها والطواف بها وتقبيلها، واستلامها، وتعفير الخدود عليها، وأخذ ترابها، ودعاء أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية والولد وقضاء الديون وتفريج الكربات وغير ذلك من الحاجات التي كان عبَّادُ الأوثان يسألونها من أوثانهم، وليس شيء منها مشروعًا باتِّفاق أئمَّة المسلمين؛ إذ لم يفعل شيئًا منها( ) رسولُ ربِّ العالمين، ولا أحد من الصحابة والتابعين، وسائر أئمة الدِّين. ومن المحال أن يكون شيء منها مشروعًا وعملاً صالحًا، ويصرف عنه القرون الثلاثة التي شهد فيهم النَّبيُّ  بالصِّدق والعدل، ويظفر به الخلوف الذين شهد فيهم النَّبيُّ  بالكذب والفسق؛ فمن كان في شكٍّ من هذا فلينظر هل يمكن لبشر على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم بنقل صحيح أو ضعيف أنَّهم كانوا إذا بدا لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها وتمسَّحوا بها؛ فضلاً عن أن يصلُّوا عندها، ويسألوا حوائجهم منها؛ كلا، لا يمكنهم ذلك؛ بل إنَّما يمكنهم أن يأتوا بكثير من ذلك عن الخلوف التي خلفت من بعدهم، ثم كلَّما تأخَّر الزَّمان وطال العهد كان ذلك أكثر؛ حتى وجدتُ من ذلك عدَّةَ مصنَّفات ليس فيها عن النَّبيِّ  ولا عن خلفائه الراشدين ولا عن الصَّحابة والتَّابعين حرف واحد؛ بل فيها خلاف ذلك كثير من الأحاديث المرفوعة التي من جملتها قوله : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجرًا»( ): أي فحشًا؛ وأيُّ فحش أعظم من الشِّرك عندها قولاً وفعلاً. وأما الآثارُ عن الصَّحابة، فأكثر من أن يحاط بها؛ فمن جُملتها ما في صحيح البخاريّ أنَّ عمرَ بن الخطَّاب رأى أنسَ بن مالك يصلِّي عند قبر فقال: القبر القبر ( )! قال ابن القيم في إغاثته: «هذا يدلُّ على أنَّه كان من المستقرِّ عندَهم ما نهاهم عنه نبيُّهم من الصلاة عند القبور، وفعل أنس لا يدل على اعتقاده جوازه؛ إذ يحتمل أنَّه لم يره أو لم يعلم أنَّه قبر، ثم لما نبَّهَه عمر تنبَّه، ومنها اتِّخاذُها عيدًا كما اتَّخَذَ المشركون من أهل الكتاب قبورَ أنبيائهم وصلحائهم عيدًا! فإنَّهم كانوا يجتمعون لزيارتها ويشتغلون باللَّغو والطَّرَب فيها، فنهى النَّبيُّ  أمَّتَه عن ذلك، كما روي عن أبي هريرة أنَّه  قال: «لا تجعلوا قبري عيدًا وصلوا عليّ فإنَّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم»( ). فإنَّ قبرَه  مع كونه سيد القبور وأفضل قبر على وجه الأرض، إذا وقع النهي عن اتخاذه عيدًا فقبر غيره كائنًا من كان أولى بالنَّهي! ثم إنَّه  أشار بقوله: وصلُّوا عليَّ فإنَّ صلاتَكم تبلغني حيث كنتم؛ أي أنَّ ما يناله من أمته من الصَّلاة والسَّلام عليه يحصل له مع قربهم من قبره وبعدهم عنه؛ فلا حاجةَ لهم إلى اتِّخاذه عيدًا؛ لأنَّ في اتِّخاذ القبور عيدًا من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله تعالى؛ فإنَّ غلاة متخذيها عيدًا إذا رأوها من مكان بعيد ينزلون عن جوابهم ويكشفون رؤوسَهم ويضعون جباهَهم على الأرض ويُقَبِّلون الأرضَ، ثم إنَّهم إذا وصلوا إليها يُصَلُّون عندها ركعتين، ثم ينتشرون حول القبر طائفين به؛ تشبيهًا له بالبيت الحرام الذي جعله- تعالى- مباركًا وهدى للأنام، ثم يأخذون في التَّقبيل والاستلام؛ كما يفعل الحجَّاج في المسجد الحرام، ثم يعفِّرون جباهَهم وخدودَهم، ثم يكمِّلون مناسك حجِّ القبر بالحلق والتَّقصير، ثم يقرِّبون لذلك الوثن القرابين؛ فلا يكون صلاتُهم ونُسُكُهم وقربانهم وما يراق هناك من العبرات ويُرفع من الأصوات ويطلب من الحاجات ويُسأل من تفريج الكربات وإغناء ذوي الفاقات ومعافاة أولي العاهات والبليَّات لله تعالى؛ بل للشَّيطان؛ فإنَّ الشيطان لبني آدم عدوٌّ مبين يَصُدُّهم بأنواع مكائده عن الطَّريق المستقيم. من أعظم مكائده ما نَصَبَه للنَّاس من الأنصاب ( ) التي هي رجس من عمل الشيطان، وقد أمر الله المؤمنين باجتنابها، وعلَّقَ فلاحَهم بذلك الاجتناب فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( )؛ فالأنصاب جمع "نُصُب" بضمتين- أو جمع "نَصْب" بالفتح والسكون؛ وهو كلُّ ما نصب وعبد من دون الله تعالى من شجر أو حجر أو قبر أو غير ذلك، والواجب عدم ذلك كلّه ومحو أثره( )؛ كما أنَّ عمرَ لمَّا بَلَغَه أنَّ الناسَ يتناولون الشَّجرةَ التي بويع تحتَها للنَّبيِّ  أرسل إليها فقطعها( )؛ فإذا كان عمر فعل هذا بالشَّجرة التي بايع الصَّحابةُ رسولَ الله  تحتها، وذكرها الله تعالى في القرآن؛ حيث قال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ( )، يكون حكمُه فيما عداها من هذه الأنصاب التي قد عظمت الفتنة بها واشتدت البلوى بسببها وأبلغ من ذلك أنَّه  هدم مسجد الضّرار ( )؛ ففي هذا دليلٌ على هدم ما هو أعظم فسادًا منه؛ كالمساجد المبنيَّة على القبور؛ فإنَّ حكمَ الإسلام فيها أن ينهدم كلُّها حتى تسوَّى بالأرض، وكذا القباب التي بنيت على القبور يجب هدمُها؛ لأنَّها أُسِّست على معصية الرسول ومخالفته، وكل بناء أُسِّسَ على معصية الرَّسول ومخالفته فهو بالعدم أولى من مسجد الضِّرار؛ لأنَّه  نهى عن البناء على القبور، ولعن المتَّخذين عليها مساجد؛ فَيَجب المبادرة والمسارعة إلى هدم ما نهى عنه رسولُ الله  ولعن فاعله، ولذلك يجب إزالة كلِّ قنديل وسراج وشمع أوقدت على القبور؛ لأنَّ فاعلَ ذلك ملعونٌ بلعنة رسول الله ؛ فكلُّ ما لعن فيه رسولُ الله  فهو من الكبائر. ولهذا قال العلماء: لا يجوز أن ينذر للقبور الشمع ولا الزيت ولا غير ذلك؛ فإنَّه نذرُ معصية لا يجوز الوفاء به؛ بل يلزم الكفارة مثل كفارة اليمين، ولا أن يوقف عليها شيء من ذلك؛ فإنَّ هذا الوقفَ لا يصح ولا يحل إثباته وتنفيذه. وقال الإمام أبو بكر الطّرطوشيّ: انظروا- رحمكم الله تعالى- أينما وجدتم شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون البرء والشفاء من قبلها ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط، فاقطعوها، وذات أنواط شجرة للمشركين كانوا يعلِّقون عليها أسلحتَهم، وأمتعتَهم، ويعكفون حولها، كما روى الحديث التِّرمذيُّ في سننه عن أبي واقد اللَّيثيّ أنَّه قال: خرجنا مع رسول الله  قبل حنين ونحن حديثو عهد بالإسلام، وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم وأمتعتهم يقال لها "ذات أنواط"، فقلنا: يا رسولَ الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال النبي : «الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ( ) لتركبن سنن من كان قبلكم»( )، فإذا كان اتِّخاذُ هذه الشَّجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتِّخاذ إله مع الله تعالى مع أنَّهم لا يعبدونها ولا يسألونها شيئًا، فما الظَّنُّ بغيرها ممَّا يقصده الناس من شجر أو حجر أو قبر، ويعظِّمونه ويرجون منه الشِّفاء ويقولون: إنَّ هذا الشَّجَرَ أو هذا الحجرَ أو هذا القبرَ يقبل النذر الذي هو عبادة وقربة، ويتمسَّحون بذلك النّصب ويستلمونه. ولقد أنكر السَّلَفُ التَّمَسُّحَ بحجر المقام الذي أمر الله تعالى أن يتّخذ منه مصلى، كما ذكره الأزرقيُّ عن قتادة في قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى( ). قال: إنَّ الناسَ أمروا أن يصلُّوا عنده، ولم يؤمروا أن يمسحوه؛ بل اتَّفَقَ العلماء على أنَّه لا يستلم، ولا يقبَّل إلا الحجر الأسود. وأما الركن اليمانيّ فالصحيحُ أنَّه يستلم، ولا يقبَّل، وهذا الشيطان في كل حين وزمان ينصب لهم قبر رجل معظَّم يعظِّمه الناس، ثم يجعله وثنًا يُعْبَدُ من دون الله تعالى، ثم يوحي إلى أوليائه أنَّ مَن نهى عن عبادته وعن اتِّخاذه عيدًا وعن جعله وثنًا فقد تنقَّصَه وهضم حقَّه؛ فيَسعى الجاهلون في قتله وعقوبته، ويكفِّرونه؛ وما ذَنبُه إلَّا أنَّه أمر بما أمر به الله تعالى ورسوله، ونهى عمَّا نهى الله ورسوله عنه، والذي أوقع عباد القبور في الافتتان بها أمور؛ منها: الجهل بحقيقة ما بعث الله تعالى به رسولَه من تحقيق التَّوحيد وقطع أسباب الشِّرك؛ فالذين قلَّ نصيبُهم من ذلك إذا دعاهم الشَّيطانُ إلى الفتنة بها ولم يكن لهم ما يبطل دعوتَه استجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل وعصموا منه بقدر ما معهم من العلم. ومنها أحاديث مكتوبةٌ وضعها على رسول الله  أشباهُ عبَّاد الأصنام القبورية، وهي تناقض ما جاء به من دينه؛ كحديث: «إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا بأهل القبور»( )، وحديث: «إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور»( )، وحديث: «لو حسن أحدكم ظنه بحجر نفعه»( )، وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام وضعها أشباه عبَّاد الأصنام( ) من القبورية، وراجت على الجهَّال والضُّلَّال، والله تعالى إنَّما بعث رسولَه لقتال من حسن ظنِّه بالأحجار والأشجار؛ فإنه  جنَّبَ أمَّتَه الفتنةَ بالقبور بكلِّ طريق؛ ومنها حكايات حكيت عن أهل تلك القبور أنَّ فلانًا استغاث بالقبر الفلانيّ في شدة فخلص منها، وفلان نزل به فاستدعى صاحب ذلك القبر فكشف ضرَّه، وفلان دعاه في حاجة فقضيت حاجته، وعند السدنة والقبوريين شيء من ذلك يطول ذكره. وهم من أكذب خلق الله على الأحياء والأموات، والنفوس مولعة بقضاء حوائجها، وإزالة ما يضرها، لاسيما من كان مضطرًا يتشبَّث بكلِّ سبب، وإن كان فيه كراهة ما، فإذا سمع أحدٌ أنَّ قبرَ فلان ترياق مجرب، يميل إليه فيذهب فيه ويدعو عنده بحرقة وذلة وانكسار، فيجيب الله تعالى دعوته لما قام بقلبه من الذلة والانكسار؛ لا لأجل القبر؛ فإنَّه لو دعا كذلك في الحانة والحمام والسوق لأجابه؛ فيظنّ الجاهل أنَّ للقبر تأثيرًا في إجابة تلك الدَّعوة، ولا يعلم أنَّ الله تعالى يجيب المضطرَّ ولو كان كافرًا؛ فليس كل من أجاب الله تعالى دعاءه يكون راضيًا عنه! ولا محبًا له! ولا راضيًا لفعله؛ فإنه يجيب دعاء البر والفاجر، والمؤمن والكافر، يسر الله تعالى لنا من الدعاء والعمل ما يكون موافقًا لرضائه بلطفه وكرمه.   المجلس الثاني وهو الثامن عشر في الأصل في أقسام البدع وأحكامها. قال رسول الله : «أما بعد.. فإنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمَّد، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة»( ). هذا الحديث من صحاح المصابيح، رواه جابر في حديث آخر رواه عرباض بن سارية؛ أنَّه  قال: «من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين المهديِّين من بعدي؛ تمسَّكوا بها وعضّوا عليها بالنّواجذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة ضلالة»( ).   [تقسيم البدعة] والمراد بالبدعة المذكورة في هذين الحديثين البدعة السَّيِّئة التي ليس لها من الكتاب والسُّنَّة أصلٌ وسندٌ ظاهرٌ أو خفيٌّ ملفوظٌ أو مستنبطٌ؛ لا البدعة غير السَّيِّئة التي يكون لها أصل وسند ظاهر أو خفيّ؛ فإنَّها لا تكون ضلالةً؛ بل هي قد تكون مباحةً كاستعمال المنخل والمواظبة على أكل لب الحنطة، والشبع منه، وقد تكون مستحبَّةً كبناء المنارة، وتصنيف الكتب، وقد تكون واجبةً، كنظم الدَّلائل لردِّ شبه الملاحدة والفرق الضَّالَّة؛ لأنَّ البدعةَ لها معنيان؛ أحدهما: لغويٌّ عامٌّ؛ وهو المحدث مطلقًا؛ سواء كان من العادات أو من العبادات، والثَّاني: شرعيٌّ خاصٌّ؛ وهو الزِّيادة في الدِّين أو النُّقصان منه بعد الصَّحابة بغير إذن من الشَّارع؛ لا قولاً ولا فعلاً، لا صريحًا ولا إشارة؛ فإنَّها في الحديثين وإن كانت عامَّةً تشتمل على جميع المحدثات؛ لكنَّ عمومَها ليس بحسب معناها اللُّغويّ؛ بل عمومها بحسب معناها الشَّرعيّ الخاصّ؛ فلا تتناول العادات أصلاً؛ بل تقتصر على بعض الاعتقادات وبعض صور العبادات؛ لأنه  لم يُبْعَثْ لتعليم أمر الدُّنيا؛ وإنَّما بعث لتعليم أمر الدِّين؛ يدلُّ عليه قوله : «أنتم أعلم بأمور دنياكم إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به»( ). ثم البدعةُ في الاعتقاد بعضُها كفر وبعضُها ليس بكفر؛ لكنَّها أكبرُ من كلِّ كبيرة؛ حتى القتل والزِّنا، وليس فوقَها إلا الكفر والبدعة في العبادة، وإن كانت دونها لكن فعلَها عصيان وضلال؛ لاسيّما إذا صادمت سنةً مؤكَّدةً، وأمَّا البدعة في العادة فليس في فعلها عصيان وضلال؛ بل ترك الأولى! فتركها أولى ( ). إذا تقرَّر هذا فالمنارةُ عون لإعلام وقت الصلاة، وتصنيف الكتب عون للتَّعليم والتَّبليغ، ونظم الدلائل لردِّ شُبَه الملاحدة والفرق الضَّالَّة نهيٌ عن المنكر وذبٌّ عن الدِّين؛ فكلٌّ منها مأذونٌ فيه؛ بل مأمور به؛ لأنَّ البدعةَ غير السَّيِّئة ما لم يحتج إليه الأوائل، ثم احتاج إليه الأواخر ورأوه حسنًا على سبيل الإجماع بلا خلاف ولا نزاع، وعند الاستقراء لا توجَد تلك البدعة غير السَّيِّئة في العبادات البدنيَّة المحضة؛ كالصَّوم والصَّلاة وقراءة القرآن وأوصاف كل منها؛ بل لا تكون البدعةُ فيها إلا سيِّئةً؛ لأن عدمَ وقوع الفعل في الصَّدر الأول ليس إلَّا لعدم الحاجة إليه أو لوجود مانع منه، أو لعدم التَّنَبُّه له، أو للتَّكاسُل عنه، أو للكراهة وعدم المشروعيَّة؛ والأوَّلان منتفيان في العبادات البدنيَّة المحضة؛ لأنَّ الحاجةَ إلى التَّقرُّب إلى الله تعالى بالعبادة لا تنقطع. وبعد ظهور الإسلام وغَلَبَة أهله لم يكن يمنع منها مانع، وكذا عدم التَّنَبُّه لها أو التَّكاسل عنها منتفٍ أيضًا؛ إذ لا يجوز أن يُظَنَّ ذلك بالنَّبيِّ  وجميع أصحابه؛ فلم يبق إلا كونُها بدعةً مكروهةً غيرَ مشروعة؛ ولهذا المعنى أراد عبدُ الله بن مسعود لمَّا أخبر بالجماعة الذين كانوا يجلسون بعد المغرب وفيهم رجل يقول: كبِّروا اللهَ كذا وكذا، وسبِّحوا اللهَ كذا وكذا، واحمدوا اللهَ كذا وكذا. فيفعلون؛ فحَضَرَهم. لمَّا سمع ما يقولون قام فقال: «أنا عبد الله بن مسعود، فوالله الذي لا إله غيره لقد جئتم ببدعة ظلماء أو لقد فقتم أصحاب محمد  علمًا». يعني أنَّ ما جئتم به إمَّا أن يكون بدعةً ظلماء أو أنَّكم تداركتم على الصَّحابة ما فاتهم؛ لعدم تَنَبُّههم له أو لتكاسلهم عنه؛ فغلبتموهم من حيث العلم بطريق العبادة؛ والثَّاني مُنْتَف؛ فتَعَيَّنَ الأولُ؛ وهو كونه بدعةً ظلماء. وهكذا يُقال لكلِّ مَن أتى في العبادة البدنيَّة المحضة بصفة لم تكن في زمن الصَّحابة؛ إذ لو كان وصفُ العبادة في الفعل المبتدع يقتني كونَه بدعةً حسنةً ( ) لما وجد في العبادات ما هو بدعة مكروهة، وقد وجد فيها البدعة المكروهة على ما صرَّحَ العلماءُ في تصانيفهم؛ مثل صلاة الرَّغائب والجماعة فيها، ومثل التصلية، والتَّرضية، والتأمين في أثناء الخطبة، وأنواع النَّغمات الواقعة فيها، وفي الأذان وقراءة القرآن، ومثل الجهر بالذِّكر أمام الجنازة، وقدام العروس في الطُّرقات، وغير ذلك من البدع المنكَرة الواقعة في العبادة. وليس لأحد أن يقول: «إنَّها ليست من قَبيل البدعة السَّيِّئة المكروهة؛ بل هي من قبيل البدعة الحسنة المشروعة؛ بدليل كون بعض الأشياء المحدَثة بعد الصَّحابة حسنًا؛ كبناء المدارس والرّبط والخانات ونحوها من أنواع الخيرات التي لم تعهد في عهد الصَّحابة»؛ إذ يقال له: ما ثَبَتَ حُسْنُه بالأدلَّة الشَّرعيَّة الصَّحيحة فهو إمَّا أن لا يكون بدعة فيبقى عموم ( ) العامِّ على حاله، أو يكون مخصوصًا من هذا العامِّ؛ والعامُّ الذي خصّ منه البعض دليل فيما عدا المخصوص؛ فمَن ادَّعى ثبوتَ حسن العبادة المحدَثة وكونَها مخصوصةً من هذا العامِّ يحتاج إلى دليل يَصلح أن يكون مخصّصًا؛ لأنَّ عادةَ أكثر البلاد وقول كثير من الزُّهَّاد والعباد ليس ممَّا يَصلح أن يكون معارضًا لكلام الرَّسول . وكذلك الدليل المخصص هو الدليل الشرعي من الكتاب والسنة والإجماع الذي هو مختصّ بأهل الاجتهاد ومن ليس من أهل الاجتهاد من الزُّهَّاد والعبَّاد؛ فهو في حكم العوامّ لا يُعتَدُّ بكلامه؛ إلَّا أن يكون موافقًا للأصول والكتب المعتبَرة؛ وهذه قاعدة دَلَّ عليها الإجماعُ، مع أنَّ في كتاب الله تعالى ما يدلُّ عليها أيضًا؛ وهو أنَّه تعالى قال: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ( )؛ فمَن أحدث شيئًا يتقرَّب به إلى الله- تعالى- من قول أو فعل من غير أن يشرِّع به اللهُ تعالى، فقد شرَّع في الدِّين ما لم يأذن به الله تعالى؛ فمَن تَبعه فقد اتَّخذه شريكًا ومعبودًا؛ كما قال الله تعالى في حقِّ أهل الكتاب: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ( )، فقال عديّ بن حاتم للنَّبيِّ : ما عبدوهم. فقال : «أطاعوهم»( ). مَن أطاع أحدًا في دين لم يأذن به الله تعالى فقد عبده واتَّخَذَه ربًّا. فَعُلم من هذا أنَّ كلَّ بدعة في العبادات البدنيَّة المحضة لا تكون إلا سيِّئةً. ربَّما لا يفرِّقُ كثيرٌ من النَّاس بين الحسنة والسَّيِّئة؛ فيظنون أنَّ كلَّ ما استحسنته نفوسُهم ومالت( ) إليه طباعُهُم يكون حسنًا؛ فيعدُّون السَّيِّئةَ من الحسنة، فقد خبطوا خبطًا كخبط عشواء لا يفرِّق بين الورطة المهلكة والجادَّة المنجية في مشيها. والضَّابطُ في هذا أن يقال: الناس لا يحدِّثون شيئًا إلا أنَّهم يرونه مصلحةً؛ إذ لو اعتقدوا فيه مفسدةً لم يُحْدثوه؛ فما رآه الناسُ مصلحةً ينظر في السَّبب؛ فإن كان السَّببُ أمرًا قد حدث بعد النَّبيِّ  يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه؛ كنَظم الدَّلائل؛ فإنَّ السَّبَبَ الدَّاعي إليه ظهورُ الفرق الضَّالَّة؛ فإنَّهم لما لم يظهروا في عهده  لم يحتج إليه، وإن كان المقتضى لفعله موجودًا في عصره ؛ لكن تُرك لعارض زال بموته ؛ فكذلك يجوز إحداثُه كجمع القرآن؛ فإنَّ المانع منه في حياته  كونُ الوحي لا يزال ينزل؛ فيغيِّرُ اللهُ تعالى ما يشاء؛ فزال ذلك المانع بموته . وأما ما كان المقتضي لفعله في عهده  موجودًا من غير وجود المانع منه ومع ذلك لم يفعله ، فإحداثُه تغييرٌ لدين الله تعالى؛ إذ لو كان فيه مصلحةٌ لفعله  وحَثَّ عليه، ولمَّا لم يفعله  ولم يحثّ عليه، عُلم أنَّه ليس فيه مصلحةٌ؛ بل هو بدعة قبيحة سيِّئة. مثاله الأذان في العيدين؛ فإنَّه لما أحدثه بعض السَّلاطين أنكره العلماء وحكموا بكراهته؛ فلو لم يكن كونه بدعة دليلاً على كراهته لقيل هذا ذكر الله تعالى ودعاء الخلق إلى عبادة الله تعالى؛ فيُقاسُ على أذان الجمعة ويدخل في العموميَّات التي جُملتُها قولُه تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا( )، وقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ( )؛ لكن لم يقولوا ذلك؛ بل قالوا: كما أنَّ فعلَ ما فعله  كان سنَّةً كذلك تَرْكُ ما تَرَكَه  مع وجود المقتضي وعدم المانع منه كان سنَّةً أيضًا؛ فإنَّه  لما أمر بالأذان في الجمعة دون العيدين، كان ترك الأذان فيها سنة. وليس لأحد أن يزيدَه ويقول: هذا زيادة العمل الصَّالح لا يضرُّ زيادته؛ إذ يُقال له: هكذا تَغَيَّرَت أديانُ الرُّسُل وتَبَدَّلت شرائعُهم؛ فإنَّ الزِّيادةَ في الدِّين لو جازت لجاز أن يصلِّيَ الفجر أربع ركعات، والظُّهرَ ستَّ ركعات، ويقال: هذا زيادةُ عمل صالح لا يضر زيادتُه؛ لكن ليس لأحد أن يقول ذلك؛ لأنَّ ما يبديه المبتدع من المصلحة والفضيلة إن كان ثابتًا في عصره  ومع هذا لم يفعله  فيكون تركُ مثل هذا الفعل سنَّةً مقدَّمةً على كلِّ عموم وقياس؛ فمَن عمل به مع اعتقاده أنَّه غيرُ مشروع في الدِّين يكون فاسقًا غيرَ مبتدع، وإن عمل به مع اعتقاده أنَّه مشروعٌ في الدِّين يكون فاسقًا ومبتدعًا؛ لأنَّ الفسقَ أعمُّ من البدعة؛ فكلُّ بدعة فسقٌ من غير عكس. وكذلك قيل: البدعةُ شرٌّ من الفسق؛ فإنَّ مَن يفعل البدعةَ فهو يناقض الرَّسولَ، وإن كان في زعمه أن يعظمه بالبدعة؛ حيث يزعم أنَّها خيرٌ من السُّنَّة وأولى بالصَّواب؛ فيكون مشاقًّا لله ولرسوله؛ لاستحسانه ما كرهه الشَّرعُ ونهى عنه؛ وهو الإحداث في الدِّين، وأنَّه تعالى قد شرع لعباده من العبادات ما فيه كفاية لهم، وأكمل دينَهم وأتمَّ عليهم نعمتَه كما أخبر به في كتابه الكريم؛ حيث قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي( )؛ فالزِّيادةُ على الكمال نقصان واختلاف بمنزلة الأصبع الزائدة، وقد تقرَّر في الأصول أنَّ حسنَ الأفعال وقبحها عند أهل الحقِّ إنَّما يُعرفان بالشَّرع، لا بالعقل؛ فكلُّ فعل أُمر به في الشَّرع فهو حسن، وكلُّ فعل نهي عنه في الشَّرع فهو قبيح. وقال الإمام الغزاليُّ في كتابه «الأربعين في أصول الدين»: إيَّاك أن تتصرَّفَ بعقلك وتقول: كلُّ ما كان خيراً أو نافعاً فهو أفضل، وكلما كان أكثر كان أنفع؛ فإنَّ عقلَك لا يهتدي إلى أسرار الأمور الإلهيَّة؛ وإنَّما يتعقَّلُها قوة النَّبيّ ؛ فعليك بالاتِّباع؛ فإنَّ خواصَّ الأمور لا تُدْرَكُ بالقياس؛ أوما ترى كيف نوديتَ إلى الصَّلاة ونهيت عنها في جميع النَّهار، وأمرت بتركها بعد الصبح والعصر وعند الطلوع والغروب والزَّوال، وذلك يَنتهي إلى قدر ثلث النَّهار؟!». وقال في الإحياء: فكما أنَّ العقولَ تقصر عن إدراك منافع الأدوية مع أنَّ التَّجربةَ سبيلٌ إليها، كذلك تقصر عن إدراك ما ينفع في الآخرة، مع أنَّ التَّجربةَ غيرُ متطرَّق إليها؛ إنَّما يكون ذلك لو رجع إلينا بعض الأموات وأخبرونا عن الأعمال المقرِّبة إلى الله تعالى والمبعدة عنه؛ وذلك ممَّا لا مطمعَ فيه. وقال صاحب مجمع البحرين في شرحه: إنَّ رجلاً يومَ العيد في الجبانة أراد أن يصلِّي قبلَ صلاة العيد، فنهاه عليٌّ، فقال الرَّجلُ: يا أميرَ المؤمنين، إنِّي أعلم أنَّ اللهَ تعالى لا يعذِّب على الصَّلاة. فقال عليٌّ: وإنِّي أعلم أنَّ الله تعالى لا يثيب على فعل حتى يفعله رسول الله  أو يحثَّ عليه، فيكون صلاتُك عبثًا، والعبثُ حرامٌ؛ فلعلَّه تعالى يعذِّبُك به بمخالفتك لنبيِّه. وقال صاحب الهداية: يكره أن يُتَنَفَّلَ بعد الفجر أكثر من ركعتي الفجر؛ لأنَّه  لم يزد عليهما مع حرصه على الصَّلاة؛ فانظر كيف جعل عدمَ فعله  في باب العبادات دليلاً على الكراهة؛ وقال ابنُ الهمَّام: ما تردَّدَ من العبادات بين الواجب والبدعة يأتي به احتياطًا، وما تردَّدَ بين البدعة والسُّنَّة يتركه؛ لأنَّ تركَ البدعة لازم، وأداء السُّنَّة غيرُ لازم. وفي الخلاصة مسألةٌ تدلُّ على أنَّ البدعةَ أشدُّ ضررًا من ترك الواجب؛ حيث قال: إذا شكَّ في صلاته هل صلَّاها أم لا؟ إن كان في الوقت فعليه أن يعيدها، وإن خرج الوقت ثم شكَّ لا شيء فيه، ولو كان الشَّكُّ في صلاة العصر يقرأ في الرَّكعة الأولى والثالثة، ولا يقرأ في الثانية والرابعة؛ فتعيينُ الأولَيَيٍْن للقراءة في الفرض واجبٌ، وقد أمر بتركه عن احتمال وقوع النَّفل بعد العصر؛ وهو بدعةٌ مكروهةٌ. وروي عن سفيان الثَّوريّ أنَّه كان يقول: «البدعة أحبُّ إلى إبليس من كلِّ المعاصي؛ لأنَّ المعاصي يتاب عنها والبدعة لا يتاب عنها»( ). وسببُ ذلك أنَّ صاحبَ المعاصي يَعْلَم بكونه مرتكبَ المعاصي؛ فيُرجَى له التَّوبةُ والاستغفار، وأمَّا صاحب البدعة فيُعتقد أنَّه في طاعة وعبادة ولا يتوب ولا يستغفر، وهذا ما حكي عن إبليس؛ أنَّه قال: «قصمت ظهور بني آدم بالمعاصي والأوزار، وقصموا ظهري بالتَّوبة والاستغفار، فأحدثت لهم ذنوبًا لا يستغفرون منها ولا يتوبون عنها وهي البدع في صورة العبادة». فإن قيل: قد اعتاد كثيرٌ من الناس أن يستدلُّوا على عدم كراهة ما اعتادوه من البدعة بحديث شائع بينهم، وهو: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح»! وهل يصح الاستدلال منهم أم لا يصح؟ فالجواب على ما ذكره بعضُ الفضلاء أنَّ هذا الاستدلالَ لا يصحُّ، والحديث حجَّةٌ عليهم لا لهم؛ لأنَّه بعض حديث موقوف على ابن مسعود رواه أحمد والبزَّار والطَّبرانيُّ والطَّيالسيُّ وأبو نعيم هكذا: «إنَّ اللهَ تعالى نظر في قلوب العباد فاختار محمَّدًا فبَعَثَه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد فاختار له أصحابًا فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيِّه؛ فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيحٌ»( ). ولا شكَّ أنّ "ال" في المسلمين ليس لمطلق الجنس؛ لأنَّ الحديث يكون مخالفًا لقوله : «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلُّهم في النَّار إلا واحدة»( )؛ لأنَّ كلًّا من فرق الأمة مسلم يرى مذهبَه حسنًا؛ فيَلزم أن لا يكون فرقة منها في النَّار، وكذا بعض المسلمين يرى شيئًا حسنًا وبعضهم يراه قبيحًا؛ فيلزم أن لا يتميَّز الحسن من القبيح؛ بل هي إمَّا للعهد، والمعهود ما ذكر في قوله، فاختار له أصحابًا؛ فيكون المرادُ بالمسلمين الصَّحابة فقط، أو لاستغراق خصائص الجنس، فيراد بالمسلمين أهلُ الاجتهاد الذين هم الكاملون في صفة الإسلام صَرفًا للمطلق إلى الكامل؛ لأنَّ المطلقَ عند عدم القرينة ينصرف إلى الفرد الكامل؛ وهو المجتهد، فيكون المعنى: ما رآه الصَّحابةُ أو أهل الاجتهاد فهو عند الله حسن، وما رآه الصَّحابةُ أو أهلُ الاجتهاد قبيحًا فهو عند الله قبيح. ويجوز أن يكون للاستغراق الحقيقيّ فيكون المعنى: «ما رآه جميع المسلمين حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه جميع المسلمين قبيحًا فهو عند الله قبيح، وما اختلف فيه فالعبرة للقرون المشهود لهم بالخير لا للقرون المشهود لهم بالكذب وعدم الاعتماد في قوله : «خيرُ القرون قرني الذي بعثتُ فيه ثمَّ الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب»( ). فلا تعتمدوا أقوالَهم وأفعالَهم، ولا ريبَ أنَّ الصَّحابةَ والتَّابعين والأئمَّةَ المجتهدين كانوا يرون ما جاوز قدرَ الضَّرورة من البدع قبيحًا فهو عند الله قبيح، ومثل قوله : «لا تجتمع أمتي على الضلالة»( )؛ فإنَّ المرادَ بالأمَّة في هذا الحديث أهلُ الإجماع الذي هو بكلِّ مجتهد ليس فيه فسق ولا بدعة أصلاً؛ لأنَّ الفسقَ يورث التُّهمةَ ويُسقط العدالة، وصاحب البدعة يدعو الناس إلى البدعة ولا يكون من الأمَّة على الإطلاق؛ لأنَّ المرادَ بالأمَّة المطلقة أهلُ السُّنَّة والجماعة؛ وهم الذين طريقُهم طريقُ النَّبيِّ  وأصحابه، دون أهل البدع والضَّلال، كما قال النَّبيُّ : «أمَّتي مَن استَنَّ بسُنَّتي»( ). ويصح أن يراد بأمتي جميع الأمة؛ بناء على أن الإضافة كاللام قد تكون للاستغراق؛ فيكون المعنى: لا تجتمع جميع أمتي في زمان من الأزمنة على الضَّلالة، كما اجتمع اليهود والنصارى بعد نبيهم على الضلالة؛ فيكون هذا الحديث موافقًا لقوله : «لا تزال طائفة من أمتي قائمين بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله»( ). إذا تقرر هذا فالواجب على كلِّ مسلم في هذا الزمان أن يحذر من الاغترار والميل إلى شيء من البدع والمحدثات ويصون دينَه عن العوائد التي استأنس بها وتربى عليها، فإنها سم قاتل قلَّ من سلم من آفاتها وظهر له الحق منها. ألا ترى أن قريشًا لأجل العوائد التي ألفتها نفوسهم أنكروا على النبي  ما جاء به من الهدى والبيان، وكان ذلك سببًا لكفرهم وطغيانهم حتى قالوا في حقِّه  ما قالوا بسبب ما تربَّوا عليه وتنشؤوا فيه، ولذلك كان ابن مسعود يقول: «إيَّاكم وما يحدث من البدع؛ فإنَّ الدين لا يذهب من القلوب بمرة ولكن الشيطان يحدث لكم بدعًا حتى يذهب الإيمان في قلوبكم»؛ فعلى هذا ينبغي للمؤمن أن لا يغتر ويستدل بقوة تصميمه على شيء وكثرة عبادته به أنه على الحق؛ فإن تصميمه عليه وعدم رجوعه عنه- ولو نشر بالمناشير- لا يدل على كونه على الحق في دينه؛ لأنَّ جزمَه وتصميمه عليه ليس من حيث كونه حقًا؛ بل من حيث نشأته بين قوم يدينون به، وللنشأة والمخالطة أثر عظيم في تصميم شيء حقًّا كان أو باطلاً؛ ألا ترى أنَّ مثل هذا التصميم يوجد عامة من ذوي الجهل المركب كاليهود والنصارى ومن في معناهم. فالحذر الحذر من هذا السُّمّ القاتل، وكن مائلاً إلى الحق مستفيًا لخلاص بهجتك بالاتباع وترك الابتداع؛ فإنَّ الاتِّباعَ أفضل عمل يعمله المرء في هذا الزمان؛ لشيوع العمل على خلاف السنة منذ زمان طويل، فلابد لك أن تكون شديد التقوى من محدثات الأمور، وإن اتفق عليه الجمهور فلا يغرنَّك اتفاقهم على ما أحدث بعد الصحابة؛ بل ينبغي لك أن تكون حريص التفتيش عن أحوالهم وأعمالهم؛ فإن أعلم الناس وأقربهم إلى الله تعالى أشبههم بهم، وأعرفهم بطريقهم؛ إذ منهم أخذ الدِّين، وهم أصول في نقل الشريعة عن صاحب الشرع، وقد جاء في الحديث: «إذا اختلف الناس فعليكم بالسَّواد الأعظم»( ). والمراد به لزومُ الحقِّ واتِّباعه، وإن كان المتمسك به قليلاً، والمخالف له كثيرًا؛ لأنَّ الحقَّ ما كان عليه الجماعة الأولى وهم الصحابة، ولا عبرة بكثرة الباطل بعدهم، وقد قال الفضيل بن عياض ما معناه: «الزم طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين». وقال بعض السلف: إذا وافقتَ الشريعة ولاحظتَ الحقيقة فلا تبال وإن خالف رأيك جميع الخليقة، وقال ابن مسعود: «أنتم في زمان خيرُكم المسارعُ في الأمور، وسيأتي زمان بعدكم خيرهم فيه المتثبِّت المتوفّق لكثرة الشبهات». قال الإمام الغزالي: ولقد صدق؛ لأن من يثبت في هذا الزمان ووافق الجماهير فيما هم فيه وخاض فيما خاضوا فيه يهلك كما هلكوا؛ فإن أصل الدين وعمدته وقوامه ليس بكثرة العبادة والتلاوة والمجاهدة بالجوع وغيره؛ وإنما هو بإحرازه من الآفات والعاهات التي تأتي عليه من البدع والمحدثات؛ فإنها لكثرتها وشيوعها صارت كأنها من شعائر الدين أو من الأمور المفروضة علينا، فياليتنا كنَّا نباشرهم على أنها بدعة؛ إذ لو كان كذلك لرجي من التوبة والاستغفار؛ ولكنَّا أخذناها طاعة وعبادة وجعلناها دينًا لنا، مقتفين في ذلك آثار من سها أو غلط أو غفل من بعض من تقدمنا، وجعلناه قدوة في ديننا، فإذا جاء أحد وأنكر علينا ما ارتكبناه من تلك الأمور، فإن كان ممن له توقير في قلوبنا نقول له: هذا جائز؛ ذهب إلى جوازه فلان. ونذكر له بعض من تقدَّمنا ممَّن سها أو غلط أو غفل، وإن كان ممَّن لا توقير له في قلوبنا يسمع منا ما لا يظنه ولا يخطر بباله؛ كل ذلك بسبب الجهل المركب فينا؛ لأنَّا لو رأينا أنفسنا( ) على ما هي عليه من الجهل لقبلنا جواب من أرشدنا إلى الحق، وما أقمنا من سها أو غلط أو غفل حجة في ديننا؛ إذ لا يجوز أن يقلد الإنسان في دينه إلا من هو معصوم؛ وهو صاحب الشريعة، أو من شهد له صاحب الشريعة بالخير؛ وهم القرون الثلاثة الذين اقتضت حكمة الشارع أن يختص كل قرن منهم بفضيلة. فالقرن الأول خصَّهم الله بمزية لا سبيل لأحد لأن يلحقهم فيها؛ لرؤية نبيه وبمشاهدة نزول القرآن عليه، وألهمهم حفظه حتى لا يكون حرف واحد ضائعًا؛ فجمَّعوه ويسروه لمن بعدهم( )، فحفظوا أحاديث نبيهم في صدورهم وأثبتوها على ما ينبغي، فحصل في إقامة هذا الدين حظٌّ كثير لا يمكن الإحاطة به ولا يصل أحد إليه؛ فجزاهم الله تعالى عن أمَّة نبيِّهم خير جزاء، ثم أعقبهم التابعون، فجمعوا ما كان من الأحاديث ومسائل الدين متفرقًا، ونقلوا الأحكام والتفسير من الصحابة؛ حتى كان أحدهم يرتحل في طلب الحديث الواحد والمسألة الواحدة مسار شهر أو شهرين، وضبطوا أمر الشَّريعة أتمَّ ضبط، فحصل لهم في إقامة هذا الدين – أيضًا – فضل كثير. ثم أعقبهم تابعو التَّابعين الذين ظهر فيهم الفقهاء المرجوع إليهم في النوازل، فوجدوا القرآن مجموعًا ميسَّرًا، ووجدوا الأحاديث قد أحرزت وضبطت، فتفقَّهوا في القرآن والأحاديث على مقتضى قواعد الشَّريعة، واستنبطوا منها أحكامًا على مقتضى الأصول، وعيَّنوا وجوه الدّلالات ويسّروها على النّاس، وانتظم الحال، واستقرَّ دين الأمَّة المحمديَّة بسببهم؛ فحصل لهم في إقامة هذا الدِّين خصوصيَّات أيضًا. فلما مضوا إلى سبيلهم أتى من بعدهم فلم يجد وظيفةً يقوم بها؛ بل وجد الأمر على أكمل الحالات؛ فلم يبق له إلا أن يحفظ ما استنبطوه وبيَّنوه، ولا يحصل له خير إلا باتِّباعهم وتقليدهم وبقائه في ميزانهم؛ فإن ظفر له فقه غير فقههم فهو مردود عليه؛ إلا أن يكون مما لم يقع بيانُه في زمانهم؛ لا بالفعل ولا بالقول مما ينبغي له أن ينظر فيه على مقتضى قواعدهم في الأحكام والثابت عنهم؛ فإذا كان على مقتضى أصولهم يقبل عنه وإلا فلا؛ لأنَّ كلَّ من أتى بعدهم يقول في بدعة: إنها مستحبة. ثم يأتي على ذلك بدليل خارج عن أصولهم؛ فذلك غير مقبول منه؛ لأنَّ التقليدَ والاقتداء بالغير بمجرد حسن الظَّنِّ إنَّما يجوز لمن كان مجتهدًا عدلاً؛ لا لمن كان مقلدًا. لكن لما انقطع الاجتهاد منذ زمان طويل انحصر طريق معرفة مذهب المجتهد في نقل كتاب معتبر متداول بين العلماء لمن كان قادرًا على استخراجه أو إخبار عدل موثوق به في علمه وعمله لمن لم يكن قادرًا على استخراجه؛ فلا يجوز العمل بكل كتاب؛ إذ ظهر في هذا الزمان كتب جمعها ضعفاء الرجال من غير معرفة بحقيقة الحال، ولا بقول كل عالم؛ إذ غلب الفسقُ في الناس بعد القرون الثلاثة؛ فالمستور في حكم الفاسق( )؛ فلابدَّ من العدالة المرجِّحة لجانب الصِّدق؛ ثم ههنا قاعدة مقرَّرة لابد من معرفتها؛ وهي أنَّ المسألةَ الفقهيَّةَ إذا نقلت ينبغي أن ينظر فيها؛ فإن كان مأخذُها معلومًا مشهورًا من الكتاب والسُّنَّة والإجماع، فلا نزاع فيها لأحد، وإن لم يكن مأخذها معلومًا- بل كانت اجتهادية- فإن كان ناقلها مجتهدًا يلزم على من كان مقلِّدًا أن يتبعه، ولا يلزم عليه أن يطلب منه دليلاً؛ لأنَّ كلامَ المجتهد دليلٌ له، وإن لم يكن ناقلُها مجتهدًا- بل كان مقلدًا- فإن نقلَها من المجتهد؛ فأثبت نقله منه يلزم الاتِّباع فيها– أيضًا، وإن لم ينقلها من المجتهد- بل نقلها من قبل نفسه، أو من مقلِّد آخر أو أطلق؛ فإن بيَّن فيها دليلاً شرعيًّا فلا كلام فيها حينئذ، وإن لم يبيِّن ينظر إن كان كلامُه موافقًا للأصول والكتب المعتبرة ولم يكن فيها خلاف يجوِّز العمل بها؛ لكن ينبغي للعامل بها أن لا يقف في مقام تقليده؛ بل يطلب منه دليلاً على نقل، وإن كان كلامُه مخالفًا للأصول والكتب المعتبرة فلا يلتفت إليه أصلاً؛ إذ قد صرَّحَ العلماء بأنَّ ما لا يُعلم صحَّتُه لا يصحُّ اتِّباعُه وإن لم يعلم بطلانه؛ فضلاً عمَّا علم بطلانُه. المجلس الثالث وهو السابع والخمسون في الأصل في بيان جواز زيارة القبور وعدم جوازها. قال رسول الله : «نهيتُكم عن زيارة القبور فزوروها»( ). هذا الحديث من صحاح المصابيح، رواه بريدة، فيه تصريح بوقوع النَّهي في أوائل الإسلام عن زيارة القبور؛ لكونها مبدأَ عبادة الأصنام، وكان ابتداء ذلك الدَّاء العضال في قوم نوح النَّبيِّ ؛ كما أخبر الله تعالى في كتابه: قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا( ). قال ابنُ عبَّاس وغيرُه من السَّلَف: «كان هؤلاء قومًا صالحين في قوم نوح ، فلما ماتوا عكف الناس على قبورهم، ثم صوَّروا تماثيلَهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم»( )؛ فلمَّا كان منشأُ عبادة الأصنام من جهة القبور نهى النبيُّ- عليه الصلاة والسلام- أصحابَه في أوائل الإسلام عن زيارة القبور؛ سَدًّا لذريعة الشِّرك؛ لكونهم حديثي عهد بالكفر؛ ثمَّ لمَّا تمكَّن التَّوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها، وعلمهم كيفيتها تارة بفعله وتارة بقوله؛ وذلك في الأحاديث الكثيرة؛ بعضها في الإذن، وبعضها في التعليم، وفي ضمنها بيان الفائدة؛ أما التي في الإذن فمنها ما روي عن أبي سفيان؛ أنَّه- عليه الصلاة والسلام- قال: «إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن فيها عبرة»( ). ومنها ما روي عن عليِّ بن أبي طالب أنَّه- عليه الصلاة والسلام- قال: «إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم بالآخرة»( ). ومنها ما روي عن ابن مسعود، أنَّه  قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا»( ). ومنها ما روي عن أبي هريرة، أنَّه- عليه الصلاة والسلام- قال: «زوروا القبور فإنَّها تذكِّر الموت»( ). ومنها ما روي عن بريدة؛ أنَّه- عليه الصلاة والسلام- قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجرًا»( ). وأما التي في التعليم فمنها ما روى عن بريدة، أنه : «كان يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع، نسأل الله لنا ولكم العافية»( ). ومنها ما روي عن أمِّ المؤمنين عائشة أنَّها قالت لرسول الله : «كيف أقول يا رسول الله في زيارة القبور؟ قال: «قولي: السَّلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منَّا ومنكم والمستأخرين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون»( ). ومنها ما روي عن أبي هريرة أنَّه  خرج إلى المقبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله عن قريب بكم لاحقون»( )، ومنها ما روي عن ابن عباس، أنَّه- عليه الصلاة والسلام- مَرَّ بقبور المدينة فأقبل عليهم فقال: «السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم أنتم سلفنا ونحن بالأثر»( ). فإنَّه  بَيَّنَ في هذه الأحاديث فائدةَ زيارة القبور؛ وهي إحسان الزَّائر إلى نفسه وإلى أهل القبور؛ أمَّا إحسانُه إلى نفسه فَتَذَكُّرُ الموت والآخرة والزُّهدُ في الدُّنيا والاتِّعاظ والاعتبار، وأما إحسانُه إلى أهل القبور فالسَّلامُ عليهم والدُّعاء لهم بالرَّحمة والمغفرة وسؤال العافية؛ قال عامَّةُ العلماء: هذا في حقِّ الرِّجال؛ وأمَّا النِّساء فلا يحلُّ لهنَّ أن يَخرجنَ إلى المقابر؛ لما روي عن أبي هريرة، أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام: «لعن زوَّارات القبور»( ). وذكر في نصاب الاحتساب أن القاضي سئل عن جواز خروج المرأة إلى المقابر، فقال: لا تسأل عن الجواز في مثل هذا؛ وإنما تسأل عن مقدار ما يلحقها من اللَّعن؛ فإنَّها لما نَوَت الخروج كانت في لعنة الله- تعالى- وملائكته، وإذا خرجت لحقتها الشياطين، وإذا أتت القبر يلعنها روح الميت، وإذا رجعت تكون في لعنة الله- تعالى- وملائكته حتَّى تعودَ إلى منزلها. وقد روي في الخبر: «أيُّما امرأة خرجت إلى مقبرة يلعنها ملائكة السماوات السبع والأرضين السبع، وأيما امرأة دعت للميت بخير ولم تخرج من بيتها يعطيها الله تعالى ثواب حجة وعمرة»( ). وروي عن سلمان وأبي هريرة أنه- عليه الصلاة والسلام- ذات يوم خرج من المسجد فوقف على باب داره فأتت ابنته فاطمة، فقال لها: «من أين جئت؟» فقالت: خرجت إلى منزل فلانة التي ماتت. فقال: «هل ذهبت إلى قبرها؟» فقالت: معاذ الله أن أفعل شيئًا بعدما سمعت منك ما سمعت. فقال: «لو ذهبت إلى قبرها لم تَرُحي رائحةَ الجنَّة»( ). فعلى هذا كلُّ مَن يريد أن يَزور القبورَ من الرِّجال أن لا يكون حظُّه من زيارته لها الطَّوافَ عليها كالبهائم؛ بل ينبغي له إذا جاءها أن يُسَلِّمَ على أهلها ويخاطبَهم خطابَ الحاضرين، ويسأل لهم الرَّحمةَ والمغفرة والعافية، كما تقدم في الأحاديث، ثم يَعتبر ممَّن كان تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، وأنَّه حين دخل القبرَ ابتلي بالسُّؤال: هل أصاب في الجواب وكان قبرُه روضةً من رياض الجنة؟ أو أخطأ الجواب وكان قبرُه حفرةً من حفر النار؟! ثم يجعل نفسَه كأنَّه مات ودخل القبر وذهب عنه ماله وأهله وأولاده ومعارفه، وبقي وحيدًا فريدًا، وهو الآن يسأل فماذا يجيب؟ وماذا يكون حاله؟ ويكون مشغولاً بهذا الاعتبار ما دام هناك ويتعلق بمولاه في الخلاص من هذه الأمور الخطيرة العظيمة ويلجأ إليه. وأمَّا قراءة القرآن هناك فجوَّزها بعضُ العلماء، ومنعها البعض الآخر وقالوا: لابدَّ للزَّائر أن يكون مشغولاً بالاعتبار. وقراءة القرآن يحتاج صاحبها إلى التَّدَبُّر وإحضار الفكر فيما يتعلَّق، والاعتبار والفكر لا يجتمعان في قلب واحد في زمان واحد؛ فإن قال قائل: إني أعتبر في وقت وأقرأ في وقت آخر، والقرآن إذا قرئ ينزل الرحمة فيرجى أن يلحق بأهل القبور من تلك الرحمة شيء ينفعهم. فالجوابُ من وجوه: الأوَّل: أنَّ قراءةَ القرآن وإن كانت عبادة، لكن كون الزَّائر مشغولاً بما تقدَّم من الفكر والاعتبار بالموت وسؤال الملكين وغير ذلك عبادة أيضًا، والوقت ليس محلًّا إلا لهذه العبادة فقط؛ فلا يخرج من عبادة إلى عبادة أخرى؛ لاسيَّما لأجل الغير. والثاني: أنَّه لو قرأ في بيته وأهدى ثوابها إليهم بأن قال بلسانه بعد فراغه من قراءته: اللهم اجعل ثوابَ قراءتي لأهل القبور. لوَصَلَ إليهم؛ أنَّ هذا دعاء يوصِّلُ الثوابَ إليهم، والدُّعاء يصل بلا خلاف؛ فلا يحتاج أن يقرأ على قبورهم. والثالث: أن قراءتَه على قبورهم تكون سببًا لعذاب بعضهم؛ إذ كلَّما مرَّت آيةٌ لم يعمل بها يقال له: أَمَا قرأتها؟! أما سَمعْتَها؟! فكيف خالفتَها ولم تعمل بها؟! فيعذَّب لأجل مخالفته بها!! والرابع: أنَّ السُّنَّةَ لم ترد بها؛ وكفى بها منعًا؛ فإذا كان كذلك فاللَّائق بالزَّائرين أن يتَّبعوا السُّنَّةَ ويقفوا عند ما شرع لهم ولا يتعدّوه؛ ليكونوا محسنين إلى أنفسهم وإلى أهل القبور؛ لأنَّ زيارةَ القبور نوعان: زيارة شرعيَّة، وزيارة بدعيَّة؛ أمَّا الزِّيارة الشَّرعيَّة التي أذن فيها رسول الله  فالمقصود منها شيئان: أحدهما راجعٌ إلى الزَّائر؛ وهو الاتِّعاظ والاعتبار. والثاني: راجع إلى أهل القبور؛ وهو أن يسلِّمَ عليهم الزَّائر ويدعو لهم. وأمَّا الزيارةُ البدعيَّة فهي زيارة القبور لأجل الصَّلاة عندها والطَّواف بها وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود عليها، وأخذ ترابها، ودعاء أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤال النَّصر والرِّزق والعافية والولد، وقضاء الدَّين وتفريج الكُرُبات، وإغاثة اللَّهفان، وغير ذلك من الحاجات التي كان عُبَّادُ الأصنام يسألونها من أصنامهم؛ فإنَّ أصلَ هذه الزِّيارة البدعيَّة الشِّركية مأخوذٌ منهم، وليس شيء من ذلك مشروعًا باتِّفاق علماء المسلمين؛ إذ لم يفعله رسولُ ربِّ العالمين، ولا أحد من الصَّحابة والتَّابعين وسائر أئمَّة الدِّين؛ بل قد أنكر الصَّحابة ما هو دون ذلك بكثير؛ كما روي عن المعرور بن سويد؛ أنَّ عمر صلَّى صلاة الصُّبح في طريق مكَّة، ثم رأى النَّاسَ يَذهبون مذهبًا فقال: أين ذهب هؤلاء؟ فقيل: مسجد صلَّى فيه رسولُ الله  فهم يصلون فيه. فقال: إنَّما هلك من كان قبلكم بمثل هذا؛ كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتَّخذونها كنائسَ وبيعًا؛ فمن أدركته الصَّلاة في هذه المساجد فليصلِّها فيها، ومن لا فليمض ولا يتعمَّدها ( )، وكذلك لما بلغه أنَّ الناسَ يتناولون الشَّجرةَ التي بويع تحتَها النَّبيُّ  أرسل إليها فقطعها ( ). فإذا كان عمر فعل هذا بالشَّجرة التي بايع الصَّحابة تحتها رسول الله  وذكرها الله تعالى في القرآن؛ حيث قال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ( )؛ فماذا يكون حكمُه فيما عداها ولقد جرَّدَ السَّلَفُ الصَّالحُ التَّوحيدَ وحموا جانبه حتى كان الصَّحابة والتَّابعون حين كانت الحجرة النَّبَويَّةُ منفصلةً عن المسجد زمنَ الوليد بن عبد الملك لا يدخل فيها أحد، لا لصلاة ولا لدعاء ولا لشيء آخر ممَّا هو من جنس العبادة؟! بل كانوا يفعلون جميع ذلك في المسجد، وكان أحدُهم إذا سلَّمَ على النَّبيِّ  وأراد الدُّعاءَ استقبل القبلةَ وجعل ظهرَه إلى جدار القبر، ثم دعا؛ وهذا ممَّا لا نزاعَ فيه بين العلماء؛ وإنَّما نزاعهم في وقت السَّلام عليه. قال أبو حنيفة: يستقبل القبلة عند السلام أيضًا، ولا يستقبل القبر. وقال غيرُه: لا يستقبل القبر عند الدُّعاء؛ بل قالوا: إنَّه يستقبل القبلةَ وقتَ الدعاء، ولا يستقبل القبر؛ حتى لا يكون الدعاء عند القبر؛ فإنَّ الدُّعاءَ عبادةٌ؛ كما ثَبَتَ بالحديث المرفوع: «إنَّ الدُّعاءَ هو العبادة»( ). والسَّلَفُ الصَّالح من الصَّحابة والتَّابعين جعلوا العبادةَ خالصةً لله تعالى ولم يفعلوا عند القبور شيئًا منها إلَّا ما أذن فيه النَّبيُّ  من السَّلام على أصحابها وسؤال الرَّحمة والمغفرة والعافية من الله لهم؛ وسبب ذلك أنَّ الميِّتَ قد انقطع عملُه، وهو يحتاج إلى مَن يدعو له ويشفع لأجله؛ ولهذا شرع في الصَّلاة عليه من الدُّعاء له وجوابًا أو ندبًا ما لم يشرِّع مثلُه في الدُّعاء للحيِّ؛ فإنَّا لما كنَّا إذا قمنا إلى جنازة ندعو له ونشفع لأجله؛ فبعد الدَّفن أولى أن ندعو له ونشفع؛ لأنه في قبره بعد الدَّفن أشدُّ احتياجًا إلى الدُّعاء له منه على نعشه؛ لأنَّه حينئذ معرَّضٌ للسُّؤال وغيره على ما روي عن عثمان بن عفان؛ أنَّه- عليه الصلاة والسلام: «كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التَّثبيت؛ فإنَّه الآن يُسأل»( ). وروي عن سفيان الثَّوريِّ أنَّه قال: إذا سئل الميت: مَن ربُّك؟ يتراءى له الشَّيطان في صورة ويشير إلى نفسه أنِّي أنا ربُّك. قال التِّرمذيُّ: هذه فتنة عظيمة. ولذلك كان النَّبيُّ  يدعو بالثَّبات: «اللهم ثبت عند المسألة منطقَه، وافتح أبواب السَّماء لروحه»، وكانوا يستحبُّون إذا وضع الميت في اللحد أن يقال: اللهم أعذه من الشيطان الرجيم. فهذه سنَّةُ رسول الله  في أهل القبور بضعًا وعشرين سنة، وهذه سنَّةُ الخلفاء الرَّاشدين وطريقة جميع الصَّحابة والتَّابعين؛ فبدَّلَ أهلُ البدع والضَّلال قولاً غير الذي قيل لهم؛ فإنَّهم قَصَدُوا بالزِّيارة التي شرعها رسول الله  إحسانًا إلى الميت وإلى الزَّائر سؤالهم بالميِّت والاستعانة به؛ وليس هذا إلا الفتنة التي قال فيها عبد الله بن مسعود: «كيف إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير وينشأ فيها الصَّغير تجري على النَّاس يتَّخذونها سُنَّةً إذا غيِّرَتْ ؟!قَالُوا غيِّرَتْ السُّنَّةُ»( ). قال ابنُ القيِّم في إغاثته: هذا يدلُّ على أن العمل إذا جرى على خلاف السُّنَّة فلا اعتبارَ ولا التفاتَ إليه، وقد جرى العمل على خلاف السُّنَّة منذ زمن طويل؛ فإذن لابدَّ أن يكون شديدَ التَّوَقِّي من محدثات الأمور، وإن اتَّفَقَ عليه الجمهور، فلا يغرنَّك إطباقهم على ما حدث بعد الصَّحابة؛ بل ينبغي لك أن تكون حريصًا على التَّفتيش عن أحوالهم وأعمالهم؛ فإنَّ أعلمَ النَّاس وأقربَهم إلى الله أشبهُهم بهم وأعلمُهم بطريقهم؛ إذ منهم أُخذ الدِّين، وهم أصول في نقل الشريعة من صاحب الشرع؛ فلابدَّ لك أن لا تكترث بمخالفتك لأهل عصرك في موافقتك لأهل عصر النَّبيِّ ؛ إذ قد جاء في الحديث: «إذا اختلف الناسُ فعليكم بالسَّواد الأعظم»( ). قال عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة: حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة؛ فالمراد به لزومُ الحقِّ وأتباعه، وإن كان المتمسِّكُ قليلاً والمخالفُ له كثيرًا! إلا أنَّ الحقَّ ما كان عليه الجماعة الأولى؛ وهم الصَّحابةُ، ولا عبرةَ إلى كثرة الباطل بعدهم، وقد قال الفضيل بن عياض ما معناه: «الزم طرقَ الهدى، ولا يضرّك قلَّة السَّالكين، وإيَّاك وطرق الضَّلالة، ولا تغترّ بكثرة الهالكين». وقال ابن مسعود: «أنتم في زمان خيرُكم فيه المتسارعُ في الأمور، وسيأتي زمانٌ بعدكم خيرُهم فيه المتثبِّتُ المتوقِّفُ لكثرة الشُّبُهات». قال الإمامُ الغزاليُّ: لقد صدق؛ لأنَّ مَن لم يثبت في هذا الزَّمان؛ بل وافق الجماهير فيما هم فيه، وخاض فيما خاضوا فيه يهلك كما هلكوا؛ فإنَّ أصلَ الدِّين وعمدتَه وقوامَه ليس بكثرة العبادة والتِّلاوة والمجاهَدة بالجوع وغيره؛ وإنَّما هو باحترازه من الآفات والعاهات التي يأتي عليه من البدع والمحدَثات التي تؤدِّي إلى تبدُّله وتغيُّره؛ كما تُبدَّلُ وتُغَيَّرُ أديانُ الرُّسُل- عليهم السَّلام- من قبل بسبب ذلك؛ فعلى هذا يَنبغي للمؤمن أن لا يَغْتَرَّ ويستدلَّ بقوَّة تصميمه على شيء وكثرة عبادته؛ لأنَّه على الحقِّ؛ فإنَّ تصميمَه عليه وعدمَ رجوعه عنه- ولو نشر بالمناشير- لا يَدُلُّ على كونه على الحقِّ؛ لأنَّ جزمَه وتصميمَه عليه ليس من حيث كونه حقًّا؛ بل من حيث نشأته بين قوم يدينون به. وللنَّشأة والمخالطة أثرٌ عظيمٌ في تصميم الشَّيء؛ حقًّا كان أو باطلاً؛ ألا ترى أنَّ مثلَ هذا التَّصميم يوجَدُ عامَّةً من ذوي الجهل المركَّب؛ كاليهود والنَّصارى ومَن في معناهم، وإن كان كذلك فالواجبُ على كلِّ مسلم في هذا الزَّمان أن يَحٍترزَ عن الاغترار والميل إلى شيء من البدع والمحدَثات، ويصون دينَه من العوائد التي استأنس بها وتربَّى عليها؛ فإنَّها سمٌّ قاتلٌ، قَلَّ من سَلم من آفاتها وظَهَرَ له الحقُّ معها؛ ألا ترى أنَّ قريشًا لأجل العوائد التي ألفتها نفوسهم أنكروا على النَّبيِّ  ما جاء به من الهدي والبيان، وكان ذلك سببًا لكفرهم وطغيانهم، ولذلك كان ابن مسعود يقول: «إيَّاكم وما يحدث من البدع؛ فإنَّ الدِّينَ لا يذهب بمرة من القلوب؛ بل الشَّيطانُ يحدث لكم بدعًا حتى يذهب الإيمان من قلوبكم». نسألُ اللهَ تعالى أن يُريَنا الحقَّ حقًّا ويرزقنا اتِّباعَه، ويريَنا الباطلَ باطلاً ويرزقَنا اجتنابه.   المجلس الرابع وهو الثَّامن والخمسون في الأصل في بيان ذكر الموت ولزوم الاستعداد له. قال رسول الله : «أكثروا ذكر هادم اللَّذَّات الموت»( ). هذا الحديثُ من حسان المصابيح، رواه أبو هريرة، ومعناه أنَّ الموتَ يَكْسر كلَّ لذَّة، فأكثروا ذكرَه حتى تستعدُّوا له؛ فإنَّ قولَه عليه الصَّلاة والسلام: «أكثروا ذكر هادم اللذات» كلام وجيز مختصَر؛ لكن جَمَعَ فيها جميع المواعظ؛ فإنَّ مَن ذَكَر الموت حقيقةً ينقص عليه لذَّةَ الحاضر والمنعةَ من تَمَنِّيها في المستقبل، ويزهِّدُه فيما كان يؤمِّلُه منها؛ لكن النُّفوس الرَّاكدة والقلوب الغافلة تحتاج إلى تكبير اللَّفظ وتطويل الوعظ؛ وإلَّا ففي قوله- عليه الصلاة والسلام: «أكثروا ذكر هادم اللَّذَّات الموت». مع قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ( ). ما يكفي السَّامع له والنَّاظر فيه؛ لأنَّ ذكرَ الموت يورِّثُ استشعارَ الانزعاج عن هذه الدَّار الفانية والتَّوَجُّه في كلِّ لحظة إلى الدَّار الباقية؛ إذ قد قال العلماء: ليس بعدم محض وفناء صرف؛ وإنَّما هو انقطاع تعلُّق الرُّوح بالبدن ومفارقة عنه، وتبدُّل من حال إلى حال، وانتقال من دار إلى دار؛ وهو من أعظم المصائب؛ قد سمَّاه اللهُ- تعالى- مصيبةً. قال: فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ( ). فالموتُ هو المصيبةُ العظمى، وأعظم منه الغفلة عنه وعدم ذكره وقلَّة التَّفَكُّر فيه؛ إنَّ فيه وحدَه لعبرةً لمن اعتبر، وقد قال القرطبيُّ في تذكرته: إنَّ الأمَّةَ اجتمعت على أنَّ الموتَ ليس له سنٌّ معلوم ولا مرض معلوم؛ وإنَّما كان كذلك ليكون المرءُ على هيبة منه مستعدًّا له؛ لكن مَن غَلَبَ عليه حبُّ الدُّنيا والانهماك في لَذَّاتها لا محالةَ يغفل عن ذكره ولا يذكره؛ بل إذا ذكره عنده يكرهه وينفر عنه طبعه؛ لأنَّ غلبةَ حبِّ الدُّنيا في قلبه ورسوخ علائقها فيه يَمْنَعُ عن التَّفَكُّر في الموت الذي هو سببُ مفارقتها ولا يحب ذكره، وإن ذكره بذكره للتَّأَسُّف على الدُّنيا! ويشتغل بذمِّه ويزيده ذكرُه بعدًا من الله تعالى؛ إذ قد وَرَدَ في الحديث أنَّ «من كره لقاء الله كره الله لقاءه»( ). ومع هذا فَتَذَكُّرُه للموت خيرٌ له؛ لأنَّ تَذَكُّرَ الموت يُنَغِّصُ عليه نعيمَه، ويُكَدِّرُ عليه صفوة لذَّته؛ فكلُّ ما يكدر على الإنسان لذَّتَه ويُنْقص عليه شهوتَه فهو من أسباب سعادته، ولذا قال النَّبيُّ : «وأكثروا ذكر هادم اللَّذَّات»( )؛ لأنَّ الإنسانَ لا ينفكُّ في حالتين؛ إمَّا في ضيق ومحنة أو في سعة ونعمة؛ فإن كان في ضيق ومحنة فذكرُ الموت يُسَهِّلُ عليه ما هو فيه؛ بأنَّه يزول لا يدوم، والموت أصعب منه إن كان في سعة ونعمة؛ فذكر الموت يمنعه عن الاغترار والسُّكون إليها؛ كما روي أنَّه  قال: «كفى بالموت واعظًا»( )!! وقال اللَّفَّافُ: مَن أكثر ذكرَ الموت أُكْرم بثلاثة أشياء: تعجيل التَّوبة، وقناعة القلب، ونشاطُ العبادة، ومَن نَسي الموتَ عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التَّوبة، والحرص على الدُّنيا، والتَّكاسُل في العبادة. وقالت أمُّ المؤمنين عائشة: يا رسول الله: هل يحشر مع الشهداء أحد؟ قال: «نعم، مَنْ يذكر الموتَ في اليوم واللَّيلة عشرين مرَّة»( ). وسبب النَّيل إلى هذه الفضيلة أنَّ ذكرَ الموت يوجب التَّجافي عن الدُّنيا والاستعداد للآخرة، والغفلة عنه تدعوه إلى الانهماك في شهوات الدُّنيا ولذَّاتها، ونسيان الآخرة، وقد قال النَّبيُّ  لابن عمر: «كن في الدُّنيا كأنَّك غريب أو عابر سبيل»( )؛ فكأنه  قال له: إنَّك مسافر؛ ستسافر إلى الآخرة؛ فلا تتَّخذ الدُّنيا ولا تمل إلى حظوظها وحطامها، واغتنم صحَّتَك واصرفها في طاعة الله تعالى، واجتهد أن تقدِّمَ في حياتك ما تَقَرُّ به عينُك يومَ الجزاء؛ وذلك إنَّما يَحْصُلُ بذكر الموت. فلذلك كان ذكرُ الموت أفضلَ وأنفعَ، وغفلة الناس عنه لقلَّة فكرهم فيه وعدم ذكرهم له، ومَن يذكره لا يذكره بقلب فارغ؛ بل بقلب مشغول بأشغال الدُّنيا؛ فلا ينفع ذكره في قلبه، مع أنَّ الواجبَ على العبد أن يفرغ قلبَه عن كلِّ شيء إلَّا عن ذكر الموت الذي هو بين يديه؛ فإنَّه إذا ذكره بقلب فارغ يوشك أن يؤثِّرَ فيه؛ وعند ذلك يقلُّ فرحُه وسرورُه بالدُّنيا وينكسر قلبه؛ فإنَّ مَن كان أسيرَ النَّفس مصرًّا على الذُّنوب يجب عليه أن يجتهد في إصلاح نفسه بمداواة قلبه؛ فإنَّ مداواةَ القلوب واجبة؛ٌ لاسيما إذا كانت القلوب قاسية؛ فعلاجها بأربعة أشياء؛ إذ قد قال العلماء: إذا كانت القلوب قاسية فعلى أصحابها أن يلتزموا بأربعة: - الأول: حضور مجالس العلم التي يكثر فيها دعوةُ الخلق من الدُّنيا إلى الآخرة، ومن المعصية إلى الطاعة؛ فإن ذلك ممَّا تَلين به القلوب، وينجع فيها. - والثاني: ذكرُ الموت الذي هو هادم اللَّذَّات ومفرِّق الجماعات، ميتِّم للبنين والبنات. - والثَّالث: مشاهدة المحتضرين؛ فإنَّ النَّظَرَ إلى المحتضر ومشاهدة سكراته ونزعاتها وتأمُّل صورته بعد موته يقطع عن النُّفوس لذَّاتها وعن القلوب مسرَّاتها ويمنع الأجفان النوم والأبدان من الراحة ويبعث على الطاعات؛ فهذه ثلاثة أمور ينبغي لمن كان قاسي القلب وأسير النَّفس مصرًّا على الذُّنوب أن يستعين بها على دوائه؛ فإن انتفع بها فذاك، وإن عظم عليه رين القلوب واستحكمت دواعي الذُّنوب فزيارة القبور يؤثِّر في ذلك ما لم يؤثِّر الأوَّل والثَّاني؛ ولذلك قال النَّبيُّ- عليه الصَّلاة والسَّلام: «زوروا القبور؛ فإنَّها تذكِّر الموتَ والآخرةَ وتزهِّدُ في الدُّنيا»( )؛ فإنَّ الأوَّلَ سماع بالأذن، والثاني: إخبارٌ بالقلب بما إليه المصير؛ وفي مشاهدة من احتضر وزيارة من قبر معاينةٌ؛ ولذلك كانا أبلغَ من الأوَّل والثَّاني. وقد قال النبي : «ليس الخبر كالمعاينة»( )؛ لكن الاعتبارَ والاتِّعاظَ بحال المحتضر غيرُ ممكن في كلِّ وقت من الأوقات، ولا يتَّفق لمن يريد علاجَ قلبه في ساعة من السَّاعات، وأمَّا زيارة القبور فوجودُها أسرع، والانتفاع بها أوسع؛ لكن ينبغي لمن يقصد زيارةَ القبور أن يَحترزَ من الزِّيارة البدعيَّة التي يقصدها أكثرُ النَّاس في هذا الزَّمان؛ وهي زيارة قبور المتبرِّكين لأجل الصَّلاة عندها والطَّواف بها وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود عليها وأخذ ترابها ودعاء أصحابها والاستعانة بهم وسؤالهم النَّصرَ والرِّزقَ والولدَ والعافيةَ وقضاء الدُّيون وتفريج الكربات وإغاثة اللهفان، وغير ذلك من الحاجات التي كان عبَّادُ الأوثان يسألونها من أوثانهم؛ إذ ليس شيءٌ منها مشروعًا باتِّفاق علماء المسلمين؛ إذ لم يفعله رسولُ ربِّ العالمين ولا أحد من الصَّحابة والتَّابعين وسائر أئمَّة الدِّين؛ بل يتأدَّب بآدابها، ويكون حاضر القلب في إتيانها، ولا يكون حظُّه منها الطَّواف عليها فقط؛ لأنَّه حالة تشاركه فيها البهائم؛ بل يقصد بزيارتها وجهَ الله تعالى، وإصلاح نفسه، ودواء قلبه، ويتجنَّب المشي على المقابر والجلوس عليها، ويخلع نعليه إن دخلها كما جاء في الحديث، ويسلِّم على أهلها، ويخاطبهم خطابَ الحاضرين ويقول: السَّلام عليكم دار قوم مؤمنين؛ فإنَّه- عليه الصلاة والسلام- كان يقول كذلك. وإذا وصل إلى ميت ينبغي له أن يأتيه من تلقاء وجهه ويسلِّم عليه أيضًا؛ لكن إذا أراد أن يدعو يدعو قائمًا مستقبلَ القبلة، وكذلك الكلام في زيارة النَّبيِّ ، ثمَّ يَعتبر ممَّن كان تحتَ التُّراب وانقطع عن الأهل والأحباب بعد أن نافس الأصحاب والعشائر وجمع الأموال والذَّخائر وجاءه الموت في وقت لم يحتسبه، وفي حال لم يرتقبه؛ فإنَّه حين دخل القبرَ وابتلي بالسُّؤال هل أصاب في الجواب، وكان قبره روضة من رياض الجنة؟! أو أخطأ في الجواب وكان قبرُه حفرةً من حفر النِّيران؟! ثم يجعل نفسه كأنَّه مات ودخل القبر وذهب عنه أهلُه وولدُه ومعارفُه وبقي وحيدًا فريدًا؛ وهو الآن يُسْأل فماذا يجيب؟ وماذا يكون حال من مَضى من إخوانه وأقرانه الذين أمَّلوا الآمال وجمعوا الأموال؟! كيف انقطعت آمالهم؟! ولن تغني عنهم أموالهم، وغيَّرَ التُّرابُ محاسنَ وجوههم، وافترقت في القبور أجزاؤهم، وأرملت بعدهم نساؤهم، وشمل اليُتمُ أولادَهم، واقتسم غيرُهم أموالَهم، وليعلم أنَّ ميلَه إلى الدُّنيا كميلهم! وغفلتَه كغفلتهم! وأنَّه لا شكَّ صائرٌ إلى مصيرهم، وليتحقَّق أنَّ حالَه كحالهم، وأنَّ الموتَ قطيع والهلاك سريع.   فهرس الموضوعات المقدمة 5 التعريف بالمؤلف 8 المجلس الأول 9 المجلس الثاني 22 [تقسيم البدعة] 23 المجلس الثالث 41 المجلس الرابع 53 فهرس الموضوعات 60