بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فهذه : (تنبيهات على أهم المهمات) وهذه تتعلق بالتوحيد وما يضاده من الشرك ونواقض الإسلام وأتبعتها بتنبيهات أخرى متنوعة رأيت أهمية التنبيه عليها. وإني أحمد الله سبحانه وتعالى على أن وفقني لقراءة الكتاب على سماحة شيخنا العلامة/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله، فقد قرأته عليه كله وفرغت من قراءته عليه في الرياض ليلة الأحد 18/12/1419 هـ وذلك قبل سفر الشيخ سفرته الأخيرة إلى مكة والطائف بأربعة أيام فقط ( ). أسأل الله أن يجعل ذلك في ميزان حسناته، وأن يرفع به درجاته، وأن يجمعنا به في جنات الفردوس الأعلى ووالدينا وإخواننا المسلمين مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. المؤلف علي بن صالح الجبالي ص.ب 120195 الرياض 11679 التنبيه الأول لماذا خلق الله الخلق؟ إن الله خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ( ) وقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ( ) وأن أساس هذه العبادة ورأسها وأصلها وركنها الأعظم هو: توحيد الله والإخلاص له، وترك الإشراك به، والموالاة في ذلك والمعاداة فيه. *** التنبيه الثاني أساس الدين وقاعدة الملة عند الرسل وأتباعهم بإحسان إن كون التوحيد هو أساس الدين وقاعدة الملة لا خلاف فيه بين سلف الأمة، من الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان، ومنهم الأئمة الأربعة، أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل رحمهم الله جميعاً، بل ولا خلاف فيه بين جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو الذي أرسلت الرسل وأنزلت الكتب وقام الجهاد من أجله، وانقسم الناس بعده إلى أشقياء وسعداء، إلى فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير. ودعت إليه جميع الرسل، قال جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ( ). وقال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ( ). وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ( ). ونبينا محمد  دعا قومه عشر سنين في مكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس وغيرها من شرائع الإسلام إلى توحيد الله والإخلاص له وترك الإشراك به، وهكذا عندما بعث معاذاً  إلى اليمن، قال له: «إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله » وفي لفظ آخر: « فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل» وفي لفظ ثالث: « ليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله » ثم قال بعد ذلك : «فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم »( ) الحديث. *** التنبيه الثالث الشرك وخطره وأنه أعظم منكر إن الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال، وإن المشرك لا يقبل الله منه عملاً، وهو خالد في النار إن مات على الشرك أبد الآباد، فلو قام رجل الليل وصام النهار لله، وزكى وحج لله وكان باراً بوالديه واصلا رحمه، محسناً إلى جيرانه، أميناً في بيعه شرائه ، يختم القرآن كل ليلة، ويعمل أعمالاً أخرى كالجبال، ولكنه يذبح لغير الله فإن أعماله وأخلاقه لا تغني عنه من الله شيئاً، وهي حابطة باطلة كما قال الله تعالى : وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر: 65]. وقال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا( ). وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ( ). وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت: يا رسول الله، إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذاك نافعة ؟ قال: «لا ينفعه إن لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين»( ). فمع أنه كان واصلاً لرحمه مطعماً للمساكين لم ينفعه ذلك لأنه مشرك، وهكذا جميع الأعمال لا تقبل من المشرك. *** التنبيه الرابع التوحيد وأنه أعظم معروف إن من مات على التوحيد، وإن كان عنده كبائر مات مصراً عليها لم يتب منها، فإنه لا يخلد في النار، فمن مات على شيء من الكبائر كالزنا والسرقة وشرب الخمر فإنه لا يخلد في النار، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة ومن شابههم من أهل البدع. وقد تواترت الأحاديث( ). عن النبي  بأن أهل الكبائر يخرجهم الله من النار بشفاعة نبينا محمد  وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكذلك بشفاعة الشهداء والصالحين والملائكة والأفراط( )، وقسم يعفو الله عنهم بحكمته فلا يدخلون النار، وإنما يدخلون الجنة من أول وهلة، وقسم ثالث يسقطون في النار فيعذبون فيها، ويختلف مكثهم فيها، ثم يخرجهم الله وقد احترقوا، ثم يلقون في نهر الحياة فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يدخلون الله الجنة كما سيأتي تفصيله. وأما من مات على الشرك الأكبر فإنه لا تنفعه شفاعة أحد من الشفعاء كما قال تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ( ). وكذلك فإن المشرك لا يأذن الله في الشفاعة فيه، لأن الشفاعة التي أثبتها الله لها شرطان: الشرط الأول: أن تكون بعد أن يأذن للشافع أن يشفع، قال عز وجل مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ( ). الشرط الثاني: أن يرضى الله عن المشفوع له، قال تعالى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى( ). وأهل الشرك لا يرضى الله الشفاعة فيهم. وقد جمع الله الشرطين في قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا( ). *** التنبيه الخامس انقسام الناس يوم القيامة ثلاثة أقسام إن الناس يوم القيامة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: وهم المؤمنون الموحدون الذين ماتوا على توبة فليس عندهم ذنوب ماتوا مصرين عليها، فإن هؤلاء يجوزون الصراط ويدخلون الجنة من أول وهلة، نسأل الله أن يجعلنا منهم ووالدينا وذرياتنا وإخواننا المسلمين الأحياء والأموات بمنه وكرمه. القسم الثاني: وهم المؤمنون الموحدون الذين ماتوا وعندهم كبائر ماتوا مصرين عليها لم يتوبوا منها، فهؤلاء ينقسمون إلى قسمين: قسم يعفو الله عنهم، ويدخلون الجنة مع القسم الأول لحكمة يراها سبحانه وتعالى: القسم الآخر تخطفهم الكلاليب التي على الصراط كما أخبر النبي  بقوله : «فناج مسلم ومخدوش ومكدوس في نار جهنم»( ). أي: منهم من يسلم، ومنهم من تخدشه الكلاليب وينجو، ومنهم مكدوس أي: تلقيه الكلاليب في نار جهنم، فيشفع النبي  فيهم كما قال  : «يحد الله لي حدا فأخرجهم من النار»( ) ثلاث مرات أو أربع مرات. ويشفع الأنبياء غير نبينا محمد عليهم الصلاة والسلام أجمعين، وهكذا الملائكة والشهداء والصالحون والأفراط ثم يقول سبحانه وتعالى: «شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين»( ). فيخرج الله قسما منهم برحمته سبحانه دون شفاعة أحد. وأحاديث الشفاعة متواترة كما تقدم، وقال الله عز وجل : إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ( ) الآية. وهذه عقيدة سلف الأمة من أصحاب النبي  وأتباعهم بإحسان ومنهم الأئمة الأربعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ابن حنبل وغيرهم من أئمة الهدى رحمهم الله أجمعين، خلافاً للخوارج والمعتزلة، فإن الخوارج يكفرون من أتى بكبيرة كالزنا والسرقة ويستحلون دمه، ولهذا كفروا [بعض] الصحابة رضي الله عنهم، وذلك لما وقع بين الصحابة من القتال باجتهادهم فيه بين مصيب له أجران ومخطئ له أجر واحد، وفي الآخرة يجعلون من أتى بكبيرة خالداً في النار. وأما المعتزلة فعندهم من أتى بكبيرة فهو في الدنيا في منزلة بين منزلتين ليس بمؤمن ولا كافر، وفي الآخرة يجعلونه خالداً في النار كالخوارج. وهذا الاعتقاد من الخوارج والمعتزلة سببه أنهم أخذوا بنصوص الوعيد وتركوا النصوص الأخرى أو أولوها تأويلات باطلة. كما أن المرجئة قولهم بعكس قول الخوارج والمعتزلة، فإن المرجئة يقولون: إنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، والإيمان عندهم هو التصديق، وأن المعاصي لا تنقص الإيمان، فعندهم إيمان أفسق واحد في الأمة مثل إيمان أبي بكر ، وذلك لأنهم أخذوا بنصوص الوعد وتركوا نصوص الوعيد. وأما أهل الحق أهل السنة والجماعة فعقيدتهم كما تقدم بأن من أتى بكبيرة فهو مؤمن ناقص الإيمان، لا يكفر كفراً يخرج من الملة إلا إذا أتى بناقض من نواقض الإسلام، وأما المعاصي دون الشرك فإنها تنقص الإيمان ولا يخرج فاعلها من الإسلام بالكلية، بل و تحت المشيئة إن شاء الله عذبه وإن شاء عفا عنه، وذلك لأنهم جمعوا بين النصوص وآمنوا بها كلها، آمنوا بنصوص الوعد وبقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ( )، وبأحاديث الشفاعة وإخراج عصاة الموحدين من النار، ولم يضربوا كتاب الله بعضه ببعض، ولا سنة الرسول  بكتاب الله، ولا السنة بالسنة، بل ردوا النصوص المتشابهة إلى المحكمة وقالوا آمنا به كل من عند ربنا كما قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ( ). والأدلة على أن من أتى بكبيرة لا يخرج من الملة كثيرة لا يتسع المقام لسردها، ولكن نذكر منها قوله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( ). فلم ينف عنهم الإيمان ولا الأخوة والإيمانية وسماهم مؤمنين مع اقتتالهم. ومنها ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي ذر الغفاري  أن النبي  قال : «أتاني جبريل عليه السلام فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت: يا جبريل، وإن سرق وإن زنا؟! قال: نعم، قلت: وإن سرق وإن زنى؟! قال: نعم. قلت: وإن سرق وإن زنى؟! قال: نعم ، وإن شرب الخمر؟!»( ). والنصوص في الباب كثيرة. القسم الثالث: المشركون الذين ماتوا على الشرك الأكبر أو ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم وماتوا على الكفر، فإنهم لا يمرون على الصراط وإنما يحشرون إلى النار خالدين فيها أبد الآباد( ) وأعمالهم باطلة وإن كانت أمثال الجبال. لقوله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا( ) وقوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ( ) وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رجل: يا رسول الله، ما الموجبتان؟ قال: «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار»( ). والنصوص في ذلك كثيرة جداً بل هي من أوضح الواضحات في كتاب الله وسنة رسوله  . التنبيه السادس أنواع من الجهل بالتوحيد والشرك إن بعض من ينتسب إلى الإسلام يجهل معنى التوحيد وكلمة لا إله إلا الله، وكذلك يجهل الشرك. 1-الجهل بالتوحيد: فأما بالنسبة للجهل بالتوحيد ومعنى لا إله إلا الله فمنه ما يلي: أولاً: بظن البعض أن التوحيد ومعنى لا إله إلا الله أن تؤمن أو تتيقن بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المدبر المتصرف في الكون، أي توحد الله بأفعاله وهو توحيد الربوبية، وهذا التوحيد أقر به المشركون الأولون ومنهم مشركو العرب الذين قاتلهم النبي  قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ( ). وقال تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ( ). وهذا التوحيد لابد منه، ولكن لا يدخل من أقر به الإسلام حتى يقر بتوحيد الألوهية أو توحيد العبادة ، أي يعبد الله وحده ويكفر بما يعبد من دونه ، فلو قال كافر: أنا أؤمن بل أتيقن بأن الله وحده الخالق والرازق والمدبر والمتصرف في الكون كان قوله هذا واعتقاده لا يدخله الإسلام حتى يقر بأنه لا معبود بحق إلا الله أي: يوحد الله بأفعاله في جميع العبادات من صلاة وصوم وحج ونذر وذبح وغير ذلك من أنواع العبادة: بأن تكون كلها لله وحده لا شريك له ، وأن يكفر بكل ما يعبد من دون الله ويبرأ منه وأهله. وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه جميع الرسل أقوامهم ، وخاصموهم فيه وقاتلوهم عليه مع إقرارهم بتوحيد الربوبية ، ولم يعصم ذلك دماءهم وأموالهم، كما قاتل النبي  مشركي العرب كأبي جهل ، وعتبة وشيبة ابني ربيعة ، وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وغيرهم من مشركي العرب ، فلم يعصم دماءهم وأموالهم كونهم مقرين بتوحيد الربوبية. فهؤلاء المشركون يعرفون معنى لا إله إلا الله وأنها تعني توحيد الله في العبادة، ولم ينكروا توحيد الله بأفعاله كما يظنه بعض من ينتسب إلى الإسلام في هذه الأزمان، ولهذا قال الله مخبرا عن قولهم: أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ( ). وأما التوحيد الذي دعت إليه الرسل فهو المذكور في قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ( ) فهم يدعون الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له والكفر بما يعبد من دون الله، فهذا هو معنى لا إله إلا الله، وقال تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( ) قال سعيد ابن جبير والضحاك في تفسير العروة الوثقى : هي لا إله إلا الله( ). ثانيا: ومن الجهل بمعنى لا إله إلا الله الظن بأن من قالها بلسانه، ولو لم يعرف معناها، أنه يكون مسلماً لو أتى بما يناقضها، فلو قال إنسان لا إله إلا الله وهو لا يعلم معناها ولا ما دلت عليه من إخلاص العبادة لله وترك الإشراك به والكفر بما يعبد من دونه، أو لو قال لا إله إلا الله وهو يسب الله أو يسب الرسول  ، أو أتى بغير ذلك من أمور الردة فإن قوله لا إله إلا الله في كل هذه الأحوال لا ينفعه. وأما حديث أسامة  الذي قال فيه: «بعثنا رسول الله  إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله فكيف الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي  فقال: «يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟» قلت : كان متعوذا، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم( ). فهذا الحديث يدل على أن من قالها يكف عنه ولا يقتل، فإنه بقول لا إله إلا الله يعصم دمه وماله، فإن أظهر بعد ذلك ما يناقضها صار مرتداً يطبق عليه حكم المرتد، وإن كان قالها كاذباً ليسلم من الفعل ولم يقلها عن إيمان فإنه يحكم عليه في الظاهر بالإسلام، وفي الآخرة هو في الدرك الأسفل من النار، لأن هذا شأن المنافقين إظهار الإيمان وإبطان الكفر، حيث إن الناس في الدنيا يؤخذون بالظاهر، ولذلك لم يقتل النبي  عبد الله بن أبي بن سلول وغيره من المنافقين حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، مع أنهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار كما تقدم، وبهذا يتبين معنى قوله  : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيمون الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله»( ). والخلاصة: أن توحيد الربوبية لابد من الإقرار به، ولكن لا يدخل الكافر الإسلام حتى يقر بتوحيد الألوهية الذي هو أنه لا معبود بحق إلا الله، وذلك بعبادة الله وحده والإخلاص له، وترك كل ما يعبد من دون الله والبراءة منه وأهله. ثالثاً: وهناك قسم ثالث للتوحيد يدخل في معنى لا إله إلا الله وهو توحيد الأسماء والصفات، ويتضمن الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى واحد في أسمائه وصفاته ولا يشابهه أحد من خلقه، واعتقاد ثبوت جميع أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى على الحقيقة على الوجه اللائق به جل وعلا، ولا يعلم كيفيتهما إلا هو سبحانه وتعالى، كما قال السلف رضي الله عنهم : «أمروها كما جاءت بلا كيف» فجميع ما ذكر الله في كتابه أو على لسان رسوله  من الأسماء والصفات فهو ثابت له سبحانه حقيقة على الوجه اللائق، وتمر كما جاءت من غير تكييف ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل، قال الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ( ) وقال تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ( ). فنعتقد أن الله يغضب ولكن غضبه ليس كغضب المخلوقين، بل يغضب غضبا حقيقياً يليق به سبحانه ولا يشابه غضب المخلوقين، ولا يعلم كيفيته إلا هو سبحانه وتعالى، وهكذا الرضا والضحك والوجه واليدان والنزول وغيرها من الأسماء والصفات تثبت لله على الحقيقة، لا تشابه صفات المخلوقين، تليق به سبحانه، ولا يعلم كيفيتها إلا هو جل وعلا. وقد جمع الله أقسام التوحيد الثلاثة في قوله تعالى: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا( ) فذكر توحيد الربوبية في قوله سبحانه : رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَاوتوحيد الألوهية في قوله تعالى: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ وتوحيد الأسماء والصفات في قوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّاوهذا استفهام بمعنى النفي : أي لا سمى له سبحانه وتعالى. 3-الجهل بالشرك: وأما الجهل بالشرك فمنه: أولا: ظن بعض من ينتسب للإسلام أن الشرك هو فقط عبادة الصور المنصوبة على شكل أصنام أو أحجار أو نحو ذلك، ويظنون أن دعوة الأموات والاستغاثة بهم والنذر والذبح لهم وسؤالهم المدد ليس من الشرك، بل يقولون: إن هؤلاء الأولياء – بزعمهم – لهم جاه عند الله ومنزلة ، وهم – أي : المشركون – عندهم ذنوب، فيقربون القرابين والنذور لهؤلاء الأولياء حتى يشفعوا لهم عند ربهم، ويجعلون هؤلاء الأولياء واسطة يستشفعون بهم ويسألونهم شفاء المرضى ورد الغائبين ، ويستجيرون بهم ، ولا يعلمون أن هذا هو دين المشركين الأولين الذين قال الله عنهم: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ( ). فرد الله عليهم وأخبر أنه لا يحتاج إلى من يبلغه حاجات خلقه بل هو بكل شيء عليم، فقال سبحانه: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ( ). فالمشرك لسوء ظنه بربه يظن أنه يحتاج لواسطة لتبليغه حاجات خلقه، والله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، يعلم السر وأخفى، قال تعالى: سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ( )، وقال النبي  في الحديث الصحيح : «إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ، إنما تدعون سميعا بصيرا ، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته»( )، وقربه هنا بعلمه سبحانه وتعالى( ). فأما شفاعات نبينا محمد  وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والملائكة الشهداء والأفراط وغيرهم من الشفعاء ، فهذه ثابتة وذلك يوم القيامة بعد أن يأذن الله بذلك ويرضى عن المشفوع له كما تقدم. كذلك الاستشفاع بالنبي  في حال حياته بأن يدعو بنزول الغيب وغير ذلك ، وكذلك من بعده من الأخيار بأن يطلب منهم أن يدعوا الله وهم أحياء يسمعون حاضرون، فهذا كله حق، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن عمر بن الخطاب  كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب  فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا  فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال : فيسقون)( ). وهو يستشفع بهم بعد موتهم أو وهم غائبون أو فيما لا يقدر عليه إلا الله ، فهذا كله من الشرك الأكبر ، فإنه في حال الموت لا يستشفع بأحد حتى النبي  فهو عبد لا يعبد ، ورسوله لا يكذب. ثانيا: من الجهل بالشرك ظن بعض من ينتسب للإسلام أن الشرك هو فقط الشرك بالربوبية ، وذلك بأن يعتقد أن هؤلاء الأولياء يخلقون ويرزقون ، أو يحيون أو يميتون. وأما الاستشفاع بهم بعد موتهم غائبون أو فيما لا يقدر عليه إلا الله والنذر لهم رجاء أن يقضوا الحاجات ويقبلوا أن يشفعوا ، فلا يظن هؤلاء أن هذا شرك ، بل هو حسب زعم هؤلاء من محبتهم ورجاء بركتهم وشفاعتهم وأن تقضي الحوائج . ويتهمون من ينكر ذلك ببغض الأولياء ، وأنه لا يعرف منزلتهم ولا يقدر لهم قدرهم ، فهذا من تلبيس الشيطان وحزبه، نسأل الله السلامة والعافية. ثانيا: ومن الجهل بالشرك الخلط بين الشرك بالإرادات والشرك في العبادات، فمثلاً يظن البعض أن حب المال أو الزوجة والأولاد الذي يدعو البعض إلى التقصير إما بفعل بعض المكروهات أو المحرمات أو ترك بعض الواجبات أو المستحبات، كمن يتأخر في دكانه بعد الأذان حباً للمال والبيع والشراء ولا يأتي للمسجد إلا عند الإقامة، فيعتبرون هذا من الشرك الأكبر، وأنه جعل المال إلها مع الله. وهذا ليس من الشرك الأكبر، لأنه يعبد المال وإنما هذا من حب المال، وهو آثم إن دعاه ذلك إلى ترك بعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات، ولكن لا يخرجه ذلك من الملة ولا يجعله ذلك مشركاً شركاً أكبر، إلا إذا ترك الواجبات أو فعل المحرمات مستحلاً لذلك، أو ترك الصلاة. بعض أحكام المرتد وهو المسلم يكفر بعد إيمانه هناك بعض الأمور التي من فعلها ارتد عن الإسلام ومنها ما يمكن إجماله في أربعة أمور: 1-الردة بالقول: فيرتد المسلم عن الإسلام بقوله كمن يسب الله أو الرسول  أو القرآن، أو من يستهزئ الله أو برسوله أو بآياته. 2-الردة بالفعل: كمن ذبح لغير الله أو سجد لغير الله أو تعمد إهانة القرآن. والردة بالقول أو الفعل تكون مع عدم الإكراه، أما مع الإكراه فلا يكفر ما دام قلبه مطمئناً بالإيمان، لقوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ( ). 3-الردة بالاعتقاد: وهذا من أوسع الأبواب، ومن أمثلة ذلك: لو اعتقد أن كل واحد حر يعتنق ما شاء من دين، ويعبد ما شاء ولو كان هذا المعتقد يعبد الله فهو كافر، أو اعتقد أن النبي  أرسل إلى العرب خاصة، أو اعتقد عدم وجوب الصلاة ولو صلى فهو كافر، أو اعتقد عدم وجوب الزكاة في جميع أصناف المال فهو كافر وإن زكى، أو اعتقد عدم وجوب صوم رمضان على كل أحد وإن صام فهو كافر، أو اعتقد عدم وجوب الحج مطلقاً فهو كافر، وهكذا لو اعتقد أن الخمر حلال ولو لم يشربها فهو كافر، أو اعتقد عدم تحريم عقوق الوالدين وإن لم يعقهما فهو كافر، أو لو قال نكاح المحارم حلال فهو كافر. الخلاصة: أن كل واجب أجمع المسلمون على وجوبه، أو محرم أجمع المسلمون على تحريمه، فمن لم يعتقد وجوب الواجب المجمع عليه أو تحريم المحرم المجمع على تحريمه وبين له وأصر على اعتقاده بعد البيان فهو كافر. 4-الردة بالشك: وهو أن يشك في أمر ثابت مجمع عليك شكاً يستقر في قلبه، كأن يشك في صدق نبينا محمد  أو أن يشك بأن هناك بعثا بعد الموت ونحو ذلك. وأما الوساوس العارضة فإنها لا تضر إذا جاهدها المؤمن، فإن الصحابة  شكوا ذلك إلى النبي  وقالوا : إن أحدنا ليخطر عليه الشيء لأن يخر من السماء أهون من أن يتكلم فيه، فقال النبي  : «ذاك صريح الإيمان»( )، وفي اللفظ الآخر قال  «الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة»( ). وقال  «إذا وجد أحدكم ذلك فليقل: أمنت بالله ورسله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»( ). وقال : «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم»( ). والأدلة في الباب كثيرة. والحاصل أن الوساوس العارضة لا تضر، ولكن يجاهدها المؤمن بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وبقوله: آمنت بالله ورسله، ويعرض عنها. *** بعض الإشكالات والجواب عنها الإشكال الأول: يقول بعض الناس: إن الصحابة - رضي الله عنهم- لم يقسموا التوحيد إلى هذه الأقسام الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وإن هذا التقسيم وجد بعدهم. وهذا صحيح، ولكن الصحابة – رضي الله عنهم -كانوا عرباً يفهمون لغة العرب، وفطرهم سليمة لم يشبها ما شاب بعض من بعدهم ممن بنوا عقيدتهم على الفلسفة وعلم الكلام، فهم يعلمون معنى لا إله إلا الله وما هو التوحيد، ويفهمون ذلك فما صحيحاً، ولذلك لما كان مشركو العرب يفهمون معنى لا إله إلا الله وما دلت عليه لم يقولوها، وأما بعض من ينتسب إلى الإسلام في هذا الزمان ومن قبل ذلك بقرون، فعلى العكس فإنهم يقولونها ويكون فهمهم لها إما ناقصاً وإما معدوماً، فيظن بعضهم أن معناها توحيد الربوبية فقط، أو أنه يكفي النطق بها باللسان للدخول في الإسلام، ولو لم يعلم معناها وما دلت عليه، وإن أتى بما يناقضها كما تقدم. فلذلك قسم العلماء رحمهم الله التوحيد إلى هذه الأقسام الثلاثة وبعضهم قسمة إلى قسمين: القسم الأول: توحيد المعرفة والإثبات الذي يدخل فيه توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات. القسم الثاني: توحيد القصد والطلب الذي هو توحيد الألوهية. وكل هذه التقاسيم القصد منها التمييز بين المسلم والكافر، وليعرف دين المرسلين من دين المشركين، وما هو التوحيد الذي يدخل الكافر الإسلام، وحتى لا يلتبس الحق بالباطل على من لا علم عنده أو على من شبه عليه، وإلا لو كان هناك من يفهم التوحيد ومعنى لا إله إلا الله فهما صحيحاً، ولو كان عامياً، فإنه لا يلزم بتعلم أقسام التوحيد. الإشكال الثاني: قول بعض الناس: ندعو الناس إلى توحيد الربوبية فيتعلق الناس بالله، ولا يضرهم إن فهموا التوحيد ومعنى لا إله إلا الله على أنه توحيد الربوبية فقط، كما لا يلزم إيضاح الشرك الأكبر وأنواعه وأنه يحبط جميع الأعمال. فالجواب على ذلك أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى في كتابه ونبينا  وإخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعوا الناس إلى توحيد الألوهية أو توحيد العبادة، وبينوا لهم الشرك وخطره وجميع ما يناقض التوحيد ويبطل جميع الأعمال، والله ورسله أعلم وأحكم. وقد ذكر الله تعالى في كتابه توحيد الربوبية على سبيل الاحتجاج به على المشركين الذين أقروا به، ولم يذكره على سبيل تقريره إلا مع المنكرين له، فهم قلة كفرعون والنمرود وغيرهما، وأما أكثر الأمم الكافرة فإنهم مقرون به، كقوم نوح وهود وصالح وشعيب ومشركي العرب وغيرهم، فقال تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ( ). وقال تعالى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ( ) وقال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ( ). . وقال تعالى :أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ( ). وقال تعالى: أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ( ). وعن عمران بن الحصين رضي الله عنهما قال : قال النبي  لأبي : «كم تعبد اليوم إلها؟» قال أبي : سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء، قال : «فأيهم تعبد لرغبتـك ورهبتـك؟» قال: الذي في السماء . الحديث( ). ففيما تقدم من الآيات يحتج الله على المشركين بإقرارهم بتوحيد الربوبية على أنه وحده المستحق للعبادة دون ما سواه، وعلى بطلان حجتهم وفساد عقيدتهم باتخاذهم آلهة يعبدونها من دون الله. المعنى: أي: كما أقررتم أيها المشركون بأن الله وحده خالقكم ورازقكم ومحييكم ومميتكم ومدبر الأمر، فكيف تعبدون معه غيره وتدعون غيره معه من هذه الآلهة التي لا تملك لكم ضراً ولا نفعاً ولا تسمع ولا تبصر، ولو سمعت لم تستطع أن تجيبكم إلى ما طلبتم، قال تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ( ). وكذلك فإن فهم الناس التوحيد على هذا النحو وعدم معرفتهم بالشرك وخطره وأنواعه له آثار خطيرة منها: أ- أن هذا يجعل الناس لا يفرقون بين دين المشركين ودين المرسلين، ويلتبس عليهم الحق والباطل، وقد يقعون في الشرك الأكبر، لأنهم لا يعلمون أن هذا شرك. ب- أن من فهم التوحيد كذلك ولم يعرف الشرك قد يجعله ذلك يرى أهل الشرك على شركهم ولا ينكر عليهم ولا يكفرهم، لأنه لا يظن أصلا أن هذا شرك لعدم العلم بذلك، ومن المعلوم أن من لم يكفر من كفره الله ورسوله  فهو كافر. ج- يؤدي ذلك إلى ضعف عقيدة الولاء والبراء عند الناس، فيكون الحال كما يقلو بعض من ينتسب للإسلام عندما تكلمه عن التوحيد والشرك الواقع في الأمة فيقول لك: ما الفرق بيننا؟ كلنا مسلمون، كلنا نقول لا إله إلا الله! د- سهولة انتشار الشرك الأكبر، وذلك لعدم معرفة التوحيد وما يضاده من الشرك وأحكام المرتد، وذلك لانقلاب المفاهيم بأن يكون المعروف، والشرك توحيداً والتوحيد شركاً، كما هو الواقع في بعض بلاد الإسلام. هـ- إن الفناء ( ) في توحيد الربوبية دون معرفة توحيد الألوهية قد يؤدي أولاً إلى عقيدة الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مجبر على أفعاله وليس له مشيئة ولا اختيار، وذلك أن الإنسان إذا فني في استحضار أن الله هو المتصرف المدبر للكون دون أن يستحضر أنه عبد مأمور منهي ، فإن ذلك قد يؤدي به إلى القول بسقوط التكاليف عنه، وأنه مجبر على أفعاله، كما يقول بعض الصوفية أنه وصل إلى درجة اليقين ثم يصل به الأمر إلى عقيدة أكثر إلحاداً وكفراً بأن يقول بوحدة الوجود بأن لا يفرق بين الخالق والمخلوق، كما يقول بعض ضلال المتصوفة: ما في الجبة إلا هو، يعني أن الله سبحانه وتعالى حل في جبته، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وهذا المعنى الذي ذكرت ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مواضع من كتبه في الفتاوى وفي كتاب اقتضاء الصراط المستقيم فلتراجع. يتبين مما سبق أمور منها: 1- أهمية التوحيد وأنه أعظم معروف، وخطر الشرك وأنه أعظم منكر. 2- حاجة كل إنسان، بل إن الجن والإنس جميعا [واجب عليهم] أن يتعلموا توحيد الله وما يضاده من الشرك ونواقض الإسلام، حتى لا يخرجوا من الإسلام وهم لا يشعرون ولا يعلمون. 3- أن هناك من ينتسب إلى الإسلام وهو على دين المشركين الأولين ولا يخطر ذلك بباله مما يجعل المسئولية على الدعاة إلى الله عظيمة، وذلك ببيان هذا الأمر والدعوة إليه قبل الدعوة إلى الصلاة أو الزكاة أو غير ذلك من فعل الواجبات وترك المحرمات، وخاصة عند من ينتشر بينهم الشرك. تنبيه مهم مما يجدر التنبيه عليه أن كون المعاصي دون الشرك لا يكفر فاعلها لا يعني التساهل بها وارتكابها، فإن دخول النار ولو لحظة واحدة هو من أعظم المصائب، بل إن العذاب في البرزخ أو يوم القيامة، وإن لم يدخل فاعل المعصية التي دون الشرك النار، مصيبة عظيمة. ويكفي في ذلك ما ثبت في الصحيح من عذاب مانع الزكاة بخلا دون جحود لوجودها، فقد روى أبو هريرة  أن النبي  قال: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار»( ) الحديث. وهكذا صاحب الإبل والبقر والغنم الذي لا يؤدي زكاته. فمن يتحمل عذاب خمسين ألف سنة، بل من يريد لنفسه العذاب ولو للحظة واحدة، وهكذا ما جاء في الوعيد لمن ارتكب بعض المعاصي أو ترك بعض الواجبات، وهذا يوجب على المؤمن الحذر من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، فإن تكفير الصغائر مشروط باجتناب الكبائر كما قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا( ). وعن أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : «الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر»( ). وروى عثمان بن عفان  قال: سمعت رسول الله  يقول: «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله»( ). فدلت الآية مع الحديثين أن تكفير الصغائر مشروط باجتناب الكبائر، أي : من لم تجتنب الكبائر لا تكفر له الصغائر، والنصوص الواردة بهذا المعنى كثيرة، فالواجب على العبد اجتناب جميع ما نهى عنه الله من كبائر وصغائر، ولأن العبد قد يعتقد أن هذا الذنب صغيرة وهو كبيرة، لأن تعريف الكبيرة مختلف فيه بين أهل العلم. فالحزم والكيس اجتناب جميع الذنوب صغيرها وكبيرها مع المسابقة في كل خير تعظيما لله ورجاء لثوابه وخوفا من عقابه، ولكن الشرك هو الداء [الأكبر والذنب الأعظم الذي لا يغفر إلا بالتوبة] وصاحبه في شر عظيم لا ينتهي في البرزخ ولا القيامة ، ثم يكتمل عذابه في نار جهنم خالداً فيها أبد الآباد، قال تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ( ). وأما من مات على التوحيد وإن كان عنده كبائر، وإن دخل النار ولم يخرجه الله بشفاعة الشفعاء أو مع من يخرجهم بدون شفاعة، فإن عذابهم وخلودهم ومكثهم في النار وإن طال فإن له نهاية ومصيرهم إلى الجنة، نسال الله أن ينجينا وإخواننا المسلمين الأحياء منهم والميتين من عذاب الله، وأن يجعلنا من السعداء في الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا جميعا ممن قال الله عز وجل فيهم : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ). تنبيهات أخرى متنوعة أولاً : الكرامات: وهي خوارق العادات التي قد تحدث لبعض الناس، وكرامات الأولياء ثابتة عند أهل السنة والجماعة، وهي تقع لأسباب منها تثبيت من وقعت له على الإيمان، أو لإقامة الحجة على غيره، أو لحاجته، أو لتكون سبباً في هداية غيره، فهي إما أن تقع للحاجة أو لإقامة الحجة، وقد كانت في الصحابة رضوان الله عليهم أقل وقوعاً، لما أعطاهم الله من قوة الإيمان مما جعلهم لا يحتاجون لأمور خارقة للعادات لتقوية إيمانهم، ولما شاهدوا ما وقع على يد نبيهم  من المعجزات وهو أفضل خلق الله أجمعين. وهي فيمن بعد الصحابة أكثر، ولكن سلف الأمة  كانوا يخافون من وقوعها لهم خشية التباس الشيطانية بالأحوال الرحمانية، كما قال بعض السلف : لو رأيت الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تظن أن هذه كرامة حتى تراه في الأمر والنهي، ولذلك لأنه إن كان صاحب سنة مستقيما على الأمر والنهي فهي كرامة، وإن كان صاحب بدعة فإنها أحوال شيطانية: ليزيده الشيطان أو يزيد المخدوعين فيه فتنة وضلالاً. فإن عباد القبور قد تظهر لهم الشياطين على صورة صاحب القبر، وتكلمهم، وتقضي لهم بعض الحوائج، وتخبرهم عن بعض الغائبين إلى غير ذلك. وقد تكلمت مع أحد الأشخاص من إحدى البلاد الإسلامية والتي يوجد بها قبر يطاف حوله ينسب إلى آل البيت، وأخبرته أن التقرب بالطواف إلى هذا الميت أو دعائه أو الذبح له أو النذر له شرك أكبر ، فاعترض على هذا الكلام بشدة وقال : إنه - يقصد صاحب القبر - يفعل ويفعل لمن طاف حول قبره. وحكى لي أن أحد الأشخاص من إحدى الدول الغربية، وكان نصرانيا، جاء إلى تلك البلاد ورأى بعض الناس يطوفون حول هذا القبر المزعوم، وسأل عن السبب فأخبر أن هذا قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما، فدخل هذا النصراني دين عباد القبور، وتسمى بالإسلام وبدأ يطوف مع هؤلاء، وبعد ذلك سافر إلى بلده وتوفي هناك. وبعد وفاته جاءت امرأته وابنته ومعهما بعض الأموال التي أوصى بها المتوفى لصاحب القبر نذورا وغيرها، فلما نزلت المرأة وابنتها في مطار تلك الدولة اختطفها بعض اللصوص وخرجوا بهما إلى الصحراء، وفجأة ظهر لهم رجل مسلح وأنقذ المرأتين من هؤلاء اللصوص، فلما سألته المرأتان : من أنت؟ قال: أنا الحسين. فأخبرت ذلك الرجل الذي قص عليَّ القصة - إن صحت- أن ذلك شيطان خرج على صورة الحسين ليزيدهما فتنة وضلالاً، لأن الحسين  مات منذ أربعة عشر قرنا، ولا يخرج من قبره إلا يوم البعث والنشور، ولو كان حياً فحاشاه أن يعين عباد القبور على شركهم، بل سوف يتبرأ منهم ويعاديهم. وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله من ذلك الشيء الكثير في مواضع من كتبه. ويجدر التنبيه على أن أعظم كرامة هي توفيق العبد لمعرفة الحق وإيثاره، ومحبته والاستقامة عليه، والجهاد في ذلك والصبر عليه، ولو لم يحدث للمؤمن خوارق للعادات (كرامات) في الدنيا، فإن عاقبة الاستقامة على الإيمان السعادة في الدنيا ولآخرة. ثانياً : التوكل: التوكل هو اعتماد القلب على الله وتفويض الأمر إليه، واعتقاد أنه المعطي المانع النافع الضار، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، وأن الخلق كلهم فقراء إلى الله والله هو الغني الحميد، مع فعل الأسباب، فإن فعل الأسباب من التوكل كما قال أهل العلم: الاعتماد على الأسباب شرك، وترك الأسباب قدح في الشرع وإنكار الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل والتوكل الصحيح هو المذكور في قوله تعالى : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ( )، وفي قوله تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ( ). وقال  : «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح علم الشيطان»( ). وروى عوف بن مالك  أن النبي  قضى بين رجلين فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال النبي  : «ردوا على الرجل، فقال  : ما قلت؟ قال: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال النبي  «إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس ، فإذا غلبك أمر فقل : حسبي الله ونعم الوكيل»( ) أي : لا تفرط ثم تقول حسبي الله، بل اجتهد في حصول ما ينفعك ودفع ما يضرك، فإن غلبت فقل حسبي الله. وهكذا ما روي عن عمر بن الخطاب  أنه قال : «إنما المتوكل الذي يلقي حبه ويتوكل على الله»( ). قال سماحة الشيخ رحمه الله : [وسئل النبي  أي الكسب أطيب قال: «عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور» أخرجه البراز وصححه الحاكم وإسناده جيد، وفي صحيح البخاري من حديث المقدام بن معد يكرب عن النبي  أنه قال : «ما أكل أحدٌ طعاماً قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده»]. وأفضل التوكل هو توكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنهم يتوكلون على الله في هداية الخلق، فهم يبذلون أسباب الهداية متوكلين على الله بأنه هو الذي يهدي القلوب لقبول الحق وإيثاره والثبات عليه، وهكذا أتباعهم من العلماء والدعاة إلى الله فإنهم يتأسون بهم. ومن أسباب الهداية أن يسأل المرء الله الهداية له ولغيره ، وكذلك تدبر كتاب الله وسنة رسوله  ومجاهدة النفس والشيطان والهوى وحب الدنيا، ومنها اتخاذ الصحبة الطيبة، وحضور مجالس العلم والذكر، وسؤال الله الثبات والتواصي بالحق والتواصي بالصبر ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومجاهدة الناس على ذلك وإلزامهم بالحق حسب العلم والقدرة ، ومنع أسباب الشر والغواية عنهم ، وبذل النفع لهم بالجاه والمال وغيره . فهذه وغيرها من أسباب الهداية التي يستطيع أن يبذلها المؤمن لنفسه ولغيره ، متوكلا على الله ، عالماً بأن الله سبحانه هو الهادي والموفق للقلوب بقبول الحق ، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن ، فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ ، نسأل الله أن يهدينا وإخواننا المسلمون صراطه المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. وهكذا فإن دخول الجنة والنجاة من النار يحتاج إلى أسباب من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له ، وترك الإشراك به ، وطاعته بفعل الأوامر وترك النواهي والوقوف عند حدود الله ، فهذه أسباب وليست هي التي تدخل الجنة وتنجي من النار ، وإنما ذلك بفضل الله ورحمته كما قال النبي  : «واعلموا أنه لن يدخل الجنة أحد بعمله قط» قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل»( ). وكذا قوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ( )، وقوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ( ) ، وغيرها من الآيات ، فإن الباء في قوله تعالى بِمَا أَسْلَفْتُمْ وقوله : بما كانُوا وقوله:بِمَا كُنْتُمْ وما شابهها في القرآن الكريم هي الباء السببية، أي بسبب أعمالكم وليست مقابل الأعمال كما يأخذ الأجير أجره. وكذلك من يريد الزرع عليه أن يبذر الحب ، ولكن الذي ينبته هو الله سبحانه وتعالى ، قال جل وعلا : أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ( ), والذي يريد الولد عليه أن يفعل الأسباب بالزواج ، ولكن كم من متزوج لم يرزق بولد، فالذي يرزق الولد هو الله سبحانه وتعالى ، قال جل وعلا: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ( ). الخلاصة: أن التوكل لا يكون بترك الأسباب كما لا يجوز الاعتماد على الأسباب وترك التوكل، ودين الإسلام وسط. ثالثاً : الدعوة إلى الله: إن بعض الناس في دعوته إلى الخير يأخذ جانباً من الدوافع إلى ذلك ، فبعض الناس يدو إلى الخير آخذا بأحاديث الفضائل فقط مثل قوله  : «من دل على خير فله مثل أجر فاعله»( ). وقوله  : «من دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا»( )، الحديث، فيدعو الناس من هذه الجهة ويعامل ربه من هذه الجهة ، فيكون همة فقط أن يكون له مثل أجر فلان. وقد يؤدي هذا إلى التنافس الذي لا يحمد بين أهل الخير من الدعاة إلى الله ، الذي يؤدي إلى الحسد والبغضاء ، وذلك بسبب أنه سبقه لهداية هذا الشخص أو دلالته على خيرن أو أن تكون وسيلته للدعوة أكثر تأثيراً ونجاحاً بل قد يصل به الأمر إلى التنفير عن دعوته وصد الناس عنها ، والتقليل من شأنها والبحث عما عند منافسه من الأخطاء –بقصد فاسد- وتعظيمها، وقد يصل الأمر إلى الكذب والافتراء على منافسه ، وإلصاق التهم فيه واتهما نيته وسريرته، وتفسير أقواله وحملها على محمل لم يقصد قائلها ، إلى غير ذلك من الآثار السيئة. ولا يعلم هذا أنه لو كان ملايين الناس في صحيفته وله مثل أجورهم فإنه لن يدخل الجنة وينجو من النار إلا برحمة الله سبحانه وتعالى ، فسيد الخلق وإمام الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى نبينا محمد  قال: «واعلموا أنه لن يدخل الجنة أحد بعمله قط» قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل»( )، مع أن نبينا محمدا  له مثل أجور أمته كلهم ، ومع ذلك لن يدخل الجنة إلا برحمة الله سبحانه وتعالى وفضله . [قال سماحة الشيخ رحمه الله : فالأعمال الصالحة أسباب لدخول الجنة كما قال تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. لكن لا يحصل إلا بنعمة الله وفضله]. والمؤمن يدعو الناس إلى الخير لأسباب منها: 1-أن هذا من الصدق في محبة الله جل وعلا، فيحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه الله ، فهو يحب أن يتوب العباد، لأن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، وكذلك يحب المجاهدين في سبيل الله ، لأن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله ، ويحب المحسنين لأن الله يحبهم ، وهكذا ، وكذلك لا يحب الكافرين ولا الظالمين ولا المنافقين، لأن الله لا يحبهم ولا يرضى بالكفر ، قال تعالى : إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ( )، وتوعد الله أهل النفاق بالدرك الأسفل من النار إلى غير ذلك. والمقصود أن المؤمن الصادق الذي يحب ربه محبة صادقة ، ويعرف ربه حق المعرفة ، ويقدر ربه حق قدره . يهمه بل يفرحه ويسره أن يهتدي الناس ويتوبوا إلى الله ، سواء كان ذلك على يده أم على يده غيره ، وسواء على يد شيخه أو جماعته أو على يد شيخ آخر أو جماعة أخرى ، المهم عنده أن تكون كلمة الله هي العليا ، وأن يكون الدين كله لله ، وأن يعبد الله وحده ، وأن يطاع ويعظم. فهذا من أقوى أسباب تآلف أهل الخير وتعاونهم وتناصحهم ، وسد بعضهم لثغرات البعض ، وذهاب الحسد والشحناء والبغضاء وغيرها من الأمراض من بينهم ، ويدعوهم ذلك إلى النظر إلى ما هم متفقون عليه قبل النظر إلى ما هم مختلفون فيه. 2-أن يدعو الناس يبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، لا يريد بذلك عرضا من أعراض الدنيا، ولا يطلب علوا في الأرض فإن بعض الناس قد يريد العلو على الأقران أو التميز عليهم أو الرياسة عليهم أو صرف وجوه الناس إليه مع أنه لا يريد الفساد ، وهذا يدخل في الشرك الأصغر. وقد تلكم شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه التوسل والوسيلة عن فضل الدعوة إلى الله كلاما خلاصته: أنه لم يؤثر عن أحد من السلف أنه كان يعمل العمل ويهدي ثوابه للنبي  فلا يحد مثلاً أو يعتمر أو يتصدق ويهدي ثواب هذه الأعمال للنبي  لأن أعمال الأمة كلها من أبي بكر وخديجة إلى آخر واحد في الأمة يكتب للنبي  مثل أجورهم من غير أن ينقص ذك من أجورهم شيئاً ،لأنه  هو الذي دلهم على هذا الخير فله مثل أجورهم ، وبالمقابل فإن ولد الإنسان الذي من صلبه لا يكتب لوالده مثل أجره بمجرد النسب ، واستدل شيخ الإسلام رحمه الله على ذلك بقوله  «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له»( )، قال شيخ الإسلام رحمه الله: فلو كان عمل الولد يكتب لوالده مثله بمجرد النسب لم يحتج إلى أن يدعو له . انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بمعناه. فهذا يدل على فضل الدعوة إلى الله، وأن للداعية إلى الله أجوراً عظيمة إذا صدق وأخلص لله، وأعظم الناس أجراً نبينا محمد  لأن له مثل أجور أمته وهو أكثر الناس تبعاً . 3-أن يدفعه إلى ذلك حرصه ومحبته أن ينجي الله الناس من النار وأن يكون سببا في ذلك، فإن السقوط في نار الدنيا وهي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم لا يحتمله أحد ولا يريده ، فكيف بنار جهنم التي قعرها [سبعون] سنة ، ويروى أنها أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، وألف سنة حتى احمرت ، وألف سنة حتى اسودت ، فهي سوداء مظلمة يؤتى بها يوم القيامة تقاد بسبعين ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها يقول لها الرب يوم القيامة : هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد، فلا تمتلئ حتى يضع الرب جل وعلا قدمه فتقول: قط قط، يعني: امتلأت. نسأل الله أن ينجينا منها وجميع إخواننا المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمته وفضله. فالمؤمن يقتدي بنبيه محمد  الذي كان حريصا على أن ينقذ الله به الناس من النار كما ثبت في الصحيح عن أنس بن مالك  قال : كان غلام يخدم النبي  فمرض فأتاه النبي  يعود فقعد عند رأسه فقال له : «أسلم» فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له : أطع أبا القاسم ، فأسلم فخرج النبي  وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه من النار» ( ) فمع أن أبويه يهوديان وكان قبل ذلك يهودياً ، واليهود من أشد الناس عداوة للذين آمنوا ، وهم قتلة الأنبياء وقد حاولوا قتله مراراً ، فعصمه الله سبحانه وتعالى منهم ، مع ذلك كله يقوم  فرحا يحمد الله أن أنقذ به هذه النفس من النار، فهكذا يكون حرص المؤمن على هداية الناس جميعاً، ولا ينحصر ذلك في بلد أو قطر بل في الدنيا بأسرها حسب الطاقة والإمكان. رابعاً: الزهد والورع: فالزهد عند أهل السنة والجماعة هو ترك مالا ينفع في الآخرة ، أو يخشى ضرره في الدين من فضول المباحات من طعام وشراب وخلطة بالناس وغيرها. وأما الورع فهو ترك المشتبه من المكاسب والمطاعم والمشارب وغيرها. فلا يأتي منها إلا ما تبين له أنه حلال كما في حديث النعمان بين بشير رضي الله عنهما أن النبي  قال: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه» ( ) الحديث. فالأشياء ثلاثة : حلال بين فيؤخذ ، وحرام بين فيترك ، ومشتبه فيتوقف فيه ، فإن بان حله أخذ ، وإن بانت حرمته ترك ، وإن بقي مشتبها استمر على التوقف فيه. وليس الورع دائما الترك بل قد يكون الفعل هو الورع، كمن يتورع عن الفتيا مع أن عنده علما ومع عدم وجود غيره من أهل العلم الذين يمكن الرجوع إليهم، فالورع أن يفتيهم ويعلمهم ويجتهد ، فإذا أخطأ فخطؤه معفو عنه وهكذا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (والزهد النافع المشروع الذي يحبه الله ورسوله الزهد فيما لا ينفع في الآخرة، فأما ما ينفع في الآخرة وما يستعان به على ذلك فالزهد فيه زهد في نوع من عبادة الله وطاعته ، والزهد إنما يراد لأنه زهد فيما يضر أو زهد فيما لا ينفع، فأما الزهد في النافع فجهل وضلال كما قال النبي : «أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن»( )، والنافع للعبد هو عبادة الله وطاعته وطاعة رسوله  ، وكل ما صده عن ذلك فإنه ضار لا نافع، ثم الأنفع له أن تكون أعماله عبادة لله وطاعة له، وإن أدي الفرائض وفعل مباحاً لا يعينه على الطاعة فقد فعل ما ينفعه وما لا ينفعه ولا يضره. وكذلك الورع المشروع هو الورع عما قد تخاف عاقبته ، وهو ما يشك في تحريمه ، وليس في تركه مفسدة أعظم من فعله (مثل محرم معين) مثل من يترك أخذ الشبهة ورعاً مع حاجته إليها، ويأخذ بدل ذلك محرماً بينا تحريمه ، أو يترك واجباً تركه أعظم فسادا من فعله مع الشبهة ، وكمن يكون على أبيه أو عليه ديون هو مطالب بها وليس له وفاء إلا من مال فيه شبهة ، فيتورع عنها ويدع ذمته أو ذمة أبيه مرتهنة. وكذلك من الورع الاحتياط بفعل ما يشك في وجوبه ولكن على هذا الوجه ، وتمام الورع أن يعم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين( ). ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ، وإلا فمن لم يوازن بين ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع بعض الواجبات أو يفعل بعض المحرمات ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع ، ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفيفة ، ويرى ترك قبول سماع الحق الذي يجب سماعه من الورع) انتهى( ). فائدة عن أفضل العبادات قال العلامة ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: (وأهل مقام إِيَّاكَ نَعْبُدُ لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصيص أربع طرق ، فهم في ذلك أربعة أصناف: الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات وأفضلها أشقها على النفوس وأصعبها ، قالوا : لأنه أبعد الأشياء عن هواها فهو حقيقة التعبد. قالوا: والأجر على قدر المشقة ، ورووا حديثا لا أصل له : (أفضل الأعمال أحمرها)( )، أي: أصعبها وأشقها، وهؤلاء أهل المجاهدات والجور على النفوس. قالوا: وإنما تستقيم النفوس بذلك إذا طبعها الكسل والمهانة والإخلاد إلى الأرض . فلا تستقيم إلا بركوب الأهوال وتحمل المشاق. الصنف الثاني: قالوا : أفضل العبادات التجرد ، والزهد في الدنيا والتقلل منها غاية الإمكان ، واطراح الاهتمام بها وعدم الاكترات بكل ما هو منها. ثم هؤلاء قسمان: فعوامهم ظنوا أن هذا غاية فشمروا إليه وعملوا عليه ودعوا الناس إليه ، وقالوا: هو أفضل من درجة العلم والعبادة ، فرأوا الزهد في الدنيا غاية كل عبادة ورأسها. وخواصهم رأوا هذا مقصوداً لغيره ، وأن المقصود به عكوف القلب على الله وجمع الهمة عليه وتفريغ القلب لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه والاشتغال بمرضاته، فرأوا أن أفضل العبادات الجمعية( ) على الله ودوام ذكره بالقلب واللسان والاشتغال بمراقبته ن دون كل ما فيه تفريق للقلب وتشتيت له. ثم هؤلاء قسمان: فالعارفون المتبعون منهم إذا جاء الأمر والنهي بادروا إليه ولو فرقهم وأذهب جمعيتهم. والمنحرفون يقولون: المقصود من العباد جمعية القلب على الله ، فإذا جاء ما يفرقه عن الله لم يلتفت إليه، وربما يقول قائلهم. يطالب بالأوراد من كان غافلا فكيف بقلب كل أوقاته ورد؟! ثم هؤلاء أيضاً قسمان: منهم من يترك الواجبات والفرائض لجمعيته. ومنهم من يقوم بها ويترك السنة والنوافل وتعلم العلم النافع لجمعيته. وسأل بعض هؤلاء شيخاً عارفاً فقال: إذا أذن المؤذن وأنا في جمعيتي على الله فإن قمت وخرجت تفرقت، وإن بقيت على حالي بقيت على جمعيتي ، فما الأفضل في حقي؟ فقال: إذا أذن المؤذن وأنت تحت العرش فقم وأجب داعي الله ثم عد إلى موضعك، وهذا لأن الجمعية على الله حظ الروح والقلب، وإجابة الداعي حق الرب ، ومن آثر روحه على حق ربه فليس من أهل إياك نعبد. الصنف الثالث: رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها ما كان فيه نفع متعد، فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر، فرأوا خدمة الفقراء والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع أفضل ، فقصدوا له وعملوا عليه واحتجوا بقول النبي  : «الخلق كلهم عيال الله ، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله»رواه أبو يعلي( ) واحتجوا بأن عمل العابد قاصر على نفسه وعمل النفع متعد إلى الغير ، وأين أحدهما من الآخر؟ قالوا: ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. قالوا: وقد قال رسول الله  لعلي بن أبي طالب  : «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم»( ). وهذا التفضيل إنما هو للنفع المتعدي ، واحتجوا بقوله  : «من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شي»( ). واحتجوا بقوله  : «إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير»( )، وبقوله  : «إن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر والنملة في حجرها»( ). واحتجوا بأن صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله ، وصاحب النفع لا ينقطع عمله مادام نفعه الذي نسب إليه. واحتجوا بأن الأنبياء إنما بعثوا بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم ونفعهم في معاشهم ومعادهم ، ولم يبعثوا بالخلوات والانقطاع عن الناس والترهب ، ولهذا أنكر النبي  على أولئك النفر الذين هموا بالانقطاع للتعبد وترك مخالطة الناس ، ورأي هؤلاء التفرق في أمر الله ونفع عاده والإحسان إليهم أفضل من الجمعية عليه بدون ذلك. والصنف الرابع: قالوا: إن أفضل العبادات العمل على مرضاة الرب في كل وقت وحين بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن. والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا: القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب ، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل. والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار. والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل: الإقبال على تعليمه والاشتغال به. والأفضل في أوقات الأذان : ترك ما هو فيه من ورد والاشتغال في إجابة المؤذن. والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والنصح في إيقاعها على أكمل وجه ، والمبادرة إليها في أول الوقت ، والخروج إلى الجامع وإن بعد كان أفضل. والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال : الاشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك. والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه حتى كأن الله يخاطبك به فتجمع قلبك على فهمه وتدبره ، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك. والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك. والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد لا سيما التكبير والتهليل والتحميد، فهو أفضل من الجهاد غير المتعين. والأفضل في العشر الأخيرة من رمضان: لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم ، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم ، وإقرائهم القرآن ، عند كثير من العلماء. والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته وحضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك. والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم ، فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه، والأفضل خلطتهم في الخير فهي خير من اعتزالهم فيه ، واعتزالهم في الشر فهو أفضل من خلطتهم فيه ، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم. فالأفضل في كل وقت وحال:إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه: وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق ، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد ، فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته فهو يعبد الله على وجه واحد ، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد يؤثره على غيره ، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت ، فمدار تعبده عليها ، فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية كلما رفعت له منزلة عمل على سيرة إليها ، وأشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى ، فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم رأيته معهم ، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم ، وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم ، فهذا هو التعبد المطلق ، الذي لم تملكه الرسوم، ولم تقيده القيود ، ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذاتها وراحتها من العبادات ، بل هو على مراد لربه ، ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه ، فهذا هو المتحقق بـ إياك نعبد وإياك نستعينحقاً ، القائم بهما صدقاً ، ملبسه ما تهيأ ، ومأكله ما تيسر ، واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته ، ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليا ، لا تملكه إشارة ولا يتعبده قيد ، ولا يستولي عليه رسم حر مجرد دائر مع الأمر حيث دار ، يدين بدين الآمر أني توجهت ركائبه ، ويدور معه حيث استقلت مضاربه ، يأنس به كل محق ، ويستوحش منه كل مبطل ، كالغيث وقع نفع، وكالنخلة لا يسقط ورقها وكلها منفعة حتى شوكها ، وهو موضع الغلظة منه على المخلفين لأمر الله ، والغضب إذا انتهكت محارم الله ، فهو لله وبالله ومع الله ، قد صحب الله بلا خلق( )، وصحب الناس بلا نفس( )، بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين ، وتخلي عنهم ، وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلي عنها ، فواها له ! ما أغربه بين الناس وما أشد وحشته منهم ! وما أعظم أنسه بالله وفرحه به وطمأنينته وسكونه! والله المستعان وعليه التكلان) انتهى كلامه رحمه الله ( ) (•).   الفهرس المقدمة 5 التنبيه الأول: لماذا خلق الله الخلق؟ 7 التنبيه الثاني: أساس الدين وقاعدة الملة عند الرسل وأتباعهم بإحسان 7 التنبيه الثالث: الشرك وخطره وأنه أعظم منكر 9 التنبيه الرابع: التوحيد وأنه أعظم معروف 11 التنبيه الخامس: انقسام الناس يوم القيامة ثلاثة أقسام 12 التنبيه السادس: أنواع من الجهل بالتوحيد والشرك 19 بعض أحكام المرتد 28 بعض الإشكالات والجواب عنها 30 تنبيه مهم 37 تنبيهات أخرى متنوعة 40 فائدة عن أفضل العبادات 53 الفهرس 61