أحزان السندباد د.طالب عمران أحزان السندباد * روايــــــة * من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2002 آه من ذلك الزمن الذي وجدت نفسي غارقاً في أحداثه بكل تفاصيلها المذهلة؟ كيف بدأت تلك الأحداث؟ كانت أ شبه بحلم مر بسرعة تاركاً أثراً كبيراً في قلبي لم أنسه رغم مرور السنين حلم غريب أصاب منـي مقتلاً وأنا أرجعه، أستعيد فيه جزءاً من ماض، أتساءل أحياناً هل عشته حقاً؟ ( * 1 * كنت في زيارة (اندور) وهي مدينة في أواسط الهند، يدرس فيها بعض الأصدقاء وكانت متعتي في السفر هي التي دفعتني أن أغامر بالرحيل في فصل البرد القصير في الهند، في شهر كانون الثاني- يناير- حيث انطلق بنا القطار من (أغرا) إلى (بوبال) عاصمة المقاطعة في نحو خمس عشرة ساعة.. قضينا خلالها ليلاً بارداً في مقصورة في الدرجة الثانية.. كان (عمار) رفيق رحلتي، يدرس الطب في (ريبور) في الجنوب الشرقي من الهند وكان في عطلته الانتصافية، يرغب في رؤية قريب لـه يدرس في (اندور)... لم تكن رحلة مزعجة رغم بردها القارس في الليل، ولدى وصولنا إلى بوبال اتجهنا إلى كراج لسيارات (التاكسي) يقع تحت جسر ضخم في مكان غير بعيد عن محطة (بوبال) الرئيسي للسكك الحديدية.. وبعد نحو خمس ساعات وصلنا (اندور) وهي مدينة صغيرة جميلة، يستوطنها الهندوس والسيخ وبها مراكز تبشيرية تابعة للكنيسة البابوية.. كان أصدقاؤنا يسكنون منزلاً جميلاً يطل على حديقة واسعة في الطرف الشمالي الغربي من (اندور).. ولم يعكر علينا صفو أوقاتنا المرحة التي قضيناها هناك شيء.. لكن ما الذي يحدث لي؟ لماذا تنتابني مشاعر القلق؟ كأن شيئاً ما ربض على قلبي، ومنعني من الضحك في اليوم التالي من وصولي (اندور) أحب (قتيبة) صديقنا أن يصطحبني وعمار لزيارة بعض المناطق الجميلة في اندور.. من بينها معبد للسيخ وآخر للهندوس.. وحين عرف برغبتي بزيارة أحد مراكز الدعوة لراجنيش، وكنت قد سمعت أنها موجودة في المدينة.. طلب من (السكوتر) الاتجاه صوب محفل (البغوان راجنيش) كان منزلاً صغيراً مكوناً من عدة غرف وقاعة للعرض فيها جهاز عرض سينمائي، وجهاز فيديو.. ومكتبة ضخمة، تحوي خطب وفلسفة (راجنيش).. وقد التقيت مع مدير المركز، وهو كندي اعتنق مبدأ (راجنيش) وأصبح من دعاته.. كان يضع سبحة طويلة حول عنقه في طرفها قلب من الخشب في داخله صورة راجنيش المبتسم.. حدثنا الكندي عن فلسفة (راجنيش) وعن كثرة تلامذته وقدرته على التأثير في مستمعيه.. ووضع لنا شريط فيديو يحوي نتفاً من خطبه.. تأخر الوقت، فهمس (قتيبة) لي أن نرحل، فالمواصلات ستصبح صعبة بعد قليل.. فقمت أودع الكندي الذي وضع سبحة (راجنيش) حول رقبتي وطلب مني أن أعود غداً، وقد وجدني مهتماً بفلسفة ذلك الرجل الداهية.. حالما خرجت نزعت (السبحة) من حول عنقي ووضعتها في جيبي وقد خفت من تأثيرها علي. عاد إلي توتري وقلقي، وحين أصبحنا في البيت، حاول أصدقائي إزالة توتري، دون جدوى. وحتى لا أزعجهم اتجهت صوب السرير لأخلد للنوم.. استعدت أحداث يومي قبل أن يأتيني النوم متأخراً.. × × × رأيت في الحلم وكأنني أمر في شارع أعرفه، وفي نهايته تجمع حشد من الناس، وكنت أمشي و (قتيبة) نحو هذا الجمع وصلنا صوت مزمار هندي كان هناك رجل، ينفخ في المزمار وحوله ترقص الأفاعي. ومن بينها لفتت نظري أفعى من نوع (كوبرا) برأسها المجنح. تنظر نحونا بعينيها المتقدتين.. استيقظت وأنا ألهث من التعب، جاءني قتيبة ومعه الشاي، لم أخبره عن الحلم، لكن شكل الرجل ومنظر الأفعى المخيفة ظل يتراقص في عيني لوقت طويل.. × × × بعد الظهر خرجنا نتمشى، نتعرف على أماكن جديدة في (اندور) وبعد مدة دخلنا شارعاً، أحسست أني رأيته من قبل وفي نهايته تجمع حشد من الناس.. تساءل قتيبة: -ما الذي يحدث هناك؟ قال عمار: -ربما تاجر شنطة.. وهؤلاء مشهورون بأسعار سلعهم الرخيصة من عطورات وأدوية وأدوات زينة. قلت: بل هو رجل يعزف للأفاعي وهي ترقص. ضحك قتيبة: -كيف؟ ماذا تقول؟ لم أجب.. اقتربنا فعلاً من المكان، كان رأسي يدور حين سمعت صوت المزمار المميز. قفز الحلم إلى ذهني، حين طالعت شكل الرجل الذي يعزف، وميزت أفعى (الكوبرا) برأسها المجنح وعينيها المتوهجتين وهي تنظر صوبنا. ((يا إلهي، كل شيء يبدو ساحراً في هذه البلاد، حتى الأحلام؟ نفس المنظر الذي رأيته في الحلم، بكل تفاصيله؟)). كنت مذهولاً وأنا أستعيد ما حدث، ولكن مرح الأصدقاء وعنايتهم البالغة بي، أنساني الحدث إلى حين.. × × × قضيت وعمار عدة أيام أخرى في أندور، زرنا مناطق عديدة حول المدينة وقضينا أوقاتاً ممتعة.. وحين أخبرتهم أنني يجب أن أسافر حاول (عمار) تأجيل موعد السفر، ولكني رغم تظاهري بعكس ذلك كنت متوتراً قلقاً، دون أن أفهم سبب ذلك... سهرنا لساعة متأخرة في تلك الليلة التي سبقت سفري، وكنت متعباً حين لجأت للسرير وسرعان ما غفوت.. ((حلمت أنني وصلت إلى محطة بوبال في الحادية عشرة والنصف ليلاً وأن قطار الثانية عشرة والنصف يتأخر ساعة عن موعده، جلست على الرصيف أتسلى بقراءة كتاب، أنتظر مجيء القطار المتجه إلى أغرا، وبعد فترة أعلنوا في المحطة أن القطار سيتأخر حتى الثانية والنصف.. انتقلت إلى الرصيف المقابل، وجلست على مقعد قريب من عربة رجل يبيع الشاي، طلبت منه كأساً من الشاي بالحليب وتابعت قراءتي.. سمعت بعد فترة وقع خطوات حذاء نسائي فالتفت ليطالعني وجه فتاة مليحة التقاسيم ترتدي سارياً أخضر، إلى جانبها رجل بنظارات سميكة يحمل حقيبة.. طلب الرجل كأسين من الشاي وكانت مقاعد المحطة مكتظة بالمسافرين، أفسحتُ لهما مكاناً إلى جانبي وتبادلت معهما حواراً عرفت أن الفتاة هي أخته وأنه يدرس في جامعة أغرا، وتبادلت الحديث مع الفتاة وعرفت أن اسمها (نيلام) واسم أخيها (راكيش).. كانت قد ضفرت شعرها بضفيرة واحدة امتدت أسفل ظهرها.. وكانت تحفظ أبياتاً من شعر الراميانا.. كنت أحدق بوجهها الصافي وعينيها البارقتين فأحس بمشاعر فياضة من الإعجاب..)). استيقظت على قتيبة يهزني: -تأخر الوقت.. تململت محتجاً: -أوه لماذا توقظني الآن؟ كنت مع فتاة جميلة بساريها الأخضر ووجهها الصافي.. ضحك: -أنا آسف.. عد إلى النوم الآن وأكمل مغامرتك. نهضت مسرعاً من الفراش وأنا أحس بنشاط غير عادي. وبعد دقائق كنا نتناول الإفطار.. (( * 2 * خرجنا نتمشى في الحديقة المجاورة للبيت، كان يوم عطلة وقد امتلأت الحديقة بأزواج العشاق، والأسر. لم نشعر بمضي الوقت ونحن نتفرج على ما في الحديقة من ألعاب وسحر وموسيقا ورقص.. انتبهت للوقت أخيراً كانت الساعة تقارب الثانية عشرة ظهراً. يجب أن أذهب إلى (الكراج) لأستقل تكسي نحو بوبال. ودعني الأصدقاء، ولوحوا لي بأيديهم والسيارة تتحرك متجهة نحو (بوبال) وكانت عندها الساعة نحو الواحدة والنصف ظهراً.. كان الطريق جميلاً مشجراً، وبعد نحو ساعتين تعطلت السيارة في مكان مقفر تقريباً، كنت أجلس في المقعد الخلفي وإلى جانبي (سرادرجي) من السيخ ومعه زوجته، كان الرجل لطيفاً قوياً رغم تقدمه في السن، وفي المقعد الأمامي جلس شابان كانا يثرثران طوال الوقت مع السائق.. حاول السائق إصلاح السيارة دون نتيجة، فتطوع أحد الشابين بالذهاب إلى القرية القريبة لإحضار من يفهم في الميكانيك.. أوقف سيارة شاحنة وصعد بها وهو يلوح أنه سيعود بسرعة.. مر الوقت.. جلس السردارجي تحت شجرة مع زوجته التي أخرجت بعض الطعام وبدأا يأكلان في حين قدمت لفافة سجائر لسائق السيارة الذي أخذ يعتذر لي بالهندية عما حصل.. وقد رأى منظري الغريب.. والهنود لطفاء طيبون يعاملون الغريب باحترام.. واقترب مني الشاب الآخر، ولم يمانع حين عرضت عليه تدخين سيجارة. كان من (بوبال) يختص في كلية الطب في جامعة بوبال، أخذ يلقي علي أسئلته الفضولية التي تهربت من الإجابة عنها بلباقة.. ثم طلب مني سيجارة أخرى فقدمتها له. سألني: -أنت عربي؟ قلت: -نعم.. قال: -اسمي مصطفى، والدي من بوبال وأمي من حيدر أباد.. أستطيع قراءة العربية ولكن لا أفهم ما أقرأ. أنت تعلم أن أحرف العربية مثل أحرف الأوردو تقريباً.. أنا أقرأ القرآن الكريم وأحفظ بعض سوره ولكني لا أفهم شيئاً.. قلت له: -يمكنك تعلم العربية بسهولة ما دمت تعرف الأحرف. قال: -والدي يتقن العربية، وقد زار القاهرة.. انفتح مصطفى في حديثه معي، وحكى لي قصة حبه لصديقة أخته، والأخت هنا ليست الأخت الحقيقية، فأي قريبة هي في منزلة الأخت، لأن الهنود لا يتزوجون من الأقرباء. وأخته تلك عرفت أنها ابنة عمه وتعيش في أندور حيث يملك عمه متجراً للتحف.. وقال لي أخيراً: -المشكلة أن (سلمى) وهو اسم الفتاة –ستتزوج قريباً إن لم أسارع بطلب يدها. قلت: -ما الذي يمنعك من ذلك؟ قال: -ليس عندي عمل، أنا أختص بجراحة العين، ولكن عملي في المستشفى مؤقت، قد لا يقبلونني بعد انتهاء دراستي. قلت: -حاول إقناع عمك، قد يساعدك.. أطرق قليلاً وتمتم: -يمكن. إنه يحبني كثيراً يعتبرني مثل ولده.. وبعد نحو الساعة حضر الشاب الآخر ومعه الميكانيكي الذي قضى يعالج محرك السيارة نصف ساعة أخرى قبل أن ينجح في إدارته.. غفوت قليلاً على المقعد بعد أن تحركت السيارة بنا ولم أنزل من السيارة حين توقفت للاستراحة.. ولكن مجيء مصطفى ومعه كأس من الشاي أخجلني فجلست معه فترة الاستراحة، ندخن ونتبادل الحديث.. × × × تحركت السيارة من جديد، كان الظلام يخيم على الطريق وليس سوى حيوانات صغيرة نراها على الجانبين وحشرات تقفز أو تطير أمام مصابيح السيارة.. وصلنا بوبال في الحادية عشرة والنصف، ودعت مصطفى سريعاً بعد أن تبادلنا العناوين، وطلب مني الإجابة على رسائله.. ثم اتجهت صوب محطة بوبال للسكك الحديدية.. حجزت تذكرة لأغرا، وقد نبهني قاطع التذاكر أن قطار أغرا سيتأخر عن موعده حتى الواحدة والنصف.. كان هذا طبيعياً. جلست على الرصيف أقرأ في (رواية هارولد روبنس) اليهودي الأمريكي، وكانت بعنوان (القرصان) تدور حول العرب ونزواتهم وملايينهم التي ينفقونها بلا حساب. في أمريكا وأوروبا.. وتحكي بفصولها الأربعة عن ربيع وصيف وخريف وشتاء عام 1973. وبعد مدة سمعت صوت مذيع المحطة، يعلن عن تأخر القطار المتجه لأغرا ساعة أخرى.. وأنه سيأتي إلى الرصيف رقم (2) حملت حقيبتي الصغيرة واتجهت أصعد الجسر الفاصل بين الأرصفة لأهبط على الرصيف رقم (2)، كان الناس ينتشرون على الرصيف ينامون، يتسامرون، يشربون الشاي، جلست قرب أحد باعة الشاي، وطلبت منه شاياً بالحليب.. وبعد قليل وأنا منغمس في قراءتي وصلني صوت وقع حذاء نسائي فالتفت لأفاجأ وقد اشتدت خفقات قلبي بوجه فتاة ترتدي سارياً أخضر وإلى جانبها رجل بنظارات سميكة يحمل حقيبة بيده.. وكما في الحلم تماماً وكنت مصعوقاً، طلب الرجل كأسين من الشاي بالحليب وكانت مقاعد المحطة تغص بالمسافرين، فأفسحت لهما مكاناً قربي وقلت دون أن أعي: -أختك؟ أجاب مدهوشاً: -نعم، كيف عرفت؟ تلعثمت ثم أسعفني لساني: -تشبهك.. كانت الفتاة ترمقني على استحياء. ورأت الرواية التي أحملها فطلبتها مني، قلبت صفحاتها قليلاً، ثم أعادتها لي وهي تقول: -إنه رجل يبيع جيداً. كانت تتكلم الإنكليزية بطلاقة. سألت: -من تقصدين؟ -هارولد روبنس مؤلف هذه الرواية، ثم هو يحقد على العرب ألا تعرف ذلك؟ -بالطبع أعرف، هو ليس يهودياً فقط، وإنما صهيوني النزعة هذه الرواية مليئة بالكذب. -ولكنهم يصدقون أحداثها في الغرب. -صحيح.. إنه تقصيرنا نحن العرب. -ومن أي بلد أنت؟ حكيت لهما عن بلادي ثم بدأت أحكي عن جولاتي ورحلاتي.. وأحسست أنني أسرد لهما كل شيء تقريباً عن حياتي في الهند، كأنما تدفعني لذلك قوة خفية.. سحبت علبة سجائري وعرضتها على (راكيش) فاعتذر بلطف وأشعلت سيجارة وأخذت أمج دخانها بشغف وأنا مذهول مما يجري، كأنني في حلم.. ما الذي يحدث لي وأنا أتبادل معهما الحديث بهذا الانفتاح المدهش قلما كنت صريحاً مع غريب كأنني لا أعتبرهما غريبين.. ((آه.. أحلم بهما في نومي، فأراهما بشحمهما ولحمهما يتجسدان أمامي يا إلهي ما أعذب عيني نيلام، إنها تنظر إلي كأنها تحاول قراءة أفكاري أحس أنني ضعيف أمام سحر عينيها)). كانت صداقاتي النسائية عابرة وسريعة، ونادراً ما تأثرت بعلاقتي مع فتاة.. ليس حباً أولاً هذا، فقد مضى حبي الأول بذكرياته وأحلامه دون أن يترك أثراً، بعدما تزوجت الفتاة التي أحببتها حباً عذرياً، ملك علي فؤادي في ذلك الحين، إنه حب، نادراً ما يفلت منه من هم في ميعة الصبا.. (( * 3 * كنا نجلس على أحد المقاعد الحجرية في المحطة ننتظر القطار والنسمات الباردة تخزنا وتلسعنا فنتقوقع على أنفسنا ولم نعد نستطيع تحمل البرد في الشتاء الهندي الجاف، فأخرجت بطانية من بين أغراضها وأعطتنا إياها لنغطي بها جسمينا.. بدأ أخوها يأخذ رأيها على مسمع مني في مصدر (الراميانا) وهل هي حقاً من إنشاد (فيلمنكي) الذي صاغ أبياتها البالغة ثلاثة وأربعين ألفاً؟ كانت خجلة في بدء مشاركتها لنا ولكنها انطلقت في حديثها وقد أغرتها بطولة (راما) في معاركه ضد الشياطين والجن، وفي قدرته على كسر قوس (شيفا) وفوزه بسيتا الجميلة قرينة له، ثم كيف تمكن من قتل (راوان) وإرجاعها إليه بعد أن خطفها ذلك الملك القادر الذي كان يلقب بذي الرؤوس العشرة، لكون رأسه تعادل عشرة رؤوس من رؤوس أعظم الحكماء في ذلك العصر.. وبدأت (نيلام) –وكان اسمها كما في الحلم وكذلك اسم أخيها- تنشدنا بعض أبيات الراميانا- المترجمة للإنكليزية، وهي مأخوذة حالمة.. عرفت منها أنها أنهت دراستها قبل عامين ونصف وفوجئت حين علمت أنها تحمل ماجستير في اللغة الإنكليزية وحين قلت لها: -وكيف تحفظين هذا الشعر الصعب، كنت أظنك تدرسين (الميثولوجيا الهندية) أرى في يدك كتاباً يبحث في هذا الموضوع.. قالت: -نحفظ أبياتاً من الراميانا من المناسبات الدينية الكثيرة التي تجري عندنا، حيث يتناقلها المنشدون في المعابد والاحتفالات الدينية، عدا عن أن الأبيات التي أنشدتها، أحفظها من أيام المدرسة.. بدأت الاستعلامات في المحطة تبث في الميكرفون جملاً هندية سريعة لم أتمكن من فهمها، وحين سألت عن معناها أجابتني نيلام: -القطار قادم الآن، وسيتوقف على الرصيف المقابل، أي أن علينا نقل حوائجنا من جديد عبر جسر المشاة هذا.. ساعدتهما في حمل بعض الأغراض وعلقت حقيبتي الصغيرة في كتفي.. وحين وصلنا الرصيف، كان القطار قد بدأ في دخول المحطة.. كنت أسافر باستمرار في الدرجة الثانية، إذ أن الدرجة الأولى مكلفة جداً وليست مريحة كثيراً، إلا إذا كانت مكيفة، حيث تتضاعف الأجرة حينذاك أيضا.. كانت العربة التي صعدنا إليها شبه فارغة، اتخذنا فيها أمكنة متجاورة وتابعنا أحاديثنا والقطار يتحرك بنا في رحلة الثماني ساعات من (بوبال) إلى (أغرا) بعد نحو نصف ساعة بدأ النعاس يسيطر علي. كنت ساهراً طوال الليلة الفائتة وقد تأخر القطار عن موعده، حينها قال لي الدكتور (راكيش): -أنت متعب حاول أن تنام؟ صعدت أحد الأسرة العلوية وتمددت بثيابي ورحت أغط في نوم عميق، استيقظت بعد مدة لم أتمكن من تحديدها على أحدهم يمد الغطاء فوقي، حين نظرت نحوه لمحت وجهها يضيء بابتسامة ساحرة.. جعلتني أكثر اطمئناناً ودفئاً، ورحت أحلم ببساتين زاهرة وحدائق غناء وأنا وهي نطارد بعضنا بحب.. في نحو العاشرة والنصف استيقظت، كانت الثلاث ساعات التي نمتها كافية لراحتي.. حييتهما وأنا أفرك عيني، وذهبت أغسل وجهي وأسوي شعري، وحين عدت كان أخوها قد أخذ مكاني وهو يقول: -سأنام قليلاً، أعذرني؟ -لا بأس.. جلست قرب (نيلام) فتحت كيساً إلى جانبها، وأخرجت بيضتين مسلوقتين وخبز محشي بالبطاطا والتوابل يسمونه هنا (باراتا). -كل.. أنت جائع. أحسست بدفء كلماتها، طلبت منها مشاركتي قالت لي: -أنا لا آكل البيض، هذا لأخي، لا يقيم وزناً للعادات والطقوس الهندوسية هو ليس نباتياً وقد تشاجر كثيراً مع والدي من قبل، حتى يئس منه.. حسناً سأتناول لقمة فقط من أجلك. أكلت بشراهة إذ أنني كنت أحس بالجوع فعلاً، وحين توقف القطار في إحدى المحطات، طلبت من بائع شاي جوال كأسين من الفخار تحويان شاياً بالحليب على الطريقة الهندية.. أخرجت علبة سجائري وعرضتها عليها فابتسمت وهي تهز رأسها رافضة.. بدأنا نتحدث في مواضيع مختلفة، عرفت منها أن أخيها متمرد على العادات الهندوسية ويعدها متخلفة خيم علينا الصمت قليلاً، وسحبت علبة سجائري للمرة الرابعة قالت: -تدخن كثيراً؟ -أحياناً. -ماذا تعني بأحياناً؟ -قد أدخن في اليوم عشرة سجائر وأحياناً ثلاثين.. هذا يرتبط بوضعي النفسي. في الأماكن الخانقة في القطارات العمومية البطيئة قد أدخن علبتي سجائر، للخلاص من الجو المزكوم بالروائح الكريهة، وحينما تشغلني قضية ما قد أدخن ما يقارب ذلك.. وأحياناً أنسى التدخين تماماً لساعات طويلة. -ألا تتضايق من الدخان الهندي؟ -كنت أتضايق من قبل.. -يقول أخي قد تدخن سيجارتين غير هنديتين، مقابل سيجارة هندية واحدة، إذ تستغرق وقتاً يعادل تدخين سيجارتين غربيتين. -هذا صحيح. -التدخين معيب هنا بالنسبة للمرأة. -ولكني أرى نساءً يدخّن أحياناً. -هؤلاء من الفلاحات أو من طبقة الهاريجان.. يدخّن دخانا رديئاً من أوراق الشجر يسمونه هنا (البيريه). انكشف طرف الساري عن بطنها البديع ولم تحفل بذلك، لم يكن ذلك يستدعي الحشمة.. معظم الهنديات يرتدين الساري ويكشفن من بطونهن وظهورهن. قلت لها: -ألست تحسين بالبرد وأنت ترتدين الساري؟ قالت: -تعودت على ذلك.. انشغلت بالتطلع إلى مجلة هندية بين يديها، وأخرجت أحد الكتب من حقيبتي الصغيرة وبدأت أتابع سطوره التي شدتني إلى سحر الهيمالايا.. وكان أول كتاب أقرأه عن تلك المنطقة الجبلية الساحرة، بعد أن زرتها في الخريف الماضي.. أحسست بجسم نيلام يميل إلي، كانت تغفو وقد مال رأسها نحوي لم أتحرك خشية أن أوقظها، وبعد لحظات كان رأسها على كتفي، أحسست بدفء جسمها الملتصق بي فغمرني حنان عارم، فسحبت بهدوء شالها الملقى قربي، وغطيت جسمها.. أحسست بالحاجة لضمها، إلي، وإراحة رأسها على صدري، وربما لو كنا لوحدنا لفعلت ذلك.. ولكن وجود أخيها، منعني من القيام بأي شيء.. رغم إحساسي بالحرج، إن استيقظ أخوها فجأة.. بدأت تحك رأسها بكتفي وهي نائمة.. تأملت وجهها الأسمر قليلاً، وأنفها الدقيق وشعرها الملقى على كتفها والمفروق في وسطه بعناية.. "بماذا تحلمين يا نيلام؟ أيمكن أن أشاركك الآن في حلمك، أتحلمين بي كما حلمت بك قبل قليل.. ليت لي مكاناً في أحلامك". حدث ما حدث أن يقع، فقد استيقظ أخوها، لم أستطع القيام بحركة لإيقاظها، تظاهرت بأنني منشغل بالكتاب الذي بين يدي.. سمعت صوته يقول: -ألم نصل (غواليار) بعد؟ -لا أعتقد. لم يبد منزعجاً من نوم أخته بلصقي ورأسها على كتفي.. بل قال معتذراً: -أرجو أن لا يكون نوم نيلام يزعجك. -لا.. أبداً. نزل من الأعلى واتجه نحو المغاسل الموجودة في مؤخرة العربة.. أحسست عندها بالراحة، يبدو أن الدكتور راكيش، ليس متزمتاً إلى هذا الحد.. تحركت قليلاً وهي مغمضة عينيها وقالت بالهندية جملة فهمتها: -راكيش ألم نصل أغرا بعد؟ -قلت لها بالإنكليزية: -أعتقد أننا لم نصل غواليار.. فتحت عينيها ونظرت لي ثم سوت نفسها معتذرة. -اعذرني لم أنتبه لنفسي كنت نائمة. رمقتها بحنان: -لم يحدث شيء يستدعي الاعتذار. -أين راكيش؟ -في مؤخرة العربة. قالت بتردد خجلة: -أرآني نائمة على هذا الوضع؟ -نعم.. لا تقلقي هو ذو شخصية متفتحة. -أعلم ذلك، أنا خجلة منه فقط. توقف القطار في محطة ما متمهلاً.. نظرت من النافذة: -هذه غواليار أزرتها من قبل؟ -لا. -هي مدينة جميلة.. بعد نحو ساعة ونصف سنصل أغرا. -أفي غواليار جامعة؟ -نعم ولكن طلبتها لا يحترمون كثيراً الأجانب. نادراً ما يتمكن من الصمود ومتابعة الدراسة في الجامعة، طالب أجنبي إن لم يكن ذا قوة بدنية كافية لتلقين من يتحرش به درساً قاسياً.. تسيطر عصابات الطلبة على الجامعة تقريباً.. ولا يحبها الأجانب لكثرة مشاكلها. -وما موقف الحكومة من ذلك؟ -الحكومة عاجزة أحياناً عن السيطرة على عصابات الطلبة. -شيء مؤسف فعلاً. عاد راكيش وابتسم لنا محييا بمودة.. ثم قال لي: -نيلام أحب إخوتي إلي.. هي صديقتي الوحيدة في العائلة. ابتسمت خجلة.. ولم تتكلم. قلت: -هي أخت رائعة كما أعتقد.. -حين تتعرف عليها أكثر ستعجب بها. ثم وجه الكلام إليها: -أنت متعبة اصعدي وخذي قسطاً من الراحة. نهضت طائعة وصعدت بخفة إلى السرير الأعلى، وقفت قليلاً أسوي الغطاء فوقها وهمست لها وقد لحظت خجلها: -قد تصابين بالبرد. كنت قد تحررت من عقدة وليها الذي ظهر لي إنساناً متفتحاً طيباً.. بدوت أ كثر انشراحاً وأنا أبادل الدكتور (راكيش) الحديث، دخلنا في مناقشة مفصلة حول أثر اختلاف الأديان على الهند الحديثة.. كان مقتنعاً أن التزمت والتعصب يؤثران على تقدم البلد، ولكنه أصر على أن التغيير يحتاج لجهد كبير، قد يستغرق وقتاً طويلاً.. (( * 4 * لم أرفض الذهاب معهما إلى البيت الذي يملكه الأخ في الجامعة أمام هذا الإلحاح منهما في اصطحابي.. وكنت ميالاً للبقاء مع عيني نيلام الساحرتين.. لأشبع نظري من لحاظها ووجهها الجذاب.. عرفني (راكيش) على زوجته، التي بدت متفتحة مثله، تزوجها بعد حب دام عامين.. وبالغت كثيراً في العناية بي بالمشاركة مع نيلام حتى أحسست بالحرج.. نمت في الصالة رغم إلحاح نيلام علي للنوم في غرفتها.. وكان المنزل مكوناً من غرفتين وصالة واسعة بسطت فراشاً رقيقاً على الأرض ومدت فوقه أغطية نظيفة ولحافاً سميكاً: -قد تشعر بالبرد عند الفجر. سهرنا حتى الحادية عشرة.. استأذن راكيش وزوجته بكل بساطة مني.. وتركا نيلام معي لنكمل حديثنا الذي بدأناه في الأسطورة الهندية.. في نحو الحادية عشرة والنصف استأذنتني في الذهاب للنوم ولم أدر كيف جذبت يدها بيدي، وضغطت عليها بحب وأنا أرمقها بنظرات والهة.. سحبت يدها بخجل ولم تلتفت وراءها وهي تودعني وتتمنى لي ليلة سعيدة.. استيقظت في الليل على أحدهم يسوي الغطاء فوقي، أدرت رأسي فتبينتها تحت النور الأصفر الشاحب الذي ينير الصالة قالت وجله: -آسفة.. نهضت جالساً وأنا أشد يدها إلي: -نيلام.. تلفظت باسمها كالهمس: -تعالي إلي. -أرجوك. -اجلسي قليلاً. -اتركني أرجوك قد يستيقظ راكيش. قبلت راحتها ووضعتها على وجهي همهمت بارتباك: -أنا آسفة. انسحبت بهدوء وقد غطت وجهها ثم دخلت راكضة إلى غرفتها. ماذا يدور في خلد الفتاة؟ دخل القلق إلى قلبي.. لم أستطع النوم.. قمت بعمل متهور لم أتمكن من التفكير فيه طويلاً، سويت وضع الفراش وضعت بعض الوسادات داخل الغطاء، كأنني نائم.. ثم بهدوء اتجهت إلى غرفتها.. لم يكن الباب مغلقاً بالرتاج.. كانت ممدودة على السرير نائمة.. أغلقت الباب، ورتجته، واتجهت إليها وقلبي يضرب بعنف مجازفة خطيرة، قد تصرخ الصبية تسبب لي مأساة.. بدأت أرتجف.. وصلت إليها، كالملاك كانت نائمة، بدأت أتأملها على الضوء الشاحب الذي يغمر غرفتها الصغيرة كانت هناك صورة ملونة لكريشنا فوق رأسها، وقربه البقرة، التي درت عليه الحليب وأسقته وهو جائع.. همست بحنان: -نيلام. فتحت عينيها مدهوشة: -ماذا تفعل هنا؟ -سأشرح لك. -أرجوك اخرج. -لا تخافي لقد رتبت الأمر. -اخرج أرجوك. كيف دخلت إلى هنا؟ -اسمعيني دقيقة وسأخرج. -قل ما تريد بسرعة واخرج لا تورطني.. -((نيلام)).. تركت لعيني تنطقان لم أستطع أن أردد غير اسمها انكبت على يدي تقبلهما وهي تبكي.. -((نيلام.. انظري.. ماذا يدور في رأسك حدثيني؟)) رفعت رأسها كانت الدموع تسيل على خديها: -اخرج الآن أرجوك.. -حسناً.. شددت على يدها بحب بالغ.. وانسللت خارجاً من غرفتها. × × × استيقظت متأخراً كانت الساعة نحو التاسعة، لم تكن هناك أية حركة في البيت اعتقدت أنهم ما يزالون في نومهم، ولكن صوت نيلام وصلني: -صباح الخير. تبعها صوت راكيش وزوجته. قال راكيش: -لم نشأ أن نزعجك، كانت رحلة متعبة أمس استأذنتهم لدقائق واتجهت صوب الحمام، وحين عدت بعد دقائق كان المكان نظيفاً مرتباً، وراكيش يجلس على أحد الكراسي باللباس الهندي الأبيض يطالع صحف الصباح. توجه نحوي وقد ألقى بالصحيفة التي كان يقرؤها جانباً: -ما هو برنامجك اليوم؟ -سأتجول في المدينة، التقط بعض الصور، وأزور بعض المناطق الأثرية، وقد أسافر هذا المساء إلى عليكار، المدينة القريبة من هنا.. -عليكار؟ ولماذا؟ لا تذهب إليها هذه الأيام هناك منع تجول ومشاكل طائفية.. وقد انتشر الجيش في معظم المناطق. -نفس المشاكل الطائفية المألوفة أم أن هناك أموراً جديدة تجري؟ -نعم، مشاجرات ومشاحنات وقتال أحياناً بين المسلمين والهندوس.. لا أدري ماذا يدور في خلد هؤلاء الناس البسطاء؟ أتعرف لا يمكن لبلادنا أن تشهد استقراراً حقيقياً ما دامت الديانات هي التي تحكم.. -أنا معك.. ولكن لم لا تحاول الدولة سن قوانين صارمة للحد من هذه المشاكل المتفاقمة؟ -بلاد ديمقراطية، ولكن الوجه الحقيقي للديمقراطية يبدو الآن زائفاً. الجهل والأمية والفقر، من أهم مسببات الفتن التي يوجهها أفراد الأحزاب المتصارعة بالولوج إلى هؤلاء البسطاء وتسييرهم بطرق الأحلام.. والموت في سبيل قضايا ليس من مصلحتهم الانشغال بها.. دخلت نيلام مع زوجة راكيش: -الإفطار جاهز.. كان الإفطار شهياً مكوناً من (الباراتا) والبيض والجبن و (الشاباتي) والزبدة المملحة إضافة للشاي والحليب. قال لي راكييش: -ما رأيك لو تتجول في المدينة مع نيلام، قد تساعدك بلغتها ثم تعودان ساعة الغداء؟ -أخاف أن أثقل عليها بأسئلتي الكثيرة. -لا تقلق من هذه الناحية هي واسعة الثقافة، وستفيداك في عملك؟ ثم أنك بذلك تريحني من جزء من واجباتي نحوها في اصطحابها لزيارة المناطق الأثرية. من تاج محل إلى (الرد فورت) إلى قلعة أكبر.. تلح علي لزيارتها كل مدة.. تعلم نحن الهنود نحب زيارة المناطق الأثرية باستمرار.. هي جزء من تاريخنا.. سحبت علبة سجائري وبدأت أمج الدخان بشغف وقد انتابني سرور لا يوصف.. حين دخل راكيش وزوجته إلى غرفتهما، سمعت صوت الزوجة تتكلم معه، وقد تردد اسم نيلام أكثر من مرة.. نظرت إلى نيلام استشف منها ما يجري فقالت هامسة: -زوجة أخي تعاتبه على السماح لي بالذهاب معك منفردة.. ولكني واثقة من أنه لن يتراجع عن قراره. -سأكون سعيداً بذلك. أطرقت خجلى.. نهضت أجهز (الكاميرا) وأضع فيها فيلماً جديداً واضعاً في اعتباري أن راكيش لن يتراجع عن قراره في إرسال نيلام معي. وبعد لحظات أتى إلينا وهو يقول لنيلام: -استعدا ستغادران خلال دقائق أمامكما مناطق كثيرة تزورانها.. نظرت إلي بود وهي تبتسم ثم انفلتت مسرعة إلى غرفتها.. قال لي راكيش: -انتبه جيداً قد تثير بعض الفضوليين ونيلام معك.. حافظ عليها.. شددت على يده وأنا أشعر بسرور لا يوصف: -لا داعي لهذا الكلام، هي أمانة في عنقي. -لا تتأخرا كثيراً، نحن في انتظاركما على الغداء. × × × قلت لنيلام ونحن نتجه صوب موقف /السكوترات/: -فعلت جيداً، بارتدائك البنطال.. تبدين من بلاد أخرى. وقبل أن ندخل السكوتر همست لها: -تكلمي الإنكليزية فقط، لا تتركي مجالاً للتقول، بحديثك بالهندية ما رأيك لو نبدأ بزيارة (الرد فورت) (القلعة الحمراء). توقف بنا السكوتر أمام الطريق الحجري الصاعد، المرصوف والمحاط من جانبيه بجدارين عاليين، في حين التف حولنا بعض باعة التحف الأثرية والتذكارات والصور الملونة.. التقطت عدة صور قبل أن نبدأ في صعود الطريق الذي يفضي داخل القلعة.. كنت سعيداً وأنا أسترق النظر إليها قربي. كانت تبدو على أتم نضارة وجمال في بنطالها و(البلوز) الرمادي وحقيبة يدها المعلقة في كتفها.. اقترب أحد المتسولين منا قبل أن ندخل الباب، كان كهلاً رث الثياب نحيفاً.. أخذ يهمهم بكلماته.. نقدته بعض المال ونيلام تضحك، ولما سألتها عن السبب قالت: -إنه يسأل فشنو أن يمدنا بالعون، ويمنحنا طفلاً، اعتقدنا زوجاً وزوجة.. أمسكت يدها وتشابكت أصابعي مع أصابعها.. وبدأنا نتجول داخل الرد فورت في ردهاته وقاعاته وحدائقه.. قبل أن نستقر في فسحة عشبية واسعة حيث طلبنا من أحد الصبية إحضار كوبين من الشاي بالحليب.. وكنت أنا المتكلم بهندية ركيكة.. استرحنا لدقائق قبل أن ننطلق متجهين إلى تاج محل.. (( * 5 * وصلنا (تاج محل) وحين دخلنا السور المحيط بالمنطقة كانت الأسواق التجارية تنتشر على الجانبين وهي مليئة بالتحف الشرقية والحرير الهندي، وتماثيل العاج والعقود والأساور.. اشتريت بطاقتي الدخول قبل أن ندخل في السور الذي يحيط بالتاج، على البوابة الخارجية الضخمة كتبت آيات قرآنية بخط كوفي آيات سورة (الشمس) كاملة وسورة الضحى وآية الكرسي وسور أخرى.. وانبسطت أمامي حديقة واسعة، مزينة بالزهور يتوسطها طريق مرصوف بالبلاط في منتصفه قناة مائية طويلة، سرنا على أحد جانبيها نتبادل الحديث، وأمامنا يرتفع تاج محل بقبابه الأربع، وحتى نصل باحته الخارجية كان من اللازم أن نصعد درجاً، حيث انتشر في نهايته الناس، يخلعون أحذيتهم قبل الدخول إلى حرم الضريح، على مدخله الرئيسي كتبت بخط جميل آيات قرآنية من سورة الضحى، وسورة الليل، وارتفع بناؤه المرمري الأبيض الجميل المتناسق، كان المكان يعج بالزوار، تجولنا في ردهاته الواسعة، عرض علينا أكثر من دليل مرافقتنا طمعاً بالبخشيش، ولكننا اعتذرنا بلطف بنى شاه جهان خامس امبراطور مغولي، هذا الضريح الضخم، لزوجته ممتاز التي أنجبت له أربعة عشر ولداً خلال عشرين عاماً من حياتها معه، طلبت منه وهي تحتضر أن يبني لها ضريحاً يخلدها ويخلد حبهما. وظل الضريح يرتفع ببنائه، لسنوات طويلة أمام عيني الإمبراطور المغولي الذي كان يراقب البناء وهو في قلعة جده أكبر، حتى اكتمل، كلف الكثير، وشارك مئات المهندسين والبنائين في تشييده، ورزح تحت ثقل حجارته الضخمة آلاف العبيد، على جدرانه الداخلية رسومات وزخارف ونقوش مطرزة بالحجارة الكريمة وفي القبو داخل التاج، قبر شاه جهان وقبر زوجته، متجاورين، يجلس بينهما شيخ يقرأ القرآن أحياناً ويوزع عقود الياسمين على الناس الذين ينقدونه بعض المال، ونحن نتجول في التاج، خرجنا إلى باحته الرئيسية التي تطل على أرض سهلية جرداء خلفه انتشرت فيها المستنقعات قالت لي: -يا له من أثر بالغ الروعة، كم كان شاه جهان يحب زوجته، وكم وفى في تشييده لهذا البناء، لذكراها. -ما من أثر كبير في العالم، إلا وبناه الملوك على أكتاف العبيد، قد يكون هذا رمزاً للحب، ولكن الناس سواسية في قبورهم بعد الموت. إنه أثر خالد، بني فوق جثتين، تنغل فيهما الديدان، كجثة فقير هندي. قاطعتني: -نحن نحرق الموتى. هو أمر غير قابل للطعن في ديانتنا. -تبدين هندوسية متعصبة؟ -لست كذلك، ولكنني مع هذه العملية. نظرت إلى ساعتها: -تأخر الوقت علينا، إنها الواحدة. -حسناً. ارتدينا أحذيتنا، واتجهنا صوب باب الخروج، سألتني في الطريق: -ألا تحب شراء بعض التحف؟ -قد أرغب بشراء التحف، ولكنها ستثقل علي تحركاتي في شبه القارة الهندية.. ابتسمت: -معك حق.. كانت تحدق شاردة فيما حولها ونحن نقطع الطريق المزدحم بالناس وحولنا محلات تعرض التحف والهدايا سألتها: -ما بك تبدين حزينة؟ نظرت لي بعمق ولم تجب.. ثم سألتني بعد لحظات: -هل سترحل اليوم؟ -أظن ذلك، أحس أنني أثقلت عليكم بإقامتي. -كيف؟ أعجب بك راكيش كثيراً، وقد همس لي قبل أن أخرج أن لا أزعجك وأوفر لك الراحة التامة في جولاتك في أغرا. كنت أفكر بمغزى تلك الكلمات وقد أحسست أن هماً يؤرق الصبية، سألتها: -ألسنا صديقين؟ -أظن ذلك. -إن كنت فعلاً تؤمنين بصداقتي رغم قصر مدة تعارفنا، حدثيني إذاً.. نظرت إلي بطرف عينها، ثم قالت بصوت خافت: -ماذا تقصد؟ -لا تنكري يا عزيزتي، أنت بحاجة لمن يقف معك، أنا متأكد أنك في محنة.. ظلت مطرقة وهي تسير بهدوء تابعت كلامي: -أحس بأن في داخلك حزناً عميقاً، تتمنين لو أن أحداً تثقين به يريحك من آثاره البغيضة.. قالت أخيراً: -وما الفائدة؟ -صحيح، ما الفائدة وأنا سأرحل اليوم، ربما، وأنا الغريب المتجول، قد أحسست بقربي منك رغم ظروف تعارفنا السريع.. اسمعي يا نيلام سأقول لك شيئاً، أنت بحاجة لإنسان تثقين به وتلقين همومك على صدره، لست عابر سبيل منذ أن أحسست بثقل رأسك على كتفي في القطار، هكذا ببساطة أشعر أن لقاءنا ليس عابراً.. آه لو تعلمين.. كأنني أعرفك من سنوات.. حلمت بك قبل أن ألقاك. كنا قد وصلنا إلى موقف (السكوترات) قالت وقد رغبت في قطع الحديث: -لنصعد، أخي ينتظرنا. -حسناً. كان سائق السكوتر يعرف الإنكليزية، تحدث معي بود يسألني عن مقصدي.. أجابته نيلام بالهندية، نظر من مرآته إلينا بفضول قبل أن يدير المحرك وينطلق استغربت منها سبب كلامها بالهندية، كانت في الطريق شاردة.. ويبدو أن شرودها قد أنساها اتفاقنا أن لا تتحدث بالهندية.. أيقنت أن أمراً خطيراً يشغل بالها. خلال الطريق حاولت الحديث معها كانت تكتفي بكلمة محاولة عدم فتح باب النقاش". × × × وصلنا البيت أنقدت السكوتر الأجرة وصعدت خلفها الدرجات القليلة فتح راكيش الباب باشاً كعادته سألني: -كيف؟ أقضيتما وقتاً ممتعاً مع آثار أغرا؟ -نعم كان ممتعاً حقاً، نيلام فتاة ظريفة واسعة الثقافة.. ابتسم بسعادة وقال: -الغداء جاهز لابد أنك جائع.. -فعلاً.. أدهشني صمت نيلام وعدم إجابتها عن أسئلة أحببت طرحها، إلا باقتضاب بالغ، أخذت أراجع تصرفاتي معها محتاراً. كان الغذاء مكوناً من (الكاري مع الدجاج) والرز المسلوق، والشاباتي، والخضراوات المطبوخة.. وكانت زوجة راكيش تقدم لي الطعام كل فترة لأنتقي ما أريد.. صممت على السفر عصر ذلك اليوم إلى(اليغار) التي تبعد نحو الساعتين ونصف في الباص، حاول راكيش إقناعي بالبقاء لأيام أخرى، ولكني اعتذرت متعللاً بضيق الوقت. إذ أن مهاماً أخرى بانتظاري، أوصلني حتى (الباص ستان) بعد أن ودعت نيلام التي فشلت في حبس دموعها، وضمت زوجة راكيش يديها وأحنت رأسها (رام رام جي) بالوداع المعهود.. كان أمامي ثلث ساعة قبل أ ن تنطلق الحافلة أصر راكيش على البقاء معي حتى (حركة الحافلة) حدثني عن عمله في الجامعة، وعن (نيلام) التي يحبها، وطلب مني أن أحدثه عنها، وما الفكرة التي حملتها عنها. -هي فتاة جيدة مثقفة كما قلت لك. -ألم تلحظ أية تصرفات غريبة منها؟ -أبداً.. لماذا تسأل هذه الأسئلة؟ -ارتبك في إجابته: -لا.. لا.. لا شيء. لم أفهم مغزى إصراره على أخذ رأيي بأخته، وحين تحركت الحافلة في رحلتها البطيئة وبعد أن لوحت له بيدي مودعاً، أخذت أفكر براكيش وسبب كثرة أسئلته حول نيلام.. حاولت أن أشغل نفسي بالتطلع إلى الركاب ومعظمهم من الفقراء، تلوح التعاسة من وجوههم وقد وضع كل منهم صرته الكبيرة أو حقيبته الثقيلة قربه والنساء يحملن أطفالهن وبعضهن يتسلين بتقشير (المونفلي) وأكله.. والمونفلي نوع من الفستق صغير الحب.. وقفت الحافلة عدة مرات في الطريق، والجابي ينتقل بحقيبته الجلدية يجمع روبيات قليلة من الركاب الذين يصعدون والسائق يتحرك بسرعة في طريق ضيق ذي اتجاهين.. حاولت إقناع نفسي بأن تعارفنا كان عابراً، وأنه بعد أيام قليلة قد أنساها كنت أغفو على حركة الحافلة وأستيقظ على ضجة الركاب الداخلين والخارجين، ورنين جرس الأبواب، التي يشدها الجابي الذي يحسب غلته.. تعطلت الحافلة في (هاتراس) وهي مدينة صغيرة تبعد نحو (20) كيلومتراً من (اليغار) ظل الركاب ينتظرون وكانت الشمس قد جنحت إلى المغيب.. أحسست بالملل من الانتظار فقررت الاتجاه صوب محطة الحافلات القريبة لأستقل حافلة أخرى، أقلتني (ريكشا) حاول سائقها أن يتبادل الحديث معي وكنت شارداً قليلاً، وهو يقطع الطريق، حين حانت مني التفاته في أحد الشوارع إلى مجموعة من الفتيات على شكل نصف دائرة وقد علت وجوههن الأصباغ المختلفة، وهن يقفن بثياب قليلة نصف عاريات.. سألت السائق (ريكشا) بالهندية: -ما هذا؟ فغمزني وخفف سرعته: -فتيات للمغازلة يا سيدي، هل أقف؟ كنت أتأملهن وهن في وقفتهن يعرضن مفاتنهن، وبعض الشبان يتفرجون عليهن، وتدور بينهم حوارات عن السعر والمدة... توقف سائق الريكشا وقد رآني أحدق بفضول، والتف عدد من الفتيان الصغار حولي بإنكليزية ركيكة: -أتريد فتاة؟ خمسون روبية فقط؟ ربما لو كنت هندياً لوصل المبلغ إلى عشر روبيات.. - اختر أي فتاة يا سيدي.. قلت بالهندية: -لا.. لا أريد.. الفتيات يقفن بذل، كسيرات النظر.. في (هتراس) شوارع صغيرة مليئة بأمكنة الدعارة، ويقصدها الناس من القرى والمدن المحيطة بها.. تحرك سائق الريكشا مسرعاً على صراخي وقد كنت أفكر بالرقيق الأبيض الذي تنتشر تجارته في معظم البلدان الآسيوية الفقيرة، (تايلاند- تايوان- أندونيسيا- الهند- الفيليبيين) وصلت محطة الحافلات أسأل عن (حافلة) تنقلني إلى (اليغار) دلني أحد الشبان على حافلة كان نصف الركاب يقفون في وسطها، كانوا محشورين داخلها تماماً، ((وهذه آخر حافلة)) تعلقت بالباب وقد بدأت بالحركة.. وكأنني حصلت على غنيمة.. وبعد دقائق أخذ الركاب ينزلون من المحطات في قراهم المنتشرة على الطريق وقبل (اليغار) بعدة كيلومترات جلست على أحد المقاعد في المؤخرة وأنا متعب تماماً.. (( * 6 * قال لي محمد أحمد مدير بيت الضيف في جامعة اليغار وقد حدثته عما رأيته في (هاتراس): -الفقر هو سبب البلاء، تلجأ بعض العصابات لخطف الفتيات الصغيرات، ويدربونهن على الرقص والغناء والدعارة حين يكبرن، ما شهدته ليس سوى أمر عادي.. في كلكتا أماكن خاصة تباع الفتاة لتصبح ملكاً لسيدها مدى الحياة.. طبعاً هذا ممنوع ولكن الهند يا سيدي بلد كبيرة غزيرة السكان، فقيرة أيضاً.. -ألا يزال التجوال ممنوعاً في المدينة؟ -خلال الليل فقط.. -وما السبب؟ -الفتن الطائفية، منظمة الـ (أر. أس. أس RSS) وهي المنطقة التي اغتالت غاندي، هي سبب هذه الفتن.. منظمة تقول الهند للهندوس، وحكومة (الجاناتا) تدعمها.. -كيف تثير هذه الفتن؟ -في (اليغار) المحلات متلاصقة، هندوس، ومسلمون.. تعتدي على هذا وتوغر صدر جاره وهكذا.. -حسناً في الغد سنزور المدينة إذن.. -لماذا تستعجل زيارتها، لن تهرب منك؟ أحضر الخادم الملتحي الشاي وهو يسلم. سألني (محمد أحمد): -أتحبه بالحليب؟ قلت: -لا بأس.. انضمت إلينا نزيلة إحدى الغرف، وهي عجوز في الستين من عمرها، تعتني بولدها الوحيد (موني) الذي يدرس الطب وهي زوجة أستاذ وعالم في ميكانيك الآلات في جامعة (لاكناو) تعارفنا سريعاً- وبدأت تتحدث عن ذكرياتها في لندن بينما كان زوجها يحضر الدكتوراه وهي تعمل في السفارة الهندية هناك.. ثم أخذت تتحدث بود عن (أنديرا غاندي) فقد عاشت الهند في أيام حكمها أياماً لا تنسى، حتى جاء تجمع أحزاب (الجاناتا) اليمينية للحكم، فبدأت الفوضى والاضطرابات تدب في كافة المقاطعات الهندية. قلت لها معلقاً: -ولكنهم نجحوا في الانتخابات.. هزت رأسها: -نعم، استغلوا حالة الطوارئ التي أعلنتها، وشنوا عليها وعلى حزب المؤتمر حرباً إعلامية، فصدقهم البسطاء.. -ماذا عن سانجي ابنها؟ -ربما كانت طريقته في التعقيم غير صحيحة، رغم اقتناعي الشخصي بها، غزارة السكان وتكاثرهم غير المحدود خلق مشاكل كثيرة في بلادنا.. -تقول المعارضة أنه كان يوقف حافلة في أي مكان فيدخل كل الرجال إلى مستوصفات ميدانية لتجري عليهم عمليات لا ينجبون بعدها.. -كلها أكاذيب، وادعاءات المعارضة لتشويه صورة (أنديرا).. ظل الحديث يدور بيننا حول هذا الموضوع، حتى حضر البروفسور (زيدي) زوجها الذي كان في زيارة رئيس الجامعة في منزله، سلم علي بترحاب.. وشرب الشاي معنا قبل أن يدخل وزوجته إلى الداخل.. بقيت في الصالة، أدخن وأكتب بعض اليوميات قبل أن أدخل إلى غرفتي لبعض الوقت حيث جهزت الشبكة الرقيقة فوق السرير وقد ازدحم الجو بالبعوض كما انتشرت في السقف بعض الزواحف الصغيرة من نوع (أبو بريص) تطارد البعوض بألسنتها الطويلة.. تمددت لدقائق في السرير- وعاودني طيف نيلام يزيل عني التعب أخذت أراجع ذكرياتي معها واختلطت علي المشاعر حتى غفوت أخيراً.. × × × كنت أجلس في بيت الضيف نتحادث أنا ومحمد أحمد، حين قدم ساعي البريد سلم مدير بيت الضيف عدة رسائل وغادر المكان على دراجته مودعاً بعبارات المجاملة الرقيقة من محمد أحمد، قلب الرسائل ثم ناولني بطاقة ملونة.. كانت من نيلام كما توقعت، تستفسر فيها عن صحتي وأحوالي مع عبارات رقيقة تحمل في طياتها مشاعر الود، وتذكرني برحلة القطار الطويلة والأحاديث التي تبادلناها، وتطلب مني مراسلتها.. وذيلت البطاقة بعبارة (راكيش يذكرك كثيراً وهو معجب بك). كنت ساهماً شارداً أستعيد في ذاكرتي صورة نيلام المشرقة والساعات التي قضيناها معاً حين نبهني محمد أحمد: -أرجو أن لا تكون هناك أخبار سيئة.. -إنها من صديق يعاتبني لأنني لا أراسله.. بدأ يحكي لي قصة عن أصدقائه وعدد الرسائل التي يتلقاها كل أسبوع، وغرق في تفصيلات شردت عن متابعتها وأنا أفكر ببطاقة نيلام.. كأن الفتاة ترغب فعلاً بصداقتي، ولم يكن لقاؤنا مجرد لقاء عابر. -هي بهي آكيلا آب؟ (أراك تجلس وحيداً يا أخ؟). كانت السيدة (أم موني) زوجة البروفسور زيدي.. جلست على الكرسي المقابل وهي تريح جسمها المتعب.. سألتها: -لم يعد (موني) بعد من الجامعة؟ -دروسه تمتد حتى المساء هذا اليوم، سيتغدى في الكلية. ثم تابعت حديثها وهي تتنهد: -الشمس دافئة هذا الصباح، أبلادكم باردة؟ -أشهر الصيف ثلاثة فقط، وأشهر الربيع والخريف جميلة جداً. -أتحب الخريف؟ -فصل له عذوبته.. لماذا تسألين ونحن على أبواب الربيع؟ -أكره الخريف كثيراً، حينما كنت في لندن في سفارتنا هناك أجهضت ولدي الثاني في تشرين أول وكنت أراقب الأوراق الصفر وهي تتساقط من الشجر، لذلك أحس بالكآبة في هذا الفصل.. أقبلت على باب الحديقة ريكشا تقل فتاة شقراء ومعها حقيبة ضخمة وراءها. -زائرة جديدة، ترى ما جنسيتها؟ قلت ضاحكاً: -ليست هندية طبعاً.. كانت الزائرة الشقراء فتاة كندية تشتغل بالبحث وتتقن الأوردو إضافة لثلاث لغات شرقية أخرى هي العربية والفارسية والهندية وأربع لغات أوروبية هي الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية. كانت (مارسيا هرماتسن) في نحو الخامسة والثلاثين من عمرها عزباء، تتابع بحوثها في جامعة شيكاغو حول الصوفية وقد أتت الهند لنبش الكتب القديمة في مكتباتها والتعرف على منابع الصوفية الإسلامية فيها.. انضمت على العشاء وبدأت تظهر براعتها بالتحدث بلغتنا العربية وبلهجاتها المحلية في مصر وسوريا والعراق لم يخف (محمد أحمد) امتعاضه من وجودها بيننا وقال لي: -إنها مدربة جيداً، قدمت بتخطيط مدروس لسرقة مخطوطاتنا القديمة، ومكتبة (مولانا آزاد) مشهورة بمخطوطاتها الأثرية.. ورغم أنه كان كلاماً سابقاً لأوانه فقد دفعني إلى الشك بمارسيا خاصة حينما أوصلتها إلى المركز الأمريكي للمعلومات في دلهي الذي تقبض منه مرتبها الشهري ومكافآتها.. وحينما تأخرت في الداخل وكان السكوتر يقف على بعد أمتار من المبنى رغبت في استعجالها فدخلت اسأل عنها.. وحينما خرجت صاحت غاضبة: -لماذا دخلت إلى هنا؟ المجيء إلى هنا ممنوع لأي أجنبي مهما كانت صفته.. نظرت إليها بعمق ولم أتكلم.. وكأنما أحسست بمدى ما تحمله نظراتي من اتهام صريح لها فسارعت للاعتذار.. -نبهني مدير المركز والموظفون فيه إلى ضرورة السرية في دخولي وخروجي، وأن لا أصطحب معي أحداً.. لم أتكلم طوال الطريق وأنا أفكر بعمل مارسيا، رغم محاولاتها المتكررة أن تبعدني عن التفكير بالموضوع.. وفي نفس الليلة أدرت معها حواراً حول الصوفية، اكتشفت من خلاله مدى ضآلة معلوماتها وهذا ما زاد من شكوكي بمهمتها العلمية، كما حاولت أن تفسر بها سبب وجودها في الهند. × × × رغم أن علاقتي بمارسيا لم تتعد علاقتي بأية فتاة أخرى، علاقة عابرة سريعة.. فقد.. تركت في نفسي أثراً سيئاً عن أولئك القادمين من الغرب الذين يحاولون معرفة سر السحر الشرقي وسرقة آثاره وتزويرها وهذه قضية هامة جداً. أرسلت لنيلام رسالة رقيقة أحكي فيها شيئاً عن نفسي وحوت الرسالة عبارات الإعجاب بها وبشخصيتها.. ربما مجاملة لرسالتها ودعوة للاستمرار بالمراسلة. × × × كنت مشغولاً في الجامعة، وعدت تعباً في ذلك اليوم الذي لن أنساه، كان يوماً ربيعياً مشرقاً الطيور تغرد، والطبيعة مزدانة بالخضرة في حرم جامعة (عليكرة) الذي يعد من أجمل المناطق الجامعية، فتحت الباب وإذا برسالة موزع البريد داخل الغرفة، كانت رسالة سميكة من نيلام فتحتها بلهفة لأقرأ بذهول سطورها: ( * 7 * أغرا- في 22 آذار 1983 "عزيزي" تلقيت رسالتك اليوم، وأسعدتني عباراتها، كأنك الحنان الذي حرمت منه في حياتي روت رسالتك ظمئي إلى الإنسان في معرفته وشخصيته وحنانه ولكنها أملت علي شيئاً قاهراً، أن أحكي لك كل شيء عن (نيلام) المعذبة، نيلام التي جاءت إلى هذه الدنيا تحمل وزر الأجيال التي عاشتها من قبل.. نيلام التي وجدت فيك الصديق، العزيز على القلب، الأمل النابض بالحياة، نقطة الضوء في ظلام دامس.. كنت صبية مدللة لأب يعمل موظفاً في الدولة وأم طيبة ترعى شؤون البيت وكنا وحيدين أنا وأخي راكيش.. وقد أعطانا والدي الشعور بالأمن والحرية التي أحسسنّا استخدامها كما أعتقد، إذ أننا لم نخرج عن الخط المألوف يوماً، وهكذا مرت الأيام أصبحت صبية جميلة وكنت أسمع عبارات الإعجاب في كل مكان، ولكن ذلك لم يجعلني مغرورة متكبرة.. وكان أبي يحبني كثيراً ويبالغ في تدليلي، رغم عدم رضا أخي راكيش الذي قال له يوماً بحضوري: "قد يفسد دلالك نيلام حاول أن تخفف منه" ولكن أبي أجاب حينها: "هذه الابنة الجميلة لن تكون مثل الأخريات، إن وعيها المتفتح يمنعها من أن تغرق في الغرور والفساد" نظر إلي راكيش بعمق" أنت محظوظة كثيراً أيتها الصغيرة، وأرجو أن لا يحدث ما يعكر عليكما صفو هذا الحب الأبوي الممتاز". وكنت في نهاية الماجستير، حين دخل حياتنا شاب، أقام علاقة مع أبي، حيث عرفه على نفسه على أنه ابن أحد أصدقائه القدامى، وكان صديقاً عزيزاً على والدي، عملا معاً في خدمة الحكومة في ولاية تاميلنادو الجنوبية، لعدة سنوات وكانت علاقتهما وثيقة، ومنذ أن انتقل والدي إلى (بوبال) لم يعد يسمع أخباره وكان ذلك قبل عشر سنوات من دخول هذا الشاب إلى حياتنا.. كان شاباً وسيماً ومحدثاً لبقاً، يعمل –كما عرفنا على نفسه- في إحدى الشركات الدولية في (بومباي) وهي شركة نقل بحري معروفة.. وأكثر من التردد علينا وكان راكيش عندها يتابع دراسته العالية في مانشتسر في بريطانيا.. ولم أكن أجلس معه إلا فيما ندر.. كان وثيق الصلة بوالدي، ويظهر احتراماً كبيراً له، وكان لطفه وكياسته مثار إعجاب والدي ووالدتي، التي كانت تغمز لي أحياناً من أنه شاب مناسب لي وقد أصبح في بيته زوجة سعيدة.. ولكن كنت أعتبره مجاملاً أكثر من اللازم رغم محاولته جذب اهتمامي بشتى الوسائل.. ولم أستغرب يوم أن فاتحني والدي برغبة –سانجي- وهذا هو اسم الشاب، في الزواج مني. وهو ينتظر رأيي على أحر من الجمر.. قلت لوالدي: -وماهو رأيك أنت؟ قال: -هو شاب جيد يا ابنتي وعائلته معروفة، وكنا أ كثر من الأخوة أنا ووالده وكان يدللك كثيراً ويصر على جلب الحلوى والهدايا الصغيرة دائماً لك، وفي رأيي لا ترفضي هذه الفرصة، فنحن في حالة جيدة الآن.. لم أتردد كثيراً في اتخاذ قرار الموافقة وأنا أرى والدي متعلقاً به إلى تلك الدرجة، وحاز قبولي على استحسان والدي ودعائه لي بالتوفيق. وهكذا تم الزواج، وأعطاه والدي (خمسين ألف روبية)، واشترى له سكوترا من نوع (بجاج) وكثيراً من الهدايا القيمة الأخرى.. وفي حفلة العرس، فوجئنا بعدم حضور أهله، وببرقية اعتذار طويلة من أنهما لم يتمكنا من الحضور لأسباب قاهرة، وأنهما سيأتيان لزيارة الأهل في القريب العاجل، وبرر (سانجي) عدم حضور والديه إلى اشتداد المرض المزمن على والده وأنه حالما يرتاح قليلاً، سيأتي لزيارتنا.. كانت حفلة صاخبة، حضر راكيش من بريطانيا خصيصاً، وكان صامتاً لم يظهر الرضى على ذلك الزواج السريع رغم محاولات والدي ووالدتي إدخال البهجة على قلبه، لم أفهم راكيش في تلك الأثناء، وقد انزعج كثيراً لعدم حضور أهل سانجي وبدأ يعامله بفتور إبان حفلة الزواج، ولكنه لم يظهر أي شيء لأهلي.. وكنت حزينة جداً وأنا أزف إلى ذلك الشاب الغريب الذي اصطحبني في مقصورة خاصة إلى بومباي.. وكان في الطريق آية في اللطف والكياسة وهو يحاول بمرح إزالة عبوسي وحزني.. وصلنا بومباي، واصطحبني إلى بيته الكائن في منطقة معروفة أشبه بفيلا صغيرة، صرف الخادم الشاب حال مجيئه وصرنا لوحدنا أخيراً.. كان بارعاً في الغزل، وكنت خجلى لدرجة أنه صرح لي بأن خجلي لا يطاق: -نحن زوجان الآن حاولي أن تسايريني.. ولكني كنت معذورة، شأن أية فتاة تعيش فجأة مع رجل غريب، دون تجربة سابقة ظللنا على تلك الحال أسبوعاً، وبعد نهاية الأسبوع طلبت منه مرافقتي لعند أهلي، فقال: -تستطيعين الإبراق لهم أننا سنأتي إليهم بعد عشرة أيام، لأن مدير الشركة وهو من أصل إنكليزي، قد أتى الآن، في جولة تفتيشية على كافة الفروع في المرافئ الهندية ويحتاج الأمر لعدة أيام ولن يسمح لي بإجازات إضافية حتى يرحل مدير الشركة.. وهكذا أبرقت لوالدي (وكان راكيش قد عاد إلى مانشستر) بأنني سأحضر بعد عشرة أيام كما قال سانجي.. وبعد يومين قال لي سانجي: "سأترك الخادمة العجوز عندك وسأذهب في رحلة عمل إلى كلكوتا لمدة يومين لا تخافي، حين عودتي، سأحاول أخذ الإذن باصطحابك إلى أهلك". ودعني بحرارة وهو يكمل: -"هناك بعض المال في الخزانة، تستطيعين استخدام ماشئت منه إن احتجت.. وهكذا سافر سانجي، وفي مساء يوم سفره أتت عجوز كبيرة السن كانت تأتي أحياناً إلينا، وقالت لي إن السيد كلفها أن ترى حاجتي وستنام عندي، وهكذا باتت ذلك اليوم ثم غادرت ظهر اليوم التالي بحجة أنها ستذهب للاطمئنان على ابنها المصاب بحادثة تحطم باص صدمه قطار سريع.. وذهبت وكنت خلال تلك الفترة أحس بملل غريب، وخرجت بعد ذهاب الخادمة إلى أمام البيت أتأمل البيوت المحيطة بنا وكان في الجانب المقابل عيادة طبيب، وخلفها يقع منزلـه، كانت هناك امرأة في نحو الخمسين من عمرها على باب العيادة ترتدي ثوباً أبيض، يبدو أنها الممرضة، حين خرجت نظرت ناحيتي بفضول شديد وكانت العيادة خالية من الزبائن، انسحبت إلى الداخل وأنا أحس بنظراتها تلاحقني وعدت إلى حالة الملل ومر الوقت بطيئاً مزعجاً، ولم تعد الخادمة العجوز، وفي نحو الثامنة وكنت أغفو على الكنبة تحت المروحة والحرارة شديدة في ذلك الوقت من أيار حين دق جرس الباب، تنهدت بارتياح، لقد عادت العجوز أخيراً –فتحت الباب لأفاجأ برجل يحمل في يده صندوقاً وهو يدفعني ويقول: -أنا صديق سانجي، إنه في السوق سيعود خلال دقائق. طمأنتني هذه الكلمات قليلاً والرجل الغريب يتأملني. -جهزي العشاء زوجك جائع جداً. نهضت إلى المطبخ وأنا أرى الرجل الغريب يضطجع على الكنبة وكنت غارقة في العمل حين فوجئت بالرجل الغريب يحيطني بذراعيه من الخلف: -نحن وحيدان يا حلوة.. انتفضت بين ذراعيه: -سيأتي سانجي وسأقول له. انفجر يضحك: -سانجي هو الذي أرسلني إليك.. إنه وغد حقير لقد وقعت يا حلوة.. لا أستطيع أن أسرد لك تفاصيل ما حدث، كانت ساعات شديدة القسوة تحملت خلالها الذل والضرب والإهانة وكنت أحاول الصراخ في البداية لينقذني الناس في الخارج والضرب ينهال علي قبل أن يغمى علي أخيراً، وحين صحوت كان الرجل راقداً فوقي، وكنت مغتصبة مهانة ثيابي ممزقة، وهو يشخر عارياً ورأسه فوق صدري.. دفعته عني وشعوري بالغثيان وصل حد الإقياء وظل نائماً، وأنا أسحبه عني ملوثة بعار فكرت كثيراً أن أمسحه بالموت.. دخلت إلى الحمام ألفظ ما في معدتي وأنا مذهولة لم أعد قادرة على التفكير الصحيح ودموعي تنهمر من القهر.. وضعت ثوباً علي وسرت متحاملة إلى الباب والوقت يقارب الفجر، لم أجد أمامي سوى العيادة كان ضوء خفي ينبعث منها، طرقت الباب عدة مرات قبل أن تفتحه لي المرأة الخمسينية: -ماذا جرى لك خير؟ بدأت أجهش ببكاء لم أستطع إيقافه لدقائق وهي تهدئني دون نتيجة حيث أحضرت لي كأساً من الماء وحبة مهدئ.. وهي تمسح على كتفي –حسناً يا بنيتي أخبريني ما جرى لك؟ ولم أدر كيف سردت لها قصتي ودموعي تنهمر عانقتني بحزن وهي تقول: -لقد كنت مستغربة وجودك في هذا البيت المشبوه، لم أشك لحظة من أنك مسيرة دون أن تدري إلى هنا، الحياة قاسية يا ابنتي والناس وحوش حين يستشري بهم الطمع ثم ارتدت ثيابها وقادتني إلى الطبيب العجوز في البيت الخلفي كان مستيقظاً ذلك الوقت سألني بعد أن حكت له عني: -أتريدين الذهاب إلى أهلك؟ أجابت الممرضة عني: -لا أظن أن هذا مناسباً لها الآن، يجب أن ترتاح بضعة أيام قبل أن تقرر.. الحالة التي مرت بها ليست سهلة قد لا يستطيع والدها أيضاً تحمل ذلك.. -حسناً سأرسلها إلى مستشفى الدكتور (غوبتا) حيث تعمل عنده ثم وجه كلامه لي: -انسي كل شيء الآن وحاولي أن تتأقلمي مع الظروف الجديدة. ثم كتب رسالة سريعة إلى الدكتور (غوبتا) نفسه يطلب منه إيجاد عمل لي والعناية بي ما أمكن، لأنني ذات صلة قرابة وثيقة به.. × × × لن أطيل عليك أيها العزيز: أرسلت بعد أن أفقت من الصدمة رسالة إلى أخي راكيش في بريطانيا الذي أقبل على جناح السرعة إلى عنواني يقتادني إلى منزل أهلي وهو في حزن لا يوصف، كانت مفاجأة مذهلة له أن يرى ما صنع معي ذلك النذل (سانجي) وتحت الحاحي لم يقدم شكوى إلى المحكمة.. قلت له: -لا أريد فضيحة لأهلي، يكفي ما تحملته من عذاب، حتى أحمل أهلي المزيد منه.. فرضخ مكرهاً.. كان مجيئنا إلى البيت مفاجأة حاول راكيش تبريرها ولكن بعد أيام علم أهلي بالقصة، فسقط أبي من هول الصدمة ولم يمهله القدر كثيراً حيث أماته عذاب القلب أما والدتي فهدتها الفجيعة أيضاً ولكن قدرتها على التحمل كانت أقوى منه.. عاد راكيش إلى بريطانيا ليكمل دراسته التي أوشكت أن تنتهي بعد أن حاول كثيراً اصطحابي معه، ولكن صحة والدتي كانت تعذبني.. نحن يا عزيزي عاطفيون جداً، وشعبنا مسالم وديع ولكن الذئاب تنتشر بين أفراده أحياناً، لأن عقوبة الجريمة عندنا أقل بكثير من مدى فداحتها وتأثيرها.. أطلت عليك كثيرا ًواعلم أن اعترافي لك بما أحمله من آلام. ضروري جداً لتتعرف علي ولتدخل إلى عمق حياتي.. فأنا مشدودة إلى نبلك وعاطفتك برباط لست أدري ماذا أسميه كأنك حلم صاف أتى يضيء ظلمة حياتي؟ أم لعله الإحساس بالحاجة إلى إنسانية الإنسان التي فقدتها؟ كنت في بوبال في زيارة أهل زوجة راكيش، فوالدها مريض جداً ويحبه راكيش كثيراً، وأحب اصطحابي إلى هناك لأن صحة زوجته وحملها لا يسمح لها بالسفر الطويل.. وكانت مقابلتنا لك صدفة مذهلة.. أرجو أن تسمح لي بمراسلتك وأن تجيب على رسائلي مهما كانت الظروف. عيد (الهولي) غداً أتمنى لك السعادة وأطيب التمنيات.. في هذه المناسبة. المخلصة نيلام * 8 * كنت مذهولاً وأنا أتابع سطور الرسالة التي حوت تفاصيل لم أكن أتوقعها على الإطلاق. نيلام الجميلة المثقفة، كانت ضحية خدعة، وخدعة قذرة، كثيراً ما تتكرر في الهند من أجل المهر، ومن أجل المال.. انتابتني مشاعر شتى وأنا أعيد الأحداث التي جرت وأتخيل نيلام في مأساتها المرعبة كحمامة مذبوحة تتخبط بين يدي القدر.. لم أستطع الإجابة عن رسالتها إلا بعد يومين، حيث كتبت لها رسالة أعزيها فيها عن هذا العالم الوضيع المأفون بالأحقاد، وأن هذه التناقضات الموجودة لا تلغي دور الإنسان الواعي وهي فتاة في مقتبل العمر لا يزال أمامها الكثير من التجارب المؤسية والمفرحة أيضاً وأن العالم ليس ضيقاً وكثيرات غيرها خضن هذه التجربة وخرجن أشد عناداً.. أيام كثيرة مرت علي وطيفها لا يفارق خيالي، هل هو إحساس بالشفقة والرثاء؟ أم أن عاطفة إنسانية تملكتني؟ × × × سافرت كثيراً في شهر نيسان التالي وعشت أياماً مع عائلة فقيرة من المزارعين في إحدى القرى كانت التجربة مذهلة لا يمكن تصورها، عاملني أفرادها بالكياسة وكانت نقودي القليلة التي كنت أنفقها أحياناً، عاملاً مؤثراً ليتفاعلوا معي.. وفي إحدى الليالي كنت أنام على سطح البيت في القرية التابعة لـ (ميريت) وهي مدينة ليست بعيدة عن أليغار كثيراً. صحوت في الليل على ثقل يربض فوق صدري، نترت الغطاء بعنف لأجد أفعى سوداء مرقطة تنسل على السطح وجلدها يلمع تحت ضوء القمر، خفت كثيراً وأتى (كيشور) وهو اسم الفلاح صاحب البيت على صوت الضجة يستفسر عن السبب ولما قلت له (ناغين) أي أفعى انحنى وهو يضم يديه ويقول بخوف (آه.. بغوان- أي يا الله) في الصباح قررت الرحيل وكان (كيشور) في الحقل، أسرعت ابنته الصبية ترجوني أن أبقى، كان كثيراً ما يطلب منها أن تكبس قدمي وأنا متمدد.. ساعة الظهيرة، ولكن الرثاء والشفقة كانا يمنعاني من تركها تقوم بذلك العمل.. كان (لكيشور) أربعة صبيان أصغرهم في الرابعة وأكبرهم في الثامنة إضافة لثلاث فتيات فكانت الكبرى في سن الرابعة عشرة وكان الأب مهموماً يجمع مهورهن وقد أسر لي بذلك ولم أدر ما أفعل ولكني أعطيته مائة (روبية) في النهاية لمساعدته وأنا أعتذر كنت كثيراً ما أفكر بنيلام وأنا أتأمل الصبية. هل سيقوم أحد المخادعين الشبان في خداع والدها أيضاً؟ ولماذا مثل تلك المشاكل تزداد بكثرة دون رادع؟ اضطررت إلى البقاء حتى ظهر ذلك اليوم لأودع الأب الذي كان يحمل محراثه عائداً وهو يسوق أبقاره.. كنت في حالة يرثى لها من الإحساس بالغثيان وأنا أعيش بين الجواميس وقطعان الذباب والبعوض والسواقي كريهة الرائحة والطعام بالتوابل (والماسالا) الذي كنت أتذوق القليل منه.. كثيراً ما فكرت بمذكرات (بابلونيرودا) شاعر تشيلي المشهور وقد كان سفيراً لبلاده في الهند وقد سجل انطباعاته عن أولئك البسطاء المسحوقين.. وقد خاض تجربة ممارسة جنس مع إحدى المنبوذات. وقد وصفها ككائن حي يتقبل ما يملى عليه دون اعتراض حتى دون إحساس في أشد القضايا حساسية بالنسبة للمرأة.. مشيت إلى محطة القطار قرب القرية و (كيشور) يلاحقني ليطمئن على سهولة رحيلي وصعدت في قطار (باسانجور) اردأ أنواع القطارات في الهند وبقيت محاصراً بين أشباه البشر المسحوقين من المرضى والمشوهين والجوعى، نحو الساعة حتى وصلت دلهي.. من دلهي انتظرت قليلاً قبل أن أستقل القطار إلى (اليغار) حيث التقيت ببعض الشبان العرب من اليمن والسودان.. كنت أراقب خلال الفترة التي استغرقها القطار إلى (اليغار) وهي نحو الساعتين. امرأة منبوذة مع صبيين عاريين وسخين، أحدهما يجلس في حضن أمه يسحب ثديها المتهدل يمتصه وعمره يزيد عن أربع سنوات والآخر يلعب قرب باب الممر بشكل صاخب، وكل من يروح ويأتي قربهم يتحاشى ملامستهم، كانت امرأة محطمة، تماماً راضية، مقطوعة، خائفة، بوجه شوهته عوادي الزمن والصبيان يلعبان يخرجان ثديها دون أن يباليا بشيء.. ولم يغب ذلك المنظر عن عيني حتى توقف القطار في إحدى المحطات فنزلت منه مع الصبيين.. × × × وصلت اليغار وصادفت رسالتين من (نيلام) كانت الرسالة ذات التاريخ المبكر مليئة بعبارات الود والمحبة والشكر على مجاملتي الرقيقة كما سمتها، أما الثانية وكان تاريخها بعد أسبوع من الأولى فكانت تستفسر عن الرسالة الأولى هل استلمتها أم لا؟ ولماذا لم أرد عليها؟ لم أنتظر كثيراً فبادرت لكتابة رسالة أعتذر فيها عن تأخري في استلام الرسالتين لأنني كنت خارج اليغار.. ولم تخل الرسالة من عبارات المجاملة الرقيقة والدعوة للوقوف من جديد في وجه تيار الزمن، والتحدي، ومن أنها ستجد في صديقاً ودوداً يعينها في أية لحظة تحتاجني. كنت أفكر في السبب الذي دعا الصبية إلى الإصرار على مد جسور المودة معي وأنا الغريب عن قومها وعن وطنها. هل تجد في أملاً إنسانياً افتقدته في أبناء قومها؟ أم أن هناك سبباً آخر؟ وبعد يومين استلمت رسالة من راكيش يدعوني فيها لزيارتهم ويلح علي الدعوة، مكثراً من عبارات المودة.. وكنت أفكر بزيارتهم ربما لأشبع رغبتي برؤية (نيلام) بعد أن عرفت قصتها.. وكيف ستتصرف معي من جديد..؟ (( * 9 * انتباتني المشاعر وأنا أستقل الباص العتيق المتعب متجهاً نحو (أغرا) في طرقات وعرة صعبة، وبين بيوتات القرويين والفقراء والمقاهي المغطاة بالقش وقطعان الجواميس السابحة في البرك القذرة. وصلت عند الظهر إلى أغرا وقررت أن أتناول الغذاء في الخارج، وكان غداء خفيفاً نباتياً وأغرا تعج بالسياح من مختلف الأصقاع الذين حضروا لرؤية آثارها الجميلة البديعة، وتاجها المذهل بفنه العريق، كإحدى العجائب السبع التي كانت في العالم حتى القرن الماضي.. في نحو الثالثة كنت أطرق باب راكيش الذي هرع إلي يستقبلني بحفاوة بالغة.. وخلفه كانت (نيلام) بلباسها البيتي البسيط، تسع ابتسامتها العالم بدت سعيدة وهي تسلم علي، لأدخل الصالة وأسلم على زوجة راكيش التي ضمت يديها محيية وهي تنحني حسب الطريقة الهندوسية. سألني (راكيش) عن الغداء، فقلت له أنني تناولته، فأبدى انزعاجه من ذلك وقال: -قد لا يكون طعامنا مناسباً ولكننا سنجتهد في تقديم الجيد منه. قلت ضاحكاً: -لم أشأ إزعاجكم وقد أتيت فجأة لزيارتكم والاطمئنان عليكم. قالت: -ألم نتفق أننا سنلغي عبارات التكليف بيننا؟ قلت: -حسناً إذاً أريد أن أشرب الشاي.. -بالسرعة الممكنة، ومع الحليب طبعاً؟ أجبته حانياً رأسي.. كانت نيلام قد اختفت داخل البيت ولم أرها إلا بعد دقائق وقد ارتدت لباساً جميلاً وهي تحمل صينية الشاي. أحسست بالغبطة وغرور الرجل في داخلي. أنا المقصود بهذه الزينة السريعة كل ذلك لأجلي إذن؟ ما أعرفه أن الزيارات العادية لا تدفع النسوة الهنديات ليغيرن أزياءهن إلا في استقبال ضيوف في مناسبة ما كالأعياد أو الأعراس.. حدقت إلى وجهها الصافي بعمق كانت تختلس لي النظر وأنا أرشف الشاي وقد أشعلت سيكارة. همست: -لا تزال تدخن؟ -وماذا أفعل؟ لم أتخلص من هذه العادة السيئة بعد.. دخلنا في حوار سياسي مع راكيش حول الأوضاع في الهند، والصراع الذي بدأ بين السيخ وأنديرا غاندي وقد خرجوا من جحورهم بمساعدات خارجية، لإعلان انفصال البنجاب عن الهند، متحدين أنديرا غاندي، التي وقفت بعنف في وجه حركتهم. كانت نيلام صامتة تتأملنا دون أن تشارك في الحديث، وبعد دقائق استأذن راكيش لأن عنده تصحيح (مذكرات) لطلابه ودخل إلى مكتبه: -ستملأ لك نيلام الجو حكايات وأحاديث جميلة.. كانت زوجته في الداخل مع الطفلين. وبقينا أنا ونيلام وحدنا. قلت لها مداعباً: -تبدين جميلة بهذا الساري.. كانت ترتدي سارياً من الحرير الأخضر المزخرف بالورد. أطرقت مبتسمة بخجل. وحط بيننا الصمت كنت أتأملها بعمق وهي تتحاشى نظراتي: -رسالتك جميلة جداً.. نظرت نحوي بحزن: -ولكنها مؤلمة.. -لا تقولي ذلك، الحياة لا تخلو من الأحزان، وإن خلت من الأحزان والآلام أصبحت الحياة فارغة بلا معنى. همست: -فرحت كثيراً بمجيئك إلينا.. -وأنا ازددت إعجاباً بك، بعد أن فتحت لي صدرك، أتعلمين تبدين جميلة جداً رغم الشحوب الذي يغلف وجهك.. قولي لي لا تزالين تفكرين بتلك الأيام المزعجة حتى اعتراك هذا الشحوب؟ أجابت بخفوت: -وماذا أفعل؟ لا أستطيع أن أنسى. كانت الفاجعة قاسية أليس كذلك؟ اقتربت من كرسيها وقرفصت أمسك بأصابعها: -اسمعي يا عزيزتي، إنسي كل شيء وفكري بالحاضر الجميل، والمستقبل المليء بالأمنيات.. -أتعتقد أنني قد أشهد أياماً جميلة قادمة؟ -بالطبع. أنت صبية حلوة، معرفتك واسعة وثقافتك ممتازة.. تنهدت: -آه أيها العزيز أنت لا تعرف مجتمعنا هنا. إنه شديد القسوة في معاملته لمثل حالتي. ربت على كتفها وأنا أنحني نحوها: -سأجعلك تنسين التفكير بمثل هذه الاحتمالات الموحشة كوني معي يا نيلام، وحاولي أن تساعديني لأخرجك من كابوسك المرعب، أرجوك. نظرت إلى بعينين مخضلتين بالدمع، وقد انبعث منهما بريق العاطفة الذي نادراً ما رأيته في عيني المرأة، إلا المرأة التي يكوي الحب قلبها.. سمعت وقع خطوات فرجعت بسرعة إلى مكاني وقد اختلجت المشاعر في صدري، دخلت امرأة راكيش تقدم الحلوى والكعك مع القهوة بالحليب سألتها عن الأطفال فقالت لي أنهم بخير وبدأت تتبادل الحديث مع نيلام بالهندية كان حديثاً خاصاً يدور حول المرض والأدوية وغابت قليلاً وأحضرت لها حبوباً مدورة لتتناولها، بدا على نيلام الامتعاض حينها، ولكن نظرة سريعة إلى عيني جعلها تتناول منها حبتين وهي تغمغم: -لماذا تصرون على إشعاري أنني مريضة؟ قالت زوجة راكيش حينها: -يجب أن تتناولي الدواء في حينه صحتك بخير ولكنك بحاجة لرعاية. أكد لك الطبيب مراراً ضرورة تناول الدواء. سألتها: -هل كانت مريضة؟ قالت: -نيلام، رغم القوة التي تبدو عليها، تعرضت لنزلة معوية شديدة وأهملت نفسها كثيراً قبل أن نكتشف مرضها.. ألا ترى شحوبها إنه الإهمال الذي سمح للمرض أن يستشري. قلت: -لماذا لا تكترثين يا (نيلام)؟ المرض ليس لعبة والحياة جميلة. لماذا لا نداري أنفسنا من مصائبها وخصوصاً إذا كانت لدينا القوة لمجابهة تلك المصائب.. أطرقت دون أن تنطق لفترة قصيرة ثم همهمت: -حسناً لا داعي للمزيد من المحاضرات حول الحياة الجميلة كلكم تشتركون في الإلحاح علي للوقوف في وجه الزمن وتحديه.. وأعلم أن هذا من حرصكم ولكنني لا أشكو من شيء بالفعل.. -إذن نفذي تعليمات الطبيب على الأقل.. -طيب.. ها أنذا أتناول الدواء.. خرجت زوجة راكيش بعدما ألحت علي لأتناول الحلوى والقهوة قبل أن تبرد قلت لنيلام وأنا أضع يدي على ظهرها ملاطفاً: -لا تنزعجي، إنه الخوف عليك. قالت: - أعلم.. ولكنني أكره الدواء كثيراً. -ليس من مريض يحب الدواء.. شعوره المعروف بالقرف تجاهه يجعله يحاول التقليل منه ما استطاع رغم أن هذا خطأ جسيم.. -اتركنا من هذا الحديث وحدثني عنك، كيف خطر على بالك أن تزورنا؟ لم أرغب أن أقول لها أن أخاها دعاني ملحاً، فقلت مجاملاً وأنا أتذكر نظراتها المحبة: -إنه الشوق يا نيلام.. أحطتها بذراعي وأنا أدفع رأسها إلى صدري مغموراً بعاطفة جياشة وأنا أرى الصبية متعلقة بي تحاول أن تنشئ علاقة تنسيها الماضي ومتاعبه. لم تنفر مني وإنما غمرت رأسها في صدري وهي تبكي: -لا أدري ما الذي جعلني أتعلق بك، لأول مرة في حياتي أحس أنني أمر بتجربة فريدة هل يمكن أن تخلق عاطفة بهذه السرعة؟ وكأنها انتبهت لنفسها فانسلت من حضني: -أوه لقد بردت القهوة. تناولت قطعة من (الغولابي) وهو نوع من الحلوى بشكل كرات صغيرة بلون إسفنجي قاتم ولبه بلون الحنطة. ربما من أجود الأصناف التي تقدم في البيوت.. جلسنا من جديد في مقعدينا المتلاصقين كأنما ترك راكيش وزوجته المجال لنا لنتبادل المودة ولم أستطع فهم سبب دفعه لي للقاء مع نيلام وإقامة علاقة سوى رغبته في جعلها تنسى الماضي المزعج الذي مرت به وتقريبها من جديد من الإيمان بالإنسان وقيمه وأخلاقه ولكن هل بإمكاني تحقيق هذا الهدف؟ بدأت تسألني عن حياتي الشخصية وعلاقاتي ونوع الحياة التي نعيشها في بلادنا.. ثم دخلنا في حوار حول الأساطير والديانات والروابط الروحية وفهمت أنها تؤكد على أنها ليست متعصبة لدينها وأن الدين علاقة إنسانية وأخلاقية في نظرها. وليست مع الغلو في التعصب الذي يقتل الإحساس الإنساني، ويقزم جوهر العلاقات بين الناس، كما أرادها الخالق عز وجل.. في نحو الرابعة والنصف دخل راكيش من جديد، وبدأ يسألني أيضاً عن أخباري ومغامراتي في شبه القارة الهندية.. وخرجت نيلام تحمل صينية الحلوى والقهوة، لتعد لنا الشاي. فسألته بهدوء: -نيلام مريضة كما عرفت، أمرضها صعب؟ قال مرتبكاً: -التهابات في الجهاز الهضمي، أهملتها، ولكن العلاج قد يعجل في شفائها. تعلم كم هي غير مبالية في هذه النواحي.. وكأنما أراد أن يؤكد مدى وثاقة صلتي بها. فأردف قائلاً: -تعرف كم أحبها؟ هي أعز شيء في الوجود، وقد هدتني المتاعب التي مرت بها، قد أحكيها لك فيما بعد.. لم يكن يعلم على ما يبدو برسالة نيلام المطولة لي.. قلت: -تبدو الآن في أحسن حال.. -ولكنها فقدت إلى حد ما.. ثقتها بالإنسان، أرجوك ساعدها لتعيد هذه الثقة، هو أمر مهم جداً لحياتها ومستقبلها، لا أريدها أن تصبح منطوية معقدة وقد كانت تملأ الجو بهجة وحبوراً.. (( * 10 * خرجنا في المساء في جولة في أغرا بصحبة راكيش وزوجته.. لم أكن أنتبه كثيراً للأمكنة التي نمر بها، كان كل همي منصباً على نيلام التي بدأت عاطفة ما تنتابني نحوها.. هل هي الشفقة، أم الحب؟ عذبني هذا السؤال طويلاً، ولكن وجه نيلام العذب وتعلقها بي جعلني أحس بميل فسرته بالحب، وكان الجواب الحاسم الذي اقتنعت به أخيراً.. عدنا من الجولة وقد ازددت قرباً منها، وهي ذاهلة عن كل شيء إلا عني.. كيف لي أن أرضي تعلق الصبية بي وقد فاضت عيناها بالحب؟ في الليل سهرنا تحت ضوء القمر وانسحب الجميع من حولنا، ونحن نتحادث في أمور شتى ولم أملك إلا أن أجلستها على ركبتي وأركنت رأسها إلى صدري وهي غارقة في سعادة عذبتني كثيراً فيما بعد.. كان جسدها الدافئ في حضني يشجع في رغبة الإغراق في المغامرة، ولكن براءتها كانت تمنعني أن أمد يدي إلى هذا الكنز الجميل لأخدش حياءه.. حتى الثالثة صباحاً استمرت جلستنا الهادئة، وحينما انتبهنا للوقت نهضت كمن فاتها شيء تلقي علي تحية الوداع، شددتها من يدها وغمرت وجهها بالقبل فانفلتت تعدو كالغزال الشارد إلى داخل البيت وهي تمسح وجهي بأصابعها بسرعة.. معتذرة.. نمت سعيداً في تلك الليلة ولم أصح إلا في التاسعة على صوت حركة الشارع القريب، كنت وحيداً في الصالة لم يشأ أحد إزعاجي في تلك الساعة، حينما أحس من في البيت أنني استيقظت، قادتني نيلام إلى الحمام، وحين عودتي كان الإفطار الشهي في انتظاري. كان راكيش قد خرج إلى عمله منذ الثامنة، وزوجته مشغولة بأطفالها وليس سوى أنا ونيلام التي بالغت في العناية بي لدرجة أنني طلبت منها الكف عن هذه المبالغة فلست غريباً.. كانت ترتدي لباسها الهندي –الشروال والفستان السماوي.. ثم الشال الخفيف الأبيض، تتحرك كالنحلة تملأ علي الأفق محبة وسعادة.. كان من المقرر أن أغادر أغرا في الحادية عشرة صباحاً من ذلك اليوم ولكن نيلام أصرت أن أبقى حتى مجيء راكيش وهي تقول بدلال الأنثى وحنانها: -سيحزن راكيش إذا رحلت دون أن تراه.. ألا تستطيع البقاء حتى الظهر، ألا استحق منك أن تؤجل رحيلك لساعتين؟ أنا أرجو منك البقاء.. أليس لرجائي أهمية عندك؟ -حسناً.. تعلمين أن أعمالاً كبيرة تنتظرني، يعز علي فراقك.. ولكن كما ترغبين سأبقى حتى عودة راكيش.. بدت سعيدة وقد عرفت تأثيرها علي.. قادتني من يدي إلى الشرفة المطلة على الحديقة الداخلية.. حيث أجلستني على الكرسي وأنا منقاد لها دون أن أبدي مقاومة. أحضرت لي الشاي من جديد وبعض الحلويات، وجلست إلى جانبي وسألتني فجأة: -ألا تفكر بالرحيل من الهند؟ نظرت إليها ملياً: -لا أفكر بذلك الآن، عندي عمل كثير يتطلب مني البقاء لأشهر أخرى، وأنت جزء هام من عملي، لن أرحل قبل أن أسوي كل شيء هنا؟ أطرقت خجلى، كنت أعرف أن أسئلة كثيرة تتوارد في ذهنها، لم تتمكن من طرحها حتى الآن سألتها: -ألم تري بلداناً غير الهند؟ -لا.. قال لي راكيش قبل أيام "البلدان الأخرى متعبة، الحياة فيها معقدة وتحتاج لصبر دؤوب وعمل متواصل ليعيش فيها الإنسان..". -يقصد بذلك الدول الصناعية الأوروبية وأمريكا، ولكن الإنسان المتفوق له حقوق كثيرة هناك.. وهكذا انتقل الحديث بنا إلى أمور شتى، وكان له طابع الجدية، وبدت نيلام مهتمة بفحواه.. ولم يقطعه سوى وصول راكيش الذي أبدى سروره لوجودي، وإصرار نيلام على إبقائي. ثم استأذن ليغير ملابسه وشدتني نيلام من يدي لندخل البيت، فاحتويتها بين ذراعي وسرحت أصابعي على وجهها وعنقها وظهرها قبل أن تلتقي شفاهنا.. انفلتت مني سكرى وهي تغمغم: -سأعد السفرة.. تناولنا غذاء متنوعاً، وكانت زوجة راكيش قد أعدت لنا حلوى خاصة، وتمنى علي راكيش ونحن نتناول الشاي أن لا أطيل الغيبة: -تعلقنا بك أصبحت واحداً منا حاول الاتصال بنا باستمرار نترقب زيارتك بفارغ الصبر.. قرر راكيش اصطحابي إلى المحطة بعد وداع حار مع نيلام التي همست في أذني أن لا أتأخر عليها. كنت شارداً وراكيش يتبادل معي الحديث في طريقنا إلى المحطة "يبدو أن الأمر أصبح جدياً فعلاً، إنهم يصرون على توثيق ارتباطي بهم، يعني أن العلاقة مع نيلام لم تعد علاقة عابرة..". رغم إحساسي الغريب نحو نيلام بالمحبة ولكن لم أفكر حتى الآن بأن أرتبط معها برباط الزواج، وهو ما أراه الآن يشغل فكر راكيش وحتى نيلام نفسها.. شعرت بالحيرة تتملكني وأنا أسمع راكيش يهمس في أذني قبل أن أصعد الباص: -"أرجوك ابق على اتصال مع نيلام هي بحاجة ماسة إليك.." (( * 11 * تحرك بنا الباص، خارجاً من أغرا، ولم أكن أرى شيئاً من حولي كنت مشغول الفكر شارداً أفكر بهذه العلاقة التي فرضت علي نوعاً من الارتباط الذي لم أكن أرغب فيه.. وصلت "اليغار" في المساء وكنت متعباً، اغتسلت من التراب والعرق وحاولت النوم دون جدوى. كانت الحيرة والقلق يسيطران علي وأنا أسترجع ذكرياتي مع نيلام تلك الفتاة المقهورة التي رأت في حلماً بالخلاص. كيف سأتصرف في المستقبل معها؟ هل أتابع علاقتي؟ هل أنساها؟ وهل بإمكاني فعلاً نسيانها؟ خرجت أتمشى في حديقة بيت الضيف وأنا أدخن وسمعت بعد لحظات صوتاً نسائياً: -ساهر لوحدك؟ كانت الفتاة الكندية مارسيا.. قلت: -نعم -لم تستطع النوم يبدو أنك مشغول بقضية ما.. -الحياة هكذا يجب أن ينشغل الإنسان بقضاياها المعقدة.. -أنت في مشكلة إذن؟ لم ارغب في فتح قلبي لها: -ليست بالشكل الذي تتصورين أفكر بالسفر إلى إمارة بوتان القريبة من الهند.. كانت الفكرة تشغلني من قبل فعلاً. أشارت إلي أن أجلس على مقعد قريب من مقعدها: -أتعلم أنني سأسافر إلى دلهي غداً مع بعض الأصدقاء، ونحن مدعوون لاحتفال خاص في سفارة بوتان بعد غد. لم لا ترافقنا، قد يساعدك حضورك للاحتفال في معرفة الكثير عن بوتان.. -ولكني لست مدعواً.. -ليسوا معقدين من هذه الناحية، يمكنك المجيء إن رغبت. -ومن هم الأصدقاء الذين سيرافقونك؟ -بعض الطلبة العرب.. دهشت لهذه الجملة، يبدو أنها نفذت بين العرب أيضاً، أليست أنثى ومتحررة؟ لماذا لا تنفذ إذن؟ -حسناً، سأرافقكم. -غداً سنذهب إلى دلهي بقطار (الاسام ميل اكسبريس) في الساعة الثانية والنصف من الأفضل أن تكون معنا. -سأفكر في الأمر. -أتشرب الشاي؟ -ولكن الخدم نائمون، والمطبخ مغلق.. -سأتدبر الأمر.. × × × سهرنا معاً حتى ساعة متأخرة في الصالة الواسعة في المبنى نتحادث بالعربية وأحياناً بالإنكليزية وكانت تتقن اللهجات العربية تقريباً، دون لكنة.. كانت مغامرة كثيرة الاطلاع تعلم الكثير عن حكومات المنطقة وسياساتها.. وحين بدأت تحكي عن الصوفية قلت لها: -لا تزال معلوماتك قليلة في هذا الموضوع.. فأجابت: -أحاول أن أزيدها وقد عثرت على كتب كثيرة تبحث في الصوفية في مكتبة الجامعة، طلبت من المشرفين تزويدي بنسخ مصورة عنها.. -منذ كم من الوقت لم تذهبي إلى أمريكا؟ -منذ حوالي سنة. -لا شك أنك تقضين أوقاتاً ممتعة. -أحياناً. وأحياناً أخرى يكاد الملل يقتلني.. من الصعب أن تعثر فتاة مثلي على صديق دائم. وهذا ما يجعلني أبحث باستمرار عن صداقات جديدة. وهنا قد يحالفني الحظ أحياناً.. -الزواج ليس مستحباً لمن في مثل حالتك.. -أعتقد أنني لن أتزوج.. -لماذا؟ -لم يعد سني صغيراً على الزواج؟ -ألا تحسين بالحاجة لأطفال يملؤون حياتك؟ -لا أحب الأطفال. عندما أرى أطفال أخي وهم كثيرو الحركة يصخبون ويزعقون وينشرون الفوضى في البيت أكره أن أتعامل معهم. بعض النساء يفضلن مثل تلك الحياة. أما أنا فلا.. ـ وماذا تريدين من الحياة؟ ـ أن ألتقي بالناس، أتعرف عليهم، أكتب البحوث، أسافر إلى بلاد جديدة. ـ قد تتعبين يوماً؟ ـ لن أتعب إلا بعد سنوات طويلة. ـ وماذا ستعملين عندها؟ ـ أبحث عن حياة هادئة خالية من الصخب. ـ في بيت بارد لا رجل فيه ولا أطفال... إنها حياة مخيفة.. ويبدو نهاأنها أنها تأثرت من كلامي، فقالت بعد فترة صمت. ـ لا أدري، ربما أغير رأيي بعد سنوات. وأحبت أن تغير الحديث فسألتني: ـ أليس لديك صديقة؟ ـ بالطبع لي أصدقاء من الجنسين. ـ أقصد صديقة خاصة؟. شرد ذهني فوراً إلى نيلام: ـ نعم. ـ حدثني عنها.. نحن نقطع الوقت.. ـ لا أعتقد أنني أحب التوغل في الحديث عن خصوصياتي، ولكن يمكن القول أنها فتاة رائعة. ـ تبدو محظوظاً. أطمح كثيراً أن ألتقي برجل أنسجم معه تماماً.. ـ في مثل حالتك، يبدو هذا الطموح مستحيلاً.. لم أبغ متابعة الحديث، نهضت وأنا أتمتم: ـ تأخر الوقت يجب أن نذهب للنوم. ويبدو أن جملتي السابقة عن الطموح قد أثرت فيها فقالت محاولة الاستمرار في الحديث: ـ ألا ترغب في تبديل صديقتك؟ ـ لم أر منها ما يسيئني حتى أبدلها. همست بأنوثة: ـ أيمكن أن تعتبرني صديقة إضافية؟ لم أكن في وضع نفسي ملائم للعبث معها وقضاء الليل بصحبتها، فقلت: ـ قد نعالج الأمر غداً، أنا متعب قليلاً.. ـ أرجوك ابق لبعض الوقت.. ولكني كنت عنيداً، وقد قفزت إلى ذهني صورتها تنتقل من رجل لآخر ثم ألقيت عليها التحية بأن تمنيت لها ليلة سعيدة كنت أعلم أنها لن تنعم بها... وقد رفضتها... وحين دخلت غرفتي رأيت كم كانت تدخن بعصبية وانزعاج... (( * 12 * صحوت في الصباح على الرجل العجوز يحضر لي الإفطار إلى غرفتي تتبعه مارسيا: ـ أريد أن أتناول القهوة معك... غسلت وجهي وعدت لأراها تصب القهوة وقد أشعلت سيجارتها. ـ هل نمت جيداً؟ ـ كنت متعباً... غفوت سريعاً.. ـ أما أنا فانتابني الأرق، ماذا قررت بشأن السفر إلى دلهي اليوم؟ يمكنك أن تستفيد من حفل الغد عندما تسافر إلى بوتان... ـ حسناً سأذهب اليوم معكم.. تناولت إفطاري وارتديت ثيابي سريعاً وأوقفت ريكشا وأنا أقصد الجامعة ورافقتني حتى مبنى مكتبة (مولانا آزاد) على أن نلتقي في المحطة في الساعة الثانية... مر الوقت سريعاً، وأنا أدرس المراجع العديدة، محاولاً استخلاص نتائج جديدة تفيدني في الأطروحة التي أحضرها، استأذنت أستاذي المشرف في السفر لعدة أيام وأحضر لي (عبد السلام) المستخدم في القسم غذاءً سريعاً... وفي الثانية كنت أستقل ريكشا في الطريق إلى المحطة، تعرفت لدى وصولي على (رعد) و(حسين)، و(أسعد)، و(هادي) و(إبراهيم)، وكانوا عرباً يدرسون الهندوسية والعلوم في جامعة (اليغار) من البحرين والعراق... وكانوا يلتفون حول (مارسيا). يتبادلون معها حديثاً عن المتاعب في الهند، خاصة والمحطة مليئة بالذباب وأفواج المنبوذين في كل مكان منها.. والروائح القذرة تكاد تزكم الأنوف... شاركتهم بالحديث وأمضينا وقتاً مملاً حتى حضر (لاسام ميل)، الذي تأخر عن موعده لنحو الساعة. انتقينا أمكنة شاغرة في عربة الدرجة الثانية، وانزويت مع هادي الوديع وهو عراقي من مدينة البصرة يحدثني عن فينا (وهي فتاة من موريشيوس) تدرس الطب في جامعة دلهي وقد تدلـه بحبها، وبادلته الحب أيضاً. أخرج من جيبه لفافة صغيرة بها قطعة خضراء تبدو كقطعة حجر رسوبي صغير.أحرقها بعود من الكبريت ثم فتتها في التنباك الذي أخرجه من سيجارة بفلتر وبعد أن مزج الخليط جيداً... بدأ يدخلها إلى ورقة السيجارة الملفوفة من جديد حتى أفرغها كلها ببراعة فلقد امتزج الحشيش مع التنباك جيداً ثم أشعلها وبدأ يمجها بشغف وانتشرت الرائحة في المقصورة، رائحة جميلة، والدخان الأبيض الكثيف ينتشر معها. سألته: ـ أليس ممنوعاً تدخين الحشيش في القطارات هنا؟... قال: ـ في الهند كل شيء مسموح به شرط أن لا تؤذي أحداً. ثم التفت إلي: ـ جرّبه، له نكهة جميلة. سألته: ـ وما الذي يحدثه بك الحشيش من تأثير؟ ـ عندما (ننسطل) ننسى واقعنا، لو تعلم المتاعب التي نمر بها، الحرب مستمرة والقصف مستمر على البصرة ولا أخبار أو رسائل من الأهل ونتدبر أمر النفقات بصعوبة... وشاركه (أسعد) البصراوي نفس الأحاسيس، ثم أردف يكمل حديث (هاري): ـ"قد يبدو الحشيش حلاً للمشكلة ولكن قد يجعلك تنسى على الأقل". كانت الحرب العراقية الإيرانية في ذلك الحين في أوج اشتعالها... حزنت كثيراً وأنا أتأمل الشابين اللذين يبدو أنهما في مرحلة ضياع حقيقي.. وشارك رعد وحسين في جزء من الحديث، وطالبت مارسيا بسيكارة حشيش جديدة لفها أسعد هذه المرة ببراعة... ومرَّ الوقت، ولعبوا الورق، وشاركتهم قليلاً، ولكنني لم أكن مستمتعاً وقد أحزنني واقع هؤلاء الشبان الذين ينشدون المتعة والسلوان عن مشاكل يمرون بها. ولم يكن (حسين). وهو من البحرين قلقاً مثلهم، كانت الأموال تصله بانتظام، والده يشغل منصباً في جامعة البحرين، وله بحوث في تاريخ العلوم، قدر لي أن ألتقيهِ بعد فترة قصيرة ضيفاً على جامعة (اليغار)، وقد كان من طلابها قبل عشرين عاماً... لدى وصولنا إلى محطة دلهي الجديدة افترقنا حيث ذهبوا مع مارسيا إلى بيت الطالب العربي في منطقة (جورباغ78). وذهبت إلى بيت الطلبة الدولي لأقضي الليل عند صديق من البوكمال شرق سورية يحضر الدكتوراه في جامعة دلهي. حيث اجتمعت بآخرين حضروا جميعاً إلى دلهي لقضاء عدة أيام قبل بدء امتحاناتهم العملية... (( * 13 * في (التوربست كامب)، في دلهي وهي منطقة كبيرة مخصصة للسياح يقيمون فيها داخل غرف، أو خيام بأسعار رخيصة... ويأكلون في مطعمها ويرقصون ويغنون في حديقتها الكبيرة. اجتمعت فيها مع نموذج آخر من الطلبة العرب، محي الدين الذي يدرس الطب في الباكستان حضر مع صديقة له من هولندا، كان متعلقاً بها لدرجة الهوس، وكانت تستمتع برفقته وهو يشتري لها الهدايا ويقيم لها الحفلات ويدعوها للفنادق الضخمة للرقص وتناول الطعام، صرف الكثير من الأموال ليشدها إليه وقد التقيا في فندق ضخم في كراتشي، ومن ثم بدأت عملية مطاردتها من (كلكوتا)، إلى (كوالا لامبور) إلى (بانكوك)، أخيراً إلى (دلهي) سألته: ـ ماذا تريد منها؟ هل ترغب بالزواج؟ قال سارحاً: ـ أحاول أن أقنعها بذلك، وهي تصر على الصداقة... وبدأ يحكي لي عن شجاراته الصغيرة معها، كان غيوراً ولم تكن تحب ذلك منه... ـ كنت كالحبيس في قفص من الفولاذ في كراتشي المنغلقة المتزمتة.. حتى التقيت بها أخيراً... ـ وماذا عن دراستك؟ ـ عندما أستقر معها، سأتفوق... كان يتبادل معها القبلات على مرأى من الجميع، كأنما يؤكد على قربها منه، وسيطرته عليها، وكنت أعتقد أنها تقضي معه الوقت مستغلة تعلقه المرضي بها كشرقي محروم، ولن ينجح في شدها إليه للزواج كما كان يطمح... انتشرت زرافات الشبان والفتيات من أوروبا بملامحهم الضائعة وهم يدخنون الحشيش ويرقصون ويغنون ويتبادلون العناق مع بعضهم. بعضهم وَشَمَ على يديه وصدره "لا تصنع حرباً، اصنع حباً، السلام لا الحرب"، قلوب موشومة تخترقها سهام. شبان شعورهم طويلة، وذقونهم أيضاً، يرتدون ألبسة لا تكاد تستر عوراتهم وفتيات يلبسن ألبسة مضحكة مزرية أحياناً بأشكال مستهترة، تبدو القذارة عليهن، يدخن الحشيش أيضاً، ويتبادلن الضحكات المستهترة العابثة وبعض الشبان الأفغان بملامحهم الخشنة يساومون السياح على قطع الحشيش وقد برعوا بالاتجار به وتهريبه، وبعضهم يبيع الأفيون والكوكائين والهيرويين بأسعار كبيرة... حكى لي أحد الشبان ـ من ألمانيا الغربية ولم تكن ألمانيا قد توحدت في ذلك الحين ـ أنه يحضر خصيصاً للهند ليهرب قطعة من الهيرويين المغلفة بالفضة، يبتلعها قبل دخوله الطائرة، وحين يصل يطرحها مع فضلاته دون أن تتأثر بمسيرتها عبر جهازه الهضمي بفضل غلاف الفضة الكتيم... وأنه يأخذ حينما يسلم البضاعة على القطعة الواحدة ستة آلاف دولار، وهو مبلغ يكفيه ليحيا لعدة أشهر... وقد برع المهربون في استخدام طرق جديدة. وعندما تكتشف طريقة من قبل الجمارك الهندية يستنبطون طريقة أكثر دقة ومهارة. وكذلك الذين يهربون الذهب إلى الهند، وقد تمكنت إدارة المكافحة الهندية من القبض على عدد كبير من المهربين من بينهم عرب كان بعضهم يضع قطعاً من الذهب في صندله المجوف، اكتشف أمره بسبب مشيته المتعثرة وكان بعضهم أيضاً قد حشا مؤخرته بكيلو من الذهب، وقد كشفها الجهاز الذي أز وهو يمر على جسمه، وعندما طلبوا منه خلع ملابسه ظل الجهاز يئز حيث كشفوا مكان الذهب وقد انغمس بعض الطلبة العرب في تناول المخدرات حتى أصبح ذلك جزءاً من حياتهم، فأدمنوها وانتهى أغلبهم نهاية سيئة... في المساء زرت بيت الطالب العربي في (جورباغ78). وكان هادي سكراناً يبكي وقد أخبرته فينا أن أهلها قرروا أن يزوجوها بـ(راجو) زميلها من مارشيوس ويدرس الطب معها وأنها لا تحبه وتفضل عليه هادي ويجب أن يقرر مصير علاقتهما بسرعة... ـ ماذا أفعل؟ من أين لي المال الكافي لأتزوجها؟ إذا خرجت عن طاعة أهلها فسيحرمونها من المصروف أيضاً.. ـ حاول نسيانها يا صديقي. ليس الأمر في يدك... "فينا الحبيبة قطعة من القلب، إن خرجت منه ذبل ومات"، هكذا كان يردد وهو يتناول سجائره الممزوجة بالحشيش ويمجها بشغف ودموعه تنحدر من عينيه كالطفل... وفي تلك الليلة لم يذهب معنا إلى حفل سفارة بوتان كما لم يذهب أسعد أيضاً، وبات في المستشفى بعدما حاول الانتحار وظل أسعد إلى جانبه... كانت سفارة (بوتان) تقع على طريق (فزنت فيهار) في منطقة (شاناكيا بوري) حيث بقية السفارات.. وهي منطقة واسعة بها طريق عريض واسع تنتشر سفارات الدول المختلفة على جانبيه.. ومن أضخم السفارات فيه سفارة الباكستان، والسفارة الأميركية والسفارة السوفيتية... دخلنا إلى البناء الخلفي للسفارة، واستقبلتنا مجموعة من الفتيات والملحق الثقافي، حيث انتهى بنا المسير إلى قاعة واسعة انتشر فيها الناس من الجالية البوتانية... وتتميز وجوههم عن وجوه الهنود فهي أقرب إلى السحنة الصينية، كانوا لطفاء جداً، سرعان ما اندمجنا معهم في حفل مسل استمر حتى الفجر وكان رعد ومارسيا ملتصقين طوال الوقت في عناق يتبادلان القبلات على أنغام الموسيقى الصاخبة أحياناً، والهادئة أحياناً أخرى وقد أصر الملحق الثقافي على اشتراكي في اللعب الجماعي الخاص بالشعب البوتاني، حيث تشابكت أيدي النسوة والفتيات في حلقة داخلية أحاطت بها حلقة الشبان في رقص خاص على أنغام الموسيقى في صالة مجاورة للصالة الرئيسية... وفي نحو الثالثة حدثت مشاجرة دامية بين بعض الشبان ورغم تدخل الملحق الثقافي، فقد امتدت المشاجرة إلى آخرين وانسحبت عندها مودعاً وهمست لأفراد مجموعتنا أنني سأذهب ولكنهم أصروا على البقاء وأن كل شيء سيعود إلى طبيعته... وفي اليوم التالي أخبرني إبراهيم أن الشجار انتقل إلى رعد، حيث حاول أحد السكارى تقبيل مارسيا ولكن رعد بشهامته اليعربية لكمه... واشتبك مع أصدقائه.. وكانت النتيجة أن عاد مدمى الوجه مع حسين، وقد انسحبت مارسيا هاربة لوحدها.. *** زرت هادي اليوم التالي في المستشفى كان واهن القوى، أصفر الوجه، وقد قطع شريان يده في الليل محاولاً الانتحار لولا أن اكتشفه أحد أصدقائه فأخذه على متن دراجة نارية قادها بصعوبة إلى المستشفى القريب... وكان أسعد يجلس إلى جواره يغازل إحدى الممرضات ويلف سيكارة حشيش. همست: ـ هذا ممنوع في المستشفى، قد يحضر أحدهم ويتشاجر معك... ـ لن أدخنها هنا سأذهب إلى دورة المياه القريبة... ـ لماذا الإصرار على ذلك الآن، دخنها في وقت آخر.. ـ (خرمان) لا أستطيع الانتظار... (( * 14 * عدت إلى اليغار لأجد رسالتين بانتظاري من نيلام، كانتا مليئتين بعبارات المحبة و الشوق وطلبت مني في إحداها الحضور في السابع من تموز القادم لأن مناسبة هامة يجب أن نحتفل بها معاً ستكون في ذلك التاريخ... وأخذت أفكر في المناسبة... ولماذا هي مشتركة، لم نتعارف منذ سنة حتى تقول أنها الذكرى الأولى لتعارفنا، إذن ماذا في الأمر...؟ *** كتبت لها رسالة قصيرة أخبرها أنني مشغول جداً في البحث الذي أقوم به وأنني سأحاول المجيء إليها إن استطعت.. ولكن خطاب راكيش الذي استلمته بعد ذلك كان كافياً ليزيل ترددي، أخبرني راكيش أن صحة نيلام ليست على ما يرام وستتحسن حالما تراني، لذلك فإن حضوري ضروري وهم جميعاً بانتظاري في السابع من تموز... لم يكن يفصلني عن ذلك الموعد سوى أربعة أيام كثفت من عملي خلالها حتى أفرغ للذهاب إلى أغرا وأكون مرتاح البال قليلاً من واجباتي العلمية... وصلت أغرا في الرابعة بعد الظهر، ويممت وجهي شطر منزل راكيش الذي فتح لي الباب وكان الوجوم على وجهه وحالما رآني سعد بلقائي: ـ ستسر نيلام كثيراً لحضورك أرجوك أبذل جهدك لتسعدها... إنها متعلقة بك لدرجة لا توصف... ثم دخل قليلاً وعاد وبيده علبة ملفوفة: ـ قدم لها هذه ستفرح كثيراً على أنها هديتك.. أحسست بالذنب: ـ لو علمت أن ذلك يسعدها لما جئت خالي الوفاض... دخلت إلى غرفة نيلام، كانت ممددة على السرير، ممتقعة الوجه متعبة وحالما رأتني شهقت من الفرح وحاولت النهوض وصل إحساسي بالرثاء لها إلى درجة كبيرة ولم أدرِ كيف أمسكت أصابع يديها بين أصابعي وغمرتها بالقبلات، وكان الدمع ينحدر من عيني رغماً عني... دفنت رأسي في صدرها ووصلني خفقان قلبها السريع... غمغمت بالهندية (ميري جان) استعدت وعي بعد لحظات وأخذت أسري عنها ثم تذكرت العلبة التي أعطانيها راكيش فأخرجتها وفتحتها كانت تحوي خاتماً من الذهب أمسكت يدها ووضعته في إصبع يدها اليمنى، كانت مسرورة تماماً، ثم غمغمت: ـ لقد قبلت على الطريقة الحديثة... لم أفهم ما تعني تلك الجملة، وبعد لحظات وهي تظهر فرحها، فهمت أن ذلك يعني أنني خطبتها، ورغم عدم قناعتي بخطبة من هذا النوع، إلا أنني أكثرت من مجاملتها وأنا أراها متعلقة بي حد الهوس... لا أذكر أنني تأثرت بحالها وأنها بدأت تشغل مكاناً في قلبي، ولكنني لم أكن مستعداً للزواج في ذلك الوقت... أحضرت لها زوجة راكيش وجبة الدواء وكانت متنوعة بين حبوب مدورة وكبسولات وكرات صغيرة ملونة وشراب كلمتني بالهندية وهي توجه نظراتها صوب نيلام: ـ يجب أن تتناول هذه الأدوية خلال ساعة من الآن... هززت رأسي مؤكداً: ـ وستتناولها لا تقلقي.. رغم مقاومتها للنعاس فإنها نامت أخيراً، بعد تناولها الأدوية وأعتقد أن بعض هذه الأدوية تحوي مواد مخدرة.. جلست وراكيش في شرفة المنزل: ـ أحرجتني كثيراً بهذا الخاتم... كان يجب أن أحضر لها هدية، أنا مهمل دوماً... ـ لا عليك المهم أن ندخل السرور إلى قلبها... ـ تغيرت كثيراً، ما نوع مرضها بالضبط؟ ـ حالتها النفسية السابقة أثرت عليها، وأصبح جسمها ضعيفاً، أعتقد أنها ستتحسن... ـ تعتقد؟ هل هي مريضة إلى هذا الحد؟ ـ أقصد ستتحسن سريعاً... وجودك إلى جانبها ضروري جداً أرجوك ابق لعدة أيام أعلم أنها تحبك حتى العبادة.. أنا آسف بشأن الخطبة، يجب أن تتغلب على الصعوبات في حياتها حتى ترجع إليها ثقتها بنفسها، لا أريد أن أشغلك كثيراً بها، ولكن لم أر أمامي حلاً لإقناعها بأنها تحبك أيضاً، سوى أن أكذب عليها.. اعذرني لذلك، قلت لها أنك خطبتها مني... فاجأتني كثيراً هذه الكلمات ورغم امتعاضي من دفعي لقبول مثل هذا العمل قلت أخيراً: ـ لا بأس كل شيء يسير على ما يرام... المهم أن تتحسن صحتها. ـ فعلاً المهم أن تتحسن صحتها. ـ قالها شارداً حزيناً.. ثم همس ((إن أردت إكمال عملية الزواج، سيحضر الدكتور عزيز خان ليكمل المراسم على الطريقة الإسلامية... بدأت نيلام تتصرف كمسلمة... إنها تقرأ الكتب الإسلامية، والقرآن الكريم المترجم للإنكليزية... تبدو فرحة باكتشاف هذا الدين الجديد بالنسبة لها، إنها تحادثني دائماً عن اليسر والسماحة واحترام المرأة في الإسلام)). لا أنكر أنني فوجئت بحديثه... أهذا هو السبب الذي جعلها تضع القرآن المترجم إلى جانب رأسها بدلاً من صورة كريشنا. وهو وضع لم يعجب زوجة راكيش... ولكن راكيش نفسه يبدو غير مبال إلا بصحة أخته... همس لي: ((سأحضر الشاي)). تركني في الشرفة لوحدي، أفكر بموقفي المعقد في هذه القضية التي وجدت نفسي متورطاً بها إلى أقصى حد.. عاودتني صورة نيلام الممددة على السرير وهي ترمقني بعينين يشع فيهما الحب... فأحسست بقلبي ينعصر من الشفقة عليها.. أيقظني من شرودي حضور راكيش إلى الشرفة ومعه صينية الشاي راقبته وهو يصب الشاي في الفنجانين، كان يبدو مهموماً حزيناً... سحبت سيجارة من علبة سجائري وأشعلتها... ـ لم تستيقظ نيلام بعد... أعتقد أنها ستنام لساعة أخرى... يمكنك الاستراحة في الغرفة ا لمجاورة بعد تناول الشاي... ـ أشكرك... أنا متعب بالفعل.... ـ سأوقظك عند حضور الدكتور عزيز... وفعلاً أيقظني بعد وصول الدكتور عزيز، ذلك الرجل الواسع الثقافة، الذي أصبح فيما بعد أحد الأصدقاء المقربين لي... دخلنا إلى غرفة نيلام التي كانت جاهزة لطقوس عقد الزواج وقد أحضر الدكتور عزيز الشهود، وأنهى المراسيم وهو يدعو لنا بالتوفيق... همس لي: ((لم أر في حياتي امرأة تحب رجلاً بمثل هذا الحب الذي تحبه لك هذه الفتاة... احرص عليها... تركت كل شيء حتى ملة قومها من أجلك)).. تبادلنا الحديث في الصالة، وقدم لنا الشراب والحلوى.. وغادرنا عزيز على أن نبقى على اتصال.. وقد قدر لي أن أراه فيما بعد كسفير لبلاده في إحدى الدول العربية.. التي كنت أدرس في إحدى جامعاتها... وتوطدت علاقتنا ونحن نرجع ذكرياتنا المشتركة في الهند التي كانت إحدى أهم المحطات في حياتي... (( * 15 * تمددت على الأريكة أفكر بما يجري حولي... وغفوت ((كان هناك جمع غفير من الناس يتزاحمون في موكب في (جنكل رود) في دلهي.. وكنت فوق شجرة عالية أراقب الجمع ميزت هودجاً ملوناً بألوان قوس قزح ومن خلال الستائر طالعني وجه نيلام... كانت زائغة النظرات تراقب الجمع المحتشد وهي في الوسط... حانت منها التفاتة نحوي، رأتني فوق الشجرة فمدت يديها نحوي بضراعة.. ولكن الجمع كان يدفع هودجها.. كانت تصرخ متوسلة وهي تمد يديها نحوي دون أن أسمع صوتها... ولكنني كنت أراقب الجمع غير مكترث... أحسست بالجذع الذي أقف فوقه يتمايل كانت الجموع تدفعه ليسقط... شعرت كأنني أسقط نحو الأرض وجموع كثيرة تدوسني وهي تعبر طريقها)). استيقظت وقلبي يضرب بعنف.. وتوجهت صوب غرفة نيلام المجاورة كانت الشمس تجنح نحو المغيب... وكانت نيلام مستيقظة تقلب بفتور صفحات مجلة مصورة... وما أن رأتني حتى أشرق وجهها: ـ جان... (ومعناها روح وتقال للشخص العزيز جداً). جلست قربها على السرير: ـ لا تتعبي نفسك... ابقي ممددة.. أطاعت كلامي... وأمسكت يدي تضغط عليها بحنان... كان وجهها ممتقعاً، وقد بدا عليها التعب... أحسست بقلبي ينعصر وأنا أتأملها كسيرة بائسة... مسحت وجهها بكفي فأمسكت يدي ومرغت فمها في راحتي.. ـ أنا بخير يا عزيزي... شعرت بعاطفة تنتابني، وأنا أتأمل حبها الكبير لي الذي ملك عليها حياتها... ضممتها إلى صدري وأغرقتها بالقبل... *** همست لي ونحن على المقعد : ـ أنت زوجي الآن.. قلت: آه يا نيلام أمامنا أشهر طويلة قبل أن يتحقق هذا الحلم.. ـ سأبقى معك، أحتمي بظلك، أقعي بين قدميك، أنت سيدي وحبيبي ومعبودي... وضعت رأسها على صدري وأنا أفكر بهذه الهندية، التي أصبحت في حكم زوجتي خلال زمن قصير... يا إلهي ما أشد عذوبتها... حنونة كالمطر على الأرض العطشى، في قلبها دفء المرأة الأم والحبيبة... غفت على صدري، كأنها تأمن من شرور الدنيا وغدرها... ففكرت: "أيمكن أن أغدر بهذه البائسة، ا لتي وثقت بي كنبع حياتها؟ مستحيل.. وإلاَّ كنت خائناً للعهد، مسحوباً من إنسانيتي..". رغم كلَّ الحيرة التي انتابتني، فإن علاقتي الحميمة بنيلام فرضت علي شيئاً من الاستسلام التام، لعلاقة عاطفية وجدتني مدفوعاً نحوها رغماً عني في البداية... كان زواجها الأول، قد جعلني إلى حد ما مدفوعاً للمغامرة معها، لكونها امرأة جميلة ولكن صدقها وإخلاصها، وحنانها، حول هذا الاندفاع إلى اتجاه آخر، ملك علي عاطفتي وتأثري من عاطفتها المشحونة... كنت أسأل نفسي أحياناً، ألأنني غريب، ولست من أهل البلاد قد تعلقت بي نيلام؟ ألكونها فقدت الثقة ببني وطنها، وقد غرر بها أحدهم وكان يقضي عليها دون رحمة؟ أم لكونها وجدت فيَّ البساطة والصدق والصراحة، وعدم الاكتراث بالمال في علاقتي معها. فهي لا تشكل لي صفقة، كما يمكن أن يعتبرها أي من الشباب الهنود وعائلتها تعرض عليه مهراً يسيل لعابه؟ وهل يمكن أن أتردد لحظة وأنا أراها تركت كل شيء حتى دينها وماضيها من أجلي؟.... كنت أعتقد أن زواجها مرة ثانية، من هندي، ليس صعباً إذا كان المهر جاهزاً للدفع من جديد... ولكن هذا الاعتقاد زال وقد أحسست بها تريد الهروب من بلاد وجدت فيها نفسها ضالة تائهة مظلومة، مغتصبة... ربما كان الهروب هو هاجسها في علاقتها معي، فبعد مدة قد تطول أو تقصر، سأعود إلى وطني، وأستقر فيه معها... وتبتعد بذلك عن المكان الذي شهدت فيه أتعس أيامها.. بعد طول تفكير حددت موعداً للعودة إليها، واصطحابها معي كزوجة لها حقوق وواجبات، بعد أن أنتهي من كتابة أطروحتي وطباعتها، وحددت الوقت في تشرين الأول القادم... سألتني: ـ ألن تأتي إلي خلال هذه الفترة؟ إنها ليست فترة قصيرة، نحو أربعة اشهر؟ قلت: ـ سأحاول المجيء حينما تسنح لي الفرصة، ولو لساعات.. ـ أرجوك... ضممتها إلى صدري، وأنا أفكر بالأيام المقبلة... وقد شجع التصاقها بي أصابعي على التوغل تحت الساري الذي كانت ترتديه. همست: ـ ماذا تفعل؟ ـ ألست زوجتي؟ ـ أغرقت رأسها في صدري: ـ ليتني أصبح ذلك حقيقة. ـ لماذا تقولين ذلك؟ أصبحت كذلك حقيقة... ـ بودي أن أذهب معك إلى آخر الكون، وأقعي قربك، أخدمك بأنفاسي وحياتي.. ـ نيلام حبيبتي... ـ معبود نيلام... يا إلهي، ما أكثر ما تقدس المرأة رجلها عندهم؟ كانت كالوردة الفواحة برائحة العطر... نظيفة ناعمة... عادت أصابعي من جديد تسرح على جلدها الناعم، همست: ـ اتركني... سأذهب لأنام... ـ أتستطيعين فراقي؟ ـ (ايه خود(*) )؟ يا إلهي.. ـ اقضِ الليل هنا.. بعد قليل يبزغ الفجر... كنت أرغب فعلاً أن تقضي بقية الليل معي، وقد أحسست بفوران عاطفتي تجاهها. حاولت التملص، ولكن قبلاتي أعادتها.. ولم أتوقف عن تمريغ وجهي في صدرها، حتى استسلمت لي ورقدت إلى جانبي سكرى... *** صحونا متأخرين قليلاً... كانت ترقد على صدري شبه عارية، نهضت خائفة تلف الساري حول بطنها: ـ أوه ما ذا فعلنا؟... شددتها إليَّ بحنان: ـ نيلام حبيبتي... أنت زوجتي الآن لماذا أنت ترتبكين؟ ولن أتأخر في اصطحابك معي لحظة... أريدك معي دائماً... نفرت الدموع من عينيها وانفلتت خارجة. نهضت أرتدي ثيابي... وقد صممت على التحدث مع راكيش حول هذا الموضوع.. *** قال راكيش: كنت غير متعجل أمس... ـ لماذا نضيع وقتنا؟... أرجو أن تبارك هذا الزواج؟... ـ أترغب في اصطحابها معك الآن؟ أعتقد أن الوقت غير مناسب... ـ قد لا أصطحبها معي الآن، ولكن قد آتي بعد أيام وأصطحبها... ـ وأطروحتك؟ ألا يؤثر ذلك على إنجازها؟ أعتقد أن (زواجك) من نيلام.. هو أمر هام... ولكن أجل اصطحابها حتى تفرغ من أطروحتك... تعال في أي وقت تشاء إلى هنا ومارس حياتك معها، هي زوجتك منذ الآن.. أنا أبارك زواجكما... ضمني إلى صدره وانفلتت الدموع من عينيه: ـ لا تعلم كم أحب نيلام؟ أحسست بمدى عاطفته... وقد خرج إلى زوجته يخبرها عن قبوله لاصطحاب نيلام معي... وبعد لحظات دخلت نيلام، كانت خجلى، تحمل صينية الشاي، ويبدو أنها لم تعرف بعد ما دار بيني وبين أخيها... صبت الشاي، ومزجته بالحليب، ثم قدمته لي... دون أن ترفع رأسها: ـ خير مابك؟ لم تنبس بحرف... ولكن دموعها كانت تتكلم عنها... كأنها نادمة عما فعلت أمس. دخل راكيش فرحاً: ـ مبروك يا نيلام... رفعت رأسها قليلاً: ـ أصبحتما زوجين فعلياً... لماذا تبكين؟... اندفعت إلى صدره، فضمها إليه: ـ كنت ترغبين بهذا؟.. إنه رجل ممتاز، يحبك كثيراً، قربها مني ثم همس وهو يختنق بعبراته: ـ نيلام أمانة بين يديك... ـ هي أعز من عيني... انسحب بهدوء وتركنا لوحدنا... رفعت رأسها نحوي، تلقفتها بين ذراعي وأنا أحس بسعادة لا توصف... *** قضيت ثلاثة أيام في أغرا، ربما كانت من أجمل أيام عمري، كانت عذبة شهية تقطر شهداً.... ولكن يوم الفراق قد أتى أخيراً... ودعتني بالبكاء والدموع وأنا أخفف عنها أنني سآتي في أيام العطل ولن أتأخر عنها أبداً... رافقني راكيش إلى المحطة، وهو يحدثني عن نيلام، وضرورة الاهتمام بها وبمشاعرها، ورجاني أن أراسلها دائماً... طلب مني أن نجلس في مقهى شعبي قرب المحطة وهو يقول: ـ يجب أن أحدثك بشيء، وقد أصبحت واحداً منا... خمنت أنه سيحدثني بقصة نيلام مع زوجها الأول، قلت أستبقه: ـ لا داعي أن تتعب نفسك أعرف كل شيء. ـ ماذا تقول؟ ـ بالفعل أعرف كل شيء عنها... وهذا لا يغير في الأمر شيئاً أنا متعلق بها وأحبها... ـ أمتأكد أنك تعرف كل شيء عنها؟ ـ نعم يا راكيش.. لا تقلق.... لم يؤثر ذلك على عاطفتي نحوها يوماً ـ ولن يؤثر في المستقبل... وهي فتاة نادرة. سعيد الحظ فعلاً، من تكون زوجته... أنا أسعد الناس يا راكيش لا تقلق... ـ ولكن؟.. ـ ماذا؟... ـ نيلام.. يا صديقي... ـ اعلم، قلت لك لن يغير ذلك من حبي لها أبداً. ـ هي بحاجة ماسة لك. ـ ولن أتخلى عنها لحظة.. *** غادرت أغرا سعيداً، ولم أكترث بطول أمد الرحلة عن الوقت المحدد، وقد تعطل الباص قرب (هاتراس)... كنت أراجع أيامي معها وأنا أحس بعاطفة جياشة... كنت أعمل في (اليغار) أجهز أطروحتي، وقد غادرت (نيلام) قبل أيام، حين أحضر لي (محمد أحمد) مدير بيت الضيف الذي كنت أقيم فيه، برقية مستعجلة... حين فتحتها قرأت فيها مايلي: ـ "أرجوك احضر بسرعة. نيلام بحاجة ماسة أن تكون إلى جانبها"، كانت البرقية مذيّلة باسم (راكيش)... بالطبع لم أتردد كثيراً في توضيب حوائجي والاتجاه صوب (مركز الحافلات)، لأستقل حافلة إلى أغرا... وفي الطريق التقيت مع أسعد البصراوي... الذي أوقفني وأنا فوق الريكشا، كان أسعد يدرس الهندسة في جامعة اليغار، ولم يكن يلتزم بالدراسة كان يعيش وقتاً ضائعاً وقد وردته أخبار عن موت أخيه الذي جرح في الحرب العراقية الإيرانية. حاولت أن أخفف عنه، ولكنه ألزمني بالذهاب معه إلى منزله لبعض الوقت: ـ أرجوك أنا أعاني كثيراً... ـ وأنا على موعد مع صديق في أغرا لا أستطيع أن أتأخر عنه. ـ ماذا أفعل؟ كل الأخبار محزنة، لأخي ستة أولاد، أكبرهم في الصف السادس الابتدائي... لا تعلق. نحن شعب نحب الأولاد ونباهي بكثرتهم. كيف سيعيش هؤلاء اليتامى؟ ومن سيعيلهم؟... ـ الدولة ستتكفل بهم. هذا ما يجب أن يطبق. ـ لن نأمل كثيراً. أفرغ محتوى سيجارةَ من الدخان فسألته: ـ ماذا تفعل؟ أليست سيكارة حشيش؟ ـ أنا أهرب من واقعي. ـ ولكنه هروب للانتحار... الإدمان يعني الموت. ـ اتركني في همي. لن تقنعني بالتخلي عن هذا النوع من الهروب. ـ آه يا إلهي. كم أشفق عليك. ما أخبار هادي، أما زال متعلقاً بتلك الفتاة من موريشيوس؟ ـ هادي في وضع أقسى من وضعي، إنه يعيش حالة إضافية من الحزن إن (فينا) الموريشيوسية كانت محوراً في حياته، ولكن عائلته تشتت أيضاً، رفض بعض أخوته المشاركة في الحرب فقتلوا، ونكلوا بأسرهم... ـ ولم رفضوا الاشتراك في الحرب؟ ـ يعتبرونها حرباً غير مبررة. لهم وجهات نظر مثل كثير من الناس عندنا. ـ أمعقول؟ أنتم تعانون من ضياع لن تكون نهايته سعيدة. ـ آه. أتمنى لو أموت. سمعنا طرقاً على الباب: ـ إنه هادي بالتأكيد. قلت: ـ سأفتح الباب. كان هادي فعلاً ضمني إليه بحزن: ـ منذ زمن لم أرك أين أنت؟ تشترك معي في استئجار شقة في دلهي، ولا أراك، ولا أرى آثارك... ـ أنا مشغول هذه الأيام في كتابة الأطروحة.. ماذا تفعل أنت؟... ـ ألف سيجارة، هل تشاركني في تدخينها.. ـ لا.. لا يا هادي... هذا طريق غير صحيح للهرب من الواقع. قال متنهداً: ـ إنه الطريق الوحيد الذي رأيت بابه مفتوحاً لي. أنا أتعذب. انفجر يبكي: ـ ليتني أموت. ـ هدئ من روعك... أرجوك هه. لا بأس أنا ذاهب الآن. تأخرت على صديقي في أغرا أرجوك يا أسعد. وأنت يا هادي حاولا أن ترمما نفسيكما وتتابعا الدراسة في الجامعة... أنت في السنة الثانية يا هادي. منذ سنتين لم تترفع إلى الثالثة، وكذلك أنت يا أسعد... ـ لابأس. لم تهرب الجامعة منا بعد. خرجت حزيناً على ضياع الشابين اللذين وجدا نفسيهما في ظروف قاسية ويممت شطر المحطة، وصلت أغرا متأخراً قليلاً، ويممت شطر منزل راكيش. ففتحت لي زوجته الباب مستقبلة إياي بابتسامة. ـ حضرت في الوقت المناسب... نيلام في حالة سيئة. ـ مريضة؟ ـ يائسة؟ وخرجت نيلام تستقبلني وهي تسمع صوت زوجة راكيش: ـ نيلام جاءنا ضيف. اندفعت إلى صدري: ـ حبيبي... تأخرت علي. ـ أنا آسف. يا نيلام... ازداد ضغط العمل علي. مناقشة الأطروحة خلال الكتابة عمل هام جداً، حتى تأخذ شكلها الأخير... ـ لا بأس. أشعر بالتعب تعال رافقني إلى غرفتي. ـ أنت تعانين، اعتقدتك تخلصت من مرض المعدة. ـ حين تكون معي يزول المرض عني. وجودك شفاء لي. ـ ألا تذهبين معي إلى (إليغار)؟.. لم لا تعيشين معي هناك؟ قد تكون الحياة قاسية قليلاً، ولكننا سنعيش معاً. قالت شاردة حزينة: ـ لم يحن الوقت بعد.. ـ أستطيع أن أصطحبك معي لبعض الوقت هناك. وسأستعير شقة لصديق لي في دلهي، لنعيش فيها معاً، وإن رغبت سنعيش فيها دائماً بعد أن يتخلى لنا عنها. إنه صديق عزيز لا يرفض لي طلباً.. ـ ضمني إليك، أشعر بقشعريرة... ـ تعالي يا حبيبتي، اشتقت لرائحة عطرك، هل أحضر لك طبيباً؟... ـ أنت طبيبي، ودوائي، أريدك إلى جانبي... ـ سأتكلم مع راكيش ليسمح لي بأخذك معي... وحضر راكيش واستقبلني بترحاب: ـ جئت أخيراً؟ أهلاً بك. نيلام في أشد الحاجة إليك. ـ وأنا في أشد الحاجة إليها.. لم لا أصطحبها معي؟ ـ سنتحادث في ذلك فيما بعد... هه... تناولت عشاءك. ـ إنها السادسة، ما زال الوقت مبكراً. ـ لا بأس سنؤجل ذلك قليلاً. ابق مع نيلام هي في شوق إليك... قضينا وقتاً ممتعاً، وكأن وجودي كان البلسم الحقيقي لجراحها، فبعد أقل من ساعتين، عادت إلى طبيعتها، مرحة، جميلة، مشرقة الوجه، وحين جلسنا على العشاء عرفني راكيش على متخاطر شهير كان يزور جامعة (أغرا) وألقى فيها محاضرة. ـ الأستاذ (سومبير غوبتا) أحد أهم المتخاطرين في شمال الهند. ـ تشرفنا... ـ ثم قدمني إليه قائلاً: ـ إنه زوج أختي الذي حدثتك عنه. ـ أنت كاتب، وتهتم بالتخاطر والحاسة السادسة وقوى الإنسان الخفية وتقيم في الهند لغرضين الكشف، ودراسة الدكتوراة في الرياضيات؟ هكذا عرفني عليك الدكتور راكيش. ـ هذا صحيح... أيمكن أن ننفرد أنا والأستاذ بحديث خاص يا راكيش؟ ـ أعلم أنك مهتم بالدراسات والبحوث التي لها علاقة بقدرات الإنسان الخارقة خذ راحتك معه. ثم همس يقول لي بسرور: ـ ألا ترى كيف عاد لون نيلام إليها؟... ـ صحيح. هل عانت في الأيام الأخيرة من المرض؟ ـ اسمع يا عزيزي، يجب أن أحدثك قبل أن تغادرنا من جديد، حديثاً خاصاً له علاقة بحياتك مع نيلام. ـ لم لا تحدثني الآن؟ ـ لدينا ضيف الآن كما ترى هو لن يتأخر كثيراً. ربما سيغادرنا قبيل منتصف الليل بقليل... ثم قال بصوت عال: ـ يمكنك الانفراد بـ(سومبير) الآن. نيلام تجهز الحلوى مع زوجتي. واتجه إلى سومبير: ـ سأعد الشاي، آسف سأترككما وحيدين، قد يكون ذلك مغرياً لكما لتبادل حديث خاص. (( * 16 * ذهلت حين استمعت لـ(سومبير) وهو يقرأ أفكاري. بعد أن تفرس بي بعمق كان ماهراً جداً في قراءة الأفكار ومعرفة الخفايا... والتنبؤ بالمستقبل القريب. ـ أنت شديد الطيبة ولكنك تخطئ أحياناً أخطاء توقعك في مصائب جديدة. زوجتك هذه تحبك حباً يفوق الوصف، ولكنك رغم ذلك قد تتخلى عنها، أنت تفتش عن الجديد، وتغرق في المغامرة، وأحياناً تستمتع كثيراً بهذا الغرق لدرجة تنسيك العالم الذي تعيش فيه... اسمع الدكتور راكيش يحبك كثيراً يجد فيك خلاصاً لمشكلة مستعصية. حاول أن لا تنسى ذلك. استمع إليَّ جيداً، ستبدأ مغامرة جديدة بعد فترة. قطع علينا الحديث دخول نيلام: ـ الحلوى جاهزة، يبدو أنك انسجمت مع ضيف راكيش. ـ نعم أنا أحادثه في اختصاصه... همست: ـ تريدني أن أنسحب؟ ـ لبضع دقائق فقط يا حبيبتي.. ـ حسناً. تابع سومبير حديثه: ـ كنت أحدثك عن مغامرة جديدة. ستغرق فيها سريعاً، وحين ستستيقظ تجد أن أشياء كثيرة فاتتك ستندم عليها كثيراً. ـ كيف تستطيع قراءة أفكاري والتنبؤ بما سيحدث لي بهذه السهولة؟ ـ ليست العملية سهلة إنها ميزات لا يتمتع بها سوى عدد قليل من الناس... ـ أرجوك، أعطني بعض التفصيلات... حتى تتوضح الصورة. ـ التركيز يأتي بعد مرحلة تدريب قاسية. حتى تستنفر قواك الخفية، يجب أن تتفرغ لذلك، والتفرغ يعني أنك ستترك أشياء قد لا يجدها البعض ممكنة. وهذه الأشياء هي الحقد والحسد، وأكل اللحم الحيواني، وشرب الخمور، والجنس، والتدخين، لأن هذه الأشياء تعيق انعتاق الطاقة الحبيسة، ثم تبدأ فترة تدريب قاسية على يد مدرب خبير بالنفس وقواها الكامنة. ـ في فترة التدريب، يتدرب الإنسان على التأمل والتركيز ونقل الطاقة؟ ـ هذا صحيح؟ ويتدرب أيضاً على الخروج من جسده بعد أن يكون قد نظم قواه الكامنة جيداً... ـ ولكن كيف تقرأ الغيب؟ ما علاقة ذلك بالتخاطر والحاسة السادسة؟ ـ أنا لا أقرأ الغيب، أنا أرى إشارات، أفسرها بالقفز فوق الزمن ورؤية بعض ملامح المستقبل... قد أستطيع قراءة ما تختزنه ذاكرتك من أحداث عشتها في الماضي، حتى في الماضي البعيد. ولكنني لا أستطيع أن أعلم ما قد يجري لك من أحداث بعد سنة مثلاً. ـ ولكنك حدثتني عن مغامرة جديدة. وأشياء قد تحدث لي في المستقبل؟ ـ هي إشارات رأيتها وفسرتها. وأنت حر في تقبلها... ودخل راكيش يحمل صينية الشاي: ـ الشاي. هه. أعتقدأن هذا الانفراد كان مفيداً لك مع الأستاذ سومبير؟ ـ نعم. نعم. شكراً لك، إنه رجل داهية. ثم صرخ يطلب الحلوى: ـ أحضروا الحلوى، وتعالوا نشرب الشاي. معك حق، من الأفضل أن ينضم إلينا الأولاد أيضاً... حكى سومبير عن رحلته مع استخدام قواه الخفية، وروى لنا حادثة طريفة جرت له مع أنديرا غاندي رئيسة وزراء الهند رئيسة حزب المؤتمر، قبل اقتحامها مقر المتمردين السيخ في البنجاب... التقى سومبير بأنديرا غاندي قبل اقتحامها مقر المتمردين السيخ في أمريتسار للمرة ا لأولى، وأظهر لها بعضاً من قدراته الخفية، فطلبت منه أن يقرأ أفكارها وبصعوبة بالغة تمكن من النفوذ إلى داخلها، وقال لها: ـ أنت تخططين لعمل لا أعرف عن طبيعته شيئاً، لأن دماغك صعب... ـ أستطيع التحكم بنفسي، وإلا عرضت أمن بلادي للخطر... ـ أعترف لك يا سيدتي، أنت قوية من الداخل.. ـ أتشرب شيئاً؟ ما رأيك بشراب جوز الهند؟ ـ لا بأس يا سيدتي.. وحضرت الخادمة: ـ بماذا ترغب سيدتي؟ ـ أحضري له شراب جوز الهند... ـ في الحال يا سيدتي... قلت لها: ـ أنت من أملى علي هذه الرغبة، شراب جوز الهند، هه؟ ـ لا أحد في الهند يكره هذا الشراب. تناول الشراب من الخادمة ورشف منه: ـ إنه شراب لذيذ فعلاً، ولكنني أشعر أنك تحاولين التأثير علي، أشعر أنني محاصر بقوى خفية مجهولة. ـ لعبة التركيز، والتأثير لعبة أتقنها، وأستطيع ممارستها إن رغبت. *** وروى سومبير بعضاً من تفاصيل لقائه بأنديرا غاندي بعد اقتحام مقر المتمردين السيخ في البنجاب. كانت منهكة متعبة حين استقبلته... ولكن بدا عليها الرضا عن العملية الناجحة التي أنهت تمرداً دام طويلاً، باقتحام المعبد الذهبي في (أمريتسار)، حيث زعماء المتمردين ومخابئ أسلحتهم. قالت: ـ أشفقت على (سانت لنغوال) إنه طاعن في السن محاصر بالقوى التي أثرت عليه، شعرت بارتياح لأنه نجا من الموت.. هو الرمز الديني لهم، وقد نجا. وهذا سيسهل الأمر... هززت رأسي معترضاً: ـ لديهم ما يكفي من الحقد عليك يا سيدتي. لا تأمني شرهم... ـ أمعقول يا سومبير؟ بعض حراسي من السيخ، وهم كما أعلم مستعدون للتضحية بأنفسهم في سبيل الدفاع عني. قلت لها بهدوء: ـ لست مؤمناً تماماً بهذه الثقة. وطلبت من سكرتيرها شيئاً وهي تهمس في أذنه فحضر رجل من السيخ: ـ طلبتني يا سيدتي؟ ـ نعم. هل أنت حزين على ما جرى في المعبد الذهبي؟ ـ كل ما تفعلينه صحيح يا سيدتي، أنت من يحافظ على وحدة الهند واستقرارها. ـ ألا تعتقد أنهم بالغوا في التمرد.؟ هذا يناقض مبادئ دينكم. ـ نعم يا سيدتي.. ـ لو طلبوا إليك قتلي هل تقتلني؟ أنت معي منذ (14) عاماً؟ ـ من الذي يجرؤ على هذا الطلب يا سيدتي؟ سأشرب من دم من يقترب منك. سترين كم أنا شديد الإخلاص لك. ـ حسناً انصرف. أنت ظلي كما يسمونك... وستبقى ظلي. ـ شكراً لك يا سيدتي. خرج الرجل وهو ينحني، قلت لها بعد خروجه: ـ عذراً يا سيدتي، هذا الرجل مضطرب الفكر مشوش الذهن وأعتقد أن التأثير عليه ليس صعباً. ـ أنت تبالغ بتخوفاتك، إنه يخدمني، وقدمت له أيضاً الكثير من المنح والهدايا، ووسعت عليه رزقه... *** تأخر سومبير غوبتا في سهره معنا، وروى لنا الكثير من الحكايات والنوادر وقبل أن يغادرنا همس في أذني قائلاً: ـ فكر في الكلام الذي حكيته لك. إنه كلام جدي تماماً. ـ أرجو أن أراك فيما بعد. حتى أتعرف أكثر على قدراتك. ـ ولكني قلق على زوجتك. ووضعك مع هذا البيت. ـ لا تقلق. أنا أ حبها كثيراً. وسيظل هذا البيت ملاذي. * 17 * أنا أتذكر الآن كم كان ذلك الرجل المدهش محقاً. بعد ذهابه، لجأنا للسرير ونيلام، كانت عذبة شهية، حاولت أن تبعد أية آهة ألم من صدرها حتى لا أكتشف معاناتها، وكنت غارقاً في إشعارها بمحبتي لها، وكانت تعطي بلا حساب... وفي الصباح بدت قوية متماسكة وهذا ما جعل راكيش يفتح معي الحديث عنها من جديد... ـ انظر إليها إنها تشع حبوراً وراحة، أشبه بالوردة النضرة... ألا ترى كم تؤثر عليها؟ إن مجيئك إليها كالبلسم الشافي... ـ سأعيد إليها إشراقتها، ولن أضع الحزن في حياتها من جديد أبداً. ـ يجب أن أحدثك عنها، وقد أصبحت واحداً منا... نيلام. قلت مقاطعاً: ـ أعرف كل شيء عنها. قلت لك ذلك من قبل، ـ ولكن يجب أن تعرف أنها... وعدت أقاطعه: ـ أرجوك لا تتعب نفسك، أعرف هذا الموضوع جيداً، لا داعي للكلام من جديد... ـ وتعرف أنها تشتكي من .... ـ نعم. أعرف. هذا لن يغير علاقتي معها. أنا أحترمها وأحبها، وأعتبرها قريبة إلى قلبي لدرجة تفوق الوصف. لن يؤثر أي شيء على علاقتي بها. ـ إنها بحاجة ماسة لك، مادمت تعرف هذا الموضوع أيضاً. ـ ولن أتخلى عنها أبداً. ـ وتعرف هذا منذ زمن؟ ـ نعم... ـ ولم تخبرني؟.. ـ لم أجد حاجة لإخبارك. الموضوع يتعلق بحياتي معها. وحاجتها لي، وسأبذل جهدي لإسعادها وإعادة تماسكها من جديد. ـ الحمد لله، أرحتني، أنت إنسان حقيقي. دفعه الإله ليعيد لأختي ثقتها بالإنسانية من جديد... *** آه من تصاريف القدر... استلمت برقية فور عودتي إلى اليغار. من مدراس للاشتراك في مؤتمر رياضيات عموم الهند، ولم أكن زرت مدراس من قبل حجزنا في (تاميلنادو) اكسبريس وكنا مجموعة من الأساتذة وطلبة الدكتوراه وكان من بيننا سيدات وطالبات، كانت المسافة من دلهي إلى مدراس تستغرق (36) ساعة. والقطار يقطع الطريق متوقفاً في محطات قليلة وكنت وصديقي أحمد خان الذي يحضر الدكتوراه متلازمين باستمرار... ـ سنتوقف بعد قليل يا أحمد.. هذا ما تؤكده خريطة المواعيد. ـ سنشتري بعض الخبز والمعلبات من المحطة. ـ لا بأس. هل تسافر كثيراً مثل هذه المسافات الطويلة؟.. ـ سافرت إلى (كيريلا) وكلكتا وبومباي وبوبال وبتنا... كل المؤتمرات أشترك فيها تقريباً. أنا على وشك أن أدافع عن أطروحتين وقد نشرت خمسة أبحاث في مجلات دولية. ـ عندكم في الهند تتأخرون كثيراً في دراسة الدكتوراه... ـ لأن المشرفين يطلبون أوراقاً منشورة، ونحن نأخذ رواتب من الجامعة، وندرس. وسنتعين فيها بعد حصولنا على الدكتوراه. ـ توقف القطار فصحت به: ـ هيا إذن أسرع بشراء الأغراض. ـ حسناً.. ودخلت فجأة. صبية شقراء تبهر العين: ـ عفواً، هل هذا المكان محجوز؟ ـ يا إلهي ما أجملها، إنها غريبة عن هذه البلاد. عادت تقول: ـ لم تقل لي هل هذا المكان محجوز؟ أنا مسافرة إلى مدراس. ـ بعد ست ساعات نصل مدراس، لا بأس يمكنك الجلوس هنا، لديك بطاقة حجز؟ ـ وجدت صعوبة في ذلك، لم أستطع تأمين الحجز. ـ لا بأس. تفضلي. ـ مسافر إلى مدراس؟ ـ نعم. لدينا مؤتمر هناك. ـ لا تبدو هندياً، من أي بلاد أنت. ـ أنا أعمل في الصحافة، وأدرس هنا. أنا عربي. قالت بدهشة: ـ عربي، وأنا عربية... ـ وماذا تفعلين هنا. سائحة؟ ـ لا. أنا أعمل في دلهي في مكتب تابع للأمم المتحدة. ـ لست متزوجة كما أرى؟ أتقيمين وحيدة في دلهي؟ ـ أخي يعمل في إحدى السفارات، وأنا أقيم معه... ـ ولماذا تسافرين إلى مدراس؟ ـ مهمة تابعة لمكتبي في دلهي. ـ أتمنى لك التوفيق. خذي راحتك. وأطلق القطار صافراته ودخل أحمد وهو يلهث: ـ الحمد لله وصلت مع حركة القطار. ـ أحضرت كل الأغراض؟ ـ نعم... ثم همس لي: ـ من هذه الفتاة الجميلة؟.. قلت: ـ إنها عربية، دعها وشأنها ولا تضايقها. ـ إلى هذه الدرجة تغار على ابنة بلادك؟.. ـ بالطبع. يجب أن نتعامل معها بلطف وكياسة. قدمته لها: ـ الدكتور أحمد صديقي. ـ اسمي إلهام... لم تعرفني على اسمك؟ شاركتنا إلهام في تناول طعامنا، وانضم إلينا بعض الزملاء في الجامعة، وأبدوا احتراماً للفتاة، تضامناً معي. وبعد فترة أصبحنا وحيدين وقد استأذن أحمد لينام، وكانت الساعة تقارب التاسعة والنصف ليلاً. فبدأنا حديثاً طويلاً، تعرفت من خلاله على أهلها الذين يسكنون إحدى العواصم العربية، وكيف أتت للهند لتقيم مع أخيها. بعدما نجحت في مسابقة للأمم المتحدة. وكان لأخيها ثلاث بنات كانت كبراهن في سن يقارب سن إلهام.. سألتني: ـ وماذا عنك؟ هل أنت متزوج؟.. قلت بارتباك: ـ لا.. ربما أفكر بالموضوع بعد أن أنتهي من الدكتوراه... تنهدت وهي تنظر من النافذة: ـ هذه البلاد آمنة. بعد أن أنهيت مهمتي في (بونا) جلست في بومباي ليومين وقررت السفر بالطائرة إلى مدراس. ـ لم لم تسافري بالطائرة؟ ـ لم أستطع الحصول على حجز إلا لبعد غد، لذلك غامرت بالسفر في القطار انتقلت من عدة مدن حتى لحقت بهذا القطار (تاميلنا دو اكسبريس). ـ إنها صدفة جميلة أن نتقابل هنا.. تبدين متعبة. ـ تريد أن تنام؟ خذ راحتك... ـ اسمعي يا إلهام، ستنامين لبعض الوقت، وأنام أنا الوقت المتبقي، سنتقاسم ساعات النوم... ـ لا أريد أن آخذ حصتك في النوم. ـ لا تتردي، لست متعباً منذ (31) ساعة وأنا في نفس القطار، نوم. وقراءة. وأحاديث مع الزملاء... هيا لا تترددي اصعدي السرير ونامي... سأرتبه لك.. ـ شكراً لك... (( * 18 * لم أوقظها إلا بعد أن وصل القطار إلى المحطة الرئيسية في مدراس وعندما أيقظتها أخذت تعتذر وهي تهز رأسها خجلة مني. أعطيتها عنواني في مدراس. وأخذت عنوانها، وكان هناك موظف هندي كبير السن ينتظرها في المحطة، وقد صممت أن أزورها خلال أيام إقامتها في مدراس وهي خمسة أيام... بينما إقامتي تزيد عن الأسبوع... شغلني المؤتمر في ذلك الحين في يوميه الأولين. وفي مساء اليوم الثاني قررت الاتصال بها في الهاتف، وتمكنت بسهولة من الكلام معها، حيث أعطتني موعداً اخترناه سوية هو الواحدة بعد الظهر في حديقة الأفاعي في مدراس، وصلت قبلي، وكانت تنتظرني بكامل أناقتها... والغريب أنني لم أتذكر نيلام عندها إلا قليلاً. كنت قد بدأت أغرق في الاهتمام بالصبية دون أن أعي، يبدو أن للقدر تصاريفه العجيبة. والتقينا في حديقة الأفاعي، كانت بكل جمالها وأناقتها، لدرجة جعلتني أردد بإعجاب: ـ ما شاء الله ما هذه الأناقة والجمال؟ همست بخجل: ـ شكراً لك. ـ ألم يضايقك أحد وأنت تتجولين وحيدة؟ ـ غالباً ما أسافر بصحبة إحدى الموظفات الهنديات. وإذا سافرت وحيدة فبالطائرة. ـ وما هذه المهام التي تؤدينها ولها علاقة بعملك؟. ـ أنا أعمل في منظمة تابعة للإغاثة الإنسانية. وتقدم دليل هندي: ـ أتريدان القيام بجولة في الحديقة؟ تبعه دليل آخر: ـ سنقدم لكما فكرة كاملة عن تاريخها وعدد الأفاعي فيها، وأنواع الأفاعي وطريقة حياتها. ـ سيستلم زميلي الأفاعي السامة، وأنا أستلم أنواع الأفاعي غير السامة، وهي كثيرة. همست لها: ـ ما رأيك؟ قالت: ـ المعلومات مكتوبة أمام الأقفاص. لا حاجة لنا بهما. عاد أحدهم يلح: ـ لن نأخذ منكما سوى مبلغ قليل (مائة روبية) فقط. إنه مبلغ زهيد أمام كل المعلومات التي سنقدمها لكما. وقال الآخر: ـ تبدوان عاشقين، سننهي الجولة بسرعة وندلكما على مكان جميل داخل الحديقة. تابع زميله مؤكداً: ـ إنه مكان فيه الجمال والخضرة والهدوء والمناظر البهيجة. ولن يقطع عليكما خلوتكما أحد. قلت: ـ أنا آسف... لا نريد أحداً معنا... واقتربت منا امرأة: ـ أنا أستطيع القيام بالمهمة جيداً ولن أزعجكما كثيراً أرجوكما أنا بحاجة للمال ثم أستطيع أن أقرأ لكما الطالع... قالت إلهام: ـ ما رأيك لو اكتفينا بهذه المرأة، يبدو أنها بحاجة للمال... ـ ولكن الرجلين يقدمان عرضاً إضافياً هو أن يأخذانا إلى مكان هادئ لا يزعجنا فيه أحد. عادت المرأة: ـ هيا نبدأ الجولة، الأفضل أن نبدأها من اليسار. ولكن الدليلين سكتاها: ـ لماذا تعطلين علينا فرصنا باستلام الزبائن؟ قالت غاضبة: ـ افعلا ما تشاءان، الزبونان فضلاني عليكما. شدت إلهام على يدي: ماذا قررت؟ ـ إنهما يتشاجران معها، سنستغل الفرصة ونذهب هيا، سنعتمد على أنفسنا. ـ معك حق. وسنسأل عن ذلك المكان الجميل وسنرى من يدلنا. أخذت المرأة تصرخ: ـ أين ذهبتما؟ أنا قادمة. ولكن الدليلين أوقفاها: ـ سنضيع عليك فرصة الاستفادة منهما. ـ حتى تتعلمي أن لا تتدخلي بشؤوننا... قالت برجاء: أنا محتاجة للمال. ولدي مريض. وأخذت تبكي، قال أحدهما: ـ لست أصدق هذه الدموع.. إنها دموع تماسيح فهمت حوارهم بالهندية، وقد كانت أصواتهم عالية... (( * 19 * زرنا أقسام الحديقة، وتعرفنا على أنواع جديدة من الأفاعي من بينها أفاع صغيرة في طول الدودة، وأفاع تصل أطوالها إلى (12) متراً، وأغلب هذه الأنواع تعيش في الهند، فالهندوس بديانتهم الخاصة القديمة، يقدسون الأفاعي وحول عنق (شيفا) أفعى من نوع (كوبرا) ترفع رأسها المجنح. وهي أفعى غدارة تهاجم الناس وسمها أقوى من كل أنواع سموم الأفاعي الأخرى... ولم يكن صعباً بعد زيارتنا الطويلة تلك أن نتعرف على الحديقة الملحقة بها، وهي حديقة جميلة فيها كافتيريا منظمة، انتشرت على طاولاتها العائلات والأسر الهندية... ـ فعلاً إنها جميلة، ألا ترون الورود المنسقة، والأرضية المفروشة بالحصى المرسوم والملون بعناية؟ ـ معك حق... أهذه أول مرة تأتي فيها إلى مدراس؟ ـ نعم. وأراها جميلة ذات طابع خاص... ـ معك حق في هذه الناحية أيضاً. فلها شاطئ ساحر، زرته أول أمس. ـ لم تحكي عن حياتك الكثير؟... أشعر أننا متقاربان تماماً... ـ وماذا أحكي لك. أنا من أسرة عادية مكافحة، كان والدي موظفاً في وزارة التربية قبل أن يتقاعد... ربانا أنا وإخوتي على الحرية. وغرس فينا الثقة بأنفسنا.. ـ ووالدتك هل تعمل أيضاً؟ ـ كانت معلمة، استقالت من وظيفتها بعد مجيء أول طفل. كانت حالتنا المادية جيدة في ذلك الحين، وكان راتب والدي يكفينا لنعيش حياة مرفهة... ـ استغرب أن تأتي فتاة جميلة مثلك للحياة في بلاد غريبة بعيداً عن أهلها... ـ أنا أحب الكشف، وأعشق الترحال. تصور شجعنا والدي على السفر، مامن رحلة قامت بها المدرسة التي كنت أدرس فيها والجامعة التي كنت في إحدى كلياتها، إلا واشتركت بها وهذا ما جعلني أتعرف على الكثير من الناس وطبائعهم، وأزور مدناً وقرى لم أحلم يوماً بزيارتها.. ـ وكيف وجدت هذه البلاد؟... ـ منذ طفولتي أتمنى زيارتها، وها أنذا أقيم فيها، إنه شيء أشبه بالحلم. كانت الأفلام الهندية تسحرني بأغانيها وأحداثها المليودرامية. ـ وحياة الناس هنا، بعيدة جداً عن قصص السينما وخيالاتها... الإنسان هنا يعاني ، وقد فرزته الديانة الهندوسية... ـ أكتبت شيئاً عن الهند؟ ـ بالطبع، كتاب في أدب الرحلات، وروايتين.. ـ يبدو أنك غزير الإنتاج. ـ ليس إلى الحد الذي تتصورين، أنا أعشق الكتابة، وأنشر بعضاً مما أكتب... حضر خادم الكافيتيريا: ـ هل ترغبان بتناول الطعام؟ تفضل القائمة؟ ـ ما رأيك، سنتناول طعاماً خفيفاً. ـ لابأس، وليكن طعاماً خالياً من البهارات الهندية الحارة. قلت: ـ حسناً... أحضر لنا بعض المعكرونة مع الدجاج. مع حساء من الخضار.... ـ لشخصين يا سيدي؟ ـ نعم.. نعم... قالت بعد ابتعاده: ـ لماذا يسأل هذا السؤال؟ أمعقول أن نطلب طعاماً لشخص؟ ـ هذا أمر مألوف هنا... الهنود لا يأكلون كثيراً.. أتعلمين أنت أول فتاة تدهشني بأناقتها وجمالها في هذه البلاد؟ ـ ولكن بعض الهنديات شديدات الجمال؟ ـ ولكنهن سمراوات، ولسن في بياض بشرتك؟ ـ وماذا عن الكشميريات؟ إنهن شقراوات أيضاً.. ـ معك حق. هن يختلفن عن الفتيات من الولايات الأخرى. في الهند أربع عروق بشرية، قد تجدين زنوجاً في الجنوب، وأناساً أشبه بالصينين في آسام و(ميزورام)، وأناساً أشبه بالأوروبيين ـ من العرق الأبيض ـ إضافة للعرق الأحمر الذي يسود هنا.. ـ ولم تعجب بفتاة هندية طوال إقامتك هنا؟ أصدقني القول... قلت مرتكباً وأنا أتذكر نيلام: ـ لم يتعد ذلك حدود الإعجاب فقط. ربما لأنني مشغول بأبحاثي وكشوفاتي.. ولم أدرِ كيف بدأت أتغزل بها, وأحكي بلغة الشعر عن عينيها ووجهها المدور فاكتسى وجهها بحمرة الخجل... ولكن ما كنت أحكيه قد ترك في نفسها أبلغ الأثر... خرجنا من الحديقة متعانقين... ولمحت صورة نيلام بوجهها الحزين، ولا أدري كيف أتت إلى ذاكرتي في تلك اللحظات... ولكن ذلك لم يغير في الأمر شيئاً، فقد كنت غريقاً في استمتاعي بوقتي مع إلهام... كان أول شيء أعمله فور عودتي إلى أليغار أن أتصل بها وأدعوها لزيارتي في الجامعة... وأتت فعلاً، وأقامت في الغرفة المجاورة لغرفتي في بيت الضيف، وحتى لا يتكلم أحد عني وأنا في جامعة إسلامية، قلت لهم أنها أختي، وأوصيتها بالحرص على سلوكها أمام الناس.. وبعد يومين سافرت معها إلى دلهي. وكنت قد بدأت أغرق في حبها فعلاً... ولدى وصولي إلى دلهي اتصلت بهادي وكان يقيم في بيتنا المشترك الذي أدفع نصف أجرته ولم أستخدمه من قبل: ـ ألو. هادي. أنا قادم إليك بعد نحو الساعة. ـ أهلاً بك... أمعك أحد؟.. ـ لا.. أنا لوحدي. ـ إذن لماذا لا تأتي سريعاً.. أنا أجلس مع بعض الأصدقاء هنا... بعضهم من معارفك.. ـ عندي بعض الزيارات سأقوم بها ثم سآتي إليك. ـ أستطيع أن أخرج الجميع من هنا، إن كنت تحب أن تختلي بأحد، لك نصف الشقة، ولم تستعملها منذ استأجرناها سوية، أستطيع أن أخليها لك لبضعة أيام. ـ سنتحادث في ذلك عندما نلتقي.. مع السلامة. * 20 * سألت سائق السكوتر ونحن في الطريق إلى (الديفانس كولوني)، حيث شقتي وهادي: ـ ماذا يجري؟ لماذا هذا الازدحام؟ حادث تصادم؟ قال: سأسأل بعض الناس... ثم ترك السكوتر عاد بعد لحظات: ـ اشتباك بين فريقين يتصارعان، تدخلت الشرطة بينهما، هناك سبعة قتلى... من بينهم شرطي واحد... ـ وما السبب؟ ـ يقولون أن أحد مؤيدي حزب أكالي قد ضرب أحد مؤيدي حزب المؤتمر فرد عليه الأخير ثم تطورت المشاجرة بتدخل أنصار كل منهما. ـ في هذا الجو الديمقراطي.؟ ـ (الأكالي) ناقمون على زعيمة حزب المؤتمر أنديرا غاندي بسبب اقتحام جنودها للمعبد الذهبي. ـ فهمت... شكراً لك... ثم قلت له ناصحاً: ـ يمكنك أن تلتف من هذه الجهة لتتخلص من الازدحام. ـ أي اتجاه؟ اليمين؟ لا أرى منفذا. ـ السكوتر صغير الحجم. يمكنك أن تدبر نفسك من تلك الفرجة الصغيرة هناك. ـ شكراً لك يا سيدي. استوقفني متشرد نظر لي بعمق وهو يعبث بلحيته ثم قال: ـ تجنب أيها الغريب أن تتناقش مع فضولي مدع مغرور ستقابله في طريقك. أنا أقرأ الكثير في عينيك. ستشهد أياماً شديدة السواد. ـ ماذا تقول؟ هل تقرأ طالعي؟ مددت له يدي بورقة نقدية صغيرة رفضها وهو يقول: ـ لا عليك.. اذهب في طريقك... وانس ما قلته... اعتقدته إنساناً مخبولاً ولكن السائق كان يردد بالهندية جملاً فهمت منها أنه رجل مبارك فسألته: ـ أتعرف هذا الرجل؟ ـ إنه أحد المتفوقين في (اليوغا) يا سيدي... وهو رجل يعرف الكثير. ـ استوقفتنا امرأة.. ـ أرجوك أنا في عجلة من أمري... سألتني: ـ أيمكن أن تقلني إلى (الديفانس كولوني). ـ لا بأس.. أنا ذاهب إليها، اصعدي إلى جانبي. ـ شكراً لك، آه يا إلهي. أرجو أن تكون ابنتي بخير... ـ ماذا جرى لها؟ ـ زوجها الوغد يهددها بالانفصال إذا لم تدفع له (50) خمسين ألف روبيه، ماذا نفعل؟ تزويج بناتنا يكلفنا الكثير، ويبدو أننا خدعنا بنصاب جديد، المرأة تدفع المهر للرجل هنا، وهذا ما يعذبها فيوقعها في حبائل رجال أوغاد مخادعين... ولست أدري كيف تذكرت نيلام عندها، فشعرت بغصة مخنوقة... وتذكرت زوجها الذي أذلها وحولها إلى كائن مقهور مجروح القلب ينزف الحزن... حتى عثرت عليها وأعدتها إلى حياتها... آه يا إلهي كم كنت سعيداً معها.. لماذا أهتم بإلهام هكذا؟ هل سينسى قلبي نيلام بهذه البساطة؟ وصلت إلى المنزل ونقدت السائق الأجرة راجياً منه أن يوصل المرأة التي أصعدتها (السكوتر) معي، بعدما نقدته أجراً إضافياً... التقيت بإلهام في المساء، واتفقنا على أن نلتقي في اليوم التالي، وكنت قد صممت أن أصطحبها إلى شقتي، وربما لتزداد علاقتنا رسوخاً، تمهيداً لخطوات أخرى، لم أكن أفكر بنيلام كزوجة، كأن علاقتنا عابرة، رغم أنني كنت أفكر بعكس ذلك من قبل.. هل كان القدر يرسم لي خطوات متعبة أخرى..؟ أتت إلهام في موعد اليوم التالي وكانت بصحبة زوجة أخيها... لم تترددا في دخول شقتي عندما عرضت عليهما ذلك: سألتني إلهام هامسة: ـ أتقيم في هذه الشقة هنا؟ لوحدك؟ قلت: ـ نعم... وأحياناً يأتي أحد الأصدقاء ونتأخر في السهر فينام هنا.. ـ ولم تصطحب أية فتاة إلى هنا؟ ـ صدقيني أنت أول فتاة تدخل إلى شقتي.. ـ إنها شقة عازب.. ـ وقد أغيرها إذا فكرت بالزواج، إلى شقة واسعة... قالت لزوجة أخيها: ـ إنه كاتب معروف، وقد أوشك على إنهاء الدكتوراه في الرياضيات.. ـ نتمنى أن تزورنا في بيتنا سيفرح زوجي بلقائك. قالت إلهام: ـ أخي متعلق بالثقافة والكتاب. سيسر بالتعرف عليك. وسألتني زوجة أخيها: ـ ماهي آخر نتاجاتك؟ ـ أكتب عن الهند كتاباً ضخماً أطلقت عليه اسم (سحر الأسطورة)، رحلة في أعماق الهند، أتحدث فيه عن العادات والتقاليد والثقافة والأسطورة وفيه فصول عن رحلاتي في شبه القارة الهندية؟ ـ لابد وأنه سيكون كتاباً شيقاً.. ـ أليس عندك كتب من تأليفك هنا؟ ـ هناك مكتبة صغيرة على الرف.. فيها بعض كتبي هه.. فتشت بين الكتب: ـ هذا كتاب من تأليفك. ـ إنه آخر كتبي رواية عن (المطر والغربة)، سميتها تلك الليلة الماطرة. ـ هل يمكن أن أستعيره؟ ـ بالطبع. ـ وسأقرأه وزوجي أيضاً. ربما كانت صدفة غريبة أن تكون رسالة من نيلام بين صفحات تلك النسخة من روايتي، كانت رسالة من رسائلها الأخيرة لست أدري كيف نسيتها فيها... ويبدو أن إلهام قد قرأتها، واتصلت بي فيما بعد تحكي لي عن نيلام... زوجتي الهندية. وتبارك لي بزواجها.. , هي تغص بالبكاء. ولم أرها بعد ذلك. رغم محاولاتي المتكررة. عدت إلى أليغار، ووجدت عدة رسائل بانتظاري، وكان من بينها برقية من راكيش يرجوني بالقدوم في أسرع وقت إن استطعت فهي بحاجة لي... وهكذا سافرت إلى أغرا... والتقيتها، كانت مصفرة الوجه واجمة وقد رأت حلماً مزعجاً. ـ حلمت كأنني أقطع طريقاً ضيقاً على حافة جبل، وانزلقت رجلي وكنت إلى جانبي لم تمد يدك لإنقاذي، فسقطت في الهاوية. قالت زوجة راكيش: ـ لا تفكري كثيراً بهذا الحلم، إنه ناتج عن تفكيرك المستمر به. قال راكيش: ـ نعم يا عزيزتي...ثم همس: ((قصت علينا هذا الحلم كثيراً. ويبدو أنها متأثرة به)). ثم همست زوجته: ـ انتبه إليها.. أرجوك.. نيلام تمر بمرحلة شديدة الحساسية. ـ أكد راكيش. ـ أنا مع زوجتي في هذا الرجاء.. ـ لن أتركها أبداً، لا تقلقا... (( * 21 * انفرد بي راكيش، وعاد يفتح الحديث حول وضع نيلام من جديد. ـ نيلام تذبل أمام أعيننا... انتبه إليها أرجوك.. ـ سأعيد إليها رونقها.. بعون الله.. ـ نيلام مشبعة بالكآبة.. سأعرفك على ما تشكو منه حقيقة. ـ أعرف ذلك. ـ إنها مريضة جداً.. وتحتاجك... سبب مرضها قلة فقدانها بالناس نزعة الإنسان الخيرة، وهي تحبك حباً يقرب العبادة. ـ أعرف عنها كل شيء. لا تظنني أغفل عن أي شيء يتعلق بها.. حتى اكتئابها أعرف عن أسبابه كل شيء... ـ وتعرف أن نيلام؟ مقاطعاً: ـ أعرف... أعرف.. لماذا تكثر من تساؤلاتك. قلت لك من قبل أعرف كل شيء عنها.. ـ الحمد لله، هذا يزيح شيئاً من المسؤولية عن كاهلي. غادرت أغرا بعدما وعدت نيلام أن لا أتأخر عليها، كانت حالتها الصحية ممتازة، وهي تروح وتغدو أمامي بكامل أناقتها ومحبتها... وفي لحظة سفري بكت كثيراً على صدري وفي الطريق فكرت بموضوع زواجي منها، ذلك الزواج الذي دفعني إليه راكيش، دون تردد، فشعرت بالألم، إذ أنني لم أكن مستعداً لذلك الزواج في ذلك الحين، وهكذا بدأت تلك الفكرة بعدم العودة إلى أغرا، تغزو عقلي شيئاً فشيئاً.. ورغم رسائل نيلام الكثيرة، لم أجد بداً من كتابة رسالة قصيرة أخبرها أنني سأسافر إلى الوطن لأمر هام، وقد أعود بعد شهر.. وسآتي إلى أغرا فور عودتي.. وقد نسيت أنها فعلت كل شيء لإرضائي وجذبي إليها، حتى أنها غيرت ملتها وطريقة حياتها من أجلي.. كم كنت وغداً في تصرفاتي الأخيرة في موضوعها.. لم أجد غضاضة في محاولة الارتباط بإلهام... بل وتهربي من الذهاب إلى أغرا رغم تأكيدي عليها وعلى راكيش أنني سأظل معها دوماً.. وهكذا انقطعت الرسائل عني وشعرت أنني أتملص من قضية كنت معذباً فيها وأنا أرجو في سري أن لا يؤثر ذلك على الصبية التي أحبتني لدرجة لا توصف.. بعد أربعة أ شهر من آخر لقاء لي معها كنت أسافر مع أحد الأصدقاء وزوجته إلى (بنارس) أعرفهما على الطقوس التي تجري على ضفة الغانج... كان صالح وهو اسم الصديق يعمل منذ أشهر في الهند، ويلح علي دائماً لأرافقه في التعرف على معالم الهند.. كنت أشرح له ما نرى: ـ على ضفة الغانج هنا معابد شيفا، وبنارس مدينة مقدسة يحجون إليها كل عام، ليغتسلوا بمياه الغانج ويتطهروا... ـ غريب وجود هذا العدد الكبير من المسنين هنا. ـ قدموا إلى هنا من كافة أصقاع الهند.. ـ لماذا؟ للحج؟... ـ بل للإقامة هنا، إنهم ينتظرون أن يموتوا، لتحرق أجسادهم هنا على ضفة النهر. ـ حتى ولو استمرت الإقامة لسنوات؟ ـ لن تستمر طويلاً، مادام المسن يجهز نفسه للموت، لن يتأخر الموت عنه كثيراً.. قال لي صالح: ما رأيك لو اصطحبنا إلى المكان الذي يحرق فيه الهنود موتاهم؟ ـ لا بأس... تفضلا... وإن كنت غير راضٍ عن ذهاب زوجتك معك.. ـ لماذا؟ ـ لأن المنظر لن يكون ساراً.. قالت زوجته معترضة: ـ لا عليك، لست ضعيفة إلى هذا الحد.. ـ كما تشائين. كنت أشرح لهما ما يحدث هناك: ـ يحرقون الرجل وهو ملتف بثوب أبيض، والمرأة بثوب أحمر، يغطسون الجثة في مياه النهر ثلاث مرات، ثم يضعونها على المحرقة. وكانت زوجته مرعوبة: ـ يبدو المنظر مخيفاً... ـ إن كنت خائفة، أو متأثرة كثيراً، يمكننا مغادرة هذا المكان بسرعة.. ـ لا.. لا أريد أن أرى كيف يحرقون موتاهم.. ـ إذا كانت المرأة متزوجة، يدور حول جسدها ولدها الأكبر، أو زوجها ثم يشعل النار من جهة الرأس، حيث تمتد النار إلى الحطب... وإذا كانت الجثة، جثة رجل، يدور حوله ولده الأكبر، أو أخاه الأكبر... ـ ماذا يسكبون فوق المحرقة؟ ما نوع هذا السائل هل هو نفط؟ ـ لا ... إنه زيوت مهدرجة وسوائل تستخدم في الطبخ، يساعدون بها الجثة على الاحتراق ويطردون رائحة الشواء منها. ـ يبدو عملاً فظيعاً. ـ الكاهن الأعزب، أو الطفل الذي لم يبلغ الثامنة، تلقى جثته المربوطة بثقل في أعماق النهر، ليأكلها السمك والحيوانات النهرية الأخرى. (( * 20 * كان مشهداً مخيفاً والناس في جماعات قرب شاطئ نهر الغانج في (بنارس) جماعة تحمل ميتاً بكفن أبيض تغطسه في الماء لعدة مرات، ثم تضعه على المحرقة، حيث يصبون فوق الجثة (السمن والزيت والمواد الدهنية)، وهذه المواد تساعد على الحرق وتخفف من رائحة الشواء التي يمكن أن تنتشر.... ورأينا جمعاً غريباً من بينه ثلاثة شبان بدا عليهم الحزن، وكانوا يشرفون على حمل جثة لفت بكفن أحمر مطرز بالأصفر... رأيت نفسي أقترب منهم وأستمع إلى حوارهم... ـ ولكن كيف؟ كيف جرى الحادث؟ ـ آه يا أخي.. كان يتمايل من السكر. حين فتحت له الباب، فانهال عليها طعناً بالسكين. دون سبب.. ـ لن أنسى في حياتي هذا المشهد. آه يا أمي. قدمت نفسك ضحية لاستهتاره وبعده عنا... اقترب أحد الكهنة منهم ومعه بعض أتباعه: ـ هذه الميتة ماتت مقتولة؟ همس أكبرهم: ـ لا تقولوا له، سيمنع حرقها، إنه الكاهن المشرف على حرق النساء. حاولوا رفض الادعاء: ـ ومن قال لك أنها ماتت مقتولة؟ ـ هكذا قيل لي، أريد أن أراها.. ـ لم تمت مقتولة، أمي إنسانة رائعة، من يفكر بقتلها؟ ـ أمي كانت من خير النساء، وكانت (برفاتي) هي حاميتها.. ردد الكاهن: ـ ليتقدس اسمك يا برفاتي.. ـ إنها جاهزة لنطهرها بمياه الغانج، ثم نضعها على المحرقة. ـ انتقينا أغلى الأخشاب لحرقها، ومزجناها بالصندل... ـ أرجوك يا سيدي، صدقنا.. أمي كانت نموذجاً فذاً للأمهات في الهند، كانت تشرف على جمعيات إنسانية في بلدتنا... ـ أحبها الجميع.. وأصر بعضهم على حضور قداس حرقها. ـ هل نحضر لك بعضاً منهم... إنهم صامتون حزانى على المرأة التي ماتت قبل الأوان، وكانت تتحرك من أجل الناس وحل مشاكلهم. ـ وكيف ماتت؟ ـ ماتت وهي مبتسمة... سأريك وجهها إن رغبت... ـ لا بأس يا بني.. أستطيع رؤية وجهها. ـ انتبه وأنت تزيح الغطاء عن وجهها. ـ انظر إليها. ألا ترى فمها الذي يسفر عن ابتسامة. كان الأصغر يبكي: ـ رحمتك الآلهة يا أمي.. هدأه الكاهن: ـ لا يا بني، لا تبك. لا يجوز أن نبكي وننتحب على فقدان أحبائنا.. هذا محرم علينا.. مادمنا نودعها وهي في طريقها إلى الفردوس لتجتمع مع (برفاتي) فلا يجوز أن نبكي. يجب أن تفرحوا جميعاً، وهي تودعكم في طريقها إلى الفردوس... أو إلى جيل آخر تعيشه في مكان آخر، وهي أرقى وأسمى في حياتها الجديدة.. ـ اهدأ يا أخي أرجوك. ربت الأخ الأكبر على كتف الفتى الصغير: ـ سيدي الكاهن يؤكد على الصمت والحزن الدفين، دون بكاء أو نحيب. ـ ردد وهو يهز رأسه: ـ سأفعل.. سأفعل... آه... كيف أعمت الخمرة عيني أبي، حتى انهال عليها طعناً بالسكين؟ هذا لا يصدق.. استأذن الكاهن: ـ أترككم برعاية الآلهة.. ـ لن تباركها يا سيدي؟ سنغطسها في مياه النهر المقدسة؟ توقف قليلاً ثم قال: ـ سأباركها الآن، ومساعدي سينهي الإجراءات الأخرى... هل كل شيء جاهز، لإتمام عملية الحرق؟ ـ نعم... نعم يا سيدي.. ـ لنتلو عليها صلاتنا الأخيرة...لرحمة روحها. أين والدكم؟ هل هو حي؟ ـ والدي متعب مريض... لا يستطيع أن يأتي. إنه مكتئب على رفيقة عمره.. ـ لا بأس... تهيأ ولنبدأ تراتيلنا... ـ هيا يا أخي...لنضع جسمها على حافة الماء... ـ وتابعت شرحي لصديقي عن عملية الحرق بعد أن استمعت لحوار الشبان والكاهن، سألني صالح: ـ وبعد أن ينتهي الحرق؟ ـ يجمعون الرماد ويضعونه في قارورة معدنية، ويلقونه في النهر.. صرخت زوجة صالح: ـ لا أستطيع أن أتحمل المزيد. هدأها زوجها: ـ سنذهب انتظري قليلاً... رأيت بعض الناس يتجمعون حول جثة، هناك رجل يدير ظهره نحوي، أعرف هذا الظهر جيداً.. سألني صديقي وقد وجد الاهتمام بادياً علي: ـ مابك؟ ـ سأقترب من هذا الرجل أنا أعرفه إنه يتأمل المحرقة. كان قلبي يخفق بشدة وأنا أهمهم: ـ اذهبا الآن، سألحق بكما في الفندق.. زوجتك ليست على ما يرام ياصالح.. ـ طيب.. ـ كنت أفكر وأنا أقترب من المحرقة وقلبي يضرب بعنف: ((من يكون هذا الرجل الذي يبدو منظره أليفاً لي)). فوجئت مفاجأة لا توصف كان راكيش أخو نيلام ويبدو أنه فوجئ بحضوري. قال بحزن شديد: ـ أنت؟ ـ ماذا هناك؟ ـ جئت تلقي عليها النظرة الأخيرة؟ ـ لا.... لا.. غير معقول.. انتفضت أبكي مصعوقاً: ـ يا إلهي، نيلام أمامي يحترق جسدها، كيف حدث هذا كيف؟ ـ تعذبت المسكينة كثيراً، كانت تنتظر حضورك، وعذبها الانتظار. ـ يا إلهي كيف طاوعتني نفسي على قتلها، كانت تتألق بالحب والحيوية كيف أعدت إليها إيمانها بغدر الإنسان؟ أكدت عليها بابتعادي عنها أنني لست أقل من سانجي وضاعة... حاول راكيش تهدئتي: ـ خفف عنك... إنه القدر.. كنت أبكي وأنا أكاد أنفجر من القهر. ـ أنا من سبب لها هذا القتل... يا إلهي كيف طاوعتني نفسي على قتل إنسانة بريئة طاهرة مثلها؟ أتخيلها تروح وتجيء كالزهرة تدور حولي ملبية رغباتي بحب يقرب من العبادة... ـ هه.. ا عذرني سأكمل طقوس الحرق، وأجمع الرماد.... ولو كنت موجوداً لدفنتها على الطريقة الإسلامية ظلت متمسكة بإسلامها حتى آخر لحظة من حياتها.. ـ سأبقى هنا أنتظرك. أيمكن أن أكون في وعيي؟ كيف حدث هذا كيف؟ ـ استشرى بها المرض، وكانت بحاجة لمن يقف معها ضده، أكد لي الأطباء أنه بالإمكان التغلب على المرض في هذا السن ما تزال نيلام فتية.. ـ أي نوع من المرض؟ ـ قلت لي تعرف عنها كل شيء؟ حاولت إخبارك. في آخر مرة. ـ كنت أظن أنك تقصد معرفتي بماضيها وزواجها من سانجي. ـ علمت أنها أخبرتك بهذا الموضوع، ولكن كنت أقصد نوع مرضها، عدة مرات كنت أحاول أن أعرفك بمرضها، ولكنك كنت تقاطعني باستمرار مؤكداً أنك تعرف كل شيء.. كانت مصابة بالسرطان، دفعتك في اتجاهها لتعيد إليها الثقة بالناس، وقد وجدت فيك شاباً طيباً، متزناً، يمكن الاتكال عليه... ـ وهذا ما جعلك تقترح علي خطبتها؟ ثم دفعتني للزواج منها؟ ـ نعم، وكنت أرجو بعد زواجك منها أن تبقى معها أطول فترة ممكنة تعيد إليها الأمل بالحياة والتفاؤل، وكانت معذبة محطمة مفؤودة... ـ يا إلهي، كم عذبتها دون أن أدري؟ ـ ظلت تأمل مجيئك حتى آخر لحظة، ولم أر الدموع في عينيها إلا لحظة الوفاة. كانت دموعاً يائسة حزينة كأنها فجعت بالناس في هذا الزمان. ـ ليتني كنت أعرف ذلك؟ صور لي غروري وطيشي أنني أدفع للزواج دون أن أرغب، من فتاة تحبني ولا أجدها أهلاً لتكون زوجتي.. آه يا إلهي كم كنت وضيعاً في تلك الخيالات التافهة.. كنت أقتلها دون أن أشعر... آه.. ما أشدَّ وحشية الإنسان... استعدت شريط ذكرياتي معها، منذ أن رأيتها في الحلم... ووجدتها متجسدة أمامي في اليوم الثاني، وأنا أبكي من القهر... واستعدت ساعات الحب الذي غلف قلبي في فترة ما، فشعرت أنني المسؤول عن كل ما أصاب تلك المسكينة... كيف ابتعدت عنها في الأشهر الأخيرة؟ كيف طاوعتني نفسي، كيف طاوعني ضميري؟ أمعقول أن أكون أنا من فعلت ذلك؟ (الخاتمة). آه من أحزاني الكبيرة، فلقد أسالت دمي، وجعلت قلمي ينبض بالحياة، وأنا أكتب القصص المؤسية عن غدر المحبين، الذين تخلوا في ظروف استثنائية عن من يحبونهم. وكان في جعبة حزني الكثير. فهادي صديقي الدافي أدمن المخدرات، ورافق المدمنين، وقد تورط في بيع وشراء المخدرات، وطاردته شرطة (سنغافورة)، فألقى نفسه من شرفة فندق، من طابقه العاشر فمات.. أما أسعد، فعثر عليه ميتاً في بيته بعدما أخذ حقنة (مورفين) يبدو أنه زاد من عيارها، فمات.. وعثر عليه بعد ثلاثة أيام بعدما نفذت رائحة جثته المتفسخة إلى الجيران فأحضروا الشرطة وكسروا الباب ليروه بمنظر مفجع. منتفخاً متفسخاً... آه من أحزاني، أحزان السندباد الذي ينهش قلبه الاكتئاب والألم... وتكبر أخطاؤه حتى تسد عليه رغبة الحياة.... صدر للمؤلف: دراسات وكتب: 1 ـ العالم من حولنا (دمشق ـ وزارة الثقافة). 1976. 2 ـ كوكب العاصفة (دار معد ـ دمشق) 1994. 3 ـ في الخيال العلمي (ابن رشد ـ بيروت) 1980. 4 ـ نافذة على كوكب الحياة (وزارة الثقافة ـ دمشق) 1980. 5 ـ في العلم والخيال العلمي. 6 ـ الكون يكشف أسراره. (دار معد ـ دمشق) 1993. 7 ـ سحر الأسطورة (وزارة الثقافة ـ دمشق) 1990. 8 ـ الحالة السادسة (دار المعرفة ـ دمشق) 1990. قصص من الخيال العلمي وروايات من الخيال العلمي: 1 ـ كوكب الأحلام (اتحاد الكتاب ـ دمشق ـ1978). ـ قصص أطفال. 2 ـ صوت من القاع (وزارة الثقافة ـ دمشق ـ 1979) ـ قصص. 3 ـ العابرون خلف الشمس (اتحاد الكتاب ـ دمشق ـ 1979) ـ رواية. 4 ـ ضوء في الدائرة المعتمة (اتحاد الكتاب ـ دمشق ـ 1980 ـ ط2/1992) ـ قصص. 5 ـ ليس في القمر فقراء (اتحاد الكتاب ـ دمشق ـ 1983 ـ ط2 1997) ـ قصص. 6 ـ خلف حاجز الزمن (اتحاد الكتاب ـ دمشق 1985 ـ ط2 (2001). رواية. 7 ـ محطة الفضاء (اتحاد الكتاب ـ دمشق 1987 ـ للأطفال). 8 ـ أسرار من مدينة الحكمة (اتحاد الكتاب 1988 ـ دمشق ـ وصدرت ترجمتها الإنجليزية 1999). عن دار كرشنا ـ الهند. 9 ـ تلك الليلة الماطرة ـ (اتحاد الكتاب 1992)، دمشق (قصص). 10 ـ الخروج من الحجم (وزارة الثقافة ـ 1991). دمشق ـ قصص. 11 ـ مساحات للظلمة (وزارة الثقافة) ـ قصص 1995. 12 ـ الذي أرعب القرية الآمنة (وزارة الثقافة ) قصص 1996. 13 ـ السبات الجليدي ـ (اتحاد الكتاب 1995)، ـ قصص ـ دمشق. 14 ـ شحنة الدماغ (اتحاد الكتاب ـ دمشق 1997)ـ قصص. 15 ـ المدينة التي نسيها الزمن. (اتحاد الكتاب 1999)، دمشق ـ رواية. 16 ـ البعد الخامس (اتحاد الكتاب ـ 2000)، دمشق ـ رواية. 17 ـ ثقب في جدار الزمن (قصص ـ الهيئة العامة للكتاب ـ القاهرة 
1992). 18 ـ رجل من القارة المفقودة. 19 ـ عوالم من الامساخ. 20 ـ فضاء واسع كالحلم ـ دار الفكر 1997. 21 ـ الزمن الصعب. 22 ـ ابن الغابة. 23 ـ النفق. 24 ـ رواد الكوكب الأحمر. 25 ـ التحول الكبير. 26 ـ شفافية أشبه بالصدى. 27 ـ بوابة خان الخليلي. 28 ـ زمن القبعات المنتفخة والألسن الطويلة. دمشق ـ دار الفكر ـ 2000. بيروت ـ دار الفكر المعاصر ـ 2000. د. طالب عمران ـ مواليد 1948 يعتبر أحد أهم رواد أدب الخيال العلمي في الوطن العربي يحمل دكتوراه في المنطويات التفاضلية - فلك يتقن الإنكليزية والفرنسية والفارسية والهندية والأوردو له أكثر من 44 كتاباً بين الدراسة وقصص الخيال العلمي والروايات.. أستاذ في كلية الهندسة المدنية جامعة دمشق من إصداراته الأخيرة: ـ عوالم من الأمساخ (رواية من الخيال العلمي) دار الفكر ـ دمشق 1997. ـ رجل من القارة المفقودة (رواية من الخيال العلمي) دار الفكر ـ دمشق 1997. ـ ليس من القمر فقراء (رواية من الخيال العلمي) دار الفكر ـ بيروت 1997. ـ الزمن الصعب (رواية من الخيال العلمي) دار الفكر ـ بيروت 1997. ـ فضاء واسع كالحلم (رواية من الخيال العلمي) دار الفكر ـ دمشق 1998. ـ مدينة خارج الزمن (رواية من الخيال العلمي) دار الفكر ـ دمشق 1999. ـ بوابة خان الخليلي (قصص من الخيال العلمي) دار الفكر ـ دمشق 1999. ـ ابن الغابة (قصص من الخيال العلمي) دار الفكر المعاصر ـ بيروت 2000. ـ التحوّل الكبير (قصص من الخيال العلمي) دار الفكر ـ دمشق 2000. ـ البعد الخامس (رواية في الخيال العلمي) اتحاد الكتاب ـ دمشق 2001. ـ زمن القبعات المنتفخة والألسنة الطويلة (قصص من الخيال العلمي) دار الفكر دمشق 2000. ـ النفق (قصص من الخيال العلمي) ـ دار الفكر المعاصر ـ بيروت 2000. ـ شفافية أشبه بالصدى (قصص من الخيال العلمي) ـ دار الفكر دمشق 2000. ـ رواد الكوكب الأحمر (رواية من الخيال العلمي) ـ دار الفكر المعاصر ـ بيروت 2000. ـ ديدان الموات (رواية من الخيال العلمي ـ تصور لقرن جديد بدأت ملامحه المرعبة في الحادي عشر والشهر التاسع) ـ دار الفكر ـ دمشق 2002. (( __________________________________ مع تحيات : جـــنــــرال الحـــق للتواصل: $.$_..**.__g_~_E_~_n_~_E_~_R_~_A_~_l~~A~*L*~H~*a*~K*~__.**.._$.$@nimbuzz.com ///---\\\ منقووووووووووووووووول.... أحفاد الصلاح الدين الأيوبي : أخوكم ابوحسين مزيري Hafar~alqbor@nimbuzz.com حفار القبور في خدمتكم http://paradiseway.yn.lt طريق الجنه خاص لتحميل تكستات اسلاميه http://ramadhan.yn.lt رمضان ، لتعرف اكثر عن شهر رمضان اذا أعجبك موضوع من موضوعاتى ..فلا تشكرنى ولكن أدع لي (في ظهر الغيب) _____________________