المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة الحق والرضا. وأشهد أن نبينا محمد  نبي العدل والهدى. أما بعد: فإن الله جل وعلا خلق العباد، وأوجد الخلق لعبادته وحده سبحانه، وهو غني عن عبادتهم، ولكن ما ذاك إلا ليختبرهم ويمتحنهم، وليجزيهم بأعمالهم فمن أطاع وشكر وعبد الله وحده دون سواه فله النعيم، ومن عصى وتكبر وكفر بالله عز وجل وأشرك معه غيره فله الجحيم. فقد أخبر الله عز وجل أنه خلق الثقلين لعبادته، فقال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]. كذلك أخبر سبحانه أنه ما من شيء إلا يعبد الله، ولكن لا يعلم ذلك إلا الله، فقال المولى جل وعلا: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44]. والله عز وجل لم يخلق الخلق عبثًا وهملاً، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وإنما خلقهم لعبادته وحده سبحانه لا شريك له، ثم بعد ذلك يعودون إليه ليجازيهم بأعمالهم. قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115]. وقال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8]. فكل مجزي بعمله يوم القيامة، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره. فمن أطاع عز وجل فقد فاز بالجنة والحسنى، ومن عصى الله تعالى فقد باء بالنار والعسرى. وقد أمر الله تعالى بإخلاص العبادة له، وحده لا شريك له، قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 5]. وقال : «إنما الأعمال بالنيات...» [متفق عليه]، وقال : «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» [مسلم]. فلا بد لقبول العمل من شرطين: 1- أن يكون خالصًا لله عز وجل. 2- أن يكون صوابًا موافقًا لما جاءت به الشريعة. فإذا توافر في العمل الشرطان السابقان فهو بإذن الله تعالى مقبول ومأجور صاحبه عليه. ويجدر بنا قبل الخوض في حقوق الله تعالى على عباده أن نتعرف على عظمة الخالق سبحانه، لما في ذلك من زيادة الإيمان بإذن الله المنان. 1- الله خالق كل شيء: فكل ما سوى الله عز وجل مخلوق له، مربوب مدبَّر، مخيَّر مسيَّر، مكون بعد أن كان لا شيء، جميع الخلق ملكه وعبيده، وتحت قهره وقدرته، وتحت تصريف مشيئته، قال تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر: 62]. وفي صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله  يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء». وعند الإمام أحمد، عن عبادة بن الصامت : قال: قال رسول الله : «إن أول ما خلق الله القلم، ثم قال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة». قال تعالى: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون: 116]. وقال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]. فالله هو الخالق الواحد الوهاب، خالق خلقه من تراب، وقاهر الصلاب، ومسبب الأسباب، ورب الأرباب، فلا إله إلا الله العزيز الغفار، ولا حول ولا قوة إلا بالله الكبير المتعال، وحسبنا الله ونعم الوكيل. 2- الكرسي: ذكر ابن كثير في البداية والنهاية، قال السدي: السموات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش، وعن ابن عباس أنه قال: لو أن السموات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة، قال تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [البقرة: 255]. وقال : «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض». 3- اللوح المحفوظ: وسأذكر ما يخص اللوح المحفوظ بنص ما ذكره ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية والنهاية، فقال رحمه الله: عن ابن عباس: أن النبي  قال: «إن الله خلق لوحًا محفوظًا من درة بيضاء صفحاتها من ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، لله فيه في كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويذل ويفعل ما يشاء»، وقال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش. 4- خلق السموات والأرض: قال تعالى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [السجدة: 4]. وقال تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 29]. وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12]. وفي البخاري: قال : «كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض». وعن أبي هريرة  قال: أخذ رسول الله بيدي فقال: «خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر خلق خلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» [أحمد، ومسلم]. فامتن الله على عباده بما خلق لهم من البحار والأنهار، فالبحر المحيط بسائر أرجاء الأرض، وما ينبت منه في جوانبها الجميع مالح الطعم مر، وفي هذا حكمة عظيمة لصحة الهواء، إذ لو كان حلوًا لأنتن الجو وفسد الهواء بسبب ما يموت فيه من الحيوانات، فكان يؤدي إلى تفاني بني آدم، ولكن اقتضت الحكمة البالغة أن يكون على هذه الصفة لهذه المصلحة. ولهذا لما سئل النبي  عن البحر، قال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته». وأما الأنهار فماؤها حلو عذب فرات سائغ شرابه لمن أراد ذلك، وجعلها الله جارية سارحة ينبعها في أرض ويسوقها إلى أخرى رزقًا للعباد. 5- خلق الملائكة وصفاتهم: الملائكة خلق من خلق الله تعالى، خلقهم لغايات سامية، وأمور عديدة لا يعلمها إلا عالم الخفيات؛ فمنهم الموكل بإنزال الوحي على الأنبياء والرسل وهو جبريل ، وقد رآه النبي  على صورته الحقيقية التي خلقه الله عز وجل عليها وله ستمائة جناح، ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب. ومنهم إسرافيل وهو الملك الموكل بالنفخ في الصور، ومنهم ميكائيل وهو الموكل بإنزال المطر، ومنهم ملك الموت وهو الموكل بقبض الأرواح، وبحيال البيت الحرام يوجد البيت المعمور في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك من الملائكة يصلون فيه لا يعودون إلى يوم القيامة، ولا يعلم عدد الملائكة إلا الله عز وجل قال : «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملك ساجد، لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا ولما تلذذتم بالنساء على الفرشات، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل» فقال أبو ذر: والله لوددت أني شجرة تعضد. وفي حديث آخر: «ما في السموات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا فيه ملك قائم أو ملك ساجد أو ملك راكع، فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعًا: ما عبدناك حق عبادتك إلا أنا لا نشرك بك شيئًا». ومن الملائكة من هو موكل بتصريف الرياح والسحاب بإذن ربهم، ومنهم أعوان ملك الموت، ومنهم رضوان خازن الجنة، ومنهم مالك خازن النار، ومنهم الزبانية، ومنهم فتانا القبر وهما اللذان يسألان الميت في قبره، ومنهم الموكلون بالجنان وتزيينها وتهيئتها لساكنيها، ومنهم الموكلان بحفظ بني آدم، ومنهم سكان السموات، ومنهم حملة العرش، ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد، ومنهم رقيب وعتيد وهما كاتبا الحسنات والسيئات. ومنهم الملائكة الذين يتعاقبون على العباد بالليل والنهار ويجتمعون في صلاتي الفجر والعصر، ومنهم الملائكة الذين يكتبون الأول فالأول يوم الجمعة حتى يدخل الخطيب، ومنهم الذين يحفون مجالس الذكر وحلقه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 20]. وقال تعالى في وصف الملائكة: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 20]. قال : «خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» [مسلم وغيره]. والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة معلومة، فلله الحكمة البالغة. 6- خلق الجان وكيد الشيطان: خلق الله الجن من نار كما سبق وأشرنا في الحديث السابق، فلما خلق الله آدم  أمر الملائكة أن تسجد له فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى وعصى ربه وامتنع عن السجود لآدم، وقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، فاستحق لذلك اللعنة من رب العالمين، فأهبط إلى الأرض ذليلاً حقيرًا مذءُومًا مدحورًا، متوعدًا هو ومن اتبعه من الجن والإنس، ومع ذلك فهو يسعى جاهدًا لغواية بني آدم عن جادة الصواب. وأخذ العهد على نفسه ليقعدن لهم كل مرصد، وليضلنهم عن الطريق المستقيم، ولكن الله تكفل بحفظ وعصمة من آمن به وصدق رسله واتبع شرعه ألا يسلط عليهم إبليس وأعوانه، قال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء: 65]. فإبليس حي إلى يوم القيامة، مُنظَر إلى ذلك اليوم الموعود الذي وعده ربه اختبارًا للعباد ومحنة لهم، وله عرش على وجه الماء جالس عليه، ويبث سراياه يلقون بين الناس الشر والفتن، ويفرقون بين المرء وزوجه، قال : «إن الشيطان يضع عرشه على الماء، ثم يبعث أحدهم فيقول: ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا، فيقول إبليس: لا والله ما صنعت شيئًا، ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله، قال: فيقربه ويدنيه ويقول: نعم أنت» [مسلم]. وفي الصحيحين قال : «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»، فالشيطان يوسوس لابن آدم حتى يوقعه في الخطيئة، فإذا ذكر العبد ربه خنس، وإذا لم يذكر ربه ونسي التقم الشيطان قلبه، فيوسوس له حتى ينسيه ذكر ربه، قال : «يأتي الشيطان أحدكم، فيقول من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول من خلق ربك، فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينتهِ» [البخاري ومسلم]. ولهذا كان النبي  يقول: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه» [أحمد وغيره]، فكما ذكرنا أن الشيطان يوسوس لابن آدم حتى ينسيه ذكر ربه سبحانه، فمنهم ما يوسوس للمصلي في صلاته وهذا الشيطان اسمه «خِنْزَب»، ومنهم من يوسوس للمسلم في وضوئه ويسمى هذا الشيطان «الولهان»، ومنهم أعوان السحرة والمشعوذين. فإذا أراد المسلم التخلص من كيد الشيطان ووسوسته فعليه بطاعة الله عز وجل والتحصن من الشيطان بالأذكار والأدعية المشروعة المذكورة في كتاب الله تعالى وفي كتب السنة، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201]. وقال تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 200]. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجنبنا الشيطان ووسوسته، ونعوذ بالله الحليم أن يتخطبنا عند الموت، فاللهم إن إبليس عبد من عبادك، ناصيته بيدك، يرانا من حيث لا نراه وأنت سبحانك تراه من حيث لا يراك، اللهم إنا ندرأ بك في نحره ونعوذ بك من شره، اللهم إنا نعوذ بك أن يأمرنا بفعل ما نهيتنا عنه، أو أن ينهانا بترك ما أمرتنا به، إنك على كل شيء قدير. 7- خلق آدم: خلق آدم يوم الجمعة، خلقه الله تعالى بيديه ونفخ فيه من روحه وأمر ملائكته بالسجود له فسجدوا إلا إبليس لم يسجد تكبرًا وتعنتًا فاستحق اللعنة من ربه، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة  قال رسول الله : «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها» ومن وجه آخر: «وفيه تقوم الساعة». وعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : «لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصًا من نور، ثم عرضهم على آدم فقال: أي رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب من هذا؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود، قال رب وكم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة، قال: أي رب زده من عمري أربعين سنة، فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت قال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أو لم تعطها ابنك داود، قال: فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته» [الترمذي، وقال: حسن صحيح]. فهل بعد هذا كله يعبد غير الله سبحانه؟! وهل بعد هذا يطاع غير الله عز وجل؟! وهل بعد ذلك يشكر غير المنعم جلت قدرته؟! ثم هل بعد هذا وذاك يعصى الإله الواحد القهار الذي خضعت له الرقاب، ولانت لجبروته الصعاب، وخالق خلقه من تراب؟! فلا إله إلا رب الأرباب ومسبب الأسباب. فاللهم لك الحمد ما أحلمك على من عصاك، وما أرأفك بمن تاب إليك، فلك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، سبحانك ربنا ما عبدناك حق عبادتك، وما شكرناك حق شكرك، غير أنا لا نشرك بك شيئًا، فأنت أهل الثناء والمجد، سبحانك وبحمدك عدد خلقك، ورضا نفسك، وزنة عرشك، ومداد كلماتك. * * * ولله عز وجل على عباده حقوقًا كثيرة نذكر منها: من حق الله تعالى على عباده الإيمان به سبحانه: قال تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة: 177]. وقال تعالى: آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة: 285]. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء: 136]. وفي حديث جبريل ، لما سأل النبي ، عن الإيمان قال النبي : «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» [مسلم]. فيدخل في الإيمان بالله، الإيمان بما أخبر الله به عن نفسه من أسمائه وصفاته، أو أخبر به الرسول  من أسماء الله وصفاته، ويدخل في ذلك أنه رب العالمين، وأنه الخلاق الرزاق، وأنه كامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ويدخل فيه أنه سبحانه أرسل الرسل وأنزل الكتب وقدر الأشياء وعلم بها قبل وجودها سبحانه وتعالى، وأنه لا ند له، ولا مثيل له ولا شبيه، وأنه على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء عليم. قال تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص]. وقال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]. وقال عز وجل: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 74]. وقال تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65]. وغير ذلك من الآيات الدالة على كماله سبحانه، وأنه موصوف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص والعيب، فهو كما أخبر عن نفسه وأخبر عنه نبيه محمدًا  له الأسماء الحسنى وله الصفات العلا. فالواجب على المؤمن أن يؤمن بأسماء الله تعالى كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تكييف، ومن ذلك: الاستواء، والوجه، واليد، والرحمة، والغضب، والنزول، والعلم، والإرادة، وغير ذلك من صفات الله عز وجل فتثبت له كما جاءت في الكتاب والسنة، فنثبتها كما أثبتها أهل السنة والجماعة، كما قال السلف رحمهم الله تعالى في الاستواء: «الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة». وهكذا في كل صفات الخالق جل وعلا، فهو سبحانه لا يشابهه أحد من خلقه في شيء من صفاته. وكذلك الإقرار له سبحانه بأنه الخلاق الرزاق مدبر الأمور ومصرفها، يعطي ويمنع، يخفض ويرفع، ويعز ويذل، ويحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، والإيمان بأن الله هو الواحد الأحد، الفرد الصمد، لا شريك له في ملكه، لا في السماء ولا في الأرض، بل هو المستحق للعبادة سبحانه، قال تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر: 2، 3] فإنه لا معبود بحق إلا الله تعالى. فالله جلا وعلا هو الحق، وقوله الحق، وله دعوة الحق، وعبادته هي الحق، وما سواه باطل، فلا يستغاث إلا بالله، ولا ينذر إلا بالله، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يطلب الشفاء إلا منه، ولا يطاف إلا ببيته العتيق، ولا يذبح إلا له، ولا يدعى إلا هو سبحانه، ولا يحلف إلا به، إلى غير ذلك من أنواع العبادة. قال تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة: 163]. وقال تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5]. وقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج: 62]. وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] وقال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة: 72]. وخلاصة ذلك أن الإيمان بالله جلا وعلا يتضمن أربعة أمور: 1- الإيمان بوجود الله عز وجل: وهذا الأمر قد دلت عليه الفطرة فما من مخلوق إلا وقد فطر على الإيمان بالله ووجوده سبحانه، ودل العقل على وجود الله سبحانه وتعالى. 2- الإيمان بربوبية الله عز وجل: أي بأنه وحده هو الرب لا شريك له، وهو الخالق للعالم، المدبر المحيي المميت، وهو الرزاق ذو القوة المتين، ولا يوجد أحد ينكر ربوبية الله عز وجل إلا مكابرًا ومعاند، قال تعالى في فرعون: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14]. 3- الإيمان بألوهيته سبحانه وتعالى: وهو إفراد الله بالعبادة، وأنه لا يستحق العبودية غيره سبحانه وتعالى. 4- الإيمان بأسمائه وصفاته: وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو سنة نبيه ، من الأسماء والصفات على الوجه اللائق به سبحانه، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. ومن حق الله تعالى على عباده النصح له سبحانه: فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه، من حديث تميم الداري  أن النبي ، قال: «الدين النصيحة» (ثلاثًا)، قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: «لله عز وجل، ولكتابه، ولرسوله  ولأئمة المسلمين وعامتهم». فالنصيحة لله تعالى تقتضي القيام بأداء الواجبات على أكمل الوجه وهذا هو مقام الإحسان، أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تراه فإنه سبحانه يراك، وكذلك الاجتهاد في التقرب إلى الله تعالى بنوافل الطاعات، وترك المحرمات والمكروهات. فالنصيحة لله عز وجل هي شدة العناية باتباع محبة الله تعالى في أداء ما افترض، ومجانبة ما حرم. وأن يؤثر الله تعالى على كل محبوب بالقلب وسائر الجوارح، وأن تكون العبادة خالصة له سبحانه لا شريك له؛ ولهذا قال تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 91]. فسماهم الله محسنين لنصيحتهم لله بقلوبهم لما منعوا من الجهاد بأنفسهم. ومن حق الله تعالى على عباده التعجيل بالتوبة: فلا يدري الإنسان ما يعرض له خلال عمره من حوادث الزمن ونوائب الدهر، فاليوم صحيح وغدًا سقيم، واليوم غني، وغدًا فقير، واليوم فراغ وغدًا في شغل، هكذا. فينبغي على العاقل أن يستغل وقته لما فيه خير له في دينه ودنياه، وليعجل بالتوبة النصوح، ولا يسوف ولا يؤجل ويقول: غدًا، غدًا. قال : «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» [البخاري]. وقال : «أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة» [مسلم]. ولا يدري الإنسان ما يعرض له غدًا، قال تعالى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان: 34]. فمن حق الله على عباده إخلاص العبادة له وحده: فهو الخالق الرازق المنعم المتفضل على عباده بكل ما لديهم من نعم وخيرات، قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53]. وكل ما هيئ للإنسان من علم ومعرفة فهو من الله وحده لذلك استحق أن يعبد دون سواه، قال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78]. ولقد تفضل الله على عباده بنعم عديدة لا تعد ولا تحصى ليتقوى بها الإنسان على عبادة ربه وخالقه، ولتعينه على طاعة ربه سبحانه، قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [إبراهيم: 34]. وحال كثير من الناس اليوم غفلة عن حق الله عليه فلا حمد ولا شكر لله، فحالهم ذنوب ومعاص، وتقصير وتفريط في طاعة الله عز وجل؛ فبدلوا شكر المنعم كفرًا، كفروا نعمة الله تعالى فحل بهم الخزى والبوار، فخير الله إليهم نازل، وشرهم إليه صاعد. ولقد قصر وفرط كثير من المسلمين في هذا الزمان بركن من أهم أركان الإسلام، ألا وهو الصلاة فتفريط بها وعدم اهتمام، بل إن البعض أسقطها من قاموس حياته، فلا مكان لها أصلاً في جدول يومه وليلته، فأي تفريط بعد هذا التفريط، وأي تضييع بعد هذا التضييع. فقد أوجب الله عز وجل على عباده خمس صلوات في اليوم والليلة، وأوجب عليهم المحافظة عليها، فقال جل من قائل سبحانه: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة: 238] وقال تعالى: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء: 103]. فالصلاة هي الحد الفاصل بين الإسلام والكفر والشرك، فتاركها جاحدًا لوجوبها كافر بالإجماع، وتاركها تهاونًا وكسلاً كافر على القول الصحيح من أقوال أهل العلم، قال : «العهد الذين بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» [الترمذي، وقال: حسن صحيح]. فمن حق الله على عباده أن يحافظوا على الصلوات المفروضة في أوقاتها: حيث ينادى بها في بيوت الله عز وجل قال : «من سمع النداء فارغًا صحيحًا فلم يجب فلا صلاة له» [صحيح الترغيب والترهيب]. ومن حق الله على عباده الزكاة: ومما قصر فيه كثير من الناس في هذا الزمان الزكاة وما أدرك ما الزكاة، هي تلك الأموال التي تؤخذ من أغنياء المسلمين وترد على فقرائهم، فأصبح البعض يتساهل بهذا الركن من أركان الإسلام ولا يلقون له بالاً، فها هي الأموال من ورق نقدية وذهب وفضة تتكدس لدى البعض ولا ينفقها في سبيل الله، لا يؤدي حق الله فيها، فالله هو الذي رزقه إياها، فهو الواهب المنعم، ثم لا تجد أكثرهم شاكرين. قال تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة: 34، 35]. وقال : «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمى عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار...» [متفق عليه]. والزكاة ركن من أركان الإسلام الذي لا يتم إسلام المرء إلا بالاعتراف بها وأنها ركيزة من ركائز هذا الدين الحنيف، وهي حق من حقوق الله على عباده. ومن حق الله على عباده، صوم رمضان: فهو الركن الرابع من أركان الإسلام، وهو أيضًا ركيزة من ركائزه، فكل العبادات للإنسان إلا الصوم فإنه لله عز وجل اختص الله به من بين سائر العبادات، ليجزي الصائم من فضله سبحانه عن أبي هريرة  قال: قال : «يقول الله تعالى كل عمل بن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به...» [متفق عليه]. وقد اختص الله به لأن فيه من الإخلاص لله عز وجل والتعبد له بحيث لا يطلع على الصائم في صيامه إلا من لا تخفى عليه خافية، فالصيام من العبادات السرية التي لا يطلع عليها الناس، بل هو سر بين العبد وربه. ويا له من أسف حينما نرى بعضًا من المسلمين وهم يجاهرون الله بالإفطار في نهار رمضان، وما قاموا بحق الله عليهم، وما طمعوا في جنة ربهم سبحانه وما رغبوا في عظيم عفو ربهم جلت قدرته، يتنعمون بنعم الله عليهم ليل نهار، وما استحوا منه سبحانه وما قاموا بشكر تلك النعم، بل قابلوا الإحسان بالكفران، قابلوا الحسنة بالسيئة، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ [إبراهيم: 28، 29]. فحال الإنسان لمن صنع إليه معروفًا أن يكافئه على حسن صنيعه، ويتحبب إليه ويتودد له، فكيف برب الأرض والسماء، الغني عنا ونحن الفقراء إليه، ألا ينبغي على المسلم أن يقابل نعم الله عليه بالشكر، والحياء منه سبحانه؟ بلى والله! ولكنها الغفلة المهلكة والعياذ بالله. ومن حق الله على عباده فريضة الحج: الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، ودعامة من دعائمه، فينبغي على المسلم أن يبادر بأداء الحج على الفور ولا يتراخى في ذلك، ولا يتساهل ولا يتكاسل حتى يعرض له عارض من عوارض الدنيا، فيقعده عن أداء هذه الفريضة، قال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 97]. ومن ملك الزاد والراحلة ثم لم يحج فليمت كيفما شاء يهوديًا أو نصرانيًا، والحج المبرور الذي لا يرتكب صاحبه فيه معصية، فلم يرفث ولم يفسق ولم يصخب أو يجادل، فجزاء هذا الحج المبرور الجنة، وإننا والله لنرى أناسًا أعطاهم الله من النعم والخيرات ما لا يعلمه إلا هو سبحانه، ومع ذلك لم يقوموا بأداء هذه الشعيرة من شعائر هذا الدين العظيم، بل إن البعض لم يبال بها أصلاً والبعض الآخر يسوف، ويسول له الشيطان وهو لا يدري ما قد يعرض له من مصائب الدنيا ونوائبها. فحق الله عز وجل على أولئك أن يسارعوا إلى الخيرات ويسابقوا إليها، ويشمروا عن سواعدهم ليقوموا بحقوق الله عليهم، ليفوزوا برضوانه سبحانه. ومن حق الله على عباده الصبر: الصبر منزلة عظمى لا يدركها إلا قلة من العباد الذين عرفوا قدر وعظمة هذه المنزلة عند الله تعالى، فالواجب على العباد أن يصبروا محتسبين، يصبروا على أقدار الله التي قدرها عليهم، فلا يجزع الإنسان ولا يعترض على قضاء الله وقدره؛ بل الواجب عليه الصبر والاحتساب، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا [آل عمران: 200]، وقال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10]. وقال : «... ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر» [متفق عليه]. والصبر ثلاثة أنواع: النوع الأول: الصبر على طاعة الله: الطاعة ثقيلة على النفس، تصعب على الإنسان، وقد تكون ثقيلة على البدن بحيث يكون مع الإنسان شيء من العجز والتعب، وقد يكون فيها مشقة من الناحية المالية وغير ذلك، ولكن لا بد للإنسان من صبر وجلد وتعويد على الصبر، فالطاعات فيها شيء من المشقة على النفس والبدن تحتاج إلى صبر ومعاناة. النوع الثاني: الصبر على محارم الله: بحيث يكف الإنسان نفسه عما حرم الله عز وجل لأن النفس الأمارة بالسوء تدعو صاحبها وتدفعه إلى فعل السوء وعمل القبيح من القول والعمل، فينبغي على الإنسان أن يصبر نفسه ويروضها على الصبر، والابتعاد عن محارم الله عز وجل حتى يفوز برضا ربه سبحانه. وليعلم أن من ارتكب محارم الله فهو عاص لله عز وجل ومعرض للعقوبة والحسرة والندامة. فينبغي عليه أن يسعى جاهدًا لمجاهدة نفسه الأمارة السوء حتى يكون من الفائزين ويكون من السعداء، قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران: 185]، وقال : «والصبر ضياء» [مسلم] لأن بالصبر تتكشف الغموم والهموم والكربات. النوع الثالث: الصبر على أقدار الله: وهي قسمان: الأول: أقدار الله الملائمة: وهي التي تحتاج إلى شكر، والشكر من الطاعات التي تحتاج إلى صبر عليها، فيحصل له الثواب بإذن الله تعالى. الثاني: أقدار الله المؤلمة: بحيث لا تلائم الإنسان، فقد يبتلى الإنسان في ماله وبدنه وأهله وغير ذلك، فأنواع البلايا كثيرة، وهي تحتاج إلى صبر وجلد ومعاناة، فيصبر الإنسان نفسه عما يحرم عليه من إظهار الجزع والهلع وعدم الرضا بما قدر الله عليه، سواء باللسان أو الجوارح، أو بالقلب. فيصبر الإنسان على ما قدره الله عليه وليبشر بالثواب من الله تعالى، قل جل وعلا: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 155-157]. وعن أبي هريرة  أن رسول الله  قال: «يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة» [البخاري]. فمن ابتلي بفقدان حبيبه في هذه الدنيا، ثم ادخر ثوابه عند الله وصبر وسلم أمره إلى الله عز وجل فقد وقع أجره على الله وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، وبعد ذلك يدخل الجنة بإذن الله تعالى. وعن أنس  قال: سمعت رسول الله  يقول: «إن الله عز وجل قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه (يعني عينيه) فصبر عوضته منهما الجنة» [البخاري]. فينبغي على المؤمن الحق أن يصبر نفسه ويحبسها ويعودها الصبر رجاء ثواب الله عز وجل والعبد لا يستغني عن الصبر في كل أحواله، فالإنسان ما بين سراء وضراء. ومن حق الله تعالى على عباده الصدق معه سبحانه: قال ابن قيم الجوزية في (مدارج السالكين) واصفًا الصدق: «وهي منزلة القوم الأعظم، الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم، الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكان الجنان من أهل النيران». فالصدق مع الله عز وجل في العبادات والطاعات والقربات بحيث تكون له سبحانه دون سواه، وهو خصلة محمودة يجب على الجميع رجالاً ونساءً أن يتحلوا بها، فالصدق صفة المؤمنين وسمة من سماتهم. والصدق منجاة للعبد أمام ربه، وهو سبيل إلى الجنة ومؤد إليها فمن تقوى الله عز وجل الصدق معه سبحانه، فلا يستحي الإنسان من قول الصدق. كذلك ينبغي على الإنسان أن يتجنب الكذب، لأنه صفة الجهلاء، وحيلة الضعفاء، والكذب من الصفات الذميمة التي ينبغي على المسلم أن يتجنبها ويبتعد عنها، فهو يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، فالواجب على المؤمن أن يتحلى ويتصف بصفات المؤمنين ومنها الصدق لأنه طمأنينة، ومن صدق الله صدقه الله عز وجل. ومن حق الله تعالى على عباده مراقبته سبحانه وتعالى: ينبغي على العبد أن يكون مراقبًا لربه مستحضرًا قربه منه وأنه مطلع عليه، حتى كأنه يرى مولاه سبحانه فإن لم يكن يراه، فإنه سبحانه يراه ويطلع عليه، يطلع على سره وعلنه، وجهره وهمسه، ظاهره وباطنه، فالله جل وعلا لا يخفى عليه شيء من أمر عباده، قال تعالى: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء: 218، 219] وقال تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد: 4] وقال تعالى: وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [إبراهيم: 38]. فالله عز وجل مطلع على خلقه معهم بعلمه، وهو مستو على عرشه، بائن من خلقه، يسمع ويرى، يسمع كلامهم ويرى مكانهم، ويعلم سرهم ونجواهم، في ليل أو نهار في بر أو بحر أو جو، في البيوت أو الصحاري، فحري بالمؤمن أن يراقب ربه في كل سكناته وحركاته يراقب مولاه في كل همسة من همساته، يراقب ربه في كل صغيرة وكبيرة، فهو مطلع على الأعمال والأفعال والأقوال. والله جل وعلا مع عباده بعلمه وقوته وسلطانه، وهو مع عباده المؤمنين بحفظه ورعايته وتأييده وتسديده لهم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128]. فينبغي على المؤمن أن يتقي الله عز وجل وهذا من مراقبته لربه. قال : «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» [الترمذي وهو صحيح]، فيتقي الله المؤمن في كل أحواله، في خلوته وجلوته في حضره وسفره لأن الله مطلع عليه، فتقوى الله أن تجعل بينك وبينه عقابه وسخطه وغضبه وقاية وحاجزًا، وتخاف الجليل، وتؤمن بالتنزيل، ولا يتم ذلك إلا بمراقبة المولى جل وعلا فمن راقب الله عز وجل وعلم أن الله مطلع عليه، أقلع عن الذنوب والمعاصي، ولاذ إلى خالقه وبارئه سبحانه مبتعدًا عن النيران، مقتربًا من الجنان، قريبًا من الطاعات وعاملاً لها، مبتعدًا عن المحرمات، وتاركًا لها. قال : «إن الله تعالى يغار، وغيرة الله تعالى أن يأتي المرء ما حرم الله عليه» [متفق عليه]. وقال : «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك...» [الترمذي وهو صحيح]. وقال أنس : «إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله  من الموبقات» [البخاري]، فاستحقار الذنب وعدم المبالاة به دليل على عدم الخشية من الله وعدم مراقبة الله عز وجل في ذلك الذنب وتلك المعصية. وفي الحديث: «إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه». فمن عظم الله في قلبه استكثر ذنوبه وحاسب نفسه وأدانها وعاتبها ولامها، وما ذاك إلا لخوفه من ربه سبحانه ومراقبته له. إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب ومن حق الله تعالى على عباده تقواه سبحانه: فالتقوى أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية وذلك بفعل الأوامر وترك النواهي، وأهل التقوى هم أهل الجنة؛ فلذلك يجب على الإنسان أن يتقي الله عز وجل طلبًا لثوابه وخوفًا من عقابه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]. والتقوى محلها القلب، ولا يمكن أن يكون الإنسان متقيًا الله في باطنه وعاص له في ظاهره. فكم من أناس أقاموا أنفسهم على فعل المعاصي والآثام وإذا تم نصحه، قال: الإيمان ههنا، وأشار إلى قلبه، وقد قال : «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» [متفق عليه]. فليس من المعقول أن يبطن الإنسان الإيمان والتقوى ويظهر الفسوق والعصيان، خاصة وهو بين بني جلدته من المسلمين، فوالله لو صلح قلبه لظهر ذلك جليًا على جوارحه، قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3] وقال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق: 5]. فما أكثر الذين اتقوا الله عز وجل فجعل لهم من كل ضيق مخرجًا، ومن كل هم فرجًا، ومن كل بلاء عافية، ومن كل عسر يسرا، ورزقهم من حيث لا يحتسبون، فمن يتق الله بفعل ما أمره الله به وترك ما نهاه عنه فسوف يجعل الله له من كل ضيق مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيراً منه، كيف لا؟ والله هو الذي تكفل له بذلك، من يقول للشيء كن فيكون. وكم من أناس تركوا أمورًا محرمة عليهم ابتغاء وجه الله عز وجل فرزقهم الله خيراً منها، ولا يستعجل الإنسان الرزق والشفاء من كل داء فإن الله وعد وهو الذي يوفي سبحانه، ولكنه قد يؤخر ذلك اختبارًا وامتحانًا لعبده، هل سيستمر على تقواه وطاعته لخالقه أم سيعصي؟ هل سيتوب من ذنبه أم يعود إليه؟! قال : «يستجاب لأحدكم (أي إذا دعا) ما لم يعجل، يقول: دعوت، ثم دعوت، ثم دعوت فلم يستجب لي» [البخاري ومسلم]. وبالتقوى يحصل للإنسان زيادة في العلم وزيادة في الحفظ وزيادة في الهدى. ولذا قال : «اللهم إني أسألك الهدى، والتقى والعفاف والغنى» [مسلم] وتقوى الله عز وجل وخشيته سبب من أسباب دخول الجنة، فبالتقوى يكون صلاح القلب والجوارح، فيعيش العبد بين الخوف والرجاء، قال : «اتقوا الله، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا أمراءكم، تدخلوا جنة ربكم» [الترمذي وأحمد والحاكم وهو صحيح]. فالتقوى ملاك كل أمر، وهو رادع وزاجر عن فعل المعاصي ودال وحاث على فعل الخيرات والطاعات والقربات والإكثار منها؛ فيجب على المؤمن أن يتقي ربه في سره وعلانيته حتى يفوز برضا ربه والنظر إلى وجهه سبحانه. ومن حق الله تعالى على عباده التوكل عليه سبحانه: التوكل ثمرة من ثمرات اليقين، واليقين هو قوة الإيمان حتى كأن الإنسان يرى بعينه ما أخبر الله به ورسوله من شدة يقينه؛ فاليقين هو ثابت وإيمان ليس معه شك. قال ابن القيم في (مدارج السالكين) مبينًا معنى اليقين: «وهو من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون...». انتهى. وقال ابن رجب في (جامع العلوم والحكم) مبينًا معنى التوكل: «وهو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها.. وتحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه وتعالى المقدورات بها وجرت سنته في خلقه بذلك، فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب عليه إيمان به». انتهى. ومن توكل على الله فهو حسبه، ففي هاتين المرتبتين: اليقين، والتوكل، يحصل للإنسان مقصوده في الدنيا والآخرة ويستريح ويعيش مطمئنًا سعيدًا لأنه موقن بكل ما أخبر الله به ورسوله، ومتوكل على الله عز وجل. وقد أخبر النبي  أنه يدخل الجنة سبعون ألفًا بغير حساب ولا عذاب... إلى أن قال: «هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون» [متفق عليه]. وقال الألباني رحمه الله تعالى: «ليس عند البخاري (لا يرقون) وعنده مكانها (لا يكتوون) ولفظ مسلم شاذ سندًا ومتنًا». وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: «قوله لا يرقون كلمة غير صحيحة ولا تصح عن النبي  لأن معنى لا يرقون أي لا يقرءون على المرضى وهذا باطل فإن الرسول  كان يرقي المرضى». وقد ورد أن مع كل واحد من السبعين ألفًا، سبعين ألفًا فانظر إلى فضل الله عز وجل ورحمته بخلقه، فاللهم لك الحمد والمنة. فيكون مجموع أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب (1400000000) وألف وأربعمائة مليون – فاللهم اجعلنا منهم – ولكن لابد من توفر الشروط التي ذكرها النبي  وهي: أولاً: لا يسترقون: أي لا يطلبون من أحد أن يقرأ عليهم إذا أصابهم شيء. ثانيًا: ولا يكتوون: أي لا يطلبون من أحد أن يكويهم إذا مرضوا. ثالثًا: ولا يتطيرون: أي لا يتشاءمون. رابعًا: وعلى ربهم يتوكلون: أي يعتمدون على الله وحده. فخلاصة القول: إن الإنسان لا يتوكل إلا على الله، ولا يلجأ إلا إلى الله، ولا يستعين إلا بالله سبحانه، فيكون أمره كله لله. وقد قال : «من قال (إذا خرج من بيته) بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هُديت وكفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان» وزاد أبو داود: «فيقول الشيطان، لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي» [الترمذي والنسائي وأبو داود وهو صحيح]. فالتوكل على الله حصن حصين، ودرع متين، يتحصن به المسلم من الشيطان. ولما ألقي إبراهيم  في النار كان آخر ما قال «حسبي الله ونعم الوكيل»، فجاء الرد عاجلاً وسريعًا ممن عليه يتوكل المتوكلون: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء: 69]. فالتوكل ثمرة عظيمة وصفة ينبغي للمؤمن أن يتحلى بها، وهي من كمال العبودية لله عز وجل، وحق من حقوق الله على عباده. ومن حق الله تعالى على عباده الاستقامة على دينه: وحسبنا في ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت: 30-32]. قال ابن كثير في تفسيره: «أي الذين أخلصوا العقيدة والعمل لوجه الله تعالى على ما شرع سبحانه وتعالى لهم وبقوا على ذلك حتى لقوا الله، أي استقاموا على أداء فرائضه». وروى مسلم في صحيحه والنسائي عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحد بعدك، قال : «قل آمنت بالله ثم استقم» قلت يا رسول الله: ما أكثر ما تخاف علي؟ فأخذ رسول الله  بطرف لسان نفسه ثم قال: «هذا». فمن استقام على دين الله جل وعلا فليبشر بما بشره الله به فهو آمن في الدنيا وعند الموت عندما تتنزل عليه الملائكة المأمورة بقبض الأرواح بألا يخاف عندما يقدم للآخرة ولا يحزن على تركه من أمر الدنيا، فيبشرونه بذهاب الشر وحصول الخير، فيبشرونه عند موته وفي قبره وحين يبعث، يبشر بروح وريحان ورب راض غير غضبان. فالملائكة أولياء للمؤمنين في الحياة الدنيا فهم يسددونهم ويحفظونهم بأمر الله تعالى، وعند الاحتضار، وكذلك هم معهم في الآخرة يؤنسونهم من الوحشة في القبور وعند النفخ في الصور، يوم البعث والنشور، ويجازون بالمؤمنين الصراط إلى جنات النعيم، التي فيها ما تشتهيه النفوس وتلذ به العيون، وذلك نزلاً من غفور رحيم؛ أي ضيافة وعطاءً وإنعامًا من غفار الذنوب وستار العيوب علام الغيوب. فأولياء الله عز وجل هم الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون هم الذين اعترفوا ونطقوا ورضوا بربوبية الله تعالى واستسلموا لأمره ثم استقاموا على الصراط المستقيم علمًا وعملاً فلهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة. فمن استقام مدة حياته على طاعة الله عز وجل وداوم عليها فهو بإذن الله آمن من كل شر ومكروه، وهو من أصحاب الجنة الملازمين لها، وذلك جزاء ما كان يعمل من الإيمان بالله المقتضي للأعمال الصالحة التي استقام عليها، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف: 13، 14]. فمن حق الله على عباده الاستقامة على دينه وعدم الزيغ عنه، واتباع أوامره واجتناب نواهيه والبعد عنها، والقيام بفعل الطاعات وترك المنكرات من الأعمال والأقوال والأهواء، حتى يكون صاحب ذلك من أهل الله عز وجل الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ومن حق الله تعالى على عباده وجوب الانقياد له والتحاكم إليه ومجاهدة النفس على طاعته سبحانه: فمن حق الله على عباده وجوب الانقياد له وطاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع سبحانه أو شرعه نبيه  فينقاد ويسلم بما جاء في كتاب الله عز وجل وبما جاء في سنة نبيه . ومن حق الله على عباده أن يتحاكموا إليه سبحانه ولا يقبلوا حكم غيره، قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: 45] قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة: 47]. فلا يحكم الإنسان إلا بما أنزل الله عز وجل، ومن حكم بغير ما أنزل الله، واستحل ذلك واعتقده جائزًا فهو كافر كفرًا أكبر، وظالم ظلمًا أكبر، وفاسق فسقًا أكبر، فهو كافر عند جميع المسلمين. وكذلك من حكَّم القوانين الوضعية بدلاً من شرع الله ويرى أن ذلك جائز فهو كافر لأنه استحل ما حرم الله، وأما من حكم بغير ما أنزل الله اتباعًا للهوى، أو الرشوة أو لعداوة بينه وبين المحكوم عليه أو لأسباب أخرى، وهو يعلم أنه عاص لله بذلك وأن الواجب عليه تحكيم شرع الله، فهذا يعتبر من أهل المعاصي والكبائر، وقد أتى كفرًا أصغر وظلمًا أصغر وفسقًا أصغر. ولا يصلح الإيمان إلا بثلاثة أمور: الأول: أن يكون التحاكم في كل نزاع إلى الله ورسوله ، قال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59]. وقال تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [الشورى: 10]. الثاني: أن تنشرح الصدور بهذا الحكم، ولا يكون في النفوس حرج وضيق منه، قال تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65]. الثالث: أن يحصل التسليم التام بقبول ما حكم به وتنفيذه بدون توان أو انحراف. قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب: 36]. وقال تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور: 51]. فلابد من الإذعان والقبول فيما أنزله الله عز وجل في كتابه وبما جاء به نبيه  من أحكام، ويجب التحاكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ، وترك ما سواهما من قوانين أرضية وضعية، وضعها بشر فيهم من الخطأ والزيغ والإحجام ما لا يعلم به إلا الله، وقد بين النبي  أنه ترك في هذه الأمة ما إن تمسكن به واعتصمت به واستقامت عليه فلن تضل أبدًا، وبين ذلك بقوله: «كتاب الله وسنتي». فالواجب على المؤمن إذا سمع حكم الله تعالى وحكم نبيه  أن يذعن لذلك ويرتضيه قولاً وعملاً، وذلك مصدقًا لقول الله جل وعلا: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور: 51، 52]. أما من زاغ عن حكم الله ورسوله فهو الظالم لنفسه فهو مبتعد عن الله قريب من الشيطان، مبتعد عن الجنان قريب من النيران، قال تعالى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ [النور: 48-51]. فالواجب على المؤمن أيضًا مجاهدة النفس حتى تستقيم على طاعة مولاها، فإذا رأى نفسه تتوانى وتتكاسل عن الخير فإنه يجاهدها ويكرهها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً حتى تستقيم على الطريق الصحيح الذي لا اعوجاج فيه، فمن جاهد نفسه على طاعة الله عز وجل والبعد عن معصيته فهو المستحق لرضا ربه سبحانه، فتسمو نفوسهم وتبلغ مقام الرضا والتسليم فيعبدون الله كأنهم يرونه فإن لم يرونه فإنه سبحانه يراهم. قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69]. وانظر كيف كان نبينا  يجاهد نفسه ويحثها على قيام الليل وهو المغفور له ذنبه المتقدم والمتأخر بإذن ربه، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي  كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا» [البخاري ومسلم واللفظ للبخاري]. أفلا يليق بنا، ويجب علينا، أن نتخذ نبينا قدوة وأسوة حسنة، فهو يقوم الليل حتى تتشقق قدماه وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ونحن والله لا ندري ما يفعل الله بنا غدًا، غير أننا نحسن الظن بربنا سبحانه، نرجو رحمته ونخشى عذابه، والله إنه ينبغي لنا المجاهدة والاستقامة على دين الله تعالى حتى نفوز برضوانه وننجو من عقابه وسخطه. قال  لمعاذ بن جبل: «هل تدري ما حق الله على عباده؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا» ثم سار ساعة، ثم قال: «يا معاذ بن جبل» قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: «هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «حق العباد على الله أن ألا يعذبهم» [البخاري]. قال ابن حجر في الفتح: «جهاد المرء نفسه هو الجهاد الأكمل، قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات: 40]. ويقع بمنع النفس عن المعاصي، ويمنعها من الشبهات، ويمنعها من الإكثار من الشهوات المباحة لتتوفر لها في الآخرة، قلت: ولئلا يعتاد الإكثار فيألفه فيجره إلى الشبهات فلا يأمن أن يقع في الحرام. وللنفس صفتان: الأولى: انهماك في الشهوات. الثانية: امتناع عن الطاعات. فالمجاهدة تقع بحسب ذلك». انتهى. ومن حق الله على عباده حبه سبحانه: فحب الله عز وجل من حلاوة الإيمان وقوته، فيجب على كل مسلم أن يكون الله ورسوله أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، فهذا من صدق الإيمان مع الله عز وجل عن أنس  عن النبي  قال: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار» [متفق عليه]. ومن محبة الله عز وجل أن الحب لا يكون إلا لله، والبغض لا يكون إلا لله ولا يحب الإنسان أو يكره من أجل عرض من أعراض الدنيا؛ لذلك يجب على المسلم أن يحب الأنبياء والأولياء والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يبغض الكافرين والمنافقين والمشركين وأهل البدع والمعاصي. وقد ذكر النبي  من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله – نسأل الله أن يجعلنا منهم – ذكر منهم: «رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه» [متفق عليه]. وقال : «قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي، لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء» [رواه مسلم]. ومن حق الله تعالى على عباده أن يكونوا دائرين بين الخوف والرجاء: فالمؤمن لا يخاف إلا من الله عز وجل لأن الذي يعبد الله يجب أن يكون خائفًا راجيًا، فيكون حاله دائرًا بين الخوف والرجاء، لكن يستثنى من هذا الخوف، الخوف الفطري الذي جبل عليه الإنسان مثل الخوف من حيوان مفترس أو عدو أو غير ذلك. فالله جل وعلا يأمر عباده بالخوف منه وخشيته سبحانه، قال تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة: 40]. فالقرآن الكريم عبر عن الخوف بالفزع والروع والرهبة والخيفة والخشية فكل تلك التعابير دالة على الخوف. ولا يكون الخوف إلا من الله عز وجل، فالله تعالى يرسل الآيات تلو الآيات تخويفًا لعباده ليعودوا إلى الحق إذا زاغوا عنه، فما هذه الزلازل والبراكين والرياح الشديدة والفيضانات والكسوف والخسوف والأمراض المستعصية إلا بما كسبت أيدي الناس لبعدهم عن الحق، قال تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء: 59]، وقال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41]. فمن اتعظ بما يراه من آيات الله الكونية وخاف ربه سبحانه، فإنه سينهي نفسه عن هواها ويكبح جماحها عن الاقتراب من الحرام، ويبعدها عن كل ما نهى الله عنه، فهذا الخائف من مولاه وخالقه ورازقه بشره ربه بقوله: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 40، 41]. قال الإمام أحمد رحمه الله في الخوف والرجاء: «ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحدًا، فأيهما غلب هلك صاحبه، لأنه إن غلب جانب الرجاء صار من الآمنين من عذاب الله، وإن غلب جانب الخوف صار من القانطين من رحمة الله، وكلاهما سيئ، فينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحدًا». فلابد أن يخاف الإنسان من عذاب الله، ويخاف من يوم القيامة وما فيه من أهوال عظام، وأحوال جسام؛ فالله تعالى يخوف عباده في القرآن الكريم بالترهيب من النار تارة، وبإهلاك الكافرين تارة أخرى وقبل ذلك يخوفهم بنفسه سبحانه، وذلك ليعبدوه وحده لا يشركوا به شيئًا، وهذا هو حق الله على عباده. وأسوق إليك أيها القارئ الكريم هذه الأحاديث الصحيحة التي تخوف العباد من رب العباد وتجعلهم يعودون إليه سبحانه، وأذكرها لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وقد ذكرها النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين: 1- قال : «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها» [مسلم]. 2- وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال سمعت رسول الله  يقول: «إن أهون أهل النار عذابًا يوم القيامة لرجل يوضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه، ما يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا، وإنه لأهونهم عذابًا» [متفق عليه]. 3- وعن أنس  قال: خطبنا رسول الله  خطبة ما سمعت مثلها قط، فقال: «لو تعلمون ما أعلم لضحتكم قليلاً ولبكيتم كثيرًا» فغطى أصحاب رسول الله  وجوههم، ولهم خنين. [متفق عليه]. 4- وعن أبي هريرة  أن رسول الله  قال: «يعرف الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم» [متفق عليه]. 5- وعن عدي بن حاتم  قال: قال رسول الله : «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة» [متفق عليه]. فمن قرأ هذه الأحاديث التي سقتها هنا أو غيرها مما لم يرد ذكره، فإنه حري به أن يجعل بينه وبين عذاب الله وقاية. اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك. وهناك آيات وأحاديث توجب للإنسان قوة الرجاء بالله عز وجل حتى يلاقي ربه وهو يرجو رحمته. فقد ذكر بعض العلماء أن الإنسان في حال المرض والاحتضار يغلب جانب الرجاء على جانب الخوف، فهو يحسن الظن بربه سبحانه راجيًا رحمته ومغفرته، قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156]. وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 116]. وعن أنس  أن النبي  قال لمعاذ وهو رديفه على الرحل...: «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله صدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار»، قال – يعني معاذ – يا رسول الله، أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا؟ قال: «إذا يتكلوا». فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا – أي خوفًا من الإثم في كتم العلم [متفق عليه]. وعن أبي هريرة  قال سمعت رسول الله  يقول: «إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والأنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة» [متفق عليه]. وعنه  قال: قال رسول الله : «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله تعالى، فيغفر لهم» [مسلم]. فالله جل وعلا رغب عباده في التوبة، ولو شاء لأهلكم، قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر: 45]. وخلاصة ذلك: أنه ينبغي على المؤمن الإقبال على الله عز وجل بالتوبة النصوح والالتجاء إليه سبحانه والخوف منه، والرجاء إليه وحسن الظن بالله تعالى. ولابد للمؤمن أن يتقرب إلى مولاه بفعل الطاعات واجتناب المنهيات، ليفوز برضا ربه سبحانه: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران: 185]. ومن حق الله تعالى على عباده أن تكون جميع أعمال العبد لله عز وجل: فلا يدعو إلا الله ولا يتقرب إلا لله، ولا يستعين إلا بالله، ولا يذبح إلا لله، ولا يستغيث إلا بالله، ولا يستعيذ إلا بالله ولا يحلف إلا بالله، ولا ينذر إلا لله ولا يفعل العبادات إلا لله، فكل حركاته وسكناته لله عز وجل لأنه لم يخلق إلا من أجل ذلك، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 162، 163]. فيعمل الإنسان رجاء ثواب الله عز وجل وخوفًا من عقابه ولا يغتر ولا يركن إلى عمله، ولا يترك عمله أملاً بسعة رحمة الله ومغفرته. فالإنسان مجزي بأعماله، فإن كانت خيرًا فله الأجر والثواب، وإن كانت غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. كانت تلك جملة من حقوق الله تعالى على عباده، وفيما أشرنا إليه كفاية بإذن الله تعالى واستكمالاً للموضوع، وحتى تعم الفائدة أكثر وأكثر فسوف نذكر بعض الأمور الشركية التي يقع فيها كثير من المسلمين اليوم: لقد وقع بعض المسلمين في بقاع شتى من بلاد المسلمين في أمور شركية تنافي كمال التوحيد، بل إنها من الإشراك بالله تعالى، وظهرت أيضًا بعض البدع التي تصل بصاحبها إلى الكفر بالله عز وجل وقد حاربها أهل العلم قديمًا وحديثًا، وصار كثير من الدعاة يهتمون بجوانب ضئيلة لا تسمن ولا تغني من جوع بدون العقيدة، ويتركون جانب العقيدة، وهم يرون الناس متورطين في الشرك الأكبر حول الأضرحة والمزارات، ومتورطين في البدع والخرافات، ويرون دعاة الضلال قد استحوذوا على كثير من الجهلة والعوام، وساقوهم إلى مواقع الهلاك والضلال، واتخذوهم عبيدًا لهم يتصرفون بعقولهم وأحوالهم، ويترأسون عليهم بالباطل وباسم العلم والولاية. انتهى. ومن تلك الأمور الشركية ما يلي: أولاً: الشرك الأكبر وينقسم إلى أقسام، منها: 1- الشرك في الخوف: فالخوف لا يكون إلا من الله جلت قدرته، والخوف ثلاثة أقسام: أ- خوف السر: وهو أن يخاف من غير الله من وثن أو طاغوت أو ميت أو غائب من جن أو إنس أن يصيبه بما يكره، وهذا الخوف من أعظم مقامات الدين وأجلها فمن صرفه لغير الله، فقد أشرك بالله الشرك الأكبر والعياذ بالله، قال تعالى: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 175]. ب- أن يترك الإنسان ما يجب عليه خوفًا من بعض الناس: فهذا محرم، وهو نوع من الشرك بالله المنافي لكمال التوحيد، وقد ورد في الحديث: «أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ما منعك إذا رأيت المنكر أن لا تغيره؟ فيقول: رب خشيت الناس فيقول: إياي كنت أحق أن تخشى» ذكر ذلك ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78، 79]. جـ- الخوف الطبيعي: وهو الخوف من عدو أو سبع أو دابة أو غير ذلك، كما قال الله عز وجل في قصة موسى : فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه: 67]. 2- الشرك في المحبة: المحبة هي أصل دين الإسلام الذي تدور عليه رحاه، فبكمال محبة الله يكمل دين الإسلام وبنقصها ينقص الإسلام، وتنقسم المحبة إلا قسمين: أ- محبة مختصة: وهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع وكمال الطاعة، وإيثار المحبوب على غيره وهي المحبة الخالصة لله، ولا يجوز أن يشرك معه فيها أحد. ب- محبة مشتركة: وهي ثلاثة أقسام: * محبة طبيعية: كمحبة الجائع للطعام. * محبة إشفاق: كمحبة الوالد لولده. * محبة أنس وألفة: كمحبة الأصدقاء. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: «إن من اتخذ ندًّا تساوي محبته محبة الله، فهو الشرك الأكبر». 3- الشرك في التوكل: والتوكل على الله من أعظم أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله، قال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة: 23]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وما رجا أحد مخلوقًا ولا توكل عليه، إلا خاب ظنه فيه». والتوكل على غير الله تعالى ثلاثة أقسام: أ- التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله: كالتوكل على الأموات والغائبين ونحوهم من الطواغيت في تحقيق المطالب من نصر وحفظ ورزق وشفاعة، فهذا شرك أكبر. ب- توكل في الأسباب الظاهرة: كمن يتوكل على سلطان أو أي شخص حي قادر فيما أقدره الله من عطاء أو دفع فهذا شرك أصغر، لأنه اعتماد على الشخص. ج- التوكل الذي هو إنابة شخص ليقوم بعمل عنه هو قادر عليه كالبيع والشراء: فهذا جائز. فالتوكل على الله فريضة يجب إخلاصها لله، وهو أجمع أنواع العبادة وأعلى مقامات التوحيد وأعظمها وأجلها. 4- الشرك في الطاعة: فالطاعة لا تكون إلا لله عز وجل والرسول ، وهي الطاعة فيما أمر الله به أو نهى عنه، ومن أطاع العلماء والرؤساء من تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، فقد أشرك مع الله غيره. ومن شرك الطاعة، طاعة الحكام والرؤساء في تحكيم القوانين الوضعية المخالفة للأحكام الشرعية في تحليل الحرام، كإباحة الزنا، وإباحة السفور والاختلاط، أو تحريم الحلال، وكمنع تعدد الزوجات وغير ذلك. فمن رضي بقوانينهم ووافق عليها واستحسنها فهو مشرك كافر والعياذ بالله، قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 31]. وقال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63] وقال تعالى: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام: 121]. وانظر إلى أقوال أولئك الرجال الذين أطاعوا ربهم سبحانه، وعرفوا الطريق إليه، انظر واقرأ ما قالوا رحمهم الله تعالى: - قال مالك، رحمه الله: «كلنا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر – يعني رسول الله ». - وقال الشافعي رحمه الله: «إذا صح الحديث فهو مذهبي» وقال: «إذا خالف قولي قول رسول الله  فاضربوا بقولي عرض الحائط». - وقال الإمام أحمد، رحمه الله: «عجبت لقوم عرفوا الإسناد يذهبون إلي رأي سفيان». - وقال أبو حنيفة، رحمه الله: «إذا جاء الحديث عن رسول الله  فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة ، فعلى الرأس والعين...». فمن هذه الأقوال لا يجوز طاعة علماء الضلال فيما أحدثوه في دين الله من البدع والخرافات والضلالات، كإحياء أعياد المولد، والإسراء والمعراج، والنصف من شعبان والطرق الصوفية، والتوسل بالأموات والقبور والأضرحة وغير ذلك من الأمور الشركية التي تنافي التوحيد. 5- سوء الظن بالله: سوء الظن بالله خطير، لأن حسن الظن بالله من واجبات التوحيد، وسوء الظن به سبحانه ينافي التوحيد. قال تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح: 6]. فسوء الظن بالله أقسام، منها: أ- القنوط من رحمة الله واليأس من روحه سبحانه: قال تعالى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر: 56]، وقال تعالى: إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 87]. ب- من ظن أن الله يترك خلقه هملًا: قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115]. وعمومًا فسوء الظن بالله كثير وكثير وليحذر المؤمن من ذلك لكي لا يحبط عمله فيكون من الخاسرين. 6- الاستهزاء بشيء فيه ذكر الله: يجب على المسلم احترام كتاب الله وسنة رسوله  وعلماء المسلمين، وأن يعرف حكم من استهزأ بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول، ليكون المسلم على حذر من ذلك. فمن فعل شيئًا من ذلك فهو كافر بإجماع أهل العلم. قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 64-66]. ويدخل في هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله من أجل العلم الذي يحملونه فهذا كفر، وكذلك الاستهزاء بالسنة الثابتة عن رسول الله ، وكذلك الذي يستهزئ بإعفاء اللحى وقص الشوارب أو الاستهزاء بالسواك أو الاستهزاء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبهذا يعلم كفر من ينتقصون الشريعة الإسلامية ويصفونها بأنها لا تصلح لهذا الزمان، وأن الحدود الشرعية فيها قسوة ووحشية وأن الإسلام ظلم المرأة إلى غير ذلك من مقالات الكفر والإلحاد. نسأل الله أن يثبتنا على دينه في الحياة الدنيا وفي الآخرة. ثانيًا: أمور مترددة بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر: وهي بحسب ما يدور بقلب صاحبها من الاعتقاد بها، فإن اعتقد أنها تدفع الضر وتجلب النفع أو غير ذلك من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله فهذا شرك أكبر، وإن اعتقد غير ذلك فهذا هو الشرك الأصغر والإنسان على خطر عظيم من ذلك، فمن هذه الأمور: أ- لبس الحلقة والخيط: رأى رسول الله ، رجلاً في يده حلقة من صفر، فقال: «ما هذا؟» قال: من الواهنة، فقال: «انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنًا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا» [رواه أحمد]. ومن ذلك أيضًا القلائد التي توضع في رقاب بعض الناس أو الحيوانات أو في البيوت ظنًا من أصحابها أنها تمنع العين أو ترد قدر الله عز وجل، فجاء النهي من النبي  عن ذلك بقوله: «ألا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت» [في الصحيحين]. ب- تعليق التمائم (العزائم): قال : «من علق تميمة فلا أتم الله له» [أبو داود]. وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» [أحمد وأبو داود]، والمقصود بالرقى هنا، الرقية التي فيها شيء من الشرك، فهذه محرمة بالإجماع، وأما إن كانت بكلام الله عز وجل وكلام رسوله ، فقد أجازها النبي ، بقوله: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا» [مسلم]. ولأنه عليه الصلاة والسلام رقى ورقي. والرقية هي القراءة على المريض بغية الاستشفاء بكلام الله عز وجل وكلام رسوله ، ومع العلم التام بأن الله تعالى هو الشافي والمعافي وهو النافع والضار. وأما التمائم والتولة فإن احتوت على شيء من الشرك فهي محرمة ولا يجوز اتخاذها، أما إن كانت من كلام الله تعالى، وكلام نبيه ، فقد منعها أكثر العلماء سلفًا وخلفًا لأسباب ثلاثة: 1- عموم النهي في الحديث ولا مخصص للعموم. 2- سدًا للذريعة، فقد تجر إلى غيرها من الأمور الشركية والبدعية. 3- أنها تمتهن، فقد يدخل بها إلى مكان قضاء الحاجة أو غير ذلك مما يسبب استهزاءً بكلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام. ج- التبرك بالأحجار وغيرها من الآثار: من تبرك بشجرة أو بحجر أو أية بقعة فقد أشرك، قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [النجم: 19، 20]. وهي أصنام عبدها أهل الجاهلية قديمًا، ومعلوم أن من عبد غير الله تعالى فقد كفر. د- السحر: قال : «اجتبوا السبع الموبقات» قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» [متفق عليه]. هـ- الكهانة: قال : «من أتي عرافًا فسأله عن شيء، فصدقه بما يقول، لم تقبل له صلاة أربعين يومًا» [مسلم]، وقال : «من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد » [أبو داود]. و- التطير (التشاؤم): قال : «لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة ولا صفرة» [متفق عليه]، وقال : «الطيرة شرك الطيرة شرك». ز- التنجيم: قال : «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد» [أحمد وأبو داود وابن ماجه]. ومعلوم أن السحر محرم بالكتاب والسنة والإجماع. ح- الاستسقاء بالأنواء: قال : «... وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي، مؤمن بالكواكب» [البخاري ومسلم]. ط- نسبة النعم إلى غير الله: قال تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ [النحل: 83]، وقال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53]. ثالثًا: الشرك الأصغر وهو مناف للتوحيد ومخل به، والإصرار عليها قد يجر إلى الشرك الأكبر، ومنه: 1- الحلف بغير الله: قال : «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» [الترمذي وصححه الحاكم]. 2- الشرك في الألفاظ: مثل قوله: ما شاء الله وشئت، أو لولا الله وأنت، أو ما لي إلا الله وأنت وغير ذلك من الألفاظ الشركية، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي  ما شاء الله وشئت، فقال: «اجعلتني لله ندًا؟ قل: ما شاء الله وحده» [النسائي]. 3- الشرك في النيات والمقاصد: وهو قسمين: أ- الرياء وهو إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها قال ، قال الله تعالى في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه» [مسلم]. ب- إرادة الإنسان بعمله الدنيا: وهو أن يعمل الإنسان عملاً مما يبتغي به الله عز وجل ولا يعمله إلا من أجل الدنيا ومتاعها الزائل ليحصل على أجره في الدنيا. قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود: 15، 16]. 4- سب الدهر ونحوه: وهذا مما ينقص الإيمان عند المسلم، فنجد أن البعض من المسلمين إذا وقع له أمر من الأمور التي لا يرضاها قام بسب ما كان سببًا في ذلك مع أن المسبب هو الله عز وجل، فيسب الدهر ويسب الرياح وغير ذلك، قال : «قال تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار» وفي رواية «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» [في الصحيحين]. 5- قول (لو) في بعض الحالات: ويمنع قول (لو) عند وقوع مصيبة أو مكروه للإنسان فيقول: «لو أني فعلت كان كذا وكذا» ولكن قل: «قدر الله وما شاء فعل فإن (لو) تفتح عمل الشيطان» [مسلم]. قال العلامة ابن سعدي رحمه الله تعالى في حق الله على عباده ما نصه: «أما أعظم الحقوق على المكلفين وأوجبها فهو حق الله، وعقد ذلك أن نعلم ونعترف بما لله من الكمال والوحدانية، وما له من الحقوق على عباده من الإخلاص، والعبودية فعلينا أن نؤمن أن الله تعالى هو الرب، والخالق الرازق، المدبر، المتوحد بصفات الكمال، وغاية الجلال والجمال، الذي لا يحصى أبدًا ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وأن نصفه بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله ، وننزهه عما نزه عنه نفسه ونزهه عنه رسوله. ونعلم أنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير». انتهى. * * * الخاتمة لله على عباده حقوق كثيرة وكثيرة، كيف لا؟! وهو الخالق لهم سبحانه وتعالى، وهو مدبر الأرزاق، والمتكفل بحفظ ابن آدم ما حفظ الله حقوقه. وهو سبحانه الواهب لجميع النعم التي بين يدي الإنسان، من أكل وشرب وملبس وهواء وأرض وبحر وجو. وقد أوضح سبحانه وتعالى لعباده كل ما يقربهم منه سبحانه جلت قدرته، وما يقربهم إلى الجنة، ويبعدهم عن النار، وأعطى عباده من النعم ما لا يحصيه حاص، وأغدق عليهم من الخيرات ما لا يعده عاد. قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34]. فمن أعظم حقوقه على عباده أن يعبدوه سبحانه ولا يشركوا به شيئًا، أن يفردوه بالعبادة وحده دون سواه، فلا يجعلوا له ندًا أو مثيلاً أو شبيهًا، فهو تعالى ليس مثل خلقه، بل كما قال عن نفسه سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]. وإذا هم فعلوا ذلك أي عبدوه تعالى وحده ولم يشركوا به شيئًا، استحقوا بذلك رضوانه جلت قدرته، واستحلوا أنفسهم من العذاب، لأن ذلك وعد وعدهم إياه نبيهم  في حديث معاذ السابق. فما أعظمه من إله سبحانه، عليم بأفعال عباده، حليم على من عصاه، غفور لمن أذنب واستغفر، تواب على من تاب، عدل في قضائه سبحانه، لا يظلم مثقال ذرة. فهو سبحانه رحيم رءوف ودود، أنزل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد ذلك، فلا يعذب أحدًا من خلقه حتى تبلغه الرسالة وتقوم عليه الحجة، فإن أطاع وفق بإذن مولاه سبحانه، وإن عصى فلازم ذلك الخذلان والعذاب. قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15]. فهو المستحق لجميع أصناف العبادة سبحانه، المستحق للألوهية، والعبودية، فلابد من نفي جميع ما يعبد من دون الله عز وجل وإثبات العبادة له وحده. فشهادة الحق – لا إله إلا الله – هي الدين، وهي أساس الإسلام، فمن قالها موقنًا بها ومبتغيًا بذلك وجه الله عز وجل حرمه الله على النار، وأدخله الجنة على ما كان من العمل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد تواترت الأحاديث بأن كثيرًا ممن يقول: لا إله إلا الله، يدخل النار ثم يخرج منها، وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال: لا إله إلا الله، ومن شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص، وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليدًا أو عادة، ولم تخالط حلاوة الإيمان بشاشة قلبه، وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء، كما في الحديث: «سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته». فمن قالها بإخلاص ولم يصر على ذنب أصلاً، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، فإذًا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله ولا كراهة لما أمر الله، وهذا هو الذي يحرم على النار، وإن كانت له ذنوب قبل ذلك فإن هذا الإيمان وهذا الإخلاص وهذه التوبة وهذه المحبة وهذا اليقين لا تترك له ذنبًا إلا محي عنه كما يمحو الليل النهار، فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر، فهذا غير مصر على ذنب أصلاً فيغفر له ويحرم على النار، وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات فيرجح بها ميزان الحسنات فيحرم على النار، ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه. وهذا بخلاف من رجحت سيئاته بحسناته ومات مصرًا على ذلك فإنه يستوجب النار وإن قال لا إله إلا الله وخلص بها من الشرك الأكبر ولكنه لم يمت على ذلك بل أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك بخلاف المخلص المستيقن فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته ولا يكون مصرًا على سيئات فإن مات على ذلك دخل الجنة. فمن كثرت ذنوبه، ثقل على لسانه قول لا إله إلا الله، وقسا القلب عن قولها، وكره العمل الصالح، وثقل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غير الله، واطمأن إلى الباطل، واستحلى الرفث، ومخالطة أهل الغفلة، وكره مخالطة أهل الحق؛ فمثل هذا إذا قال لا إله إلا الله، قالها بلسانه وليس في قلبه منها شيء، وقوله يخالف عمله. قال الحسن: «ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، فمن قال خيرًا، وعمل خيرًا قبل منه، ومن قال خيرًا وعمل شرًا لم يقبل منه». وقال بكر المزني: «ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه». فأهل الإيمان الخالص هم الذين أتوا بهذه الكلمة واجتمعت لهم قيودها التي قيدت بها علمًا ويقينًا وصدقًا وإخلاصًا ومحبة وقبولاً وانقيادًا، فإذا عادوا أحدًا وأبغضوه كان لله، وإذا أحبوا ففي الله. قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100]. وقال : «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» [الترمذي]، فهؤلاء ومن اتبعهم هم أهل لا إله إلا الله. نسأل الله العلي القدير أن يجعلنا منهم وفي زمرتهم، آمين. هذا ما وفقت للكتابة إليه في هذا الموضوع، وأسأل الله أن ينفع بذلك جميع المسلمين وأن يجعله خالصًا لوجهه سبحانه. وأسأل الله العلي العظيم أن يقينا وجميع المسلمين شر البدع، ومحدثات الأمور ومضلات الفتن، وأن يعصمنا من الذنوب والمعاصي، وأن يطهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، وأن يقينا ويدفع عنا دعاة الضلال، وأهل الزيغ والإلحاد، ودعاة الفساد والانحلال، وأن يحرس بلادنا من كل شر ومكروه، ويحفظ عليها دينها وأمنها ورخاءها، وأن يوفق ولاة أمرها لما فيه خير البلاد والعباد، إنه جواد كريم، وبالإجابة جدير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. بقلم يحيى بن موسى الزهراني إمام الجامع الكبير بتبوك الفهرس المقدمة 5 1- الله خالق كل شيء: 7 2- الكرسي: 8 3- اللوح المحفوظ: 8 4- خلق السموات والأرض: 8 5- خلق الملائكة وصفاتهم: 10 6- خلق الجان وكيد الشيطان: 12 7- خلق آدم: 14 أولاً: الشرك الأكبر 49 1- الشرك في الخوف: 49 2- الشرك في المحبة: 50 3- الشرك في التوكل: 51 4- الشرك في الطاعة: 51 5- سوء الظن بالله: 53 6- الاستهزاء بشيء فيه ذكر الله: 54 ثانيًا: أمور مترددة بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر: 55 أ- لبس الحلقة والخيط: 55 ب- تعليق التمائم (العزائم): 55 ج- التبرك بالأحجار وغيرها من الآثار: 56 د- السحر: 57 هـ- الكهانة: 57 و- التطير (التشاؤم): 57 ز- التنجيم: 57 ح- الاستسقاء بالأنواء: 57 ط- نسبة النعم إلى غير الله: 58 ثالثًا: الشرك الأصغر 58 1- الحلف بغير الله: 58 2- الشرك في الألفاظ: 58 3- الشرك في النيات والمقاصد: 58 4- سب الدهر ونحوه: 59 5- قول (لو) في بعض الحالات: 59 الخاتمة 61 الفهرس 66