صور من حياة الأخفياء نأتي الآن وبعد هذا المشوار للب هذا الدرس، وهو صور من حياة الأخفياء وأسوق إليكم أيها الأحبة هذه الكوكبة، وهذه مواقف، وهذه الأحداث، من حياة أولئك الأخفياء. وهي مليئة بالدروس والعبر لمن تفكر ونظر وتدبر. فسير الصالحين المخلصين مدرسة تخرج الرجال والأجيال. ولعلي أكتفي بسرد هذه الصور ، أولا طلبا للاختصار، وثانيا حتى لا أقطع عليك لذة المواقف، والعيش معها برفعة إيمان، وسمو الروح، ورقة في القلب. فاسمع لهذه القصص، واسمع لهذه الأحداث: الأخفياء والصدقة، والقيام على الفقراء والمساكين. خرج عمر بن الخطاب يوما في سواد الليل واحدا، حتى لا يراه أحد، ودخل بيت، ثم دخل بيت آخر، ورآه رجل، لم يعلم عمر أن هذا الرجل رآه. رآه طلحة –رضي الله عليه وأرضاه- فضن أن في الأمر شيء أوجس طلحة في نفسه، لماذا دخل عمر لهذا البيت؟ ولماذا وحده؟ ولماذا في الليل؟ ولماذا يتسلل؟ ولماذا لا يريد أن يراه أحد؟ ارتاب طلحة في الأمر، والأمر عند طلحة يدع إلى الريبة. ولما كان الصباح ذهب طلحة فدخل ذلك البيت فلم يجد إلا عجوز عمياء مقعدة، فسألها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ وكانت لا تعرف أن الرجل الذي يأتيها هو عمر بن الخطاب –رضي الله عنه وأرضاه- قالت العجوز العمياء المقعدة: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا بما يصلحني، ويخرج الأذى عن بيتي. أي يكنس بيتها ويقوم بحالها، ويرعاها عمر –رضي الله عنه وأرضاه-. ولن نعجب أن رئيس الدولة وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب يفعل ذلك، فكم من المرات فعل ذلك عمر بن الخطاب –رضي الله عنه وأرضاه-، فهذه الموقف ليست عجبا في حياة عمر. ولكن نعجب من شدة إخفاء عمر لهذا العمل حتى لا يراه أحد، وفي الليل، وفي سواد الليل، ويمشي لواذا خشية أن يراه أحد فيفسد عليه عمله الذي هو سر بينه وبين الله . ومثل ذلك سار عليه أيضا زين العابدين –رضي الله عنه وأرضاه-، علي بن الحسين ، فقد ذكر الذهبي في السير وابن الجوزي في صفة الصفوة: أن علي ابن الحسين كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به، ويقول: (إن الصدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل). وهذا الحديث مرفوع إلى النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- من طرق كثيرة لا تخلوا أسانيدها من مقال، ولكنها بمجموع الطرق صحيحة، وقد صحح ذلك الألباني في الصحيحة. وأن عمر بن ثابت قال: لما مات علي بن الحسين فغسلوه، جعلوا ينظرون إلى أثار السواد في ظهره فقالوا ما هذا؟ فقالوا كان يحمل جرب الدقيق (أكياس الدقيق) ليلا على ظهره، يعطيه فقراء المدينة. وذكر ابن عائشة قال: قال أبي: (سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين). رضي الله عنه وأرضاه. وعن محمد بن عيسى قال: كان عبد الله بن المبارك كثير الاختلاف إلى (طرسوس). وكان ينزل الرقة في خان (يعني فندق)، فكان شاب يختلف إليه، ويقوم بحوائجه، ويسمع منه الحديث، قال فقدم عبد الله الرقة مرة فلم يرى ذلك الشاب، وكان مستعجلا( أي عبد الله بن المبارك)، فخرج في النفير (أي إلى الجهاد). فلما قفل من غزوته، ورجع إلى الرقة، سأل عن الشاب. فقالوا إنه محبوس لدين ركبه. فقال عبد الله وكم مبلغ دينه ؟ فقالوا عشرة آلاف درهم. فلم يزل يستقصي حتى دل على صاحب المال، فدعا به ليلا ووزن له عشرة آلاف درهم،وحلفه ألا يخبر أحد مادام عبد الله حيا، وقال إذا أصبحت فأخرج الرجل من الحبس. وأدلج عبد الله (أي سار في آخر الليل). وأخرج الفتى من الحبس وقيل له عبد الله بن المبارك كان هاهنا وكان يذكرك، وقد خرج. فخرج الفتى في أثره، فلاحقه على مرحلتين أو ثلاثة من الرقة. فقال يا فتى ( عبد الله بن المبارك يقول للفتى ) أين كنت؟. أنظر عبد الله يتصانع –رضي الله عنه وأرضاه- أنه ما علم عن حال الفتى فقال عبد الله المبارك : يا فتى أين كنت؟ لم أرك في الخان. نعم يا أبا عبد الرحمن كنت محبوسا بدين. وكيف كان سبب خلاصك؟ قال : جاء رجل وقضى ديني ولم أعلم به حتى أخرجت من الحبس فقال له عبد الله: يا فتى احمد الله على ما وفق لك من قضاء دينك. فلم يخبر ذلك أحد إلا بعد موت عبد الله . أخفياء ولكن !! ولكن يكثر في هذا الزمن الأخفياء ولكنهم أخفياء من نوع آخر. أخفياء يختفون عن أعين الناس، ويحرصون كل الحرص ألا يطلع أحد من الناس على أعمالهم. هؤلاء الأخفياء هم الذين أخبر عنهم النبي صلى اله عليه وآله وسلم في قوله: (لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال تهامة بيضاء ، فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا)، أعوذ بالله. يقول راوي الحديث ثوبان- رضي الله عنه - : يا رسول الله صفهم لنا، جلهم لنا ، أن نكون منهم ونحن لا نعلم. اسمع! ثوبان الصحابي الجليل هو الذي يقول : أن نكون منهم ونحن لا نعلم ، فرحمك الله يا ثوبان ، ورضي الله عنك ، قال النبي – صلى الله عليه وآله وسلم-: ( أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ). أخرجه ابن ماجة من حديث ثوبان بسند صحيح . وأخفياء من نوع آخر. وهم المقصرون الفاترون أهل الخمول والكسل، فلو أنك نصحت أحدهم وصارحته بحاله وسألته عن أعماله فقلت له مثلا ماذا حفظت من القرآن ؟ وهل تحرص على صيام النوافل أم لا ؟ وتقول له : ماذا قدمت للإسلام ؟ وهل تنكر المنكرات ؟ وهل وهل …وغيرها من الأسئلة التي تبين حقيقته أمام نفسه. أنت تريد الخير بنصيحته وتريد مكاشفته بحاله ، حتى يرى حاله على حقيقتها ، فتسأله هذه الأسئلة ، فيجيب هو على نفسه. لأجابك هذا الشخص بقوله: هذا بيني وبين الله ، وهل كل عمل أعمله لا بد أن أطلعك عليه؟ أنظر هو الآن ماذا يخفي هو يظهر لنا الإخلاص ، لكنه يخفي الحقيقة، ما هي الحقيقة؟ أنه مقصر في أعماله ، وانه قد لا يكون عنده شيء. وقد لا يكون حفظ من القرآن شيء وإن حفظ فالقليل. وقد لا يكون قدم للإسلام شيئا وإن قدم فالقليل القليل. وهو يستحي أن يصارح الآخرين بهذه الأعمال التي هي لا شيء حقيقة. فبالتالي لا يملك حتى يبريء ساحته في هذه اللحظة إلا أن يقول لك هذا بيني وبين الله ، وهل كل عمل أعمله لا بد أن تطلع عليه ؟. فانظر كيف وقع هذا المسكين ، أظهر لنا الإخلاص وأخفى حقيقة النفس وتقصيرها ، فوقع في الرياء من حيث لا يشعر. وما أكثر أولئك للأسف وهذا لا شك خداع للنفس وتشبع بما لا يعطى. وهكذا التصنع والتزين والتظاهر ، أما الحقيقة التي أخفاها اليوم فإنه لا يستطيع أبد أن يخفيها:  يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية . فنعوذ بالله من حالهم، ونستغفر الله لحالنا . يقول عمر رضي الله عنه، اسمع لكلام المحدث الملهم رضي الله عنه وأرضاه يقول: (فمن حسنت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وما بين الناس ومن تزين بما ليس فيه شانه الله ). ذكر ذلك ابن القيم في إعلام الموقعين . الأخفياء في كلمات قال ابن المبارك –رحمه الله تعالى- : ما رأيت أحد أرتفع مثل ذلك، ليس له كثير صلاة ولا صيام، إلا أن تكون له سريرة. إذن فالقضية ليست قضية كثرة الصيام ولا الصلاة وإنما بالإخلاص والإخفاء لهذه الأعمال. وقال ابن وهب: ما رأيت أحدا أشد استخفاء بعمله من حيوة بن شريح، وكان يعرف بالإجابة (أي بإجابة الدعاء). وقال يوسف بن الحسين: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، فكأنه ينبت على لون آخر. واسمع لقوله -رحمه الله تعالى (وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي). فالاجتهاد في البعد عن الرياء والتسميع وطلب محمدة الناس وثنائهم أمر كانوا يعانون منه -رحمهم الله تعالى- وقال بان القيم: أنفع العمل أن تغيب فيه عن الناس بالإخلاص، وعن نفسك بشهود المنة، فلا ترى في نفسك ولا ترى الخلق. وقال الأخفياء –رحمهم الله تعالى-، وصاحوا بملء أفواههم لمن لا يخلص نيته، ولمن غفل عن هذا الأمر، صاحوا بقولهم، -كما مالك بن دينار: قولوا لمن لم يكن صادقا لا يتعب. فقولوا أيها الأحبة لمن لم يكن صادقا بعمله لله جل وعلا، ومخلصا بعمله لله سبحانه وتعالى: لا يتعبن، لا يتعب نفسه. فقد رأيتم وسمعتم أولئك الثلاثة وتلك الطاعات العظيمة، التي أصبحت وابلا على أصحابها، فكانوا أول ثلاثة تسعر بهم النار يوم القيامة والعياذ بالله. فقولوا ورددوا وصيحوا بأعلى أصواتكم لمن لم يكن صادقا في عمله، وفي دعوته، وفي أفعاله كلها: لا يتعبن، لا يتعب نفسه . وأخيرا كيف تكون من الأخفياء ما هو الطريق للوصول إلى حياة الأخفياء؟ ما هو العلاج والوصول لطريق الأخفياء رحمهم الله تعالى؟ ألخصه بالنقاط السريعة التالية : أولا: الدعاء والإلحاح فيه، ومواصلة هذا الدعاء، وتحري ساعة الإجابة. وأهمية الاستمرار في الدعاء، والإلحاح، والاستمرار، لاتكل ولا تمل، ولذلك قال –صلى الله عليه وآله وسلم- وعلمنا بذلك الحديث الذي يذهب عنا كبار الشرك وصغاره، عندما قال: (الشرك أخفى من دبيب النمل، وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره، تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك لما لا أعلم). أحفظ هذا الدعاء، وكرره كثير وأسأل الله بصدق أن يرزقك الصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال . ثانيا: الإكثار من مصاحبة المخلصين الناصحين الصادقين. إن وجدتهم في هذا الزمن فعض عليهم بالنواجد، وإن لم تجد فالجأ لحياة الأخفياء والجأ لمصاحبة المخلصين من السلف الصالح، رضوان الله عليهم، بقراءة أقوالهم والنظر في الكتب والتراجم للاطلاع على تلك الأحوال، ولا شك أن القلب فيه حياة بالنظر لحياة أولئك . ثالثا: معرفة عظمة الله تعالى، معرفة الله من خلال أسمائه وصفاته. أعرف من تعبد وأعرف لمن تعمل، واعرف عظمة الله جل وعلا، واملأ قلبك بتوحيد الأسماء والصفات تطبيقا علميا، حتى تعظم الله، وقديما قالوا: من كان بالله أعرف كان لله أخوف، ومن عظم الناس خاف من الناس، وعمل للناس، وسمع للناس وطلب ثناء الناس ومحمدة الناس، ولكن الله هو الذي سيجازي وهو الذي سيحاسب . رابعا: أحرص أن يكون لك خبء من عمل. احرص دائما أن يكون لك سر بينك وبيم الله جل وعلا ، لا يعلمه أحد من الناس إن استطعت حتى ولا زوجتك. إن استطعت أن تعمل عمل بينك وبين الله لا يعلم عنه أقرب الأقربين إليك، فلا شك أن هذه الأعمال هي منجية يوم تسود وجوه وتبيض وجوه. خامسا: دائما كن خائفا من الله، دائما كن خائفا على عملك، أن لا يقبل. دائما كن خائفا أن يخالط هذا العمل رياء أو سمعه، مع الانتباه لذلك التنبيه المهم، الذي أشرنا إليه أثناء الموضوع، وقد تقدم الكلام عن ذلك، وأخشى أن تقدم على الله جل وعلا بتلك الأعمال المثيرة، والقوال الكثيرة، فتكون ممن قال الله عز وجل فيهم: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا وقانا الله وإياك من حال أولئك. سادسا: وأخير تذكر ثمرات الإخلاص. تذكر هذه الثمرات، تذكر حلاوة القلب. تذكر حب أهل السماء للمخلص. تذكر وضع القبول له في الأرض. وتذكر محبة الناس له، وطمأنينة القلب، وحسن الخاتمة، واستجابة دعائه، والنعيم له في القبر وفي الآخرة. نسأل الله جل وعلا نعيم جناة الفردوس. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا إخلاصا يخلصنا يوم أن نقف أمامه سبحانه وتعالى. من محاضرة :(الأخفياء) الشيخ : إبراهيم الدويش -- فريق جوال الخير معاً على طريق الخير تواصل- استفسار- اقتراح www.jawalk.ws 0558118112 jawalk4@hotmail.com الإصدار السادس ويمكنكم زيارة مقرنا في مكتب الدعوة بحي الروضة بالرياض هاتف وفاكس: 012401132 لا تنسونا من صالح الدعاء